Professional Documents
Culture Documents
الفلسفة التحليلية-أ. بن بوزيدي حياة-رابعة ثانوي
الفلسفة التحليلية-أ. بن بوزيدي حياة-رابعة ثانوي
قسم الفلسفة
السنة الرابعة
2020-2019
1
المحاضرة األولى :حول الفلسفة التحليلية.
يقول مايكل دامت ( M. Dummettو هو أحد كبار مؤرخي الفلسفة التحليلية و فيلسوف لغة تحليلي
أيضا) في كتابه "أصول الفلسفة التحليلية" » « Les origines de la philosophie analytique
إن ما يميز الفلسفة التحليلية عن باقي االتجاهات الفلسفية هو القناعة العميقة في أن التحليل الفلسفي
للغة يقود إلى شرح فلسفي للفكر .و لكن ماذا نقصد بتحليل فلسفي للغة؟ L’analyse
.philosophique du langageكلمة تحليل بطبيعة الحال لها تاريخ منطقي و فلسفي طويل و ال
يمكن استعراضه هنا .نستطيع فقط القول إن في الفلسفة عملية "التحليل" بدأت منذ الفلسفة االغريقية
مع سقراط في منهجه الديالكتيكي القائم على توليد األفكار :فتوليد الإلفكار فيه نوع من تحليل المركب
إلى البسيط .و في القرن السابع عشر جعل ديكارت من التحليل قاعدة أساسية من قواعد المنهج
ي أن أقسم كل واحدة من المعضالت التي أبحثها إلى عدد من األجزاء الممكنة و الالزمة
فيقول" :عل ّ
لحلها على أحسن وجه ".و يقول إتيان دو كوندياك ،في القرن الثامن عشر ،بضرورة تحليل األفكار و
اإلحساسات المركبة إلى أفكار و إحساسات بسيطة .و كلمة تحليل يصبح لها معنى ثاني عند كانط حيث
أنها تدل على طبيعة أحكام و هي ما يسميها باألحكام التحليلية ،و هي األحكام التي تكون فيها فكرة
المحمول متضمنة في فكرة الموضوع ،و بالتالي ال تضيف لها شيئا ،لذلك اعتبرها كانط أحكاما عقيمة.
في الحقيقة المعنى الذي تكتسبه كلمة "تحليل" في الفلسفة التحليلية ابتداء من القرن 20ال يعارض
هذا التاريخ ،و لكن مع أعالم فلسفة اللغة التحليلية أمثال جورج مور ،و جوتلوب فريجه ،و برتراند
راسل و فتجنشتاين أصبح التحليل الفلسفي مثال للمنهج .un modèle de méthodeفكلمة
"تحليل" عند هؤالء هي أكثر من أن تكون صفة ألحكام أو لقضايا .فالتحليل في الفلسفة التحليلية يع ّبر
عن عمل فكري هدفه توضيح العبارات .La clarification des énoncésالتحليل إذن ،اختار
كموضوع أساسي له في الفلسفة التحليلية اللغة ،فأصبحنا نتحدث داخل هذه الفلسفة عن تحليل اللغة
كأداة للتعبير عن الفكر .لماذا اللغة؟ ألن الفالسفة التحليليين يعتقدون أنه من المستحيل فهم الفكر أو
األفكار بدون هذا اللباس الذي يدعى اللغة ،و يؤكدون ،ثانيا ،على أن عنلية التحليل ال تتم إالّ داخل
اللغة و بواسطة اللغة .بصفة عامة ما يميز الفلسفة اللغوية التحليلية المعاصرة:
-القطيعة مع الفلسفة التقليدية (الميتافيزيقية) و تاريخها.
-إبعاد السيكولوجيا في تحليل المعنى و المعرفة.
2
-أولوية الدراسة اللغوية ،إذ من الضروري أن يسبق البحث في أية مسألة تحليل اللغة التي نع ّبر بها
عن هذه المسألة.
تتميز الفلسفة التحليلية كذلك بإجابتها عن أسئلة من خالل توضيح اللغة التي صيغت فيها هذه األسئلة.
من أجل ذلك يقوم الفالسفة التحليليون بتحليل العبارات المركبة و ردها إلى عناصر أكثر بساطة و أكثر
تأسيسا ،و تحليل مفاهيم و معاني العبارات .بصفة عامة ،يهدف التحليل هنا إلى البحث عن أسس
التعبير و تحديد أشكال صالحيته.
طبعا في األساس الفلسفة التحليلية هي فلسفة في اللغة ،أما أهميتها بالنسبة للفروع الفلسفية األخرى
فتتمثل في تحديد المعاني و تحاشي سوء الفهم النابع عن االستعماالت اللغوية .يقول فيلسوف اللغة
المعاصر " :Gilbert Ryleال يجب على االعتبارات الفلسفية أن تزيد من معارفنا ،بل عليها تصحيح
الجغرافية المنطقية لهذه المعرفة".
الفلسفة التحليلية بالمعنى الذي تحدثنا عنه نستطيع أن نقول إنها ظهرت في أعمال المنطقي و
الرياضي و الفيلسوف األلماني جوتلوب فريجه .Gottlob Frege
جوتلوب فريجه
Gottlob Frege
يعتبر جوتلوب فريجه ( )1925-1848مؤسس من مؤسسي المنطق الرمزي ،كما انه يعتبر و بحق
مصدر من أهم مصادر الفلسفة التحليلية إلى جانب مور ،راسل و فتجنشتاين .أعماله هي أوال أعمال
فيلسوف و منطقي يهتم بمشكلة أسس علم الحساب ،Les fondements de l’arithmétiqueو
هو من الذين يعتقدون أن هذه األسس ال يمكن أن توجد إالّ في دائرة القوانين المنطقية .كما اهتم
بتأسيس كتابة رمزية للفكر (كتابة التصورات ،)Begriffscriftفاهتمامه باللغة الطبيعية العادية لم
يكن إالّ بصيغة غير مباشرة ،فهم لم يثر قضية هذه اللغة إالّ لمقارنتها مع مطالب لغة حقيقية نتحدث
عنها في حينه .ففريجه من المناطقة و الفالسفة الذين بحثوا عن التعبير الدقيق و الصارم عن األفكار،
و هو يرى أن عناصر اللغة الطبيعية غالبا ما تمنع هذه الصرامة و الدقة في التعبير عن المعنى
بواسطة جملة عادية .فأوال ال بد أن نشير إلى أن اللغة الطبيعية العادية بالنسبة لفريجه ال تستعمل فقط
للتعبير عن أفكار محددة ،و لكنها تعبر أيضا عن انفعاالت و خياالت ،و هذا قد يمنع دقتها .و ثانيا
3
تحنوي اللغة الطبيعية على عبارات مجازية كثيرة ال نجدها في لغة العلم الصارمة و الدقيقة .بصفة
عامة ،ترتبط اللغة الطبيعية في اعتقاد فريجه باإلدراك و بحياتنا الذهنية أكثر مما ترتبط بأفكارنا
الموضوعية.
لذلك قال فريجه بضرورة التفريق بين الفكرة و التعبير عن الفكرة La pensée et l’expression
،de la penséeو من أجل فهم المضمون التصوري للفكرة يجب أن نتجاوز اللغة الطبيعية العادية.
لماذا؟ ألن اللغة الطبيعية ليست مبنية على أسس منطقية ،بمعنى أنها ال تفي بمتطلبات المنطق .لماذا؟
ألن عناصر سيكولوجية أو مظاهر سيكولوجية التصقت باللغة الطبيعية منذ تأسيسها كوسيلة إلشباع
ملكة التمثيل لدى اإلنسان .فالمنطق ليس هو مصدر األخطاء المنطقية ،فمصدر هذه األخطاء هو عيوب
اللغة التي نتكلمها و التي يجب أن يتصدى لها النشاط المنطقي لإلنسان .و لهذا سيلجأ فريجه إلى
مشروع تأسيس لغة رمزية .Formelspracheفمنذ اليبنتز تولدت الرغبة عند بعض الفالسفة ،و
منهم فريجه ،في تحطيم سيطرة الكلمة الطبيعية على الفكرة و تحرير الفكر من قيود اللغة العادية .لفهم
كل هذا علينا تحليل بعض التصورات الفلسفية-المنطقية عند فريجه و على رأسها :تصوره للفكرة ،و
تصوره للقضية و عالقتها بالفكرة ،و قضية المعنى و الحقيقة.
