Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 44

‫الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي‬


‫جامعة إلاخوة منتوري قسنطينة ‪/1‬الجزائر‬
‫كلية آلاداب واللغات‬
‫قسم آلاداب اللغة العربية‬

‫محاضرات مقياس السرديات العربية املعاصرة‬


‫السنة أولى ماستر ‪ -‬تخصص أدب حديث ومعاصر‬
‫املجموعة‪ /1‬ألافواج‪2-1‬‬
‫إعداد الدكتورة ‪:‬ليندة خراب‬

‫املحاضرة ألاولى ‪:‬الرواية العربية وتمثيل املرجعيات الثقافية‪.‬‬


‫مقدمة‪:‬‬
‫انفتحت السرديات العربية مع مطلع ألالفية الثالثة على الدراسات الثقافية‪،‬‬
‫بمختلف تياراتها ومنها النقد الثقافي والنقد النسائي ونقد الخطاب لاستعمار وو ما‬
‫ّ‬
‫شكلت الرواية وسيطا رمزيا مالئما ل ّ‬
‫تأمل مختلف القضايا التي‬ ‫بعد الكولونيالية‪ ،‬وقد‬
‫تقترحها الدراسات الثقافية‪ّ ،‬‬
‫ألنها في وصل تكوينها ّ‬
‫نص ثقافي ينزع باستمرار إلى مقاومة‬
‫كل وشكال لاستالب والهيمنة‪ ،‬وإن كانت توفر في آلان نفسه سياقات لتمثيل منظومة‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫القيم وألاعراف والتقاليد وألاذواق السائدة واللغات واملعتقدات والثقافات‪،1‬فتشكلت‬
‫ُ‬
‫لة‪،‬تتفاوت من حيث قيمها وتصوراتها ومواقفها ورؤاها‪ ،‬وهذا ودعى‬ ‫ّ‬
‫متخي‬ ‫بذلك عوالم‬

‫‪ -1‬يعرف مالك بن نبي الثقافة بأنّها تشمل‪":‬كل مقاييسنا الذاتية التي تتمثل في قولنا(هذا جميل) و( ذاك قبيح)أو (هذا خير) و(ذلك شر)؛هذه المقاييس هي التي تحدّد‬
‫سلوكنا االجتماعي في عمومه‪ ،‬كما تحّدد موقفنا من المشكالت قبل أن تتدخل عقولنا ‪...‬إنّها تحدّد في الواقع المباني الشخصية للفرد كما تحدّد المباني االجتماعية‪،‬أو ما أطلقنا‬
‫عليه من قبل( أسلوب الحياة) ‪،‬أعني‪:‬خاصية الثقافة‪،‬وهي بهذا نفسه تحدّد رقعتها وحدودها‪".‬ينظر‪ :‬الك بن نبي‪ :‬مشكلة الثقافة‪ ،‬ترجمة عبد الصبور شاهين‪،‬دار‬
‫الفكر‪،‬دمشق‪،‬سوريا‪،‬ط‪ ،4894، 4‬ص‪.‬ص‪. 34-35‬‬

‫‪1‬‬
‫املتخيل سرديا‪ ،‬هو ٌ‬
‫نسق جمالي ال يخضع ألحادية املنظورالثقافي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إلى القول ّ‬
‫بأن العالم‬
‫ّ‬
‫النص مصنوع من‬ ‫وذلك ما يذهب إليه روالن با ت )‪ (Roland Barthes‬إذ يعتقد ّ‬
‫بأن‪» :‬‬ ‫ر‬
‫ّ‬
‫كتابات مضاعفة‪.‬وهو نتيجة لثقافات متعددة‪،‬تدخل كلها بعضها مع بعض في حوار‬
‫متعدد الهويات‪،‬وهو يتسربل بحوارية‬‫ّ‬ ‫‪،‬ومحاكاة ساخرة‪ ،‬وتعارض‪ 1 «.‬فالنص ألادبي‬
‫وساليب و منظور ٌ‬
‫ات ثقافية واجتماعية‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ظاهرة‪،‬تتقاطع عبر نسيجها ٌ‬
‫لغات و‬
‫املرجعيات الثقافية في الرواية العربية‪/‬نماذج مختارة‪:‬‬
‫ّ‬
‫الثقافية‪،‬وقدمتها بأسلوب رمز شديد‬ ‫التقطت الرواية العربية السياقات‬
‫ّ‬ ‫إلايحاء والتكثيف‪ ،‬فكان ّون اتخذ تخييلها شكل تيمات ظلت ّ‬
‫تتردد وتطرد داخل‬
‫النسيج السرد مثبتة ارتباط هذا املنجز الروائي بمرجعيته الثقافية‪ ،‬وفيما يلي‬
‫وصف موجز ألهم هذه التيمات ‪:‬‬
‫‪ -1‬جدل الشرق والغرب ‪:‬‬
‫ّ‬
‫متشبعة بمنظومة‬ ‫ّ‬
‫املتخيلة تحيل إلى ونساق ثقافية‬ ‫من املعلوم ّون السرديات‬
‫من القيم الروحية وألاعراف والتقاليد واملؤسسات ووساليب التفكير السائدة داخل‬
‫مجتمع ما‪،2‬دون ون يعني ذلك تنميط الهوية التي قد تكون ويضا هويات داخل املجتمع‬
‫الواحد‪،‬ومن ثم ينهض مفهوم الهويات الحضارية على فكرة لاختالف‪،‬وهذا بديهي‬
‫ّ‬
‫ألن‪ » :‬الهوية على و مستوى‪-‬شخص ي‪،‬قبلي‪،‬عرقي‪،‬حضار ‪ -‬يمكن ون تعرف فقط في‬
‫عالقتها ب"آلاخر"‪:‬شخص آخر ‪،‬قبيلة وخرى‪،‬جنس آخر‪ ،‬حضارة وخرى«‪،3‬فإذا كان‬
‫البشر مختلفون في معتقداتهم وعاداتهم وونماط تفكيرهم وصناعاتهم‪،‬إال ّون ذلك ال‬
‫يقتض ي تهميش بعض الهويات الثقافية على حساب بعض‪،‬بل ّإن لاختالف إغناء‬

‫‪ -1‬روالن بارت‪:‬نقد وحقيقة‪،‬ترجمة منذر عياشي‪،‬دار اإلنماء الحضاري‪،‬ط‪،4،4884‬ص ‪.44‬‬


‫‪ -2‬صمويل هنتنغتون‪:‬صدام الحضارات ‪ ..‬إعادة بناء النظام العالمي الجديد‪،‬ترجمة طلعت الشايب‪،4888،‬ط‪،4‬ص‪98.‬‬
‫‪ -3‬المرجع نفسه‪،‬ص‪. 408‬‬

‫‪2‬‬
‫لألفق الثقافي‪،‬الذ غالبا ما يقود إلى قبول آلاخر واقتراح سبل للتعايش وتبادل‬
‫ّ‬
‫ات‪،‬ألن الحضارة‪،‬في وصل معناها‪،‬سيرورة متطورة‪،‬وهي ليست وقفية وال تعرف‬ ‫الخبر‬
‫بأن منطق صراع الحضا ات ليس حضا يا ّ‬
‫‪،‬ألن الحضارة‬ ‫نقر ّ‬
‫لاحتكار‪،‬وعلى هذا ّ‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫كل زمان‬ ‫ّ‬
‫متجددة ومنفتحة على املنجز إلانساني في ّ‬ ‫إنسانية السمت واملقاصد‪،‬بل هي‬
‫ومكان‪.‬ولذلك شهدت ودبيات القرن العشرين وسردياته ونقوده في آن ‪،‬انعطافا‬
‫مقصودا من مقولة صراع الحضارات‪،‬إلى جدل آخر ذ صلة بلقاء وو حوار‬
‫الحضارات‪،‬وهو ما ينسجم مع جوهر مفهوم الحضارة‪،‬وما تتطلبه من قيم إنسانية‬
‫‪1‬‬
‫شاملة‪.‬‬
‫ومع ذلك ال نستبعد ون يتراجع هذا املعنى املثالي للحضارة في الواقع‪،‬كما في‬
‫مستوى املمارسة ألادبية التي وكدها مناوشة هذا الواقع وتجاوزه في آن‪،‬ومن ثمة فقد‬
‫تكفلت الرواية العربية الحديثة واملعاصرة بكشف اختالل التوازنات‪،‬وفضح بؤر‬ ‫ّ‬
‫تمثالت حضارية متعاكسة بين ألانا وآلاخر‪،‬والشرق‬ ‫ّ‬
‫الصراع‪،‬ووسهمت في صناعة‬
‫والغرب والذكورة وألانوثة‪،‬والوطن واملهجر‪،‬والقرية واملدينة‪ ،‬واملاض ي والحاضر‬
‫‪،‬وقدمت نماذج تعكس مصائر هذا الحوار الحضار الذ بدوه‪،‬منذ عصر‬ ‫ّ‬
‫النهضة‪،‬رفاعة الطهطاو (‪)1081-1081‬في كتابه "تخليص إلابريز في تلخيص باريز"‬
‫الصادر عن مطبعة بوالق سنة ‪ 2، 1011‬ووتبعه علي مبارك ( ‪1081‬ـ ‪ )1081‬فدبج كتابه‬
‫"علم الدين"سنة ‪،1008‬وفيه قارن بين وحوال الشرق والغرب‪،‬ووجرى حوار‬
‫كل عقدة نقص وو شعور بالدونية‪،‬وهو ما جعله‬ ‫متكافئ‪،‬م ّ‬
‫تنزها عن ّ‬ ‫ُ‬ ‫الحضارات بشكل‬
‫يتصدى بالنقد لبعض مظاهر لانحراف السائدة في املجتمع الفرنساو ‪،‬مثل انغماس‬
‫بعض شبابه في امللذات واملالهي واملالعب وما يتبع ذلك من تبديد لألموال وإضرار‬
‫بالعقول وألاعراض‪3،‬وعلى مذهب هؤالء كتب دمحم املويلحي(‪" )1818-1080‬حديث‬

‫‪ - 1‬األدب المقارن ‪،‬مشكالت وآفاق‪:‬عبده عبّود‪،‬منشروات اتحاد الكتاب العرب‪،4888،‬ص‪.‬ص‪.434-448،‬‬


‫‪ -2‬رفاعة رافع الطهطاوي‪ :‬تخليص اإلبريز في تلخيص باريز‪،‬الجزء الثاني(المواجهة)‪،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪(،4885،‬د‪.‬ط)‪،‬ص‪434‬‬
‫‪ -3‬علي مبارك‪:‬علم الدين‪ ،‬المجلد الثاني‪،‬مطبعة جريدة المحروسة‪ ،‬اإلسكندرية ‪( ،4994،‬د‪.‬ط) ‪،‬ص ‪. 340‬‬

‫‪3‬‬
‫هشام‪،‬وضمنه مشاهدات بطله الباشا‪،‬الذ اب ُتعث من مرقده في زمن غير‬ ‫ّ‬ ‫عيس ى بن‬
‫شد الرحال رفقة صديقه و الراو إلى‬ ‫بتغير وخالق وهل العصر‪ ،‬وقد ّ‬ ‫زمنه ليفاجأ ّ‬
‫التحول الذ طرو على وهل القاهرة‪،‬فجاء في فصل‬ ‫ّ‬ ‫الغرب‪،‬بهدف استكشاف وسباب‬
‫صديق الباشا قائال‪ »:‬السبب الصحيح في‬ ‫ُ‬ ‫"املدنية الغربية"‪،‬تفسيرا لهذا الفساد ساقه‬
‫ذلك هو دخول املدنية الغربية بغتة في البالد الشرقية وتقليد الشرقيين للغربيين في‬
‫جميع وحوال معايشهم كالعميان ال يستنيرون ببحث وال يأخذون بقياس‪،‬وال يتبصرون‬
‫نظر‪،‬وال يلتفتون إلى ما هنالك من تنافر الطباع وتباين ألاذواق واختالف‬ ‫بحسن ٍ‬
‫ألاقاليم والعادات‪...،‬وتركوا لذلك جميع ما كان لديهم من ألاصول القويمة‪...‬واكتفوا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الغرب‪،‬وإن بيننا‬ ‫بهذا الطالء الزائل من املدنية الغربية‪...‬وصرنا في الشرق كأننا من وهل‬
‫‪1‬‬
‫وبينهم في املعايش ُلبعد املشرق من املغرب « ‪.‬‬
‫ّ‬
‫لقـ ــد تشـ ــكل الـ ــوعي الخـ ــاو بجـ ــدل الشـ ــرق والغرب‪،‬ولقـ ــاء الهويـ ــات الثقافيـ ــة‪،‬في‬
‫عمـا هـو عليـه فـي سـرديات القـرن العشـرين‬ ‫سرديات القرن التاسع عشر‪،‬بشكل مختلف ّ‬
‫الندي ــة تحك ــم هـ ـذه التمثالت‪،‬عل ــى ال ــرغم م ــن ألازم ــات لاجتماعي ــة‬ ‫وم ــا بع ــده‪،‬إذ كان ــت ّ‬
‫والسياســية ولاقتصــادية التــي شــهدتها املنطقــة العربيــة فــي تلــك الفتــرة‪ ،‬ومــا فــي العصــر‬
‫ّ‬
‫الحــديث واملعاصر‪،‬فنحصـ ي عديــد الروايــات العربيــة الحديثــة التــي تمخضــت عــن رؤيــة‬
‫للواقــع ونقــد الــذات فــي مواجهــة آلاخــر ‪ ،‬ويمكننــا فــي هــذا الســياق ون نــذكر روايــة "زينــب"‬
‫ملحم ـ ــد حس ـ ــين هيك ـ ــل (‪،)1811‬وودي ـ ــب لط ـ ــه حس ـ ــين (‪،)1818‬و"عص ـ ــفور م ـ ــن الش ـ ــرق‬
‫لتوفيــق الحكــيم (‪،)1810‬وقنــديل وم هاشــم ليحــي حقــي(‪،)1811‬والحــي الالتينــي لســهيل‬
‫إدري ــس(‪،)1881‬وموس ــم الهج ــرة إل ــى الش ــمال للطي ــب ص ــالح(‪،)1898‬ورواي ــة ألاش ــجار‬
‫واغتيـ ـ ـ ــال مـ ـ ـ ــرزوق لعبـ ـ ـ ــد الـ ـ ـ ــرحمن منيـ ـ ـ ــف(‪،)1881‬واملرفوضـ ـ ـ ــون ب ـ ـ ـ ـراهيم سـ ـ ـ ــعد‬
‫(‪،)1801‬ونزيــف الرجــر بـراهيم الكــوني(‪،)1888‬وروايتــي‪":‬ضــميرالغائب‪-‬الشــاهد ألاخيــر‬
‫عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى اغتيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدن البحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر"(‪،)1888‬و"كت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ألامير‪،‬مس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالك وبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواب‬
‫الحديد"(‪)8880‬لواسيني ألاعرج وغيرها‪.‬‬

‫‪ -1‬دمحم المويلحي‪:‬حديث عيسى بن هشام‪-‬أو فترة من الزمن ‪،‬مكتبة األزهرية‪،‬مصر‪،4844،‬ص‪.449‬‬

‫‪4‬‬
‫في عصفور من الشرق‪ ،‬لتوفيق الحكيم‪ ،‬تترائء شخصية "محسن" متأز ّمة‬
‫وضائعة‪،‬إنها تقيم في املنطقة البينية‪ ،‬حيث ال شرق وال غرب‪ ،‬فمحسن يرفض الغرب‬‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويشكك في قيمة ما حققه اقتصاديا وعلميا فيقول ‪ »:‬إني وخش ى ون تكون وروربا‬
‫موشكة على دفع إلانسانية إلى هوة‪ّ ...‬إنها لتستيقظ فيها الروح وحيانا ‪،‬فتشك في‬
‫ّ‬ ‫ويخيل إليها ّون مدنيتها الخالبة ليست إال بهرجا ّ‬
‫نفسها‪ّ ،‬‬
‫‪،‬وون علمها الحديث كله‪ ،‬وهو‬
‫وحده الذ تتيه به على البشرية‪ ،‬في مختلف تاريخها‪ ،‬ليس من حيث القيمة العملية‬
‫للناس بعض الراحة في ومور‬ ‫قدمت ّ‬ ‫غير" لعب" من صفيح وزجاج ومعدن؛ ّ‬
‫معاشهم‪،‬ولكنها وخرت البشرية‪ ،‬وسلبتها طبيعتها الحقيقية‪ ،‬وشاعريتها‪،‬وصفاء‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫روحها « ‪ .1‬وما إذا تطلع محسن إلى شرقه ‪،‬فسرعان ما يتملكه اليأس بسبب تخلفه‬
‫هم ون يوضح لصديقه الروس ي‬ ‫وجهله وتقليده ألاعمى للغرب ‪،‬يقول محسن وقد ّ‬
‫إيفان حقيقة هذا الشرق ‪ » :‬نعم اليوم ال يوجد شرق! إنما هي غابة على وشجارها‬
‫قردة‪ ،‬تلبس ز الغرب‪ ،‬على غير نظام وال ترتيب وال فهم وال إدراك‪ .‬لم يجرؤ "محسن"‬
‫ون يقول مثل هذا الكالم لصاحبه الروس ى؛ فقد ودرك ّون هذا الرجل‪،‬الذ لم يستطع‬
‫كل ومله في الشرق‪.‬وقد صنع‬ ‫ش ٌيء في الغرب ون يشفي نفسه القلقة الحائرة؛ قد وضع ّ‬
‫كل ومله الباقي‪ ،‬وإن كشف الحقيقة لعينه آلان‬ ‫للشرق في روسه صورا عظيمة‪ ،‬هي ّ‬
‫وفظع طعنة يقتل بها هذا املسكين‪ ،‬فتركه في خياالته‪ 2 « ...‬يبدو ّون توفيق الحكيم كان‬
‫ّ‬
‫سباقا إلى ابتكار هذه الطريقة املرآوية في تمثيل الهويات املتقابلة‪،‬إذ في الوقت الذ‬
‫ظل في مخياله منبعا للسحر والفضيلة والنقاوة‬ ‫ّ‬ ‫يهيم إيفان بالشرق‪،‬الذ‬
‫والطبيعة‪،‬كان "محسن" بدوره ما يزال يهيم بالغرب‪ ،‬قبل ون يكشف له عن وجهه‬
‫املوغل في القبح‪ .‬فينتهي إلى رفضه دون إدانته بشكل كامل ‪.‬‬
‫تنضم رواية موسم الهجرة إلى الشمال إلى روايات الجدل الحضار ‪،‬‬
‫ففيهاولقت املرجعيات الثقافية بظاللها على مختلف مكونات السرد‪،‬من شخصيات‬

‫‪ -1‬توفيق الحكيم‪،‬عصفور من الشرق‪،‬دار مصر للطباعة‪،‬د‪.‬ت‪،‬د‪.‬ط‪ ،‬ص ‪.‬ص ‪.371-371‬‬


