Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 72

‫الفقه المقارن ‪451‬‬

‫اعداد‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬

‫لطالبات االنتساب‬
‫للفصل الدراسي الثاني‬
‫‪1438 – 1437‬هـ‬
‫ـ‪2‬ـ‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬

‫اسم المقرر ورقمه ‪ :‬الفقه المقارن ‪451‬‬

‫عدد الوحدات ‪ 2 :‬ساعة‬

‫مفردات المقرر ‪:‬‬

‫حكم الولي في النكاح ‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫اجبار البكر البالغة في النكاح ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الرضاع المحرم ويشمل ‪ :‬أ) عدد الرضعات المحرمة ‪ .‬ب) السن الذي يكون فيه‬ ‫‪‬‬
‫التحريم ‪.‬‬
‫التسعير ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫االحتكار ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الشروط في عقد النكاح ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الشروط في عقد البيع ‪ ،‬الشروط الصحيحة والفاسدة ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الكتب المقررة وبعض المراجع ‪:‬‬

‫بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ‪ .‬للكاساني ‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫شرح فتح القدير ‪ .‬للكمال بن الهمام ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫بداية المجتهد ونهاية المقتصد ‪ .‬البن رشد ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫المجموع شرح المهذب ‪ .‬للنووي ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫المغني ‪ .‬البن قدامة المقدسي ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫عارضة األحوذي بشرح جامع الترمذي ‪ .‬البن العربي ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫فتح الباري ‪ .‬البن حجر ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫نيل األوطار ‪ .‬للشوكاني ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الكافي في فقه أهل المدينة المالكي ‪ .‬البن عبد البر ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫البيان في مذهب اإلمام الشافعي ‪.‬للعمراني ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ـ‪3‬ـ‬

‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬

‫المسألة األولى ‪ /‬الولي في النكاح‬


‫قبل معرفة حكم الولي في النكاح عند الفقهاء البد من بيان معنى الولي ونحو ذلك‬
‫الولي لغة ‪ :‬تطلق لعدة معاٍن ‪ .‬منها ‪ :‬الناصر والحليف ومنه بيع التولية ‪ .‬وتوالت‬
‫األخبار تتابعت ‪ ،‬ويقال ‪ :‬جلست مما يليه أي ما يقاربه ‪ .‬وقيل حصول الثاني بعد‬
‫األول من غير فصل ‪ ،‬والوالية بالفتح والكسر ‪ :‬النصرة كما في قوله تعالى ‪:‬‬
‫{ المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } ‪ { .‬هللا ولي الذين آمنوا } ‪ .‬ويقال‬
‫أيضا ‪ :‬وليت األمر توليته ‪ ،‬والجمع والة ومنه وليت على الصبي والمرأة ‪ .‬فالفاعل‬
‫واٍل ؛ والصبي والمرأة َم ْو لّي عليه ‪.‬‬
‫الولي في اصطالح الفقهاء ‪ :‬القدرة على مباشرة التصرف من غير توقف على‬
‫إجازة أحد ‪ .‬ويسمى متولى العقد " الولي " ومنه قوله تعالى ‪ " :‬فليملل وليه بالعدل"‬
‫شروط الولي ‪ :‬يشترط في الولي شروط متفق عليها بين الفقهاء وهي‬
‫كمال األهلية ‪ :‬بالبلوغ والعقل والحرية فال والية للصبي والمعتوه والسكران‬ ‫أ)‬
‫وكذا مختل النظر بهرم أو َخ بل‬
‫اتفاق دين الولي والمولى عليه ‪ :‬فال والية لغير المسلم على المسلم ‪ ،‬وال‬ ‫ب)‬
‫للمسلم على غير المسلم ‪ ،‬أي ال يزوج عند الحنفية والحنابلة كافر مسلمة وال‬
‫عكسه ‪ ،‬وقال الشافعية وغيرهم ‪ :‬يزوج الكافر الكافرة سواء أكان زوج‬
‫الكافرة كافرا أم مسلما ‪ .‬وقال المالكية ‪ :‬يزوج الكتابية مسلم ‪ .‬ويستثنى من‬
‫ذلك اإلمام أو نائبه ؛ ألن له الوالية العامة على جميع المسلمين ‪.‬‬
‫وهناك شروط أخرى في الولي مختلف في اشتراطها وهي ‪:‬‬
‫الذكورة ‪ :‬شرط عند الجمهور غير الحنفية ‪ ،‬فال تثبت والية الزواج لألنثى ؛‬ ‫أ)‬
‫ألن المرأة ال يثبت لها والية على نفسها ‪ ،‬فعلى غيرها أولى ‪.‬‬
‫وقال الحنفية ‪ :‬ليست الذكورة شرطا في ثبوت الوالية ‪ ،‬فللمرأة البالغة العاقلة والية‬
‫التزويج عندهم بالنيابة عن الغير ‪ ،‬بطريق الوالية أو الوكالة ‪ .‬وهذا الخالف مفرع‬
‫على اختالفهم في مسألة انعقاد النكاح بعبارة النساء ‪.‬‬
‫ـ‪4‬ـ‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬
‫العدالة ‪ :‬وهي استقامة الدين ‪ ،‬بأداء الواجبات الدينية ‪ ،‬واالمتناع عن الكبائر‬ ‫ب)‬
‫كالزنا والخمر وعقوق الوالدين ونحوها ‪ ،‬وعدم اإلصرار على الصغائر ‪.‬‬
‫وهي شرط عند الشافعية على المذهب وعند الحنابلة ‪ ،‬فال والية لغير العدل‬
‫وهو الفاسق ‪ ،‬لما روي عن ابن عباس ‪ " :‬ال نكاح إال بشاهدي عدل وولي‬
‫مرشد " ؛ ألنها والية تحتاج إلى النظر وتقدير فال يستبد بها الفاسق كوالية‬
‫المال ‪.‬‬
‫ويكفي العدالة الظاهرة ‪ ،‬فيكفي مستور الحال ؛ ألن اشتراط العدالة ظاهرا‬
‫وباطنا حرج ومشقة ‪ ،‬ويفضي إلى بطالن غالب األنكحة ‪.‬‬
‫ويستثنى من هذا الشرط ‪ :‬السلطان ‪ ،‬يزوج من ال ولي لها ‪ ،‬فال تشترط عدالته‬
‫للحاجة ‪.‬‬
‫وذهب الحنفية والمالكية إلى أن العدالة ليست شرطا في ثبوت الوالية ‪ ،‬فللولي‬
‫عدال كان أو فاسقا تزويج ابنته أو ابنة أخيه مثال ؛ لن فسقه ال يمنع وجود الشفقة‬
‫لديه ورعاية المصلحة لقريبه ؛ وألن حق الوالية عام ‪ ،‬ولم ينقل أن وليا في عهد‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم ومن بعده ُمنع من التزويج بسبب فسقه ‪ .‬وهذا‬
‫الرأي هو الراجح ـ وهللا أعلم ـ ألن حديث ابن عباس رضي هللا عنهما ضعيف ؛‬
‫وألن " المرشد " ليس معناه العدل ‪ ،‬بل الذي يرشد غيره إلى وجوه المصلحة ‪،‬‬
‫والفاسق أهل لذلك ‪.‬‬
‫ج) الرشد ‪ :‬ومعناه هنا عند الحنابلة ‪ :‬معرفة الكفء ومصالح النكاح ‪ .‬ال حفظ‬
‫المال ؛ ألن رشد كل مقام بحسبه ‪ .‬ومعناه عند الشافعية ‪ :‬هو عدم تبذير المال ‪.‬‬
‫والرشد شرط عند الشافعية على المذهب والحنابلة في ثبوت الوالية ؛ ألن‬
‫المحجور عليه بسفه ال يلي أمر نفسه في الزواج ‪ .‬فال يلي امر غيره ‪ ،‬فإن لم‬
‫يكن السفيه محجورا عليه جاز له تزويج غيره على المعتمد عند الشافعية ‪.‬‬
‫وقال الحنفية والمالكية ‪ :‬ليس الرشد بمعنى حسن التصرف في المال شرطا‬
‫في ثبوت الوالية ‪ .‬فيصح للسفيه ولو محجورا عليه أن يتولى تزويج غيره ‪ .‬لكن‬
‫يستحب عند المالكية أن يكون التزويج من السفيه ذي الراي بإذن موليته ‪،‬وبإذن‬
‫وليه ‪ ،‬فإن زوج ابنته مثال بغير إذن وليه ‪ ،‬ندب أن ينظر الولي لما فيه المصلحة‬
‫ـ‪5‬ـ‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬
‫فإن كان صوابا أبقاه وإال رده ‪ ،‬فإن لم ينظر فهو ماض ‪.‬‬
‫واضاف المالكية شرطين آخرين هما ‪:‬‬
‫خلو الولي من االحرام بحج أو عمرة ‪ ،‬فالمحرم بأحدهما ال يصح منه تولي‬
‫عقد النكاح ‪ .‬وعدم اإلكراه ‪ :‬فال يصح الزواج من مكره ‪ ،‬لكن هذا الشرط ال‬
‫يختص بولي عقد النكاح ‪ ،‬بل هو عام في جميع العقود الشرعية ‪ .‬وبه تصبح‬
‫شروط الولي عندهم سبعة ‪ :‬هي الذكورة والحرية والبلوغ والعقل واالسالم في‬
‫المرأة المسلمة ‪ ،‬والخلو من اإلحرام وعدم اإلكراه ‪ .‬وليست العدالة والرشد‬
‫شرطين ‪.‬‬
‫وهي أيضا عند الحنابلة والشافعية سبعة ‪ :‬الحرية والذكورة واتحاد الدين بين‬
‫الولي والمولى عليها ‪ ،‬والبلوغ ‪ ،‬والعقل ‪ ،‬والعدالة ‪ ،‬والرشد ‪ :‬وهو عند الحنابلة‬
‫معرفة الكفء ومصالح النكاح ‪ ،‬وليس حفظ المال ؛ ألن رشد كل مقام بحسبه ‪.‬‬
‫وعند الشافعية ‪ :‬عدم تبذير المال ‪.‬‬
‫وعند الحنفية أربعة هي ‪ :‬العقل والبلوغ والحرية واتحاد الدين ‪ ،‬وليست العدالة‬
‫والرشد شرطين ‪.‬‬

‫حكم الولي في النكاح‬


‫اتفق الفقهاء على أن األنثى إذا كانت صغيرة أو مجنونة ال يصح لها أن تباشر‬
‫عقد النكاح ؛ ألنهم اتفقوا على أن الولي شرط في صحة نكاحهن ‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء في الحرة البالغة العاقلة ‪ ،‬هل لها ان تباشر عقد النكاح لنفسها أو‬
‫لغيرها ؟ أم ال ؟ فقد ذهب الفقهاء في ذلك إلى عدة مذاهب ‪.‬‬
‫المذهب األول ‪ :‬ذهب الجمهور من شافعية وحنابلة وظاهرية واإلمام مالك في‬
‫رواية أشهب عنه ‪ ،‬وعمر وعلي وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة رضي هللا عنهم‬
‫وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد والثوري وابن أبي ليلى‬
‫ـ‪6‬ـ‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬
‫وابن شبرمة وابن المبارك وغيرهم ‪ .‬إلى أن النكاح ال يصح إال بولي ‪ ،‬وال تملك‬
‫المرأة تزويج نفسها وال غيرها ‪ ،‬وال توكيل غير وليها في تزويجها ‪ .‬فإن فعلت لم‬
‫يصح النكاح ‪.‬‬
‫المذهب الثاني ‪ :‬ذهب اإلمام أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر في ظاهر الرواية أن‬
‫للمرأة أن تباشر عقد نكاحها بكرا كانت أو ثيبا ولها أن تزوج غيرها وتوكل في‬
‫النكاح ‪.‬‬
‫المذهب الثالث ‪ :‬ذهب الشعبي والزهري إلى التفريق في ذلك أي أنهم فرقوا بين أن‬
‫تزوج المرأة نفسها لكفء أو لغيره ‪ .‬فقالوا‪ :‬إن زوجت نفسها لكفء صح نكاحها‪،‬‬
‫وإال فسد‪ .‬وروي ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف ‪ .‬إال انه ُنقل رجوعهما عنه إلى‬
‫ظاهر الرواية ‪.‬‬
‫المذهب الرابع ‪ :‬روي عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية ‪ ،‬وابن سيرين‬
‫وابي ثور ‪ ،‬انه ال يجوز للمرأة ان تزوج نفسها بغير إذن الولي فإن فعلت كان‬
‫موقوفا على إجازته ‪.‬‬
‫المذهب الخامس ‪ :‬ذهب داود الظاهري إلى اشتراط الولي في البكر ‪ ،‬وعدم‬
‫اشتراطه في الثيب ‪.‬‬
‫المذهب السادس ‪ :‬ذهب اإلمام مالك في رواية ابن قاسم عنه ان اشتراط الولي في‬
‫النكاح سنة ال فرض ؛ وانه يجوز للمرأة غير الشريفة أن تستخلف رجال من الناس‬
‫على انكاحها ‪ .‬أما المرأة الشريفة الجميلة التي ُيرغب فيها فال يصح نكاحها بال ولي‬
‫وكان يستحب أن تقدم الثيب وليها ليعقد عليها فكأنه عنده من شروط التمام ‪ ،‬ال من‬
‫شروط الصحة ‪ .‬أما أصحاب اإلمام من البغداديين يقولون ‪ :‬أنها من شروط الصحة‬
‫ال من شروط التمام ‪.‬‬
‫ســـبب الخالف ‪ :‬وسبب اختالفهم أنه لم تأِت آية وال سنة هي ظاهرة في اشتراط‬
‫الوالية في النكاح ؛ فضال عن أن يكون في ذلك نص ‪ .‬بل اآليات والسنن التي‬
‫جرت العادة باالحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة ‪ ،‬وكذلك اآليات‬
‫والسنن التي يحتج بها من يشترط إسقاطها هي أيضا محتملة في ذلك ‪ .‬وقد فهم فيها‬
‫كل فريق ما فهمه ‪ ،‬وأخذ الحكم منها حسب ما وصل إليه اجتهادهم ‪ .‬واألحاديث مع‬
‫ـ‪7‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫كونها محتملة في ألفاظها مختلف في صحتها ‪ .‬إال حديث ابن عباس رضي هللا‬
‫عنهما المتفق على صحته وهو قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ { :‬األيم أحق بنفسها من‬
‫وليها ‪ .‬والبكر تستأمر في نفسها ‪،‬وإذنها صماتها }‪ .‬وبهذا الحديث احتج داود في‬
‫الفرق عنده بين الثيب والبكر في هذا المعنى ‪.‬‬
‫األدلة ‪:‬‬
‫أدلة أصحاب المذهب األول ‪ :‬وهم الجمهور القائلون باشتراط الولي في النكاح‬
‫مطلقا‪ .‬وقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعقول ‪ :‬ـ‬
‫أوال من الكتاب ‪1 :‬ـ قال تعالى ‪ { :‬وغذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فال تعضلوهن‬
‫أن ينكحن أزواجهن } ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬أن النهي موجه إلى األولياء عن منعهن عن نكاح من يخترق من‬
‫األزواج ‪ ،‬وال يتحقق المنع إال ممن في يده الممنوع ‪ .‬فدل ذلك على أن عقد النكاح‬
‫في يد الولي ال في يد المرأة ‪ ،‬وعليه فال يصح منها لو باشرته بنفسها ؛ ويؤيد هذا‬
‫ما روي في سبب النزول من أن معقل بن يسار كانت له أخت تحت أبي البّر اح‬
‫فطلقها ‪ ،‬وتركها حتى انقضت عدتها ‪ ،‬ثم ندم على فراقها ‪ .‬فخطبها فرضيت به ‪،‬‬
‫وابى اخوها أن يزوجها ‪ ،‬وقال‪ :‬وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه‪ .‬فنزلت اآلية ‪.‬‬
‫فدعا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم معقال وقال له ‪ :‬إن كنت مؤمنا فال تمنع أختك‬
‫عن أبي البراح ‪ .‬فقال ‪ :‬آمنت باهلل ‪ ،‬وزجتها منه ‪ ،‬فلو كان لها أن تباشر النكاح‬
‫بدون وليها ‪ ،‬لزوجت نفسها ‪ ،‬ولم تحتج إلى وليها معقل ‪ .‬وعلى هذا يبعد أن يكون‬
‫النهي في اآلية لألزواج كما قيل ‪ :‬ومما يقوي القول بأن النهي في اآلية لألولياء ‪ ،‬ما‬
‫روي عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬نزلت هذه اآلية في الرجل يطلق امرأته طلقة او‬
‫طلقتين ‪ .‬فتنقضي عدتها ‪ ،‬ثم يبدو لها أن يتزوجها وان يراجعها ‪ ،‬وتريد المرأة ذلك‬
‫فيمنعها أولياؤها من ذلك ‪ ،‬فنهى هللا أن يمنعوها ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬وقد نوقش هذا الدليل بأن معنى النهي فيها التحذير عن منعهن من‬
‫مباشرة العقد بأنفسهن ‪ ،‬فدل ذلك على صحته منهن استقالال ‪ ،‬وإال لم يكن للتحذير‬
‫معنى ‪ .‬على أننا ال نسلم أن النهي لألولياء ‪ ،‬بل هو لألزواج بدليل صدر اآلية ‪ ،‬إذ‬
‫يقول هللا تعالى ‪ ( :‬وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فال تعضلوهن ) فقوله ‪ ( :‬فال‬
‫ـ‪8‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫تعضلوهن ) إنما هو خطاب لمن طلق ؛ ال لألولياء ‪ ،‬حتى ال يختل النظم الكريم ‪،‬‬
‫وإذا كان كذلك ‪ .‬كان معناه ال تعضلوهن أيها األزواج ‪ ،‬أي ‪ :‬ال تمنعوهن حسا بعد‬
‫انقضاء العدة أن يتزوجن أو ال تمنعوهن بإطالة العدة عليهن ‪ .‬كما قال في آية‬
‫أخرى‪ ( :‬وال تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬بالنسبة لما ورد في سبب النزول ‪ ،‬من أن العاضل هو معقل ‪ .‬وهو‬
‫ولي ال زوج وليس في ذلك ما يخل بالنظم الكريم ؛ ألن محل ذلك إذا خفي المراد‬
‫وحصل االشتباه ‪ ،‬أما إذا ظهر المراد ‪ ،‬لم يكن هناك اشتباه ‪ ،‬فال باس من تفكيك‬
‫الضمائر ‪ ،‬وقد عهد في القرآن الكريم تحويل الخطاب ‪ ،‬ولو كان منعه يدل على‬
‫صحة النكاح بمباشرتها كما قيل ؛ ألباح لها النبي صلى هللا عليه وسلم أن تباشر‬
‫النكاح بنفسها ‪ ،‬ولما قال لمعقل ‪ :‬إن كنت مؤمنا فزوجها ‪.‬‬
‫على أنه يحتمل أن يكون الخطاب في صدر اآلية لألولياء ‪ ،‬ويكون معنى إسناد‬
‫الطالق إليهم أنهم سبب له لكونهم الزوجين للنساء المطلقات من األزواج ‪ ،‬وعلى‬
‫هذا االختالل في النظم الكريم‬
‫‪2‬ـ قال تعالى ‪ ( :‬وال تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) ‪.‬‬
‫‪3‬ـ وقال تعالى ‪ ( :‬وأنكحوا األيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) ‪.‬‬
‫وجه الداللة من اآليتين ‪ :‬أن الخطاب موجه فيهما إلى األولياء ‪ ،‬فدل على أن‬
‫الزواج إليهم ال إلى النساء ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬ان الخطاب فيهما يحتمل أن يكون لعامة المؤمنين ‪ ،‬ال لخصوص‬
‫األولياء ‪،‬وإال ألمرهم بمباشرة عقد الزواج ‪ ،‬فيكون من باب التشريع العام للمسلمين‬
‫بأن يكون المراد باإلنكاح ما يشمل العقد ‪ ،‬وتسهيل‪ ،‬والحث عليه ‪ ،‬والتعاون فيه‬
‫بإعطاء المال ‪ ،‬واختيار الكفء ‪ ،‬وغير ذلك ‪ .‬على أن المقصود من اآلية الثانية هو‬
‫اشتراط ايمان الزوج إذا كانت الزوجة مؤمنة ‪.‬‬
‫الرد‪ :‬ويجاب عن هذه المناقشة بأننا ال نسلم أن الخطاب يحتمل أن يكون لعامة‬
‫المسلمين ‪ ،‬بل هو لألولياء ‪ ،‬ومما يرجح كونه لألولياء قوله صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫{ إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه } ‪ .‬إذ إن المعروف أن من أراد أن‬

‫ـ‪9‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫يخطب امرأة يأتي وليها فقط ‪.‬‬
‫ثانيا من السنة ‪1 :‬ـ عن أبي هريرة رضي هللا عنه ‪ .‬قال ‪ " :‬ال تزوج المرأة‬
‫المرأة ‪ ،‬وال تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬ان النبي صلى هللا عليه وسلم نهى المرأة أن تزوج نفسها فدل‬
‫ذلك على فساد نكاحها ؛ ألن النهي إذا رجع إلى ذات الفعل يدل على الفساد ويؤيده‬
‫قوله في آخر الحديث ‪ :‬فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬قيل لهم في الحديث ان ابن كثير قال فيه ‪ :‬الصحيح وقفه على ابي‬
‫هريرة ‪ .‬وعلى تسليم رفعه فغايته التنفير من استبداد المرأة بنفسها في النكاح ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬ردوا وقالوا بأننا ال نسلم أن الحديث غير مرفوع ‪ ،‬بل هو مرفوع ‪ ،‬وقد‬
‫حكي رفعه يحيى بن معين ‪ ،‬وليس المراد منه التنفير كما قيل ؛ ألن النهي ظاهر في‬
‫عدم الصحة ‪.‬‬
‫‪2‬ـ عن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ .‬قال‪:‬‬
‫" ال نكاح إال بولي " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬هذا الحديث صريح في أن النكاح ال يصح بدون ولي ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ُ :‬أعترض علهم بأنه حديث ضعيف مضطرب في إسناده ‪ .‬فقد روي‬
‫موصوال ومنقطعا ومرسال ‪ .‬فال تقوم به حجة على أصلكم ‪ .‬وعلى تسليم صحة‬
‫االحتجاج به بناء على تقديم الوصل على االنقطاع عند التعارض ‪ .‬فغايته أنه حسن‪،‬‬
‫وهو ال يعارض الحديث الصحيح وهو حديث ‪ " :‬األيم أحق بنفسها‪. "...‬‬
‫الرد ‪ :‬بأن الحديث صححه ابن حبان والحاكم ‪ ،‬وذكر له الحاكم طرقا ‪ .‬وقال ‪:‬‬
‫صحت فيه الرواية عن أزواج النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ .‬عائشة وأم سلمة ‪،‬‬
‫وزينب بنت جحش ‪ .‬ثم ذكر تمام ثالثين صحابيا ‪،‬وقد قال المروزي ‪ :‬سألت أحمد‬
‫ويحيى عن حديث " ال نكاح إال بولي " ‪ .‬فقاال ‪ :‬صحيح ‪ ،‬و ال نسلم معارضته‬
‫لحديث " األيم أحق بنفسها ‪ "...‬وذلك لما قلناه في معناه من أن المراد أنها أحق‬
‫بنفسها في أن ال يعقد عليها الولي إال برضاها ؛ ألنها أحق بنفسها في أن تعقد على‬

