Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 26

‫الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعليم العالي و البحث العلمي‬

‫المدرسة العليا لألساتذة –بوزريعة‪-‬‬

‫قسم الفلسفة‬

‫السنة الرابعة‬

‫‪2020-2019‬‬

‫دروس في الفلسفة التحليلية‬


‫من خالل مصادرها الثالثة‪ :‬جوتلوب فريجه‪ ،‬برتراند راسل‪ ،‬لودفيغ فتجنشتاين‪.‬‬
‫باإلضافة إلى مجموعة من الدروس حول الوضعية المنطقية‬

‫‪1‬‬
‫المحاضرة األولى‪ :‬حول الفلسفة التحليلية‪.‬‬

‫يقول مايكل دامت ‪ ( M. Dummett‬و هو أحد كبار مؤرخي الفلسفة التحليلية و فيلسوف لغة تحليلي‬
‫أيضا) في كتابه "أصول الفلسفة التحليلية" » ‪« Les origines de la philosophie analytique‬‬
‫إن ما يميز الفلسفة التحليلية عن باقي االتجاهات الفلسفية هو القناعة العميقة في أن التحليل الفلسفي‬
‫للغة يقود إلى شرح فلسفي للفكر‪ .‬و لكن ماذا نقصد بتحليل فلسفي للغة؟ ‪L’analyse‬‬
‫‪ .philosophique du langage‬كلمة تحليل بطبيعة الحال لها تاريخ منطقي و فلسفي طويل و ال‬
‫يمكن استعراضه هنا‪ .‬نستطيع فقط القول إن في الفلسفة عملية "التحليل" بدأت منذ الفلسفة االغريقية‬
‫مع سقراط في منهجه الديالكتيكي القائم على توليد األفكار‪ :‬فتوليد الإلفكار فيه نوع من تحليل المركب‬
‫إلى البسيط‪ .‬و في القرن السابع عشر جعل ديكارت من التحليل قاعدة أساسية من قواعد المنهج‬
‫ي أن أقسم كل واحدة من المعضالت التي أبحثها إلى عدد من األجزاء الممكنة و الالزمة‬
‫فيقول‪" :‬عل ّ‬
‫لحلها على أحسن وجه‪ ".‬و يقول إتيان دو كوندياك‪ ،‬في القرن الثامن عشر‪ ،‬بضرورة تحليل األفكار و‬
‫اإلحساسات المركبة إلى أفكار و إحساسات بسيطة‪ .‬و كلمة تحليل يصبح لها معنى ثاني عند كانط حيث‬
‫أنها تدل على طبيعة أحكام و هي ما يسميها باألحكام التحليلية‪ ،‬و هي األحكام التي تكون فيها فكرة‬
‫المحمول متضمنة في فكرة الموضوع‪ ،‬و بالتالي ال تضيف لها شيئا‪ ،‬لذلك اعتبرها كانط أحكاما عقيمة‪.‬‬
‫في الحقيقة المعنى الذي تكتسبه كلمة "تحليل" في الفلسفة التحليلية ابتداء من القرن ‪ 20‬ال يعارض‬
‫هذا التاريخ‪ ،‬و لكن مع أعالم فلسفة اللغة التحليلية أمثال جورج مور‪ ،‬و جوتلوب فريجه‪ ،‬و برتراند‬
‫راسل و فتجنشتاين أصبح التحليل الفلسفي مثال للمنهج ‪ .un modèle de méthode‬فكلمة‬
‫"تحليل" عند هؤالء هي أكثر من أن تكون صفة ألحكام أو لقضايا‪ .‬فالتحليل في الفلسفة التحليلية يع ّبر‬
‫عن عمل فكري هدفه توضيح العبارات ‪ .La clarification des énoncés‬التحليل إذن‪ ،‬اختار‬
‫كموضوع أساسي له في الفلسفة التحليلية اللغة‪ ،‬فأصبحنا نتحدث داخل هذه الفلسفة عن تحليل اللغة‬
‫كأداة للتعبير عن الفكر‪ .‬لماذا اللغة؟ ألن الفالسفة التحليليين يعتقدون أنه من المستحيل فهم الفكر أو‬
‫األفكار بدون هذا اللباس الذي يدعى اللغة‪ ،‬و يؤكدون‪ ،‬ثانيا‪ ،‬على أن عنلية التحليل ال تتم إالّ داخل‬
‫اللغة و بواسطة اللغة‪ .‬بصفة عامة ما يميز الفلسفة اللغوية التحليلية المعاصرة‪:‬‬
‫‪-‬القطيعة مع الفلسفة التقليدية (الميتافيزيقية) و تاريخها‪.‬‬
‫‪-‬إبعاد السيكولوجيا في تحليل المعنى و المعرفة‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪-‬أولوية الدراسة اللغوية‪ ،‬إذ من الضروري أن يسبق البحث في أية مسألة تحليل اللغة التي نع ّبر بها‬
‫عن هذه المسألة‪.‬‬
‫تتميز الفلسفة التحليلية كذلك بإجابتها عن أسئلة من خالل توضيح اللغة التي صيغت فيها هذه األسئلة‪.‬‬
‫من أجل ذلك يقوم الفالسفة التحليليون بتحليل العبارات المركبة و ردها إلى عناصر أكثر بساطة و أكثر‬
‫تأسيسا‪ ،‬و تحليل مفاهيم و معاني العبارات‪ .‬بصفة عامة‪ ،‬يهدف التحليل هنا إلى البحث عن أسس‬
‫التعبير و تحديد أشكال صالحيته‪.‬‬
‫طبعا في األساس الفلسفة التحليلية هي فلسفة في اللغة‪ ،‬أما أهميتها بالنسبة للفروع الفلسفية األخرى‬
‫فتتمثل في تحديد المعاني و تحاشي سوء الفهم النابع عن االستعماالت اللغوية‪ .‬يقول فيلسوف اللغة‬
‫المعاصر ‪ " :Gilbert Ryle‬ال يجب على االعتبارات الفلسفية أن تزيد من معارفنا‪ ،‬بل عليها تصحيح‬
‫الجغرافية المنطقية لهذه المعرفة‪".‬‬
‫الفلسفة التحليلية بالمعنى الذي تحدثنا عنه نستطيع أن نقول إنها ظهرت في أعمال المنطقي و‬
‫الرياضي و الفيلسوف األلماني جوتلوب فريجه ‪.Gottlob Frege‬‬

‫جوتلوب فريجه‬
‫‪Gottlob Frege‬‬

‫يعتبر جوتلوب فريجه (‪ )1925-1848‬مؤسس من مؤسسي المنطق الرمزي‪ ،‬كما انه يعتبر و بحق‬
‫مصدر من أهم مصادر الفلسفة التحليلية إلى جانب مور‪ ،‬راسل و فتجنشتاين‪ .‬أعماله هي أوال أعمال‬
‫فيلسوف و منطقي يهتم بمشكلة أسس علم الحساب ‪ ،Les fondements de l’arithmétique‬و‬
‫هو من الذين يعتقدون أن هذه األسس ال يمكن أن توجد إالّ في دائرة القوانين المنطقية‪ .‬كما اهتم‬
‫بتأسيس كتابة رمزية للفكر (كتابة التصورات ‪ ،)Begriffscrift‬فاهتمامه باللغة الطبيعية العادية لم‬
‫يكن إالّ بصيغة غير مباشرة‪ ،‬فهم لم يثر قضية هذه اللغة إالّ لمقارنتها مع مطالب لغة حقيقية نتحدث‬
‫عنها في حينه‪ .‬ففريجه من المناطقة و الفالسفة الذين بحثوا عن التعبير الدقيق و الصارم عن األفكار‪،‬‬
‫و هو يرى أن عناصر اللغة الطبيعية غالبا ما تمنع هذه الصرامة و الدقة في التعبير عن المعنى‬
‫بواسطة جملة عادية‪ .‬فأوال ال بد أن نشير إلى أن اللغة الطبيعية العادية بالنسبة لفريجه ال تستعمل فقط‬
‫للتعبير عن أفكار محددة‪ ،‬و لكنها تعبر أيضا عن انفعاالت و خياالت‪ ،‬و هذا قد يمنع دقتها‪ .‬و ثانيا‬

‫‪3‬‬
‫تحنوي اللغة الطبيعية على عبارات مجازية كثيرة ال نجدها في لغة العلم الصارمة و الدقيقة‪ .‬بصفة‬
‫عامة‪ ،‬ترتبط اللغة الطبيعية في اعتقاد فريجه باإلدراك و بحياتنا الذهنية أكثر مما ترتبط بأفكارنا‬
‫الموضوعية‪.‬‬
‫لذلك قال فريجه بضرورة التفريق بين الفكرة و التعبير عن الفكرة ‪La pensée et l’expression‬‬
‫‪ ،de la pensée‬و من أجل فهم المضمون التصوري للفكرة يجب أن نتجاوز اللغة الطبيعية العادية‪.‬‬
‫لماذا؟ ألن اللغة الطبيعية ليست مبنية على أسس منطقية‪ ،‬بمعنى أنها ال تفي بمتطلبات المنطق‪ .‬لماذا؟‬
‫ألن عناصر سيكولوجية أو مظاهر سيكولوجية التصقت باللغة الطبيعية منذ تأسيسها كوسيلة إلشباع‬
‫ملكة التمثيل لدى اإلنسان‪ .‬فالمنطق ليس هو مصدر األخطاء المنطقية‪ ،‬فمصدر هذه األخطاء هو عيوب‬
‫اللغة التي نتكلمها و التي يجب أن يتصدى لها النشاط المنطقي لإلنسان‪ .‬و لهذا سيلجأ فريجه إلى‬
‫مشروع تأسيس لغة رمزية ‪ .Formelsprache‬فمنذ اليبنتز تولدت الرغبة عند بعض الفالسفة‪ ،‬و‬
‫منهم فريجه‪ ،‬في تحطيم سيطرة الكلمة الطبيعية على الفكرة و تحرير الفكر من قيود اللغة العادية‪ .‬لفهم‬
‫كل هذا علينا تحليل بعض التصورات الفلسفية‪-‬المنطقية عند فريجه و على رأسها‪ :‬تصوره للفكرة‪ ،‬و‬
‫تصوره للقضية و عالقتها بالفكرة‪ ،‬و قضية المعنى و الحقيقة‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المحاضرة الثانية‪ :‬تصور الفكرة ‪ Gedanke‬عند فريجه‬