‫‪ -2‬المصدر نفسه‪،‬ص‪.‬ص‪.391-393‬‬

‫‪5‬‬
‫ومنظورات ووساليب سردية و لغات وومكنة‪ ،‬وإن كان تخييل هذه البنى الثقافية قد‬
‫ّ‬
‫اتخذ شكل مجازات متقابلة‪ ،‬تعيد مساءلة جدل ألانا في عالقته باآلخر‪ ،‬فقد وفر‬
‫ّ‬
‫مصطفى سعيد ونموذجا للشرق‪ ،‬وال نستغرب بعد ذلك ون تكون مالمحه شرقية إنه‬
‫كما يقول عن نفسه‪ »:‬هذا ونا‪.‬وجهي عربي كصحراء الربع الخالي‪،‬وروس ي وفريقي يمور‬
‫شخصيات مسز ومستر روبنسون والبروفيسور‬ ‫ُ‬ ‫بطفولة شريرة « ‪،1‬في حين مثلت‬
‫ماكسويل وآن همند وجين موريس ونموذجا للغرب‪ ،‬وفي هذه الرواية تنفتح قنوات‬
‫ستعمرا‪،‬فثمة تاريخ جديد ما‬ ‫ِ‬ ‫ستعمرا ‪ ،‬و بين غرب لم يعد ُم‬
‫الحوار بين شرق لم يعد ُم َ‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫بعد كولونيالي‪ ،‬راح خالله الشرق يفكك هوية آلاخر محاوال فهمه‪،‬بل إنه يتطلع إلى‬
‫غزوه‪ »:‬وقد ونشأوا املدارس ليعلمونا ون نقول"نعم" بلغتهم‪...‬نعم يا سادتي جئتكم‬
‫غازيا في عقر داركم «‪ 2‬في حين لم تكن غزوات مصطفى سعيد للغرب تتحقق إال‬
‫مجازيا من خالل مراودة نساء وروبا وإخضاعهن لتسريب فكرة قوة الشرق وتفوقه! ‪.‬‬
‫وبعد هزيمة ‪،1898‬طروت على الساحة العربية تغييرات سوسيوثقافية ودت‬
‫إلى عودة الروائيين العرب إلى طرح قضية الجدل الحضار وتقديمها بشكل مختلف‬
‫ُ‬
‫الكتاب في هذه املرحلة على‬ ‫‪،‬قليال وو كثيرا عن املحاوالت السابقة‪ ،‬فقد استبقى‬
‫تجنيس العالقة بين الشرق والغرب ‪ ،‬فكان حضور املروة الغربية في السرد الجديد‬
‫كل التمييزات العميقة الفاصلة بين هاتين الهويتين املختلفتين‪ ،‬وعنف‬ ‫يدل على ّ‬
‫ّ‬
‫العالقة بينهما‪،‬غير ّون هذه الروايات اتسمت بتجاوز عقدة النقص إزاء آلاخر‪،‬وعودة‬
‫ندية مرة وخرى لتحكم العالقة بين الشرق والغرب‪،‬كما انشغلت هذه الروايات‬ ‫ال ّ‬
‫كل تبعات التخلف‬ ‫بواقعها فراحت تسائله وتنتقده بقوة‪ ،‬بدال من تحميل آلاخر ّ‬
‫والعطالة الحضارية‪.‬‬
‫من التجارب الروائية املنضوية تحت جدل الحضارات في فترة ما بعد الهزيمة‪،‬‬
‫نذكر رواية "ألاشجار واغتيال مرزوق" لعبد الرحمن منيف‪ ،‬وهي رواية تسرد سيرة‬

‫‪ -1‬الطيب صالح ‪:‬موسم الهجرة إلى الشمال‪ ،‬منشورات دار النفيس‪،‬الجزائر‪،4004،‬ص‪.54‬‬


‫‪ -2‬المصدر نفسه‪،‬ص ‪.71‬‬

‫‪6‬‬
‫بطلها "منصور عبد السالم" الذ ترك الشرق باتجاه الغرب ليلتقي بكاترين‪ ،‬فظن ‪-‬‬
‫بادئ الرو ‪ّ -‬ون خالصه من إرث الشرق سيكون على يديها‪ 1،‬غير ّون منصور يحمل‬
‫وعيا كامال باستحالة العالقة بينهما ‪ ،‬وبهذا تعيد رواية" ألاشجار واغتيال مرزوق"‬
‫شعار "مصطفى سعيد" في موسم الهجرة إلى الشمال؛ "فالشرق شرق والغرب غرب"‬
‫‪،‬ومع ذلك ال يتورط بطلنا الشرقي في رفض الغرب وال إدانته ‪ ،‬كما ال يتورط في ّ‬
‫حبه‬
‫والهيام ب ّ‬
‫ه‪،‬ألن الرواية معنية بهجاء الشرق في مقام ّوول ‪ ،‬وهي تعيد إنتاج خطاب ثقافي‬
‫وإيديولوجي ساد خالل هذه الفترة لتكون بذلك‪ »:‬في وحد وجوهها جزءا من حملة‬
‫النقد الذاتي‪،‬والتعرية الداخلية التي اجتاحت الوطن العربي في وعقاب هزيمة الحرب‬
‫الثالثة والتي ورادت نفسها ر ّدا على التضليل إلايديولوجي الذ مارسته " ألانظمة"‬
‫حينما صورت الهزيمة على ّونها نتيجة ملؤامرة وجنبية « ‪ 2‬لقد انخرطت رواية "ألاشجار‬
‫واغتيال مرزوق" في نقد واقع الشرق‪ ،‬وفضح ما شاع فيه من بؤس وممارسات قمعية‬
‫ووود للحريات ‪ .‬وهذه سمة تنفرد بها هذه الرواية عن غيرها‪ ،‬على الرغم من ّونها ال‬
‫تنكفئ على وطروحة الجدل الحضار وال تكتف بها وحدها‪.‬بخالف ما روينا في رواية‬
‫"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح‪.‬‬
‫‪ -8‬الرجل واملرأة‪:‬‬
‫ّ‬
‫وفرت ثنائية الرجل واملروة مجازا سرديا آخر ملساءلةاملرجعيات الثقافية ‪،‬‬
‫و إن كنا غير معنيين بتناول هذه الثنائية في عالقتها املباشرة باألدب النسو ونقده‪،‬‬
‫حتى وإن كانا ينتميان إلى حقل الدراسات الثقافية‪ ،‬فما يهمنا في مقام ّوول هو رصد‬ ‫ّ‬
‫تم بها تجنيس العالقة بين الشرق والغرب في املنجز الروائي العربي ‪،‬‬ ‫الطريقة التي ّ‬
‫وتأمل الكيفية التي تم بها تحويل العالقة بين الرجل والروة إلى وسيط رمز ملناقشة‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫تبينا ّون النقد الثقافي‪ ،‬والدراسات النسوية على‬
‫قضايا الجدل الحضار ‪ ،‬بخاصة إذا ّ‬

‫‪ -1‬عبد الرحمن منيف‪،‬األشجار واغتيال مرزوق‪،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪،‬األردن‪،‬المكز الثقافي العربي‪،‬المغرب‪ ،‬ط‪ ،31،1111‬ص ‪.111‬‬
‫‪ -2‬جورج طرابيشي‪،‬شرق وغرب و رجولة وأنوثة‪ -‬دراسة في أزمنة الجنس والحضارة في الرواية العربية‪،‬دار الطلية للطباعة والنشر‪،‬بيروت‬
‫ط‪،1،3997‬ص‪.387‬‬

‫‪7‬‬
‫وجه التحديد‪ ،‬قد روت في صورة الرجل الوجه آلاخر للهيمنة املؤسساتية التي رفعت‬
‫من شأنه ونصبته مركزا‪ ،‬في حين زحزحت املروة إلى هامش من الفعل والقول‪ ،‬وبالطبع‬
‫سوف تنتقل مثل هذه ألانساق العرفية والثقافية إلى الرواية العربية‪ ،‬لتنتظم‬
‫وطروحة الجدل الحضار بين غرب متمركز وشرق تابع له‪ ،‬هذا وال نستبعد‪-‬حسب‬
‫تصورنا‪ -‬ون يتعاور بعض هذه آلاراء املتبناة بقوة في الدراسات النسوية ش يء من‬
‫حتى يتفرغ‬‫الشطط والدوغماتية ‪ ،‬وهوما كان يجب ون يتخلص منه النقد النسو ّ‬
‫ملشاريعه ألاكثر وجاهة‪.‬‬
‫صاغ املنجز الروائي العربي العالقة الصدامية بين الشرق والغرب‪ ،‬في شكل‬
‫عالقة حب مستحيلة بين الرجل الشرقي واملروة الغربية‪ ،‬ذلك ما يظهر في عديد‬
‫متيما بحب‬ ‫الروايات‪،‬ففي "عصفور من الشرق "‪ ،‬يظهر بطل الرواية "محسن" ّ‬
‫"سوز ديبون" ‪ 1‬التي استغلت "عقده" الشرقية تجاه ألانثى‪ ،‬لتعبث بمشاعره‪ ،‬لذا‬
‫حبهما بفراق مؤلم مشفوع بسقوط ألانموذج الغربي‪-‬ممثال في سوز ‪-‬‬ ‫تنتهي قصة ّ‬
‫بسبب فرط ونانيتها وماديتها ‪،‬وانسحاب ونموذج الشرق‪-‬ممثال في محسن‪ ،‬الذ يفضل‬
‫لارتماء في وحضان الفن‪ ،‬للتحرر من شرور العالم‪،‬شرقه وغربه‪.‬‬
‫ثمة روايات وخر منحت بطلها الشرقي فحولة كاملة‪ ،‬وغني عن الذكر ون الفحل‬
‫كل حيوان‪ ،‬والرجل الفحل هو النبيل و الشجاع والقو‬ ‫صفة موقوفة على الذكر من ّ‬
‫ّ‬
‫واملنجب ‪،‬وما املروة الفحلة فهي سليطة اللسان الغير‪ . 2‬ينجح الرجل الشرقي كما‬
‫يرسمه املنجز الروائي العربي في إلايقاع بأنثاه الغربية وإخضاعها‪ ،‬وبذلك ّ‬
‫يتحول فعل‬
‫امتالك البطل لجسد ونثاه الغربية تعبيرا وليغوريا‪،‬ومعه يغدو معجم الجنس والجسد‬
‫استعارات تنضح باالنتهاك العدائي وو لاستالب املتبادل بين الشرق والغرب‪ ،‬كما‬
‫يمكن ون توفر إضاءات كافية ألزمة بطل شرقي‪ ،‬يبحث عن إزاحة الغرب وو التفوق‬
‫غياب في مستوى الفعل الحضار ‪.‬ولنا في‬‫عليه رمزيا‪ .‬وفي ذلك تعويض واضح عن ٍ‬

‫‪ -1‬توفيق الحكيم‪ ،‬عصفور من الشرق‪،‬دار مصر للطباعة‪،‬دط ‪،‬دت‪،‬ص ‪ .‬ص‪.79-78‬‬


‫‪ -2‬ابن منظور(أبو الفضل جمال الدين دمحم بن مكرم)‪،‬لسان العرب ‪،‬المجلد‪ ،5‬تحقيق عبد هللا الكبير وآخرين‪،‬ص ‪(1157‬مادة فحل )‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫املدونة السردية العربية ومثلة ال تحص ى ‪،‬غير وننا نكتفي بالنماذج التي سقناها بين‬
‫طيات هذه املحاضرة؛ ففي موسم الهجرة إلى الشمال نقرو قول مصطفى سعيد الذ‬
‫جاء إلى لندن غازيا ‪ »:‬ونا الغاز الذ جاء من الجنوب‪،‬وهذا هو ميدان املعركة‬
‫ّ‬
‫الجليد الذ لن وعود منه ناجيا‪ ، 1 « .‬وعلى هذا يبدو جليا ّون إخضاع البطل‬
‫ّ‬
‫ية‪،‬لكأن‬ ‫الشرقي للمروة الغربية‪ ،‬غالبا ما يكون بهدف استرجاع توازنات الذات الحضار‬
‫الشرقي يرغب في الثأر لشرقيته وعقدة استعماره يوم جاءه الغرب غازيا بلدانه ناهبا‬
‫ثرواته مستبيحا وراضيه و خيراته ‪.‬‬
‫الحب بين البطل‬‫ّ‬ ‫لكن ‪،‬وكما تقرر في تاريخ السرديات العربية ‪ ،‬تؤول عالقة‬
‫تتحول عالقات الجسد إلى صراع‬ ‫الشرقي واملروة الغربية إلى وضعية لاستحالة‪ ،‬ومعها ّ‬
‫مؤلم بين كيانين متنافرين تماما‪ ،‬وفي هذا املستوى من عالقة الذكورة ‪/‬ألانوثة ُ‪،‬يرى‬
‫مصطفى سعيد في ووج اندحاره كرجل شرقي‪ »:‬كانت الحرب تنتهي بهزيمتي‬
‫دائما‪.‬وصفعها فتصفعني وتنشب وظافرها في وجهي ويتفجر في كيانها بركان من العنف‬
‫فتكسر كل ما تناله يدها من ووان وتمزق الكتب وألاوراق‪.‬كان هذا وخطر سالح‬
‫‪2‬‬
‫عندها‪.‬كل معركة تنتهي بتمزيق كتاب مهم وو حرق بحث وضعت فيه "وسابيع كاملة «‬
‫نلحظ هنا كيف يتحرك امللفوظ السرد مجازبا‪ ،‬ففشل العالقة بين الزوجين‬
‫ّ‬
‫وافتراقهما غالبا ما يكون مأساويا بموت وحدهما ‪،‬وهو ما يشكل وقوى مظهر للتنافر؛‬
‫بل إن هذا الزواج يأخذ سمت املغامرة‪ ،‬فاألنثى الغربية‪ ،‬تتعاورها رغبة الكتشاف‬
‫الشرق‪ ،‬والتعرف على آلاخر املختلف‪ ،‬ويبحث الرجل الشرقي في ونثاه الغربية عن‬
‫ذات عاجزة عن الفعل‪ ،‬لكن حين يفشل‬ ‫توازنات مفقودة ‪ ،‬محاوال روب تصدعات ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحب ويعجز عن الجمع بين املتنافرين‪،‬شرق وغرب‪،‬نكون قد فككنا استعارة املجازات‬
‫الجسدية وثنائية الذكورة وألانوثة‪ ،‬لنعود ويضا ودراجنا إلى وضعية لاستحالة التي‬

‫‪-1‬الطيب صالح‪ ،‬موسم الهجرة إلى الشمال ‪،‬ص‪.444‬‬


‫‪-2‬المصدر نفسه‪،‬ص ‪.444-444‬‬

‫‪9‬‬
‫كل لقاء مرتقب‬ ‫كانت تلف بدء العالقة ومنتهاها‪..‬فبين الشرق والغرب حواجز تحبط ّ‬
‫بينهما‪.‬‬
‫ضمن هذا املحور من عالقة الذكورة وألانوثة‪،‬تنبثق كتلة من الدالالت التهجينية‬
‫املرصودة مسبقا للشرق؛وعلى هذا كان مصطفى سعيد‪ ،‬تشخيصا لهذا الهجاء‪،‬فهو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متخلف‪،‬فال ريب ّونه ّ‬‫ّ‬
‫مكرس للصورة املضللة التي يتمثلها‬ ‫بدائي وعدواني وشهواني و‬
‫تخيلة للشرق في بعض ألادبيات‬ ‫الغرب عن الشرق‪،‬وقد ترسخت هذه الصورة املُ ّ‬
‫الحس واملادة‪،‬مستغال جسد‬ ‫ّ‬ ‫العربية حيث يستبد الرجل بسلطته ويستسلم لعالم‬
‫املروة ‪،‬وما النساء فجوار وحريم في خدمة الرجل‪ ،‬ومثلهن نساء مصطفى سعيد‬
‫الغربيات‪،‬اللواتي شغفهن حبا‪ ،‬فاستسلمن له‪ ،‬وهكذا تسهم شبكة العالقات بين‬
‫ّ‬
‫الذكر وألانثى‪،‬في تسريب تمثالت ثقافية وحضارية خاطئة عن الشرق‪،‬وتكبر بذلك‬
‫ّ‬
‫يتعذر معها ّ‬
‫كل حوار ممكن بين هذين الكيانين‬ ‫مساحة الرفض وإلاقصاء‪،‬إلى درجة‬
‫املتنافرين؛ شرق وغرب‪.‬‬
‫نحمل مصطفى سعيد تبعات وخطائه‪ّ -‬‬
‫املتخيلة‬ ‫مر سوى ون ّ‬ ‫وال نملك بعد الذ ّ‬
‫طبعا‪،‬فقد وثبت اندحاره القيمي من خالل إصراره على انتهاك جسد املروة‬
‫ّ‬
‫اودة‪،‬بأن مصطفى‬ ‫الغربية‪،‬والثأر لشرقيته املهانة‪،‬إذ نشعر ونحن نقرو مشاهد املر‬
‫سعيد‪ ،‬تو ّرط في إعادة إنتاج الصورة املخملية عن الشرق‪ ،‬شرق الحريم والثروة وكل‬
‫النفائس املبثوثة ‪،‬ولم تكن تأتيه النساء الغربيات سعيا وطمعا في اكتشاف عامله‬
‫الشرقي العجيب والجذاب‪،‬تسأله إيزابيال سيمور عن جنسه وهو وفريقي وم وسيو‬
‫فيقول لها ‪ »:‬ونا مثل عطيل عربي وفريقي « ‪. 1‬كان مصطفى سعيد يتلذذ باختالق‬
‫الحكايات العجيبة عن شرقه املزعوم‪،‬وكان ذلك يندرج ضمن استراتيجية فعل املراودة‬
‫‪،‬فال نعجب ون تعيد رواية موسم الهجرة إلى الشمال إنتاج ولف ليلة وليلة‪،‬حين يغدو‬
‫مصطفى سعيد شهريارا آخر ‪،‬في مستوى فعل "الجسد"‪،‬لكنه يتولى ويضا سلطة القول‬

‫‪-1‬الطيب صالح‪،‬موسم الهجرة إلى الشمال‪،‬ص‪.54‬‬

‫‪10‬‬
‫ّ‬
‫‪،‬ويسلب شهرزاد محكياتها ‪..‬إنه مثلها يجذب نساءه بحكاياته عن النيل ‪..‬عن مصر‬
‫وعن السودان وعن وهم وو بقايا وهم اسمه الشرق‪.‬‬
‫‪ -3‬املركزوالهامش ‪:‬‬
‫‪،‬إنهما مفهومان متالزمان قطعا‪،‬وهما يحيالن إلى طرح‬ ‫يقتض ي املركز وجود هامش ّ‬
‫سوسيوثقافي منبثق عن الدراسات الثقافية‪ ،‬غير ّون نشأة هذين املصطلحين ترتبط‬
‫ّ‬
‫بمجموعات اجتماعية منبوذة اجتماعيا ‪،‬وهو ما وكده الباحث وحمد شراك إذ يقول ‪":‬‬
‫تعود نشأة هذه الحركات إلى املجتمع ألامريكي في العقد الثالث من القرن العشرين‬
‫( ‪ )1818-1888‬حيث استقطبت اهتمامات السوسيولوجيين ألامريكان مع مدرسة‬
‫شيكاغو‪ّ .‬إنها املرحلة التاريخية(وو الزمنية على ألاصح)التي كثرت فيها ألادبيات‬
‫وألاحاديث حول مجموعات كيدس(‪ )Kids‬والكانج(‪ ،)gangs‬هذه املجموعات التي كانت‬
‫تنحدر من حركة الهجرة إلى ومريكا‪،‬هم وطفال املهاجرين الذين يعيشون في الشارع ألن‬
‫املجتمع واملراقبة التقليدية تتوارى‪ّ .‬إنهم إيطاليون ويهود ووملان وبولونيون وإيرلنديون‬
‫ومكسيكيون وسود منحدرون من الجنوب‪.‬وقد انتعشت هذه الحركة لتعم بلدان‬
‫غربية وخرى كبريطانيا التي ظهرت فيها مجموعة "تيد بويس"(‪)Teddy Boys‬وفرنسا‬
‫التي ظهرت فيها حركة"وصحاب الياقات السوداء"(‪ 1.)Les blousons noirs‬فللهامش في‬
‫املجتمعات الغربية خلفيات سياسية واجتماعية وفكرية‪ ،‬وهو ليس معارضا للنظام‬
‫كل السلط ‪،‬وال يعترف‬ ‫متمرد‪ ،‬يتجاوز إكراهات ّ‬‫ّ‬ ‫السياس ي تحديدا‪ ،‬بل هو شخص‬
‫كل تصنيف طبقي ‪،‬‬ ‫بمفهوم املؤسسة لاجتماعية والثقافية وحتى ألاسرية‪ ،‬كما يناوئ ّ‬
‫ّ‬
‫بأنه‪ّ »:‬‬
‫كل ما هو غير مركز ‪ ،‬وال يدخل في إطار النسق‬ ‫وقد عرف وحمد شراك املهمش‬
‫ّ‬
‫والتصورات وآلاراء وألاحكام‪ ،‬كما ّون الهامش ال‬
‫ّ‬ ‫الثقافي السائد على صعيد التمثالت‬
‫‪2‬‬
‫يحيل إلى املعارضة باملعنى السياس ي‪،‬بل إلى التشاكس باملعنى الثقافي والفكر ‪«.‬‬