4
المحاضرة الثانية :تصور الفكرة Gedankeعند فريجه
في فلسفته و كمبدأ عام يتبناه يرفض فريجه تلك النزعة السيكولوجية Le Psychologismeالتي
قامت عليها الثورة الكوبرنيكية الكانطية" :أعرف الشيء في ذاتي و ليس في ذاته" .فريجه يرفض
الرجوع إلى الذات ،فما يهمه ليس هو المحتوى الذاتي للفكرة و لكن مركبها المنطقي الذي ال يتغير
بتغير التعبيرات المختلفة التي يختفي ورائهاune pensée qui augmenterai notre :
.connaissance scientifique
إذن ،يضع فريجه الفكرة في إطار موضوعي ألنها موضع اتفاق بين الذوات و قاسم مشترك بين من
يفكرون ،كما أنها تتمتع بواقعية و استقالل يضمنان لها الثبات .و بالتالي ،الفكرة بمعنى فريجه هي
دائما موضوعية ،و مستقلة ،وواقعية و ثابتة ( شبيهة بهذه الخصائص بالفكرة األفالطونية) .الفكرة
واحدة عند الجميع ،و لكن تمثيل الفكرة La représentation que l’on faitقد يختلف من ذات
إلى ذات.
في مقابل الفكرة يضع فريجه ما يسميه بالصورة الذاتية التمثيلية ،Vorstellungو هي الصورة
الخاصة بكل فرد و التي ال يمكن أن تؤسس معرفة موضوعية .هناك أيضا االنطباعات و تتمثل فيما
تتركه الحوادث الخارجية من تأثيرات مؤقتة على الذهن .يمكننا التوحيد بين بين التمثالت الذهنية و
االنطباعات تحت عبارة واحدة و هي "الصور الذهنية" و هذه في مجملها ال يمكن أن تشكل معرفة
يقينية في نظر فريجه .وحدها األفكار Gedankenيمكن أن تشكل ذلك ألنها هي الوحيدة القادرة على
تأليف عملية التفكير في صورته الموضوعية .نالحظ هنا أن عنلية التفكير ليست نفسية ذاتية عند
فريجه .يقول هذا الفيلسوف " :حقا ،إن إدراك أو تحصيل الفكرة هي عملية تتم في النفس ،إال أنها
عملية تقف على حواف النفس ،و من ثم ال يمكن أن نفهمها من منظور نفسي خالص فقط ،ألنه البد
أن نأخذ في االعتبار وجود شيء ال يتعلق ،بالمعنى الدقيق ،بالنفس و هو الفكرة .و ربما تعد هذه
العملية (إدراك الفكرة) أكثر األمور غموضا( Frege, Machgelassene Schriften, ".
)Humburg, 1969, p.157
إذا كان فريجه لم يوضح لنا كيفية إدراك الفكرة ،فهو يعتقد أننا ندركها عن طريق اللغة أو عن طريق
القضية .و بالنسبة لهذا المنطقي ،القضية هي تمثيل Abbildungلفكرة ،هذا يعني أن كل قضية تقدم
فكرة ،ففي الحقيقة الذي نحكم عليه بالصدق أو الكذب ليس القضية و لكن الفكرة التي تقدمها هذه
القضية .إذن تدرك الفكرة في نظر فريجه في إطار قضية .و هنا يمكننا طرح السؤال :لماذا ال تدرك
5
الفكرة في إطار كلمة مثال؟ السبب يكمن في أن فريجه يؤمن بمبدأ يسميه مبدأ السياق Le principe
.de contexteفحوى هذا المبدأ ببساطة هو أن الكلمات تشير إلى دالالت في سياق قضية فقط .هذا
المبدأ يبين لنا أن االعتماد على معنى كلمة بمفردها قد يولد فينا معنى غير المقصود منها تماما .يقوله
في كتابه "أسس علم الحساب" » " :« Grundlagen der Arithmetikإن بحثنا عن معنى كلمة
بمعزل عن السياق الذي ترد فيه قد يؤدي بنا إلى قبول صورة على أنها المعنى المقصود .إن ما يجب
المكونة من كلمات ذات معنى ومغزى) فقد تمثل صورة
ّ أن نضعه نصب أعيننا هو القضية الكاملة (
ذهنية أمامنا طوال الوقت و رغم ذلك ال تنسق مع العناصر المنطقية للحكم".
لقد سبق لنا القول إن عند فريجه الشيء الذي نحكم عليه بالصدق أو الكذب ليس القضية و لكن الفكرة
التي تقدمها هذه القضية ،و الفكرة موضوعية وواحدة عند جميع الناس كما بينا ذلك أعاله .ماذا يعني
هذا؟ هذا يعني أن الفلكي مثال ال يتحدث عن تمثله هو للقمر و لكن عن موضوع اسمه القمر .هذا يعني
أيضا أنه ليس بوسعنا أن نخترع قانونا للطبيعة ،و أن لفهم فكرة ليس من الضروري معرفة تاريخ هذه
الفكرة ،و أن نفس الفكرة نعبر عنها بجمل أو قضايا مختلفة أو لغات مختلفة.
في الحقيقة هذه األمثلة ليست تدعيمات لموضوعية الفكرة ،هي تذكرنا فقط ،حسب فريجه ،بما نحن
مقتنعين به تلقائيا و لكن نسيناه ،و السبب في هذا النسيان هو الصور المنطقية الناقصة للغة الطبيعية.
إذن البد من انطالقة جديدة في المجال اللغوي ،و هذه االنطالقة ستكون من الفكرة أوال ثم تحليل هذه
الفكرة إلى مكوناتها ،و هذا هو االكتشاف األساسي لفريجه.
قلنا أن الفكرة تحملها القضية .و على مستوى القضية يفرق فريجه بين داللة القضية و معنى القضية.
داللة القضية هي ما تمثله القضية في الواقع ،أي أن داللة القضية هي قيمة صدق valeur de
véritéتحملها هذه القضية .أما معنى القضية فهو الفكرة التي تقدمها هذه القضية .معنى هذا أن
الداللة ال تتحدد إالّ بتحدد المعنى (أي الفكرة) ،ألن الذي نحكم عليه بالصدق أو الكذب ،كما قلنا ،هو
الفكرة التي تقدهما القضية و ليس القضية في حد ذاتها.
نالحظ أيضا أن معنى قضية ليس معنى بالمعنى العادي للكلمة ،فالمعنى في نظرية فريجه أراه مطلبا
ضروريا ،هذا المطلب يقول أنه بإمكاننا دائما قول الحقيقة .فالمعنى شيء موضوعي ،و مستقل ،و
غير قابل للتغير ،ألن هذه هي خصائص الفكرة في حد ذاتها كما رأينا.
6
اآلن ما يقوله فريجه يتلخص في أن القضية تعبر عن معناها (عن فكرة) و تدل على قيمة حقيقة ،أي
قيمة الفكرة المعبر عنها داخل هذه القضية .و بهذا سيكون للقضية معنى واحد وواحد فقط ،و يمكن أن
نعرف المعنى في هذه الحالة على أنه الطريقة التي تعطى بها قيمة الحقيقة ،أي الطريقة التي تحدد بها
داللة القضية.
ما أراد قوله فريجه ،و هذا من أهم النقاط التي تحويها نظريته في الفكرة و المعنى ،هو أننا إذا اهتممنا
بحقيقة ما نقوله ،و ما نكتبه و ما نسمعه ،فهذا ألننا نفترض أن ما نقوله مثال يتعلق بحقيقة
موضوعية أو بواقع موضوعي و هو بذلك صادق أو كاذب و بصفة موضوعية .معنى هذا أننا نفهم
كلنا نفس الفكرة ،و هذا ما يجب التركيز عليه في مناقشاتنا و إالّ أصبحت اللغة عبارة عن تعبيرات عن
حاالتنا الداخلية ،و لن يكون هناك تفاهم مثال .فإذا أردنا أن يكون ما نقوله و ما نسمعه تعبيرا عن
حقيقة موضوعية ،البد أن تعبر لغتنا عن أفكار نتفق حولها كلنا ،و هذا ما يشكل معاني لقضايانا.
فالحقيقة تنبني على شيء موضوعي ،و ثابت و غير متغير .و بالتالي الحديث عن الحقيقة يستوجب
االقرار بوجود حقائق موضوعية يسميها فريجه األفكار.
7
المحاضرة الثالثة :فلسفة التحليل عند برتراند راسل
منهج التحليل و قاعدة الوضوح في االستعمال اللغوي اللذان رأيناهما مع فريجه سيتبناهما راسل
( )1970-1872و هو بدون شك من أعظم فالسفة القرن الماضي .فبعد دراسة خصصها لفلسفة
اليبنتز ،يتجه راسل نحو المنطق و فلسفة الرياضيات لينشر عام 1910و بمشاركة الفيلسوف و
الرياضي وايتهد كتابه المشهور » .« Principia Mathematica
بالنسبة لراسل هناك طرق مختلفة للمعرفة:
-1المعرفة القائمة على المعطيات المباشرة و االستدالل .يقول راسل أننا نميز نوعين من المعرفة في
هذا اإلطار :معرفة األشياء و معرفة الحقائق .معرفة األشياء تنقسم بدورها إلى المعرفة بالتجربة
المباشرة و المعرفة بالوصف ،و لكل معرفة مبادئها الخاصة.