‫في فلسفته و كمبدأ عام يتبناه يرفض فريجه تلك النزعة السيكولوجية ‪ Le Psychologisme‬التي‬
‫قامت عليها الثورة الكوبرنيكية الكانطية‪" :‬أعرف الشيء في ذاتي و ليس في ذاته"‪ .‬فريجه يرفض‬
‫الرجوع إلى الذات‪ ،‬فما يهمه ليس هو المحتوى الذاتي للفكرة و لكن مركبها المنطقي الذي ال يتغير‬
‫بتغير التعبيرات المختلفة التي يختفي ورائها‪une pensée qui augmenterai notre :‬‬
‫‪.connaissance scientifique‬‬
‫إذن‪ ،‬يضع فريجه الفكرة في إطار موضوعي ألنها موضع اتفاق بين الذوات و قاسم مشترك بين من‬
‫يفكرون‪ ،‬كما أنها تتمتع بواقعية و استقالل يضمنان لها الثبات‪ .‬و بالتالي‪ ،‬الفكرة بمعنى فريجه هي‬
‫دائما موضوعية‪ ،‬و مستقلة‪ ،‬وواقعية و ثابتة ( شبيهة بهذه الخصائص بالفكرة األفالطونية)‪ .‬الفكرة‬
‫واحدة عند الجميع‪ ،‬و لكن تمثيل الفكرة ‪ La représentation que l’on fait‬قد يختلف من ذات‬
‫إلى ذات‪.‬‬
‫في مقابل الفكرة يضع فريجه ما يسميه بالصورة الذاتية التمثيلية ‪ ،Vorstellung‬و هي الصورة‬
‫الخاصة بكل فرد و التي ال يمكن أن تؤسس معرفة موضوعية‪ .‬هناك أيضا االنطباعات و تتمثل فيما‬
‫تتركه الحوادث الخارجية من تأثيرات مؤقتة على الذهن‪ .‬يمكننا التوحيد بين بين التمثالت الذهنية و‬
‫االنطباعات تحت عبارة واحدة و هي "الصور الذهنية" و هذه في مجملها ال يمكن أن تشكل معرفة‬
‫يقينية في نظر فريجه‪ .‬وحدها األفكار ‪ Gedanken‬يمكن أن تشكل ذلك ألنها هي الوحيدة القادرة على‬
‫تأليف عملية التفكير في صورته الموضوعية‪ .‬نالحظ هنا أن عنلية التفكير ليست نفسية ذاتية عند‬
‫فريجه‪ .‬يقول هذا الفيلسوف‪ " :‬حقا‪ ،‬إن إدراك أو تحصيل الفكرة هي عملية تتم في النفس‪ ،‬إال أنها‬
‫عملية تقف على حواف النفس‪ ،‬و من ثم ال يمكن أن نفهمها من منظور نفسي خالص فقط‪ ،‬ألنه البد‬
‫أن نأخذ في االعتبار وجود شيء ال يتعلق‪ ،‬بالمعنى الدقيق‪ ،‬بالنفس و هو الفكرة‪ .‬و ربما تعد هذه‬
‫العملية (إدراك الفكرة) أكثر األمور غموضا‪( Frege, Machgelassene Schriften, ".‬‬
‫)‪Humburg, 1969, p.157‬‬
‫إذا كان فريجه لم يوضح لنا كيفية إدراك الفكرة‪ ،‬فهو يعتقد أننا ندركها عن طريق اللغة أو عن طريق‬
‫القضية‪ .‬و بالنسبة لهذا المنطقي‪ ،‬القضية هي تمثيل ‪ Abbildung‬لفكرة‪ ،‬هذا يعني أن كل قضية تقدم‬
‫فكرة‪ ،‬ففي الحقيقة الذي نحكم عليه بالصدق أو الكذب ليس القضية و لكن الفكرة التي تقدمها هذه‬
‫القضية‪ .‬إذن تدرك الفكرة في نظر فريجه في إطار قضية‪ .‬و هنا يمكننا طرح السؤال‪ :‬لماذا ال تدرك‬
‫‪5‬‬
‫الفكرة في إطار كلمة مثال؟ السبب يكمن في أن فريجه يؤمن بمبدأ يسميه مبدأ السياق ‪Le principe‬‬
‫‪ .de contexte‬فحوى هذا المبدأ ببساطة هو أن الكلمات تشير إلى دالالت في سياق قضية فقط‪ .‬هذا‬
‫المبدأ يبين لنا أن االعتماد على معنى كلمة بمفردها قد يولد فينا معنى غير المقصود منها تماما‪ .‬يقوله‬
‫في كتابه "أسس علم الحساب" » ‪ " :« Grundlagen der Arithmetik‬إن بحثنا عن معنى كلمة‬
‫بمعزل عن السياق الذي ترد فيه قد يؤدي بنا إلى قبول صورة على أنها المعنى المقصود‪ .‬إن ما يجب‬
‫المكونة من كلمات ذات معنى ومغزى) فقد تمثل صورة‬
‫ّ‬ ‫أن نضعه نصب أعيننا هو القضية الكاملة (‬
‫ذهنية أمامنا طوال الوقت و رغم ذلك ال تنسق مع العناصر المنطقية للحكم‪".‬‬

‫قضية المعنى عند فريجه‪.‬‬

‫لقد سبق لنا القول إن عند فريجه الشيء الذي نحكم عليه بالصدق أو الكذب ليس القضية و لكن الفكرة‬
‫التي تقدمها هذه القضية‪ ،‬و الفكرة موضوعية وواحدة عند جميع الناس كما بينا ذلك أعاله‪ .‬ماذا يعني‬
‫هذا؟ هذا يعني أن الفلكي مثال ال يتحدث عن تمثله هو للقمر و لكن عن موضوع اسمه القمر‪ .‬هذا يعني‬
‫أيضا أنه ليس بوسعنا أن نخترع قانونا للطبيعة‪ ،‬و أن لفهم فكرة ليس من الضروري معرفة تاريخ هذه‬
‫الفكرة‪ ،‬و أن نفس الفكرة نعبر عنها بجمل أو قضايا مختلفة أو لغات مختلفة‪.‬‬
‫في الحقيقة هذه األمثلة ليست تدعيمات لموضوعية الفكرة‪ ،‬هي تذكرنا فقط‪ ،‬حسب فريجه‪ ،‬بما نحن‬
‫مقتنعين به تلقائيا و لكن نسيناه‪ ،‬و السبب في هذا النسيان هو الصور المنطقية الناقصة للغة الطبيعية‪.‬‬
‫إذن البد من انطالقة جديدة في المجال اللغوي‪ ،‬و هذه االنطالقة ستكون من الفكرة أوال ثم تحليل هذه‬
‫الفكرة إلى مكوناتها‪ ،‬و هذا هو االكتشاف األساسي لفريجه‪.‬‬
‫قلنا أن الفكرة تحملها القضية‪ .‬و على مستوى القضية يفرق فريجه بين داللة القضية و معنى القضية‪.‬‬
‫داللة القضية هي ما تمثله القضية في الواقع‪ ،‬أي أن داللة القضية هي قيمة صدق ‪valeur de‬‬
‫‪ vérité‬تحملها هذه القضية‪ .‬أما معنى القضية فهو الفكرة التي تقدمها هذه القضية‪ .‬معنى هذا أن‬
‫الداللة ال تتحدد إالّ بتحدد المعنى (أي الفكرة)‪ ،‬ألن الذي نحكم عليه بالصدق أو الكذب‪ ،‬كما قلنا‪ ،‬هو‬
‫الفكرة التي تقدهما القضية و ليس القضية في حد ذاتها‪.‬‬
‫نالحظ أيضا أن معنى قضية ليس معنى بالمعنى العادي للكلمة‪ ،‬فالمعنى في نظرية فريجه أراه مطلبا‬
‫ضروريا‪ ،‬هذا المطلب يقول أنه بإمكاننا دائما قول الحقيقة‪ .‬فالمعنى شيء موضوعي‪ ،‬و مستقل‪ ،‬و‬
‫غير قابل للتغير‪ ،‬ألن هذه هي خصائص الفكرة في حد ذاتها كما رأينا‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫اآلن ما يقوله فريجه يتلخص في أن القضية تعبر عن معناها (عن فكرة) و تدل على قيمة حقيقة‪ ،‬أي‬
‫قيمة الفكرة المعبر عنها داخل هذه القضية‪ .‬و بهذا سيكون للقضية معنى واحد وواحد فقط‪ ،‬و يمكن أن‬
‫نعرف المعنى في هذه الحالة على أنه الطريقة التي تعطى بها قيمة الحقيقة‪ ،‬أي الطريقة التي تحدد بها‬
‫داللة القضية‪.‬‬
‫ما أراد قوله فريجه‪ ،‬و هذا من أهم النقاط التي تحويها نظريته في الفكرة و المعنى‪ ،‬هو أننا إذا اهتممنا‬
‫بحقيقة ما نقوله‪ ،‬و ما نكتبه و ما نسمعه‪ ،‬فهذا ألننا نفترض أن ما نقوله مثال يتعلق بحقيقة‬
‫موضوعية أو بواقع موضوعي و هو بذلك صادق أو كاذب و بصفة موضوعية‪ .‬معنى هذا أننا نفهم‬
‫كلنا نفس الفكرة‪ ،‬و هذا ما يجب التركيز عليه في مناقشاتنا و إالّ أصبحت اللغة عبارة عن تعبيرات عن‬
‫حاالتنا الداخلية‪ ،‬و لن يكون هناك تفاهم مثال‪ .‬فإذا أردنا أن يكون ما نقوله و ما نسمعه تعبيرا عن‬
‫حقيقة موضوعية‪ ،‬البد أن تعبر لغتنا عن أفكار نتفق حولها كلنا‪ ،‬و هذا ما يشكل معاني لقضايانا‪.‬‬
‫فالحقيقة تنبني على شيء موضوعي‪ ،‬و ثابت و غير متغير‪ .‬و بالتالي الحديث عن الحقيقة يستوجب‬
‫االقرار بوجود حقائق موضوعية يسميها فريجه األفكار‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫المحاضرة الثالثة‪ :‬فلسفة التحليل عند برتراند راسل‬