‫‪ -1‬أحمد شراك‪ ،‬الهامش من الدالالت إلى النظرية"نظرية الكتابة"مجلة آفاق‪،‬اتحاد كتاب المغرب‪،‬العدد‪ ،78-77‬يناير‪،1131‬ص‪.51-51‬‬
‫‪ -2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.59‬‬

‫‪11‬‬
‫ال نتصور إذن ون يكون الهامش في مجتمعاتنا العربية‪،‬امتدادا للهامش‬
‫الغربي‪،‬فللمجتمعات العربية خصوصياتها الفكرية والثقافية وإلايديولوجية‪ ،‬وألارجح‬
‫ون يقترن مفموم الهامش العربي بسياسات إلاقصاء والتهميش التي قد تطال فئة‬
‫املثقفين واملفكرين والسياسيين‪ ،...‬الذين تؤرقهم قضايا مجمتعاتهم‪ ،‬وربما وقع تعديل‬
‫هذا املفهوم ويضا ليدمج في سياق "ألانا والغيرية"‪ ،‬ومعه يغدو الغرب نفسه مركزا‬
‫والشرق هامشا‪.‬‬
‫وما ودبيا فقد ونجزت الرواية العربية تمثيال آخر لتنوع املرجعيات الثقافية‪ ،‬من‬
‫ّ‬
‫شخصت‬ ‫خالل ثنائية املركز والهامش واقترن ذلك غالبا بمجازات مكانية‪،‬فلطاملا‬
‫ُ‬
‫القرية الشر َق ّ‬
‫مهمشا وتابعا للغرب‪،‬فكان‬ ‫املدينة فكرة املركزية الغربية‪،‬في حين مثلت‬
‫مجاز آخر للجدل بين الشرق والغرب‪،‬ولقد اتخذت فكرة التمركز‬ ‫هذا التقابل بمثابة ٍ‬
‫الغربية لبوسا ثقافيا ُين َعت ‪ »:‬باملركزية الثقافية التي جعلت العالم يدور في قطب‬
‫ّ‬
‫التعددية‬ ‫واحد‪،‬وكل ما عدا ذالك املركز فهو بدائي ومتخلف«‪،1‬وألاولى إذن ون تكون‬ ‫ّ‬
‫الثقافية(‪)Multiculturalism‬سياقا مناوئا للمركزية الثقافية ومتجاوزا لها في‬
‫ّ‬
‫آن‪،‬بخاصة وهي تناقش قضايا مختلفة من قبيل الهامش والنسوية والعنف والجسد‬
‫واملنفى واملهجر‪.‬‬
‫املتخيل بين املدينة الغربية والقرية الشرقية‪،‬وو بين املركز والهامش ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّإن التقابل‬
‫ّ‬
‫فاملهمش غالبا ما ينتقل‬ ‫يفض ي إلى اختالل القيم واتساع حجم الهوة بين ألانا وآلاخر‪،‬‬
‫مهمش مهاجرا بالضرورة ‪،‬فيحسن‬ ‫كل ّ‬ ‫رغما عنه للعيش في املدينة الغربية‪،‬ولكن ليس ّ‬
‫املهمش ميتافيزيقيا‪،‬وهو ما يؤكده إدوارد سعيد قائال‪» :‬وحتى إن‬ ‫الحديث عندئذ عن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفعليين‪،‬يبقى في إمكانه ون يفكر كما يفكر‬ ‫لم يكن املرء من املهاجرين وو املغتربين‬
‫ويتحقق برغم الحواجز‪،‬وون يبتعد دوما عن السلطات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتخيل‬ ‫الواحد منهم‪،‬وون‬

‫‪ -1‬عبد هللا الغذامي‪:‬النقد الثقافي‪،‬قراءة في األنساق الثقافية العربية‪،‬المركز الثقافي العربي‪،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪،‬ط‪،5،4003‬ص‪.40‬‬

‫‪12‬‬
‫حق قدرها عادة عقو ٌل ال تسافر‬ ‫املُ َم َركزة قاصدا الهوامش‪،‬حيث ترى ومورا ال تقدرها ّ‬
‫‪1‬‬
‫وبدا إلى وبعد من املتعا َرف واملريح«‪.‬‬
‫املهمشين داخل‬ ‫مدد إذن مفهوم الهامش‪،‬فيترك جدل الحضارات‪،‬ليطال ّ‬ ‫ُي ّ‬
‫ُ‬
‫ووطانهم‪ ،‬حينما يفقد إلانسان واملثقف على وجه التحديد قيم الحماية وتمارس عليه‬
‫إكراهات ُويسلب منه الحق في التعبير ولاختالف‪ ،‬غير ّون تجربة ّ‬
‫املهمش في املدينة‬
‫ّ‬
‫‪،‬ولعل رواية‬ ‫الغربية تسترعي اهتمامنا‪ ،‬وهي تنبثق كمأساة في عديد الروايات العربية‬
‫تشكل مثاال ّ‬‫ّ‬
‫جيدا في هذا السياق‪،‬وإن كانت النماذج‬ ‫"ألاشجار واغتيال مرزوق"‬
‫هامش املجتمع الغربي‪،‬وليس الهامش‬ ‫ِ‬ ‫مثقف ينتمي إلى‬
‫ٍ‬ ‫السابقة تصف جميعها وضعية‬
‫في هذه الروايات يتأتى من منظور طبقي‪،‬وال هو يطفح بدالالت الفقر والعوز والحرمان‬
‫ّ‬
‫والجهل لفئة املهمشين واملنبوذين اجتماعيا‪، ،‬وإنما هو هامش قياسا إلى اعتبار‬
‫وتتسع تجربة الهامش ّ‬
‫لتعبر عن‬ ‫املهمش ذاتا طارئة وغريبة عن املدينة الغربية‪،‬هذا ّ‬ ‫ّ‬
‫والحراق‪ ،‬هو من ‪:‬‬‫ّ‬ ‫تمزقات الذات وانشطارها بين عاملين‪،‬فاملهاجر واملغترب واملنفي‬
‫ّ‬
‫»يرى ألامور من حيث عالقتها بما خلفه وراءه‪،‬وبما هو ومامه آلان فعال على‬
‫السواء‪،‬فإن ّثمة منظورا مزدوجا ال يقدر مطلقا على رؤية ألاشياء بمعزل عن‬ ‫ّ‬
‫فكل مشهد وو وضع في املوطن الجديد يستحضر بالضروة نظيره في املوطن‬ ‫بعضها‪ّ .‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫يعني‪،‬فكريا‪،‬ون و فكرة وو تجربة توازن دائما بأخرى‪،‬مما يجعلهما‬ ‫القديم‪.‬وهذا‬
‫‪2‬‬ ‫تبدوان في صورة تكون وحيانا جديدة وال يمكن ّ‬
‫التكهن بها‪«.‬‬
‫املهمش في السرديات العربية الحديثة واملعاصرة وبعادا‬ ‫تأخذ تجربة املهاجر‪ّ /‬‬
‫متشابكة‪،‬تبدو باالستقطاب وتمر بالتنافر والصدام لتنتهي بالنفي والطرد ّ‬
‫مجددا ‪،‬‬
‫املهمش باملدينة الغربية‪ ،‬وتظل صورتها مثالية‪ ،‬بل غالبا ما تتراىء وقد تسربلت‬ ‫ينبهر ّ‬
‫بكل مظاهر التمدن و الجمال ‪،‬وهو ما يمكن استكشافه في عصفور من الشرق‬ ‫ّ‬
‫وموسم الهجرة إلى الشمال ‪،‬على سبيل التمثيل ال الحصر‪ ،‬لذلك غالبا ما تصور‬

‫‪ -1‬إدوارد سعيد‪:‬صور المثقف‪ -‬محاضرات ريث سنة ‪،4885‬نقله إلى العربية ‪:‬غسان غصن‪،‬دار النهار‪،‬بيروت ‪،‬ط‪،4881، 5‬ص‪14‬‬
‫‪ -2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪.99‬‬

‫‪13‬‬
‫ّ‬
‫السرديات العربية بطلها وهو واقع تحت تأثير سحر هذه املدينة ‪،‬بل ويتضخم شعوره‬
‫منفر مثخن‬ ‫بالضآلة والدونية ومامها ‪ ،‬وما القرية الشرقية فهي بالقبح وولى‪ّ ،‬إنها عالم ّ‬
‫ّ‬
‫بقيم سلبية مثل القحط والبدائية والفوض ى والتخلف‪،‬ففي رواية موسم الهجرة إلى‬
‫الشمال تطالعنا هذه الصورة املرصودة للقرية ‪ » :‬فها هي ذ بيوت القرية املتالصقة‬
‫ألنها شمت‬ ‫من الطين والطوب ألاخضر تشرئب بأعناقها ومامنا؛وحميرنا تحث السير ّ‬
‫بخياشيمها رائحة البلسيم والعلف واملاء‪.‬هذه بيوت على حوافى الصحراء‪...‬ومنطقة‬
‫ّ‬
‫صغيرة من هواء بارد رطب يأتي من ناحية النهر‪،‬وسط هجير الصحراء‪،‬كأنه نصف‬
‫حقيقة وسط عالم مليء باألكاذيب‪.‬وصوات الناس والطيور والحيوانات تتناهى ضعيفة‬
‫‪1‬‬
‫كأنها وساوس‪،‬طقطقة مكنة املاء املنتظم تقو إلاحساس باملستحيل‪«...‬‬ ‫إلى ألاذن ّ‬
‫املهمش مالذا‪،‬وو مجرد صورة نوستالجية عن الوطن‬ ‫ليست القرية بالنسبة إلى ّ‬
‫والهوية‪،‬إنها جرح لانتماء الذ ينزف باستمرار ‪ ،‬بل هي متاهة وخرى‪،‬وقس ى‬ ‫ّ‬ ‫والذاكرة‬
‫ربما من متاهة املدينة الغربية‪ ،‬وبذلك غالبا ما يقوم السرد الجديد بتضخيم فضاء‬
‫ّ‬ ‫املهمش‪،‬ليلف عالم القرية الشرقية واملدينة الغربية معا‪،‬فغربة ّ‬ ‫ّ‬
‫املهمش تتضاعف ألنه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فاملهمش‬ ‫ال يستطيع التخلص من وثر املدينة الغربية وال من وثر القرية سواء بسواء ‪،‬‬
‫كما وسلفنا بالقيل ‪،‬يعيش يختبر هذه البينية بكلذ وبعادها‪ّ ،‬إنها منطقة الضياع‪،‬التي ال‬
‫كل مهمش يجد نفسه باستمرار في‬ ‫إلى الشرق تنتمي وال إلى الغرب‪،‬وذلك هو وضع ّ‬
‫ّ‬
‫مفترق الطرق بين حضارتين‪،‬فيكون مضطرا ألنه ‪ »:‬يعيش في حالة وسطية‪،‬ال ينسجم‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تماما مع املحيط الجديد‪،‬وال يتخلص كليا من عبء البيئة املاضية‪،‬تضايقه ونصاف‬
‫ّ‬ ‫التداخالت وونصاف لانفصاالت‪،‬وهو ُنوس َت ٌّ‬ ‫ّ‬
‫الجي وعاطفي من ناحية‪،‬ومقلد حاذق وو‬
‫‪2‬‬
‫منبوذ ال يعلم به وحد‪ ،‬من ناحية وخرى‪. «...‬‬
‫املهمش ‪،‬ومعها يفقد كل إحساس تجاه ذاته‬ ‫ّإن مأساة ضياع الهوية مضاعفة بالنسبة إلى ّ‬
‫و تجاه آلاخر‪ّ ،‬إنه ذات تعاني من ّ‬
‫تمزقات عنيفة داخل مركز ينبذه باستمرار ‪ ،‬وعلى هذا يبدو ون‬
‫تضيع في املدينة الغربية كما في القرية‪،‬معنى الوطن فقط‪،‬ومعه ّ‬
‫كل قيم الحماية‬ ‫الذات لم ّ‬

‫‪-1‬الطيب صالح‪ ،‬موسم الهجرة إلى الشمال‪،‬ص‪.39‬‬


‫‪ -2‬إدوارد سعيد‪:‬صورة المثقف‪،‬ص‪.‬ص‪.38-39‬‬

‫‪14‬‬
‫كفت عن ون‬‫الداخل‪،‬حتى ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وإنسانيتها‪،‬وتغيرت من الخارج ومن‬ ‫والحميمية‪،‬وإنما خسرت ذاتها‬
‫تكون هي نفسها‪،‬وتلك هي الصورة ألاكثر سوداوية ألزمة فقدان الهوية في السرد العربي‬
‫الجديد‪.‬‬

‫املحاضرة الثانية‪ :‬السرد الرقمي العربي املعاصر‬


‫ّ‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫كل ألاجيال‪ ،‬يجدون ّبدا من لانضمام إلى‬ ‫ُ‬
‫الكتاب والنقاد و القراء من ّ‬ ‫لم يعد‬
‫عالم الرقمنة ألادبية‪ ،‬و قد انعكس ذلك على واقع املمارسة ألادبية واتجاهاتها‬
‫ّ‬
‫ووسائطها وتقنياتها وموضوعاتها وطرائق تلقيها‪ ،‬مما ينسجم مع متطلبات العصر‬
‫بأن ألادب الرقمي حقيقة تفرض‬ ‫واهتمامات مجتمع جديد‪ ،‬وعلى هذا يمكن القول ّ‬
‫نفسها على مجتمع املعرفة ألادبية ونقدها‪ ،‬وهو ما تذهب الباحثة زهور كرام إلى‬
‫تأكيده قائلة‪«:‬يشهد الزمن الراهن شكال جديدا في التجلي‪ ،‬بسبب الثقافة‬
‫التكنولوجية‪ ،‬التي غيرت إيقاع التعامالت الفردية والجماعية‪.‬كما سمحت بفضل‬
‫الكل منفتحا على بعضه‪ ،‬ضمن شروط‬ ‫وسائطها إلالكترونية والرقمية إلى جعل ّ‬
‫الثقافة املوحدة رقميا‪ .‬ساهم ذلك في تحرير إلابداعية الفردية‪ ،‬التي تحت فيض‬
‫إلامكانيات التقنية واملعلوماتية واملعرفية التي تقدمها هذه الثقافة(‪،)...‬قد وجدت‬
‫‪1‬‬
‫فضاء خصبا الستثمار رغبة الذات في التعبير»‪.‬‬
‫يحسن بنا إذن السعي لفهم هذه املمارسة ألادبية الجديدة‪،‬وإلاملام بمعطياتها‬
‫التعرف ووال على اصطالح ألادب والسرد‬ ‫ّ‬ ‫النظرية وإلاجرائية‪ ،‬كما يقتض ي ذلك‬
‫الرقميين‪ ،‬ثم محاولة استكشاف معايير هذا الجنس ألادبي الرقمي الجديد الذ لم‬
‫بعد مالمحه وتجا به وآفاقه‪ ،‬وهذا ودعى إلى القول ّ‬
‫بأن ألادبيات الرقمية‪-‬‬ ‫تتضح ُ‬
‫ر‬
‫لعل وهمها سؤال املصطلح‪،‬‬‫السردية‪ ،‬قد ارتبطت بطرح إشكاليات غاية في ألاهمية‪ّ ،‬‬

‫‪ -1‬زهور كرام ‪ :‬األدب الرقمي ‪ :‬أسئلة ثقافية و تأ ّمالت مفاهيمية ( دراسة) رؤية للنشر والتوزيع‪،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ 1119 ،3‬ص ‪.31‬‬

‫‪15‬‬
‫وسؤال التجنيس وسؤال املنهج ‪،‬هذا ويمكننا قبل بسط القول في هذه إلاشكاليات ون‬
‫سيوفق السرد الرقمي العربي في مواكبة الثورة الرقمية املتسارعة عامليا؟‬‫نتساءل‪ :‬هل ُ‬
‫ّ‬
‫وهل يوفر الواقع التكنولوجي العربي ورضية مالئمة للنهوض بأدبيات رقمية عربية‬
‫حيز الثقافة الورقية واملكتوب‬ ‫ناحجة واستقطابية ؟ وماهي وشكال تحويل السرد من ّ‬
‫إلى فضاء الرقمنة الذ انفتح اليوم على وشكال تعبيرية جديدة ‪،‬يغلب عليها التشكيل‬
‫ألايقوني والسمعي البصر ‪.‬‬
‫ألادب الرقمي و سرده ‪ /‬إشكالية املصطلح‪:‬‬
‫يستخدم الدارسون املهتمون باألدب الرقمي ونقده‪ ،‬اصطالحات كثيرة من قبيل‪:‬‬
‫ألادب إلالكتروني ‪ Littérature électronique‬وألادب الرقمي ‪littérature numérique‬‬
‫والنص‬‫النص السيبرنطيقي ‪ّ Cybertexte‬‬ ‫وألادب التفاعلي ‪ Littérature interactive‬و ّ‬
‫املترابط ‪ Hypertexte‬وغيرها‪ ،‬وهي تسميات تتداخل و تتكامل حينا وتتباين داللتها حينا‬
‫املعقد‪ ،‬بحداثة هذا الحقل‬ ‫آخر‪ ،‬و هذا طبيعي إذا ما قا نا هذا الوضع املصطلحي ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫الطارئ على ألادب العربي ونقده من جهة‪ ،‬واختالف الترجمات التي تكون قد تبنت هذا‬
‫لاصطالح وو ذاك من جهة ثانية‪ ،‬وهذا وضع شرحه دمحم وسليم مؤكدا ّون ‪ « :‬مرد هذه‬
‫«البلبلة املصطلحية»‪ -‬إن جاز التعبير‪ -‬كون اللقاء بين املعلوميات وألادب الزال ووليا‪،‬‬
‫ّ‬
‫والوضع لاعتبار لألدب الجديد الذ وثمره هذا اللقاء لم يتحدد بعد‪ ،‬وإلانتاج لم‬
‫يبلغ درجة من التراكم تتيح التمييز بوضوح بين وجناس فرعية داخل النوع الجديد‪.‬‬
‫وبكلمة واحدة‪ ،‬فإن هذا ألادب لم يؤسس نماذجه العليا ُ‬
‫بعد » ‪.1‬‬
‫يستدعي مصطلح ألادب الرقمي صفة الرقمنة ‪ numérisation‬التي عرفها سعيد‬
‫يقطين بأنها ‪ » :‬عملية نقل و صنف من الوثائق من النمط التناظر (و الورقي)* إلى‬
‫النمط الرقمي وبذلك يصبح النص و الصورة الثابتة وو املتحركة و الصوت وو امللف‬