-اآلن إذا كانت المعرفة تعتمد على ماهو معطى ،فإنها تتجاوزه بواسطة االستدالل الذي يقوم على
مبادئ عامة مثل مبدأ االستقراء ،فاالستدالل االستقرائي رغم أنه يبقى احتمالي فقط ،إالّ أنه ذو أهمية
كبيرة في ميدان المعرفة.
-2الطريقة الثانية في المعرفة يسميها راسل المعرفة القبلية ،فإمكانية وضع مبادئ معرفية عامة و
توضيحها يبين وجود معرفة ال يمكننا الشك فيها و غير مستمدة مما هو محسوس .و هذه هي المعرفة
القبالية و تجمع ميادين مثل المنطق و الرياضيات البحتة .هذه المعرفة القبلية ،يقول راسل ،تدفعنا إلى
االعتراف بوجود نوع من الكينونات نستطيع تسميتها بالكليات مثل الخصائص الحسية ،العالقات..
-3االنوع الثالث من المعرفة هو معرفة الكليات .هذه المعرفة تسمح لنا بتحديد طبيعة المعرفة القبلية،
فهي تتعلق مباشرة بالعالقات بين الكليات.
عن الفلسفة اآلن يقول راسل إن المعرفة الفلسفية ليست نوعا متميزا من المعرفة ،و لكنها فقط نوع
خاص من المعرفة الذي يجب أن يرافق العلم ألن الفلسفة و العلم يكمل أحدهما اآلخر .و الفلسفة عند
راسل تكون باألساس معرفة تحليلية ،و يرجع هذا إلى تفضيل هذا الفيلسوف التحليل المنطقي للمعاني
و الدالالت على باقي النشاطات الفلسفية .و هذا مابينه في إطار ما يسمى عنده ب "فلسفة الذرية
المنطقية".
هذه الفلسفة أراد من خاللها راسل أن يبين أوال تهافت الفلسفات المثالية خاصة الهيجيلية التي
سيطرت و بقوة على الفكر االنكليزي ،و بالتالي التساؤل عن امكانية وضع فلسفة جديدة (واقعية في
8
عمقها) مكان الفلسفات المثالية .و تجدر اإلشارة إلى راسل لم يكن االنجليزي الوحيد الذي حاول تجاوز
المثالية و نقدها ،فجورج مور أيضا حاول ذلك في مقاله "رفض المذهب المثالي".
أول سؤال يطرح هنا و نحن نتحدث عن الذرية المنطقية عند راسل هو لماذا هذا التوجه الذري؟ أو
لماذا التوجه التحليلي؟ ( ألن الحديث عن ذرات سواء فيزيائية أو منطقية يدفعنا إلى الحديث عن منهج
تحليلي) .ألن في اعتقاد راسل المنهج التحليلي هو الوحيد الذي يكون معه التقدم المعرفي ممكننا
عكس الفلسفات المثالية .و بالتالي لصد هذه الفلسفات و قطع الطريق أمامها تبنى راسل فلسفة ذرية
الجوهر و تحليلية الطابع كما تحدث عنها هو.
بطبيعة الحال و نتيجة لتوجه المنطقاني ،فإن الذرية المنطقية ارتبطت عند راسل بالمجال الرياضي
أوال .لماذا الرياضيات؟ لسببين بسيطين :أوال ألن اهتمام راسل كان منصبا على الرياضيات قبل التوجه
إلى المجال الفلسفي .ثانيا ألن الرياضيات هي أحسن علم يستخدم منهج التحليل كمنهج أساسي في
البحث ،لهذا حرص راسل على استخدام التحليل كأداة لها فعاليتها في فهم العالم ،في تحليل العالم ثم
تحليل القضايا.
إذن فلسفة الذرية المنطقية عند راسل هي أوال منهج تحليل سواء تعلق األمر بتحليل الوقائع أو تحليل
القضايا .و هي ثانيا مشروع إلقامة لغة مثالية-صورية أو رمزية تتجاوز اللغة الطبيعية ،يكون الرمز
فيها قابل لمعنى واحد فقط و لداللة واحدة فقط و لتأويل واحد فقط .هذا على مستوى المعنى ،أما على
مستوى التركيب فستعمل هذه اللغة على دراسة التركيب الصحيح للمفردات في جمل و قضايا سليمة
البناء ،و على وضع قواعد صارمة لهذا التركيب .كما تهتم بدراسة قواعد االستدالل انطالقا من صورة
معينة للقضايا و الجمل إلى ما يلزم عنها من صور أخرى.
باعتماده على فلسفة الذرية المنطقية ،سعى راسل إلى توضيح قضية أن العلم مؤلف من عدد كبير من
األجزاء المستقلة عن بعضها البعض ،لكنها تترابط بعالقات خارجية سواء كانت هذه األجزاء عبارة
عن أشياء جزئية أو عن وقائع .إذن أول مبدأ تعنمد عليه الذرية المنطقية هو مبدأ التعددية ،فالعالم ال
يتصوره راسل كوحدة غير قابلة لالنقسام ( نفس الفكرة نجدها عند تلميذه فتجنشتاين).
يبين راسل أن العالم يحوي وقائع ،و الواقعة هي ما يجعل القضية صادقة أو كاذبة .و يعني هذا أيضا
أن الواقع هو ما يعتمد عليه الفكر المنطقي بصفة أساسية ،لهذا سينطلق راسل في "فلسفة الذرية
المنطقية" من تحليل الوقائع لكي يوفر هذا األساس المنطقي الذي يستند إليه مبحث تحليل القضايا.
بعبارات أخرى ،يؤكد راسل أن في العالم لدينا وقائع و لدينا أيضا اعتقادات حول هذا الواقع ،و
بالرجوع إلى هذا الواقع تكون هذه االعتقادات صادقة أو كاذبة .فعندما أقول "المطر ينزل" ،فاعتقادي
هذا يكون صادقا تحت شروط مناخ معينة ،و يكون كاذبا وفق شروط مناخية أخرى .هذا يعني أن واقع
9
المناخ هو الذي يحدد ما إذا كان اعتقادي صادقا أو كاذبا .و هذا ما يسميه راسل بالواقعة التي تجعل
القضية صادقة أو كاذبة .لهذا السبب قال راسل بضرورة معرفة ماهي الواقعة قبل تحليل القضايا التي
نعبر بها عن وقائع العالم.
اآلن ما يريد راسل الوصول إليه مطبقا منهجه في التحليل ،و كحد أقصى لهذا التحليل ،هي ذرات
منطقية ،أي ذرات التحليل المنطقي للقضايا التي تعبر عن العالم ،و ليست التحليل الفيزيائي للعالم .و
في هذا اإلطار بالذات ،لجا راسل إلى التمييز بين الواقعة و " الشيء الجزئي" ،فالواقعة ليست شيئا
جزئيا و لكنها ما يجعل القضية صادقة أو كاذبة كما سبق لنا قول ذلك .كما أن القضية ال تقرر شيئا
جزئيا يمكن تسميته و اإلشارة إليه ،و إنما تقرر واقعة من الوقائع .يقول راسل في هذا الصدد " :إن
ما أطلقت عليه واقعة هو ذلك الشيء الذي نعبر عنه ب "جملة كاملة" و ليس باسم مفرد مثل
سقراط".
معنى هذا أيضا أننا نعبر عن واقعة عندما نقول أن شيئا معينا له صفة معينة ،أو أن له عالقة ما
بشيء آخر ،و لكن هذا الشيء الذي له الخاصية أو العالقة ليس هو "الواقعة" .لهذا مال راسل إلى
االعتقاد بأن العالم يتألف من مجموعة من الوقائع و ليس من "أشياء" ،ألنه إذا قلنا أن العالم يتألف
من أشياء ،فإننا نعبر عن هذه األشياء بأسماء ،و لكن إدراكنا لألشياء ال يكون إالّ عن طريق إدراك
صفاتها أو عالقاتها باألشياء األخرى ،أي ال ندركها إالّ عندما "نقرر" بأن شيء ما له صفة معينة او
أن له عالقة بشيء آخر ،و هكذا يكون الفرق بين التقرير و التسمية ،بين القضية و اإلسم ،و بين
الواقعة و الشيء في نهاية المطاف فالتقرير يتعلق بالواقعة ،و تقرير واقعة يعني تقرير صفة لشيء او
تقرير عالقة بين أشياء او نفي هذه العالقة.
يضيف راسل إلى هذا قضية أنه ال يمكننا اطالقا الحديث عن شيء جزئي عاري من صفة أو عالقة ألنه
تجريد ال وجود له تماما في واقع خبرتنا الحسية .و بهذا تصبح األشياء و صفاتها و عالقاتها هي
عناصر الواقعة ،فكل الوقائع التي ندركها هي وقائع مركبة و نعبر عن هذه الوقائع بقضايا مركبة.
ولكن هذه الوقائع يمكن أن تحلل إلى أبسط عناصرها ،و يصل تحليل القضايا التي تعبر عن هذه
الوقائع في نهاية األمر إلى "اسم العلم" المنطقي أو الذرة المنطقية.