‫منهج التحليل و قاعدة الوضوح في االستعمال اللغوي اللذان رأيناهما مع فريجه سيتبناهما راسل‬
‫(‪ )1970-1872‬و هو بدون شك من أعظم فالسفة القرن الماضي‪ .‬فبعد دراسة خصصها لفلسفة‬
‫اليبنتز‪ ،‬يتجه راسل نحو المنطق و فلسفة الرياضيات لينشر عام ‪ 1910‬و بمشاركة الفيلسوف و‬
‫الرياضي وايتهد كتابه المشهور » ‪.« Principia Mathematica‬‬
‫بالنسبة لراسل هناك طرق مختلفة للمعرفة‪:‬‬
‫‪-1‬المعرفة القائمة على المعطيات المباشرة و االستدالل‪ .‬يقول راسل أننا نميز نوعين من المعرفة في‬
‫هذا اإلطار‪ :‬معرفة األشياء و معرفة الحقائق‪ .‬معرفة األشياء تنقسم بدورها إلى المعرفة بالتجربة‬
‫المباشرة و المعرفة بالوصف‪ ،‬و لكل معرفة مبادئها الخاصة‪.‬‬
‫‪-‬اآلن إذا كانت المعرفة تعتمد على ماهو معطى‪ ،‬فإنها تتجاوزه بواسطة االستدالل الذي يقوم على‬
‫مبادئ عامة مثل مبدأ االستقراء‪ ،‬فاالستدالل االستقرائي رغم أنه يبقى احتمالي فقط‪ ،‬إالّ أنه ذو أهمية‬
‫كبيرة في ميدان المعرفة‪.‬‬
‫‪-2‬الطريقة الثانية في المعرفة يسميها راسل المعرفة القبلية‪ ،‬فإمكانية وضع مبادئ معرفية عامة و‬
‫توضيحها يبين وجود معرفة ال يمكننا الشك فيها و غير مستمدة مما هو محسوس‪ .‬و هذه هي المعرفة‬
‫القبالية و تجمع ميادين مثل المنطق و الرياضيات البحتة‪ .‬هذه المعرفة القبلية‪ ،‬يقول راسل‪ ،‬تدفعنا إلى‬
‫االعتراف بوجود نوع من الكينونات نستطيع تسميتها بالكليات مثل الخصائص الحسية‪ ،‬العالقات‪..‬‬
‫‪-3‬االنوع الثالث من المعرفة هو معرفة الكليات‪ .‬هذه المعرفة تسمح لنا بتحديد طبيعة المعرفة القبلية‪،‬‬
‫فهي تتعلق مباشرة بالعالقات بين الكليات‪.‬‬
‫عن الفلسفة اآلن يقول راسل إن المعرفة الفلسفية ليست نوعا متميزا من المعرفة‪ ،‬و لكنها فقط نوع‬
‫خاص من المعرفة الذي يجب أن يرافق العلم ألن الفلسفة و العلم يكمل أحدهما اآلخر‪ .‬و الفلسفة عند‬
‫راسل تكون باألساس معرفة تحليلية‪ ،‬و يرجع هذا إلى تفضيل هذا الفيلسوف التحليل المنطقي للمعاني‬
‫و الدالالت على باقي النشاطات الفلسفية‪ .‬و هذا مابينه في إطار ما يسمى عنده ب "فلسفة الذرية‬
‫المنطقية"‪.‬‬
‫هذه الفلسفة أراد من خاللها راسل أن يبين أوال تهافت الفلسفات المثالية خاصة الهيجيلية التي‬
‫سيطرت و بقوة على الفكر االنكليزي‪ ،‬و بالتالي التساؤل عن امكانية وضع فلسفة جديدة (واقعية في‬

‫‪8‬‬
‫عمقها) مكان الفلسفات المثالية‪ .‬و تجدر اإلشارة إلى راسل لم يكن االنجليزي الوحيد الذي حاول تجاوز‬
‫المثالية و نقدها‪ ،‬فجورج مور أيضا حاول ذلك في مقاله "رفض المذهب المثالي"‪.‬‬
‫أول سؤال يطرح هنا و نحن نتحدث عن الذرية المنطقية عند راسل هو لماذا هذا التوجه الذري؟ أو‬
‫لماذا التوجه التحليلي؟ ( ألن الحديث عن ذرات سواء فيزيائية أو منطقية يدفعنا إلى الحديث عن منهج‬
‫تحليلي)‪ .‬ألن في اعتقاد راسل المنهج التحليلي هو الوحيد الذي يكون معه التقدم المعرفي ممكننا‬
‫عكس الفلسفات المثالية‪ .‬و بالتالي لصد هذه الفلسفات و قطع الطريق أمامها تبنى راسل فلسفة ذرية‬
‫الجوهر و تحليلية الطابع كما تحدث عنها هو‪.‬‬
‫بطبيعة الحال و نتيجة لتوجه المنطقاني‪ ،‬فإن الذرية المنطقية ارتبطت عند راسل بالمجال الرياضي‬
‫أوال‪ .‬لماذا الرياضيات؟ لسببين بسيطين‪ :‬أوال ألن اهتمام راسل كان منصبا على الرياضيات قبل التوجه‬
‫إلى المجال الفلسفي‪ .‬ثانيا ألن الرياضيات هي أحسن علم يستخدم منهج التحليل كمنهج أساسي في‬
‫البحث‪ ،‬لهذا حرص راسل على استخدام التحليل كأداة لها فعاليتها في فهم العالم‪ ،‬في تحليل العالم ثم‬
‫تحليل القضايا‪.‬‬
‫إذن فلسفة الذرية المنطقية عند راسل هي أوال منهج تحليل سواء تعلق األمر بتحليل الوقائع أو تحليل‬
‫القضايا‪ .‬و هي ثانيا مشروع إلقامة لغة مثالية‪-‬صورية أو رمزية تتجاوز اللغة الطبيعية‪ ،‬يكون الرمز‬
‫فيها قابل لمعنى واحد فقط و لداللة واحدة فقط و لتأويل واحد فقط‪ .‬هذا على مستوى المعنى‪ ،‬أما على‬
‫مستوى التركيب فستعمل هذه اللغة على دراسة التركيب الصحيح للمفردات في جمل و قضايا سليمة‬
‫البناء‪ ،‬و على وضع قواعد صارمة لهذا التركيب‪ .‬كما تهتم بدراسة قواعد االستدالل انطالقا من صورة‬
‫معينة للقضايا و الجمل إلى ما يلزم عنها من صور أخرى‪.‬‬
‫باعتماده على فلسفة الذرية المنطقية‪ ،‬سعى راسل إلى توضيح قضية أن العلم مؤلف من عدد كبير من‬
‫األجزاء المستقلة عن بعضها البعض‪ ،‬لكنها تترابط بعالقات خارجية سواء كانت هذه األجزاء عبارة‬
‫عن أشياء جزئية أو عن وقائع‪ .‬إذن أول مبدأ تعنمد عليه الذرية المنطقية هو مبدأ التعددية‪ ،‬فالعالم ال‬
‫يتصوره راسل كوحدة غير قابلة لالنقسام ( نفس الفكرة نجدها عند تلميذه فتجنشتاين)‪.‬‬
‫يبين راسل أن العالم يحوي وقائع‪ ،‬و الواقعة هي ما يجعل القضية صادقة أو كاذبة‪ .‬و يعني هذا أيضا‬
‫أن الواقع هو ما يعتمد عليه الفكر المنطقي بصفة أساسية‪ ،‬لهذا سينطلق راسل في "فلسفة الذرية‬
‫المنطقية" من تحليل الوقائع لكي يوفر هذا األساس المنطقي الذي يستند إليه مبحث تحليل القضايا‪.‬‬
‫بعبارات أخرى‪ ،‬يؤكد راسل أن في العالم لدينا وقائع و لدينا أيضا اعتقادات حول هذا الواقع‪ ،‬و‬
‫بالرجوع إلى هذا الواقع تكون هذه االعتقادات صادقة أو كاذبة‪ .‬فعندما أقول "المطر ينزل"‪ ،‬فاعتقادي‬
‫هذا يكون صادقا تحت شروط مناخ معينة‪ ،‬و يكون كاذبا وفق شروط مناخية أخرى‪ .‬هذا يعني أن واقع‬

‫‪9‬‬
‫المناخ هو الذي يحدد ما إذا كان اعتقادي صادقا أو كاذبا‪ .‬و هذا ما يسميه راسل بالواقعة التي تجعل‬
‫القضية صادقة أو كاذبة‪ .‬لهذا السبب قال راسل بضرورة معرفة ماهي الواقعة قبل تحليل القضايا التي‬
‫نعبر بها عن وقائع العالم‪.‬‬
‫اآلن ما يريد راسل الوصول إليه مطبقا منهجه في التحليل‪ ،‬و كحد أقصى لهذا التحليل‪ ،‬هي ذرات‬
‫منطقية‪ ،‬أي ذرات التحليل المنطقي للقضايا التي تعبر عن العالم‪ ،‬و ليست التحليل الفيزيائي للعالم‪ .‬و‬
‫في هذا اإلطار بالذات‪ ،‬لجا راسل إلى التمييز بين الواقعة و " الشيء الجزئي"‪ ،‬فالواقعة ليست شيئا‬
‫جزئيا و لكنها ما يجعل القضية صادقة أو كاذبة كما سبق لنا قول ذلك‪ .‬كما أن القضية ال تقرر شيئا‬
‫جزئيا يمكن تسميته و اإلشارة إليه‪ ،‬و إنما تقرر واقعة من الوقائع‪ .‬يقول راسل في هذا الصدد‪ " :‬إن‬
‫ما أطلقت عليه واقعة هو ذلك الشيء الذي نعبر عنه ب "جملة كاملة" و ليس باسم مفرد مثل‬
‫سقراط‪".‬‬
‫معنى هذا أيضا أننا نعبر عن واقعة عندما نقول أن شيئا معينا له صفة معينة‪ ،‬أو أن له عالقة ما‬
‫بشيء آخر‪ ،‬و لكن هذا الشيء الذي له الخاصية أو العالقة ليس هو "الواقعة"‪ .‬لهذا مال راسل إلى‬
‫االعتقاد بأن العالم يتألف من مجموعة من الوقائع و ليس من "أشياء"‪ ،‬ألنه إذا قلنا أن العالم يتألف‬
‫من أشياء‪ ،‬فإننا نعبر عن هذه األشياء بأسماء‪ ،‬و لكن إدراكنا لألشياء ال يكون إالّ عن طريق إدراك‬
‫صفاتها أو عالقاتها باألشياء األخرى‪ ،‬أي ال ندركها إالّ عندما "نقرر" بأن شيء ما له صفة معينة او‬
‫أن له عالقة بشيء آخر‪ ،‬و هكذا يكون الفرق بين التقرير و التسمية‪ ،‬بين القضية و اإلسم‪ ،‬و بين‬
‫الواقعة و الشيء في نهاية المطاف فالتقرير يتعلق بالواقعة‪ ،‬و تقرير واقعة يعني تقرير صفة لشيء او‬
‫تقرير عالقة بين أشياء او نفي هذه العالقة‪.‬‬
‫يضيف راسل إلى هذا قضية أنه ال يمكننا اطالقا الحديث عن شيء جزئي عاري من صفة أو عالقة ألنه‬
‫تجريد ال وجود له تماما في واقع خبرتنا الحسية‪ .‬و بهذا تصبح األشياء و صفاتها و عالقاتها هي‬
‫عناصر الواقعة‪ ،‬فكل الوقائع التي ندركها هي وقائع مركبة و نعبر عن هذه الوقائع بقضايا مركبة‪.‬‬
‫ولكن هذه الوقائع يمكن أن تحلل إلى أبسط عناصرها‪ ،‬و يصل تحليل القضايا التي تعبر عن هذه‬
‫الوقائع في نهاية األمر إلى "اسم العلم" المنطقي أو الذرة المنطقية‪.‬‬
‫من ضمن خصائص الواقعة أيضا أنها تنتمي إلى العالم الموضوعي‪ ،‬معنى هذا أنها ليست من صنع‬
‫مقوالت العقل‪ .‬كما أن الوقائع ال يجوز أن نقول أننا نسميها بواسطة القضايا‪ ،‬بل الصحيح هو القول‬
‫إننا نثبتها أو ننفيها بواسطة القضايا‪ .‬كذلك‪ ،‬ال تخضع الوقائع لثنائية الصدق و الكذب‪ ،‬بل تخضع‬
‫لكيفيتين‪ :‬اإليجاب أو السلب‪ " .‬سقراط كان حيا" (واقعة موجبة)‪" ،‬سقراط ليس حيا" (واقعة سالبة)‪.‬‬
‫إذن القضية هي رمز لواقعة و ليست أسما لها‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫بعد هذه التحديدات يأتي راسل إلى تقسيم الوقائع‪ ،‬و يقول أن هناك صور ال متناهية من الوقائع‪ .‬أبسط‬
‫الوقائع‪ ،‬في اعتقاد راسل‪ ،‬هي الوقائع الذرية ‪ ،Atomic Facts‬و هي وقائع نعتمد عليها إلقرار ما إذا‬
‫كانت القضية الذرية ‪ Atomic proposition‬صادقة أو كاذبة‪ .‬إذن وجود الواقعة الذرية سابق على‬
‫وجود القضية الذرية‪ ،‬كما أنها تجريبية ألنها متحققة كما هي في الوجود الخارجي الموضوعي‪ .‬و‬
‫يمكن التأكد من وجودها أو عدم وجودها بالرجوع إلى الواقع‪.‬‬
‫هناك أيضا الوقائع الجزيئية ‪ Molicular facts‬و التي تكون القضية المعبرة عنها في صورة‬
‫(ق‪v‬ك)‪ ،‬حيث ق و ك قضيتان ذريتان تعبيران عن واقعتين ذريتين‪ .‬هناك أيضا الوقائع العامة‬
‫‪ general facts‬مثل "كل الناس فانون"‪ ،‬و هذه الواقعة تعبر عنها قضية عامة‪ .‬و يؤكد راسل أنه ال‬
‫يمكن أن نصف العالم وصفا تاما بدون أن يكون لدينا وقائع عامة‪ .‬كما تحدث راسل عن الوقائع‬
‫الجزئية ‪ particular facts‬مثل "هذا ازرق"‪ .‬و هذا النوع من الوقائع له أهمية خاصة في تشكيل‬
‫المعرفة اإلنسانية التي تعتمد على اإلدراك‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫المحاضرة الرابعة‪ :‬تحليل القضايا عند راسل‬