‫‪ -1‬دمحم وسليـم ‪ ،‬الرواية العربية الرقمية وقضية املصطلح‪ ،‬موقع دمحم أسليم‪،‬إلاصدارالثالث‪،‬غشت‪،2112،‬‬
‫‪http://www.aslim.ma/site/articles.php?action=list&cat_id=14&start=20&page=2‬‬
‫*‪ -‬التشديد من عندنا ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫مشفرا الى ورقام‪ ،‬ألن هذا التحويل هو الذ يسمح للوثيقة ‪،‬ويا كان نوعها‪ ،‬بأن تصير‬
‫‪1‬‬
‫قابلة لالستقبال و لاستعمال بواسطة ألاجهزة املعلوماتية‪« .‬‬
‫فالرقمنة انعطاف تاريخي للممارسة ألادبية من عالم الشفاهية وو الكتابية إلى‬
‫النصوو إلى عالم مرئي وتتموقع على شاشة الحاسوب‪،‬‬ ‫عالم الرقمنة حيث ستنتقل ّ‬
‫النص والوسيط "و الحاسوب"‪ ،‬غير ون وجودها‬ ‫محققة بذلك وهم شروطها ؛ توفر ّ‬ ‫ّ‬
‫ال يستغرق املعنى الكامل لألدب الرقمي‪ ،‬فنحن بحاجة إلى شرط ثالث ‪ ،‬به ّ‬
‫تتحقق‬
‫للنص الرقمي‪ ،‬بأن يكون موضوعا في نطاق التبادل الشبكي‪ ،‬ليحوز‬ ‫الصفة الترابطية ّ‬
‫ألادب الرقمي بذلك صفته التفاعلية وهي تشمل ‪ » :‬جميع الفنون ألادبية التي نتجت‬
‫عن تقاطع ألادب مع التكنولوجيا الرقمية‪ ،‬املتمثلة في جهاز الحاسوب الشخص ي‬
‫‪2‬‬ ‫ّ‬
‫املتصل بشبكة ألانترنت‪« .‬‬
‫ص الرقمي لعالقات إلانتاج والتلقي‪ ،‬ومعها تصبح‬ ‫الفضاء الترابطي ّ‬
‫الن َ‬ ‫ُ‬ ‫ُيخضع‬
‫متحققة بشكل ملموس من خالل ودبيات غرف الشات واملنتديات ومواقع‬ ‫ّ‬ ‫التفاعلية‬
‫التواصل لاجتماعي‪...‬وغيرها ‪ ،‬لذلك تستأنف فاطمة البريكي تعريف ألادب الرقمي على‬
‫‪» :‬ونه ألادب الذ يوظف معطيات التكنولوجيا الحديثة في جنس ودبي جديد ‪ ،‬يجمع‬
‫بين ألادبية و إلالكترونية‪ ،‬وال يمكن ون يتأتى ملتلقيه إال عبر الوسيط إلالكتروني و من‬
‫خالل الشاشة الزرقاء و ال يكون هذا ألادب تفاعليا إال إذا وعطى املتلقي مساحة‬
‫‪3‬‬
‫للنص‪«.‬‬ ‫تعادل‪ ،‬وو تزيد عن مساحة املبدع ألاصلي ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ألادب إلالكتروني خاصية الرقمنة‪ ،‬إال ونه يستأثر بسمات‬ ‫ألادب الرقمي‬ ‫يقاسم‬
‫كل ودب رقمي يمكن ون يكون‬ ‫وخرى هي الترابطية والتفاعلية‪ ،‬وهذا ودعى إلى القول ّ‬
‫بأن ّ‬
‫إلكترونيا‪ ،‬مع عكس غير صحيح؛ فاألدب إلالكتروني‪ ،‬عند بعض النقاد‪ ،‬هو مجرد‬

‫‪ -1‬سعيد يقطين‪ ،‬من النص إلى النص المترابط ‪ ،‬مدخل إلى جماليات اإلبداع التفاعلي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬المغرب ‪ ،‬بيروت لبنان ‪،‬ط‪ ،1115 3‬ص ‪.159‬‬
‫‪ -2‬فاطمة البريكي‪،‬مدخل إلى ألادب التفاعلي‪ ،‬التفافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء ‪ ،‬املغرب‪،‬ط‪18889‬و ‪.18‬‬
‫‪ - 3‬املرجع نفسه‪،‬و ‪.18‬‬
‫‪ -‬ينظر ويضا سعيد يقطين‪ ،‬من النص الى النص املترابط و‪118 18118‬و‪181‬‬

‫‪17‬‬
‫تخزين للمواد ألادبية ونقلها من حالتها الورقية إلى حالتها الرقمية‪ ،‬وو هو مجموع‬
‫النصوو املنشورة على صفحات الـ( ‪ ) Web‬والتي تمت رقمنتها دون ون تخضع‬ ‫ّ‬
‫املعقدة ‪ ،‬وقريب من هذا ما ذهب إليه جميل حمداو في سياق‬ ‫للمعالجة البرمجية ّ‬
‫تمييزه بين القصيدة الرقمية والقصيدة إلالكترونية قائال ‪ » :‬وفي هذا الصدد‪ ،‬نميز بين‬
‫القصيدة الرقمية والقصيدة إلالكترونية‪ .‬فاألولى خاضعة لبرمجة حاسوبية دقيقة ‪،‬‬
‫و هندسة برمجية معقدة وصعبة ‪.‬في حين‪ ،‬ترتبط الثانية بالنشر إلالكتروني السطحي‬
‫املباشر‪ .‬وقد يتخذ ألادب إلالكتروني عدة قنوات لتوصيل مختلف الرسائل ‪،‬مثل‬
‫إلايميالت (‪، )emails‬والرسائل(‪ )SMS‬والبلوجات (‪ )Blogs‬والفالش (‪ )Flash‬والبريد‬
‫‪1‬‬
‫(‪. «...)Les courriels‬‬
‫رجح فاطمة البريكي ون تغلب صفة الوسيط على مفهوم ألادب إلالكتروني ‪،‬‬ ‫ُت ّ‬
‫ومن ثمة فهي تؤكد املعنى الشمولي لألدب إلالكتروني الذ تنتقل مواده إلى الحاسوب‬
‫دون ون تأخذ الصفة الترابطية وو التفاعلية فتقول ‪ »:‬فال بد من إلاشارة إلى ّون‬
‫النص الذ يتجلى من خالل جهاز‬ ‫بالنص إلالكتروني في هذا الكتاب هو ّ‬ ‫املقصود ّ‬
‫‪2‬‬
‫الحاسوب‪،‬سواء اتصل بشبكة ألانترنت وم لم يتصل‪«.‬‬
‫يؤكد سعيد يقطين ضرورة وضع تمييزات دقيقة بين مختلف لاصطالحات‬
‫املتداولة في حقل ألادبيات الرقمية‪ ،‬مفضال ترجمة مصطلح ‪  Hypertexte‬بالنص‬
‫املترابط معتبرا ّون ‪ »:‬النص املترابط خاو بالنص إلالكتروني الذ تتحقق فيه‬
‫ّ‬ ‫الروابط« ‪ 3‬وو هو كما جاء في تعريف جان كليمون (‪ّ )j.Clément‬‬
‫النص الذ ‪ »:‬يتشكل‬

‫‪ -1‬جميل حمداو ‪ ،‬ألادب الرقمي بين النظرية والتطبيق( نحو املقاربة الوسائطية) ‪،‬الجزء ‪،1‬املستوى النظر ‪ ،‬شبكة ألالوكة ‪ www.allukah.net‬ط‪،1‬‬
‫‪،8819‬و ‪.18‬‬
‫‪ -2‬فاطمة البريكي‪ :‬مدخل إلى ألادب التفاعلي‪،‬املركز الثقافي العربينالدار البيضاء‪،‬املغرب‪،‬ط‪،1،8889‬و‪.18‬‬
‫‪ -‬كان تيد نيلسون‪ Ted Nelson‬أول من استخدم مصطلح النص المترابط عام‪ 3995‬ويعني به قراءة الحاسوب غير السطرية ّ‬
‫لكل تأليف منطقي‬ ‫‪‬‬

‫المفرع‪،‬ص‪.337‬‬ ‫النص ّ‬ ‫سطري كالذي توفره القصص مثال‪.‬ينظر حسام الخطيب‪ ،‬األدب والتكنولوجيا وجسر ّ‬
‫‪ - 3‬سعيد يقطين‪،‬من النص إلى النص املترابط‪،‬مدخل إلى جماليات إلابدع التفاعلي‪،‬و‪1180‬‬

‫‪18‬‬
‫من مجموعة من البنيات غير املتراتبة‪ ،‬والتي ّيتصل بعضها ببعض بواسطة روابط‬
‫‪1‬‬
‫يقوم القارئ بتنشيطها‪ ،‬والتي تسمح له باالنتقال السريع بين كل منها‪«.‬‬
‫يعتقد سعيد يقطين ّون النص املترابط يختلف اختالفا بينا عن ألادب الرقمي وو‬
‫ألادب إلالكتروني‪،‬فهذه تسميات عامة تدل على نصوو ودبية وجدت طريقها إلى‬
‫معقد للروابط ‪ ،‬وعلى‬‫الحاسوب وو تمت قمنتها دون ون تكون مز ّودة ببرنامج تفاعلي ّ‬
‫ر‬
‫كل ودبي إلكتروني وو رقمي هو نص مترابط بالضرورة ‪،‬إذ يمكن إخراج كثير‬ ‫هذا ليس ّ‬
‫صنفها النقاد على ّونها نصوو مترابطة –رقمية وماهي كذلك ّ‬
‫ألنها‬ ‫من النصوو التي ّ‬
‫ّ‬
‫لم تستوف خصائص النص املترابط‪.‬من حيث هو‪ » :‬نظام يتشكل من مجموعة من‬
‫النصوو ومن روابط (‪ )liens‬تجمع بينها‪ ،‬متيحا بذلك للمستعمل إمكانية لانتقال من‬
‫‪2‬‬
‫نص إلى آخر حسب حاجياته‪«.‬‬
‫بدو ّون سمة الترابط النصية هي الوسم ألاكثر بروزا في النص إلالكتروني ‪ ،‬وهي‬
‫تميزه عن ألادب الورقي الذ ال يمكن ون يكون ترابطيا‪ ،‬يقول سعيد يقطين ‪ »:‬وما‬ ‫التي ّ‬
‫النص إلالكتروني‪ ،‬فالترابط النص ي يتجسد من خالل الروابط التي تتم من داخل‬ ‫في ّ‬
‫النص ‪ ،‬وفق ما تستدعيه عملية‬ ‫النص نفسه‪ ،‬ويسمح لنا هذا باالنتقال من داخل ّ‬ ‫ّ‬
‫القراءة‪...‬ويتيح لنا "الترابط" في النص إلالكتروني ليس التحرك بين النصوو اللفظية‬
‫فقط‪ ،‬ولكن ويضا لانتقال بين عالمات غير لفظية‪ ،‬مثل الصوت‪ ،‬وو الصورة‪ ،‬وو‬
‫الخارطة‪ ،‬وو اللوحة‪ ،‬وو الصورة الحية وو املتحركة‪ ،‬ويعرف هذا التوسيع بترابط‬
‫الوسائط (‪ .)Hypermédia‬ومعنى ذلك ّون مفهوم الترابط يتجاوز "اللفظي" إلى ونظمة‬
‫تم مع‬ ‫متعددة‪ .‬وهذا الشكل من الترابط بمعنييه ما كان ليتحقق لوال التطور الذ ّ‬
‫‪3‬‬
‫استخدام النص إلالكتروني‪ ،‬وتوظيف الوسائط املتعددة‪«.‬‬

‫‪ -1‬سعيد يقطين‪،‬من النص إلى النص املترابط‪،‬مدخل إلى جماليات إلابدع التفاعلي ‪،‬و‪.180‬‬
‫‪ -2‬املرجع نفسه ‪،‬و‪.181-188‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.311‬‬

‫‪19‬‬
‫من املصطلحات املتداولة في حقل ألادبيات الرقمية‪ ،‬مصطلح النص الفائق‬
‫الذ رضيه نبيل علي لترجمة مصطلح ‪ Hypertext‬ويريد به وصف مختلف العمليات‬
‫التي ينفذها القارئ لتفعيل الروابط باستخدام الحاسوب‪،‬وو هو‪ » :‬ألاسلوب الذ‬
‫يتيح للقارئ وسائل علمية عديدة لتتبع مسارات العالقات الداخلية بين ولفاظ النص‬
‫وجمله وفقراته ويخلصه من قيود خطية النص حيث يمكنه من التفرع من و موضع‬
‫داخله إلى و موضع الحق وو سابق بل ويسمح ويضا تكنيك النص الفائق للقارئ بأن‬
‫يمهر النص بمالحظاته واستخالصاته‪ ،‬وون يقوم بفهرسة النص‪ indexing‬وفقا لهواه‬
‫بأن يربط بين عدة مواضع في النص ربما يراها مترادفة وومترابطة تحت كلمة وو عدة‬
‫كلمات مفتاحية‪ .Keyword‬إن تكنيك النص الفائق ينظر إلى النص ال كسلسلة‬
‫متالحقة من الكلمات بل كشبكة كثيفة من عالقات التداخل وهو ما دعا البعض إلى‬
‫اعتباره نظاما للسيطرة على حلقات الربط ‪ Links Management System‬ال للسيطرة‬
‫على البيانات ‪ data management systems‬كما هي الحال في نظم قواعد البيانات‬
‫‪1‬‬
‫التقليدية ‪.« data base systems‬‬
‫النص الرقمي‪،‬‬ ‫يلتقي نبيل علي هنا مع سعيد يقطين في تحديد وهم خصائص ّ‬
‫وهي الالخطية‪ ،‬وتلك إمكانية َيض َم ُن َها مفهوم إلابحار والترابطية‪،‬إذ يسمحان للمتلقي‬
‫للنص الفائق وضعا محفزا‬ ‫النصية ّ‬
‫ّ‬ ‫باالنتقال بحرية بين الروابط‪ .‬كما تتخذ املعالجة‬
‫بتوجيه من املؤلف‪ّ -‬‬
‫مصمم برنامج القراءة الترابطية‪ -‬بدور حاسم في‬ ‫ٍ‬ ‫للقارئ‪،‬الذ يقوم‬
‫بناءما يسميه علي الراغب"فهرسة"للنص تصبح وشبه بكتابة على الكتابة‪،‬وو هي‬
‫ّ‬
‫بالتمدد‬ ‫للنص‬‫النص الرقمي التفاعلي‪ ،‬وهو ما يسمح ّ‬ ‫مجموع تدخالت القارئ على ّ‬
‫والتفرع ‪.‬‬
‫النص‬ ‫النص املفرع ‪ hypertext‬و ّ‬‫وما حسام الخطيب‪ ،‬فيستخدم مصطلحي ّ‬
‫منوها بضرورة اعتراف املؤسسة ألادبية العربية بهذه ألاشكال‬ ‫املرفل ‪ّ hypermédia‬‬

‫‪ -1‬نبيل علي‪،‬العرب وعصر املعلومات‪ ،‬سلسلة عالم املعرفة‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة والفنون وآلاداب‪ ،‬الكويت العدد‪،101‬و ‪.801-808‬‬

‫‪20‬‬
‫ّ‬
‫ألادبية الجديدة الناتجة عن تقاطع ألادب والتكنولوجيا فيقول‪ »:‬على ونه من‬
‫ُ َ‬ ‫النص املفرع (هايبرتكست) ّ‬ ‫املستحسن ون نضع في الذهن ّون عصر ّ‬
‫والنص املرفل‬
‫(هايبرميديا) يؤذن بانبثاق جماليات جديدة‪ ،‬وهذا ومر طبيعي وغير مستبعد‪ ،‬ومن‬
‫ألافضل توقعه والتهيؤ له بدال من تجاهله «‪. 1‬‬
‫ّ‬ ‫ثم يذهب حسام الخطيب إلى التمييز بين ّ‬
‫النصين املفرع واملرفل‪ ،‬على الرغم‬
‫بأن وكثر الدارسين الغربيين ال يفرقون بينهما‪،‬مفضال في آلان نفسه‬ ‫من اعترافه ّ‬
‫النص املفرع‬ ‫‪،‬ألن ّ‬‫النص الفائق الذ اقترحه نبيل علي ّ‬ ‫فرع على ّ‬‫مصطلح النص امل ّ‬
‫بزعمه‪ »:‬نص غير سطر ويتألف من إمكانات تفريع ال حصر لها وذلك بدال من الفائق‬
‫التي هي صفة تقييمية ال تحمل وية إشارة إلى طبيعة الهايبرتكست ‪ .‬وقد اشتققت‬
‫صفة مفرع من مصطلح فرع الدارج في فن الشروح والحواش ي عند العرب‪ ،‬وهو وقرب‬
‫‪2‬‬
‫إلى املعنى العضو للهابرتكست‪« .‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فالنص املفرع ال يتجاوز كونه شبكة من نصوو تتقاطع مشكلة نوعا من‬
‫كل اتجاه‪ ،‬ويتحقق ذلك من‬ ‫ّ‬
‫والتمدد في ّ‬ ‫التفاعلية النصية التي ال تتوقف عن لاغتناء‬
‫خالل تقنية ّ‬
‫النص املترابط وو لارتباط التشعبي )‪ (Hyperlink‬بوصفها مجموع لانتقاالت التي‬
‫النص بحثا عن ارتباطات النص واستكشافا لحواشيه وشروحه املتضمنة‪،‬كأن‬ ‫ينفذها متصفح ّ‬
‫التعرف على شخصية وو مكان وو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتزود املتصفح بمراجع مترابطة شبكيا لشرح مصطلح وو‬
‫بالنص ّ‬
‫املفرع‪.‬‬ ‫مما له صلة ّ‬
‫حدث ‪ّ ،‬‬
‫النص‬‫للنص املفرع و مما جاء فيه‪ّ » :‬‬‫ويورد "حسام الخطيب" تعريف موسوعة إنكا تا ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫املفرع ‪ HyperText‬في علم الحاسوب هو تسمية مجازيةلطريقة في تقيم املعلومات يترابط فيها‬
‫النص بالصور وألاصوات وألافعال معا في شبكة من الترابطات مركبة وغير تعاقبيةمما يسمح‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫التقيد‬ ‫النص [ القارئ سابقا] ون يجول ‪Browse‬في املوضوعات ذات العالقةدون‬ ‫ملستعمل ّ‬

‫‪1‬‬
‫المفرع‪،‬ط‪، 1‬رام هللا ‪،1138،‬ص ‪. 19-18‬‬
‫النص ّ‬‫‪ -‬حسام الخطيب‪ ،‬األدب والتكولوجيا وجسر ّ‬
‫‪ -2‬المرجع نفسه‪،‬ص‪. 311‬‬

‫‪21‬‬
‫بالترتيب الذ بنيت عليه هذه املوضوعات‪ ،‬وهذه الوصالت تكون غالبا من تأسيس مؤلف وثيقة‬
‫‪1‬‬ ‫النص ّ‬
‫املفرع وو من تأسيس املستعمل‪ ،‬حسبما يمليه مقصد الوثيقة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫في حين يعطي "حسام الخطيب" ّ‬
‫للنص املرفل معنى آخر وكثر من مجرد لامتداد‬
‫النص الذ (رفل) واغتنى بالوسائل السمعية والبصرية‬ ‫النص ي والتفريع‪،‬فهو‪ّ »:‬‬ ‫ّ‬
‫والحركية ‪ ...‬قد رويت ّون الجذر (رفل) هو وقرب شيئ إلى مفهوم الهايبرميديا ملا يتضمنه‬
‫ّ‬
‫من حركة وزينة فضفاضة ‪ ،‬وآثرت صياغته من املض ّعف (مرفل) ليناسب مصطلح‬
‫ّ‬
‫(مفرع) «‪ .‬فا ّلنص املرفل يمثل وقص ى حاالت استغالل ونظمة الحاسوب وبرمجيات‬
‫‪2‬‬