‫ـ ‪ 10‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫نفسها بدون وليها ‪.‬‬
‫‪3‬ـ عن عائشة رضي هللا عنها أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ " :‬أيما امرأة‬
‫نكحت نفسها بدون إذن وليها فنكاحها باطل ‪ ،‬باطل ‪ ،‬باطل ‪ .‬فإن دخل بها فلها‬
‫المهر بما استحل من فرجها ‪ ،‬فإن تشاجروا فالسلطان ولي من ال ولي له " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم حكم على نكاحها نفسها بدون إذن‬
‫وليها بالبطالن ‪ ،‬وكرر ذلك ثالثا لتأكيد بطالنه ‪ ،‬فهو قاض باشتراط الولي في‬
‫صحة النكاح ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬أوًال ـ إن هذا الحديث روي من جملة طرق مدارها على ابن شهاب‬
‫الزهري ‪ ،‬فبعضها من رواية ابن جريج ‪ ،‬وبعضها من رواية الحجاج بن أرطأة ‪،‬‬
‫وبعضها من رواية ابن لهيعة ‪ ،‬وابن لهيعة معروف ‪ ،‬والحجاج ضعيف ‪ ،‬ولم يثبت‬
‫سماعه من الزهري فهو موقوف ‪ ،‬وأما رواية ابن جريج فقد أخبر ابن علية ان ابن‬
‫جريج قال ‪ :‬لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬بأن المخالف يحتج برواية كل من ابن لهيعة والحجاج ‪ .‬فكيف ال يحتج بها‬
‫عند االجتماع ‪.‬‬
‫وأما رواية ابن جريج إنكار الزهري لرواية سليمان بن موسى ‪ ،‬فقد ضعفها ابن‬
‫معين ‪ ،‬فقد أخرج عنه البيهقي من طرق منها ‪ :‬أن جعفر الطيالسي قال ‪ :‬سمعت ابن‬
‫معين يوهن رواية ابن علية ‪ ،‬وانما سمع ابن علية من ابن جريج سماعا ليس بذاك ‪.‬‬
‫ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة ؛ ألنه قد نقله عنه ثقات منهم‬
‫سليمان بن موسى ‪ .‬وهو إمام ثقة ‪ ،‬وجعفر بن ربيعة ‪ ،‬فلو نسبه الزهري لم يضره‬
‫ذلك ‪ .‬فإن من حفظ حجة على من نسي ‪ .‬فإذا َر َو ى الحديث ثقة ‪ ،‬فال يضره نسيان‬
‫نسيه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ونوقش أيضا ان هذا الحديث ُر وي عن عائشة ‪ ،‬وقد زوجت حفصة بنت‬
‫عبد الرحمن ‪ ،‬وقد كان غائبا ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬يجاب عن ذلك بما قاله البيهقي ونحن نحمل قوله ‪ :‬زوجت ‪ ،‬أي مهدت‬
‫أسباب التزويج ‪ ،‬وُأضيف النكاح إليها الختيارها ذلك ‪ ،‬وإذنها فيه ‪ .‬ثم أشارت على‬

‫ـ ‪ 11‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫من ولي أمرها عند غيبة أبيها ‪ ،‬حتى عقد النكاح ‪ .‬ويؤيد هذا ما رواه ابن جريج عن‬
‫عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة أنها نكحت رجال هو المنذر‬
‫بن الزبير امرأة من بني أخيها ‪ ،‬فضربت بينهم بستر ثم تكلمت ‪ .‬حتى إذا لم يبق إال‬
‫العقد أمرت رجال فأنكح ‪ .‬ثم قالت‪ :‬فإن المرأة ال تلي عقد النكاح ‪.‬‬
‫فالوجه أن عائشة قررت المهر وأحوال النكاح ‪ ،‬وتولى العقد أحد عصبتها ‪،‬ونسب‬
‫العقد إليها لما كان تقريره إليها ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬ونوقش أيض إنه يخالف مذهب الجمهور ‪ ،‬فإن مفهومه وهم يحتجون‬
‫بالمفهوم يدل على صحة النكاح إذا باشرته المرأة بإذن وليها ‪.‬‬
‫ثالثا المعقول ‪ :‬وأما المعقول ‪ :‬فقد قالوا ‪ :‬إن النكاح له مقاصد شتى وهو رباط بين‬
‫األسر ‪ .‬والمرأة ال تحسن االختيار لقلة ما لديها من االختيار ‪ ،‬السيما أنه تخضع‬
‫لحكم العاطفة التي تطغى عليها جهة المصلحة ‪ .‬فتحصيال لهذه المقاصد على الوجه‬
‫األكمل قلنا بمنعها من مباشرة العقد ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬قيل لهم فيه ‪ :‬ان تحصيل المقاصد المذكورة ال يتوقف على مباشرة‬
‫الولي العقد بنفسه ‪ ،‬بل يكفي أن يأذن لها ‪ .‬وليباشر العقد بعد ذلك من يباشره ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬أجابوا على المناقشة بأن مباشرة المرأة للعقد تتنافى ومحاسن الشريعة‬
‫اإلسالمية وآدابها ‪ ،‬فإن المرأة تنسب إلى الوقاحة ‪ ،‬والخروج عن مألوف العادات ‪،‬‬
‫وكيف يقوم هذا ؟ وقد قامت األدلة القوية على أن المرأة ممنوعة من مباشرة العقد‬
‫بنفسها ‪.‬‬
‫وهو مذهب إلمام أبو حنيفة ومن وافقه فقد استدلوا بالكتاب‬ ‫أدلة المذهب الثاني ‪:‬‬
‫والسنة والمعقول ‪:‬‬
‫أوال من الكتاب ‪:‬‬
‫أ) قال تعالى ( فإن طلقها فال تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) ‪.‬‬
‫ب) قال تعالى‪ ( :‬فال تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا ترضوا بينهم بالمعروف ) ‪.‬‬

‫ـ ‪ 12‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫ج) قال تعالى‪ ( :‬فإذا بلغن أجلهن فال جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف )‬
‫وجه الداللة من اآليات ‪ :‬ان هللا سبحانه تعالى أسند النكاح في اآلية األولى‬
‫والثانية إلى المرأة ‪ ،‬واألصل في االسناد أن يكون إلى الفاعل الحقيقي ‪ ،‬فدل ذلك‬
‫على صحة النكاح عند مباشرتها العقد بنفسها من غير مباشرة الولي أو إذنه ‪ .‬وأما‬
‫في اآلية الثالثة ‪ ،‬فإن قوله تعالى ‪ ( :‬فيما فعلن في أنفسهن ) صريح في أنها هي‬
‫التي تفعل في نفسها ما تشاء ‪ ،‬ومن ذلك أن تباشر عقد نكاحها ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬وقد نوقش ذلك بأن اآليات التي أضيف فيها النكاح إلى المرأة أن‬
‫االضافة فيها على طريق االسناد المجازي والعالقة المحلية ‪ ،‬وأيضا فإن ال يكون‬
‫نصا في جواز مباشرتها العقد بنفسها ‪ ،‬وإنما هو نص في تحصيل العقد لكن‬
‫بمباشرة من ؟ هذا مسكوت عنه ‪ .‬وقد بينت السنة أن ال يصح للمرأة ان تباشر‬
‫النكاح وأنها إذا باشرته كان فاسدا كما في حديث عائشة رضي هللا عنها حيث ردت‬
‫أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ " :‬أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها‬
‫فنكاحها باطل ‪ ،‬باطل ‪ ،‬باطل ‪ ".....‬الحديث ‪.‬‬
‫وأما قوله تعالى ‪ ( :‬فيما فعلن في أنفسهن ) فسياق اآلية يقتضي بأن هذا في غير‬
‫النكاح إذ اآلية قبلها في عدة الوفاة ‪ ،‬والمرأة فيها ممنوعة من الزينة والخروج ‪،‬‬
‫مأمورة باإلحداد ‪ ،‬فرفع هللا عنها هذه القيود التي التزمتها في العدة بقوله ‪ ( :‬فال‬
‫جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن ) ‪.‬‬
‫ثانيا من السنة ‪:‬‬
‫ما رواه الجماعة إال البخاري عن ابن عباس رضي هللا عنهما أنه قال ‪ :‬قال ‪:‬‬ ‫أ)‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم " األيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في‬
‫نفسها ‪ ،‬وصماتها إقرارها " وفي لفظ مسلم ‪ " :‬وإذنها صماتها " وفي لفظ آخر‬
‫" البكر تستأمر وإذنها سكوتها " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬في هذا الحديث الشريف أن النبي صلى هللا عليه وسلم شارك بينها‬
‫وبين الولي ‪ ،‬ثم قدمها عليه بقوله ‪ " :‬أحق بنفسها " وقد صح العقد من الولي‬
‫فصحته منها أولى ‪ ،‬هذا من جهة ‪ .‬ومن جهة أخرى فإن الحديث برواياته يدل‬

‫ـ ‪ 13‬ـ‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬
‫صراحة على توقف العقد على رضا المرأة ‪ ،‬وليس من المعقول وال من المعهود‬
‫شرعا أن يقيد رضا شخص في صحة تصرف ‪ ،‬ثم يحكم عليه بالفساد إذا باشره‬
‫بنفسه ‪.‬‬
‫ما ورد في تزوجه صلى هللا عليه وسلم أم سلمة لما بعث إليها يخطبها ‪ .‬قالت ‪:‬‬ ‫ب)‬
‫" ليس أحد من أوليائي شاهد " فقال صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬ليس أحد من‬
‫أوليائك شاهد وال غائب يكره ذلك " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬أنهلم يحضر أحد من أولياء أم سلمة هذا العقد ‪ ،‬وهي التي‬
‫باشرته بنفسها ‪ ،‬فدل ذلك على صحة النكاح بمباشرة المرأة العقد ‪ ،‬وهو يدل من‬
‫جهة أخرى على أنه ليس لألولياء حق االعتراض ؛ إذا كلن كفئا ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬يقال لهم في حديث أم سلمة رضي هللا عنها ‪ :‬أنه محمول على‬
‫الخصوصية فقد عهد اختصاص النبي صلى هللا عليه وسلم في باب النكاح بأمور‬
‫كثيرة إذ إننا إنما نحتاج للولي لرعاية المصلحة إذ إن المرأة لنقصان عقلها قد ُتخدع‬
‫والنبي صلى هللا عليه وسلم خير زوج فال يصح إلنسان أن ينظر بعد نظره ‪.‬‬
‫ثالثا من المعقول ‪ :‬إن المرأة عند مباشرتها العقد بنفسها ‪ ،‬إنما تصرفت في‬
‫خالص حقها وهي من أهل التصرف ؛ إذ إنها بالغة عاقلة ‪ .‬ولهذا كان لها التصرف‬
‫في المال ‪ ،‬ولها اختيار األزواج باالتفاق ‪ ،‬وكل تصرف هذا شأنه فهو صحيح ‪،‬‬
‫وإنما يطلب الولي بالتزويج كيال تنسب المرأة إلى الوقاحة ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬يقال لهم فيما استدلوا به من المعقول ‪ :‬ال نسلم أنها عند مباشرتها‬
‫العقد تكون قد تصرفت في خالص حقها ‪ ،‬بل تصرفت في أمر تعلق به حق‬
‫األولياء ‪ ،‬وما من شك في أن مشروعية النكاح على األصالة إنما هي بناء األسر ‪،‬‬
‫والمحافظة على األعراض التي ال يصونها إال ولي خاص يؤمن على العرض من‬
‫تلويثه ‪.‬‬
‫أدلة المذهب الثالث ومناقشتها ‪ :‬وإليه ذهب الشعبي والزهري في التفريق في‬
‫صحة النكاح لو زوجت المرأة نفسها لكفء ؛ وعدم صحته لو زوجت نفسها لغير‬

‫ـ ‪ 14‬ـ‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬
‫الكفء ‪ .‬استدلوا من السنة لما ذهبوا إليه ‪.‬‬
‫استدلوا بحديث أم سلمة بقول النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬ليس أحد من‬
‫أوليائك شاهد وال غائب يكره ذلك "‪ .‬جوابا لقولها ‪ " :‬ليس أحد من أوليائي شاهدا "‬
‫وجه الداللة ‪ :‬فإنه يدل على صحة العقد من المرأة ‪ ،‬حيث ال يكون هناك موجب‬
‫لكراهة األولياء ‪ ،‬بأن توفرت الكفاءة ‪ ،‬ويدل بمفهومه على خالف هذا ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬وقد نوقش هذا االستدالل بما نوقش استدالل الحنفية بهذا الحديث‬
‫سابقا عند مناقشة أدلة الحنفية ‪.‬‬
‫أدلة المذهب الرابع ‪ :‬وهم القائلون بأن المرأة إذا زوجت نفسها فإن نكاحها‬
‫موقوفا على إجازة الولي ‪ .‬استدلوا لما ذهبوا إليه من السنة ‪.‬‬
‫عن عائشة رضي هللا عنها أنها قالت ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫" أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬ان الحديث يدل بمنطوقه على أن المرأة إذا نكحت بغير إذن‬
‫وليها فنكاحها باطل ‪ ،‬ويدل بمفهومه على أنها إذا نكحت نفسها بإذن وليها فنكاحها‬
‫صحيح ‪ .‬ويقول ‪ :‬إن اإلذن اعم من أن يكون سابقا أو الحقا ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬إن في االستدالل بالحديث استدالل بالمفهوم ‪ .‬وأن هذا الفريق ال‬
‫يقول به ‪.‬‬
‫كما ان المفهوم إنما يستدل به إذا لم يخرج الكالم مخرج الغالب ‪ .‬كما أن إذن‬
‫الولي ال يصح إال لمن ينوب عنه ‪ ،‬والمرأة ال تنوب عنه في ذلك ؛ ألن الحق لها ‪،‬‬
‫ولو َأِذَن لها في إنكاح نفسها صارت كمن َأِذَن لها في البيع من نفسها وال يصح‬
‫وهنا كذلك ‪.‬‬
‫أدلة المذهب الخامس ‪ :‬وهو ما ذهب إليه داود الظاهري إلى اشتراط الولي‬
‫في نكاح البكر ‪ .‬وعدم اشتراطه في نكاح الثيب وقد استدل لما ذهب إليه‬
‫من السنة ‪ " :‬الثيب أحق بنفسها من وليها ‪،‬والبكر تستأمر في نفسها وإذنها‬

‫ـ ‪ 15‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫صماتها " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬ان الحديث الشريف صريح في أن الثيب أحق بنفسها من وليها‬
‫وذلك أن تباشر عقد نكاحها ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬نوقش استداللهم هذا بأن النبي صلى هللا عليه وسلم أثبت لها حقا‪،‬‬
‫ومعناه أنها أحق بنفسها في ان ال يعقد عليها الولي إال برضاها ؛ ألنها أحق بنفسها‬
‫في ان تعقد على نفسها ‪ .‬على أن داود كما قال النووي ‪ :‬قد ناقض مذهبه في شرط‬
‫الولي في البكر دون الثيب ؛ ألنه إحداث قول في مسألة مختلف فيها ‪ ،‬ولم يسبق‬
‫إليه ‪ ،‬ومذهبه أنه ال يجوز إحداث مثل هذا ‪.‬‬
‫ـ ‪16‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬

‫المسألة الثانية ‪ /‬حكم اجبار البكر البالغة على النكاح‬

‫من شروط النكاح الرضا ما بين المتعاقدين ‪ ،‬ولكن إذا زوج الولي موليته من غير‬
‫رضاها ؛ فال خالف ما بين الفقهاء ان لألب تزويج ابنته البكر الصغيرة مع‬
‫كراهيتها وامتناعها وذلك إذا زوجها من كفء‪ .‬وقد نقل هذا االجماع ابن المنذر ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم ‪.‬‬
‫ولكن هل لألب اجبار البكر البالغة على النكاح أم ال ؟ ذهب الفقهاء في ذلك‬
‫إلى مذهبين ‪:‬‬
‫المذهب األول ‪ :‬ذهب الجمهور من شافعية ومالكية واإلمام أحمد في رواية إلى أن‬
‫لألب إجبار البكر البالغة على النكاح ‪ .‬إال انهم مع اتفاقهم في ذلك إال ان الشافعية‬
‫قالوا‪ :‬ان لألب وأب األب له والية اإلجبار على البكر البالغة ؛ وقال اإلمام مالك في‬
‫أظهر الروايتين عنه أن والية االجبار لألب فقط دون الجد ‪ .‬وقال ‪ :‬أما البكر‬
‫المعنسة وهي التي طال مكثها في بيت أبيها فإن لألب عليها والية اإلجبار ‪ .‬أما‬
‫الحنابلة فقالوا ‪ :‬ان لألب والية اإلجبار عليها ؛ إال انه يستحب إذنها ‪.‬‬
‫كما أن والية االجبار لألب عند األئمة الثالثة مقيدة بأن يكون النكاح حظا لها وبمهر‬
‫ال يقل عن مهر مثلها ؛ وال يجوز إذا كان نقصا لها أو اضرار بها ؛ ومقيد كذلك بأال‬
‫يكون بينها وبين أبيها عداوة ظاهرة ‪.‬‬
‫المذهب الثاني ‪ :‬ذهب الحنفية والظاهرية واإلمام مالك واالمام أحمد في رواية‬
‫عنهما إلى انه ال يجوز إجبار البكر البالغ على النكاح ‪.‬‬
‫سبب الخالف ‪ :‬معارضة دليل الخطاب للعموم ‪ .‬وذلك أن ما روي عنه صلى هللا‬
‫عليه وسلم من قوله ‪ " :‬ال تنكح اليتيمة إال بإذنها " ‪ ،‬وقوله ‪ُ " :‬تستأمر اليتيمة في‬
‫نفسها " ‪ .‬والمفهوم منه بدليل الخطاب أن ذات األب بخالف اليتيمة ‪ .‬وقوله صلى‬
‫هللا عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي هللا عنهما المشهور ‪ " :‬والبكر ُتستأمر "‬
‫يوجب بعمومه استئمار كل بكر ‪ ،‬والعموم أقوى من دليل الخطاب ؛ مع انه خرج‬
‫مسلم في حديث ابن عباس رضي هللا عنهما زيادة ‪ ،‬وهو أنه قال صلى هللا عليه‬

‫ـ ‪ 17‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫وسلم " والبكر يستأذنها أبوها " وهو نص في موضع الخالف ‪.‬‬
‫األدلة ‪ :‬أدلة أصحاب المذهب األول وهم الجمهور القائلون بأن لألب والية‬
‫االجبار على البكر البالغة على حسب ما سبق بيانه ‪ .‬فقد استدلوا لما ذهبوا إليه من‬
‫السنة واألثر والمعقول ‪.‬‬
‫أوال من السنة ‪ :‬أ) قال صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬األيم أحق بنفسها من وليها ‪،‬‬
‫والبكر ُت ستأذن في نفسها " صحيح رواه مسلم ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬أنه فّر ق بين البكر والثيب ؛ فجعل األيم أحق بنفسها من وليها ‪،‬‬
‫فأفهم ذلك أن البكر ليست أحق بنفسها من وليها ‪ ،‬أي أن الولي أحق بنفسها منها ؛‬
‫وإال لم يكن لتخصيص األيم بذلك معنى ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬ان هذا استدالل بطريق المفهوم وهو ليس حجة متفقا عليها ‪ ،‬ثم إن‬
‫ثبت كونه حجة ‪ ،‬فهو معارض بالمنطوق الصريح وهو قوله صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫" ال تنكح األيم حتى تستأمر ‪ ،‬وال تنكح البكر حتى تستأذن " وهو حديث صحيح‬
‫رواه البخاري ومسلم ‪ .‬فيسقط ما استدللتم به ‪.‬‬
‫ب) استدلوا أيضا بحديث " الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها‬
‫وإذنها صماتها " ‪.‬‬
‫وجاء في رواية ثانية ‪ " :‬تستأمر النساء في أبضاعهن ‪ .‬فقالت عائشة رضي هللا‬
‫عنها ‪ :‬ان البكر تستحي ‪ .‬فقال ‪ :‬إذنها صماتها ‪ .‬وروي سكوتها رضاها ‪ .‬وروي‬
‫سكوتها اقرارها ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬ان النبي صلى هللا عليه وسلم فرق بينهما في صفة اإلذن ‪ ،‬فجعل‬
‫إذن الثيب النطق ‪ .‬وإذن البكر الصمت ‪ .‬قالوا ‪ :‬وهذا يدل على عدم اعتبار رضاها‬
‫ثانيا من األثر ‪ :‬روي أن النبي صلى هللا عليه وسلم زوج بناته ولم يستأذنهن‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬نوقش استداللهم هذا بأن هذا ال ُيعرف في شيء من اآلثار ‪.‬بل قد‬
‫جاءت آثار مرسلة بأنه صلى هللا عليه وسلم كان يستأمرهن ‪.‬‬

‫ـ ‪ 18‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫ثالثا من المعقول ‪ :‬أنه ثبت أنه لألب جواز انكاحه للبكر وهي صغيرة ؛ فهي على‬
‫ذلك بعد الكبر ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬ان هذا ال شيء مما ذكروه لوجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن النص فرق بين الصغير والكبير من قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ُ " :‬رفع‬
‫القلم عن ثالثة ‪ "....‬فذكر الصغير حتى يكبر ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن هذا قياس والقياس كله فاسد ـ وهذا عند الظهرية أي فساد القياس ـ وإذا‬
‫صححوا قياس البالغة على غير البالغة فيلزمهم أن يقيسوا الجد في ذلك على األب‬
‫وسائر األولياء على األب أيضا ‪ ،‬وإال فقد تناقضوا في قياسهم ويكفي من ذلك‬
‫النصوص التي أوردنا في رد انكاح البكر بغير إذنها ‪.‬‬
‫أدلة المذهب الثاني ‪ :‬وهم القائلون بأنه ليس لألب إجبار ابنته البكر البالغة على‬
‫النكاح وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بالسنة واألثر والمعقول ‪.‬‬
‫أوال من السنة ‪ :‬أ) قال صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬ال تنكح األيم حتى تستأمر ‪ ،‬وال‬
‫تنكح البكر حتى تستأذن " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬ان في الحديث الشريف التصريح بأن البكر ال تنكح حتى يطلب إذنها‬
‫ب) ما رواه اإلمام مسلم " عن عائشة رضي هللا عنها قالت ‪ :‬سألت رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم عن الجارية ُينكحها أهلها ‪ ،‬أتستأمر أم ال ؟ فقال لها رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم ‪ :‬نعم تستأمر " ‪.‬‬
‫وهذا أيضا صريح في استئذانها ‪.‬‬
‫ج) عن ابن عباس رضي هللا عنهما أن جارية بكرا أتت النبي صلى هللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫فذكرت له ان أباها زوجها وهي كارهة ‪ ،‬فخيرها النبي صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬ان هذا الحديث أعله البعض باإلرسال ‪.‬‬

‫ـ ‪ 19‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫الرد ‪ :‬إن هذه علة غير مؤثرة ‪ ،‬فإنه روي مسندا ومرسال ‪ ،‬والذي أسنده ثقة ثبت ‪،‬‬
‫وزيادة الثقة مقبولة ‪.‬‬
‫ثانيا من األثر ‪ :‬أ) أن عثمان بن عفان رضي هللا عنه كان إذا أراد أن ينكح إحدى‬
‫بناته قعد إلى خدرها فأخبرها أن فالنا يخطبها ‪.‬‬
‫ب) كان ابن عمر رضي هللا عنهما يستأمر بناته في نكاحهن ‪.‬‬
‫ثالثا من المعقول ‪ :‬أ) أن البكر البالغة جائزة التصرف في مالها فلم يجز اجبارها‬
‫كالثيب والرجل ‪.‬‬
‫ب) قالوا‪ :‬وهذا الحكم من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم موافق لقواعد شرعه ؛‬
‫فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة ‪ ،‬ال يتصرف أبوها في اقل شيء من مالها إال‬
‫برضاها فكيف يجوز أن ُيِر َّقها ‪ ،‬ويخرج ُبْض َع ها منها بغير رضاها إلى من يريده‬
‫هو ‪ ،‬وهي من أكره الناس فيه ‪ ،‬وهو من أبغض شيء إليها ‪ ،‬ومعلوم أن اخراج‬
‫مالها كله ـ بغير رضاها ـ أهون عليها من تزويجها بمن ال تختاره بغير رضاها ‪.‬‬
‫ج) قالوا‪ :‬وهذا الحكم موافق ـ كذلك ـ لمصالح األمة ‪ ،‬فال تخفى مصلحة البنت في‬
‫تزويجها بمن تختاره وترضاه ‪ ،‬وحصول مقاصد النكاح لها به ‪ ،‬وحصول ضد ذلك‬
‫بمن تبغضه وتنفر منه ‪ .‬فلو لم تأِت السنة الصريحة بهذا القول ‪ ،‬لكان القياس‬
‫الصحيح وقواعد الشريعة ال تقتضي غيره ‪.‬‬
‫د) وقالوا ‪ :‬والشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المتفق‬
‫عليها ‪ ،‬فتعليل الحجر بذلك تعليل يوصف ال تأثير له في الشرع ‪.‬‬
‫الراجح ‪ :‬وبعد النظر في أدلة الفريقين واستدالالتهم ‪ ،‬يتبين أن قول الحنفية ومن‬
‫وافقهم هو الراجح والجدير بالقبول ‪ .‬وهللا تعالى أعلم ‪.‬‬