‫يعرف راسل القضية و يقول‪ " :‬هي مجرد رمز‪ ،‬إنها رمز مركب‪ ،‬بمعنى أن لها أجزاء هي أيضا‬
‫رموز‪ .‬و الرمز يعرف بأنه مركب حينما يكون له أجزاء هي أيضا رموز‪ ،‬ففي الجملة المحتوية على‬
‫كلمات عديدة‪ ،‬تكون كل كلمة من هذه الكلمات رمزا‪ ،‬و من ثم فإن الجملة المكونة لتلك الكلمات تكون‬
‫إذا رمزا مركبا بهذا المعنى‪".‬‬
‫طبعا للمزيد من التوضيح البد من اإلشارة إلى أن راسل يميز بين القضية ‪ proposition‬و الجملة‬
‫‪ .sentence‬إذ يقول في هذا الصدد‪ " :‬إن القضية شيء يمكن أن يقال في أي لغة‪ ،‬و قد يتم التعبير‬
‫عن نفس القضية في لغة بعدة طرق‪ ،‬و بالتالي يمكن أن يكون لصورتين من األلفاظ نفس المعنى‪ ،‬و‬
‫بهذا تكون القضية جميع العبارات التي لها نفس المعنى الذي يكون لعبارة معلومة‪ ".‬القضية بصفة‬
‫عامة هي الجملة اإلخبارية التي تحتمل الصدق أو الكذب‪ .‬أما الجملة "فهي مجموعة ألفاظ توضع معا‬
‫وفق التركيب اللغوي النحوي‪ ".‬بعبارات أخرى‪ ،‬القضية لها أساس منطقي و تخضع لتركيب منطقي‪،‬‬
‫أما الجملة فلها أساس لغوي نحوي‪ ،‬و الذي يمكن أن يكون إنشائيا‪.‬‬
‫القضايا أيضا تنقسم إلى عدة أنواع‪:‬‬
‫‪-1‬القضية الذرية ‪ ،atomic proposition‬و هي أبسط أنواع القضايا و تعبر عن وقائع ذرية‪ ،‬بمعنى‬
‫أنها القضية التي ال تنحل إلى قضايا أبسط منها‪ ،‬أو مفاهيم أو مكممات مثل بعض‪ ،‬كل‪ ...‬إذ تكون فقط‬
‫على شكل إثبات صفة لشيء أو إثبات عالقة بين شيئين‪ .‬ويمكن أن تكون القضية الذرية على شكل‬
‫"هذا أزرق"‪" ،‬هذا سابق على هذا"‪" ،‬هذا قبل هذا"‪...‬الخ‬
‫‪-2‬القضية الجزيئية و هي التي تستند إلى الروابط المنطقية مثل "أو"‪" ،‬و"‪" ،‬إذا كان‪...‬فإن‪ ،"..‬و‬
‫هي قضية مركبة تنحل إلى قضايا أبسط منها‪.‬‬
‫‪-3‬يميز راسل أيضا بين القضية الوجودية و القضية العامة‪ ،‬فالقضية الوجودية تنسب محموال‬
‫لموضوع مسمى‪ ،‬أي أنها تتضمن تقريرا وجوديا للموضوع مثل "سقراط فان"‪ .‬أما القضية العامة فال‬
‫تحوي على مثل هذا التقرير النها غالبا ما تعبر عن صورة قضية شرطية‪ .‬مثال‪" :‬كل إنسان فان"‪،‬‬
‫"كل اإلغريق فانون" فهذه القضية ال تعبر عن عالقة بين موضوع و محمول‪ ،‬ولكن عن عالقة بين‬
‫محمولين‪.‬‬
‫‪-4‬هناك أيضا القضية العامة عمومية تامة مثل القضايا المنطقية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫رأينا أنواع القضايا و أنواع الوقائع‪ ،‬و رأينا أيضا أن العالقة بين الواقعة و القضية التي تعبر عنها‬
‫هي عالقة تطابق ‪ ،Relation de correspondance‬أي أن لكل قضية واقعة تناظرها و تحدد‬
‫صدقها و كذبها‪ .‬و لكن أريد العودة إلى مفهوم القضية ألنه األكثر أهمية في إطار التحليالت اللغوية‪.‬‬
‫لنرى ما إذا كان هناك فرق بين تصور فريجه و تصور راسل‪.‬‬
‫قلنا إنه بالنسبة فريجه‪ ،‬و في الحقيقة بالنسبة لكل المناطقة األلمان‪ ،‬القضية هي العبارة أو هي التعبير‬
‫عن الفكرة‪ .‬و راينا بالنسبة لراسل القضية هي جملة إخبارية تقبل الصدق أو الكذب‪ .‬في الحقيقة ما‬
‫يعنيه راسل هو أن القضية هي ما نعبر عنه بجملة إخبارية صادقة أو كاذبة‪ .‬و هذا ما قاله راسل‬
‫بالفعل في رسالة بعثها لفريجه في ‪ ،1902-12-12‬قال له إن ما أعنيه بالقضية هو معناها و ليس‬
‫قيمة حقيقتها‪.‬‬
‫هذا يعني أنه عندما نقول عن القضية في اعتقاد راسل هي ما نعبر عنه بجملة إخبارية يمكن أن تكون‬
‫صادقة أو كاذبة‪ ،‬معنى هذا أن القضية هي معنى هذه الجملة‪ ،‬أي الفكرة التي تحملها هذه الجملة‪ ،‬و‬
‫ليس هذه الجملة في حد ذاتها‪ .‬لذلك أكد راسل على عدم إمكانية رد القضية إلى الجملة التي تعبر عن‬
‫هذه القضية‪ ،‬و الدليل على ذلك أنه اعتقد أن القضية الواحدة يمكننا التعبير عنها بعبارتين مختالفتين‪.‬‬
‫بعد رسالته إلى فريجه‪ ،‬و في عام ‪ 1904‬و تحت تأثير ‪ ،Meinong‬يقول راسل أن القضية هي‬
‫موضوع مركب ‪ un objet complexe‬و الذي يمكن أن يكون موضوع حكم أو موضوع خيال ‪un‬‬
‫‪ ،objet d’imagination‬و قال هذا في رسالة بعثها إلى فريجه في ‪ .1903-05-24‬هذا الموضوع‬
‫المركب مؤلف من أشياء العالم‪ .‬هذا يعني ان في ‪ 1903‬لم يعتبر راسل القضية موضوعا مركبا من‬
‫كلمات‪ ،‬و لكنها مركبة من مواضيع مشار إليها بكلمات‪ .‬معنى هذا أيضا أن راسل يرفض اعتبار‬
‫القضايا عناصر ليسانية‪ ،‬و بهذا يضمن ابتعادها عن الخصائص الذهنية أو السيكولوجية‪.‬‬
‫و لكن‪ ،‬و بعد تغييرات كثيرة على تصور القضية‪ ،‬يصل راسل في سنة ‪ 1914‬إلى تعريف القضية على‬
‫أساس أنها رمز مركب ‪ ،un symbole complexe‬أي أنها صورة مؤلفة من كلمات‪ ،‬و هذا الصورة‬
‫تكون إما صادقة أو كاذبة‪ .‬و هذا ما كنا بدأنا به‪.‬‬
‫راسل فرق أيضا بين القضية ‪ La proposition‬و الدالة القضوية ‪La fonction‬‬
‫‪ propositionnelle‬على شاكلة تا(س)‪ :‬س‪ .‬فالقضية تكون إما صادقة او كاذبة‪ .‬أما دالة القضية‬
‫فتكون إما ممكنة‪ ،‬أو ضرورية أو مستحيلة‪.‬‬
‫إذن فلسفة راسل كانت فلسفة تحليلية‪ ،‬الن راسل اعتقد أنه علينا البحث عن العناصر البسيطة التي‬
‫تتكون منها المركبات ‪ ،Les complexes‬و أن وجود المركبات يفترض وجود العناصر البسيطة‪،‬‬
‫بينما العناصر البسيطة ال يفترض وجودها وجود المركبات‪.‬‬
‫‪13‬‬
14
‫المحاضرة الخامسة‪ :‬فلسفة التحليل عند فتجنشتاين األول‬