‫النص‬‫النص الذ يقع إثراؤه بوسائط سمعية بصرية ‪.‬وعلى هذا يعد ّ‬ ‫التكنولوجيا الرقمية‪ّ ،‬إنه ّ‬
‫ّ‬ ‫ألنه فضال عن السرد اللغو ‪ ،‬يقوم ّ‬‫ّ‬ ‫املرفل امتدادا للنص ّ‬‫ّ‬
‫النص املرفل‬ ‫املفرع وهو وشمل منه‪،‬‬
‫على عمل وسائط وخرى مثل الفيديو واملوسيقى والتشخيص والتشكيل والحركة‪،‬بينما يكون‬
‫نصا ‪،‬وهما معا يدينان للمتصفح الذ يملك وحده خيارات تفعيل‬ ‫املفرع وميل ألن يكون ّ‬
‫النص ّ‬ ‫ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫غيرمفعلة‪،‬مما يثبت تارة وخرى وهمية السمة التفاعلية في ّ‬ ‫هذه الروابط واملؤثرات وو تركها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من النصين؛ ّ‬
‫الخطية‪.‬‬ ‫املفرع واملرفل وخروجهما من دائرة القراءة‬
‫‪ -2‬ألادب الرقمي وإشكالية تجنيس السرد املعاصر‪:‬‬
‫وفض ى ظهور ألادب الرقمي‪ ،‬إلى مراجعة مفهوم الجنس ألادبي‪ ،‬وإعادة النظر في‬
‫مختلف التصنيفات التراتبية املقترحة لألجناس ألادبية‪ ،‬بخاصة تلك التي كانت تنظر‬
‫إلى ألاجناس في وضعها الخالص واملعزول عن بعضها البعض‪ّ ،‬‬
‫فالنص ألادبي الرقمي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتسم بقدرته على احتواء عديد ألاجناس ألادبية وغير ألادبية ‪،‬وهو يشكل منطقة‬
‫تقاطع مختلف حقول العلم والتكنولوجيات الرقمية وألادب والفن والثقافة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتشكيل؛ ففي ّ‬
‫كل ودب رقمي نلحظ تساند العالمات اللسانية وغير اللسانية‬
‫وألايقونات وألالوان وألاصوات والصور واملشاهد املمسرحة والفيلمية ومقاطع‬
‫النص املترابط إلى هجنة‬ ‫الفيديو‪...‬وغيرها‪ ،‬وعلى هذا يؤد اجتماع هذا العالمات في ّ‬

‫‪1‬‬
‫المفرع ‪ ،‬ص‪.338‬‬
‫النص ّ‬‫‪ -‬ينظر حسام الخطيب‪ ،‬األدب والتكولوجيا وجسر ّ‬
‫‪ -2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.311‬‬

‫‪22‬‬
‫ّ‬
‫حقيقية‪ ،‬استطاع النص املترابط من خاللها ون يشكل تجربة إبداعية متعالية على‬
‫التصنيف ألاجناس ي‪.‬‬
‫عرف ألادب الرقمي طريقه نحو بعث ألاجناس ألادبية الكالسيكية‪ ،‬مثل الرواية‬
‫واملسرحية مع تهجينها بالدعامة الرقمية وتقنيات الوسائط املتفاعلة‪ ،‬فغدت هذه‬
‫ألادبيات الرقمية موضوعا وثيرا في دراسات نقدية قامت بتوظيف بعض معطيات‬
‫املناهج واملدارس الكالسيكية‪ ،‬كالتفكيكية والسرديات البنيوية و السيميائية و نظرية‬
‫القراءة والتلقي والتأويل والنقد الثقافي ومقوالت ما بحد الحداثة ‪ .‬غير ّون ذلك لم يمنع‬
‫من ظهور وجناس ودبية جديدة‪ ،‬هي بمثابة نصوو ودبية رقمية ‪،‬تجريبية ما تزال قيد‬
‫ّ‬
‫النشأة وهي عرضة لتطوير بنيتها باستمرار‪ ،‬ومثلها النص املترابط‪ ،‬لذلك نتوقع ون‬
‫ّ‬
‫يأخذ النقد وقتا طويال قبل ون يتمكن من وصف معياريتها وتقنياتها وفهم طرائقها في‬
‫التمثيل ‪.‬‬
‫يقوم ألادب الرقمي إذن على فرضية تهجين ألانواع‪ ،‬لذلك لم يكن السرد‬
‫املعاصر بمنأى عن هذه الخاصية‪،‬حتى وصبح با مكان الحديث عن جنس خيالي‬
‫لكل وشكال السرد من رواية وقصة ودراما ‪،‬‬ ‫جديد‪،‬وهنا تبدو كلمة" الخيال"جامعة ّ‬
‫يتحقق في شكل منجز سرد تدعمه‬ ‫وغالبا ما ينحو هذا التخييل السرد املختلط ألن ّ‬
‫كل الصيغ السردية امللحمية والدرامية وتتساند عبره ّ‬
‫كل‬ ‫الروابط‪،‬و تتوحد فيه ّ‬
‫العالمات اللغوية وغير اللغوية‪.‬‬
‫ّ‬
‫وعلى الرغم من قوة وطروحة التهجين السابقة‪ ،‬تمكن بعض النقاد من تمييز‬
‫بعض ألانواع السردية الجديدة‪ ،‬مثل الرواية الرقمية والرواية التفاعلية والرواية‬
‫وصل واحد هو هذا الوسيط الترابطي(مؤلف‬ ‫من‬ ‫نبثق‬ ‫ي‬ ‫جميعها‬ ‫الترابطية‪ ،‬غير ّ‬
‫ون‬
‫ٍ‬
‫ومؤلف مساعد‪-‬نص‪-‬دعامة رقمية‪-‬فضاء تشابكي‪-‬مستخدم)‪ ،‬وحسبنا في هذا املقام‬
‫نقدم وصفا للرواية الترابطية التي يتحقق فيها معنى الترابط بشكل واضح فضال‬ ‫ون ّ‬
‫عن تمثلها ملفهوم التهجين الذ ذكرناه آنفا‪ ،‬تبدو الرواية الترابطية وقرب إلى القصة‬

‫‪23‬‬
‫تكثيف و مقابلة ومفارقة ساخرة‬ ‫ٍ‬ ‫القصيرة‪ ،‬وهي تستعير بعضا من خصائصها‪،‬من‬
‫وعجيب‪.‬‬
‫يغلب على الرواية الترابطية اعتماد شخصية واحدة تكون ناظمة ومولدة‬
‫للسرد‪،‬بحيث تصبح هذه الشخصية قطبا تنجذب إليه جميع الشذرات القصصية‪،‬‬
‫وإن كان شكل الرواية يظهر وحيانا باعتماد الروابط التي بهايتشعب السرد‪ ،‬وتنجز‬
‫لانتقاالت الزمانية واملكانية ‪،‬وفي هذا النوع ال يستنكف املؤلف عن ترك مساحة‬
‫خطية‪،‬تختار تفعيل الروابط‬ ‫ّ‬ ‫تفاعلية للقارىء املبحر ليخوض مغامرة قراءة غير‬
‫اختيارا حرا وعشوائيا وحيانا‪ ،‬وهو ما يفض ي إلى نسف خطية السرد‪ّ ،‬‬
‫ولعل وفضل‬
‫نموذج لهذا النوع رواية "صقيع "و"شات" ملحمد سناجلة‪،‬حيث تبنى هذه النصوو‬
‫وفق نمط الشخصية الواحدة الناظمة بين مفاصل السرد الروائي‪.‬‬
‫تقول لبيبة خمار مؤكدة تداخل ألاجناس في الرواية الترابطية‪،‬بخاصة بين‬
‫الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا‪ ،‬فيما تنعته وحيانا بالسرد املوجز‪ّ »:‬إن‬
‫انفتاح الرواية على القصة القصيرة والقصيصة فيه ضمان لخصوبتها وتحقيق لشرط‬
‫تعززت باالنفتاح على الحامل‬ ‫استمراها‪ ،‬وفيه إمكانات هائلة للتجريب والتجديد التي ّ‬
‫الرقمي ‪ .‬لكن هذا ال يعني ون على و كاتب ‪ /‬مبدع ون يكتب وبالضرورة بهذه‬
‫الطريقة‪،‬متبنيا الشكل املوجز فهذا ألاخير يمثل إمكانية من إلامكانات املتوفرة‪،‬وشكال‬
‫إضافيا يفرضه الوسيط الرقمي‪ ،‬ثم املنظر السرد ‪ ،‬والوجود ‪ ،‬واملعرفي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إبداعيا‬
‫الذ ينطلق منه‪ .‬دون إغفال ّون الكتابة عموما‪ ،‬واملوجزة خصوصا تمجد الحرية‬
‫وتتغنى بها‪ ،‬لذاك ال يمكن ون نخندق و كاتب ضمن هذا الشكل وو ذاك ألن الفكرة‬
‫‪1‬‬
‫حينما تعصف‪،‬تعصف ملتحفة بأسلوبها! «‬
‫يتولى السرد الرقمي املوجز في اصطالح لبيبة خمار الجمع بين درامية الرواية‬
‫بجملها السردية القصيرة‪ ،‬وكثافة القصة القصيرة بومضاتها السريعة‪،‬ودهشة‬

‫‪ -1‬لبيبة خمار‪ ،‬النص املترابط ‪ -‬فن الكتابة الرقمية وآفاق التلقي‪،‬رؤية للنشر والتوزيع‪،‬مصر‪،‬ط‪،1،8810‬و‪.81‬‬

‫‪24‬‬
‫كل إمكانات‬‫املفارقات في القصة القصيرة جدا ‪.‬وفي ذلك إغناء للتجربة باستثمار ّ‬
‫التعبير فضال عن التقنيات الجديدة التي توفرها الدعامة الرقمية‪.‬‬
‫‪ -3‬ألادب الرقمي و سؤال املنهج‪:‬‬
‫جر انتشار استخدام التقنية في مجال الكتابة ألادبية إلى إشكاليات كثيرة تواجه‬
‫ّ‬
‫السواء‪،‬ولعل من وهم هذه إلاشكاليات غياب نظرية نقدية‬ ‫النظرية ألادبية والنقد على‬
‫النص‬‫تواكب الظاهرة وتصفها وتضبط قوانيها‪ ،‬فضال عن استعصاء فعل قراءة ّ‬
‫النص‬ ‫كنا نواجه مفاهيم من قبيل ّ‬ ‫الرقمي نفسه‪ ،‬وذلك وضع ملموس بخاصة إذا ّ‬
‫الفائق وو املترابط‪،‬حيث تكبر املتاهة التي تقود إليها الروابط والوسائط‬
‫املتفاعلة‪،‬فتتشعث مسالك القراء إ اءها ‪،‬وبذلك ّ‬
‫تتحقق فعال وطروحة ال نهائية املعنى‬ ‫ز‬
‫وظاهراتية فعل القراءة بالنسبة للسرد الرقمي ‪ ،‬إن نصوو القراءة التي تنكتب وكثر‬
‫نص الكاتب ألاول مجرد‬ ‫معقد؛ يغدو معه ّ‬ ‫من ون ُتحص ى في فضاء تفاعلي وتشابكي ّ‬
‫ٌ‬
‫مفهوم جديد للقارئ الكاتب‬ ‫خطاطة لنصوو وخرى ينجزها القراء‪ ،‬هكذا يطالعنا‬
‫‪،‬وما الناقد فقد وصبح حضوره باهتا‪ ،‬بل لقد ذهب إبراهيم وحمد ملحم إلى تأكيد‬
‫تطورات الكبيرة التي طالت املمارسة ألادبية‬‫عزوف النقد ألاكاديمي عن متابعة ال ّ‬
‫الرقمية بقوله‪ »:‬وتاح النشر الفور عبر مواقع التواصل لاجتماعي فرصة ون يكون‬
‫ألادب نتاج الذائقة إلابداعية التي تتفاعل مع عصرها‪...،‬وتلبي مطالب عملية التلقي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املتغيرة عن املاض ي‪ ،‬فتوظف التقنيات التي توفرها هذه املواقع ملستخدميها‪ ،‬وهي في‬
‫تطور مستمر وتنافس محموم فيما بينها‪،‬لكن غياب الناقد عن تناول التجارب‬ ‫ّ‬
‫إلابداعية ‪ ،‬وما يستجد من وشكال ‪،‬يعني بقاء مصير النظرية ألادبية متناميا ومتشعبا‬
‫يصعب السيطرة عليها في ظل تزايد سكان املجتمعات لافتراضية والفئات املبدعة‬
‫‪1‬‬
‫فيها‪« .‬‬

‫‪ -1‬إبراهيم أحمد ملحم‪،‬نظرية األدب في مواقع التواصل االجتماعي‪،‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬إربد األردن‪،‬ط‪،3،1139‬ص‪.13‬‬

‫‪25‬‬
‫لقد تمثلت السرديات الرقمية مبدو تجاوز وعراف الكتابةالسائدة‪ّ ،‬‬
‫وعدلت‬
‫مفاهيم الكاتب ّ‬
‫والنص والسرد والحكائيةوالقارئ والناقد والنوع ألادبي‪ ...‬وغير ذلك ‪،‬‬
‫و هو ما يستدعي فعال ّ‬
‫تأمال نقديا لواقع هذا التجاوز‪ّ ،‬‬
‫بكل وبعاده وبدائله ومنجزاته‬
‫غثها من سمينها‪ .‬وتلك ‪ -‬بال شك‪ -‬مهمة ينهض بها ناقد وكاديمي‬ ‫النصية‪،‬لفرز ّ‬ ‫ّ‬
‫متخصص‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تعود وولى املحاوالت التنظيرية املهتمة بقضايا ألادب الرقمي مند نهاية‬
‫تم إصدار مجلتين إلكترونيتين‬ ‫الثمانينيات إلى بداية التسعينيات في فرنسا‪ ،‬إذ ّ‬
‫‪،‬ثم مجلة (‪ )Kaos‬الصادرة ما بين‪-1888‬‬ ‫تباعا؛هما مجلة (‪ )Alire‬الصادرة سنة‪ّ 1808‬‬
‫‪ ،1881‬وفيهما نوقشت مختلف قضايا ألادب إلالكتروني وفكرة العالقة التفاعلية بين‬
‫ألادب والتكنولوجيات الرقمية ‪ . 1‬كما وجد ألادب الرقمي دفعا تنظيريا مهما بين ظهراني‬
‫متحمسين ومثال جورج النداو(‪ (George Landow‬وميشال جويس ) ‪(Michael Joyce‬‬ ‫ّ‬ ‫نقاد‬
‫وجون بيار بالب(‪ )Jean-Pierre Balpe‬و فيليب بوطز (‪)Philippe Bootz‬؛ إذ استفاد هؤالء‬
‫مقوالت بنيوية وتفكيكية وسيميائية لتطوير نظرية ألادب الرقمي ونقده‪ ،‬وووشكوا‬‫ٍ‬ ‫من‬
‫‪2‬‬ ‫ُ ّ‬
‫ملنهج تكاملي يجمع بين مختلف هذه املعارف والتخصصات‪.‬‬‫ٍ‬ ‫نوا‬‫مك‬ ‫ون ي‬
‫ويذهب باحثون عرب إلى تأكيد إمكانية دراسة ألادب الرقمي باستثمار معطيات‬
‫التحليل البنيوية ونظرية القراءة والتأويل‪ ،‬يقول عبد القادر فهيم شيباني في هذا‬
‫السياق‪ّ »:‬إن تراكب شبكة النص املترابط ‪،‬وفق قاعدة الداخلي والخارجي ‪،‬تمكننا من‬
‫النص ألادبي الرقمي على صعيدين دالليين‪ .‬فعلى صعيد ألاشكال الداخلية‬ ‫تأمل ّ‬ ‫ّ‬
‫للدعامة التقنية‪ ،‬تنسب املعطيات النصية املترابطة‪ ،‬للدالالت البنوية‪ ،‬وما على صعيد‬
‫فإن املعطيات تقيم‬‫ألاشكال الخا جية‪ ،‬و على صعيد وشكال التفاعالت مع القارئ‪ّ ،‬‬
‫ر‬

‫‪1‬‬
‫‪- Alain Vuillemin, Littérature et Informatique :de la poésie électronique au récits interactifs, Conférence faite‬‬
‫‪devant le Pen Club du Brésil, Rio-de-Janeiro au Brésil, le vendredi 21 mars 1997.in la revue de L’EPI, N94, 1999,‬‬
‫‪p52.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪- Alain Vuillemin, Littérature et Informatique :de la poésie électronique au récits interactifs, p55.‬‬

‫‪26‬‬
‫معناها‪ ،‬من خالل ممارسات فعل القراءة والتأويل‪ 1 «.‬يبدو ّون العالقة بين ألادب‬
‫الرقمي والسرديات البنيوية تظهر في مستوى البنية السردية التي تتخذ مظهرا‬
‫ّ‬
‫سيميائيا‪ ،‬فتتجاوز املعطى اللساني‪،‬في حين يستلزم نشاط القراءة انبثاق قصدية‬
‫املصمم ‪،‬فليست التفاعلية سوى ذلك البرنامج الذ‬ ‫ّ‬ ‫التفاعل بين القارئ واملؤلف‬
‫صممه املؤلف على ضوء ردود فعل القارئ ومختلف استجاباته تجاه ما يتلقاه من نصوو‬‫ّ‬
‫فإن التفاعلية‪-‬بحسب "دانيال بيرايا" ‪ Daniel Peraya‬هي على ضربين ويشرح ذلك قائال‪:‬‬ ‫‪ ،‬لذا ّ‬
‫حد بعيد عملية‬ ‫»يشير هذا التوزيع إلى التمييز بين شكلين من وشكال التفاعلية التي تهم إلى ّ‬
‫توسط‪ ،‬مع ألاخذ بعين لاعتبار وجهة نظر مصممي البرامج ‪.‬يميز املؤلفون من خالل عملية‬ ‫ال ّ‬
‫اتصال" إلانسان ‪/‬آلالة" التفاعلية التي تدير بروتوكول لاتصال بين املستخدم و آلالة ‪-‬و‬
‫التفاعلية الوظيفية‪ -‬عن التفاعلية التي تدير بروتوكول لاتصال بين املستخدم واملؤلف الغائب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لكنه حاضر عبر البرنامج ‪-‬و التفاعلية القصدية‪ -‬وبعبارة وخرى‪ ،‬يتعلق الشكل ألاول من‬
‫ّ‬
‫التفاعلية بقدرة املتعلم على التفاعل مع آلالة والبرنامج الذ يستخدمه‪ ،‬وبالتالي تعديل حالة‬
‫النظام‪ .‬وتتميز التفاعلية القصدية‪،‬بإعادة بناء موقف التخاطب بين مؤلف غائب‬
‫جسديا‪،‬حاضر ببصمته التي يتركها في الوثيقة الوسيطة مهما يكن شكلها؛ بصمة املؤلف ‪،‬‬
‫لتوسط في‬‫طريقة مساءلة املرسل إليه‪،‬التوجه إليه وتوريطه تمثل جميعها شكال وساسيا ل ّ‬
‫‪2‬‬
‫العالقة‪«.‬‬
‫يعول عليه بالنسبة إلى ّ‬
‫النص املترابط هو ون يرفع مستوى التفاعل إلى‬ ‫ّ‬ ‫فالذ‬
‫يتجه عبرها املؤلف‪ّ -‬‬
‫املصمم إلى قارئ مستعد‬ ‫متعمدة‪ّ ،‬‬
‫الدرجة املثلى‪ ،‬فتكون التفاعلية ّ‬
‫للتعاون معه‪،‬فيتجاوب مع تعليماته ويكشف مقاصده املضمرة‪ ،‬وينهض بجملة من‬
‫املهام التي وحص ى بيرايا بعضها‪،‬وعلى روسها إعادة بناء مقام التلفظية‪،‬ووشكال‬
‫التخاطب كالحوار‪،‬واستنطاق املحذوفات ‪،‬وتحر قصد املؤلف ‪ ،‬وال نجد في ّ‬
‫كل ما‬

‫‪ -1‬عبد القادر فهيم شيباني‪ ،‬سيميائيات املحكي املترابط(سرديات الهندسة الترابطية ‪:‬نحو نظرية للرواية الرقمية)‪،‬عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫إربد ألاردن‪ ،‬ط‪،1،8811‬و‪.81‬‬
‫‪2‬‬
‫‪- Daniel Peraya, Médiation et Médiatisation :Le campus Virtuel, La revue Hermès, CNRS, France, Editions, n‬‬
‫‪25,1999,p.156.‬‬