من ضمن خصائص الواقعة أيضا أنها تنتمي إلى العالم الموضوعي ،معنى هذا أنها ليست من صنع
مقوالت العقل .كما أن الوقائع ال يجوز أن نقول أننا نسميها بواسطة القضايا ،بل الصحيح هو القول
إننا نثبتها أو ننفيها بواسطة القضايا .كذلك ،ال تخضع الوقائع لثنائية الصدق و الكذب ،بل تخضع
لكيفيتين :اإليجاب أو السلب " .سقراط كان حيا" (واقعة موجبة)" ،سقراط ليس حيا" (واقعة سالبة).
إذن القضية هي رمز لواقعة و ليست أسما لها.
10
بعد هذه التحديدات يأتي راسل إلى تقسيم الوقائع ،و يقول أن هناك صور ال متناهية من الوقائع .أبسط
الوقائع ،في اعتقاد راسل ،هي الوقائع الذرية ،Atomic Factsو هي وقائع نعتمد عليها إلقرار ما إذا
كانت القضية الذرية Atomic propositionصادقة أو كاذبة .إذن وجود الواقعة الذرية سابق على
وجود القضية الذرية ،كما أنها تجريبية ألنها متحققة كما هي في الوجود الخارجي الموضوعي .و
يمكن التأكد من وجودها أو عدم وجودها بالرجوع إلى الواقع.
هناك أيضا الوقائع الجزيئية Molicular factsو التي تكون القضية المعبرة عنها في صورة
(قvك) ،حيث ق و ك قضيتان ذريتان تعبيران عن واقعتين ذريتين .هناك أيضا الوقائع العامة
general factsمثل "كل الناس فانون" ،و هذه الواقعة تعبر عنها قضية عامة .و يؤكد راسل أنه ال
يمكن أن نصف العالم وصفا تاما بدون أن يكون لدينا وقائع عامة .كما تحدث راسل عن الوقائع
الجزئية particular factsمثل "هذا ازرق" .و هذا النوع من الوقائع له أهمية خاصة في تشكيل
المعرفة اإلنسانية التي تعتمد على اإلدراك.
11
المحاضرة الرابعة :تحليل القضايا عند راسل
يعرف راسل القضية و يقول " :هي مجرد رمز ،إنها رمز مركب ،بمعنى أن لها أجزاء هي أيضا
رموز .و الرمز يعرف بأنه مركب حينما يكون له أجزاء هي أيضا رموز ،ففي الجملة المحتوية على
كلمات عديدة ،تكون كل كلمة من هذه الكلمات رمزا ،و من ثم فإن الجملة المكونة لتلك الكلمات تكون
إذا رمزا مركبا بهذا المعنى".
طبعا للمزيد من التوضيح البد من اإلشارة إلى أن راسل يميز بين القضية propositionو الجملة
.sentenceإذ يقول في هذا الصدد " :إن القضية شيء يمكن أن يقال في أي لغة ،و قد يتم التعبير
عن نفس القضية في لغة بعدة طرق ،و بالتالي يمكن أن يكون لصورتين من األلفاظ نفس المعنى ،و
بهذا تكون القضية جميع العبارات التي لها نفس المعنى الذي يكون لعبارة معلومة ".القضية بصفة
عامة هي الجملة اإلخبارية التي تحتمل الصدق أو الكذب .أما الجملة "فهي مجموعة ألفاظ توضع معا
وفق التركيب اللغوي النحوي ".بعبارات أخرى ،القضية لها أساس منطقي و تخضع لتركيب منطقي،
أما الجملة فلها أساس لغوي نحوي ،و الذي يمكن أن يكون إنشائيا.
القضايا أيضا تنقسم إلى عدة أنواع:
-1القضية الذرية ،atomic propositionو هي أبسط أنواع القضايا و تعبر عن وقائع ذرية ،بمعنى
أنها القضية التي ال تنحل إلى قضايا أبسط منها ،أو مفاهيم أو مكممات مثل بعض ،كل ...إذ تكون فقط
على شكل إثبات صفة لشيء أو إثبات عالقة بين شيئين .ويمكن أن تكون القضية الذرية على شكل
"هذا أزرق"" ،هذا سابق على هذا"" ،هذا قبل هذا"...الخ
-2القضية الجزيئية و هي التي تستند إلى الروابط المنطقية مثل "أو"" ،و"" ،إذا كان...فإن ،"..و
هي قضية مركبة تنحل إلى قضايا أبسط منها.
-3يميز راسل أيضا بين القضية الوجودية و القضية العامة ،فالقضية الوجودية تنسب محموال
لموضوع مسمى ،أي أنها تتضمن تقريرا وجوديا للموضوع مثل "سقراط فان" .أما القضية العامة فال
تحوي على مثل هذا التقرير النها غالبا ما تعبر عن صورة قضية شرطية .مثال" :كل إنسان فان"،
"كل اإلغريق فانون" فهذه القضية ال تعبر عن عالقة بين موضوع و محمول ،ولكن عن عالقة بين
محمولين.
-4هناك أيضا القضية العامة عمومية تامة مثل القضايا المنطقية.
12
رأينا أنواع القضايا و أنواع الوقائع ،و رأينا أيضا أن العالقة بين الواقعة و القضية التي تعبر عنها
هي عالقة تطابق ،Relation de correspondanceأي أن لكل قضية واقعة تناظرها و تحدد
صدقها و كذبها .و لكن أريد العودة إلى مفهوم القضية ألنه األكثر أهمية في إطار التحليالت اللغوية.
لنرى ما إذا كان هناك فرق بين تصور فريجه و تصور راسل.
قلنا إنه بالنسبة فريجه ،و في الحقيقة بالنسبة لكل المناطقة األلمان ،القضية هي العبارة أو هي التعبير
عن الفكرة .و راينا بالنسبة لراسل القضية هي جملة إخبارية تقبل الصدق أو الكذب .في الحقيقة ما
يعنيه راسل هو أن القضية هي ما نعبر عنه بجملة إخبارية صادقة أو كاذبة .و هذا ما قاله راسل
بالفعل في رسالة بعثها لفريجه في ،1902-12-12قال له إن ما أعنيه بالقضية هو معناها و ليس
قيمة حقيقتها.
هذا يعني أنه عندما نقول عن القضية في اعتقاد راسل هي ما نعبر عنه بجملة إخبارية يمكن أن تكون
صادقة أو كاذبة ،معنى هذا أن القضية هي معنى هذه الجملة ،أي الفكرة التي تحملها هذه الجملة ،و
ليس هذه الجملة في حد ذاتها .لذلك أكد راسل على عدم إمكانية رد القضية إلى الجملة التي تعبر عن
هذه القضية ،و الدليل على ذلك أنه اعتقد أن القضية الواحدة يمكننا التعبير عنها بعبارتين مختالفتين.
بعد رسالته إلى فريجه ،و في عام 1904و تحت تأثير ،Meinongيقول راسل أن القضية هي
موضوع مركب un objet complexeو الذي يمكن أن يكون موضوع حكم أو موضوع خيال un
،objet d’imaginationو قال هذا في رسالة بعثها إلى فريجه في .1903-05-24هذا الموضوع
المركب مؤلف من أشياء العالم .هذا يعني ان في 1903لم يعتبر راسل القضية موضوعا مركبا من
كلمات ،و لكنها مركبة من مواضيع مشار إليها بكلمات .معنى هذا أيضا أن راسل يرفض اعتبار
القضايا عناصر ليسانية ،و بهذا يضمن ابتعادها عن الخصائص الذهنية أو السيكولوجية.
و لكن ،و بعد تغييرات كثيرة على تصور القضية ،يصل راسل في سنة 1914إلى تعريف القضية على
أساس أنها رمز مركب ،un symbole complexeأي أنها صورة مؤلفة من كلمات ،و هذا الصورة
تكون إما صادقة أو كاذبة .و هذا ما كنا بدأنا به.
راسل فرق أيضا بين القضية La propositionو الدالة القضوية La fonction
propositionnelleعلى شاكلة تا(س) :س .فالقضية تكون إما صادقة او كاذبة .أما دالة القضية
فتكون إما ممكنة ،أو ضرورية أو مستحيلة.
إذن فلسفة راسل كانت فلسفة تحليلية ،الن راسل اعتقد أنه علينا البحث عن العناصر البسيطة التي
تتكون منها المركبات ،Les complexesو أن وجود المركبات يفترض وجود العناصر البسيطة،
بينما العناصر البسيطة ال يفترض وجودها وجود المركبات.