‫يحتل فتجنشتاين مكانة خاصة في الفلسفة المعاصرة‪ ،‬و فلسفته عبر عنها في مرحلتين مختلفتين و‬
‫هذا ما يسمى بفلسفته األولى و فلسفته الثانية أو المتأخرة‪ ( .‬و هناك بحوث جارية اليوم تتحدث عن‬
‫فلسفة ثالثة لفتجنشتاين يحددها محتوى كتابه » ‪ .)« De la certitude‬فلسفته األولى يعرضها‬
‫فتجنشتاين في الكتاب الوحيد الذي نشره و هو على قيد الحياة و هو كتاب‪" :‬رسالة منطقية‪-‬فلسفية"‬
‫» ‪ .« Tractatus logico-philosophicus‬و العنوان األصلي له هو ‪« Logisch-‬‬
‫» ‪)1921( philosophische Abhandlung‬‬
‫أما فلسفته الثانية فعرضها في مجموعة كتب‪ ،‬كلها نشرت بعد وفاته‪ ،‬و على رأسها كتاب "أبحاث‬
‫فلسفية" » ‪)1953( « Philosophische Untersuchungen‬‬
‫في واقع األمر فتجنشتاين بفلسفتيه هاتين أثر في تيارين فلسفيين معاصرين و هما الفلسفة التحليلية‬
‫الصورية و فلسفة اللغة العادية‪.‬‬
‫نعود إلى "رسالة منطقية‪-‬فلسفية"‪ .‬يتألف هذا الكتاب من قضايا أساسية تشكل المنطقية لهذا الكتاب‪.‬‬
‫هذه القضايا موضوعة تحت أعداد عشرية تشير إلى القضايا السبع األساسية و هي األكثر أهمية‪ .‬مثال‬
‫لدينا القضية األساسية األولى‪" 1 :‬العالم هو كل ما هنالك" ‪« Die Welt ist alles was der Fall‬‬
‫» ‪ .ist.‬يلي هذا القضايا الشارحة لهذه القضية األساسية‪:‬‬
‫"العالم هو مجموع الوقائع ال األشياء" ‪« Die Welt ist die Gesamtheit der‬‬ ‫‪1.1‬‬
‫» ‪Tatsachen, nicht der Dinge.‬‬
‫‪" 1.11‬يتحدد العالم بالوقائع و مجموعها يعبر عن كل ماهو موجود في الواقع‪« Die Welt ".‬‬
‫» ‪ist durch die Tatsachen, dadurch dass es alle Tatsachen sind.‬‬

‫تستند الرسالة في جزء منها إلى التحليل اللغوي الذي قام به راسل من قبل إالّ أن فتجنشتاين قد طور‬
‫ذلك ليطلق تصوره الخاص للتمثيل اللغوي‪.‬‬
‫يتكون العالم مما يسميه فتجنشتاين ب "حاالت األشياء"‪ .‬و تشكل األشياء "جوهر" العالم‪ ،‬و هي‬
‫بصفتها أشياء‪ ،‬بسيطة و مستقلة عن حاالت األشياء‪ .‬أما في حاالت األشياء‪ ،‬فاألشياء ترتبط فيما بينها‬
‫بعالقات‪ ،‬بحيث تشكل هذه العالقات العدة المنطقية للعالم‪ ( .‬لذلك يتحدث فتجنشتاين عن المكان‬
‫المنطقي‪ ،‬بمعنى العالم القائم على أساس العالقات المنطقية بين األشياء)‪ .‬هذه العالقات تحدد بذلك‬
‫‪15‬‬
‫نقطة التقاء اللغة بالعالم ( نقطة التقاء على أساس البنية المشتركة بين الواقعة و القضية) يقول‬
‫فتجنشتاين في الرسالة‪ " :‬فأسطوانة الفونوغراف و الفكرة الموسيقية و النوتة و الموجات الصوتية‪،‬‬
‫جميعها تقوم الواحدة منها بالنسبة إلى األخرى ضمن هذه العالقة الداخلية من التمثل التي نجدها بين‬
‫اللغة و العالم‪ .‬إن البنية المنطقية هي المشتركة فيها جميعا‪".‬‬
‫إن الشكل العام الذي استخدمه فتجنشتاين لشرح العالقة بين حاالت األشياء و بين الوقائع هو ”‪”aRb‬‬
‫وهذا يعني أن " ‪ a‬على عالقة ‪ ."b‬ينطبق ذلك أيضا على تشكل القضايا األولية التي تمثل كل واقعة‬
‫بسيطة بمعنى حالة أشياء‪ ،‬و كل قضية أولية تتكون من أسماء لها داللتها على الموضوعات و على‬
‫العالقة بينها‪.‬‬
‫تعمق فتجنشتاين في رسالته في تحليل العالقة بين القضية ‪ Satz‬و الواقعة ‪ ،Tatsache‬و يصل إلى‬
‫فكرة أن القضية هي صورة منطقية ‪ ،ein logisches Bild‬فهي صورة الن بنيتها تعكس بنية‬
‫الواقعة‪ .‬فالواقعة‪ ،‬مثل القضية‪ ،‬تتكون من مكونات ترتبط بنفس الطريقة التي ترتبط وفقها مكونات‬
‫القضية التي تمثل هذه الواقعة‪ .‬هذا التماثل البنيوي ‪ isomorphisme de structure‬يسمح لنا‬
‫اعتبار العالقة بين القضية و الواقعة على أساس أنها عالقة انعكاس ‪une relation de‬‬
‫‪ .projection‬هذا اإلنعكاس هو ما يؤسس اللغة‪ ،‬ولكن اللغة ال تستطيع الحديث عن هذه العالقة بل‬
‫تبينها فقط ألنه هناك تماثل في البنية بين القضية و الواقعة‪ ،‬فاللغة تستطيع اللغة وصف العالم‪ ،‬و‬
‫لكنها ال تستطيع أن تعبر هذا التماثل أو أن تصفه‪ .‬على أساس هذه الفكرة المهمة‪ ،‬و التي يمكن أن‬
‫نضيف لها تعريف الصورة المنطقية للقضايا و التعريف بقواعد ترابط هذه القضايا‪ ،‬سيفصل‬
‫فتجنشتاين بين ما نستطيع قوله ‪ Le dicible‬و ما ال نستطيع قوله ‪ ،L’indicible‬أي بين المعنى و‬
‫الالمعنى‪.entre dire et montrer ،‬‬
‫هذه الحدود التي تسطر معالم المعنى هي نفسها التي ستعين الحدود الجديدة للفلسفة‪ .‬فالميتافيزيقا مثال‬
‫سيوجهها فتجنشتاين إلى جانب الالمعنى ألنها في نهاية األمر‪ ،‬تظهر كمحاولة لتسطير حدود اللغة و‬
‫الفكر من الخارج‪ ،‬في حين أن هذه الحدود ال يمكن تعيينها إالّ داخل اللغة و من داخل حدود الفكر‪.‬‬
‫كذلك تحليل و توضيح اللغة يكونان في اعتقاد فتجنشتاين ليس فقط الوظيفة المشروعة للفلسفة‪ ،‬و‬
‫لكن أيضا وظيفتها الممكنة‪ ،‬و كل محاولة أخرى للتفلسف سواء ميتافيزيقية‪ ،‬أو أخالقية‪-‬جمالية ستجر‬
‫الفلسفة نحو الالمعنى‪ .‬ف"الفلسفة ليست نظرية و لكن نشاط" يقول فتجنشتاين في الرسالة‪ ،‬و هذا‬
‫النشاط يعمل على توضيح القضايا و بالتالي توضيح األفكار‪ ،‬الن الفكرة ماهي إالّ قضية ذات معنى‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫فلسفة اللغة كما قدمها فتجنشتاين المتأخر‬