‫ـ ‪ 20‬ـ‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬
‫المسألة الثالثة ‪ /‬الرضاع المحرم‬
‫ويشمل مقدار الرضاع المحرم ومدته‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫للرضاع تأثير في تحريم النكاح ‪ ،‬وفي ثبوت الحرمة ‪ ،‬وفي جواز النظر والخلوة ‪.‬‬
‫واألصل فيه ‪ :‬قوله تعالى ‪( :‬حرمت عليكم أمهاتكم) إلى قوله تعالى ‪( :‬وأمهاتكم‬
‫الالتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) فذكر هللا في جملة األعيان المحرمات ‪:‬‬
‫األم المرضعة ‪ ،‬واألخت من الرضاعة ‪ ،‬فدل على أن له تأثير في التحريم ‪.‬‬
‫وروت السيدة عائشة رضي هللا عنها ‪ :‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ " :‬يحرم‬
‫من الرضاع ما يحرم من الوالدة " ‪.‬‬
‫وروى سعيد بن المسيب ‪ ،‬عن علي رضي هللا عنه ‪ :‬أنه قال ‪ :‬قلت يا رسول هللا ‪،‬‬
‫هل لك في ابنة عمك حمزة ؛ فإنها أجمل فتاة في قريش ؟ فقال‪ " :‬أما علمت أن‬
‫حمزة أخي من الرضاع ‪ ،‬وأن هللا حّر م من الرضاعة ما حَّر م من النسب ؟ " ‪ .‬إلى‬
‫غير ذلك من األدلة ‪.‬‬
‫الرضاع لغة ‪ :‬الرضاع ـ بفتح الراء وكسرها ـ فيقال ‪َ :‬ر ِض ع يرضع رضعا‬
‫وَر ضاعا ‪ .‬وهو اسم لمِّص الضرع والثدي مع شرب لبنه في وقت محدد ‪.‬‬
‫الرضاع شرعا ‪ :‬اختلف الفقهاء في التعريف الشرعي للرضاع اختالفات يسير وبناء‬
‫على ذلك من جعل لبن الرجل يحرم لو ثار له لبن ومنهم من جعله غير محرم‬
‫ومنهم من جعل لبن المرأة الميتة ينشر الحرمة ومنهم من قال بعكس ذلك إلى غير‬
‫ذلك من االختالفات التي وردت في التعريف الشرعي في كل نذهب وإليك ما‬
‫يترتب على تلك االختالفات باختصار ‪:‬‬
‫شروط الرضاع المحِّر م عند الفقهاء ‪ :‬اشترط الفقهاء للتحريم بالرضاع الشروط‬
‫الستة اآلتية ‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن يكون لبن امرأة آدمية ‪ ،‬سواء أكانت عند الجمهور بكرا أم متزوجة أم بغير‬

‫ـ ‪ 21‬ـ‬
‫زوج ‪ :‬فال تحريم بتناول غير اللبن كامتصاص ماء أصفر أو دم أو قيح ‪ ،‬وال بلبن‬
‫الرجل أو الخنثى المشكل أو البهيمة ‪ ،‬فلو رضع صغيران من شاة مثال ‪ ،‬لم يثبت‬
‫بينهما أخوة ‪ ،‬فيحل زواجهما ؛ ألن األخوة فرع األمومة ‪ ،‬فإذا لم يثبت األصل لم‬
‫يثبت الفرع ‪.‬‬
‫واشترط الحنابلة أن يكون بلبن امرأة ثار لها لبن من الحمل ‪ ،‬فلو طلق رجل‬
‫زوجته وهي ترضع من لبن ولده ‪ ،‬فتزوجت بصبي رضيع ‪ ،‬فأرضعته ‪ ،‬حرمت‬
‫عليه ؛ ألن الرضيع يصير ابنا للرجل الذي ثاب اللبن بوطئه ‪.‬‬
‫واشترط الشافعية في المرأة أن تكون حية حياة مستقرة حال انفصال اللبن منها ‪،‬‬
‫بلغت تسع سنين قمرية تقريبا ‪ ،‬وإن لم يحكم ببلوغها بذلك ‪ ،‬فال تحريم برضاع‬
‫المرأة الميتة والصغيرة ‪ ،‬أي أن لبن الميتة والصغيرة ال يحرم ‪ .‬لكن لو حلبت‬
‫المرأة لبنها قبل موتها ‪ ،‬وشربه الطفل بعد موتها ‪ ،‬حرم في األصح ‪ ،‬النفصاله منها‬
‫وهو حالل محترم ‪.‬‬
‫ولم يشترط الجمهور هذا الشرط ‪ ،‬فلبن الميتة ‪ ،‬والصغيرة التي لم تطق الوطء ‪،‬‬
‫إن قدر أن بها لبنا ‪ ،‬يحِّر م ؛ ألنه ينبت اللحم ؛ وألن اللبن ال يموت ‪.‬‬
‫‪2‬ـ أن يتحقق من وصول اللبن إلى معدة الرضيع ‪ ،‬سواء باالمتصاص من الثدي ‪،‬‬
‫أم بشربه من اإلناء أو الزجاجة ‪ .‬وهذا شرط عند الحنفية ‪ ،‬فإن لم يتحقق من‬
‫الوصول إلى المعدة بأن التقم الثدي ‪ ،‬ولم يعلم أرضع أم ال ‪ ،‬فال يثبت التحريم ‪،‬‬
‫للشك في وجود سبب التحريم وهو الرضاع ‪ ،‬واألحكام ال تثبت بالشك ‪.‬‬
‫واكتفى المالكية باشتراط وصول اللبن تحقيقا أو ظنا أو شكا الجوف من الفم‬
‫برضاع الصغير ‪ ،‬فيثبت التحريم ولو مع الشك ‪ ،‬عمال باالحتياط ‪ ،‬وال يثبت‬
‫التحريم على المشهور بمجرد الوصول إلى الحلق فقط ‪ .‬واشترط الشافعية والحنابلة‬
‫وجود خمس رضعات متفرقات ـ على ما سيأتي بيانه ـ والمرجع في معرفة‬
‫الرضعة إلى العرف ‪ ،‬والبد من وصول اللبن إلى الجوف ‪.‬‬
‫‪3‬ـ أن يحصل اإلرضاع بطريق الفم أو األنف ‪ :‬فقد اتفق أئمة المذاهب على أن‬
‫التحريم يحصل بالوجور ـ وهو صب اللبن في الحلق ـ لحصول التغذية به‬
‫كاالرتضاع ‪ ،‬وبالَّس عوط ـ وهو صب اللبن في األنف ليصل الدماغ ـ لحصول‬

‫ـ ‪ 22‬ـ‬
‫التغذي به ؛ ألن الدماغ جوف له كالمعدة ‪ ،‬بل ال يشترط التغذي بما وصل من منفذ‬
‫عال ‪ ،‬بل مجرد وصوله للجوف كاف في التحريم ‪.‬‬
‫وال يحصل التحريم عند الحنفية والشافعية في األظهر ‪ ،‬والحنابلة في منصوص‬
‫اإلمام أحمد بالحقنة ‪ ،‬أو بتقطير اللبن في العين أو األذن أو الجرح في الجسم ؛ ألن‬
‫هذا ليس برضاع وال في معناه ‪ ،‬فلم يجز إثبات حكمه فيه ‪ ،‬والنتفاء التغذي ‪.‬‬
‫وقال المالكية ‪ :‬يحصل التحريم بحقنة تغذي أي تكون غذاء ‪ ،‬ال مجرد وصول اللبن‬
‫للجوف عن طريق الحقنة ‪ .‬وحينئذ يختلف ما وصل من منفذ عال ‪ ،‬فال يشترط فيه‬
‫الغذاء ‪ ،‬وما وصل من منفذ سفلي ونحوه فيشترط فيه التغذي ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أال يخلط اللبن بغيره ‪ :‬وهذا شرط عند الحنفية والمالكية ‪ .‬فإن ُخ لط بمائع آخر ‪،‬‬
‫فالعبرة عند الحنفية والمالكية للغالب ‪ ،‬فإن غلب اللبن حَّر م‪ ،‬وإن غلب غير اللبن‬
‫عليه ‪ ،‬حتى لم يبق له عند المالكية طعم وال أثر مع الطعام ونحوه ‪ ،‬فال يحرم ؛ ألن‬
‫الحكم لألغلب ‪ ،‬وألنه بالخلط يزول االسم والمعنى المراد به ‪ ،‬وهو التغذي ‪ ،‬فال‬
‫يثبت به الحرمة ‪ .‬وال فرق عند المالكية بين الخلط بالمائع أو بالطعام ‪.‬‬
‫واعتبر الشافعية في األظهر والحنابلة في الراجح اللبن المشوب ـ المختلط بغيره ـ‬
‫كاللبن الخالص الذي ال يخالطه سواه ‪ ،‬سواء ِش يب بطعام أو شراب أو غيره ‪،‬‬
‫لوصول اللبن إلى الجوف ‪ ،‬وحصوله في بطنه ‪.‬‬
‫ورأى أبو حنيفة خالفا للصاحبين أن اللبن المخلوط بالطعام ال يحرم عنده بحال‬
‫سواء أكان غالبا أو مغلوبا ؛ ألن الطعام وإن كان أقل من اللبن ‪ ،‬فإنه يسلب قوة‬
‫اللبن ويضعفه ‪ ،‬فال تقع الكفاية به في تغذية الصبي ‪ ،‬فكان اللبن مغلوبا معنى ‪ ،‬وإن‬
‫كان غالبا صورة ‪.‬‬
‫وإذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى ‪ :‬فالحكم للغالب عند أبي حنيفة وأبي يوسف‬
‫فإن تساويا ثبت التحريم من المرأتين جميعا لالختالط ‪.‬‬
‫وقال المالكية ومحمد وزفر من الحنفية ‪ :‬يثبت التحريم من المرأتين جميعا ‪،‬‬
‫سواء تساوى مقدار اللبنين أو غلب أحدهما اآلخر ‪ ،‬وهذا هو الراجح ؛ ألن اللبنين‬
‫من جنس واحد ‪ ،‬والجنس ال يغلب الجنس ‪.‬‬

‫ـ ‪ 23‬ـ‬
‫‪5‬ـ مقدار اللبن المحرم فمن الفقهاء من اشترط عددا من الرضاعات كخمس‬
‫رضعات أو ثالث أو عشر ‪ .‬ومنهم من لم يشترط ذلك فذهب أن قليل الرضاع يحرم‬
‫ككثيرة وهذه مسألة يأتي بحثها ‪.‬‬
‫‪6‬ـ مدة أو زمن الرضاع فمن الفقهاء من اشترط أن يكون الرضاع في زمن الصغر‬
‫وهم أصحاب المذاهب األربعة ـ وإن كان بينهم اختالف بسيط في تحديد زمن‬
‫الصغر ـ‬
‫وذهب الظاهرية والسيدة عائشة رضي هللا عنها أن رضاع الكبير يحرم وسيأتي‬
‫بسط هذه المسألة أيضا ‪.‬‬
‫ـ ‪24‬ـ‬
‫تابع الرضاع المحرم‬
‫أ ‪ /‬مقدار اللبن المحرم‬
‫اختلف الفقهاء في مقدار اللبن الذي يحرم فقد ذهبوا في ذلك إلى مذهبين‬
‫المذهب األول ‪ :‬ذهب إلى عدم التحديد وقالوا إن كثير الرضاع وقليله يحرم وهو‬
‫مذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه واإلمام أحمد في رواية وهو قول ابن‬
‫عمر وابن عباس في أحد قوليه وروي عن علي وابن مسعود رضي هللا عنهم وقول‬
‫الثوري واألوزاعي والليث ـ وزعم الليث ‪ :‬ان المسلمين أجمعوا على أن قليل‬
‫الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم ـ وهو اجماع لم يرد ‪.‬‬
‫واستدل أصحاب هذا المذهب بالكتاب والسنة واألثر والمعقول ‪.‬‬
‫المذهب الثاني ‪ :‬ذهب إلى أن مقدار اللبن المحرم البد أن يشتمل على عدد من‬
‫الرضعات وبالرغم من اتفاق أصحاب هذا المذهب في ذلك إال أنهم اختلفوا في العدد‬
‫المحرم ‪ ،‬وقد ذهبوا في ذلك كما يأتي ‪:‬‬

‫الفريق األول ‪ :‬ذهب اإلمام الشافعي وفي الصحيح من المذهب الحنبلي‬ ‫‪‬‬
‫وبعض الظاهرية وروي عن السيدة عائشة وابن الزبير رضي هللا عنهم‬
‫‪ ،‬وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والليث بن سعد ‪ .‬إلى انه يثبت‬
‫التحريم بخمس رضعات فأكثر واستدلوا لما ذهبوا إليه بالكتاب والسنة ‪.‬‬
‫الفريق الثاني ‪ :‬ذهب داود الظاهري وبعض الظاهرية وفي رواية ثالثة‬ ‫‪‬‬
‫عن اإلمام أحمد‬
‫إلى أنه يثبت التحريم بثالث رضعات وبه قال من الصحابة ‪ :‬زيد بن‬
‫ثابت رضي هللا عنه ‪ .‬ومن الفقهاء أبو ثور داود وابن المنذر ‪ .‬واستدلوا‬
‫لما ذهبوا إليه من السنة ‪.‬‬
‫الفريق الثالث ‪ :‬ذهب إلى ان عدد الرضاع المحرم عشر رضعات‬ ‫‪‬‬
‫سبب الخالف ‪ :‬وسبب اختالف الفقهاء في مقدار ما يحرم من الرضاع كما جاء في‬
‫بداية المجتهد ونهاية المقتصد قال ‪ " :‬والسبب في اختالفهم في هذه المسألة ‪:‬‬
‫معارضة عموم الكتاب لألحاديث الواردة في التحديد ومعارضة األحاديث في ذلك‬

‫ـ ‪ 25‬ـ‬
‫بعضها بعضا ‪.‬‬
‫فأما عموم الكتاب فقوله تعالى ‪ ( :‬وامهاتكم الالتي أرضعنكم ) وهذا يقتضي ما‬
‫ينطلق عليه اسم اإلرضاع ‪ ،‬واألحاديث المتعارضة في ذلك راجعة إلى حديثين في‬
‫المعنى ‪ :‬أحدهما حديث عائشة وما في معناه ‪ ،‬أنه قال صلى هللا عليه وسلم ‪ ( :‬ال‬
‫تحرم المصة وال المصتان أو الرضعة والرضعتان ) ‪ .‬خرجه مسلم من طريق‬
‫عائشة ومن طريق أم الفضل ‪ ،‬ومن طريق ثالث ‪ ،‬وفيه قال ‪ :‬قال رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم ‪ ( :‬ال تحرم اإلمالجة وال اإلمالجتان ) ‪ .‬والحديث الثاني حديث سهلة‬
‫في سالم أنه قال لها النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ( :‬أرضعيه خمس رضعات ) ‪.‬‬
‫وحديث عائشة في هذا المعنى أيضا قالت ‪ :‬كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات‬
‫معلومات ثم نسخن بخمس معلومات ‪ ،‬فتوفي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهن‬
‫مما ُيقرأ من القرآن ‪.‬‬
‫فمن رجح ظاهر القرآن على هذه األحاديث قال ‪ :‬تحرم المصة والمصتان ‪ ،‬ومن‬
‫جعل األحاديث مفسرة لآلية وجمع بينهما وبين اآلية ورجح مفهوم دليل الخطاب في‬
‫قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ( :‬ال تحرم المصة والمصتان ) على مفهوم دليل الخطاب‬
‫في حديث سالم قال ‪ :‬الثالثة فما فوقها هي التي تحرم ‪ ،‬وذلك أن دليل الخطاب في‬
‫قوله ‪ ( :‬ال تحرم المصة وال المصتان ) يقتضي أن ما فوقها يحرم ‪ ،‬ودليل الخطاب‬
‫في قوله ‪ ( :‬أرضعيه خمس رضعات ) يقتضي أن ما دونها ال يحرم ‪ ،‬والنظر في‬
‫ترجيح أحد دليلي الخطاب " ‪.‬‬
‫األدلة ‪:‬‬
‫أدلة المذهب األول النافي للعدد أي القائلون بعدم التحديد أن كثير الرضاع‬
‫وقليله يحرم وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بالكتاب والسنة والقياس‬
‫أوال من الكتاب ‪ :‬قال تعالى ‪ ( :‬وأمهاتكم الالتي أرضعنكم )‬
‫وجه الداللة ‪ :‬مطلقا عن القدر ‪ ،‬أي من أرضعت مرة واحدة يطلق على فعلها هذا‬
‫االسم " الرضاعة " ‪ .‬ويقال لها أم أرضعت فتدخل في عموم اآلية ‪ .‬وبهذا احتج ابن‬
‫عمر على الزبير رضي هللا عنهم حين قال ‪ :‬ال تحريم إال بخمس رضعات ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫كتاب هللا أولى من قضاء ابن الزبير ‪.‬‬
‫وروي أنه لما بلغه أن عائشة رضي هللا عنها تقول ‪ :‬ال تحرم المصة والمصتان‬

‫ـ ‪ 26‬ـ‬
‫فقال ‪ :‬حكم هللا تعالى أولى وخير من حكمها ‪ .‬وأما حديث عائشة رضي هللا عنها ‪،‬‬
‫فقد قيل اته لم يثبت عنها ‪ ،‬وهو الظاهر فانه روي أنها قالت ‪ :‬توفي النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم وهو مما ُيتلى في القرآن فما الذي نسخه ؟ وال نسخ بعد وفاة النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم ‪ ،‬وال يحتمل أن يقال ‪ :‬ضاع شيء من القرآن ‪ ،‬ولهذا ذكر الطحاوي‬
‫في اختالف العلماء ان هذا حديث منكر وأنه من صيارفة الحديث ‪ ،‬ولئن ثبت‬
‫فيحتمل أنه كان في رضاع الكبير ‪ ،‬فنسخ العدد بنسخ رضاع الكبير ‪.‬‬
‫وأما حيث المصة والمصتين فقد ذكر الطحاوي ‪ :‬أن في اسناده اضطرابا ؛ ألن‬
‫مداره عروة بن الزبير عن عائشة رضي هللا عنها ‪ ،‬وروي أنه سئل عروة عن‬
‫الرضاعة فقال ‪ :‬ما كان في الحولين وإن كان قطرة واحدة تحرم ‪ ،‬والراوي إذا‬
‫عمل بخالف ما روى أوجب ذلك ‪ ،‬وهنا في ثبوت الحديث ألنه لو ثبت عنده لعمل‬
‫به على أنه ان ثبت فيحتمل ان الحرمة لم تثبت لعدم القدر المحرم ‪ ،‬ويحتمل أنها لم‬
‫تثبت ؛ ألنه ال يعلم ان اللبن وصل إلى جوف الصبي ؟ أم ال ؟ وما لم يصل ال يحرم‬
‫فال يثبت لعدم القدر المحترم ‪ ،‬وال تثبت الحرمة بهذا الحديث باالحتمال ‪ ،‬ولهذا قال‬
‫ابن عباس رضي هللا عنهما ‪ :‬إذا عقى الصبي فقد حرم حين سئل عن الرضعة‬
‫الواحدة هل تحرم ؟ ؛ ألن العقى اسم لما يخرج من بطن الصبي حين يولد أسود‬
‫لزج إذا وصل اللبن إلى جوفه ‪ ،‬يقال ‪ :‬هل عقبتم صبيكم ؟ أي هل سقيتموه عسال‬
‫ليسقط عنه عقيه ‪ ،‬إنما ذكر ذلك ليعلم أن اللبن قد صار في جوفه ؛ ألنه ال يعقى من‬
‫ذلك اللبن حتى يصير في جوفه ‪ ،‬ويحتمل أنه كان ذلك في ارضاع الكبير حين كان‬
‫محرما ثم نسخ ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬نوقش استداللهم هذا أن اآلية مطلقها مقيد باألحاديث الدالة على اعتبار‬
‫الخمس ‪ ،‬وال مانع من تقييد السنة للكتاب ‪ ،‬وتقييد المطلق بيان ال نسخ وال‬
‫تخصيص ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬لتبين للناس ما ُن زل إليهم ) وبهذا تعلم الجواب عن قول‬
‫ابن عمر البن الزبير ؛ ألن ابن الزبير لم يقصد برأيه ‪ ،‬بل التوقيف ‪.‬‬
‫قال المزني ‪ :‬قلت للشافعي ‪ :‬اسمع ابن الزبير من النبي صلى هللا عليه وسلم ؟‬
‫قال‪ :‬نعم ‪َ ،‬سِمَع ‪ ،‬وله تسع سنين ‪ ،‬ومن له تسع سنين يصح نقله وروايته ؛ ألنه‬
‫يضبط ما يسمعه ‪.‬‬
‫ثانيا من السنة‪:‬‬
‫فمنها فوله صلى هللا عليه وسلم ‪َ " :‬ي ْح ُر ُم من الرضاع ما يحرم من النسب "‬ ‫أ)‬

‫ـ ‪ 27‬ـ‬

‫‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬فأطلق ولم يقيد بعدد ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬أن األخبار التي وردت في شأن الرضاع على نوعين ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬ما كان المقصود منها الحكم وهو التحريم ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬بيان العدد المحرم ‪ ،‬ولكل مقام ‪ ،‬وهذا الحديث من النوع األول على أن‬
‫إطالقه مقيد بما ذكر ‪.‬‬
‫قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬الرضاعة من المجاعة "‬ ‫ب)‬
‫وجه الداللة ‪ :‬وال شك أن الرضعة الواحدة تسد الجوعة ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬أن الرضعة الواحدة ال تسد الجوعة ‪ ،‬خصوصا إذا لم يصل إلى جوفه‬
‫غير قطرة‬
‫الرد ‪ :‬يرد عليهم بما ورد في االستدالل عن عقي المولود الذي سبق ذكره ‪.‬‬
‫ج) ما ثبت في الصحيحين عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي‬
‫إهاب ‪ ،‬فجاءت امرأة سوداء فقالت ‪ :‬قد أرضعتكما ‪ ،‬قال ‪ :‬فذكرت ذلك لرسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فأعرض عني ‪ ،‬قال ‪ :‬فتنحيت ‪ ،‬فذكرت ذلك له ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫"وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما " فنهاه عنها ‪ ،‬وفي رواية ‪ " :‬دعها عنك "‬
‫وجه الداللة ‪ :‬فلو لم يكن مطلق الرضاع محرما لسأله عن العدد ولكنه قد أمره‬
‫بتركها بادئ األمر ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬انه يحمل مطلقه على المقيد دفعا إلهمال أحد الدليلين ‪ ،‬ولم يقم ما يدل‬
‫على النسخ على أنه يحتمل أن يكون ترك االستفصال اعتمادا على بيانه من قبل وال‬
‫حجة مع االحتمال ‪.‬‬
‫كما انه اعترض عليهم بحديث ‪ :‬الذي معناه ان الرضاع انما يحرم لكونه منبتا‬
‫للحم منشزا للعظم ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬قالوا ‪ :‬ان القليل ينبت وينشز بقدره فوجب ان يحرم بأصله وقدره ‪ ،‬على أن‬

‫ـ ‪ 28‬ـ‬
‫هذه األحاديث ان ثبتت فهي مبيحة وما استدللنا به أي اآلية السابقة محرم ‪،‬‬
‫والمحرم يقضي على المبيح احتياطا ‪ .‬كما ان الجرعة الكبيرة عند البعض ال تحرم‪،‬‬
‫ومعلوم ان الجرعة الواحدة الكثيرة في انبات اللحم وانشاز العظم فوق خمس‬
‫رضعات صغار فدل أنه ال مدار على هذا ‪.‬‬
‫ثالثا من القياس ‪ :‬فأمثلته كثيرة منها ‪:‬‬
‫قياسه على الوطء بشبهة وعقد النكاح بجامع أن كًال يفيد التحريم المؤبد ‪،‬‬ ‫أ)‬
‫فسيعطي حكمه من عدم اعتبار العدد ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬أنه قياس مع الفارق ؛ ألن األصل لم يعر عن جنس االستباحة بخالف‬
‫النوع ‪.‬‬
‫القياس على اإلفطار في رمضان بجامع الوصول إلى الجوف ‪ ،‬فيعطي‬ ‫ب)‬
‫حكمه ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬أن العلة ‪ ،‬والحكمة التي كان ألجلها التحريم في الرضاع لم تتحقق في‬
‫االفطار ‪ ،‬وهي التغذية ‪ ،‬فهو قياس مع الفارق أيضا ‪.‬‬
‫ج) ومنها القياس على حد الخمر بجامع أن كًال متعلق بالشرب ‪ ،‬فال يناط بالعدد ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬أنه يمنع من االلحاق ؛ ألن الشارع حرم المسكر بدون تقييد بعدد ‪ ،‬قال‬
‫تعالى ‪ ( :‬يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر واألنصاب واألزالم رجس من‬
‫عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم ُت فلحون ) وال كذلك الرضاع ‪ ،‬فإنه نص على العدو‬
‫المحرم ‪ ،‬وال قياس مع النص ‪.‬‬
‫أدلة المذهب الثاني ‪ :‬وهم المثبتون للعدد أي القائلون بأن الرضاع الذي يحرم البد‬
‫أن يكون له عدد معين من الرضعات ‪.‬‬
‫أدلة الفريق األول ‪ :‬القائلون بأن عدد الرضعات المحرمة خمس رضعات وقد‬
‫استدلوا لما ذهبوا إليه بالسنة والقياس ‪.‬‬
‫أوال من السنة ‪ :‬أ) عن عائشة رضي هللا عنها قالت ‪ " :‬كان فيما نزل من القرآن‬
‫عشر رضعات معلومات يحرمن ‪ ،‬ثم نسخ بخمس معلومات فتوفي رسول هللا صلى‬