13
14
المحاضرة الخامسة :فلسفة التحليل عند فتجنشتاين األول
يحتل فتجنشتاين مكانة خاصة في الفلسفة المعاصرة ،و فلسفته عبر عنها في مرحلتين مختلفتين و
هذا ما يسمى بفلسفته األولى و فلسفته الثانية أو المتأخرة ( .و هناك بحوث جارية اليوم تتحدث عن
فلسفة ثالثة لفتجنشتاين يحددها محتوى كتابه » .)« De la certitudeفلسفته األولى يعرضها
فتجنشتاين في الكتاب الوحيد الذي نشره و هو على قيد الحياة و هو كتاب" :رسالة منطقية-فلسفية"
» .« Tractatus logico-philosophicusو العنوان األصلي له هو « Logisch-
» )1921( philosophische Abhandlung
أما فلسفته الثانية فعرضها في مجموعة كتب ،كلها نشرت بعد وفاته ،و على رأسها كتاب "أبحاث
فلسفية" » )1953( « Philosophische Untersuchungen
في واقع األمر فتجنشتاين بفلسفتيه هاتين أثر في تيارين فلسفيين معاصرين و هما الفلسفة التحليلية
الصورية و فلسفة اللغة العادية.
نعود إلى "رسالة منطقية-فلسفية" .يتألف هذا الكتاب من قضايا أساسية تشكل المنطقية لهذا الكتاب.
هذه القضايا موضوعة تحت أعداد عشرية تشير إلى القضايا السبع األساسية و هي األكثر أهمية .مثال
لدينا القضية األساسية األولى" 1 :العالم هو كل ما هنالك" « Die Welt ist alles was der Fall
» .ist.يلي هذا القضايا الشارحة لهذه القضية األساسية:
"العالم هو مجموع الوقائع ال األشياء" « Die Welt ist die Gesamtheit der 1.1
» Tatsachen, nicht der Dinge.
" 1.11يتحدد العالم بالوقائع و مجموعها يعبر عن كل ماهو موجود في الواقع« Die Welt ".
» ist durch die Tatsachen, dadurch dass es alle Tatsachen sind.
تستند الرسالة في جزء منها إلى التحليل اللغوي الذي قام به راسل من قبل إالّ أن فتجنشتاين قد طور
ذلك ليطلق تصوره الخاص للتمثيل اللغوي.
يتكون العالم مما يسميه فتجنشتاين ب "حاالت األشياء" .و تشكل األشياء "جوهر" العالم ،و هي
بصفتها أشياء ،بسيطة و مستقلة عن حاالت األشياء .أما في حاالت األشياء ،فاألشياء ترتبط فيما بينها
بعالقات ،بحيث تشكل هذه العالقات العدة المنطقية للعالم ( .لذلك يتحدث فتجنشتاين عن المكان
المنطقي ،بمعنى العالم القائم على أساس العالقات المنطقية بين األشياء) .هذه العالقات تحدد بذلك
15
نقطة التقاء اللغة بالعالم ( نقطة التقاء على أساس البنية المشتركة بين الواقعة و القضية) يقول
فتجنشتاين في الرسالة " :فأسطوانة الفونوغراف و الفكرة الموسيقية و النوتة و الموجات الصوتية،
جميعها تقوم الواحدة منها بالنسبة إلى األخرى ضمن هذه العالقة الداخلية من التمثل التي نجدها بين
اللغة و العالم .إن البنية المنطقية هي المشتركة فيها جميعا".
إن الشكل العام الذي استخدمه فتجنشتاين لشرح العالقة بين حاالت األشياء و بين الوقائع هو ””aRb
وهذا يعني أن " aعلى عالقة ."bينطبق ذلك أيضا على تشكل القضايا األولية التي تمثل كل واقعة
بسيطة بمعنى حالة أشياء ،و كل قضية أولية تتكون من أسماء لها داللتها على الموضوعات و على
العالقة بينها.
تعمق فتجنشتاين في رسالته في تحليل العالقة بين القضية Satzو الواقعة ،Tatsacheو يصل إلى
فكرة أن القضية هي صورة منطقية ،ein logisches Bildفهي صورة الن بنيتها تعكس بنية
الواقعة .فالواقعة ،مثل القضية ،تتكون من مكونات ترتبط بنفس الطريقة التي ترتبط وفقها مكونات
القضية التي تمثل هذه الواقعة .هذا التماثل البنيوي isomorphisme de structureيسمح لنا
اعتبار العالقة بين القضية و الواقعة على أساس أنها عالقة انعكاس une relation de
.projectionهذا اإلنعكاس هو ما يؤسس اللغة ،ولكن اللغة ال تستطيع الحديث عن هذه العالقة بل
تبينها فقط ألنه هناك تماثل في البنية بين القضية و الواقعة ،فاللغة تستطيع اللغة وصف العالم ،و
لكنها ال تستطيع أن تعبر هذا التماثل أو أن تصفه .على أساس هذه الفكرة المهمة ،و التي يمكن أن
نضيف لها تعريف الصورة المنطقية للقضايا و التعريف بقواعد ترابط هذه القضايا ،سيفصل
فتجنشتاين بين ما نستطيع قوله Le dicibleو ما ال نستطيع قوله ،L’indicibleأي بين المعنى و
الالمعنى.entre dire et montrer ،
هذه الحدود التي تسطر معالم المعنى هي نفسها التي ستعين الحدود الجديدة للفلسفة .فالميتافيزيقا مثال
سيوجهها فتجنشتاين إلى جانب الالمعنى ألنها في نهاية األمر ،تظهر كمحاولة لتسطير حدود اللغة و
الفكر من الخارج ،في حين أن هذه الحدود ال يمكن تعيينها إالّ داخل اللغة و من داخل حدود الفكر.
كذلك تحليل و توضيح اللغة يكونان في اعتقاد فتجنشتاين ليس فقط الوظيفة المشروعة للفلسفة ،و
لكن أيضا وظيفتها الممكنة ،و كل محاولة أخرى للتفلسف سواء ميتافيزيقية ،أو أخالقية-جمالية ستجر
الفلسفة نحو الالمعنى .ف"الفلسفة ليست نظرية و لكن نشاط" يقول فتجنشتاين في الرسالة ،و هذا
النشاط يعمل على توضيح القضايا و بالتالي توضيح األفكار ،الن الفكرة ماهي إالّ قضية ذات معنى.
16
فلسفة اللغة كما قدمها فتجنشتاين المتأخر
ما يسمى عادة بالفلسفة الثانية أو المتأخرة لفتجنشتاين تبدأ فعليا مع كتابة "أبحاث فلسفية" ،و هو
الكتاب الذي أراد فيه فتجنشتاين تصحيح ما أسماه هو ب " األخطاء التي وقع فيها في الرسالة".
"أبحاث فلسفية" نشرت في ترجمتها االنكليزية سنة ،1953يعني عامين بعد وفاة مؤلفها .و في
مشروع تمهيد هذا الكتاب ،و الذي يرجع تاريخه إلى ،1945يشير فتجنشتاين إلى أن كتاب "أبحاث
فلسفية" ال يفهم و ال يمكن أن تأخذ عباراته في معنى من المعاني إالّ إذا قرأ بعد قراءة الرسالة ،إذ
يشكل هذا الكتاب "نقدا" للرسالة و امتدادا لها في ذات الوقت .هي نقد ألن عدد من أطروحات "رسالة
منطقية-فلسفية" غابت تماما من الفلسفة المتأخرة لفتجنشتاين .و لكن هناك امتداد ألن وراء اختالف
األطروحات بين "الرسالة" و "األبحاث" نكتشف نوع من االستمرارية على مستوى المقاصد ،و
بالتالي حتى و إن كنا اآلن نتحدث عن فتجنشتاين أول و فتجنشتاين ثاني ،يكون ربما من الخطأ اإلنكار
أن "أبحاث فلسفية" هي قبل كل شيء تعميق للمسائل الفلسفية التي طرحها فتجنشتاين األول ،و ربما
محاولة لحلها بطريقة أخرى كما اعتقد ذلك فتجنشتاين نفسه.
نتحدث قليال عن تركيب "أبحاث فلسفية" .كما في الرسالة ،سيتبع فتجنشتاين نظام الترقيم في هذا
الكتاب ،فهو عبارة عن فقرات مرقمة ،و لكن نظام الترقيم المعقد و الذي يشير في "رسالة منطقية-
فلسفية" إلى عالقة التقارب Relation de proximitéالموجودة بين كل قضية من قضايا
الرسالة و بين القضايا السبع األساسية التي حددناها من قبل يترك المكان لترقيم عادي في "أبحاث
فلسفية".
و مع ذلك عند قراءتنا لمحتوى "أبحاث فلسفية" نشعر بعدم انتظام الفقرات المكونة للكتاب ،و لكن
هذا ماهو ظاهر فقط ،إذ يمكن تنظيم الكتاب وفق ثالثة مستويات:
في المستوى األول يجري الحديث عن مشكلة عمل اللغة Le problème du
fonctionnement du langageوفق الظروف الفعلية لالستعماالت اللغوية .و على المستوى
الثاني تصبح قضية الفكر هي الموضوع األساسي ،و لكن البد أن نفهم أن ما يقصده فتجنشتاين من
الفكر ليس مجموعة من الظواهر الذهنية ،و لكن مجموعة من أفعال اللغة .Actes de langage
و توضيح الفكر هنا ال يتعلق فقط بعمل اللغة ،و لكنه يتعلق أيضا بما يجعل اللغة ممكنة بما هي لغة
Ce qui rend possible le langage comme tel.