‫ما يسمى عادة بالفلسفة الثانية أو المتأخرة لفتجنشتاين تبدأ فعليا مع كتابة "أبحاث فلسفية"‪ ،‬و هو‬
‫الكتاب الذي أراد فيه فتجنشتاين تصحيح ما أسماه هو ب " األخطاء التي وقع فيها في الرسالة"‪.‬‬
‫"أبحاث فلسفية" نشرت في ترجمتها االنكليزية سنة ‪ ،1953‬يعني عامين بعد وفاة مؤلفها‪ .‬و في‬
‫مشروع تمهيد هذا الكتاب‪ ،‬و الذي يرجع تاريخه إلى ‪ ،1945‬يشير فتجنشتاين إلى أن كتاب "أبحاث‬
‫فلسفية" ال يفهم و ال يمكن أن تأخذ عباراته في معنى من المعاني إالّ إذا قرأ بعد قراءة الرسالة‪ ،‬إذ‬
‫يشكل هذا الكتاب "نقدا" للرسالة و امتدادا لها في ذات الوقت‪ .‬هي نقد ألن عدد من أطروحات "رسالة‬
‫منطقية‪-‬فلسفية" غابت تماما من الفلسفة المتأخرة لفتجنشتاين‪ .‬و لكن هناك امتداد ألن وراء اختالف‬
‫األطروحات بين "الرسالة" و "األبحاث" نكتشف نوع من االستمرارية على مستوى المقاصد‪ ،‬و‬
‫بالتالي حتى و إن كنا اآلن نتحدث عن فتجنشتاين أول و فتجنشتاين ثاني‪ ،‬يكون ربما من الخطأ اإلنكار‬
‫أن "أبحاث فلسفية" هي قبل كل شيء تعميق للمسائل الفلسفية التي طرحها فتجنشتاين األول‪ ،‬و ربما‬
‫محاولة لحلها بطريقة أخرى كما اعتقد ذلك فتجنشتاين نفسه‪.‬‬
‫نتحدث قليال عن تركيب "أبحاث فلسفية"‪ .‬كما في الرسالة‪ ،‬سيتبع فتجنشتاين نظام الترقيم في هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬فهو عبارة عن فقرات مرقمة‪ ،‬و لكن نظام الترقيم المعقد و الذي يشير في "رسالة منطقية‪-‬‬
‫فلسفية" إلى عالقة التقارب ‪ Relation de proximité‬الموجودة بين كل قضية من قضايا‬
‫الرسالة و بين القضايا السبع األساسية التي حددناها من قبل يترك المكان لترقيم عادي في "أبحاث‬
‫فلسفية"‪.‬‬
‫و مع ذلك عند قراءتنا لمحتوى "أبحاث فلسفية" نشعر بعدم انتظام الفقرات المكونة للكتاب‪ ،‬و لكن‬
‫هذا ماهو ظاهر فقط‪ ،‬إذ يمكن تنظيم الكتاب وفق ثالثة مستويات‪:‬‬
‫في المستوى األول يجري الحديث عن مشكلة عمل اللغة ‪Le problème du‬‬
‫‪ fonctionnement du langage‬وفق الظروف الفعلية لالستعماالت اللغوية‪ .‬و على المستوى‬
‫الثاني تصبح قضية الفكر هي الموضوع األساسي‪ ،‬و لكن البد أن نفهم أن ما يقصده فتجنشتاين من‬
‫الفكر ليس مجموعة من الظواهر الذهنية‪ ،‬و لكن مجموعة من أفعال اللغة ‪.Actes de langage‬‬
‫و توضيح الفكر هنا ال يتعلق فقط بعمل اللغة‪ ،‬و لكنه يتعلق أيضا بما يجعل اللغة ممكنة بما هي لغة‬
‫‪Ce qui rend possible le langage comme tel.‬‬
‫وأما على المستوى الثالث‪ ،‬فتصبح طبيعة التفكير هي الموضوع المحوري‪ ،‬في محاولة لتحديد‬
‫االستراتيجيات المختلفة للفكر‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫ولكنني اعتقد ان هذه المستويات متداخلة‪ ،‬و هذا في الحقيقة ما يخلق االختالف بين هذا النص‬
‫لفتجنشتاين و بين النصوص الفلسفية المعتادة التي تخضع لتسلسا خطي للمبادئ و النتائج‪ .‬فمالحظات‬
‫"أبحاث فلسفية" أقل اشتماال على الحكم المباشر‪ ،‬و معظمها تقوم بالتعبير عن مجموعة متنوعة من‬
‫المواقف و الصور‪ ،‬و هذا أسلوب نادر في الكتابة الفلسفية‪.‬‬
‫قلنا ان هناك اختالف بين أهم أطروحات "رسالة منطقية‪-‬فلسفية" و أطروحات "أبحاث فلسفية"‪ ،‬و‬
‫لكن هناك قناعة لم يتخلى عنها فتجنشتاين عند انتقاله من الفلسفة األولى إلى الفلسفة المتأخرة‪ .‬هذه‬
‫القناعة تقول إن المشاكل الفلسفية خاصة تتولد في معظم األحيان عن عدم معرفة طريقة عمل لغتنا ‪La‬‬
‫‪ méconnaissance du fonctionnement de notre langage‬او عدم التمكن من‬
‫طريقة عمل اللغة‪ .‬ولكن الطريقة التي سيتبعها فتجنشتاين في فلسفته الثانية لتعميق هذه القناعة لن‬
‫تعتمد على ما اعتمد عليه في الرسالة و أقصد بذلك "إصالح المنطق"‪ ،‬فمن فريجه إلى كارناب كانت‬
‫هناك محاولة تحليلية مستمرة تقوم على العموم على فكرة أن معظم المسائل التي تظهر في العلم و‬
‫الفلسفة تجد مصدرا لها في االستعمال السيء للغة‪ ،‬و لن نتخلص من هذا االستعمال السيء إالّ‬
‫باالعتماد على التحليل المنطقي‪ .‬إذن بالنسبة لفريجه‪ ،‬و فتجنشتاين األول‪ ،‬و كارناب‪ ،‬و عادة ما‬
‫يسمون باإلصالحيين‪ Les réformistes‬لن نخرج من هذه المآزق التي تسببت فيها الطريقة‬
‫السيئة لعمل اللغة ‪ Le dysfonctionnement du langage‬إالّ بتطهير اللغة من العناصر‬
‫المشوشة‪ ،‬و إما بتأسيس لغة مثالية كاملة‪ .‬فتجنشتاين األول كانت له هذه القناعة كما رأينا‪ ،‬حتى‬
‫توصل إلى تحديد اللغة بتعيين صورة منطقية عامة للقضية لن تخرج عنها هذه األخيرة أبدا ( القضية‬
‫‪ 6‬في الرسالة)‪ ،‬بينما سيظهر هذا نوعا من المبالغة في اعتقاد فتجنشتاين المتأخر ( الفقرة ‪ 132‬من‬
‫"أبحاث فلسفية") القول بنوع من المبالغة‪ ،‬هذا يعني ان فتجنشتاين سيلجأ إلى تفسير آخر نجد عينة‬
‫له في الفقرات ‪ 23‬و ‪.65‬‬
‫يقول فتجنشتاين المتأخر إننا نستعمل اللغة بطرق مختلفة ال نهاية لها‪ ،‬و ان اللغة هي وسيلة نكيفها‬
‫مع أهدافنا‪ ،‬هذه األهداف ال تقتصر على وصف العالم أو على تمثيل العالم كما كان الحال في الرسالة‪.‬‬
‫فخطأ اإلصالحيين في اعتقاده‪ ،‬هو محاولة إخضاع االستعماالت اللغوية المختلفة ( و هي بأنواع‬
‫مختلفة كما رأينا) لقواعد لعبة لغة واحدة‪ ،‬و هي لعبة المنطق و العلم‪ ،‬و هذا خطأ في تصور مؤلف‬
‫"أبحاث فلسفية" الن ألعاب اللغة متعددة‪ ،‬و بالتالي يكون من الخطأ في مستوى أعنق البحث عن‬
‫شروط إمكانية المعنى في الصورة المنطقية العامة للقضية بما أن صورة القضية في حد ذاتها محددة‬
‫بنظام خاص من القواعد المحدد للعبة من ألعاب اللغة‪ .‬إذن ليس هناك صورة منطقية عامة واحدة‬
‫للقضية كما اعتقد فتجنشتاين األول‪ ،‬هناك صور ال متناهية تحددها قواعد ألعاب لغوية غير متناهية‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫اآلن التفريق بين المعنى و الالمعنى سيبقى فتجنشتاين محافظا عليه في فلسفة فتجنشتاين‪ ،‬ولكن هذا‬
‫التفريق ال يعتمد على معيار واحد و ال يمكننا تحديده مرة واحدة و لألبد‪ ،‬و لكنه سيكون نسبيا‪ ،‬بمعنى‬
‫أن الالمعنى بالمعنى المنطقي يختلف عن الالمعنى بالمعنى التيولوجي مثال ( انظر الفقرة ‪ 136‬مثال)‬
‫لعبة اللغة ‪ Sprachespiele‬هذا معناه أن الكالم هو جزء من النشاط اليومي أو أنه شكل من‬
‫أشكال الحياة‪ .‬يقول فتجنشتاين حاول أنك تستعرض كثرة و تنوع ألعاب اللغة‪ ،‬أن تصف غرضا انطالقا‬
‫من مظهره أو من قياسات‪ ،‬أن تبني بيتا تبعا لوصف معين‪ ،‬أن تنتبه اسيرورة ما‪ ،‬أن تترجم من لغة‬
‫إلى أخرى‪ ،‬أن تطلب و أن تشكر وأن تقسم و ان تحي و تصلي‪ ،‬هذا ما يعكس تعدد ألعاب اللغة كأشكال‬
‫للحياة‪ .‬و كما أن للقطع في لعبة الشطرنج دورها‪ ،‬كذلك في اللغة تتحدد الكلمات و تتحدد االستعماالت‬
‫اللغوية بالقواعد‪ .‬و بالتالي حتى نجيب عن السؤال‪" :‬ماهي الكلمة في حقيقة األمر؟" يجب أن نفترض‬
‫نسقا اصطالحيا من القواعد تحدد استعمال كلمة داخل لعبة من ألعاب اللغة الالمتناهية‪ .‬اإن اللغة بهذا‬
‫المعنى ستتعامل بشكل موسع مع األمور المتشابهة و المتقاربة‪ ،‬معنى هذا أن التعبير عن سيرورة‬
‫داخلية فردية‪ ،‬األلم مثال‪ ،‬ال يمكن أن يكون جزء من لغبة لغة‪ ،‬و بالتالي ال داللة لما يصفه‪ .‬إذن‬
‫االعتقاد بإمكانية تصور ألعاب لغة متناهية العدد هو الذي يشكل في فلسفة فتجنشتاين المتأخر مرجعية‬
‫التحليل‪ .‬لعبة اللغة إذن‪ ،‬هي أوال و قبل كل شيء مجموعة أو نظام من القواعد تسمح بربط مجموعة‬
‫من األفعال اللغوية المختلفة‪.‬‬
‫مجموع هذه األطروحات الخاصة باختالف و تعددية ألعاب اللغة أملتها قناعة فتجنشتاين المتأخر بان‬
‫المشاكل التي يعاني منها الفيلسوف تتولد من محاولة استخالص تشابهات بين استعماالت مختلفة‬
‫لكلمة واحدة‪ ،‬في حين يعتقد فتجنشتاين أن الكلمة هي أداة ال نستعملها دائما بنفس الطريقة‪ ،‬و يخضع‬
‫هذا االستعمال لمجموعة من القواعد يحددها النحو ‪ .La grammaire‬و لكن النحو هنا ليس مجرد‬
‫مادة معيارية تعمل على تثبيت قواعد التكوين السليم للعبارات‪ .‬و بالتالي يجب ابتداء من هنا االخذ‬
‫بعين االعتبار التحديد المزدوج للقضية‪ :‬التحديد التركيبي المعطى بواسطة قواعد تكوين العبارات أو‬
‫الجمل داخل لغة معطاة‪ ،‬ثم التحديد الداللي – التداولي المعطى بواسطة قواعد استعمال اإلشارات داخل‬
‫لعبة لغة معينة ( الفقرة ‪)136‬‬
‫بعد "أبحاث فلسفية" اندفع فتجنشتاين في كتابات أخرى نشرت هي أيضا بعد وفاته مثل "الكتاب البني‬
‫و الكتاب األزرق" و كتاب "في اليقين" إلى تصور الفلسفة كعالج ‪ une thérapie‬من أمراض‬
‫اللغة‪ ،‬فالفلسفة في ظنه هي " معركة ضد فتنة عقلنا و اللغة هي الوسيلة في هذه المعركة‪ ".‬إذ " ال‬
‫ينتاب العقل في دورانه حول حدود اللغة إالّ األورام‪ ".‬فالعالم يقاس باللغة‪ ،‬أما حدوده فهي ما يمكن‬
‫صياغته منطقيا‪ ،‬و ما ال يمكن قوله يمكن اإلشارة إليه‪ .‬و هنا أيضا ال يمكن تقييد الفلسفة بأي مذهب‬

‫‪19‬‬
‫أو نظرية‪ ،‬فالفلسفة نشاط أو فاعلية ‪ ،‬و إذا كان فتجنشتاين األول قد استغنى عن الرسالة ألنها كانت‬
‫فقط السلم الذي استخدمه للصعود إلى األعلى‪ ،‬فإنه لم يستطع االستغناء عن فلسفته الثانية‪ ،‬الن رفضه‬
‫لهذه الفلسفة سيساوي رفضه للحياة في حد ذاتها‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫محاضرات حول الوضعية المنطقية و عالقتها بالنظرية العلمية‬