‫ـ ‪ 29‬ـ‬
‫هللا عليه وسلم وهن فيما ُيقرأ "‬
‫ب ) وروت أيضا رضي هللا عنها أنها كانت تقول ‪ " :‬نزل القرآن بعشر‬
‫رضعات معلومات ُيحرمن ‪ ،‬ثم ُصِّيْر َن إلى خمس يحرمن ‪ ،‬فكان ال يدخل على‬
‫عائشة إال من استكمل خمس رضعات " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬فهذه الرواية صريحة في إناطة التحريم بخمس رضعات ‪ ،‬وأنها‬
‫ناسخة لغيره ‪ ،‬وأن األمر قد استقر على ذلك ‪ ،‬فلو لم تكن هي مناط الحكم ؛ لما‬
‫كانت ناسخة لغيرها ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬اعترض المخالفون على هذا الدليل فقالوا ‪ :‬نمنع كون ما نقل عن أم‬
‫المؤمنين قرآنا لعدم توتره ‪ ،‬وعدم إثباته في المصاحف ‪،‬‬
‫الرد أجيب بأن عدم التواتر ال يمنع من وجوب العمل فإنه يكفي فيه الظن ‪ ،‬وقد‬
‫احتج األئمة بخبر الواحد في مواضع كثيرة منها ‪ :‬احتج اإلمام الشافعي واإلمام‬
‫أحمد رحمهما هللا في هذا الموضع ‪ .‬واحتج اإلمام أبو حنيفة به في وجوب‬
‫التتابع في صيام كفارة اليمين ‪ ،‬وال سند له إال قراءة ابن مسعود رضي هللا عنه‬
‫[ فصيام ثالثة أيام متتابعات ] ‪ .‬واحتج به اإلمام مالك والصحابة قبله رضي هللا‬
‫عنهم في فرض السدس للواحد من ولد األم [ وله أخ أو أخت من أم ] في قراءة‬
‫ُأَب ّي ‪ ،‬وقد أجمع على هذا ‪ ،‬وليس له سند سوى هذه القراءة ‪ .‬وبالجملة فعدم‬
‫القرآنية لعدم التواتر ال ينافي وجوب العمل ؛ ألن القرآنية ال يلزمها إال انعقاد‬
‫الصالة به ‪ ،‬وتحريم مّس ه على المحدث ‪ ،‬وقراءته على الجنب ‪ ،‬والتعبد بتالوته‬
‫والتحدي به ‪ ،‬وليس من لوازمها الخاصة بها عدم وجوب العمل ؛ ألن وجوب‬
‫العمل قد يثبت باآلحاد الذي ليس بقرآن ‪ ،‬وقول المعترض سندا لمنعه ـ لعدم‬
‫إثباته في المصحف ـ ممنوع ؛ ألنه ال يثبت في المصاحف إال ما بقيت تالوته‬
‫سواء نسخ حكمه أم بقي ‪ ،‬بخالف ما نسخت تالوته ‪ ،‬فال يثبت فيها سواء نسخ‬
‫حكمه أيضا أو بقي فالمدار في اإلثبات في المصاحف على بقاء التالوة فقط ‪.‬‬
‫وظهر من هذا أن القرآن له جهة تالوة وجهة حكم ‪ ،‬وكل منهما إما منسوخ أو‬
‫باق ‪ ،‬فاألقسام أربعة ‪ :‬باقي التالوة والحكم كما في قوله تعالى ‪[ :‬وهلل على الناس‬
‫حج البيت] وهو كثير ‪ ،‬ومنسوخ التالوة والحكم كقول السيدة عائشة رضي هللا‬
‫عنها ‪ " :‬عشر رضعات معلومات يحرمن " ‪ .‬ومنسوخ التالوة دون الحكم كما‬
‫روي عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه أنه قال ‪ " :‬كان فيما أنزل هللا الشيخ‬

‫ـ ‪ 30‬ـ‬
‫والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكاال من هللا " وكان يقول ‪ " :‬لوال أن يقول‬
‫الناس زاد عمر في القرآن لكتبتها في حاشية المصحف " وهذا النوع منسوخ‬
‫التالوة دون الحكم ‪ ،‬يحفظه هللا في صدور األمة ويتوارثونه جيال بعد جيل ‪.‬‬
‫ومنسوخ الحكم دون التالوة كما في قوله تعالى ‪[ :‬والذين ُيتوفون منكم ويذرون‬
‫أزواجا وصية ألزواجهم ‪ ]...‬فإنها نسخت بآية [والذين ُيتوفون منكم ويذرون‬
‫أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا] ‪ ،‬وكآية الوصية ُنسخت بآية‬
‫المواريث ‪.‬‬
‫واعترض عليهم ‪ :‬من المعروف ان الحكم إنما يعرف من اللفظ فإذا نسخ اللفظ‬
‫فمن أين ُيعرف وهذا اعتراض الحنفية ‪:‬‬
‫الرد ‪ :‬أجيب بأن نسخ التالوة ال يستلزم إال نفي لوازمها ‪ ،‬كصحة الصالة بها ‪،‬‬
‫وإثباتها في المصاحف ‪ ،‬وال يستلزم نفي الحكم لجواز حفظه في صدور األمة ‪.‬‬
‫واعترض عليهم ‪ :‬وهو اعتراض الحنفية أيضا قالوا ‪ :‬كيف ساغ االستدالل‬
‫بهذا مع أنه لم ينقل نقل األخبار بل ُن قل نقل القرآن ولم يثبت به لعدم تواتره ‪.‬‬
‫الرد ‪ُ :‬أجيب بمنع أنه ليس بقرآن بأننا نلتزم أنه قرآن ‪ ،‬وال يشترط التواتر إال‬
‫فيما بقيت تالوته بخالف ما نسخت تالوته كما هما سلمنا أنه ليس بقرآن ‪ ،‬ولكن‬
‫انتفاء قرآنيته ال يستلزم نفي حجيته ؛ ألنه يكفي فيها الظن كما تقدم ‪ .‬كما أننا‬
‫نقول أنه سنة كما قال الشوكاني ؛ لكونه مروي صحابي ‪ ،‬وهو يستلزم التوقيف‬
‫عنه صلى هللا عليه وسلم وذلك كاف في الحجية ‪.‬‬
‫واعترض عليهم ‪ :‬أي اعترض النافون للعدد قالوا ‪ :‬ان تسليم هذا االستدالل‬
‫يؤدي إلى إثبات النسخ بعد زمن الرسول صلى هللا عليه وسلم ؛ لقول السيدة‬
‫عائشة رضي هللا عنها " فتوفي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهي فيما ُيقرأ‬
‫من القرآن ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬وأجيب بان المراد بقولها رضي هللا عنها " فتوفي ‪ "...‬أن النسخ قد تأخر‬
‫إنزاله إلى قرب وفاة الرسول صلى هللا عليه وسلم حتى إن من لم يبلغه النسخ‬
‫لقرب عهده باإلسالم أو بعد داره كان يقرؤها ‪ ،‬فلما بلغه رجع فصار إجماعا‬
‫على أنه ال يتلى فال نسخ بعد زمنه صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬

‫ـ ‪ 31‬ـ‬
‫واعترض على هذا الدليل أيضا ‪ :‬أن االستدالل بهذا يؤدي إلى اثبات النسخ‬
‫بخبر الواحد ‪ ،‬وهو ال يثبت إال بالتواتر ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬أجيب بأنه ليس بنسخ بخبر الواحد إنما هو نقل نسخ به وشتان بينهما ‪.‬‬
‫اعترض آخر ‪ :‬قالت اسيدة عائشة رضي هللا عنها ‪ " :‬كان تحريم الرضاع في‬
‫صحيفة ‪ ،‬فلما توفي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم تشاغلنا بغسله فدخل داجن‬
‫الحي فأكلها " فلو كان قرآنا لكان محفوظا ؛ لقوله تعالى ‪[ :‬إنا نحن نزلنا الذكر‬
‫وإنا له لحافظون] ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬أجاب الماوردي بما حاصله أن داجن الحي أكل الصحيفة التي فيها‬
‫رضاع الكبير ‪ ،‬وهو منسوخ ‪ ،‬ولم يأكل ما يدل على العدد ‪ ،‬ولئن سلمنا ذلك‬
‫فيكفي الحفظ في الصدور ‪ ،‬وقد وهبهم هللا تعالى حافظة قوية ‪ ،‬قال صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ " :‬أناجيل أمتي في صدورها " على أن المعتبر حفظ الحكم وهو‬
‫محفوظ منقول إلينا ‪.‬‬
‫ج) عن عائشة رضي هللا عنها أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم " أمر امرأة‬
‫أبي حذيفة ‪ ،‬فأرضعت سالما خمس رضعات ‪ ،‬وكان يدخل عليها بتلك‬
‫الرضاعة"‬
‫د) جاءت سهلة بنت سهيل فقالت ‪ :‬يا رسول هللا كنا نرى سالما ولدا ‪ ،‬وكان‬
‫يأوي معي ومع أبي حذيفة ‪ ،‬ويراني فضلى ‪ ،‬وقد أنزل هللا عز وجل فيه ما قد‬
‫علمت ‪ .‬فقال ‪ " :‬أرضعيه خمس رضعات " فكان بمنزلة ولده من الرضاعة ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬فهذا صريح في ربط التحريم بالخمس ‪ ،‬إذ لو كان األقل كافيا لما‬
‫كان لذكر الخمس فائدة ‪ .‬خصوصا وأن إرضاع سهلة لضرورة والضرورة تقدر‬
‫بقدرها ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬اعترض النافي للعدد على هذا الدليل بقوله ‪ :‬هذا لدليل تحريم‬
‫رضاعة الكبير ‪ ،‬وهو منسوخ فال يتمسك به في إثبات العدد لغير الكبير ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬أجيب بأن الحديث قد اشتمل على حكمين ‪ :‬رضاعة الكبير ‪ ،‬واثبات‬
‫العدد‪ ،‬ونسخ أحد الحكمين ال يستلزم نسخ اآلخر الشتماله على المصلحة ‪،‬‬

‫ـ ‪ 32‬ـ‬
‫ونظير هذا قوله تعالى ‪[ :‬والالتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن‬
‫أربع منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفهن الموت أو يجعل هللا‬
‫لهن سبيال] ‪ .‬فقد اشتملت هذه اآلية على حكمين ‪ :‬العدد المثبت للزنا ‪ ،‬وحده‬
‫وهو اإلمساك في البيوت ‪ ،‬وقد نسخ هذا األخير مع بقاء األول ‪.‬‬
‫وأجيب أيضا ‪ :‬بأن رضاع الكبير لم ينسخ ‪ ،‬بل هو غير محرم لعدم سببه‬
‫ومقتضيه ‪ ،‬وذلك ألن رضاع الكبير إنما حرم بسبب سبق التبني المباح ‪ ،‬فلما‬
‫حرم التبني ‪ ،‬وفسخ هللا حكمه بقوله تعالى [ادعوهم آلبائهم‪ ]...‬سقط ما تعلق به‬
‫من تحريم رضاع الكبير ‪ .‬ولهذا نظائر كثيرة ‪.‬‬
‫هـ) استدلوا بما استدل به أصحاب من نفي التحريم بالرضعة والرضعتين ‪:‬‬
‫منها ‪:‬‬
‫عن عائشة رضي هللا عنها أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ " :‬ال‬ ‫‪‬‬
‫تحرم المصة وال المصتان "‬
‫عن أم الفضل رضي هللا عنها أن رجال سأل النبي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫‪‬‬
‫أتحرم المصة ؟ فقال ‪ " :‬ال تحرم الرضعة والرضعتان والمصة‬
‫والمصتان " ‪ .‬وفي رواية أخرى دخل أعرابي على نبي هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم وهو في بيتي فقال ‪ :‬يا نبي هللا إني كانت لي امرأة ‪ ،‬فتزوجت‬
‫عليها أخرى ‪ ،‬فزعمت امرأتي األولى أنها أرضعت الحدثى رضعة أو‬
‫رضعتين فقال البي صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬ال تحرم االمالجة وال‬
‫االمالجتان " ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬فهذه األحاديث صريحة في نفي التحريم بالرضعة والرضعتين ‪ ،‬فال‬
‫يتعلق التحريم بقليل الرضاع وكثيره ‪ ،‬كما هو مذهب الحنفية ‪ ،‬وال يؤخذ بمفهومها‪،‬‬
‫وهو التحريم بالثالث كقول داود لألحاديث الدالة على حصر التحريم بالخمس ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬هذا استدالل بمفهوم العدد ‪ ،‬والعدد ال مفهوم له ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬أجيب بأنه ال يؤخذ بمفهوم العدد إال إن دلت قرينة ‪ ،‬هاهنا قائمة من نسخ‬
‫العشر بالخمس وإال لم يكن لذكرها فائدة وأيضا األحاديث المفيدة لحصر التحريم‬
‫في الخمس ‪.‬‬

‫ـ ‪ 33‬ـ‬
‫واعترض أيضا بأن هذه األحاديث محمولة على ما إذا لم يصل اللبن إلى الجوف ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬أجيب بأن الرضعة ال تطلق إال على ما وصل إلى الجوف بالمص‬
‫واالزدراد‪ ،‬وأيضا على هذا لم يكن لذكر الرضعة فائدة ؛ ألن الرضعة والمائة في‬
‫نفي التحريم سواء ‪.‬‬
‫واعترض الحنفية والمالكية عليهم فقالوا ‪ :‬إن مفهوم هذه األحاديث يدل على‬
‫التحريم بالثالث ‪ ،‬فكما أن منطوقه حجة علينا فمفهومه حجة عليكم ‪.‬‬
‫الرد ‪ :‬أ جيب بأن المفهوم مقيد بمنطوق األحاديث الدالة على ربط التحريم بالخمس ‪.‬‬
‫ثانيا من القياس ‪ :‬فقد قاسوا ما ذهبوا إليه على اللعان بجامع أن كال سبب للتحريم‬
‫المؤبد وعرى عن جنس االستباحة فال يرد الوطء بشبهة مثال ‪ ،‬فإنه لم يعر عن‬
‫جنس االستباحة ‪ ،‬فلهذا لم يفتقر إلى العدد ‪.‬‬
‫أدلة القائلون بأن الرضاع المحرم هو ثالث رضعات ‪:‬‬
‫استدلوا بقوله صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬ال تحرم المصة وال المصتان ‪ ،‬وال‬ ‫أ)‬
‫الرضعة وال الرضعتان " ونحوه من كل مادل على نفي التحريم بالرضعة‬
‫وباالثنتين ‪،‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬دلت هذه األحاديث بمفهومها على تحريم الثالث‬
‫المناقشة ‪ :‬إن مفهوم هذه األحاديث مقيد باألحاديث الصريحة الدالة على اعتبار‬
‫الخمس ‪ ،‬وقد جرى قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬ال تحرم الرضعة ‪ ،‬وال الرضعتان‬
‫وال المصة وال المصتان " مجرى قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬إنما الربا في‬
‫النسيئة " فإن مفهومه هو جواز الربا في المنجز ‪ ،‬إذا كان مقايضة ‪ ،‬وليس كذلك‬
‫للنصوص األخرى الدالة على جريان الربا فيه ‪ .‬أو نقول ‪ :‬بأن هذه األحاديث التي‬
‫تمسكتم بها واردة على سؤال خاص ‪ ،‬ورواية أم الفضل رضي هللا عنها مصرحة‬
‫بلفظ السؤال فال يدل على إثبات الحكم ‪،‬فيما عدا هذا السؤال ‪.‬‬
‫واستدلوا أصحاب هذا المذهب ‪ ،‬أي قالوا إن ما يعتبر فيه العدد والتكرار‬ ‫ب)‬
‫يعتبر فيه الثالث ‪.‬‬
‫ج) وقالوا أيضا ‪ :‬إن هذا العدد هو أول مراتب الجمع ‪.‬‬
‫المناقشة ‪ :‬أن النص دافع لهذه االحتماالت ‪.‬‬
‫ـ ‪ 34‬ـ‬
‫د عواطف تحسين البوقري‬
‫تابع الرضاع المحرم‬
‫ب) مدة أو زمن الرضاع المحرم‬
‫ذهب الفقهاء بالنسبة لمدة الرضاع المحرم إلى مذهبين ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن الرضاع المحرم هو ما كان في الصغر ‪ ،‬وهو قول جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أنه ال زمن للرضاع وفي أي وقت حصل حرم ‪ ،‬وهو رأي أم المؤمنين‬
‫عائشة رضي هللا عنها ويروى عن علي رضي هللا عنه ‪ ،‬وعروة بن الزبير ‪،‬‬
‫وعطاء بن أبي رباح وهو قول الليث بن سعد والظاهرية ‪ :‬أي أن رضاع الكبير‬
‫يحرم ولو أنه شيخا كبيرا كما يحرم رضاع الصغير ‪.‬‬
‫وبالنسبة لمن قال ‪ :‬أن زمن الرضاع المحرم هو في الصغر ‪ ،‬اختلفوا في تحديد‬
‫الصغر إلى أربعة مذاهب ‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬المراد بالصغر ما كان في الحولين فقط ‪ ،‬وهو ما ذهب إليه الشافعية‬ ‫‪‬‬
‫والحنابلة والصاحبين من الحنفية ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أن المراد بالصغر هو حصول الرضاع في الحولين ‪ ،‬أو حصول‬ ‫‪‬‬
‫الرضاع بعدهما بشهر أو شهرين ‪ ،‬أو ثالث ‪ .‬وذهب إلى ذلك المالكية ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬ان المراد بالصغر ما كان في الحولين وبعدهما ستة أشهر أي ثالثون‬ ‫‪‬‬
‫شهرا ‪ ،‬وذهب إليه أبو حنيفة رحمه هللا ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬أن المراد بالصغر هو حصول الرضاع في الحولين وبعدهما بسنة ‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫أي في ثالث سنوات تثبت به الحرمة ‪ ،‬وهو قول ‪ :‬زفر من الحنفية ‪.‬‬
‫استدل القائلون بأن الرضاع المحرم هو ما كان في الحولين بما يأتي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بالكتاب‪ :‬قال تعالى ‪ { :‬والوالدات يرضعن أوالدهن حولين كاملين } ‪.‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬أنه بعد الحولين يستغني الطفل عن الرضاع ‪ ،‬وأن انتفاع جسمه بلبن‬
‫المرضع إنما يكون في الحولين ‪ ،‬أما بعد الحولين فالمنمي والمفيد لجسمه غير ذلك‪،‬‬
‫فالطفل الرضيع يسد اللبن جوعه ؛ ألن معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه‬
‫فيصير جزء من المرضعة ‪.‬‬

‫ـ ‪ 35‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫‪ 2‬ـ من السنة‪:‬‬

‫( أ ) ما روي عن السيدة عائشة رضي هللا عنها أن رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫‪‬‬
‫وسلم قال ‪ " :‬إنما الرضاعة من المجاعة " ‪.‬‬
‫( ب ) عن أم سلمة رضي هللا عنها قالت ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫‪‬‬
‫وسلم ‪ " :‬ال يحرم من الرضاعة إال ما فتق األمعاء من الثدي ‪ ،‬وكان قبل‬
‫الفطام " قال أو عيسى هذا حديث حسن صحيح ‪.‬‬
‫( ج ) وعن أبي عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول‬ ‫‪‬‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬ال رضاع إال ما كان في الحولين " رواه الدار‬
‫قطني ‪ ،‬وقال ‪ :‬لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ ‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من األحاديث التي جاءت به‪1‬ا المعنى واختلفت ألفاظها ‪.‬‬
‫وجه الداللة ‪ :‬هذه األحاديث بمجموعها تفيد بأن الرضاع المحرم هو المفتق‬
‫لألمعاء وأن اللبن الذي يحصل به فتق لألمعاء هو ما كان في الحولين " ال رضاع‬
‫إال ما كان في الحولين " واالستثناء يفيد الحصر أي أن أي رضاع بعدهما ال حرمة‬
‫منه ‪ .‬ويزيده وضوحا ما في الرواية األخرى قوله ‪ " :‬إنما الرضاعة من المجاعة "‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬معناه أن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع هو‬
‫الصبي ال حيث يكون الغذاء بغير رضاع ‪......‬‬
‫يعني وأما من كان يأكل ويشرب فرضاعه ال عن مجاعة ؛ ألن في الطعام والشراب‬
‫ما يسد جوعته ‪ ،‬بخالف الطفل الذي ال يأكل الطعام ‪ ،‬وفي مثل هذا المعنى حديث‬
‫"ال رضاع إال ما أنشز العظم " فإن انشاز العظم وانبات اللحم إنما يكون لمن كان‬
‫غذاؤه اللبن ‪.‬‬
‫فكل هذه النصوص استدل بها القائلون بأن الرضاع ال يكون إال في الصغر وال‬
‫تخرج عنها ‪ .‬وإنما كان االختالف بينهم في التوجيه ‪.‬‬
‫ثانيا المالكية ‪ :‬قالوا إن حصل في الحولين أو بزيادة الشهرين ‪ ...‬يعني أن شرط‬
‫نشر الحرمة بالرضاع أن يحصل الوصول للجوف في الحولين من والدته ‪ ،‬أو‬
‫بزيادة ما قرب منهما مما له حكمه كالشهر والشهرين وقيل ‪ :‬الثالثة األشهر ‪ ،‬وهذا‬
‫ما دام مقصورا على الرضاع أو يأكل معه ما يضر به االقتصار عليه ‪ ،‬فلو ُفطم ‪،‬‬

‫ـ ‪ 36‬ـ‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬
‫ثم أرضعته امرأة بعد فصاله بيم أو يومين أو ما أشبه ذلك حرم ؛ ألنه لو ُأعيد للبن‬
‫لكان قوة في غذائه وعشاءه ‪ ،‬فلو فصل فصال بينا فال اعتبار بما يحصل له من‬
‫اللبن بعد ذلك ‪.‬‬
‫وعللوا ذلك ان الصبي عادة ال يفطم دفعة واحدة بل على التدريج في ايام قليالت‪,‬‬
‫فلأليام التي يحاول فيها فطامه حكم الحولين‪.‬‬
‫واستدلوا لذلك بأدلة القائلين ان مدة الرضاع حوالن وذلك لقول ابن القاسم صاحب‬
‫مالك‪ :‬لو ارتضع بعد الفطام في الحولين لم تحرم عليه لقوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪":‬وكان قبل الفطام" ‪ ,‬فالعبرة عندهم بالفطام وعند االولين بالعامين‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مذهب الحنفية ‪ ,‬ويمكن تقسيمه الى ثالثة اقسام‪:‬‬
‫( أ ) االمام ابو حنيفة يرى ان مدته ثالثون شهرا‪.‬‬
‫( ب ) الصاحبان محمد وابو يوسف مثل رأي الشافعية والحنابلة و وتقدم توضيحه‪.‬‬
‫( ج ) زفر القائل بأن مدة الرضاع ثالث سنوات‪.‬‬
‫استدل االمام ابو حنيفة على مذهبه بقوله تعالى‪ {:‬وحمله وفصاله ثالثون شهرا}‪.‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬ان هللا سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد‬
‫منها بكمالها كاألجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال‪ :‬احلت الدين الذي لي‬
‫على فالن ‪ ,‬والدين الذي لي على فالن سنة ‪ ,‬يفهم منه ان السنة بكاملها لكٍل ‪ ...‬اال‬
‫انه قام المنقص في احدهما يعني في مدة الحمل وهو قول عائشة رضي هللا عنها ‪:‬‬
‫( الولد ال يبقى في بطن امه اكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل) وفي رواية "‬
‫وفي رواية " ولو بقدر ظل مغزل " ومثله ال يقال اال سماعا ؛ ألن المقدرات ال‬
‫يهتدي العقل اليها ‪ ,‬روي عن النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬الولد ال يبقى في بطن‬
‫امه اكثر من سنتين" فتبقى مدة الفصال على ظاهرها‪.‬‬
‫واستدل باآلية من وجه اخر ‪ :‬قال ويحتمل ان يكون المراد من الحمل ‪ :‬الحمل‬
‫باليد والحجر فيقتضي ان يكون الثالثون مدة الحمل والفصال جميعا ألنه يحمل باليد‬
‫والحجر في هذه المدة غالبا ال ان يكون نقص هذه المدة مدة الحمل وبعضها مدة‬