وأما على المستوى الثالث ،فتصبح طبيعة التفكير هي الموضوع المحوري ،في محاولة لتحديد
االستراتيجيات المختلفة للفكر.
17
ولكنني اعتقد ان هذه المستويات متداخلة ،و هذا في الحقيقة ما يخلق االختالف بين هذا النص
لفتجنشتاين و بين النصوص الفلسفية المعتادة التي تخضع لتسلسا خطي للمبادئ و النتائج .فمالحظات
"أبحاث فلسفية" أقل اشتماال على الحكم المباشر ،و معظمها تقوم بالتعبير عن مجموعة متنوعة من
المواقف و الصور ،و هذا أسلوب نادر في الكتابة الفلسفية.
قلنا ان هناك اختالف بين أهم أطروحات "رسالة منطقية-فلسفية" و أطروحات "أبحاث فلسفية" ،و
لكن هناك قناعة لم يتخلى عنها فتجنشتاين عند انتقاله من الفلسفة األولى إلى الفلسفة المتأخرة .هذه
القناعة تقول إن المشاكل الفلسفية خاصة تتولد في معظم األحيان عن عدم معرفة طريقة عمل لغتنا La
méconnaissance du fonctionnement de notre langageاو عدم التمكن من
طريقة عمل اللغة .ولكن الطريقة التي سيتبعها فتجنشتاين في فلسفته الثانية لتعميق هذه القناعة لن
تعتمد على ما اعتمد عليه في الرسالة و أقصد بذلك "إصالح المنطق" ،فمن فريجه إلى كارناب كانت
هناك محاولة تحليلية مستمرة تقوم على العموم على فكرة أن معظم المسائل التي تظهر في العلم و
الفلسفة تجد مصدرا لها في االستعمال السيء للغة ،و لن نتخلص من هذا االستعمال السيء إالّ
باالعتماد على التحليل المنطقي .إذن بالنسبة لفريجه ،و فتجنشتاين األول ،و كارناب ،و عادة ما
يسمون باإلصالحيين Les réformistesلن نخرج من هذه المآزق التي تسببت فيها الطريقة
السيئة لعمل اللغة Le dysfonctionnement du langageإالّ بتطهير اللغة من العناصر
المشوشة ،و إما بتأسيس لغة مثالية كاملة .فتجنشتاين األول كانت له هذه القناعة كما رأينا ،حتى
توصل إلى تحديد اللغة بتعيين صورة منطقية عامة للقضية لن تخرج عنها هذه األخيرة أبدا ( القضية
6في الرسالة) ،بينما سيظهر هذا نوعا من المبالغة في اعتقاد فتجنشتاين المتأخر ( الفقرة 132من
"أبحاث فلسفية") القول بنوع من المبالغة ،هذا يعني ان فتجنشتاين سيلجأ إلى تفسير آخر نجد عينة
له في الفقرات 23و .65
يقول فتجنشتاين المتأخر إننا نستعمل اللغة بطرق مختلفة ال نهاية لها ،و ان اللغة هي وسيلة نكيفها
مع أهدافنا ،هذه األهداف ال تقتصر على وصف العالم أو على تمثيل العالم كما كان الحال في الرسالة.
فخطأ اإلصالحيين في اعتقاده ،هو محاولة إخضاع االستعماالت اللغوية المختلفة ( و هي بأنواع
مختلفة كما رأينا) لقواعد لعبة لغة واحدة ،و هي لعبة المنطق و العلم ،و هذا خطأ في تصور مؤلف
"أبحاث فلسفية" الن ألعاب اللغة متعددة ،و بالتالي يكون من الخطأ في مستوى أعنق البحث عن
شروط إمكانية المعنى في الصورة المنطقية العامة للقضية بما أن صورة القضية في حد ذاتها محددة
بنظام خاص من القواعد المحدد للعبة من ألعاب اللغة .إذن ليس هناك صورة منطقية عامة واحدة
للقضية كما اعتقد فتجنشتاين األول ،هناك صور ال متناهية تحددها قواعد ألعاب لغوية غير متناهية.
18
اآلن التفريق بين المعنى و الالمعنى سيبقى فتجنشتاين محافظا عليه في فلسفة فتجنشتاين ،ولكن هذا
التفريق ال يعتمد على معيار واحد و ال يمكننا تحديده مرة واحدة و لألبد ،و لكنه سيكون نسبيا ،بمعنى
أن الالمعنى بالمعنى المنطقي يختلف عن الالمعنى بالمعنى التيولوجي مثال ( انظر الفقرة 136مثال)
لعبة اللغة Sprachespieleهذا معناه أن الكالم هو جزء من النشاط اليومي أو أنه شكل من
أشكال الحياة .يقول فتجنشتاين حاول أنك تستعرض كثرة و تنوع ألعاب اللغة ،أن تصف غرضا انطالقا
من مظهره أو من قياسات ،أن تبني بيتا تبعا لوصف معين ،أن تنتبه اسيرورة ما ،أن تترجم من لغة
إلى أخرى ،أن تطلب و أن تشكر وأن تقسم و ان تحي و تصلي ،هذا ما يعكس تعدد ألعاب اللغة كأشكال
للحياة .و كما أن للقطع في لعبة الشطرنج دورها ،كذلك في اللغة تتحدد الكلمات و تتحدد االستعماالت
اللغوية بالقواعد .و بالتالي حتى نجيب عن السؤال" :ماهي الكلمة في حقيقة األمر؟" يجب أن نفترض
نسقا اصطالحيا من القواعد تحدد استعمال كلمة داخل لعبة من ألعاب اللغة الالمتناهية .اإن اللغة بهذا
المعنى ستتعامل بشكل موسع مع األمور المتشابهة و المتقاربة ،معنى هذا أن التعبير عن سيرورة
داخلية فردية ،األلم مثال ،ال يمكن أن يكون جزء من لغبة لغة ،و بالتالي ال داللة لما يصفه .إذن
االعتقاد بإمكانية تصور ألعاب لغة متناهية العدد هو الذي يشكل في فلسفة فتجنشتاين المتأخر مرجعية
التحليل .لعبة اللغة إذن ،هي أوال و قبل كل شيء مجموعة أو نظام من القواعد تسمح بربط مجموعة
من األفعال اللغوية المختلفة.
مجموع هذه األطروحات الخاصة باختالف و تعددية ألعاب اللغة أملتها قناعة فتجنشتاين المتأخر بان
المشاكل التي يعاني منها الفيلسوف تتولد من محاولة استخالص تشابهات بين استعماالت مختلفة
لكلمة واحدة ،في حين يعتقد فتجنشتاين أن الكلمة هي أداة ال نستعملها دائما بنفس الطريقة ،و يخضع
هذا االستعمال لمجموعة من القواعد يحددها النحو .La grammaireو لكن النحو هنا ليس مجرد
مادة معيارية تعمل على تثبيت قواعد التكوين السليم للعبارات .و بالتالي يجب ابتداء من هنا االخذ
بعين االعتبار التحديد المزدوج للقضية :التحديد التركيبي المعطى بواسطة قواعد تكوين العبارات أو
الجمل داخل لغة معطاة ،ثم التحديد الداللي – التداولي المعطى بواسطة قواعد استعمال اإلشارات داخل
لعبة لغة معينة ( الفقرة )136
بعد "أبحاث فلسفية" اندفع فتجنشتاين في كتابات أخرى نشرت هي أيضا بعد وفاته مثل "الكتاب البني
و الكتاب األزرق" و كتاب "في اليقين" إلى تصور الفلسفة كعالج une thérapieمن أمراض
اللغة ،فالفلسفة في ظنه هي " معركة ضد فتنة عقلنا و اللغة هي الوسيلة في هذه المعركة ".إذ " ال
ينتاب العقل في دورانه حول حدود اللغة إالّ األورام ".فالعالم يقاس باللغة ،أما حدوده فهي ما يمكن
صياغته منطقيا ،و ما ال يمكن قوله يمكن اإلشارة إليه .و هنا أيضا ال يمكن تقييد الفلسفة بأي مذهب
19
أو نظرية ،فالفلسفة نشاط أو فاعلية ،و إذا كان فتجنشتاين األول قد استغنى عن الرسالة ألنها كانت
فقط السلم الذي استخدمه للصعود إلى األعلى ،فإنه لم يستطع االستغناء عن فلسفته الثانية ،الن رفضه
لهذه الفلسفة سيساوي رفضه للحياة في حد ذاتها.
20
محاضرات حول الوضعية المنطقية و عالقتها بالنظرية العلمية
بالنسبة للوضعية المنطقية هناك مركبين للنظرية العلمية :المركب األول هو القضايا األولية و التي
تتعلق كل واحدة منها بظاهرة معينة تحصل في مكان معين و في وقت معين ( قضايا البروتوكول) .و
المركب الثاني يتمثل في القضايا المنطقية و الرياضية التي تمكننا من التنسيق بين القضايا األولية من
أجل بناء نظريات علمية بواسطة المنهج االستقرائي.