‫بالنسبة للوضعية المنطقية هناك مركبين للنظرية العلمية‪ :‬المركب األول هو القضايا األولية و التي‬
‫تتعلق كل واحدة منها بظاهرة معينة تحصل في مكان معين و في وقت معين ( قضايا البروتوكول)‪ .‬و‬
‫المركب الثاني يتمثل في القضايا المنطقية و الرياضية التي تمكننا من التنسيق بين القضايا األولية من‬
‫أجل بناء نظريات علمية بواسطة المنهج االستقرائي‪.‬‬
‫نعرف بعد ذلك أن القضايا المنطقية و الرياضية هي في اعتقاد الوضعيين المنطقيين قضايا تحليلية‪،‬‬
‫بمعنى انها قضايا تصدق و تكذب بعيدا عن ما يحصل في العلم من وقائع‪ ،‬و إذا كانت صادقة هذا ألنها‬
‫تحصيالت حاصلة‪ ،‬و إذا كانت كاذبة هذا النها تناقضات‪ ،‬إذن فهي تحصيالت حاصلة أو تناقضات‪.‬‬
‫إذن بالنسبة للوضعية المنطقية‪ ،‬القضايا المنطقية و المعادالت الرياضية هي وسائل لتنظيم معارفنا‬
‫التجريبية‪ .‬و لكن هذه القضايا في حد ذاتها فارغة من المعنى ( بمعنى فارغة من المحتوى التجريبي)‪،‬‬
‫أي أنها ال تخبرنا شيئا عن محتوى العالم‪.‬‬
‫اآلن كل القضايا العلمية النظرية التي تنشأ عن ترابطات واقعة بين القضايا األولية‪ ،‬الناتجة عن‬
‫التجربة الحسية المباشرة) وبين القضايا المنطقية و الرياضية‪ ،‬يتحقق معناها الرتباطها بهذه القضايا‬
‫األولية أو قضايا البروتوكول ( أساس مبدأ التحقق عند الوضعيين)‪ .‬ألن القضايا األولية‪ ،‬و على‬
‫عكس القضايا المنطقية و الرياضية‪ ،‬تحمل معنى و محتوى تجريبي يتعلق بما يجري في العالم‪ ،‬و‬
‫بالتالي فإن القضايا األولية تشكل معنى كل النظرية العلمية‪.‬‬
‫إذن كل ايبستمولوجيا الوضعية المنطقية تقوم على مبدأ أن كل قضايا النظريات العلمية يمكن ان ترد‬
‫إلى بناءات منطقية و رياضية تنطلق من قضايا أولية متعلقة بالمعنى الحسي المباشر‪ .‬هذه القضايا‬
‫تكون أساس لكل المعارف ألنها مبررة و مثبتة بواسطة التجربة المباشرة‪ ،‬و بالتالي كل‬
‫األولية ّ‬
‫القضايا العلمية األخرى تكون مبررة بواسطة القضايا األولية و بواسطة االستقراء‪ .‬هذا ال يعني ان‬
‫القضايا األولية تشرح القضايا العلمية‪ ،‬إذ البد من التفريق بين الشرح و التبرير‪.‬‬
‫الخلفية االولى التي قامت عليها الوضعية المنطقية أو فلسفة حلقة فيينا هو سؤال طرح و مازال يطرح‬
‫في الحقيقة و هو ‪ :‬كيف يمكن للفلسفة أن تستفيد من نموذج العلم و المسار الذي أخذه العلم؟ ولكن‬
‫ماهو العلم األنسب الذي يمكن ان يكون مثاال أمام الفلسفة و يمكن أن تتأثر به و تنحو منحاه؟‬
‫كل هذا سيطرح إشكالية عالقة الفلسفة بالعلم‪ ،‬ألن الفلسفة البد أن تتغذى مما ليس منها او من‬
‫طبيعتها‪ ،‬فالفلسفة التي تنغلق على ذاتها و ال ترضى بعالقات تجمعها بمواد فكرية أخرى لن تكون‬

‫‪21‬‬
‫بذات أهمية من وجهة نظر ايبستمولوجية‪ .‬لذلك ظهرت فلسفة العلم التي واجهت مشكلة هوية‪ ،‬ألننا‬
‫نتساءل دائما ما إذا كانت فلسفة العلم هي "علم العلم" او هي "نظرية العلم" او نظرية العلوم‪ ،‬ألنه إذا‬
‫تحدثنا فن فلسفة العلم ك "علم العلم" تكون هذه الفلسفة نظرية للعلوم التجريبية او الدقيقة‪ ،‬و تكون‬
‫هي أصال تجريبية‪ .‬و لكن عندما تكون فلسفة العلم هي "نظرية العلم" أو نظرية العلوم فلن تكون في‬
‫هذه الحالة تجريبية باألساس‪ ،‬و لكنها ستتعلق في هذه الحاة بالمنطق‪ ،‬و هذا ما قاله كارناب مثال الذي‬
‫اعتبر الفلسفة مادة صورية مهمتها هي تحليل لغة العلم من الجوانب الثالثة للتحليل اللغوي‪ :‬الجانب‬
‫التركيبي ‪ ،syntaxique‬و الجانب الداللي ‪ ،Sémantique‬و الجانب التداولي‬
‫‪ .pragmatique‬بمعنى ان الفلسفة تنظر في مختلف الصور التي يمكن ان تأخذها اللغات العلمية‪،‬‬
‫و تحلل مختلف المحتويات الداللية لهذه اللغات و هذا بإيجاد عالقات لهذا مع الفعل اإلنساني ( و هذا ما‬
‫يشرح الجانب التداولي)‪.‬‬
‫في الحقيقة تصور الفلسفة العلم كمنطق للعلم كان منتشرا عند أعضاء حلقة فيينا و هذا نتيجة لتطور‬
‫المنطق الصوري الحديث‪ ،‬لهذا كان الوضعيون المنطقيون على وعي بأنهم بهذا التصور للفلسفة‬
‫سيبتعدون عن معنى الوضعية الذي كان سائدا أنذاك و التي كانت من وضع إرنست ماخ‪.‬‬
‫إذن بفضل الوسائل المنهجية و التحليلية الهائلة التي وضعها المنطق الحديث أماما حلقة فيينا‪،‬‬
‫استطاع أعضاء هذه الحلقة االبتعاد عن التقليد االيبستمولوجي الخاص بنظرية المعرفة‪.‬‬
‫فكيف ظهرت الوضعية المنطقية؟ لو نتتبع تاريخ الفلسفة نجد أن أكبر لحظات هذا التاريخ ارتبطت‬
‫غالبا بالفكر العلمي‪ ،‬فاألفالطونية ارتبطت بظهور الرياضيات‪ ،‬و الديكارتية ارتبطت بالثورة الغليلية‪ ،‬و‬
‫ارتبطت الكانطية بميكانيكا نيوتن‪.‬‬
‫نعرف اآلن ان بداية القرن ‪ 20‬عرفت الفيزياء على وجه التحديد أزمة حقيقية‪ ،‬و المنطق يتطور و‬
‫يتجدد بصفة كلية تقريبا‪ ،‬و الرياضيون يتساءلون عن أسس الرياضيات في ظل هذه األحداث الثالثة‬
‫الخاصة بالفيزياء من جهة‪ ،‬و بالمنطق و الرياضيات من جهة أخرى‪ .‬في هذه األثناء ظهرت حلقة فيينا‬
‫و ازدهرت من الفترة الممتدة من ‪ 1922‬إلى ‪ 1936‬و بدأت بعد ذلك بالتفكك كحلقة مع ظهور النازية‬
‫في ألمانيا‪ ،‬و استمرت بعد ذلك و لكن بشكل مغاير نوعا ما في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬ألن معظم‬
‫أعضائها هاجروا إلى هذا البلد‪.‬‬
‫الوضعية المنطقية كفلسفة جديدة في القرن الماضي شملت أبعادا متعددة‪ ،‬فهي فلسفة تجريبية و لكنها‬
‫منطقية‪ ،‬و هي فلسفة وضعية بمعنى أنها تحوي على نظرية في العلم‪ ،‬و هي فلسفة واقعية أيضا‪ .‬بدأت‬
‫هذه الفلسفة مع حلقة فيينا التي تأسست بصفة غير رسمية على يد ثالثة مفكرين كانوا يجتمعون في‬
‫مقاهي فيينا في الفترة الممتدة من ‪ 1907‬إلى ‪ 1912‬و هم الرياضي ‪ ،H. Hahn‬و الفيزيائي ‪ph.‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ ،Franck‬و عالم االجتماع ‪ .Otto. Neurath‬الثالثة واجهتهم ما عرف أنذاك بأزمة الفيزياء‬
‫الميكانكية و التي كثر الحديث عنها‪ ،‬ألن األزمات المتكررة التي بدأت تعرفها العلوم‪ ،‬خاصة الدقيقة‬
‫منها‪ ،‬زعزعت الثقة بالعلم‪ ،‬و بدأت تظهر تيارات معادية للعلم و للتطور العلمي‪ ،‬فبدأ التشكك في قدرة‬
‫العلم على بلوغ حقائق خاصة بالعالم‪ ،‬و الدعوة بعد ذلك إما للعودة إلى الدين أو إلى التأمل الفلسفي‬
‫الخالص و استبدال المناهج العلمي بمناهج معرفية أخرى‪.‬‬
‫بدأ المفكرون الثالثة في البحث عن تصور للعلم يسمح بقطع الطريق أمام هذه التصورات المناقضة‬
‫للعلم و أمام محاولة العودة إلى الروحانية او الالعقالنية التي نادى بها فيلسوف كبرغسون‪ .‬لهذا‬
‫درسوا ‪ ،H. Poincaré‬و ‪ ،P. Duhem‬كما درسوا إرنست ماخ‪ ،‬و كانوا يتابعون عن كثب تطور‬
‫فيزياء اينشتاين‪ .‬و لكنهم تأثروا خاصة بنظرية ماخ و نظرية بوانكاريه و حاولوا التوفيق بينهما‪،‬‬
‫فماخ قال إن المبادئ العامة للعلم هي عبارة عن أوصاف مختصرة و اقتصادية للوقائع المالحظة‬
‫‪ ،Faits observés‬أما بوانكاريه فاعتقد أن المبادئ العامة للعلم هي عبارة عن اختراعات حرة‬
‫للفكر اإلنساني تتحدث عن الوقائع المالحظة‪ .‬يقول فليب فرانك أن محاولة إدماج هذاين التصورين في‬
‫نسق واحد سيكون أساسا لما سيسمى الحقا بالوضعية المنطقية و التي أسسها فعليا كحركة موريس‬
‫شليك‪.‬‬