‫ـ ‪ 37‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫الفصال ؛ ألن إضافة السنتين الى الوقت ال تقتضي قسمة الوقت عليهما بل تقتضي‬
‫ان يكون جميع ذلك الوقت مدة لكل واحد منهما ‪ ,‬كقول القائل صومك وزكاتك في‬
‫شهر رمضان هذا ال يقتضي قسمة الشهر عليهما بل يقتضي كون الشهر كله وقتًا‬
‫لكل واحد منهما ‪ ,‬فيقتضي ان يكون ثالثون شهرا مدة الرضاع وكذا الحمل‬
‫والفصال‪.‬‬
‫واما االحاديث التي استدل بها القائلون بالرضاع في الحولين فقط فقد ُرد‬
‫عليها ‪ ,‬ووجهت توجيهات تظهر فيها الكلفة كقولهم ‪ :‬ان الرضاع الموجب للنفقة هو‬
‫ما كان في الحولين وما بعدهما ال اجرة للمرضع عليه ‪ ,‬وان الستة اشهر كي يتعود‬
‫ويتحول الى الطعام‪ ,‬وكانت ستة النها اقل مدة للحمل‪.‬‬
‫المناقشة‪ :‬ورد على قولهم اعتراضات كثيرة وسوف نذكرها باختصار‪ ,‬انه اجتهاد‬
‫مع النص ‪ ,‬وان ذلك ممنوع كما ان في هذا التوجيه تكلف ظاهر كما ان ادلة‬
‫الشافعية والحنابلة وهو ان الرضاع المحرم عامين صريحة الداللة‪.‬‬
‫رأي زفر‪ :‬وهو القائل بأن مدة الرضاع ثالث سنوات كي يتعود فيها الطفل من‬
‫اللبن الى الطعام‪.‬‬
‫المناقشة‪ :‬هو ما اعترض به على أبي حنيفة‪ ,‬وهو هنا يعد من باب اولى فاذا‬
‫اعترض على الستة اشهر فمن باب اولى يعترض على من قال زيادة عام‪.‬‬
‫من هذا كله نرى ان جمهور الفقهاء اجمعوا على ان الرضاع المحرم هو ما كان في‬
‫الصغر والختالفهم في تفسير مدلوالت النصوص القرآنية و االحاديث النبوية‬
‫الشريفة‪ ,‬أدى الى اختالفهم في تفسير الصغر‪.‬‬
‫هل العبرة تكون بالمدة ام بالفصل؟ نرى ان الجمهور اعتبروا ذلك بالمدة فطم‬
‫الصبي ام لم يفطم‪ ,‬استغنى ام لم يستغن عن الطعام فقصروا الحرمة على السنتين‪,‬‬
‫فالعبرة بالمدة بخالف المالكية‪ ,‬فاعتبروها بالفصال‪ ,‬فإذا فصل الصبي قبل الحولين‪,‬‬
‫او استغنى بالفطام عن الرضاع فما ارتضع بعد ذلك لم يكن لإلرضاع حرمة‪.‬‬
‫الراجح‪- :‬وهللا اعلم‪ -‬هو قول الجمهور الذين قصروا الحرمة على العامين‪ ,‬سواء‬

‫ـ ‪ 38‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫فصل ام لم يفصل لحديث‪ " :‬انما الرضاعة من المجاعة " ؛ ألنها في تلك يكون‬
‫انشاز العظم وانبات اللحم‪.‬‬
‫رضاع الكبير‬
‫ذهب الفقهاء في رضاع الكبير الى فريقين‪:‬‬
‫الفريق االول‪ :‬يقول‪ :‬يثبت به التحريم وذهب الى ذلك السيدة عائشة رضي هللا عنها‬
‫والظاهرية‪.‬‬
‫الفريق الثاني‪ :‬يقول ‪ :‬ان رضاع الكبير ال يحرم ‪ ,‬وذهب اليه جمهور الفقهاء كما‬
‫مر معنا‪.‬‬
‫ادلة الفريق االول‪:‬‬
‫‪-1‬من الكتاب‪ :‬قال تعالى ‪ {:‬و أمهاتكم الالتي ارضعنكم}‬
‫وجه الداللة‪ :‬انه مطلق غير مقيد بوقت‪ ,‬واآلية الثانية ان العامين فيها لباين ان‬
‫الرضاعة الموجبة لألجرة هو ما كان في لسنتين‪ ,‬اما التي بعدهما فال اجرة فيها‬
‫ولكنها محرمة‪.‬‬
‫‪ -2‬من السنة‪ :‬عن زينب بنت ام سلمة قالت‪ :‬ام سلمة لعائشة انه يدخل عليك الغالم‬
‫االيفع الذي ما احب ان يدخل علّي ‪ ,‬فقالت عائشة‪ :‬اما لك في رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم اسوة حسنة ‪ ,‬قالت ان امرأة أبي حذيفة قالت‪ :‬يا رسول هللا ان سالما‬
‫يدخل علّي وهو رجل و في نفس ابي حذيفة منه شيء ‪ ,‬فقال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ":‬ارضعيه حتى يدخل عليك " رواه مسلم‪.‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬ان هذا استدالل بعفل ام المؤمنين السيدة عائشة رضي هللا عنها‪ ,‬حيث‬
‫كان يدخل عليها الغالم الكبير‪ ,‬كما ان الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ,‬امر سهلة‬
‫بإرضاع سالم وهو كبير يحرم عليها ويراها فضلى في ثياب مهنتها‬
‫وبحديث السيدة عائشة رضي هللا عنها‪ ,‬ان النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ " :‬يحرم‬

‫ـ ‪ 39‬ـ‬
‫د‪ /‬عواطف تحسين البوقري‬
‫من الرضاعة ما يحرم من و الوالدة "‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬ان السيدة عائشة رضي هللا عنها اخذت بهذا الحديث اذا ان يدخل عليها‬
‫احد امرت بنات اخيها بإرضاعه خمسا‪.‬‬
‫المناقشة‪ :‬اعترض المخالفين على ذلك بعدة احاديث قد سبق ذكرها عند الكالم ان‬
‫رضاع الصغير هو المحرم‪.‬‬
‫بحديث ام سلمة " ال رضاع اال ما فتق االمعاء" ‪ ,‬وهو حديث صححه الترمذي‬
‫وسبق ذكره ‪ ,‬وحديث ابن عباس " ال رضاع اال ما كان في الحولين" ‪ ,‬رواه‬
‫الدارقطني‪ ,‬ايضا قد مر ذكره‪.‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬ان الرسول صلى هللا عليه وسلم بين ان الرضاع الذي يتعلق به‬
‫التحريم هو ما كان في الصغر الذي ينشز العظم وينبت اللحم حتى يكون هو الغذاء‬
‫المعتمد للطفل‪ ,‬اما ما لم يكن غذائه اللبن بعد الحولين ال حرمة فيه‪ ,‬اذ اآلية صريحة‬
‫ان من اراد ان يكمل الرضاع يكون خالل سنتين‪ ,‬وما بعدهما فال يفيد جسمه فال بد‬
‫له من طعام بعد ذلك يقوي به جسمه فال تثبت به الحرمة ألنه لم يكن عن مجاعة‪.‬‬
‫اتعرض ايضا‪ :‬في قصة سالم وقالوا انها خصوصية‪ ,‬كما ثبت ذلك عن زوجات‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ ,‬حيث كن يرين ان تلك خصوصية ورخصة‪.‬‬
‫واما قولهم ‪ :‬ان السيدة عائشة رضي هللا عنها قالت ألم سلمة‪ :‬اما لك في رسول هللا‬
‫اسوة حسنة ؟ ‪ ,‬فسكتت ام سلمة ‪.‬‬
‫نقول‪ :‬بل لنا جميعا في رسول هللا صلى هللا عليه وسلم اسوة حسنة ان نقر ذلك على‬
‫السيدة عائشة رضي هللا عنها و ارضاها فلنا في رسول هللا االسوة الحسنة ويكون‬
‫ذلك اقرار ان ذلك رخصة لها‪.‬‬
‫اجاب على ذلك اصحاب هذا المذهب بما يأتي‪ :‬انه لو كان خاصا لبينه الرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم كما بين اختصاص خزيمة بأن شهادته كشهادة رجلين‪,‬‬

‫ـ ‪ 40‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫واختصاص ابي بردة بالتضحية بالجذع من المعز ‪ ...‬وغير ذلك‪.‬‬
‫اعتراض المخالفين‪ :‬بأن السيدة عائشة رضي هللا عنها روت ما يخالف فعلها وهي‬
‫التي روت حديث " و انما الرضاعة من المجاعة" وهو حديث صحيح وقد سبق‬
‫ذكره ‪.‬‬
‫و ايضا من قصة سالم انه ال يتصور ان سهلة ارضعته بثديها حيث انه قبل‬
‫االرضاع يحرم مسها ‪ ,‬فال بد ان يكون قد سقته اللبن فال يستلزم من السقي ان يكون‬
‫من الثدي مباشرة بل بحلبه في اناء ثم يشربه وهذا يكون بوجور او سعوط ونحوه ‪,‬‬
‫والظاهرية ممن يرون انه ال يكون التحريم بالوجور ونحوه‪ ,‬وانما بمص الثدي ‪....‬‬
‫واذا حصل ذلك يعني ارتكاب الكثير لألمر المحرم ‪ ,‬فال يمكن ان تكشف المرأة عن‬
‫عورتها للكبير ‪ ,‬وما على الظاهرية اال يقولوا ان هذه خصوصية ان قال ان سهلة‬
‫باشرته باإلرضاع وهو سالم ؛ الن االرضاع عند الظاهرية يكون بمص الثدي‬
‫مباشرة‪.‬‬
‫الرد‪ :‬ان الظاهرية اسقطوا االحاديث التي استدل بها القائلون بأن الرضاع المحرم‬
‫هو ما كان في الصغر‪ ,‬وقالوا‪ :‬انها فيها مقال ‪.‬‬
‫واما بالنسبة لآليات‪ { :‬وفصاله في عامين}‪ ... { ,‬حولين كاملين} قالوا انه يصار‬
‫اليه لو لم يأت نص غير هذا الكن قد جاء في ذلك حديث سهلة وسالم مولى ابو‬
‫حذيفة ايضا مما اعترض به المخالفين لرأي السيدة عائشة والظاهرية من لألحاديث‬
‫الدالة على ان زمن الرضاعة في الحولين التي سبق بسطها‪.‬‬
‫وجه اداللة‪ :‬ان الرضاع هو ما كان في الحولين وما عداه ال يلتفت اليه‪ ,‬واما القول‬
‫بأن كلمة الحولين انما دلة على الحكم الواجب على النفقة ال على مدة الرضاع فأنه‬
‫مردود ‪ ....‬اذ هذا ال ينافي ايضا انها لبيان زمان الرضاعة بل جعله هللا تعالى زمان‬
‫من اراد تمام الرضاعة‪ ,‬وليس بعد التمام ما يدخل في حكم ما حكم الشارع بانه قد‬
‫تم‪.‬‬
‫ثم ان هناك كثير من االدلة التي استدل بها الظاهرية واعترض عليهم الجمهور‪,‬‬

‫ـ ‪ 41‬ـ‬
‫د‪/‬عواطف تحسين البوقري‬
‫كرجوع ابن موسى عن فتياه في تحريم رضاع الكبير‪.‬‬
‫وهناك رأي حاول ان يجمع بين رأي الجمهور و رأي السيدة عائشة رضي هللا عنها‬
‫و الظاهرية ‪ ,‬كما جاء عن الشوكاني صاحب نيل االوطار والصنعاني صاحب سبل‬
‫السالم ‪ ,‬و الدكتور سيد سابق صاحب كتاب قفه السنة ‪ ,‬فهم يميلون الى التوفيق‬
‫الذي ذهب اليه ابن تيمية‪( :‬انه يعتبر الصغر في الرضاعة اال اذا دعت اليه الحاجة‪,‬‬
‫كرضاع الكبير الذي ال يستغني عن دخوله على المرأة وشق احتجابها عنه‪ ,‬كحال‬
‫سالم مع امرأة ابي حذيفة ‪ ,‬فمثل هذا الكبير الذي ارضعته للحاجة اثر رضاعه ‪,‬‬
‫واما من عداه فال بد من الصغر‪.‬‬
‫ثم يقول صاحب سبل السالم‪ ( :‬فأنه جمع بين االحاديث حسن و أعمال لها من غير‬
‫مخالفة لظاهرها باالختصاص ‪ ,‬وال نسخ وال الغاء لمى اعتبرته اللغة ودلت له‬
‫االحاديث)‪.‬‬
‫الراجح‪ :‬والذي يترجح و هللا اعلم هو رأي الجمهور وهو عدم تحريم رضاع الكبير‬
‫وذلك‪:‬‬
‫اوال‪ :‬لقوة ادلة الجمهور‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬لتغير الزمان ‪ ,‬وتغير احوال الناس‪ ,‬ففي العصور االولى لإلسالم حيث كان‬
‫ذلك في عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم وهو خير القرون ثم الذي يليه ثم الذي‬
‫يليه‪ ,‬وما بالنا ونحن في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن وقل الورع في بعض‬
‫القلوب وان لم يزل في امة محمد صلى هللا عليه وسلم الخير الى قيام الساعة ولعلها‬
‫كانت تلك رخصة لما عرف عن الصحابة شدة الورع وكذلك رخصة لسيدة عائشة‬
‫رضي هللا عنها‪ ,‬لما لها من المكانة العلمية ‪ ,‬حيث كانت تشد لها الرحال من اجل‬
‫طلب العلم منها‪ ,‬فرأى من خالف لما ذهب اليه االربعة العلماء االجالء الشوكاني‬
‫والصنعاني وابن تيمية ودكتور سيد سابق وذلك في وقتنا الحاضر الن ذلك اعتبره‬
‫تحقيقا لقواعد الشريعة سد الذرائع‪ ...‬وهللا سبحانه وتعالى اعلم‪.‬‬

‫ـ ‪ 42‬ـ‬

‫حكم تسعير السلع‬


‫د‪.‬نايف بن جمعان الجريدان‬

‫أوًال‪:‬حقيقة التسعير‬
‫التس عري لغ ة‪ :‬يق ال‪:‬س َّعر الن ار واحلرب‪:‬يس عرها وأس عرها‪،‬وس عرها مبع ىن‪:‬هيجه ا وأهلبه ا‪ ،‬ومن ه قول ه‬
‫تع اىل‪{:‬وإذا الجحيم ُس عرت}(التك وير‪،)12:‬وقول ه‪{:‬وكفى بجهنم سعيرا}(النس اء‪ ،)55:‬ويق ال‬
‫سعر السلعة أي جعل هلا مثن ًا وحدد هلا سعرًا‪ ،‬وسعرت الشيء تسعريا‪:‬جعلت له سعرا معلوما ينتهي‬
‫إليه‪ ،‬وسعروا تسعريا‪:‬اتفقوا على السعر ‪،‬والسعر‪:‬الذي يقوم عليه الثمن‪،‬وسعر السوق‪ :‬احلالة اليت ميكن‬
‫أن نشرتي هبا الوحدة وما شاهبها يف وقت ما‪ ،‬وسعر الصرف‪:‬سعر السوق بالنسبة للنقود‪.‬‬
‫التسعري يف االصطالح‪:‬‬
‫وردت عدة تعاريف للتسعري عند الفقهاء بألفاظ خمتلفة للداللة على معناه وفيما يلي بعض‬
‫النصوص من كالم الفقهاء يف تعريف التسعري ‪:‬‬
‫عرفه الباجي من املالكية بقوله‪":‬هو أن حيدد ألهل السوق سعر ليبيعوا عليه فال يتجاوزونه"‪.‬‬
‫وعند الشافعية‪":‬أن يأمر الوايل السوقة أن ال يبيعوا أمتعتهم إال بكذا "‪.‬‬
‫وتدل هذه التعريفات يف جمموعها‪:‬أن التسعري سياسة شرعية بيد ويل األمر أو من يقوم مقامه عند توفر‬
‫دواعيه ملصلحة العامة‪ ،‬وبالنظر إىل هذه التعريفات كذلك ميكن اخلروج بالتصور التايل ‪:‬‬
‫أوًال‪ :‬أن تقدير الثمن البد أن يكون ممن ميلك سلطة التقدير‪ ،‬كاحلاكم أو من يقوم مقامه يف مثل هذا‬
‫الشأن‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬أن تقدير السلع جيب أن يكون تقديرًا عادًال ليس فيه إجحاف باملنتج أو املستهلك وإال كان‬
‫نوعًا من الظلم‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬أن تق دير الس لع جيب أن يك ون ملزم ًا جلمي ع الن اس بال اس تثناء من غ ري زي ادة أو نقص ان عن‬
‫السعر احملدد‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬حاالت التسعري وأحكامها‬
‫بعد االطالع على ما ُك تب يف التسعري ميكن القول أن التسعري له حالتان‪:‬‬
‫‪:‬‬‫الحالة األولى التسعير في األحوال العادية التي ال غالء فيها‬
‫‪:‬‬

‫فقد ذهب مجهور العلماء من احلنفية‪ ،‬واملالكية‪ ،‬والشافعية‪ ،‬واحلنابلةإىل أن األصل عدم جواز التسعري‬
‫يف‬

‫ـ ‪ 43‬ـ‬
‫هذه احلالة‪ ،‬ملا يأيت من األدلة‪:‬‬
‫‪ .1‬ق ول اهلل س بحانه وتع اىل‪ِ ...{:‬إَّال َأن َتُك وَن ِتَج اَر ًة َعن َتَر اٍض ِّم نُك ْم ‪(}...‬النس اء‪.)29:‬وج ه‬
‫الداللة‪:‬أن اهلل تعاىل جعل الرتاضي شرًطا إلباحة التجارات‪،‬والتسعري يف األحوال العادية اليت ال غالء‬
‫فيها يفوت ذلك‪ ،‬إذ إنه يتضمن إلزام أصحاب السلع واخلدمات أن يبيعوا مبا ال يرضون‪.‬‬
‫‪ .2‬قول النيب النيب صلى اهلل عليه وسلم‪":‬إنما البيع عن تراض"‪.‬‬
‫‪ .3‬قول النيب النيب صلى اهلل عليه وسلم‪":‬ال يحل المرئ من مال أخيه شيء إال بطيب نفس منه"‪.‬‬
‫وجه الداللة‪:‬أن التسعري يتضمن أخذ األموال من غري طيب نفس من أصحاهبا فتدخل يف عموم ما هنى‬
‫عنه الرسول النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫‪ .4‬م ا ج اء عن أنس بن مال ك رض ي اهلل عن ه ق ال‪:‬غال الس عر على عه د رس ول اهلل الن يب ص لى اهلل علي ه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقالوا‪:‬يا رسول اهلل سِّعر لنا‪.‬فقال رسول اهلل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪":‬إن اهلل هو الُمَس ِّعر‪،‬‬
‫الق ابض‪ ،‬الباسط‪ ،‬ال رزاق‪ ،‬وإني ألرج و أن ألقى ربي‪ ،‬وليس أح د منكم يطلب ني بمظلم ة في دم‬
‫وال مال"‪.‬‬
‫وج ه الدالل ة‪:‬أن الن يب ص لى اهلل علي ه وس لم‪،‬امتن ع من التس عري وجعل ه مظلم ة يرج و أال يلقى اهلل هبا‪.‬‬
‫ووج ه الظلم يف التس عري أن الن اس مس لطون على أم واهلم‪ ،‬والتس عري يف األح وال العادي ة ال يت ال غالء‬
‫فيها حجر عليهم‪ ،‬وإجبار هلم على ما ال يرضون وهذا ظلم هلم‪.‬‬
‫‪ .5‬أن التسعري يف األحوال العادية اليت ال غالء فيها قد يفضي إىل اختالل قانون العرض والطلب‪،‬فيحصل‬
‫ب ذلك خل ل يف األنش طة االقتص ادية‪.‬ومن أب رز ذل ك غالء األس عار وارتفاعه ا؛ألن ك ثرة القي ود على‬
‫التجارة واالستثمار ُيؤدي غالبًا إىل صرف التجار واملستثمرين إىل أسواق أقل قيودًا‪ ،‬فيطلبون لسلعهم‬
‫أسواقًا ال يكرهون فيها على البيع بغري ما يريدون‪،‬وهذا ُيؤدي إىل قلة العرض فريتفع السعر‪ .‬وكذلك‬
‫ق د حيم ل التس عري يف األح وال العادي ة ال يت ال غالء فيه ا أص حاب الس لع واخلدمات إىل أن ميتنع وا من‬
‫بيعها‪ ,‬بل يكتموهنا فيطلبها املس تهلكون فال جيدوهنا إال قليًال‪ ,‬فريفعون يف مثنها؛ ليص لوا إليها‪ ,‬فتغلو‬
‫بذلك األسعار‪.‬وحيصل اإلضرار باجلانبني‪:‬جانب املالك يف منعهم من بيع أمالكهم‪ ,‬وجانب املشرتي‬
‫يف منعه من الوصول إىل غرضه‪.‬‬
‫الحالة الثانية التسعير في حالة الغالء وارتفاع األسعار‬
‫‪:‬‬ ‫‪:‬‬

‫الق ول األول‪:‬جيوز ل ويل األم ر واجله ات ذات االختص اص التس عري‪،‬وحتدي د أس عار الس لع‬
‫واخلدمات إذا اقتض ى ذل ك مص لحة العام ة‪ .‬وه ذا ه و م ذهب احلنفي ة‪ ،‬واملالكي ة‪ ،‬ووج ه عن د‬
‫احلنابلة‪.‬ومما‬

‫ـ ‪ 44‬ـ‬
‫استدلوا به ما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬ح ديث عب د اهلل بن عم ر ‪-‬رض ي اهلل عنهم ا‪ -‬أن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ق ال‪":‬من أعت ق‬
‫ِش ْر كًا ل ه في عب د‪ ،‬فك ان ل ه مال يبل غ ثمن العب د ُقِّو م العب د علي ه قيم ة عدل‪ ،‬ف أعطى ش ركاءه‬
‫حصصهم‪ ،‬وعتق عليه العبد"‪.‬‬
‫وجه الداللة‪:‬أن هذا احلديث ُيعُّد أصًال يف جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرًا بثمنه‪ ,‬للمصلحة‬
‫الراجحة‪.‬واملقصود‪:‬أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه بعوض املثل؛ ملصلحة‬
‫تكمي ل العت ق‪,‬ومل ميكن املال ك من املطالب ة بالزي ادة على القيم ة‪ ,‬فكي ف إذا ك انت احلاج ة بالن اس إىل‬
‫التملك أعظم‪ ,‬وهم إليها أحوج؟مثل حاجة املضطر إىل الطعام والشراب واللباس وغريه‪ .‬وهذا الذي‬
‫أمر به النيب رضي اهلل عنه‪ -‬من تقومي اجلميع قيمة املثل‪:‬هو حقيقة التسعري‪.‬‬
‫‪ .2‬قص ة عم ر بن اخلط اب رض ي اهلل عن ه‪ -‬م ع ح اطب بن أيب بلتع ة رض ي اهلل عن ه‪ -‬حيث وج ده ي بيع‬
‫الزبيب باملدينة‪ ،‬فقال‪ :‬كيف تبيع يا حاطب؟فقال‪ُ:‬مَّديِن بدرهم‪.‬فقال‪:‬تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا‬
‫وتقطع ون يف رقابن ا‪ ،‬مث ت بيعون كي ف ش ئتم! ب ع ص اعًا‪،‬و إال فال تب ع يف س وقنا‪ .‬وج ه الدالل ة‪:‬أن أم ر‬
‫عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه ‪،‬حلاطب بن أيب بلتعة رضي اهلل عنه‪ ،‬بأن يبيع الصاع بدرهم نوع من‬
‫التس عري‪ ،‬فهي س نة من عم ر بن اخلط اب رض ي اهلل عن ه‪ ،‬وي دخل يف ق ول الن يب ‪ -‬ص لى اهلل علي ه‬
‫وسلم‪":‬فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها‪ ،‬وعضوا عليها بالنواجذ"‪.‬‬
‫‪ .3‬أن التس عري يف ح ال الغالء من الوس ائل املهم ة ال يت يس تعني هبا والة أم ور املس لمني يف حتقي ق الع دل‬
‫وحتص يل املص احل العام ة؛ ذل ك أن إطالق حري ة التج ارة دون حتدي د لألس عار ق د يفض ي إىل‬
‫االحتكارطلًب ا الرتفاع أكرب لألسعار‪ .‬قال ابن تيمية –رمحه اهلل‪":-‬وإذا تضمن‪-‬أي‪ :‬التسعري يف حال‬
‫الغالء ‪ -‬العدل بني الناس مثل‪:‬إكراههم على ما جيب عليهم من املعاوضة بثمن املثل‪ ،‬ومنعهم مما حيرم‬
‫عليهم من أخ ذ زي ادة على ع وض املث ل‪ ،‬فه و ج ائز; ب ل واجب‪.‬وإذا ك ان ك ذلك ف إن الوس ائل هلا‬
‫أحكام املقاصد‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪:‬ال جيوز ل ويل األم ر‪،‬أو اجله ات ذات االختص اص التس عري‪،‬وحتدي د أس عار الس لع‬
‫واخلدمات‪ ،‬ولو اقتضى ذلك مصلحة عامة‪ .‬وهذا هو مذهب الشافعيةواحلنابلة‪.‬ومما استدلوا به األدلة‬
‫اليت تقدم ذكرها يف أن األصل عدم جواز التسعري‪.‬‬
‫المناقشات والردود‪:‬‬
‫بعض ما ورد من ردود على أدلة القول الثاني القائلون بعدم جواز التسعير حال غالء األسعار‪:‬‬
‫اس تدالهلم على ع دم ج واز التسعري ب أن التسعري يف ّو ت الرتاض ي ال ذي جعله اهلل مبيًح ا للتج ارة‪،‬وأنه‬ ‫‪.1‬‬
‫أخذ‬
‫‪.2‬‬