نعرف بعد ذلك أن القضايا المنطقية و الرياضية هي في اعتقاد الوضعيين المنطقيين قضايا تحليلية،
بمعنى انها قضايا تصدق و تكذب بعيدا عن ما يحصل في العلم من وقائع ،و إذا كانت صادقة هذا ألنها
تحصيالت حاصلة ،و إذا كانت كاذبة هذا النها تناقضات ،إذن فهي تحصيالت حاصلة أو تناقضات.
إذن بالنسبة للوضعية المنطقية ،القضايا المنطقية و المعادالت الرياضية هي وسائل لتنظيم معارفنا
التجريبية .و لكن هذه القضايا في حد ذاتها فارغة من المعنى ( بمعنى فارغة من المحتوى التجريبي)،
أي أنها ال تخبرنا شيئا عن محتوى العالم.
اآلن كل القضايا العلمية النظرية التي تنشأ عن ترابطات واقعة بين القضايا األولية ،الناتجة عن
التجربة الحسية المباشرة) وبين القضايا المنطقية و الرياضية ،يتحقق معناها الرتباطها بهذه القضايا
األولية أو قضايا البروتوكول ( أساس مبدأ التحقق عند الوضعيين) .ألن القضايا األولية ،و على
عكس القضايا المنطقية و الرياضية ،تحمل معنى و محتوى تجريبي يتعلق بما يجري في العالم ،و
بالتالي فإن القضايا األولية تشكل معنى كل النظرية العلمية.
إذن كل ايبستمولوجيا الوضعية المنطقية تقوم على مبدأ أن كل قضايا النظريات العلمية يمكن ان ترد
إلى بناءات منطقية و رياضية تنطلق من قضايا أولية متعلقة بالمعنى الحسي المباشر .هذه القضايا
تكون أساس لكل المعارف ألنها مبررة و مثبتة بواسطة التجربة المباشرة ،و بالتالي كل
األولية ّ
القضايا العلمية األخرى تكون مبررة بواسطة القضايا األولية و بواسطة االستقراء .هذا ال يعني ان
القضايا األولية تشرح القضايا العلمية ،إذ البد من التفريق بين الشرح و التبرير.
الخلفية االولى التي قامت عليها الوضعية المنطقية أو فلسفة حلقة فيينا هو سؤال طرح و مازال يطرح
في الحقيقة و هو :كيف يمكن للفلسفة أن تستفيد من نموذج العلم و المسار الذي أخذه العلم؟ ولكن
ماهو العلم األنسب الذي يمكن ان يكون مثاال أمام الفلسفة و يمكن أن تتأثر به و تنحو منحاه؟
كل هذا سيطرح إشكالية عالقة الفلسفة بالعلم ،ألن الفلسفة البد أن تتغذى مما ليس منها او من
طبيعتها ،فالفلسفة التي تنغلق على ذاتها و ال ترضى بعالقات تجمعها بمواد فكرية أخرى لن تكون
21
بذات أهمية من وجهة نظر ايبستمولوجية .لذلك ظهرت فلسفة العلم التي واجهت مشكلة هوية ،ألننا
نتساءل دائما ما إذا كانت فلسفة العلم هي "علم العلم" او هي "نظرية العلم" او نظرية العلوم ،ألنه إذا
تحدثنا فن فلسفة العلم ك "علم العلم" تكون هذه الفلسفة نظرية للعلوم التجريبية او الدقيقة ،و تكون
هي أصال تجريبية .و لكن عندما تكون فلسفة العلم هي "نظرية العلم" أو نظرية العلوم فلن تكون في
هذه الحالة تجريبية باألساس ،و لكنها ستتعلق في هذه الحاة بالمنطق ،و هذا ما قاله كارناب مثال الذي
اعتبر الفلسفة مادة صورية مهمتها هي تحليل لغة العلم من الجوانب الثالثة للتحليل اللغوي :الجانب
التركيبي ،syntaxiqueو الجانب الداللي ،Sémantiqueو الجانب التداولي
.pragmatiqueبمعنى ان الفلسفة تنظر في مختلف الصور التي يمكن ان تأخذها اللغات العلمية،
و تحلل مختلف المحتويات الداللية لهذه اللغات و هذا بإيجاد عالقات لهذا مع الفعل اإلنساني ( و هذا ما
يشرح الجانب التداولي).
في الحقيقة تصور الفلسفة العلم كمنطق للعلم كان منتشرا عند أعضاء حلقة فيينا و هذا نتيجة لتطور
المنطق الصوري الحديث ،لهذا كان الوضعيون المنطقيون على وعي بأنهم بهذا التصور للفلسفة
سيبتعدون عن معنى الوضعية الذي كان سائدا أنذاك و التي كانت من وضع إرنست ماخ.
إذن بفضل الوسائل المنهجية و التحليلية الهائلة التي وضعها المنطق الحديث أماما حلقة فيينا،
استطاع أعضاء هذه الحلقة االبتعاد عن التقليد االيبستمولوجي الخاص بنظرية المعرفة.
فكيف ظهرت الوضعية المنطقية؟ لو نتتبع تاريخ الفلسفة نجد أن أكبر لحظات هذا التاريخ ارتبطت
غالبا بالفكر العلمي ،فاألفالطونية ارتبطت بظهور الرياضيات ،و الديكارتية ارتبطت بالثورة الغليلية ،و
ارتبطت الكانطية بميكانيكا نيوتن.
نعرف اآلن ان بداية القرن 20عرفت الفيزياء على وجه التحديد أزمة حقيقية ،و المنطق يتطور و
يتجدد بصفة كلية تقريبا ،و الرياضيون يتساءلون عن أسس الرياضيات في ظل هذه األحداث الثالثة
الخاصة بالفيزياء من جهة ،و بالمنطق و الرياضيات من جهة أخرى .في هذه األثناء ظهرت حلقة فيينا
و ازدهرت من الفترة الممتدة من 1922إلى 1936و بدأت بعد ذلك بالتفكك كحلقة مع ظهور النازية
في ألمانيا ،و استمرت بعد ذلك و لكن بشكل مغاير نوعا ما في الواليات المتحدة األمريكية ،ألن معظم
أعضائها هاجروا إلى هذا البلد.
الوضعية المنطقية كفلسفة جديدة في القرن الماضي شملت أبعادا متعددة ،فهي فلسفة تجريبية و لكنها
منطقية ،و هي فلسفة وضعية بمعنى أنها تحوي على نظرية في العلم ،و هي فلسفة واقعية أيضا .بدأت
هذه الفلسفة مع حلقة فيينا التي تأسست بصفة غير رسمية على يد ثالثة مفكرين كانوا يجتمعون في
مقاهي فيينا في الفترة الممتدة من 1907إلى 1912و هم الرياضي ،H. Hahnو الفيزيائي ph.
22
،Franckو عالم االجتماع .Otto. Neurathالثالثة واجهتهم ما عرف أنذاك بأزمة الفيزياء
الميكانكية و التي كثر الحديث عنها ،ألن األزمات المتكررة التي بدأت تعرفها العلوم ،خاصة الدقيقة
منها ،زعزعت الثقة بالعلم ،و بدأت تظهر تيارات معادية للعلم و للتطور العلمي ،فبدأ التشكك في قدرة
العلم على بلوغ حقائق خاصة بالعالم ،و الدعوة بعد ذلك إما للعودة إلى الدين أو إلى التأمل الفلسفي
الخالص و استبدال المناهج العلمي بمناهج معرفية أخرى.
بدأ المفكرون الثالثة في البحث عن تصور للعلم يسمح بقطع الطريق أمام هذه التصورات المناقضة
للعلم و أمام محاولة العودة إلى الروحانية او الالعقالنية التي نادى بها فيلسوف كبرغسون .لهذا
درسوا ،H. Poincaréو ،P. Duhemكما درسوا إرنست ماخ ،و كانوا يتابعون عن كثب تطور
فيزياء اينشتاين .و لكنهم تأثروا خاصة بنظرية ماخ و نظرية بوانكاريه و حاولوا التوفيق بينهما،
فماخ قال إن المبادئ العامة للعلم هي عبارة عن أوصاف مختصرة و اقتصادية للوقائع المالحظة
،Faits observésأما بوانكاريه فاعتقد أن المبادئ العامة للعلم هي عبارة عن اختراعات حرة
للفكر اإلنساني تتحدث عن الوقائع المالحظة .يقول فليب فرانك أن محاولة إدماج هذاين التصورين في
نسق واحد سيكون أساسا لما سيسمى الحقا بالوضعية المنطقية و التي أسسها فعليا كحركة موريس
شليك.