‫‪27‬‬
‫يبرر منطق التجاوز‬ ‫ُذكر من قواعد تأليفية و وعباء منوطة بفعل القراءة الرقمية‪ ،‬ما ّ‬
‫التامة بين ألادب الورقي وألادب الرقمي؟!‬‫والقطيعة ّ‬
‫مما سلف ّون السرد الرقمي بمصطلحه وإجراءاته ونظريته هو وليد النقد‬ ‫نخلص ّ‬
‫الغربي الذ راكم معارف كثيرة في سبيل تطوير نظرية ودبية رقمية ‪،‬تحاول استكشاف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هذه الظاهرة ألادبية الجديدة التي بدوت في التشكل في ووروبا منذ الخمسينيات‪ ،‬وكأني‬
‫يلوح بحداثة وخرى‪ ،‬شعارها‬ ‫النصية الجديدة‪ّ -‬‬
‫ّ‬ ‫بالنقد الرقمي‪ ،‬وقد اف ُتتن بنماذجه‬
‫تجاوز النظريات ألادبية والنقدية السائدة‪ ،‬ومع ذلك راح النقد الرقمي يبحث عن‬
‫مرتكزات له في هذه النظريات واملناهج التي وسعفته بمفاتيح وولية‪ ،‬مثل بالغات السرد‬
‫البنيوية و كفاءات التأويل وتداخل ألاجناس‪.‬‬
‫املحاضرة الثالثة‪ :‬تقنيات السرد الرقمي‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫يقوم السرد الرقمي على توظيف وسائط مختلفة ‪،‬لغوية وغير لغوية‪ ،‬غالبا ما‬
‫طورة يوفرها النظام املعلوماتي‪ ،‬وهو ما‬ ‫يقع تنفيذها في شكل تطبيقات و برامج م ّ‬
‫كل ممارسة‬ ‫يقتض ي التساؤل عن وهمية هذا الجانب التقني الذ يعد شرطا جماليا في ّ‬
‫للتعرف على ألادب الرقمي‪ ،‬ومن ثمة السرد‬ ‫ّ‬ ‫ودبية رقمية‪ ،‬وعليه فإن وفضل طريقة‬
‫تحققه وتقنياته حتى يتسنى لنا مبدئيا الحكم على هذا‬ ‫الرقمي‪ ،‬هو استكشاف شروط ّ‬
‫الوافد الجديد‪.‬‬
‫ا‬
‫غير ون الالفت لالنتباه ون السرد الرقمي ليس كال متجانسا ‪ ،‬وهو يحتمل وشكاال‬
‫ّ‬
‫سردية جديدة ما تزال في طور التشكل‪ ،‬ويمكننا هنا ون نتحدث عن الرواية الرقمية‬
‫والتفاعلية والترابطية ومثلها املسرح والقصة و القصة القصيرة جدا‪ ،‬وقد ذهب بعض‬
‫النقاد‪ ،‬ومثال لبيبة خمار‪ ،‬إلى الحديث عن "سرد موجز" هو سرد رقمي يتمخض عن‬
‫كتابة رواية بأسلوب القصة القصيرة و القصة القصيرة جدا والخبر‪،‬مثلما روينا وعاله‪،‬‬
‫كل نظرية نقدية وكدهادراسة هذه الظاهرة‬ ‫ّإن مثل هذه إلاشكاليات ستواجه حتما ّ‬
‫ألادبية الجديدة ومتابعة مستجدات السرد الرقمي‪،‬ووصف شروطه النظرية‬
‫‪28‬‬
‫وإلاجرائية‪،‬يقول دمحم سناجلة في سياق وصفه النظر لرواية الواقعية الرقميةالتي‬
‫يعدها واحدة من إلامكانات املتاحة غير املنتهية لكتابة سرد رقمي عربي مفتوح على زمن‬ ‫ّ‬
‫املغامرة والتجريب املستمرين‪» :‬رواية الواقعية الرقمية هي الروايةالقادمة‪ ،‬ولن‬
‫تتوقف الرواية عندها‪ ،‬لكن ما سيميز هذه الرواية عن غيرها هو قدرتها الدائمة على‬
‫اتخاذ وشكال مختلفة باستخدام الصيغ املختلفة للتقنيات الرقمية التي هي في تطور‬
‫‪1‬‬
‫مستمر‪" .‬‬
‫تقنيات السرد الرقمي‪:‬‬
‫يوظف السرد الرقمي مستحدثات العصر التكنولوجي وعلى روسها الحاسوب‬
‫املوصول بالشبكة العنكبوتية‪ ،‬ويشترط في هذا الوسيط ون يكون مز ّودا بلغة برمجيات‬
‫النص‬‫دقيقة تسمح بتنفيذ جملة من التعليمات خالل عمليتي إنتاج و تلقي ّ‬
‫ّ‬
‫املترابط؛فتهيئة الوسيط و تزويده بمختلف إلامكانات التي توفرها البرمجيات‬
‫النص املترابط‪ ،‬الذ يظل بحاجة إلى شروط‬ ‫‪ software‬مسؤ والن عن محتوى ّ‬
‫و تقنيات ضرو ية ّ‬
‫لتحققه ‪،‬نذكر منها‪:‬‬ ‫ر‬
‫‪ -1‬الوسيط املترابط ‪:‬‬
‫كل سرد رقمي وظيفته عرض مجموعة من‬ ‫يعد الوسيط املترابط آلية مهمة في ّ‬
‫الروابط القابلة للتفعيل من طرف قارئ‪ -‬مبحر‪ ،‬سيتخذ من الروابط مناطق عبور إلى‬
‫كل رابط يتوارى نص آخر‪ ،‬تقول زهور كرام شارحة طريقة‬ ‫العقد السردية ‪ ،‬إذ وراء ّ‬
‫عمل الرابط‪ »:‬يشكل الرابط ‪ lieu /‬تقنية وساسية في تنشيط النص املترابط والدفع‬
‫حدده فنيفار بوش ‪Vanevar Bush‬هو الذ يربط بين‬ ‫ّ‬
‫التحقق‪،‬والرابط كما ّ‬ ‫به نحو‬
‫‪2‬‬
‫معلومتين وهذا لارتباط هو الذ ينتج املعنى‪«.‬‬
‫ّ‬
‫قد يكون إلابحار عشوائيا وغير مخطط له من لدن قارئ مستعجل‪ ،‬لذا فمن‬
‫ّ‬
‫يحدد املعنى وليس إلابحار في حد ذاته ‪،‬‬ ‫الطبيعي ون اختيار القارئ للرابط هو الذ‬

‫‪ -1‬دمحم سناجلة ‪ ،‬رواية الواقعية الرقمية‪ ،‬ص‪ .11‬متاح على موقع‪http://www.arab-ewriters.com/index.php‬‬


‫‪ -2‬زهور كرام ‪ ،‬أسئلة ثقافية وتأمالت مفاهيمية‪،‬ص ‪.17‬‬

‫‪29‬‬
‫وتؤد الروابط وظيفة السرد والتعليق؛ فهي محرك للسرد وناظمة له في آن‪.‬كما يقترن‬
‫ظهور الروابط بعالمات ويقونية ولغوية وبصرية‪،‬كأن تكون وحيانا على شكل جملة وو‬
‫ّ‬
‫‪1‬‬
‫كلمة ُمسطرة وو مبرزة بلون مفارق وحيانا ‪.‬‬
‫تنقلنا الروابط إلى فضاء النص الفائق وهو مستودع نصوو غائبة ووصوات‬
‫ولوحات وإشارات تتداخل جميعها وتتقاطع‪،‬وإن كانت عمليات الربط تتم على غير‬
‫انتظام إذ‪ »:‬تتيح هذه الروابط )‪)Liens‬للمستعمل ون يتنقل بين موضوعات متنوعة‬
‫‪2‬‬
‫دون مراعاة النظام الذ تخضع له في ترتيبها « ‪ .‬يستطيع القارئ إذن ترك ر ٍ‬
‫ابط‬
‫وتفعيل غيره وهو ما يجعل السرد الرقمي يصطبغ بسمة التفاعلية‪،‬ف ُتقرو النصوو‬
‫بطرق شتى من لدن قراء يتفاوتون في طرائق تفعيلهم للروابط وكيفيات تتبعهم‬
‫ملساراتها‪.‬‬
‫يعود سعيد يقطين إلى وصف طريقة تفعيل الروابط فيقول‪ »:‬إن معرفة ما‬
‫وسميناه بعملية إلانجاز في عملية الكتابة ضرورية في عملية القراءة ألنها تستند إلى‬
‫النص املترابط نص شذر ‪ ،‬وو شجر ‪ ،‬وتتحدد داخله‬ ‫قاعدة مركزية مفادها ّون ّ‬
‫ّ‬
‫النصية املختلفة بمجرد تنشيطها بالنقر عليها‬ ‫"معينات" تسمح باالنتقال إلى الشذرات‬
‫بواسطة الفأرة‪ .‬وكلما قمنا بعملية التنشيط هذه وقفنا على بنيات نصية جديدة من‬
‫‪3‬‬
‫معينات تستدعي التنشيط ‪« .‬‬ ‫خالل نوافذ جديدة‪ ،‬وهي تتضمن بدورها ّ‬
‫النص السرد‬‫يقتض ي ألامر إذن ون نتحدث عن عملية إبحار مدروسة عبر جسد ّ‬
‫حد تعبير سعيد يقطين‪،‬قارئ ينفذ تعليمات النص‬ ‫املترابط‪،‬ينهض بها قارئ كريم‪ -‬على ّ‬
‫لكنه يصل النهايات‬‫يفعل الراوابط ويستكشف النصوو الغائبة واملشاهد املتحركة‪ّ ،‬‬ ‫‪ّ ،‬‬
‫بالبدايات ‪ ،‬وال يضيع في متاهة السرد الرقمي املترابط‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد القادر فهيم شيباني‪ ،‬سيميائيات املحكي املترابط(سرديات الهندسة الترابطية ‪:‬نحو نظرية للرواية الرقمية)‪ ،‬ص‪.59‬‬
‫‪ -2‬سعيد يقطين‪ ،‬من النص إلى النص ااملترابط‪،‬و ‪.181‬‬
‫‪ –3‬املرجع نفسه‪،‬و‪.111‬‬

‫‪30‬‬
‫يترائ القارئ املبحر دائم النوسان بين الروابط والعقد السردية‪ ،‬نوسانا يحقق‬
‫ّ‬
‫املعنى الدقيق للنص املترابط‪ ،‬بوصفه‪» :‬وثيقة رقمية تتشكل من "عقد" من املعلومات‬
‫قابلة ألن ّيتصل بعضها ببعض بواسطة روابط «‪ 1‬وعلى هذا يمكن ون نعد العقدة‬
‫(‪ )Nœud‬نصا ظاهرا يحيل إليه رابط ما وو هي‪» :‬كيانات مستقلة‪ ،‬تخضع في تأسيس‬
‫تعالقها البيني‪ ،‬مالءات الروابط)‪ ، (Les liens‬ومن ثم فهي تندرج داخل بنية من‬
‫املجموعات عبر العالقات الجامعة للروابط ‪...‬فالرابط يصل بين عقدتين ضمن وجهة‬
‫‪2‬‬
‫محددة ‪ ،‬وبمجرد تفعيله ينقاد مستعمل الوسيط املترابط‪ ،‬من عقدة إلى وخرى‪«.‬‬ ‫ّ‬
‫تمدد ا ّلنص السرد في ّ‬
‫كل‬ ‫تنتقل الروابط بين العقد السردية فيسفر ذلك عن ّ‬
‫وإن ذلك ليفض ي إلى إظهار‬‫اتجاه‪ ،‬فثمة نص يحيل إلى آخر و هذا إلى ثالث ‪...‬وهكذا‪ّ ،‬‬
‫النصوو املضمرة التي كانت تتوارى بالرجاب خلف ّ‬
‫كل رابط‪.‬‬
‫‪ -8‬الوسائط املترابطة ‪hypermédia:‬‬
‫يوظف النص املترابط وسائط متعددة )‪،(multimédia‬تتخلل نسيج البنية‬
‫لكنه يؤد ويضا وظيفية تدشينية للسرد‪،‬‬ ‫السردية وتتداخل معها بواسطة الروابط‪ ،‬و ّ‬
‫النص املترابط على مشاهد تمثيلية وصور ومؤثرات صوتية ‪ ،‬وهو‬ ‫ومن خالله ينفتح ّ‬
‫ما يعد ّ‬
‫تطورا مهما في مفهوم السرد الرقمي وإمكانياته التعبيرية‪.‬‬
‫ّ‬
‫يعتقد حسام الخطيب ّون ما يصطلح عليه بـ النص املرفل( ‪)hypermédia‬‬
‫يتلخص في ‪ »:‬دمج الرسوم وألاصوات والفيديو ‪ ،‬وو تشكيل آخر في منظومة ترابطية‬
‫بشكل رئيس ي لخزن املعلومات واستدعائها‪ ،3« ..‬في حين توكل مهمة بناء هذه التوليفة‬
‫ّ‬
‫املتحركة‬ ‫الخاصة بين السرد اللغو (املكتوب)والوثائق واملقاطع الشعرية واملشاهد‬
‫والصور وألاصوات ومقاطع الفيديو وغيرها‪ ،...‬إلى القارئ املبحر‪ ،‬فينتج عن ذلك كسر‬‫ّ‬
‫النص املترابط بواسطةهذه الهجنة بين العالمات وهو ما يسبغ على النص‬ ‫ّ‬ ‫خطية‬

‫‪ -1‬سعيد يقطين‪ ،‬من النص إلى النص ااملترابط ‪،‬و‪.118‬‬


‫‪ -2‬عبد القادر فهيم شيباني‪ ،‬سيميائيات املحكي املترابط(سرديات الهندسة الترابطية ‪:‬نحو نظرية للرواية الرقمية)‪،‬ص ‪. 51‬‬
‫ّ‬
‫املتفرع ‪،‬و‪.118‬‬ ‫‪ -3‬حسام الخطيب‪ ،‬ألادب والتكنولوجيا وجسر ّ‬
‫النص‬

‫‪31‬‬
‫ّ‬
‫املرفل بعده السيميائي‪ ،‬كما تذهب لبيبة خمار إلى ّون ‪ »:‬سمة النص الفائق تحيل على‬
‫الوسائط الفائقة (‪ )hypermédia‬املستخدمة للتعبير عن املعلومات وألافكار عن‬
‫طريق الترابط بين ال ّنص املكتوب‪ ،‬والرسومات والصور‪ ،‬ولقطات الفيديو‪ ،‬مع إفساح‬
‫ّ‬
‫املجال للمبحر كي يتحكم بحرية في وسلوب العرض ‪ ،‬لكن يبقى الترابط والوصالت‬
‫(و الروابط) هما املعول عليهما في الربط بين وسائط لاتصال املتعددة والتفاعلية‬
‫‪1‬‬
‫هاته‪«.‬‬
‫املتعددة داخل النص املترابط يؤد إلى تشعبه‪ ،‬لذلك يتعذر‬ ‫ّ‬ ‫ّإن عمل الوسائط‬
‫لاستحواذ عليه دفعة واحدة من طرف القارئ املبحر الذ غالبا ما ُيرى وهو يناور‬
‫بتفعيل الروابط بشكل غير منتظم بالخروج والدخول والنسخ والتخزين والحفظ‬
‫والعودة إلى البدء‪ ...‬وهذا ما يسبغ على النص املترابط سمته التفاعلية التي ليست شيئا‬
‫آخر سوى ذلك التبادل غير املشروط بين املؤلف والقارئ املبحر‪.‬‬
‫تعود فاطمة كدو إلى تعريف النص الوسائطي فتقول‪» :‬وال بأس من إلاشارة إلى‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالوسائطي‪،‬النص الذ ُيقرو على شاشة الحاسوب‪ ،‬معتمدا على عدة‬ ‫وننا نقصد‬
‫وسائط تمكنه من اتخاذ صفته الوسائطية‪ ،‬من خالل توظيف صور متحركة وثابتة‬
‫تضمنه مقاطع شعرية‬ ‫‪/‬مقاطع موسيقية وغنائية‪ /‬وشرطة فيليمية‪ ،‬با ضافة إلى ّ‬
‫النص الوسائطي سواء وكانت مقتطعة من‬ ‫‪/‬نثرية‪ ،‬وهذه ألاخيرة بمجرد توظيفها داخل ّ‬
‫دواوين شعرية وم من روايات وقصص‪...‬قد فقدت صفتها الورقية وتوسلت بالجسر‬
‫يتميز بصفته التفاعلية‬ ‫إلالكتروني‪...‬كوسيط لتعانق قراءجددا‪،‬وهذا النص الوسائطي ّ‬
‫و ون القارئ يتفاعل من خالل الروابط ‪"/‬ألاداة التقنية "‪ ،‬التي يتم الضغط عليها من‬
‫‪2‬‬
‫وجل اختراق سكونية النص الظاهرية‪،‬للدخول والتجوال وإلابحار في بنيته«‪.‬‬

‫‪ -1‬لبيبة خمار‪،‬النص املترابط –فن الكتابةالرقمية آفاق التلقي‪ ،‬و‪.91-98‬‬


‫‪ -2‬فاطمة كدو‪،‬أدب‪-com.‬مقاربة للدرس األدبي الرقمي بالجامعة‪،‬ص‪71‬‬

‫‪32‬‬
‫ّ‬ ‫فبمقتض ى شرط التفاعلية ُيقلد القارئ داخل ّ‬
‫النص املترابط مهمة وخرى؛إنه‬
‫كاتب‪ -‬مشارك(‪ ، 1)co-auteur‬يفض ي توليفه الحر للشذرات النصية إلى كتابة ثانية‬
‫على كتابة املؤلف‪ ،‬وتجدر إلاشارة هنا إلى ّون معشر القراء ال يرتقون جميعهم إلى‬
‫مرتبة الكاتب املشارك‪،‬فبعضهم قد يكتف بالضغط على بعض الروابط و حين‬
‫يتم استكشاف‬ ‫يضجر من عمق متاهة النص السرد املترابط‪ ،‬يتركها دون ون ّ‬
‫املتاهة‪،‬وال يعيد من ثمة بناء ما لم ينكتب في نص املؤلف‪.‬‬
‫‪ -1‬السرد اللغو ‪:‬‬
‫يتوفر السرد الرقمي على نصوو سردية لغوية‪،‬هي بمثابة ّ‬ ‫ّ‬
‫مكون رئيس من‬
‫قدم فكرة‬‫مكونات السرد الرقمي‪ ،‬فبعد ون يكون املشهد التشخيص ي التمثيلي قد ّ‬ ‫ّ‬
‫العقدة السردية‪ ،‬يعود السرد اللغو ليستأنف ما عبر عنه الوسيط املترابط سابقا‬
‫‪،‬وعلى هذا يصبح هذا التداخل بين هذين النوعين من السرد؛ الترابطي واللغو سمة‬
‫رئيسة في السرديات الرقمية‪.‬‬
‫يتم الربط بين السردين؛ اللغو والترابطي؟ قد تكون‬ ‫ولكن كيف ّ‬
‫الشخصية نقطة ارتكاز مشتركة بينهما ؛ ففي بعض النماذج السردية الرقمية العربية‪،‬‬
‫مثل رواية "صقيع" و"شات" ملحمد سناجلة و"حفنات جمر" سماعيل البويحياو‬
‫تظهر الشخصية بوصفها عنصرا واصال بين مفاصل النصوو املترابطة وعقدها‬
‫ألن هذا النوع من السرد الرقمي يكون وميل إلى لامتداد‪،‬وبذلك يصبح‬ ‫الكثيرة‪ ،‬ذلك ّ‬
‫الخروج بواسطة الشخصية نفسها من كتابة الرواية إلى غيرها شكال من وشكال‬
‫تنضيد السرد الرقمي‪ ،‬تفضل لبيبة خمار نعت هذا النوع من الشخصيات الواصلة‬
‫بالشخصية السياقية فتقول‪ »:‬ومن بين لاستراتيجيات التي تجعل القاو يكتب‬
‫الرواية من خالل القصة القصيرة والقصيصات اعتماد الشخصية املركزية والسياقية‬
‫وحدة للقصص‪ ،‬ووالتيمة املوحدة كدينامو مولد للسرد وهيكل تلتف حوله ّ‬
‫كل‬ ‫املـ ّ‬

‫‪ -1‬لبيبة خمار‪ ،‬شعرية النص التفاعلي‪ -‬أليات السرد وسحر القراءة‪،‬ص‪.397-399‬‬