‫‪.3‬‬

‫ـ ‪ 45‬ـ‬
‫‪.4‬‬

‫‪.5‬‬

‫لألموال من غري طيب نفس من أصحاهبا‪...‬‬ ‫‪.6‬‬


‫يناقش‪:‬بأن األصل يف عقود املعاوضات أهنا ال جتوز إال بالرتاضي كما دلت النصوص‪ ،‬إال يف مواضع‬
‫اس تثناها الش ارع‪ ،‬اجلامع فيه ا أن ه إك راه حبق‪ .‬ومن ذل ك أن ه"جيوز اإلك راه على ال بيع حبق يف مواض ع‬
‫مثل‪:‬بيع املال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة‪،‬واإلكراه على أال يبيع إال بثمن املثل ال جيوز إال‬
‫حبق وجيوز يف مواضع; مثل‪:‬املضطر إىل طعام الغري ومثل‪ :‬الغّر اس والبناء الذي يف ملك الغري;فإن لرب‬
‫األرض أن يأخذه بقيمة املثل ال بأكثر‪.‬ونظائره كثرية"‪.‬‬
‫‪ .2‬استدالهلم على عدم جواز التسعري بأن النيب‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم‪،‬امتنع من التسعري وجعله مظلمة‪...‬‬
‫ين اقش‪:‬بأن ه ال يص ح االس تدالل هبذا على من ع التس عري‪,‬وذل ك أن"ه ذه قض ية معين ة ليس ت لفظ ًا‬
‫عام ًا"‪،‬ومعلوم أن قضايا األعيان ال عموم هلا وال حجة فيها إال يف مثلها‪ .‬وعليه فال يصح االستدالل‬
‫بامتن اع الن يب‪ -‬ص لى اهلل علي ه وس لم‪،‬من التس عري يف ه ذه احلادث ة على منع ه مطلق ًا‪،‬إذ جيوز أن يك ون‬
‫امتناع ه من التسعري؛ لس بب اقتض اه أو الستحس ان رآه‪ ،‬ولع ل الن يب‪ -‬ص لى اهلل عليه وس لم‪،‬امتنع من‬
‫التسعري وجعله مظلمة ملا طلب منه؛ ألنه مل ميتنع أحد من بيع جيب عليه‪،‬أو أنه مل يطلب أحد يف بيع‬
‫جيب عليه أكثر من عوض املثل‪.‬‬
‫‪ .3‬استدالهلم على عدم جواز التسعري بأن التسعري قد يفضي إىل غالء األسعار وارتفاعها بسبب اختالل‬
‫قانون العرض والطلب‪...‬‬
‫يناقش‪:‬بأن الغاية من التسعري إقامة العدل ورفع الضرر عن البالد والعباد‪ ،‬فإذا كان يرتتب عليه مفاسد‬
‫وظلم فإنه ال جيوز‬
‫الخالصة‬
‫التس عري من حيث األص ل حمرم ملا في ه من الظلم‪ ،‬لكن ذك ر أه ل العلم أن ه ج ائز إذا ك ان يتحق ق ب ه‬
‫الع دل بني الن اس وحتَّص ل ب ه مص احلهم‪ .‬ومن ذل ك اس تعمال التس عري يف معاجلة آث ار غالء األس عار‪،‬‬
‫والسيطرة عليه‪ ,‬وحتقيق العدالة االجتماعية بإنصاف الفئات األكثر تضررًا‪.‬‬
‫فالتسعري مينع ارتفاع أسعار السلع واخلدمات األساسية اليت يقوم عليها معاش الناس‪ .‬كما أن التسعري‬
‫يعم ل على طمأن ة املس تهلك من ت وايل ارتف اع املس توى الع ام لألس عار‪،‬فيح ُّد ذل ك من الش راء ال ذي‬
‫يستبق به الناس ارتفاع األسعار مع عدم حاجتهم لتلك املشرتيات‪.‬‬
‫وع وًدا على ب دء ف إين أوص ي نفس ي وإخ واين املس لمني يف ه ذه األزم ة االقتص ادية ‪-‬ال يت ال زالت‬
‫تداعياهتا‬

‫ـ ‪ 46‬ـ‬
‫إىل يومنا هذا‪ -‬مبا يلي‪:‬‬
‫•ال واجب على املس لم يف مث ل ه ذه الظ روف االلتج اء إىل اهلل‪ ،‬والرج وع إلي ه‪،‬والتوب ة‪،‬‬
‫واالستغفار‪،‬وسؤال اهلل تعاىل الرمحة به‪ ،‬و أن يلطف حباله‪.‬‬
‫•وأن يعلم املس لم أن معي ار الغ ىن احلقيقي ليس ه و ك ثرة املال ووفرت ه و إمنا ه و غ ىن النفس كم ا‬
‫قال‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس"‪.‬‬
‫كما علينا نشر الوعي بأمهية االقتصاد يف االستهالك و معرفة ما حنتاج و ما ال حنتاج‪.‬‬
‫•كما على ّجتار املسلمني و من له يد يف هذا املوضوع الرفق بالّن اس و إجياد حل موائم هلم‪ ،‬وال حيل‬
‫للتجار أن يستغلوا هذه املوجة يف ارتفاع األسعار لريفع أسعار بضاعتهم بدون مربر‪ ،‬وللتجار أسوة‬
‫بنيب اهلل يوسف عليه السالم حينما توىّل خزائن مصر و رفق بالناس حىت كانوا يقصدونه من كل‬
‫مكان‪.‬‬

‫ـ ‪ 47‬ـ‬

‫االحتكار دراسة فقهية مقارنة‬


‫إعداد د‪ .‬أمحد عرفة‬
‫االحتكار فى اصطالح الفقهاء ‪:‬‬
‫إن االحتكار هو حبس مال أو منفعه أو عمل ‪ ،‬واالمتناع عن بيعه وبذله حىت يغلو سعره‬
‫غالًء فاحشًا غري معتاد ‪ ،‬بسبب قلته ‪ ،‬أو انعدام وجوده ىف مظانه ‪ ،‬مع شدة حاجة الناس‬
‫أو الدولة أو احليوان إليه ‪. 1‬‬
‫وبتوضيح ما يستفاد من التعريف نبني ما يلى ‪:‬‬
‫أ‪ -‬أن االحتكار هو حبس ما حيتاج إليه الناس ‪ ،‬سواء ماحيتاج إليه الناس ‪ ،‬سواء كان‬
‫طعامًا أو غريه مما يكون ىف احتباسه إضرارًا بالناس ‪ ،‬ولذلك فإنه يشمل كل املواد الغذائية‬
‫واألدوية والثياب ومنافع الدور واألراضى ‪ ،‬كما يشمل منافع وخربات العمال وأهل املهن‬
‫واحلرف والصناعات ‪ ،‬إذا كانت حتتاج إىل مثل تلك السلع واخلدمات واملنافع ‪.‬‬
‫وأساس هذا األمر ‪ :‬أن كل ما ال تقوم مصاحل األمة أو الدولة إال به فهو واجب حتصيله ‪.‬‬
‫ب‪ -‬أنه مل يفرق ىف االحتكار بني كون السلعة قد اشرتيت من اخلارج واستوردت ‪ ،‬أم‬
‫اشرتيت من الداخل وحبست انتظارًا للغالء ‪ ،‬أو كانت إنتاجًا ذاتيًا من حمل احملتكر ‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬مشل تعريف االحتكار ‪ :‬كل ما يضر حبسه باإلنسان والدولة واحليوان ‪.‬‬
‫د – أظهر التعريف ظاهرة ( احلاجة ) الىت هى على حترمي االحتكار فليس كل ظرف من‬
‫الظروف يكون فيه حبس هذه األشياء احتكارًا ‪ ،‬وإمنا يكون احتكارًا ىف ظرف احلاجة‬
‫الذى يقع فيه الضرر ‪ ،‬فإذا مل يوجد مثل هذا الظرف كان االدخار احتباسًا مباحًا ‪ ،‬ألنه‬
‫تصرف ىف حق امللكية بل قد يكون واجبًا إذا كان اختزانًا احتياطيًا ‪. 2‬‬
‫ـ ‪ 48‬ـ‬

‫حكم االحتكار فى الفقة اإلسالمى‬


‫وفيه ثالثة مطالب ‪:‬‬
‫املطلب األول ‪ :‬بيان احلكم التكليفى لالحتكار‬
‫‪ :‬احلكمة من حترمي االحتكار‬ ‫املطلب الثاىن‬
‫‪ 1‬الفقة اإلسالمى المقارن مع المذاهب للدكتور فتحى الدرينى صـ‪ 90‬نقًال عن بحث االحتكار دراسة فقهية مقارنة للدكتور ماجد أبورخية ضمن كتاب‬
‫بحوث فقهية فى قضايا اقتصادية معاصرة جـ‪ ، 2‬صـ‪ 463‬وما بعدها طبعة دار النفائس باألردن ‪..‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق‪ :‬صـ‪ 463‬وما بعدها‬
‫‪ :‬حكم االحتكار الدنيوى‬ ‫املطلب الثالث‬
‫املطلب األول ‪ :‬بيان احلكم التكليفى لالحتكار‬
‫اختلف الفقهاء فى حكم االحتكار على مذهبين ‪:‬‬
‫املذهب األول ‪ :‬أن االحتكار حمرم ‪:‬‬
‫‪5‬‬
‫وهذا مذهب مجهور الفقهاء منهم املالكية‪ ، 3‬والشافعية على الصحيح عندهم‪ ، 4‬واحلنابلة‬
‫‪ ،‬والظاهرية‪ ، 6‬وغريهم ‪.‬‬
‫املذهب الثاىن ‪ :‬أن االحتكار مكروه ‪:‬‬
‫وهذا مذهب مجهور احلنفية‪ ، 7‬وبعض الشافعية حيث عربوا عنه بالكراهة إذا كان يضر‬
‫بالناس ‪.‬‬
‫أدلة املذاهب ومناقشتها‬
‫أدلة المذهب األول ‪:‬‬
‫استدل اجلمهور على حرمة االحتكار بالكتاب والسنة واألثر واملعقول ‪:‬‬
‫أما الكتاب ‪ :‬فقوله تعاىل ‪ِ ‬إَّن اَّلِذي َك َف وا ُّدوَن َعن ِبيِل الَّلِه اْل ِج ِد ا اِم‬
‫َو َمْس َحْلَر‬ ‫َس‬ ‫َن ُر َو َيُص‬
‫اَّلِذي َجَعْلَناُه ِللَّناِس َس اء اْلَعاِكُف ِفيِه َو اْلَباِد َو َم ن ُيِر ْد ِفيِه ِبِإَحْلاٍد ِبُظْلٍم ُنِذْقُه ِم ْن َعَذ اٍب َأِليٍم‬
‫َو‬
‫‪8‬‬
‫‪‬‬
‫ـ ‪ 49‬ـ‬
‫قال اإلمام القرطىب عند تفسريه هلذه اآلية ‪:‬‬
‫روى عن يعلى بن أمية أن رسول اهلل ‪ ‬قال ( احتكار الطعام ىف احلرم إحلاد فيه ) وقد‬
‫فهم من هذا صاحب االختيار احلنفى أن اآلية أصل ىف إفادة حترمي االحتكار‪. 9‬‬
‫وىف إحياء علوم الدين للغزاىل عند تفسريه هلذه اآلية ‪:‬‬

‫الملتقى شرح موطأ مالك ‪. 5/17‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ 4‬مغنى المحتاج ‪ ، 2/38‬شرح النووى على صحيح مسلم ‪. 11/43‬‬


‫‪ 5‬كشاف القناع جـ‪ ، 3‬ص‪ ، 176،‬اإلنصاف فى معرفة الراجح من الخالف جـ‪ 4‬ـ صـ‪. 338‬‬
‫‪ 6‬المحلى جـ‪ ، 9‬صـ‪. 64‬‬
‫‪ 7‬االختيار لتعليل المختار جـ‪ ، 4‬صـ‪ ، 160‬الهداية شرح بداية المبتدى جـ‪ ، 8‬صـ‪ 491‬طبعة دار إحياء التراث العربى ببيروت ‪.‬‬
‫‪ 8‬سورة الحج اآلية ‪. 25‬‬

‫‪ 9‬الجامع ألحكام القرآن ‪ :‬جـ‪ ، 12‬صـ‪ 34‬طبعة دار الكتب المصرية ‪.‬‬
‫إن االحتكار من الظلم وداخل حتته ىف الوعيد‪. 10‬‬
‫وما ذهب إليه الغزاىل ىف بيان وجه الداللة هو القول الراجح إذ أن مدلول اآلية عام‬
‫ويدخل حتت النهى كل من أراد حمرمًا وال شك أم االحتكار داخل حتت نطاق هذا‬
‫العموم الشامل لالحتكار وغريه ‪ ،‬فإن قيل إن اآلية نزلت بسبب غري النهى عن االحتكار‬
‫قلنا إن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب‪. 11‬‬
‫وأما السنة ‪ :‬فقد دلت أحاديث كثرية ىف السنة النبوية على حترمي االحتكار ومنها ‪:‬‬
‫‪ -1‬ما روى عن سعيد بن املسيب عن معمر بن عبد اهلل العدوى أن النىب ‪ ‬قال ‪ ( :‬ال‬
‫حيتكر إال خاطئ )‪. 12‬‬
‫قال اإلمام الشوكاىن رمحة اهلل ىف كتابه " نيل األوطار "‪ : 13‬والتصريح بأن احملتكر خاطئ‬
‫كاف ىف إفادة عدم اجلواز ألن اخلاطئ املذنب العاصى ‪.‬‬
‫وقال الصنعاىن رمحة اهلل ‪ : 14‬اخلاطئ هو العاصى اآلمث ‪ ،‬وىف الباب أحاديث دالة على‬
‫حترمي االحتكار ‪.‬‬
‫‪ -2‬ما روى عن معقل بن يسار قال ‪ :‬قال رسول اهلل ‪ ( : ‬من دخل ىف شئ من أسعار‬
‫املسلمني ليغلبه عليهم كان حقًا على اهلل أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة )‪. 15‬‬
‫وجه الداللة من احلديث ‪:‬‬
‫ـ ‪ 50‬ـ‬
‫دل هذا احلديث على معاقبة من يقدم على ذلك مبكان ىف النار ‪ ،‬وال يكون ذلك إال‬
‫الرتكابه احملرم‪. 16‬‬
‫‪ -3‬ماروى عن أىب هريرة رضى اهلل عنه قال ‪ :‬قال رسول اهلل ‪ ( : ‬من احتكر حكرة‬
‫يريد أن يغلى هبا على املسلمني فهو خاطئ )‪. 17‬‬
‫‪ 10‬إحياء علوم الدين ‪ :‬جـ‪ ، 4‬صـ‪ ، 775‬طبعة دار الشعب ‪.‬‬
‫‪ 11‬المنافسة واالحتكار ‪ :‬رسالة دكتوراه للباحث محمد متولى محمد عبد الجواد بمكتبة كلية الشريعة بالقاهرة برقم ( ‪. ) 1294‬‬
‫‪ 12‬أخرجه أحمد ( ‪ ) 6/400‬ومسلم ( ‪ ) 1605‬وأبوداوود ( ‪) 3447‬‬
‫‪ 13‬نيل األوطار ‪ :‬جـ ‪ ، 5‬صـ ‪ ، 267‬طبعة مكتبة اإليمان بالمنصورة ‪.‬‬
‫‪ 14‬سبل السالم ‪ :‬جـ‪ ، 3‬صـ ‪ ، 44‬طبعة دار العقيدة بالقاهرة ‪.‬‬
‫‪ 15‬ذكره الشوكانى فى نيل األوطار جـ‪ ، 5‬صـ ‪ ، 266‬ثم قال ‪ :‬وحديث معقل أخرجه الطبرانى فى الكبير واألوسط وفى إسناده زيد بن مرة أبوالمعلى‬
‫قال فى مجمع الزوائد ‪ :‬ولم أجد من ترجمة وبقية رجاله رجال الصحيح ‪.‬‬

‫‪ 16‬االحتكار والتسعير الجيرى ‪ :‬للدكتور محمد عبد الستار الجبالى صـ‪. 12‬‬
‫‪ 17‬أخرجه الحاكم وزاد " وقد برئت منه " وفى إسناد حديث أبوهريرة أبومعشر وهو ضعيف وقد وثق ( نيل األوطاز جـ‪ ، 5‬صـ‪. ) 266‬‬
‫‪ -4‬ما رواه ابن عمر رضى اهلل عنه أن النىب ‪ ‬قال ‪ ( :‬من احتكر طعامًا أربعني ليلة فقد‬
‫برئ من اهلل وبرئ اهلل منه ‪ ،‬وأميا أهل عرصة ‪ 18‬أصبح فيهم امرؤ جائعًا فقد برئت منهم‬
‫ذمة اهلل )‪. 19‬‬
‫‪ -5‬ومنها ما رواه عمر رضى اهلل عنه أن النىب ‪ ‬قال ‪ ( :‬من احتكر على املسلمني‬
‫طعامهم ضربه اهلل باجلذام واإلفالس ) رواه ابن ماجة ‪.‬‬
‫‪ -6‬وعن عمر بن اخلطاب رضى اهلل عنه أن النىب ‪ ‬قال ‪ ( :‬اجلالب مرزوق واحملتكر‬
‫‪20‬‬
‫ملعون )‬
‫وجه الداللة من هذه األحاديث ‪:‬‬
‫قال اإلمام الشوكاىن رمحة اهلل ‪ :‬وال شك أن أحاديث الباب تنتهض مبجموعها لالستدالل‬
‫على عدم جواز االحتكار ‪ ،‬ولو فرض عدم ثبوت شئ منها ىف الصحيح فكيف وحديث‬
‫معمر مذكور ىف صحيح مسلم ؟ ( نيل األوطار جـ ‪ ، 5‬صـ ‪. ) 267‬‬
‫وأما األثر ‪ :‬فمنه ‪:‬‬
‫‪ -1‬ماروى عن عمر بن اخلطاب رضى اهلل عنه أنه قال ‪ " :‬ال حكرة ىف سوقنا ‪ ،‬ال يعمد‬
‫رجال بأيديهم فضول من أذهاب إىل رزق اهلل نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا ‪ ،‬ولكن أميا‬
‫ـ ‪ 51‬ـ‬
‫جالب جلب على عمود كبده ىف الشتاء والصيف ‪ ، 21‬فذلك ضيف عمر ‪ ،‬فليبع كيف‬
‫‪22‬‬
‫شاء اهلل وليمسك كيف شاء اهلل "‬
‫‪ -2‬ما روى أن عثمان رضى اهلل عنه كان ينهى عن احلكرة ‪.‬‬

‫‪ 18‬عرصة ‪ :‬البقعة الواسعة التى ليس فيها بناء ‪ ،‬وعرصة الدار ساحتها أى جهة ‪.‬‬
‫‪ 19‬أخرجة أحمد والحاكم وابن أبى شيبة وأبو يعلى ( نيل األوطار جـ‪ ، 5‬صـ‪. ) 266‬‬
‫‪ 20‬سنن ابن ماجة ( ‪) 2/728‬‬

‫‪ 21‬هذا القول يعىن أن اجلالب قد محل ما جلبه على ظهره ‪ ،‬أو على دابته ‪ ،‬وحتمل ىف سبيل ذلك برد الشتاء وحر الصيف ‪ ،‬انظر املنتقى ‪ ، 5/17‬الزرقاىن على‬
‫املوطأ ‪. 4/252‬‬
‫‪ 22‬املنتقى جـ‪ / 5‬صـ‪ 15‬نقًال عن االحتكار دراسة فقهية مقارنة للدكتور ماجد أبورخية ضمن كتاب حبوث فقهية ىف قضايا اقتصادية جـ ‪ ، 2‬صـ‪. 473‬‬
‫‪ -3‬ما روى عن على رضى اهلل عنه أنه قال ‪ " :‬من احتكر الطعام أربعني يومًا قسا قلبه‬
‫"‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫‪ -4‬ما روى عن على رضى اهلل عنه أنه أحرق طعامًا حمتكرًا بالنار ‪.‬‬
‫وجه الداللة من هذه اآلثار ‪:‬‬
‫واضح من هذه اآلثار النهى عن احلكرة ‪ ،‬والنهى يفيد التحرمي ‪ ،‬ما مل تأت قرينة تصرفة‬
‫إىل غري التحرمي ‪ ،‬وال قرينة فإن هذه اآلثار تفيد ما أفادته األحاديث السابقة ‪.‬‬
‫وأم املعقول ‪:‬‬
‫فقد حكاه الكاساىن بقوله ‪ :‬وألن االحتكار من باب الظلم ألن ما بيع ىف املصر فقد تعلق‬
‫به حق العامة ‪ ،‬فإذا امتنع املشرتى عن بيعه عند شدة حاجتهم إليه فقد منعهم حقهم ‪،‬‬
‫ومنع احلق عن املستحق ظلم وحرام ‪ ،‬يستوى ىف ذلك قليل املدة وكثريها ‪ ،‬لتحقق‬
‫‪24‬‬
‫الظلم ‪.‬‬
‫أدلة المذهب الثانى ‪:‬‬
‫استدل القائلون بكراهة االحتكار باآلتى ‪:‬‬
‫‪ - 1‬قصور الروايات الواردة ىف تعداد ما جيرى ىف االحتكار من ناحية السند والداللة ال‬
‫تقوى بالتحرمي ‪ ،‬كما ال تنتهض ألن تكون دليًال عليه ‪.‬‬
‫أجيب عن هذا ‪ :‬بأن الروايات غري قاصرة ىف داللتها على التحرمي لرتتبه على اللعن‬
‫والوعيد الوارد فيها كما أن االختالف ىف التعداد ال يعىن الكراهة دون حترمي ‪.‬‬
‫فضًال عن ذلك ‪ :‬فتصريح احلنفية بالكراهة على سبيل اإلطالق ينصرف إىل الكراهة‬
‫التحرميية وفاعل املكروة حترميًا عندهم يستحق العقاب ‪ ،‬كفاعل احلرام ‪2.‬‬
‫‪52‬‬
‫‪ -2‬أن الناس سلطون على أمواهلم وحترمي التصرف حجر عليهم ‪.‬‬
‫أجيب عن هذا ‪ :‬بأن حرية املالك ىف ملكه مطلقة ما مل يرتتب على ذلك إضرارًا باآلخرين‬
‫إذ ال ضرر وال ضرار ‪ ،‬والضرر يزال ‪ ،‬ودر املفاسد مقدم على جلب املصاحل ‪. 25‬‬

‫‪ 23‬املصدر السابق جـ‪ ، 2‬صـ‪. 474‬‬


‫‪ 24‬بدائع الصنائع ‪ :‬جـ‪ ، 3‬صـ‪ 129‬نقًال عن االحتكار والتسعري اجلربى للدكتور ‪ /‬حممد عبد الستار اجلباىل صـ‪. 14‬‬