موريس شليك
قامت فلسفة موريس شليك ( )1936-1882على نقد نظرية المعرفة الكانطية أو على ما يسمى
بالواقعية النقدية .ففي واحد من مؤلفاته األولى « Raum und Zeit in der gegenwartig
» )1917( Physikيعرض شليك معالجة نقدية للقضايا التركيبية القبلية الخاصة بالمكان و الزمان
التي تحدث عنها كانط و ذلك باالعتماد على نظرية النسبية .اعتقد شليك أن كانط أراد ان يؤسس
المصداقية المطلقة لميكانيكا نيوتن و هذا بواسطة الصور المتعالية للحس و الفهم .إذ اعتبر كانط أن
المبادئ األولى لميكانيكا نيوتن هي حقائق ضرورية خاصة بالواقع التجريبي ،أي أنها قضايا تركيبية
قبلية.
طبعا أول من ثار ضد هذا االعتقاد الكانطي هم الرياضيون ،و بعد ذلك الفيزيائيون ،فنظرية النسبية
تأسست على انتقادات الذعة و جهها اينشتاين ضد ميكانيكا نيوتن ،فنظرية النسبية بينت أن العبارات
الخاصة بالحاالت الفيزيائية ،بما في ذلك الزمان و المكان ،هي من طبيعة تجريبية ،و بالتالي فهي
23
قضايا تركيبية بعدية في ذات الوقت .أما بوانكاريه فبين أنه بإمكاننا تأويل القوانين الكلية للطبيعة
باعتبارها قضايا تحليلية أو اصطالحية ( هذا في مقابل رفض كانط للقضايا التحليلية) ،و هذا ليكشف
عن الطبيعة االصطالحية لبعض الخطوات المنهجية في البحث العلمي.
انطالقا إذن مما قدمته النظرية النسبية و بوانكاريه يقدم شليك نقدا لكل القضايا التي يصفها كانط و
اتباعه بالتركيبية القبلية ،و يتوصل إلى نتيجة ان هذه القضايا يمكن صياغتها إما على أساس أنها
حقائق ضرورية و بالتالي فهي قضايا تحليلية ،أو على أساس أنها أحكام معرفية تملك محتوى واقعي،
و تكون في هذه الحالة قضايا تجريبية أو تركيبية بعدية.
إذن ال وجود لقضايا تركيبية قبلية ،إالّ ربما في مجال المنطق و الرياضيات ،العلوم الصورية ،و هذا
يحتاج إلى البحث .و حتى إن وجدت في مجاالت كالمنطق و الرياضيات ،المهم بالنسبة لشليك أن هذه
األحكام ال يمكننا اعتبارها أحكام معرفية مطلقة و صالحة تخص الواقع التجريبي للعالم.
في إطار الواقعية النقدية و عندما انتقد شليك القضايا القبلية ،يكون قد انتقد في ذات الوقت التصور
الكانطي للمعرفة العلمية و أطروحته في إمكانية وجود معارف تركيبية قبلية بالفعل .و بهذا يكون
شليك قد رفض إمكانية أن تصبح الميتافيزيقا علما ،و هذا الذي سعى إليه كانط في "نقد العقل
الخالص".
في مقابل هذا ،يقترح شليك نظرية جديدة في المعرفة تقوم على التمييز بين ماهو تحليلي و ماهو
تركيبي ،كما تقوم على معيار للحقيقة محدد بطريقة معالجة للقضايا العلمية .إذن التعريف بالمعرفة
التجريبية و محاولة تحديد ماذا نعني بها هو الذي سيحدد معالم الواقعية النقدية التي ستحل النزاع
القائم بين المثالية و الواقعية.
رودولف كارناب
رأى كارناب أن بفضل التحليل المنطقي للغة تستطيع االيبستمولوجيا أن تضع خطا فاصال بين المجال
الحقيقي للعلم و المجال الميتافيزيقي .هذا الفصل سيتم بواسطة نظرية في المعنى ،فالعبارة لن يكون
لها معنى إالّ إذا ردت إلى معطيات يمكننا مالحظتها تجريبيا .فكل عبارة ليس لها قاعدة تجريبية بهذا
المعنى هي خالية من المعنى ،و هذا هو حال العبارات الميتافيزيقية التي ال تخضع بعد ذلك لمبدأ
التحقق.
24
كذلك من الذين حركوا بقوة أفكار الحلقة ،و إن لم يكن فيلسوفا بالمعنى االحترافي للكلمة ،أوتو نويرات
و هو عالم اقتصاد بالتكوين .لم يكن له وضع محدد في جامعة فيينا و لكنه كان عضوا نشطا جدا في
إطار اللقاءات التي كانت تنظمها الحلقة ،و كان ينشر مقاالت عديدة في مجلة ايديولوجية اسمها Der
.Kampfكان شديد الكره بطبيعة الحال للميتافيزيقا ،و كان يقول أن محاربة الميتافيزيقا هي بمثابة
محاربة البرجوازية الرجعية .La bourgeoisie réactionnaire
طبعا لم تكن لنويرات ،عكس شليك و كارناب ،نظرية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني نسقية ،و
لكن كان لديه مجموعة كثيرة من األفكار القوية ،أفكار لم يتقبلها فيلسوف كشليك الذي كان معتدال
نوعا ما في تصوراته ،و لكنها كانت شديدة التأثير على كارناب خاصة في بداية الثالتينيات.
اآلن ما كتبه شليك في "النظرية العامة للمعرفة" لم يكن موضوع نقاش أثناء لقاءات الحلقة ،على
عكس كتاب كارناب الذي عنونه ب "البناء المنطقي للعالم" Der logische Aufbau der
.Weltكتاب شليك "النظرية العامة للمعرفة" اعتمد على مختلف التطورات التي عرفتها الفيزياء و
الرياضيات خاصة الهندسة .يشرح شليك األفكار في هذا الكتاب بطريقة تقليدية باالعتماد على
مصطلحات سيكولوجية و منطقية كالسيكية .وربما من نقائص هذا الكتاب عدم االعتماد على دروس
المنطق الحديث ،و لكن هذا ال يمنع القارئ من شرحه على ضوء هذه الدروس .و أهمية هذا المؤلف
لشليك تظهر في أمر أنه يقدم لنا نظرية أصيلة في المعرفة ،و موضوعة في سياق نقاشات العصر
سواء العلمية او الفلسفية خاصة النقاشات و الجدالت التي كانت قائمة بين أنصار الكانطية الجديدة و
أنصار وضعية ماخ الحسية .أهميته تظهر أيضا في محاولة شليك استخالص بعض النتائج الفلسفية
من نسبية اينشتاين.
في المقابل ،يعتمد كتاب كارناب " البناء المنطقي للعالم" اعنمادا واضحا و أساسيا على المنطق
الحديث ،و يطور فيه كارناب نظرية منطقية تعتني بتكوين التصورات ،و هذا العطاء صورة منطقية
واضحة لألطروحة الوضعية التي تقوم على تكوين التصورات انطالقا من المعطى المباشر.
أما أصالة كتاب كارناب فتظهر في قضية انه يضع مناهج منطقية كبديل للنظرية المعرفية الكالسيكية
التي تقوم على درسة القدرات اإلنسانية أو الملكات اإلنسانية كالعقل و الفهم..الخ لذلك يسمى الكتاب ب
"البناء المنطقي للعالم".
طبعا كرناب لم يكتب فقط هذا الكتاب ،بل كتب مقاالت كثيرة و كتب طرحت الكثير من األسئلة و
التساؤالت ذات الطابع االيبستمولوجي و الفيزيائي .و في هذا اإلطار طرح كارناب سؤاال مهما جدا
تأسست عليه فلسفة حلقة فيينا في بداياتها و هو :كيف يمكننا ايجاد مكان ووضع لما هو تجريبي و
اصطالحي في تكوين النظريات الفيزيائية؟
25
انطالقا من هذه المكتسبات المعرفية و االيبستمولوجية التي وجدت في كتب شليك و كارناب خاصة،
درس أعضاء حلقة فيينا "رسالة منطقية-فلسفية" لفتجنشتاين ،رغم أنهم لم يتفقوا بعد ذلك حول
معاني القضايا التي يحويها هذا الكتاب .تدارسوا رسالة فتجنشتاين في فترة أولى من 1926إلى
،1927و درسوه مرة ثانية في الفترة ما بين 1931-1930عندما اقترح فايزمان على أعضاء
الحلقة قراءة معينة لكتاب فتجنشتاين.
بالنسبة لشليك ،أطروحات فتجنشتاين في الرسالة تسمح بإعطاء وجهة جديدة للنشاط الفلسفي ،و هذا
يجعلها ذو أهداف محددة وله وظيفة محددة و المتمثلة في نقد اللغة و توضيح معنى ما نقوله .ووجهة
النظر هذه لم يتقاسمها كل أعضاء الحلقة ،فنويرات مثال انتقد لما رآه معنا تصوفيا للرسالة ،خاصة
على مستوى ما يسمى بفلسفة المسكوت عنه ،هذا المسكوت عنه يسميه فتجنشتاين بالتصوف و له
عدة صور األخالقية ،و الجمالية وحتى المنطقية.
26