‫موريس شليك‬

‫قامت فلسفة موريس شليك (‪ )1936-1882‬على نقد نظرية المعرفة الكانطية أو على ما يسمى‬
‫بالواقعية النقدية‪ .‬ففي واحد من مؤلفاته األولى ‪« Raum und Zeit in der gegenwartig‬‬
‫» ‪ )1917( Physik‬يعرض شليك معالجة نقدية للقضايا التركيبية القبلية الخاصة بالمكان و الزمان‬
‫التي تحدث عنها كانط و ذلك باالعتماد على نظرية النسبية‪ .‬اعتقد شليك أن كانط أراد ان يؤسس‬
‫المصداقية المطلقة لميكانيكا نيوتن و هذا بواسطة الصور المتعالية للحس و الفهم‪ .‬إذ اعتبر كانط أن‬
‫المبادئ األولى لميكانيكا نيوتن هي حقائق ضرورية خاصة بالواقع التجريبي‪ ،‬أي أنها قضايا تركيبية‬
‫قبلية‪.‬‬
‫طبعا أول من ثار ضد هذا االعتقاد الكانطي هم الرياضيون‪ ،‬و بعد ذلك الفيزيائيون‪ ،‬فنظرية النسبية‬
‫تأسست على انتقادات الذعة و جهها اينشتاين ضد ميكانيكا نيوتن‪ ،‬فنظرية النسبية بينت أن العبارات‬
‫الخاصة بالحاالت الفيزيائية‪ ،‬بما في ذلك الزمان و المكان‪ ،‬هي من طبيعة تجريبية‪ ،‬و بالتالي فهي‬

‫‪23‬‬
‫قضايا تركيبية بعدية في ذات الوقت‪ .‬أما بوانكاريه فبين أنه بإمكاننا تأويل القوانين الكلية للطبيعة‬
‫باعتبارها قضايا تحليلية أو اصطالحية ( هذا في مقابل رفض كانط للقضايا التحليلية)‪ ،‬و هذا ليكشف‬
‫عن الطبيعة االصطالحية لبعض الخطوات المنهجية في البحث العلمي‪.‬‬
‫انطالقا إذن مما قدمته النظرية النسبية و بوانكاريه يقدم شليك نقدا لكل القضايا التي يصفها كانط و‬
‫اتباعه بالتركيبية القبلية‪ ،‬و يتوصل إلى نتيجة ان هذه القضايا يمكن صياغتها إما على أساس أنها‬
‫حقائق ضرورية و بالتالي فهي قضايا تحليلية‪ ،‬أو على أساس أنها أحكام معرفية تملك محتوى واقعي‪،‬‬
‫و تكون في هذه الحالة قضايا تجريبية أو تركيبية بعدية‪.‬‬
‫إذن ال وجود لقضايا تركيبية قبلية‪ ،‬إالّ ربما في مجال المنطق و الرياضيات‪ ،‬العلوم الصورية‪ ،‬و هذا‬
‫يحتاج إلى البحث‪ .‬و حتى إن وجدت في مجاالت كالمنطق و الرياضيات‪ ،‬المهم بالنسبة لشليك أن هذه‬
‫األحكام ال يمكننا اعتبارها أحكام معرفية مطلقة و صالحة تخص الواقع التجريبي للعالم‪.‬‬
‫في إطار الواقعية النقدية و عندما انتقد شليك القضايا القبلية‪ ،‬يكون قد انتقد في ذات الوقت التصور‬
‫الكانطي للمعرفة العلمية و أطروحته في إمكانية وجود معارف تركيبية قبلية بالفعل‪ .‬و بهذا يكون‬
‫شليك قد رفض إمكانية أن تصبح الميتافيزيقا علما‪ ،‬و هذا الذي سعى إليه كانط في "نقد العقل‬
‫الخالص"‪.‬‬
‫في مقابل هذا‪ ،‬يقترح شليك نظرية جديدة في المعرفة تقوم على التمييز بين ماهو تحليلي و ماهو‬
‫تركيبي‪ ،‬كما تقوم على معيار للحقيقة محدد بطريقة معالجة للقضايا العلمية‪ .‬إذن التعريف بالمعرفة‬
‫التجريبية و محاولة تحديد ماذا نعني بها هو الذي سيحدد معالم الواقعية النقدية التي ستحل النزاع‬
‫القائم بين المثالية و الواقعية‪.‬‬

‫رودولف كارناب‬

‫رأى كارناب أن بفضل التحليل المنطقي للغة تستطيع االيبستمولوجيا أن تضع خطا فاصال بين المجال‬
‫الحقيقي للعلم و المجال الميتافيزيقي‪ .‬هذا الفصل سيتم بواسطة نظرية في المعنى‪ ،‬فالعبارة لن يكون‬
‫لها معنى إالّ إذا ردت إلى معطيات يمكننا مالحظتها تجريبيا‪ .‬فكل عبارة ليس لها قاعدة تجريبية بهذا‬
‫المعنى هي خالية من المعنى‪ ،‬و هذا هو حال العبارات الميتافيزيقية التي ال تخضع بعد ذلك لمبدأ‬
‫التحقق‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫كذلك من الذين حركوا بقوة أفكار الحلقة‪ ،‬و إن لم يكن فيلسوفا بالمعنى االحترافي للكلمة‪ ،‬أوتو نويرات‬
‫و هو عالم اقتصاد بالتكوين‪ .‬لم يكن له وضع محدد في جامعة فيينا و لكنه كان عضوا نشطا جدا في‬
‫إطار اللقاءات التي كانت تنظمها الحلقة‪ ،‬و كان ينشر مقاالت عديدة في مجلة ايديولوجية اسمها ‪Der‬‬
‫‪ .Kampf‬كان شديد الكره بطبيعة الحال للميتافيزيقا‪ ،‬و كان يقول أن محاربة الميتافيزيقا هي بمثابة‬
‫محاربة البرجوازية الرجعية ‪.La bourgeoisie réactionnaire‬‬
‫طبعا لم تكن لنويرات‪ ،‬عكس شليك و كارناب‪ ،‬نظرية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني نسقية‪ ،‬و‬
‫لكن كان لديه مجموعة كثيرة من األفكار القوية‪ ،‬أفكار لم يتقبلها فيلسوف كشليك الذي كان معتدال‬
‫نوعا ما في تصوراته‪ ،‬و لكنها كانت شديدة التأثير على كارناب خاصة في بداية الثالتينيات‪.‬‬
‫اآلن ما كتبه شليك في "النظرية العامة للمعرفة" لم يكن موضوع نقاش أثناء لقاءات الحلقة‪ ،‬على‬
‫عكس كتاب كارناب الذي عنونه ب "البناء المنطقي للعالم" ‪Der logische Aufbau der‬‬
‫‪ .Welt‬كتاب شليك "النظرية العامة للمعرفة" اعتمد على مختلف التطورات التي عرفتها الفيزياء و‬
‫الرياضيات خاصة الهندسة‪ .‬يشرح شليك األفكار في هذا الكتاب بطريقة تقليدية باالعتماد على‬
‫مصطلحات سيكولوجية و منطقية كالسيكية‪ .‬وربما من نقائص هذا الكتاب عدم االعتماد على دروس‬
‫المنطق الحديث‪ ،‬و لكن هذا ال يمنع القارئ من شرحه على ضوء هذه الدروس‪ .‬و أهمية هذا المؤلف‬
‫لشليك تظهر في أمر أنه يقدم لنا نظرية أصيلة في المعرفة‪ ،‬و موضوعة في سياق نقاشات العصر‬
‫سواء العلمية او الفلسفية خاصة النقاشات و الجدالت التي كانت قائمة بين أنصار الكانطية الجديدة و‬
‫أنصار وضعية ماخ الحسية‪ .‬أهميته تظهر أيضا في محاولة شليك استخالص بعض النتائج الفلسفية‬
‫من نسبية اينشتاين‪.‬‬
‫في المقابل‪ ،‬يعتمد كتاب كارناب " البناء المنطقي للعالم" اعنمادا واضحا و أساسيا على المنطق‬
‫الحديث‪ ،‬و يطور فيه كارناب نظرية منطقية تعتني بتكوين التصورات‪ ،‬و هذا العطاء صورة منطقية‬
‫واضحة لألطروحة الوضعية التي تقوم على تكوين التصورات انطالقا من المعطى المباشر‪.‬‬
‫أما أصالة كتاب كارناب فتظهر في قضية انه يضع مناهج منطقية كبديل للنظرية المعرفية الكالسيكية‬
‫التي تقوم على درسة القدرات اإلنسانية أو الملكات اإلنسانية كالعقل و الفهم‪..‬الخ لذلك يسمى الكتاب ب‬
‫"البناء المنطقي للعالم"‪.‬‬
‫طبعا كرناب لم يكتب فقط هذا الكتاب‪ ،‬بل كتب مقاالت كثيرة و كتب طرحت الكثير من األسئلة و‬
‫التساؤالت ذات الطابع االيبستمولوجي و الفيزيائي‪ .‬و في هذا اإلطار طرح كارناب سؤاال مهما جدا‬
‫تأسست عليه فلسفة حلقة فيينا في بداياتها و هو‪ :‬كيف يمكننا ايجاد مكان ووضع لما هو تجريبي و‬
‫اصطالحي في تكوين النظريات الفيزيائية؟‬

‫‪25‬‬
‫انطالقا من هذه المكتسبات المعرفية و االيبستمولوجية التي وجدت في كتب شليك و كارناب خاصة‪،‬‬
‫درس أعضاء حلقة فيينا "رسالة منطقية‪-‬فلسفية" لفتجنشتاين‪ ،‬رغم أنهم لم يتفقوا بعد ذلك حول‬
‫معاني القضايا التي يحويها هذا الكتاب‪ .‬تدارسوا رسالة فتجنشتاين في فترة أولى من ‪ 1926‬إلى‬
‫‪ ،1927‬و درسوه مرة ثانية في الفترة ما بين ‪ 1931-1930‬عندما اقترح فايزمان على أعضاء‬
‫الحلقة قراءة معينة لكتاب فتجنشتاين‪.‬‬
‫بالنسبة لشليك‪ ،‬أطروحات فتجنشتاين في الرسالة تسمح بإعطاء وجهة جديدة للنشاط الفلسفي‪ ،‬و هذا‬
‫يجعلها ذو أهداف محددة وله وظيفة محددة و المتمثلة في نقد اللغة و توضيح معنى ما نقوله‪ .‬ووجهة‬
‫النظر هذه لم يتقاسمها كل أعضاء الحلقة‪ ،‬فنويرات مثال انتقد لما رآه معنا تصوفيا للرسالة‪ ،‬خاصة‬
‫على مستوى ما يسمى بفلسفة المسكوت عنه‪ ،‬هذا المسكوت عنه يسميه فتجنشتاين بالتصوف و له‬
‫عدة صور األخالقية‪ ،‬و الجمالية وحتى المنطقية‪.‬‬

‫‪26‬‬

You might also like