‫‪33‬‬
‫ُ‬
‫القصيصات وعليه يستقيم بناؤها املاد والداللي شريطة ون تكتب بهاجس روائي وون‬
‫تكسر الخطية وتبتعد عن الحشو وتعانق الكثافة ‪....‬وتعتمد الروابط التي بها يتشعب‬
‫‪1‬‬
‫ويتفرع الحكي وتنبني املتاهة الزمانية واملكانية ‪«.‬‬
‫تجمع الشخصية الواصلة بين الشذرات النصية في نص مترابط‪ ،‬إذ كلما ّ‬
‫تم‬
‫تفعيل رابط جديد ‪،‬تطالعنا الشخصية ألاولى بسمات جديدة ‪،‬فالشخصية الواصلة‬
‫تؤد وظيفة إحالة على النصوو املترابطة السابقة‪.‬‬
‫من بين الوظائف املسندة إلى الشخصية وظيفة وسم الروابط‪ ،‬إذ يكفي ون‬
‫تردد روابط‬‫نتأمل نماذج من نصوو سردية ترابطية عربية‪،‬لنكتشف نسبة ّ‬ ‫ّ‬
‫الشخصيات ‪ ،‬وهو ما يؤكده عبد القادر فهيم شيباني بقوله‪ »:‬تؤد الشخصيات‬
‫داخل املحكي املترابط ‪،‬دورا مهما في ضمان انتظام الصفحات ونظم الوقائع السردية‪.‬‬
‫وإذا كانت الشخصية ‪،‬تنوء بحمل الفعل وتعطيه معنى‪،‬فإن رابط الشخصية‪،‬‬
‫تعدد تلك ألافعال واختالفاتها ‪،‬كما يمكن ون يكشف عن‬ ‫يستطيع ون يعكس بوضوح ّ‬
‫الخطاطة العامة لشبكة الشخصيات مجتمعة‪ ،‬داخل املحكي الواحد‪،‬فيبين عن املهم‬
‫‪2‬‬
‫فاألهم داخل لعبة السرد‪« .‬‬
‫بما ون القطيعة بين السرد الرقمي و املناهج النقدية ‪ -‬وعلى روسها السرديات‬
‫البنيوية والسيميائية‪ -‬لم تتم بشكل قطعي‪ ،‬فهذا يعزز فرضية تحليل الشخصية‬
‫تبين ويضا من خالل متابعة‬ ‫ومتابعة ونظمة إحاالتها في النص السرد املترابط‪ ،‬وقد ّ‬
‫املنجز السرد الرقمي ّون الشخصية ما تزال تتقدم موسومة وظيفيا على مستوى‬
‫يتم حجب مالمحها في بعض النصوو فيمنحها ذلك طابعا مجردا‬ ‫تصور‪،‬وو ّ‬‫الفعل وال ّ‬
‫كل إنسان يعيش متقوقعا‬ ‫تتحول معه الشخصية إلى نموذج تبادلي يصلح تعميمه على ّ‬
‫ومهمشا ومذهوال بفتوحات عصر رقمي يكاد يتجاوزه‪.‬‬ ‫ومعزوال وبائسا ومستلبا ّ‬

‫‪1‬‬
‫النص المترابط فن كتابة الرقمية وآفاق التلقي‪،‬ص ‪.85‬‬
‫‪ -‬لبيبة خمار‪ّ ،‬‬
‫‪ -2‬عبد القادر فهيم شيباني ‪ ،‬سيميائيات المحكي المترابط ‪،‬ص‪. 319‬‬

‫‪34‬‬
‫املحاضرة الرابعة ‪:‬استثمارالسرود السمعية البصرية في الرواية العربية املعاصرة‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫تقيم الصورة‪-‬السمعية البصرية في قلب العالم وهي نبضه وبها يقيم حياته‬
‫ومناشطه ومعايشه وودبياته وطقوسه ‪ ،...‬حتى ألمكننا القول ّإن السمعي البصر هو‬
‫كل حركات الزمان؛ماض ي‬ ‫قانون هذا العصر وجماليته‪ ،‬وبه وضحى ممكنا جمع ّ‬
‫وحاضر ومستقبل في مشهد واحد‪ ،‬وهو ما يجعلنا نعاود الحديث عن موقع الصورة‬
‫ثم كيف تسنى توظيفها‬ ‫السمعية البصرية في محضن الفن السابع الذ نشأت فيه ‪ّ ،‬‬
‫في السرد الروائي‪ ،‬بخاصة بعد ون وصبحت السينما بفضل تطور نقدها وتقنياتها‬
‫صناعة متكاملة‪.‬‬
‫الرواية والفيلم ‪ /‬نحو رؤية متجددة لتكامل العلوم والفنون وآلاداب‪:‬‬
‫ّ‬
‫التخصص الدقيق‪ ،‬بل‬ ‫وفض ى مفهوم تكامل املعارف إلى رفض التقوقع داخل وسوار‬
‫تخصص واحد مكتف بذاته ومستغن عما‬ ‫ّ‬ ‫ال يبدو ممكنا لاعتراف بوجود فن وو ودب وو علم وو‬
‫كل ممارسة ودبية و فنية و علمية ‪ ،‬هي التي تستوعب‬‫سواه ‪ّ ،‬إن هذه املنطقة البينية التي تحكم ّ‬
‫نوع العالقة بين ألادب والسينما ‪ ،‬دون ون يكون التأثر والتأثير املتبادل بينهما سطحيا مع ذلك‬
‫ّ‬
‫البينية ‪ interdisciplinarité‬يدالن على التفاعل‬ ‫ّ‬
‫التخصصية‬ ‫‪،‬ألن مفهوم تكامل املعارف و‬
‫التخصصات‪ ،‬بحيث ال يقف هذا التفاعل عند ّ‬
‫مجرد تجميع املعارف‬ ‫ّ‬ ‫العميق بين جملة من‬
‫‪1‬‬ ‫ّ‬
‫التخصصات بعضها في بعض‪.‬‬ ‫املختلفة ‪،‬بل إنه اندماج كلي و تأثير جذر متبادل بين‬
‫وما العالقة بين الرواية العربية والسينما ‪ ،‬فقد ت ّبووت مكانة خاصة ّ‬
‫مردها إلى‬
‫وجود مبادالت جمالية ومعرفية بينهما‪ ،‬وقد حفل التاريخ العربي بعديد التجارب‬
‫الروائية التي وقامت نسيجها السرد على وسلوب سينمائي بعناصره املختلفة‪ ،‬من‬
‫مشاهد ولقطات وسرد الكاميرا‪،‬وقطع‪ ،‬وكوالج‪ ،...‬فال نستغرب إذن ون يكون انجذاب‬

‫‪1‬‬
‫‪- Piaget, Jean ( 1972), « l´épistémologie des relations interdisciplinaires », in :‬‬
‫‪L'interdisciplinarité: problèmes d´enseignement et de recherche dans les universités , Paris,‬‬
‫‪OCDE, 1972 [ version électronique réalisée par : fondation Jean Piaget .‬‬

‫‪35‬‬
‫الرواية نحو السينما بهدف التقاط وساليب جديدة‪ ،‬مكفوال بقوة تكامل الفنون‬
‫واملعارف وانفتاح بعضها على بعض‪ ،‬يقول صالح فضل ّون السينما ‪ »:‬لغة ثالثة تفيد‬
‫كل من اللغة الطبيعية والشعر والتشكيل واملوسيقى والطبيعة والفعل إلانساني‬ ‫من ّ‬
‫كل من الفن والعلم؛فأبوا‬ ‫عبرها ‪،‬فهي نتيجة لذلك ّ‬
‫متعددة ألابعاد ‪ ،‬ومع ّونها وليدة ّ‬
‫املباشر هو املسرح وومها التكنولوجيا ‪،‬إال ّونها تقدم جملة من الخصائص الجمالية‬
‫ّ‬
‫الحيوية الجديدة التي تعود لتثر الفنون القديمة‪ ،‬وكم من وم تتعلم من ابنتها‪ ،‬وهكذا‬
‫‪1‬‬
‫الرواية في موقفها من السينما‪«.‬‬
‫ّ‬
‫يشكل التفاعل بين الرواية والسينما‪،‬بين الكتابة والصورة‪-‬السمعية‪ ،‬ملمحا من‬
‫مالمح التجريب‪،‬الذ قويت شوكته بعد هزيمة ‪ ،1898‬حينما تخندقت النخبة من‬
‫طالئع املثقفين والروائيين حول فكرة لاحتجاج وفضح سياسة التزييف و ّ‬
‫التمرد على‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كل السلط‪ ،‬فتمخض ذلك عن ميالد الرواية الجديدة التي وظفت مفردات السينما‬
‫عربي يوشك ون يتهافت‪،‬بسبب اجترار‬ ‫ٍ‬ ‫جسد رو ٍ‬
‫ائي‬ ‫ٍ‬ ‫بهدف ضخ روح جديدة في‬
‫موضوعاته وقوالبه وعجزه عن مالمسة الواقع‪،‬وذلك ما تناوئه الرواية الجديدة التي‬
‫لطاملا كانت ‪-‬وما تزال ‪ -‬تقوم على التجريب بابتكار آساليب جديدة ‪،‬و ّ‬
‫التمرد على‬
‫قوانين ألاجناس ألادبية وصيغ التأليف املبتذلة‪ ،‬وهذا ملمح تجسده الرواية الجديدة‬
‫تقد من الحاضر وزمنة للفعل‬ ‫التي قطعت صلتها بفعل السرد "كان‪ -‬وو يحكى" وراحت ّ‬
‫وإلاخبار‪،‬ذلك ما يذهب إليه جهاد نعيسة قائال‪ّ »:‬‬
‫تعد الرواية الجديدة التي انطلقت في‬
‫فرنسا في الخمسينيات املثال ألاكثر وضوحا الستلهام قضية الحضور السينمائي‬
‫‪،‬وذلك في زرع املغامرة (القصة) في هذا الحاضر ‪ ،‬بوصفها احتماال‪،‬إو إمكانا ‪ ،‬وو حلما‪،‬‬
‫فتح خالل العملية السردية نفسها ‪،‬وليس بوصفها منجزا واقعيا وو‬ ‫وو وهما ينشأ ويت ّ‬
‫‪2‬‬
‫تخييليا تستعيده هذه العملية السردية‪«.‬‬

‫‪ -1‬صالح فضل‪،‬أساليب السرد في ال ارواية العربية‪،‬دارالمدى للثقافة والنشر‪،‬سورية‪،‬ط‪،1111،3‬ص‪.391‬‬


‫‪ -2‬جهاد عطا نعيسة‪،‬الرواية والسرود السمعية والبصرية –الرواية والسينما ‪..‬مسارات مقارنة‪،‬ضمن كتاب الرواية العربية‪ » ...‬ممكنات السرد«‬
‫مجموعة من المؤلفين‪،‬أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي‪33‬و‪31‬ديسمبر‪ ،1111‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪،‬الكويت‪،‬ج‪،3‬‬
‫‪ ،1118‬ص‪. 139‬‬

‫‪36‬‬
‫تعود العالقة بين الرواية والسينما إلى وربعينيات القرن املاض ي‪ ،‬وهو ما يقوم‬
‫ّ‬
‫حجة دامغة على ّون ألاعمال ألادبية وعلى روسها الرواية شكلت مادة خصيبة لصناعة‬
‫السينما العربية‪،‬ففي مصر وخرج دمحم كريم رواية "زينب"‪ ،‬و مثله فعل صالح وبو سيف‬
‫في "بداية ونهاية"‪ ،‬وكمال الشيخ في ميرامار‪ 1،‬وهنا نلحظ كيف وسهم تحويل الرواية‬
‫إلى فيلم سببا في شهرة بعض الكتاب املغمورين مثل "إبراهيم وصالن"‪ ،‬وتوسيع رقعة‬
‫انتشار البعض آلاخر مثل "نجيب محفوظ" الذ لم تبق شهرته وقفا على نخبة‬
‫كل فئات املجتمع املصر بفضل‬ ‫املشتغلين بالثقافة وألادب‪،‬بل تجاوزتها إلى ّ‬
‫يوهات للسينما‪.‬‬ ‫ُ‬
‫السينما‪،‬بخاصة وقد عرف عن نجيب محفوظ إقباله على كتابة سينار ٍ‬
‫وامتدت صناعة ألافالم الروائية إلى سوريا‪،‬وفيها وخرج "توفيق صالح" (رجال في‬
‫الشمس)‪،‬وفي الجزائر وخرج "عبد الرحمن بوقرموح" (الربوة املنسية)‪،‬ومثله فعل‬
‫"وحمد راشد " في (ألافيون والعصا) ملولود فوعون‪ 2.‬ويعز في هذا املقام استكمال‬
‫تم اقتباسها وتحويلها إلى وفالم لقي بعضها رواجا كبيرا‪.‬‬‫قائمة الروايات التي ّ‬
‫ال سبيل إذن إلى نكران وهمية التأثر والتأثير بين الفنون وآلاداب‪،‬بين ألادب‬
‫والسينما على وجه التحديد‪ ،‬على الرغم من اختالف لغتيهما ‪،‬ففي الوقت الذ‬
‫تستخدم فيه الرواية اللغة املكتوبة‪،‬توظف السينما ‪ «:‬اللغة السمعية البصرية ‪،‬التي‬
‫تخضع لبناء حركي – صوتي يقوم على استثمار ممكنات ثالثة للتجسيد الحركي‪ :‬حركة‬
‫املمثلين والعناصر ألاخرى داخل الكادر‪،‬حركة الكاميرا‪،‬شكل التوليف املعتمد‬
‫ّ‬
‫(املونتاج)للقطات ‪،‬بالتوافق وو التضاد مع مفردات الشريط الصوتي وعناصره«‪ 3.‬وإن‬
‫ّ‬
‫كان تأثير الرواية في السينما ليس هو ما يعنيا في مقام وول‪ ،‬وإنما تشغلنا الكيفية التي‬
‫استثمرت بها الرواية العربية ودبيات السينما وتقنياتها‪ ،‬ووبعاد هذا التوظيف الجمالية‬

‫‪ -1‬إبراهيم عامر‪ ،‬الرواية العربية والمونتاج السينمائي‪،‬دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع‪،‬األردن‪،‬ط‪، 3،1139‬ص‪15‬‬
‫‪ -2‬ينظر تفاصيل أكثر حول صناعة السينما العربية وعالقتها باألدب‪،‬أحمد بجاوي وميشال سارسو وآخرون ‪ ،‬األدب والسينما العربية‪،‬منشورات‬
‫الشهاب ‪ ،1139،‬د‪.‬ط ‪،‬ص‪.11‬‬
‫‪ -3‬جهادعطانعيسة‪،‬الرواية والسرود السمعية والبصرية‪-‬الرواية والسينما‪..‬مسارات مقارنة‪،‬ضمن كتاب الرواية العربية‪ »..‬ممكنات السرد«‪،‬ص‪.118‬‬

‫‪37‬‬
‫والداللية‪ ،‬فأولى لنا والحال هذه ون نلقي نظرة سريعة على وهم التقنيات السينمائية‪،‬‬
‫وإلاحاطةبطريقة تنفيذها في الرواية‪ ،‬مع التنويه بضرورة النهوض بدراسة تطبيقية‬
‫مفصلة هي وحدها الجديرة بكشف مختلف سياقات توظيف الصورة السمعية في‬ ‫ّ‬
‫الرواية وتحر ألابعاد الداللية والجمالية لهذا التوظيف ‪.‬‬
‫‪ -1‬التركيب (‪ :)Le montage‬هو واحد من وهم التقنيات السينمائية‪،‬و يدل على‬
‫اللقطات ّ‬ ‫ّ‬
‫املفلمة وعناصر الشريط الصوتي بعضها بعد بعض بحسب الترتيب‬ ‫‪ »:‬لصق‬
‫مفلمة من‬ ‫املجمع« ‪ .‬وو هو ‪ » :‬تقطيع مشهد إلى لقطات ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الذ حدده املخرج باالتفاق مع ِ‬
‫ّ‬
‫مختلف نقاط النظر‪ ،‬والذ يقيم عالقات سيميائية وشكالنية معا بين اللقطات‬
‫املتتالية عن طريق تناوب نقاط النظر (في الحقل والحقل املعاكس‪ ،‬مثال) وعن طريق‬
‫‪1‬‬
‫الوصالت‪«.‬‬
‫ّ‬
‫يستدل بالتركيب على عملية ترتيب اللقطات السينمائية وتجميعها ضمن‬
‫سيناريو محكم هو بمثابة نظم ملشاهد كانت عند التقاطها مستقلة عن بعضها‬
‫ّ‬
‫لتكون‬
‫لقطات ترابطت ِ‬‫ٍ‬ ‫البعض‪ ،‬واملشهد في لغة النقد السينمائية يضم ‪ »:‬سلسلة من‬
‫ّ‬ ‫كال ُينش ئ حدثا وو موقفا وو مأزقا ما ثم ّ‬‫ا‬
‫يطوره«‪2.‬فاللقطات هي بمثابة منظر وو سلسلة‬
‫ّ‬
‫من املناظر تؤلف بدورها مشهدا متكامال‪ ،‬وتشتمل اللقطات على مؤشرات زمانية‬
‫صور حركات الشخصية وصفاتها بواسطة تقنية التجسيم‬ ‫ومكانية وتعرض ألاشياء و ت ّ‬
‫البصر ‪.‬‬
‫كل مشهد روائي جملة من املناظر هي بمثابة‬‫وكما املشاهد السينمائية‪ ،‬يتضمن ّ‬
‫ّ‬
‫وصفاته‪،‬لكنه يندغم‬ ‫كل منظر بموضوعه وحركاته‬ ‫ال ّلقطات في عرف السينما ‪ ،‬وينفرد ّ‬
‫مع املنظر الذ يليه في توليفة سردية منسوجة على نحو خاو‪،‬كما ال تستنكف‬
‫املشاهد عن تسريب وجهة نظر ما تشكل البعد الداللي الغائب الذ يجب ون ُيقرو‬

‫‪ -1‬مار ‪ -‬تيريز جورنو‪ ،‬معحم املصطلحات السينمائية‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،8888،‬و‪.98-90‬‬
‫‪ -2‬نجوى الرياحي القسنطيني‪ ،‬الوصف في الرواية العربية الحديثة‪ ،‬كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية بتونس‪،‬ط‪،3،1117‬ص‪.171‬‬