‫‪ 25‬باختصار من حبث ‪ :‬االحتكار والتسعري اجلربى للدكتور ‪ /‬حممد عبد الستار اجلباىل صـ‪. 14‬‬
‫املذهب املختار ‪:‬‬
‫وبعد عرض مذاهب الفقهاء ىف حكم االحتكار وأدلة كل مذهب فإن جمموع األدلة‬
‫ترجح رأى مجهور الفقهاء القائل بتحرمي االحتكار وذلك لقوة أدلته وسالمتها من املناقشة‬
‫‪.‬‬
‫المطلب الثانى ‪ :‬الحكمة من تحريم االحتكار‬
‫يتفق الفقهاء على أن احلكمة ىف حترمي االحتكار رفع الضرر عن عامة الناس ‪ ،‬ولذا فقد‬
‫أمجع العلماء على أنه لو احتكر إنسان شيئًا ‪ ،‬واضطر الناس إليه ‪ ،‬ومل جيدوا غريه ‪ ،‬وأجرب‬
‫على بيعه ‪ ،‬دفعًا لضرر الناس ‪ ،‬وتعاونًا حصول العيش ‪. 26‬‬
‫وىف هذا املعىن يقول أفمام مالك رمحة اهلل ‪ " :‬احلكرة ىف كل شئ ىف السوق من الطعام‬
‫والزيت والكتان ومجيع األشياء والصوف ‪ ،‬وكل ما أضر بالسوق ‪ ...‬فإن كان ال يضر‬
‫بالسوق فال بأس بذلك " ‪. 27‬‬
‫المطلب الثالث ‪ :‬الموقف من المحتكر‪:‬‬
‫مذهب احلنفية ‪:‬‬
‫يقول اإلمام الكاساىن ىف بدائع الصنائع ‪:‬‬
‫" إن من أحكام االحتكار أن يؤكر احملتكر بالبيع إزالة للظلم لكن إمنا يؤمر ببيع ما فضل‬
‫عن قوته ‪ ،‬وقوت أهله ‪ ،‬فإن مل يفعل وأصر على االحتكار ورفق إىل اإلمام مرة أخرى‬
‫وهو مصر عليه فإن اإلمام يعظه ويهدده ‪ ،‬فإن مل يفعل ورفع إليه مرة ثالثة حيبسه ويعزره‬
‫زجرًا له عن سوء صنعه وال جيرب على البيع "‬
‫وقال حممد ‪ " :‬جيرب عليه ‪ ،‬وهذا يرجع إىل مسألة احلجر على احلر ألن اجلرب على البيع ىف‬
‫‪28‬‬
‫معىن احلجر "‬
‫ـ ‪ 53‬ـ‬
‫مذهب املالكية ‪:‬‬

‫‪ 26‬املوسوعة الفقهية الكويتية جـ ‪ ، 2‬صـ ‪ 91‬وما بعدها ‪.‬‬


‫‪ 27‬املدونة جـ ‪ ، 10‬صـ ‪ 123‬نقًال عن االحتكار والتسعري اجلربى صـ ‪. 16‬‬
‫‪ 28‬بدائع الصنائع ‪ :‬جـ ‪ ، 3‬صـ ‪. 129‬‬
‫يقول أبو الوليد الباجى ‪ :‬وإن احتكر شيئًا من ذلك ممن ال جيوز له احتكاره ‪ ،‬ففى كتاب‬
‫ابن مزين عن عيسى بن دينار أنه قال يتوب وخترجه إىل السوق ويبيعه من أهل احلاجة إليه‬
‫مبثل ما اشرتاه به ال يزداد فيه شيئًا ووجه ذلك أن املنع قد تعلق بشرائه حلق الناس وأهل‬
‫احلاجة ‪ ،‬فإذا صرفه إليهم مبثل ما كانوا يأخذونه أو حلني إبتياعه إياه ‪ ،‬فقد رجع عن فعله‬
‫املمنوع منه فإن مل يعلم فبسعره يوم احتكاره ‪ ،‬ووجه ذلك أنه ملا كان هذا الواجب عليه‬
‫‪29‬‬
‫فلم يفعله أجرب عليه وصرف احلق إىل مستحقه‬
‫مذهب الشافعية ‪:‬‬
‫يقول ابن حجر اهليثمى ‪ :‬أمجع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام واضطر إليه‬
‫الناس " جيرب على بيعه ‪ ،‬دفعًا للضرر عنه " ‪. 30‬‬
‫‪31‬‬
‫ويقول الرملى ‪ " :‬وجيرب من عنده زائد على ذلك بيعه ىف زمن الضرورة "‬
‫مذهب احلنابلة ‪:‬‬
‫يقول البهوتى ‪ " :‬وجيرب احملتكر على بيعه كما يبيع الناس دفعًا للضرر ‪ ،‬فإن أىب أن يبيع ما‬
‫احتكره من الطعام وضيق التلف حببسه عن الناس ‪ ،‬فرقه اإلمام على احملتاجني إليه ويردون‬
‫مثله عند زوال احلاجة "‪. 32‬‬
‫ويقول ابن القيم ‪ " :‬ومن أقبح الظلم أن يلزم الناس أال يبيعوا الطعام أو غريه من األصناف‬
‫إال ناس معروفون ‪ ،‬فال تباع تلك السلع إال هلم ‪ ،‬مث يبيعوهنا هم مبا يريدون ‪ ،‬فلو باع‬
‫غريهم ذلك منعوه ‪ ،‬وهذا ميكن تسميته احتكار الصنف " ‪. 33‬‬
‫ـ ‪ 54‬ـ‬
‫وعليه ميكن االستفادة من تفصيالت الفقهاء على النحو التاىل ‪:‬‬

‫‪ 29‬املنتقى جـ ‪ ، 17/ 5‬والقوانني الفقهية صـ ‪. 255‬‬


‫‪ 30‬الزواجر عند اقرتاف الكبائر جـ ‪ ، 1‬صـ ‪ 451‬طبعة دار احلديث بالقاهرة ‪.‬‬
‫‪ 31‬هناية احملتاج ‪ :‬جـ ‪ ، 3‬صـ ‪. 456‬‬
‫‪ 32‬كشاف القناع ‪ :‬جـ ‪ ، 3‬صـ ‪. 176‬‬
‫‪ 33‬الطرق احلكمية ىف السياسة الشرعية صـ ‪ 226‬نقًال عن موسوعة الفقة اإلسالمى جـ‪ ، 3‬صـ ‪ 199‬إصدار اجمللس األعلى للشئون اإلسالمية بالقاهرة ‪.‬‬
‫أوًال ‪ :‬إذا خيف الضرر على العامة ‪ ،‬أجرب ‪ ،‬بل أخذ منه ما احتكره ‪ ،‬وباعه ‪ ،‬وأعطاه‬
‫املثل عند وجوده ‪ ،‬أو قيمته ‪ ،‬وهذا قدر متفق عليه بني األئمة ‪ ،‬وال يعلم خالل ىف ذلك ‪.‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬إذا مل يكن هناك خوفا على العامة فاملالكية والشافعية واحلنابلة وحممد بن احلسن من‬
‫احلنفية يرون أن للحاكم جربه إذا مل ميتثل األمر بالبيع ‪ ،‬وأما أبو حنيفة وأبويوسف فرييان‬
‫أنه‬
‫ال جيرب على البيع ‪ ،‬وإمنا إذا امتنع عن البيع عزره احلاكم ‪ ،‬وعند من يرى اجلرب فمنهم من‬
‫يرى اجلرب بدئ ذى بدئ ‪ ،‬ومنهم من يرى اإلنذار من قبل ‪ ،‬وقيل اثنني ‪ ،‬وقيل ثالثًا ‪.34‬‬
‫ثالثًا ‪ :‬تعزيز احلاكم للمحتكر عند االمتناع عن البيع مبا يراه زاجرًا له ودافعًا للضرر عن‬
‫الناس‪.‬‬
‫رابعًا ‪ :‬مشروعية تأديب احملتكر ولو بإحراق أمواله احملتكرة ‪.‬‬
‫خامسًا ‪ :‬سياسة احلكام ىف اختاذ ما يرونه نافعًا لتحقيق الصاحل العام ومقاومة البغى‬
‫والفساد ‪ ،‬خيتلف باختالف اعتبارات كثرية ‪ ،‬وهذا يؤكد أن اإلسالم قد جاء بإصالح‬
‫يوافق مصلحة البشر ىف كل زمان ومكان ‪. 35‬‬
‫ما يجرى فيه االحتكار‬
‫اختلف الفقهاء فيما جيرى فيه االحتكار على ثالثة مذاهب كاآلتى ‪:‬‬
‫املذهب األول ‪ :‬أن احملرم إمنا هو احتكار األقوات خاصة وممن قال هبذا الشافعية ‪، 36‬‬
‫ومجهور احلنابلة ‪. 37‬‬
‫املذهب الثاىن ‪ :‬جيرى االحتكار ىف كل ما حيتاجه الناس ويتضررون حببسه حيث قرار من‬
‫قال هبذا الرأى أن كل ما ينفع املسلمني ‪ ،‬وحيصل حببسه األذى فإن احتكاره إمث غري‬
‫مشروع وهبذا قال املالكية ‪ ،‬والظاهرية ‪ ،‬وبه قال أبويوسف من احلنفية ‪ ،‬والشوكاىن ‪،‬‬
‫والصنعاىن ‪.38‬‬

‫‪ 34‬املوسوعة الفقهية الكويتية جـ ‪ ، 2‬صـ ‪. 95‬‬


‫‪ 35‬االحتكار والتسعري اجلربى للدكتور ‪ /‬حممد عبد الستار اجلباىل صـ ‪ 20‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪ 36‬املهذب ‪ ، 1/387‬وشرح النووى على صحيح مسلم ‪ ، 11/36‬البيان للعمراىن ‪ ، 2/104‬وإحياء علوم الدين ‪. 2/105‬‬
‫‪ 37‬املغىن ‪ ، 5/275‬شرح منتهى اإلرادات ‪ ، 2/159‬الروض املربع صـ ‪. 254‬‬
‫‪ 38‬امللتقى جـ ‪ ، 5/16‬املدونة جـ ‪ ، 10/123‬احمللى جـ ‪ ، 65-19/64‬نيل الوطار للشوكاىن جـ ‪ ، 5‬صـ ‪ ، 267‬سبل السالم للصنعاىن جـ ‪ ، 3‬صـ ‪44‬‬
‫ـ ‪ 55‬ـ‬
‫املذهب الثالث ‪ :‬جيرى االحتكار ىف قوت اآلدمى فقط ‪ ،‬وهبذا الرأى ذهب احلنابلة ىف‬
‫الصحيح من املذهب ‪. 39‬‬

‫‪39‬‬

‫ـ ‪56‬‬

‫الشروط في عقد النكاح‬


‫متهيد‪ :‬املراد بالشروط‪:‬‬
‫الشرط في اللغة‪« :‬إلزام الشيء والتزامه يف البيع وحنوه»()‪ ،‬كاشرتاط املرأة على زوجها‬
‫أن ال ينقلها من بلدها‪ ،‬وال مينعها من عملها‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫والشرط عند األصوليني ما يلزم من عدمه العدم‪ ،‬وال يلزم من وجوده وجود وال عدم‬
‫لذاته‪،‬‬
‫ومثاله الوضوء‪ ،‬فإنه شرط يف صحة الصالة‪ ،‬فإذا مل يوجد الوضوء فإن الصالة ال تصح‪،‬‬
‫وإذا وجد فال تلزم به الصالة‪ ،‬كمن توضأ بعد صالة العشاء‪.‬‬
‫والشرط قد يكون مشرتطًا من الشارع‪ ،‬وقد يشرتطه أحد العاقدين‪ ،‬وحبثنا هنا فيما‬
‫يشرتطه أحد العاقدين على العاقد اآلخر‪.‬‬
‫والشروط اليت عليها مدار البحث هي الشروط املقرتنة بالعقد‪ ،‬أو السابقة عليه املرتبطة به‪.‬‬
‫أنواع الشروط يف النكاح‪:‬‬
‫والشروط التي يتصور اشتراطها في العقد ثالثة أنواع‪:‬‬
‫األول‪ :‬الشروط املوافقة ملقصود عقد النكاح ومقصد الشارع‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الشروط املنافية ملقصود العقد أو املخالفة ملا نَّص عليه الشارع وألزم به‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الشروط اليت مل يأمر الشارع هبا ومل ينه عنها‪ ،‬ويف اشرتاطها مصلحة ألحد‬
‫الطرفني‪.‬‬
‫وسنبين في هذا المبحث حكم كل واحد من هذه األنواع الثالثة‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬الشروط الموافقة لمقصود العقد ولما أمر الشارع به‪:‬‬
‫اتفق أهل العلم على صحة هذا النوع من الشروط‪ ،‬كاشرتاط الزوجة العشرة باملعروف‪،‬‬
‫واإلنفاق والكسوة والسكىن‪ ،‬وأن يعدل بينها وبني ضرائرها‪ ،‬أو أن يشرتط عليها أال خترج‬
‫إال بإذنه‪ ،‬وال متنعه نفسها‪ ،‬وأال تتصرف مباله إال برضاه‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬الشروط التي تنافي مقصد عقد النكاح أو التي تخالف ما شرعه اهلل‪:‬‬
‫اتفق أهل العلم على عدم صحة الشروط اليت ختالف ما أمر اهلل به أو هنى عنه‪ ،‬أو ختل‬

‫ـ ‪ 57‬ـ‬
‫مبقصود النكاح األصلي‪.‬‬
‫ومن هذه الشروط أن تشرتط املرأة على زوجها أال تطيعه‪ ،‬أو أن خترج من غري إذنه‪ ،‬أو‬
‫أال يقسم لضرائرها‪ ،‬وال ينفق عليهن‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬أو يشرتط عليها أال مهر هلا‪.‬‬
‫ومثل ذلك أن تشرتط عليه ما ينايف املقصود األصلي للنكاح‪ ،‬وهو املعاشرة الزوجية()‪،‬‬
‫كأن تشرتط عليه أن ال يطأها‪ ،‬أو يطأها يف العمر أو يف العام مرة واحدة‪ ،‬فإن هذه‬
‫الشروط ال جتوز حبال‪.‬‬
‫حكم العقود التي اشترط فيها الشروط الفاسدة‪:‬‬
‫اتفق أهل العلم على بطالن الشروط الفاسدة‪ ،‬واختلفوا يف إبطال هذه الشروط للعقود اليت‬
‫اشرتطت فيها‪.‬‬
‫‪ -1‬فذهب مجع من أهل العلم على بطالن العقود اليت اشرتطت فيها‪.‬‬
‫‪ -2‬وذهب احلنفية إىل أن الشروط الفاسدة ال تبطل النكاح إال إذا اشرتطت التأقيت يف‬
‫العقد‪ ،‬يقول الكاساين‪« :‬النكاح املؤبد الذي ال توقيت فيه ال تبطله الشروط الفاسدة»()‪.‬‬
‫وعلى ذلك فإن األنكحة املنهي عنها عند احلنفية صحيحة كنكاح الشغار ونكاح التحليل‬
‫إذا أبطلت منها الشروط الفاسدة‪ ،‬وال يفسد من األنكحة املشرتط فيها شرط فاسد إال‬
‫نكاح املتعة والنكاح املؤقت‪.‬‬
‫‪ -3‬وذهب مجع من أهل العلم منهم الشافعية واحلنابلة إىل أن «من شروط النكاح ما‬
‫يبطل الشرط ويصح العقد‪ ،‬ومنها ما يبطل العقد من أصله»()‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬الشروط الجائزة‪:‬‬
‫وهي الشروط اليت ال تنايف مقصود النكاح‪ ،‬وال ختالف ما قرره الشرع‪ ،‬مثل أن يشرتط‬
‫على الزوج أال خيرجها من دارها‪ ،‬أو بلدها‪ ،‬أو ال يسافر هبا‪ ،‬أو ال يتزوج عليها‪ ،‬أو‬
‫تستمر يف عملها الذي تبيحه الشريعة وحنو ذلك‪.‬‬
‫مذاهب العلماء يف املسألة‬
‫اختلف العلماء في هذا النوع من الشروط على ما يلي‪:‬‬

‫ـ ‪ 58‬ـ‬
‫‪ -1‬فذهب احلنابلة إىل القول بصحتها ووجوب الوفاء هبا‪ ،‬فإن مل يِف املشرتط عليه هبا‬
‫فإن للطرف اآلخر حق فسخ النكاح()‪.‬‬
‫‪ -2‬وذهب مجهور العلماء إىل بطالن هذه الشروط‪.‬‬
‫أسباب اختالف العلماء يف هذه املسألة ‪:‬‬
‫يعود اختالف العلماء في هذه المسألة إلى عدة أسباب‪:‬‬
‫السبب األول‪ :‬اختالفهم في الشروط في العقود هل األصل فيها الحظر أم اإلباحة؟‬
‫فالذين صححوا هذا النوع من الشروط قالوا‪ :‬األصل يف الشروط اإلباحة‪ ،‬فال حيظر منها‬
‫إال ما جاءت النصوص دالة على بطالنه‪ ،‬والذين أبطلوها قالوا‪ :‬األصل فيها احلظر إال ما‬
‫جاءت النصوص مبيحة له‪.‬‬
‫والذي حققه شيخ اإلسالم أن األصل يف العقود والشروط عدم التحرمي‪ ،‬ألهنا من باب‬
‫األفعال العادية‪ ،‬فيستصحب فيها عدم التحرمي حىت يدل دليل على التحرمي‪ ،‬كما أن‬
‫األصل يف األعيان عدم التحرمي‪.‬‬
‫وقرر رمحه اهلل أنه مل يرد يف الشرع ما يدل على حترمي جنس العقود والشروط‪ ،‬فإذا انتفى‬
‫دليل التحرمي‪ ،‬دّل على عدم التحرمي‪.‬‬
‫وقرر أن غالب ما يستدل به على أن األصل يف األعيان عدم التحرمي من النصوص العامة‬
‫واألقيسة الصحيحة واالستصحاب العقلي يستدل به على عدم حترمي العقود والشروط‬
‫فيها()‪.‬‬
‫وقد بنّي رمحه اهلل تعاىل أن النصوص من الكتاب والسّنة قد دلت على إباحة العقود‬
‫والشروط فيها‪ ،‬ومل تأت حمرمة هلا‪ ،‬إال إذا كان املشروط خمالفًا لكتاب اهلل وشرطه‪ ،‬فإذا‬
‫كان الشرط خمالفًا لكتاب اهلل وشرطه كان الشرط باطًال()‪.‬‬
‫وأورد من الكتاب والسّنة كثيرًا من النصوص اآلمرة بالوفاء بالعهود والشروط واملواثيق‬
‫والعقود‪ ،‬وأداء األمانة‪ ،‬والناهية عن الغدر ونقض العهود واخليانة()‪.‬‬

‫ـ ‪ 59‬ـ‬
‫فمن األحاديث اليت أوردها حديث الصحيحني الذي يقول فيه الرسول ﷺ‪( :‬أربع‬
‫من كّن فيه كان منافقًا خالصًا) ويف احلديث (وإذا وعد أخلف)‪ ،‬وأورد كثريًا من‬
‫األحاديث احملرمة للغدر‪ .‬وحديث الصحيحني (إن أحق الشروط أن تفوا به ما استحللتم‬
‫به الفروج)‪.‬‬
‫وقد خلص إىل القول بعد إيراده لتلك النصوص‪« :‬إذا كان الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به‬
‫علم أن األصل صحة العقود والشروط‪ ،‬إذ ال معىن للتصحيح إال ما ترتب عليه أثره‪،‬‬
‫وحصل به مقصوده‪ ،‬ومقصود العقد هو الوفاء به‪ .‬فإذا كان الشارع قد أمر مبقصود‬
‫العهود دّل أن األصل فيها الصحة واإلباحة»()‪.‬‬
‫السبب الثاني‪ :‬اختالف أهل العلم في فقه قوله ﷺ ‪( :‬ما بال رجال يشترطون‬
‫شروطًا ليست في كتاب اهلل؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب اهلل فهو باطل‪ ،‬شرط‬
‫اهلل أحق وأوثق)‪.‬‬
‫وهذا املقال من الرسول ﷺ نص خطبة خطبها ﷺ يف أصحابه‪ ،‬وكان سبب‬
‫مقاله هذا أن عائشة رضي اهلل عنها أرادت أن تشرتي أمة تدعى بريرة لتعتقها‪ ،‬فأىب أهلها‬
‫بيعها إال أن يكون والؤها هلم‪ ،‬فقال الرسول ﷺ هلا‪« :‬اشرتيها فأعتقيها‪ ،‬فإمنا‬
‫الوالء ملن أعتق»‪ ،‬مث قام يف الصحابة‪ ،‬وخطب فيهم مبا ذكرته أوًال()‪.‬‬
‫فقه الذين أبطلوا الشروط للحديث‪:‬‬
‫قال ابن عبدالرب‪« :‬احتج من مل يَر الشروط شيئًا حبديث عائشة‪ ،‬أن رسول اهلل ﷺ‬
‫قال‪( :‬كل شرط ليس يف كتاب اهلل عز وجل فهو باطل)‪ .‬ومعىن قوله هنا‪( :‬يف كتاب اهلل)‬
‫أي‪ :‬يف حكم اهلل‪ ،‬وحكم رسوله‪ ،‬أو يف ما دّل عليه الكتاب والسّنة فهو باطل‪.‬‬
‫والله قد أباح نكاح أربع نسوة من الحرائر‪ ،‬وما شاء مما ملكت أيمانكم‪ ،‬وأباح له أن‬
‫يخرج بامرأته حيث شاء‪ ،‬وينتقل بها حيث انتقل‪ ،‬وكل شرط يخرج المباح باطل»()‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فالشروط والعقود اليت مل تشرع َتَعٍّد حلدود اهلل‪ ،‬وزيادة يف الدين»()‪.‬‬
‫فقه الذين أجازوا الشروط للحديث‪:‬‬
‫والذين ذهبوا إىل تصحيح الشروط اجلائزة يف العقود فهموا من قول الرسول ﷺ ‪:‬‬
‫(من اشرتط شرطًا ليس يف كتاب فهو باطل) أحد وجهني‪:‬‬
‫ـ ‪ 60‬ـ‬
‫‪( -1‬ليس يف كتاب اهلل) أي‪ :‬ليس فيه نفيه‪ ،‬فإن كان يف كتاب اهلل حترميه وإبطاله فهو‬
‫شرط باطل‪ ،‬وإن مل يوجد يف كتاب اهلل ما يدل على بطالنه فإنه يكون صحيحًا‪.‬‬
‫‪ -2‬املراد بكونه يف كتاب اهلل‪ ،‬أي‪ :‬أن الشارع أباحه‪ ،‬فإن كان املشروط فعًال أو حكمًا‬
‫أباحه اهلل جاز اشرتاطه‪ ،‬ووجب بذلك الشرط‪ ،‬وإن مل يبحه اهلل مل جيز اشرتاطه‪.‬‬
‫فاشرتاط املرأة وأوليائها على الزوج عدم السفر هبا‪ ،‬وأن يسكنها يف دويرة أهلها‪ ،‬وأن‬
‫تعمل فيما جيوز عملها فيه شروط صحيحة‪ ،‬فكتاب اهلل يبيح السفر بالزوجة وعدمه‪،‬‬
‫ويبيح هلا أن تسكن يف دويرة أهلها وأن تنتقل منها‪ ،‬ويبيح هلا العمل إذا حتققت شروطه()‪.‬‬
‫القول الراجح يف املسألة‪:‬‬
‫القول الراجح هو صحة الشروط الجائزة في عقد النكاح‪ ،‬ويدل على صحة هذا‬
‫القول أمور‪:‬‬
‫‪ -1‬قوله ﷺ فيما رواه عنه عقبة بن عامر اجلهين‪( :‬أحق ما أوفيتم من الشروط أن‬
‫توفوا به ما استحللتم به الفروج) ()‪ .‬وهذا يدل على أن الوفاء بالشروط يف النكاح أوىل‬
‫منها يف البيع‪.‬‬
‫قال ابن حجر يف شرحه‪« :‬أحُّق الشروط بالوفاء شروط النكاح‪ ،‬ألن أمره أحوط وبابه‬
‫أضيق»()‪.‬‬
‫‪ -2‬واستدلوا بالنصوص اليت أجازت مثل هذه الشروط يف غري النكاح‪ ،‬فالعقود باب‬
‫واحد‪ ،‬ويف كتب السّنة عدة أحاديث ثبت فيها أن الرسول ﷺ أجاز فيها االشرتاط‬
‫يف العقود‪ ،‬ومن هذه األحاديث قوله ﷺ ‪( :‬من باع خنًال قد أبرت‪ ،‬فثمرهتا للبائع‬
‫إال أن يشرتط املبتاع) رواه البخاري()‪.‬‬
‫فلو كان الشرط ال يصح فإن املبتاع ال جيوز له اشرتاط الثمر‪.‬‬
‫وروى البخاري أن جابر بن عبداهلل باع للرسول ﷺ مجله الذي كان يركبه‪،‬‬
‫وشرط ظهره إىل املدينة()‪ ،‬ولو كان الشرط باطًال ملا رضي الرسول ﷺ بشرط‬
‫جابر‪.‬‬
‫وقد ترجم البخاري على بعض األحاديث الدالة على جواز الشروط بقوله‪« :‬باب ما جيوز‬
‫من الشروط يف اإلسالم واألحكام واملبايعة»()‪.‬‬
‫ـ ‪ 61‬ـ‬
‫‪ -3‬واحتج ابن تيمية على صحة الشروط بقوله ﷺ ‪( :‬الصلح جائز بني املسلمني‬
‫إال صلحًا حرم حالًال‪ ،‬وأحَّل حرامًا‪ ،‬واملسلمون على شروطهم إال شرطًا حرم حالًال‪ ،‬أو‬
‫أحَّل حرامًا) رواه الرتمذي‪ .‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح()‪.‬‬
‫‪ -4‬ويدل على صحة هذا القول أنه الفقه الذي فقهه الصحابة‪ ،‬وأفتوا وحكموا به‪ .‬ففي‬
‫صحيح البخاري تعليقًا عن ابن عمر أو عمر «كل شرط خالف كتاب اهلل فهو باطل‪،‬‬
‫وإن اشرتط مائة شرط»()‪.‬‬
‫ويف الصحيح عن عمر بن اخلطاب ‪ ‬تعليقًا‪« :‬إن مقاطع احلقوق عند الشروط‪ ،‬ولك ما‬
‫شرطت»()‪.‬‬
‫واحلديث عن عمر وصله عبدالرزاق يف مصنفه عن أيوب عن إمساعيل بن عبيد اهلل عن‬
‫عبدالرمحن بن غنم قال‪« :‬شهدت عمر بن اخلطاب‪ ،‬واختصم إليه يف امرأة شرط هلا‬
‫زوجها أن ال خيرجها من دارها‪ .‬قال عمر‪ :‬هلا شرطها‪ ،‬قال رجل‪ :‬ألن كان هكذا ال‬
‫تشاء امرأة تفاق زوجها إال فارقته‪ ،‬فقال عمر‪ :‬املسلمون عند مشارطهم‪ ،‬عند مقاطع‬
‫حقوقهم»()‪.‬‬
‫وذكره ابن عبدالبر باإلسناد نفسه‪ ،‬ولفظه‪« :‬والمسلمون عند شروطهم‪ ،‬ومقاطع احلقوق‬
‫عند الشروط»()‪.‬‬
‫وخالصة القول في المسألة أن الشروط تكون باطلة فاسدة ألحد أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬منافاهتا حلكم اهلل وشرعه‪ ،‬كاشرتاط الوالء لغري املعتق‪ ،‬فهذا الشرط ال ينايف‬
‫مقصود العقد وال مقتضاه‪ ،‬وإمنا ينايف كتاب اهلل وشرطه‪ ،‬فالذي يف حكم اهلل وشرعه أن‬
‫الوالء ملن أعتق‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬منافاة الشرط ملقاصد العقد كمن عقد على زوجه واشرتطت عليه الطالق‪ ،‬فهذا‬
‫الشرط يناقض مقصود العقد‪ ،‬ويصبح العقد به لغوًا‪.‬‬
‫فإذا مل يشتمل الشرط على واحد من هذين األمرين‪ ،‬فال وجه لتحرميه‪ ،‬ألنه عمل مقصود‬
‫للناس‪ ،‬حيتاجون إليه‪ ،‬إذ لوال حاجتهم إليه مل يفعلوه()‪.‬‬
‫ـ ‪ 62‬ـ‬

‫حكم الشروط المقترنة بالعقود في الفقه اإلسالمي‬


‫نعمان بن مبارك جغيم‬

‫حبث منشور يف جملة احلكمة‪ ،‬عدد ‪1998 ،16‬م‬


‫الشرط قد يكون مشرتطًا من الشارع‪ ،‬وقد يشرتطه أحد العاقدين‪ ،‬وحبثنا هنا فيما يشرتطه‬
‫أحد العاقدين على العاقد اآلخر‪.‬‬
‫أوال ‪ :‬مذهب المضيقين‬
‫األصل عند أصحاب هذا املذهب يف العقود والشروط احلظر إال ما ورد نص شرعي‬
‫بإجازته‪ ،‬وهذا قول أهل الظاهر‪ ،‬فال يصححون عقدا وال شرطا إال ما ثبت جوازه بنص‬
‫أو إمجاع‪ ،‬وإذا مل يثبت جوازه بنص أو إمجاع أبطلوه واستصحبوا احلكم األصلي الذي‬
‫قبله وهو املنع‪ .‬وقد اعتمدوا يف أصلهم هذا على أدلة أمهها قوله عليه السالم يف قصة بريرة‬
‫‪ ... " :‬ما بال رجال يشرتطون شروطا ليست يف كتاب اهلل ‪ ،‬ما كان من شرط ليس يف‬
‫كتاب اهلل فهو باطل‪ ،‬وإن كان مائة شرط‪ ،‬قضاء اهلل أحق وشرط اهلل أوثق ‪" .‬‬
‫فكل شرط ليس يف القرآن وال يف احلديث وال يف اإلمجاع فليس يف كتاب اهلل وبالتايل فهو‬
‫باطل ؛ ألن اشرتاط شرط ليس يف كتاب اهلل َتَعّد حلدود اهلل وزيادة يف الدين ‪ ،‬واهلل تعاىل‬
‫يقول‪ " :‬اليوم أكملت لكم دينكم " ( املائدة ‪ ) 3/‬ويقول‪" :‬ومن يتعد حدود اهلل فقد‬
‫ظلم نفسه " (الطالق ‪.)1/‬‬
‫وقد اعرتض مجهور الفقهاء على استدالهلم هذا بأن الشرط إذا دل على صحته القياس‬
‫املدلول عليه بالكتاب والسنة واإلمجاع فهو يف كتاب اهلل فيصح اشرتاطه‪ ،‬وأن املراد بقوله‬
‫" ليس يف كتاب اهلل " أنه خمالف ملا يف كتاب اهلل‪ ،‬وهذا نتفق على بطالنه ‪ ،‬أما إذا مل‬
‫يكن خمالفا ملا يف كتاب اهلل فال يكون داخال ضمن قوله "ليس يف كتاب اهلل "‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬مذهب المتوسطين‬
‫ـ ‪ 63‬ـ‬
‫وهم أصحاب نظرية مقتضى العقد ‪ ،‬واملراد مبقتضى العقد جمموعة االلتزامات اليت‬
‫يستلزمها العقد ‪ ،‬فيعترب العاقد مكلفا هبا دون حاجة إىل اشرتاطها عليه صراحة من قبل‬
‫العاقد اآلخر ‪ ،‬حيث نظمها الشارع آثارا للعقد الذي ينشئها حبسب احلاجة‪ ،‬حتقيقا‬
‫للتوازن الواجب الرعاية بني العاقدين يف احلقوق والواجبات فيستغين العاقدان عن ذكر‬
‫هذا النوع من االلتزامات يف كل عقد‪ ،‬اعتمادا على ما هو مقرر يف النصوص الشرعية‪.‬‬
‫ومثال ذلك التزام البائع بتسليم املبيع وبضمان العيب‪ ،‬والتزام املشرتي بدفع الثمن يف عقد‬
‫البيع ‪ ،‬وكالتزام املؤجر بتسليم العني املؤجرة‪ ،‬والتزام املستأجر بدفع األجرة ‪ ،‬وبعدم‬
‫التعدي على املأجور يف عقد اإلجارة‪ ،‬وغريها من االلتزامات اليت ينشئها كل عقد حبسب‬
‫احلاجة ‪.‬‬
‫وقد اعتمدوا يف مذهبهم هذا على مجلة أدلة وضوابط ميكن تلخيصها يف اآليت‪:‬‬
‫‪ -‬حديث النهي عن بيع وشرط ‪ :‬عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول‬
‫اهلل هنى عن بيع وشرط‬
‫‪ -‬حديث النهي عن صفقتني يف صفقة‪ ،‬والتزام مبدأ وحدة الصفقة‪ ،‬وستأيت اإلشارة إليه‪.‬‬
‫‪ -‬فساد كل شرط أدى إىل الربا أو إىل شبهة الربا‬
‫‪ -‬قياس سائر الشروط اليت تنايف مقتضى العقد على اشرتاط الوالء يف قصة بريرة؛ ألن‬
‫العلة فيه كونه خمالفا ملقتضى العقد‪ ،‬وذلك ألن العقود توجب مقتضياهتا بالشرع ‪ ،‬فإرادة‬
‫تغيري مقتضياهتا تغيٌري ملا أوجبه الشرع وهو مبنزلة تغيري العبادات‪ ،‬فالعقود عندهم مشروعة‬
‫على وجه‪ ،‬واشرتاط ما خيالف مقتضاها تغيري للمشروع ‪.‬‬
‫وهذا االجتاه ميكن أن ندخل فيه املذاهب الثالثة‪ :‬احلنفية‪ ،‬والشافعية‪ ،‬واملالكية‪ ،‬حيث‬
‫جتمعهم نظرية مقتضى العقد ومنع بيع وشرط ‪ ،‬وإن كانوا ليسوا على مرتبة واحدة ‪.‬‬
‫فاحلنفية أكثرهم متسكا بنظرية مقتضى العقد‪ ،‬حيث القياس عندهم فساد كل الشروط ما‬
‫عدا الشرط الذي يقتضيه العقد ‪ ،‬ومل جييزوا الشرط املالئم للعقد والذي جرى به التعامل‬
‫بني الناس إال على سبيل االستحسان‪ ،‬ومنعوا كل بيع وشرط إال شرطا يقتضيه العقد‪ .‬مث‬
‫الشافعية وهم أكثر مرونة وتوسعا منهم‪ ،‬فمع متسكهم مبنع بيع وشرط ومنع تعدد الصفقة‬
‫إال أهنم اعتربوا الشرط الذي فيه مصلحة للعقد‪ ،‬والشرط الذي تدعو احلاجة إليه غري‬
‫خمالف لنظرية مقتضى‬
‫ـ ‪ 64‬ـ‬
‫العقد‪ ،‬وإن مل يكن من مقتضاه‪ ،‬ومل جيوزوه استثناء بل على أنه أصل قائم بذاته‪ .‬مث‬
‫املالكية وهم أكثر مرونة من احلنفية والشافعية‪ ،‬حيث جعلوا األصل يف الشروط الصحة‪،‬‬
‫فصححوا كل شرط يقتضيه العقد‪ ،‬وكل شرط ال يناقض مقتضى العقد‪ ،‬كالشرط املالئم‬
‫للعقد‪ ،‬والشرط الذي جرى به التعامل‪ ،‬والشرط الذي فيه منفعة معقولة ألحد العاقدين‪،‬‬
‫وإن مل يكن العقد يقتضيه وال يالئمه ‪ ،‬ما دام الشرط نفسه ال يناقض مقتضى العقد‪ ،‬وال‬
‫يكون الشرط عندهم فاسدا إال يف موضعني ‪ :‬إذا كان مناقضا ملقتضى العقد‪ ،‬أو كان خمال‬
‫بالثمن‪ ،‬ومحلوا حديث النهي عن بيع وشرط على الشرط الذي يناقض مقتضى العقد أو‬
‫خيل بالثمن‬
‫ثالثا ‪ :‬مذهب الموسعين‬
‫وميثله احلنابلة‪ ،‬واألصل عندهم يف العقود والشروط اجلواز والصحة وال حيرم منها وال‬
‫يبطل إال ما دل على حترميه وإبطاله نص أو إمجاع أو قياس صحيح‪ .‬وأصول اإلمام أمحد‬
‫جتري على هذا األصل ‪ ،‬فما يصححه اإلمام أمحد من عقود وشروط فيه تنبيه بدليل خاص‬
‫من أثر أو قياس ‪ ،‬وال يعارض ذلك بكونه شرطا خيالف مقتضى العقد أو مل يرد به نص ‪.‬‬
‫وجيوز أمحد اشرتاط قدر زائد على مقتضى العقد ‪ ،‬واستثناء بعض منفعة اخلارج من ملكه‬
‫يف مجيع العقود ما مل يتضمن خمالفة للشرع ‪ ،‬فيجوز للبائع أن يستثين بعض املبيع ‪ ،‬كبيع‬
‫الدار بشرط سكناها مدة معلومة وحنوها إذا كانت تلك املنفعة مما جيوز استيفاؤها يف ملك‬
‫الغري‪ ،‬وذلك اعتمادا على حديث جابر ملا باع النيب عليه السالم مجال واستثىن ظهره إىل‬
‫املدينة ‪.‬‬
‫واستدل أصحاب هذا املذهب على أصلهم هذا باألدلة التالية‪:‬‬
‫‪ -‬عموم اآليات اليت تأمر بالوفاء بالعقود والعهود ‪ ،‬ومنها قوله تعاىل‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا‬
‫أوفوا بالعقود " (املائدة ‪ ، )1 /‬وقوله تعاىل‪{ :‬وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئوال}‬
‫(اإلسراء‪ ، )34 /‬وقوله‪ " :‬وبعهد اهلل أوفوا " ( األنعام ‪ ،) 152/‬فقد أمرنا اهلل سبحانه‬
‫بالوفاء بالعقود وهذا عام‪ ،‬وأمرنا بالوفاء بعهد اهلل وبالعهد وقد دخل يف ذلك ما عقده‬
‫املرء على نفسه وإن مل يكن اهلل قد أمر بنفس تلك العهود‪.‬‬
‫‪ -‬عموم أحاديث النهي عن الغدر ‪ :‬كحديث آيات املنافق ومنها ‪ ... " :‬وإذا عاهد‬
‫غدر‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ، "...‬وقوله " ينصب لكل غادر لواء عند أسته يوم القيامة " ويف‬
‫رواية "‬
‫ـ ‪ 65‬ـ‬
‫لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته‪ ،‬أال وال غادر أعظم من أمري‬
‫عامة ‪ ".‬وغريها من األحاديث اليت تذم الغدر والغادرين‪ ،‬ومن شرط شرطا مث نقضه فقد‬
‫غدر ‪.‬‬
‫‪ -‬قوله عليه السالم‪" :‬أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج"‪ ،‬فدل على‬
‫استحقاق الشروط الوفاء هبا ‪ ،‬وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غريها‪.‬‬
‫‪ -‬قوله " ‪:‬الصلح جائز بني املسلمني إال صلحا حرم حالال أو أحل حراما‪ ،‬واملسلمون‬
‫على شروطهم إال شرطا حرم حالال أو أحل حراما "‪.‬‬
‫أساس الخالف بين الفقهاء في الشروط‬
‫األصول اليت يدور عليها اختالف الفقهاء يف مسألة الشروط مجلة أحاديث منها الصحيح‬
‫ومنها الضعيف ‪ ،‬ومنها املتفق على معناه ومنها املختلف فيه‪ ،‬وسبب اخلالف راجع إما‬
‫لالختالف يف تصحيح األحاديث‪ ،‬أو يف الرتجيح بينها‪ ،‬أو يف تفسري معاين بعضها‪ .‬وأهم‬
‫هذه األحاديث ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬ما روته عائشة يف حديث بريرة رضي اهلل عنهما حيث قال عليه السالم "‪...‬ما بال‬
‫رجال يشرتطون شروطا ليست يف كتاب اهلل؟ ما كان من شرط ليس يف كتاب اهلل فهو‬
‫باطل‪ ،‬وإن كان مائة شرط‪ ،‬قضاء اهلل أحق‪ ،‬وشرط اهلل أوثق‪ ،‬وإمنا الوالء ملن أعتق"‪ .‬هذا‬
‫احلديث هو عمدة الظاهرية يف إبطال مجيع الشروط اليت مل يرد فيها نص من كتاب أو سنة‬
‫بتفسريهم نص "ما كان من شرط ليس يف كتاب اهلل فهو باطل" أضيق تفسري‪ ،‬أما‬
‫املتوسطون فقد اعتمدوا على هذا احلديث أيضا‪ ،‬لكن من جانب آخر‪ ،‬وهو جانب‬
‫مقتضى العقد‪ ،‬إذ عللوا فساد شرط الوالء الذي ُش رط على عائشة مبخالفته ملقتضى العقد‪،‬‬
‫مث قاسوا عليه بعد ذلك كل شرط خالف مقتضى العقد فحكموا عليه بالبطالن‪ ،‬وقد‬
‫خيتلفون بعد ذلك يف تفاصيل الشروط‪ :‬ما يعترب منها خمالفا ملقتضى العقد‪ ،‬وما ال يعترب‬
‫كذلك‪ .‬أما احلنابلة فمع موافقتهم ملذهب املتوسطني يف تعليل إبطال شرط الوالء يف‬
‫احلديث مبناقضته ملقتضى العقد إال أهنم توسعوا يف تفسري مقتضى العقد‪ ،‬وجعلوا مصلحة‬
‫العاقدين من مصلحة العقد نفسه‪.‬‬

‫ـ ‪ 66‬ـ‬
‫‪ -‬ما رواه أبو حنيفة عن عمرو بن شعيب أن رسول اهلل هنى عن بيع وشرط ‪ .‬هذا‬
‫احلديث هو عمدة اإلمام أيب حنيفة رمحه اهلل‪ ،‬وعليه مدار مذهبه يف الشروط مع حديث‬
‫النهي عن صفقتني يف صفقة‪ ،‬فمنع كل بيع وشرط إذا مل يكن الشرط مما يقتضيه العقد‬
‫وكانت فيه منفعة زائدة ألحد العاقدين أو لغريمها‪ ،‬وبه جعل احلنفية األصل يف الشروط‬
‫املقارنة للبيع الفساد‪ ،‬ومل يستثنوا منها إال ما اسُتثيِن بنص أو استحسان‪ ،‬يقول الكاساين‪:‬‬
‫"‪...‬أن رسول اهلل هنى عن بيع وشرط‪ ،‬والنهي يقتضي فساد املنهي فيدل على فساد كل‬
‫بيع وشرط إال ما خص من عموم النص "‪ ،‬وقريب منه مذهب الشافعي‪ .‬أما املالكية فمع‬
‫عملهم هبذا احلديث إال أهنم مل يأخذوه على إطالقه‪ ،‬بل نظروا فجدوا آثارا صحيحة قد‬
‫وردت جبواز اجتماع بيع وشرط‪ ،‬فصارت معارضًة هلذا احلديث‪ ،‬باإلضافة إىل كوهنا‬
‫أصح منه‪ ،‬ففسروا الشرط املنهي عن اجتماعه مع بيع بالشرط الذي يناقض مقتضى العقد‬
‫ومقصوده‪ ،‬أما اإلمام أمحد فلم يصحح هذا احلديث‪ ،‬وبالتايل مل يعمل به‪ ،‬وصح عنده ما‬
‫يعارضه وهو حديث النهي عن شرطني يف بيع‪ ،‬فمنع اجتماع شرطني يف عقد‪ ،‬وأجاز‬
‫البيع مع شرط‪ ،‬ويف ذلك يقول ابن قدامة‪ " :‬ومل يصح أن النيب هنى عن بيع وشرط‪ ،‬إمنا‬
‫الصحيح أن النيب عليه السالم هنى عن شرطني يف بيع‪ ،‬كذا ذكره الرتمذي‪ .‬وهذا دال‬
‫مبفهومه على جواز الشرط الواحد‪ .‬قال أمحد‪ :‬إمنا النهي عن شرطني يف بيع‪ ،‬أما الشرط‬
‫الواحد فال بأس به "‪.‬‬
‫‪ -‬ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ‪ t‬أن رسول اهلل ‪ r‬قال‪" :‬ال حيل سلف‬
‫وبيع ‪ ،‬وال شرطان يف بيع ‪ ،‬وال ربح ما مل يضمن ‪ ،‬وال بيع ما ليس عندك "‪ .‬وحمل‬
‫االستدالل يف هذا احلديث قوله‪ " :‬وال شرطان يف بيع " فالذين أخذوا حبديث النهي عن‬
‫بيع وشرط‪ ،‬مينعون اجتماع بيع وشرطني من باب أوىل‪ ،‬أما احلنابلة الذين مل يصححوا‬
‫حديث النهي عن بيع وشرط‪ ،‬فاعتمدوا هذا احلديث كما ذكرت سابقا‪.‬‬
‫‪ .4‬ما رواه جابر بن عبد اهلل أنه كان على مجل له قد أعىي فأراد أن يسيبه‪ ،‬قال‪ :‬فلحقين‬
‫النيب ‪ r‬فدعا يل وضربه ‪ .‬فسار سريا مل يسر مثله ‪ ،‬فقال‪" :‬بعنيه بأوقية " قلت ‪ :‬ال‪ ،‬مث‬
‫قال‪ " :‬بعنيه " فبعته بأوقية‪ ،‬واشرتطت محالنه إىل أهلي فلما بلغت أتيته باجلمل ‪ ،‬فنقدين‬
‫مثنه‪ ،‬مث رجعت فأرسل يف أثري‪ ،‬فقال‪ :‬أتراين ماكستك آلخذ مجلك ؟ خذ مجلك‬
‫ودرامهك فهو لك‬
‫"ـ ‪ 67‬ـ‬
‫هذا احلديث هو عمدة احلنابلة واملالكية فيما صححوه من الشروط املقارنة للعقود‪ ،‬فبناء‬
‫عليه صحح احلنابلة اشرتاط منفعة البائع يف املبيع‪ ،‬بشرط أن تكون املنفعة معلومة‪ ،‬كما‬
‫صححوا اشرتاط البائع نفع املبيع مدة معلومة‪ ،‬كأن يبيع دارا ويستثين سكناها شهرا‪،‬‬
‫وكذلك فعل املالكية‪ ،‬فأجازوا الشرط الذي فيه منفعة معقولة ألحد املتعاقدين مادام‬
‫الشرط ال يناقض مقتضى العقد مناقضة صرحية‪ ،‬أما احلنفية فرجحوا حديث النهي عن بيع‬
‫وشرط ومل يعملوا حبديث جابر هذا‪ ،‬وعللوا ذلك بأن ما مت بني جابر والرسول ‪ r‬مل يكن‬
‫بيعا حقيقة‪ ،‬وإمنا كان من حسن الصحبة والعشرة‪ ،‬يقول السرخسي‪ " :‬وتأويل حديث‬
‫جابر ‪ t‬أن ذلك مل يكن شرطا يف البيع‪ ،‬على أن ما جرى بينهما مل يكن بيعا حقيقة‪ ،‬وإمنا‬
‫كان من حسن العشرة والصحبة يف السفر‪ ،‬الدليل على ذلك قصة احلديث‪"...‬‬
‫‪ -‬من أسباب اخلالف أيضا اخلالف يف تقدير الغرر‪ ،‬حيث وردت نصوص كثرية تنهى‬
‫عن الغرر‪ ،‬باعتباره واحدا من أهم مفسدات العقود‪ .‬والفقهاء مجيعا متفقون على أن الغرر‬
‫الفاحش مفسد للعقد‪ ،‬وأن الغرر اليسري الذي يتسامح يف مثله عادة ال يفسد العقد؛ إذ‬
‫قليلة هي العقود اليت تتمحض للمنفعة وختلو من الغرر‪ ،‬إال أنه ملا كان الغرر أمرا تقديريا‬
‫فقد اختلفت يف تقديره اجتهادات الفقهاء‪ :‬ما هو احلد الفاصل بني الغرر اليسري املعفو عنه‬
‫والغرر الفاحش؟ هذا مناط اخلالف‪ ،‬وكل اجتهد يف التقدير‪ ،‬وحكم على الشرط الذي‬
‫فيه غرر‪ ،‬صحة وبطالنا‪ ،‬بناء على اجتهاده‪.‬‬

‫ـ ‪ 68‬ـ‬
‫عزيزتي الطالبة‬
‫ولتبسيط ولتسهيل فهم مسألة الشروط في عقد النكاح اقرئي من‬ ‫‪‬‬
‫كتاب المغني لإلمام عبدهللا بن أحمد بن قدامة المقدسي ‪ .‬كتاب‬
‫النكاح مسالة قال ( وإذا تزوجها وشرط لها أن ال يخرجها من‬
‫دارها أو بلدها فلها شرطها لما روي عن النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم أنه قال ‪ {:‬احق ما أوفيتم به من الشروط ‪ }........‬إلى قوله‬
‫وال يجوز وقفه على شرط ‪ .‬وهذا قول الشافعي ‪ ،‬ونحوه عن‬
‫مالك ‪ ،‬وأبي عبيد ‪.‬‬
‫ولتبسيط ولتسهيل فهم مسألة حكم الشروط المقترنة بالعقود في‬ ‫‪‬‬
‫الفقه اإلسالمي ‪ ،‬أي الشروط في عقد البيع الشروط الصحيحة‬
‫والفاسدة ‪ .‬أقرئي من كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد ‪.‬لإلمام‬
‫ابن رشد القرطبي ‪ .‬كتاب البيوع الباب الرابع في بيوع الشروط‬
‫والثنيا من األول ‪.‬إلى قوله ‪ :‬وكان زيد يقول ‪ :‬أجازه رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ .‬وقال أهل الحديث ‪ .‬ذلك غير معروف عن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬

You might also like