‫‪38‬‬
‫تتبع لعبة إلاحاالت‪،‬إحالة الحاضر إلى الغائب والداخل‬ ‫‪،‬ويستكشف من خالل ّ‬ ‫سياقيا ُ‬
‫إلى الخارج‪،‬وذلك ما سيأتي بيانه في العناصر ودناه‪.‬‬
‫قد تكون تقنية املشهد ونسب في افتتاحيات السرود ‪،‬حيث تميل بعض‬
‫الروايات إلى العمل وفق سرد سينمائي بانورامي‪ ،‬تنحو فيه الكاميرا إلى تكديس‬
‫تفاصيل وكثر‪ ،‬ومثال ذلك هذا املقطع‪ » :‬استيقظ الشاعر مرعوبا ‪،‬على وصوات تمزق‬
‫سكون الليل املجروح باألنوار املنبثة في الشوراع‪...‬تساءل بصوت عال‪ ،‬رغم وثوقه من‬
‫ّ‬
‫وونه ّ‬ ‫ّ‬
‫بكل بساطة‪ ،‬ال يشاركه وحد في‬ ‫ونه ال يوجه سؤلا أل شخص آخر غيره ‪ ،‬ذلك‬
‫سكنه الكبير هذا‪ ،‬وذلك منذ ُمنح له‪ ،‬كسكن وظيفي‪ ،‬من طرف املعهد الذ ُيد ّرس‬
‫فيه‪ .‬لم تكن ألاصوات ملدافع‪ ،‬ال وال حتى لدبابات ومجنزرات كما جرت العادة‪ ،‬منذ‬
‫ّ‬
‫سنتين وو يزيد‪ .‬إنه هدير بشر ‪،‬قو (‪)...‬وصاخ السمع لحظات‪ ،‬ثم نهض وشق النافذة‬
‫ّ‬
‫املشرفة على الشارع‪ ،‬وراح يطل من الفرجة الصغيرة‪ ،‬يستوضح ماذا هناك‪...‬لم يكلف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نفسه التثبت من الوقت فذلك يكلفه الخروج عن طقوسه وإيقاد النور‪،‬ثم إنه ال داعي‬
‫لذلك في هذه اللحظات املهم هو معرفة ما يجر في الخارج ‪...‬فتح الباب فداهمه نور‬
‫خافت‪...‬سحب الباب خلفه بقوة وانحنى ووال يغلق القفل السفلي‪...‬ونزل يقطع املسافة‬
‫القليلة بين باب الدار وباب الحديقة الصغيرة املهملة من جميع الوجوه‪...‬والحديقة‬
‫الغرس فيها سوى شجرة واحدة برية‪ ...‬وزاح السلك ثم وعاده مع ذلك‪،‬كأنما في هذه‬
‫الليلة بالذات‪،‬شعر بضرورة لائتمان على داره‪.‬ولقى النظر على الجيران الذين يحتلون‬
‫‪1‬‬
‫الجزوين السفليين ألايمن وألايسر‪...‬والذين ال يعرف وسماءهم ‪«.‬‬
‫ينضح هذا املشهد الطويل لافتتاحي بمناظر متتابعة يأخذبعضها برقاب بعض‬
‫وهي‪(:‬استيقظ‪-‬سكن وظيفي‪-‬الصوت‪ -‬يطل من الفرجة‪ -‬نزل‪ -‬الحديقة‪-‬الجيران‪)...‬‬
‫فهذه مناظر تراكم تفاصيل كثيرة عن إلانسان والزمان واملكان‪،‬بل نشعر ّون عين‬
‫السارد كعين الكاميرا ترصد الحركات‪":‬استيقظ‪-‬نهض‪-‬شق‪ -‬فتح‪-‬سحب –غلق"‪،‬كما‬

‫‪ -1‬الطاهر وطار‪ ،‬الشمعة والدهاليز‪،‬موفم للنشر ‪ ،‬الجزائ‪،1131 ،‬ص‪. 37-33‬‬

‫‪39‬‬
‫وكدست صفات‬ ‫م ّكنتنا من معلومات عن الشخص‪ ،‬ومهنته ووضعيته لاجتماعية ‪ّ ،‬‬
‫ملوصوفات"البيت(وظيفي‪-‬كبير)والحديقة(الصغيرة‪)..‬والجيران(الوعرف وسماءهم)‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬
‫هذا وقد كانت بعض اللقطات تنتظم فيما بينها تشاكليا‪،‬فتتراوح بين ون تكون وصواتا‬
‫بشرية ومثله الهدير البشر وو اصطناعية كأصوات املدافع والدبابات؛ فكالهما‬
‫صورة ‪-‬سمعية‪ ،‬كما تنتظم الصور ويضا عن طريق قانون تداعي‪ ،‬فيستدعي الصوت‬
‫الحاضر "وصوات تمزق‪-‬هدير بشر "‪،‬الصوت الغائب"مدافع و دبابات ومزنجرات"‬
‫غير ّون هذه الصور املستدعاة الصلة لها بما يجر آلان ّ‬
‫‪،‬ألنها تحيل إلى وشياء تقع خارج‬
‫الحقل البصر للمشهد‪ ،‬فالعشرية السوداء ‪،‬امتداد بالتأويل في هذا املشهد الذ‬
‫تتناغم لقطاته ومناظره حاضرة كانت وم غائبة‪،‬وبذلك تتساند املناظر الحركية‬
‫يتأوله بببساطة؛ فاملشهد‬ ‫شيد مدلوال غائبا‪،‬يمكن للقارئ ون ّ‬ ‫والفضائية والصوتية‪ ،‬لت ّ‬
‫في عمومه يعالج قضيته بشكل مستتر وخلف حجاب بالغات السرد والصور السمعية‬
‫ّ‬
‫ذات تنسحب دوما إلى دهاليزها مكرهة‪،‬ألنها ذاقت طعم‬ ‫البصرية‪،‬إنه ينفذ إلى وعماق ٍ‬
‫الرعب و الخوف من املوت وفقدان ألامان في وطن" العشرية السوداء"‪.‬‬
‫‪ – 8‬إلاطار‪ :‬يسهم إلاطار وظيفيا في اختيار مادة الفيلم املقتطعة من الواقع‪ ،‬ومن ثمة‬
‫ّ‬
‫تحديد مضمون الصورة وضبط حقلها البصر ‪ ،‬إنه يتصل بموضوع الصورة املاثل‬
‫بأن إلاطار يختلف عن الحقل البصر وال يتطابق‬ ‫ومام وعيننا‪ ،‬وهذا ودعى إلى القول ّ‬
‫بأنه‪ » :‬الفسحة الواقعة ضمن إلاطار والتي ُترى‬ ‫ّ‬
‫معه ‪،‬يعرف الحقل البصر سينمائيا‬
‫في آن معا كمساحة مسطحة (هي مساحة الصورة املادية ذات البعدين) وفي حال‬
‫الصورة التمثيلية‪ ،‬تبدو كجزء من املكان ثالثي ألابعاد (عمقا) ولكنه تخيلي ‪.‬وما إلاطار‬
‫الذ يحده فيعمل كساترة (بازن‪ ) Bazin‬بإخفائه املكان الواقع على الجوانب‪ ،‬هذا‬
‫املكان الذ ال نراه ولكننا نتخيله‪ ،‬وهذا هو" الخارج املجال " وو( خارج الحقل)‪.‬إن‬

‫‪40‬‬
‫توهم العمق با ضافة إلى إدراك كون املكان يمتد إلى ما وراء الحدود ينتجان انطباعا‬
‫‪1‬‬
‫قويا بالواقعية الحقيقية‪«.‬‬
‫كل إطار للصورة بمجال ّ‬
‫معين قابل لالمتداد وو لانحسار‪ ،‬وهو ما ينعته‬ ‫يرتبط ّ‬
‫نقاد السينما ب‪:‬ـ"داخل الحقل البصر " و"خارج الحقل" ‪ ،‬فأما داخل الحقل فيشمل‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كل عناصر الصورة التي ترى وتستحوذ على مجال الرؤية مباشرة‪،‬وما خارج الحقل‬
‫ُ‬
‫فيضم العناصر التي ال ترى؛ فهي غائبة عن مجال الصورة‪،‬ولكن ما يقع خارج الحقل‬
‫يمكن استحضاره ذهنيا‪،‬إذ من البديهي ون يحيل املرئي إلى غير املرئي و يدل الحاضر‬
‫تمدد حقل الصورة وفقيا وعموديا بتضافر املرئي‬ ‫على الغائب‪،‬وهو ما يؤد إلى ّ‬
‫حقل مفتوح وغير ثابت‪ ،‬يعتمد على لعبة لانتقاالت واللعب‬ ‫والالمرئي؛فمجال الرؤية ٌ‬
‫تحدد إطار الصورة؛من قرب وبعد وداخل خارج وحاضر وغائب وإظهار‬ ‫باملسافات التي ّ‬
‫(جعل العنصر في صدر الصورة)وحجب(وضع العنصر في خلفية الصورة املتأخرة‬
‫والغامضة)‪ ،‬وهو ما يسمى في لغة السينما بعمق املجال ‪la profondeur du champ‬‬
‫إنها حركة بصرية‪ -‬تخييلية تسمح بعبور العنصر غير املرئي الذ كان خارج الصورة إلى‬
‫داخلها مع عكس صحيح ويضا‪.‬وفي املثال الذ قدمنا وعاله ما يفي عالقات داخل‬
‫وخارج إطار الصورة تمثيال وتفسيرا‪.‬‬
‫يقوم إلاطار في الرواية مقام مادة الحكي ‪،‬التي يختار لها السارد طريقة ما في‬
‫التركيب‪ ،‬وألارجح ون يعتمد السارد على عرض الصورة بتنفيذ انتقاالت مدروسة بين‬
‫ّ‬
‫املناظر واللقطات‪ ،‬كما في السينما تماما‪ ،‬فينتقل من منظر إلى آخر‪.‬وو من‬
‫عين"شخصية" ترصد إلى عين شخصية وخرى ترصد املنظر نفسه من الزاوية نفسها وو‬
‫من زاوية مختلفة‪ ،‬هكذا يتم التنويع في إطار الصورة من خالل املراوحة املستمرة بين‬
‫ما يقع داخل إلاطار وما يقع خارجه ‪ ،‬ومن خالل تبديل زاوية التصوير ‪ ،‬وعلى هذا‬
‫نحسب ّون تقنية التأطير وتركيب املناظر واللقطات تعد واحدة من وهم تقنيات‬

‫‪ -1‬مار ‪ -‬تيريز جورنو‪ ،‬معحم املصطلحات السينمائية‪،‬و ‪.18‬‬

‫‪41‬‬
‫تم توظيفها في عديد الروايات العربية لتطوير الحبكة وحفز‬ ‫صناعة السينما‪ ،‬والتي ّ‬
‫ّتق ّدم سير الحكائية‪.‬‬
‫‪ – 1‬من زاوية التصوير إلى زاوية النظر‪/‬وو سرد الكاميرا‬
‫تقتــرن زاويــة التصــوير‪-‬ســينمائيا‪ -‬بحركــة الكــاميرا واتجاههــا قياســا إلــى املوضــوع املوصــوف‪،‬‬
‫فبحسـب مـار تيرريـز جورنـو‪ »:‬تتوقـف زاويـة التصـوير علـى موضـع العدسـية الشـييية بالنسـبة‬
‫لحقـل التصـوير ‪.‬فعنـدما تكـون الكـاميرا موضـوعة بشـكل وفقـي علـى ارتفـاع نظـر إنسـان‪ ،‬تبـدو‬
‫الزاويـة" عاديـة"ويسـتطيع املخـرج ون يفلـم موضـوعه بطريقـة النـزول (و مـن فـوق إلـى تحـت –‬
‫املعرب) و بوضع الكاميرا فوقه‪ ،‬وو بطريقة الصعود بوضعها تحته إما لإليحاء بنظرة نحو ألاعلى‬
‫وو ألادنى ‪ ،‬وإما لتشويه الرؤية (‪)...‬وعندما تتحرك الكاميرا لدى تصوير مشهد ما‪ ،‬يحدث تغيير في‬
‫‪1‬‬
‫الزاوية‪«.‬‬
‫ُ‬
‫تنهض بين حركة الكاميرا وزاوية التصوير وشكال ال تحص ى من اللقطات التي وبدع نقاد‬
‫السينما التجريبيون في ابتكارها ‪ ،‬ولقد حاز د دابليو جريفيث )‪ )David Wark Griffith‬فضل‬
‫ّ‬
‫السبق في دراسة املونتاج وتنويع اللقطات وتقطيعها بتحريك الكاميرا في اتجاه املشهد فيفض ي‬
‫ذلك إلى وثر درامي ‪،‬فقد نفذ جريفيث تقنية قطع لقطة عامة إلى لقطة وقرب‪،‬كما قام بتحريك‬
‫جرب تقنية اللقطة العامة جدا‪ 2.‬واستمر‬ ‫الكاميرا إلى لقطة قريبة ُمكبرة بمالمح واضحة‪،‬ثم ّ‬
‫جريفيث في تجريب مختلف وضعيات التقطيع ‪،‬فأسفر ذلك عن ابتكار عديد التقنيات التي‬
‫وضحت بمثابة مبادئ وولية في فن املونتاج الحقا‪.‬‬
‫ّ‬
‫بديهي والحال هذه ون يفيد الروائيون من إيقاعية تقطيع اللقطات وزاوية التصوير‬
‫وقد تمخض ذلك عن تطوير مفاهيم سردية من قبيل وجهة النظر ‪ point de vue‬والرؤية‬
‫السردية وو التبئير ‪ focalisation‬تلك التي استأثرت بوصفها السرديات البنيوية في اشتغالها‬
‫إلاجرائي الدقيق على املتون السردية وعلى روسها الرواية‪ ،‬غير ّون سرد الكاميرا‪،‬وذلك حظ‬
‫تتبع وضعيات العين التي ترى ولاهتمام بلعبة‬ ‫استحوذت عليه السينما‪ -‬يذهب بعيدا في ّ‬
‫املسافات ولانتقاالت املمكنة من زاوية نظر إلى وخرى‪.‬‬

‫‪ -1‬مار ‪ -‬تيريز جورنو‪ ،‬معحم املصطلحات السينمائية‪،‬و ‪.9‬‬


‫‪ -2‬ينظر‪،‬كين دانسايجر‪ ،‬تقنيات مونتاج السينما والفيديو‪ ،‬ترجمة أحمد يوسف‪،‬المركز القومي للترجمة ‪،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،3،1133‬ص ‪ 19‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫وما في الرواية‪،‬فسيطلق السارد بصره في مالحقة الصور؛ مستعيرا عين الكاميرا‬
‫كل لاتجاهات بغرض‬ ‫التي ستذرع املحكي جيئة وذهابا فوق تحت وسفل وعلى وفي ّ‬
‫تنويع زوايا التقاط الصورة السردية‪ ،‬وإن كان ال ُيفترض ون يكون وضع الكاميرا متحركا‬
‫مطلقا‪ ،‬فقد تكون في وضع ثابت‪ ،‬وعليه فبحسب وضعية السارد من حيث الثبات‬
‫معينة لنقل الصور‪،‬‬ ‫والحركة واملسافة التي تفصله عن موضوعه‪ ،‬تنبثق وضعيات ّ‬
‫وتأسيا بأنموذج جريفيث‪ ،‬قامت نجوى الرياحي‬ ‫ا‬ ‫مشاكلة تماما للقطات السينمائية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫القسنطيني بإحصاء وهم ونواع اللقطات التي تؤخذ من زوايا مختلفة‪،‬فيسفر ذلك عن‬
‫ّ‬
‫بكل ما يتخللها من ووصاف؛ فقد ُيعرض املنظر على‬‫تشكيالت متباينة للصور السمعية ّ‬
‫شاكلة اللقطة الشاملة ‪ Panorama‬وتنعتها الرياحي باللقطة العامة ( ‪le plan‬‬
‫‪ ) générale‬وهي لقطة كبيرة وبعيدة‪ ،‬تقوم على مسح املنظر من زوايا متباينة؛ من‬
‫ألاسفل ووفقيا (من اليمين إلى اليسار)‪،‬فتكون الصورة امللتقطة من هذه الزاوية كاملة‬
‫ال يطغى فيها عنصر على آخر‪ ،‬ومثل ذلك هذا املقطع‪ »:‬رفعت روس ي وبصر البيوت ‪،‬‬
‫بعضها سقطت جدرانه‪،‬وآخر كانت وبوابه مخلوعة‪،‬طلبت منه ون ينعطف إلى شارع‬
‫ثم كنا هناك طالعت مدخلها ‪)..(.‬على ورض الشوراع وجسام‬ ‫القصبة الكبير‪ّ ،‬‬
‫‪1‬‬ ‫ّ‬
‫مة‪،‬ووان خزفية وقطع من النحاس والقماش والخشب « ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫محط‬
‫تبدو زاوية الرؤية هنا بعيدة وكبيرة ( رفعت روس ي ‪-‬هناك‪..‬طالعت‪، )-‬في حين‬
‫متساو دون التركيز على واحد منها ‪،‬وتترائ اللقطة املجموع‬
‫ٍ‬ ‫ترصد املوصوفات بشكل‬
‫)‪ ) Le Plan d’ensemble‬لقطة عامة وبعيدة ‪،‬وإن كان السارد فيها ينعطف إلى تركيز‬
‫معين وكثر مما سواه ‪ ،‬ومثاله» لم وعتقد ّون املسافة بذلك‬ ‫الوصف على ش يء ّ‬
‫ّ‬
‫الطول‪،‬مثلما لم ودر كم ساعة مشيتها‪،‬خانتني رجال منتصف الطريق‪،‬وتوقفت‬
‫ّ‬ ‫بأمكنة عديدة‪ّ ،‬‬
‫لكن ّ‬
‫الرغبة ظلت مشتعلة‪،‬إلى ون تراءت لي القلعة وعلى التل(‪)...‬‬
‫‪2‬‬
‫تجاوزتها في عجلة ووسرعت تجاه البحر‪ ،‬وحده البحر يهب النسيان‪«.‬‬

‫‪ -1‬عبد الوهاب عيساوي‪ ،‬الديوان اإلسبرطي‪،‬دار ميم للنشر ‪،‬الجزائر‪،‬ط‪،1138 ،3‬ص‪.111-139‬‬


‫‪ -2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.75‬‬

‫‪43‬‬
‫كبرة ملوضوع يستحوذ‬ ‫وفي اللقطة املقربة ( ‪ ) plan rapproché‬تطالعنا صورة ُم ّ‬
‫على مجموع إطار الصورة‪ ،‬كأن يظهر الشخص مثال بكامل قامته دون التركيز على‬
‫معين من‬ ‫املكبرة ‪ )gros plan( :‬ففيها ينظر السارد إلى جزء ّ‬
‫التفاصيل ‪ .‬ووما اللقطة ّ‬
‫املوضوع مستبعدا الصورة الكلية"القامة"‪،‬فيلجأ مثال إلى تكبير صورة الوجه وتقديمه‬
‫جدا( ‪ ) très gros plan‬وكثر‬ ‫بمالمح واضحة في حين يضيق املجال في اللقطة املكبرة ا‬
‫قياسا إلى اللقطة املكبرة‪ ،‬فيقف السار َد مليا ومام تفصيل دقيق دون كلية الصورة‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫كاألنف من الوجه في مثال "الوجه" السابق‪.‬‬
‫تبينا بعدا وقربا وعمومية وخصوصية و كبرا‬ ‫تتفاوت زاويا التقاط الصورة كما ّ‬
‫ّ‬ ‫وصغرا‪ ،‬وهو ما يضفي على السرد نسيجا إيقاعيا ّ‬
‫متغيرا ينتقل من مشهد كامل يتسم‬
‫ّ‬
‫بانفساح مجال الرؤية واتساعه إلى مشهد تضيق فيه‪ ،‬كما قد يكون الداخل حاجزا‬
‫عن التقاط املنظر كامال بخالف الخارج‪،‬ووحيانا يضيق مجال الرؤية في مشهد‪،‬وو يأخذ‬
‫في لانحسار شيئا فشيئا باالنتقال من مساحة واسعة بمرئياتها ومناظرها إلى جزء منها‬
‫فقط‪.‬‬
‫ُ‬
‫نخلص إلى ّون طرائق تشكيل الصورة السمعية في السرد الروائي ق ّدت بشكل‬
‫ّ‬
‫واضح من مفردات النقد السينمائي‪ ،‬ومع ذلك نحسب ون هندسة الصور واللقطات‬
‫جدا من‬ ‫تقدم بشكل مجتزو ومعزول في السرد كما في السينما‪،‬وواهم ّ‬ ‫السردية ال ّ‬
‫ّ‬
‫يعتقد ذلك‪ ،‬بل بالعكس فكما ُيشرف املخرج السينمائي على إخراج اللقطات‬
‫واملشاهد مفعمة با يحاءات ووفق خطاطة سيناريو مدروسة بإتقان‪ ،‬يلجأ الروائي إلى‬
‫النظم بين املشاهد واملناظر ضمن نسيج سرد واحد متناغم محبوك السبك‪ ،‬ثم‬
‫يودعه من رؤاه ووجهة نظره ما يجعلنا نحدس ون ثمة قصدا يتوارى خلف تلك الصور‬
‫تم تركيبها على نحو ما في هذه الرواية وو تلك‪.‬‬ ‫السمعية البصرية التي ّ‬

‫‪ -1‬نجوى الرياحي القسنطيني‪،‬الوصف الرواية العربية الحديثة‪،‬ص ‪.181‬‬

‫‪44‬‬

You might also like