12 mabhats

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 103

‫َّس‬ ‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ )1‬طِر ْيُق اإلْيَم اِن‬

‫الذي يُسْلَكُ‪ ،‬ومنهًاُ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ال‬ ‫هو‬ ‫آ‪ .‬الطَّرَِّزيُْق‪َّ :‬ل‬
‫ْلَبْح‬ ‫َط ْي ًا‬ ‫َع َوَج‬
‫‪ )1(‬أي س َبِيْل‬ ‫‪  :‬ق ي ا‬ ‫ق ول الل هِ‬
‫َيْسُل لِلنَّجَاةِ مِنَ‬ ‫ِر‬ ‫َمْسَلَوْمُ‬ ‫ِف‬ ‫ُّل‬ ‫ِر‬
‫ْسُتلُكَرُهُُك الْق‬‫فِي الْبَحْرِ يَسْ‬
‫َقٌة في‬ ‫الإنسانُ‬
‫ْط‬ ‫كهُ‬ ‫ًا‬ ‫الْغَرَقِ‪ .‬وعنه ا ي‬
‫فعُطُرٌق محمو كان أو ِعمذمُوم ‪ .‬وجمعُ الطريقِ (أ ) و‬
‫ٍك‬
‫( ٍل )‪ٍ ،‬دويؤنَّثُ ويذكَّرُ‪ ،‬ويقالُ‪ :‬طَرِيِرْقَةٌ‪،‬‬
‫وَطَرَائِقُ‪ .‬وطريقةُ القومِ أماثِلَعَُّزهُمَوَجَّلوخُِكيَّنَارَُطَرهُمَقْ‬
‫‪ :‬ا ا‬ ‫وأهلُ الرَّأيِ فيهم وفيهِ قولهُ‬
‫َددًا‪ )2(‬أي فِرَقَّن ًا في ال رَّأْيِ مختلفِين‪ِ .‬ئ‬
‫ُس‬
‫ِقوالطَّرِيْقَةُ ال ةُ والْمَذْهَبُ؛ وطريقةُ الرجُلِ‬
‫مذهبهُ في الرأي والفكْرِ والمعتقدِ‪ ،‬قال الكسائيُّ‪:‬‬
‫(بِطَرِيْقَتِكُمْ‪ ،‬بِسُنَّتِكُمْ وَسِمَتِكُمْ) وتقولُ‬
‫العربُ‪ :‬فلانٌ على الطريقةِ الْمُثْلَى؛ يعنونَ على‬
‫هُدًى ُيمُسْتَقِيْمٍ‪ .‬فالطريقُ في هذا المقامِ السبيلُ‬
‫والدِّينِ‬ ‫َّن‬ ‫َّم‬ ‫َّر‬
‫والمعتقد ُس‬ ‫الذي سلك في نَهْجِ الفكرُِس ُمَح‬
‫‪ ‬و ت في‬ ‫للوصول إلى هَدْ سيِّدنا ال و‬
‫ِه‬ ‫ٍد‬ ‫ِل‬ ‫الاستقامةِ بأمرِ ِيالإسلام(‪.)3‬‬
‫ب‪ .‬أما الإِيْمَانُ‪ :‬فهو من الأصلِ (أَمِنَ)‪ ،‬والأمنُ‬
‫النَّفًةْسِ ًا وَزَوَالُ الْخَوْفِ‪،‬‬ ‫طُمَأْنِيْنَةُ‬
‫َّل‬
‫جاءَ‬ ‫َّز‬ ‫َّم‬
‫التي َوَج‬‫ُمَحم للشَّنَّريعةِ َّص َع‬ ‫ويستعملُ الإيْمانُ تار اسْ‬
‫بِ َّنها َّلسَيِّدُنَا الر َّل‬
‫َن ‪:‬‬ ‫قالَر اللهُ‬
‫َص‬ ‫َّسَُنول َه ُد ْادٌ‪َ‬و‪،‬‬ ‫َن َء َمُن ْا َو‬
‫(‪)4‬‬
‫‪‬إ ا ي ا و ا ي ا و ال ا ى ُموالّرًا ا ي ‪‬‬
‫ِبِئباللهِ‬ ‫ويوصفُ ِذ به كلِّ مَن ًةِذ دخلَ في شريعتهِ‬ ‫َّو‬
‫وبنب ‪ .‬ويستعملُ تار على سبيلِ الْمَدْحِِق ويرادُ به‬
‫ِتِه‬
‫(?) طـه ‪.77 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) الجن ‪.11 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) ينظر‪ :‬القرطبي‪ :‬الجامع لأحكام القرآن‪:‬ج ‪ 11‬ص‪ ،220‬ج ‪19‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص‪ ،19-18‬والراغب‪ :‬المفردات في غريب القرآن‪ ،‬والقاموس‬


‫المحيط‪ ،‬ومختار الصحاح مادة (طرق)‪.‬‬
‫(?) البقرة ‪.62 /‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪211‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪212‬‬

‫صديقِ؛َّتْص ْيُقأو‬
‫إذعانًُا النفسِ للحقِّ على سبيلِ التَّ َو‬
‫‪:‬‬ ‫تأسِيس على سبيلِ التَّصديقِ بالتَّسليمِ‪ ،‬ال‬
‫ِد‬
‫والمعتقد بعد منازعةٍ عقليَّة يقومُ‬ ‫َّت‬
‫قَبُولٌ للفكرِ َو ْس ْيُم‬
‫‪ :‬قَبُولٌ للفكرِ والمعتقد‬ ‫لَها الدليلُ‪ ،‬ال‬
‫ِل‬
‫والحكمِ والرَّأيِ من غيرِ منازعةٍ‪.‬‬
‫َضِة‬‫اْل ْب ُث (‪ْ :)2‬فُهو الَّنْه‬
‫ْسَتْنَهَضُه‬ ‫َق‬ ‫َم ُم ُّن َنَهَض‬ ‫َم َح‬
‫لأمرِ‬ ‫َأَق و(ا َوَن )‬
‫َضُتَك َبُن‬ ‫َأْنَهَضُهامَ‪،‬‬
‫يَنْهَضُ مِنْ ُه( ) بِمعنى‬
‫امه؛َن اَأْم َك ‪ :‬و‬ ‫ُم‬ ‫ْلَق‬ ‫لهُ‪ .‬و‬
‫َوَخَدُمَك‬ ‫َمَعَك‬ ‫َأكذاَك أَمَّلَرََنهُ بال‬
‫َيْنَهُض َنو‬
‫ِه ‪ .‬ولم‬ ‫ا ا و‬ ‫و ِض ؛‬ ‫ي ا ي‬
‫ُّسَّن‬
‫الدَّلالاتِ‬ ‫ِر‬ ‫ِب‬ ‫ِئ‬
‫في‬ ‫النَّهْضَةِ‬ ‫تِبَرِدْ ِذ لفظةُ‬
‫النَّصِّيَّةِ من خطابِ الشَّارعِ في الكتاب وال ةِ‬
‫على معنى اصطلاحيّ؛ وقد استعملَها الصحابةُ ‪‬‬
‫والسَّلفُ من بعدِهم يستعملونَها في كلامِهم للدلالة‬
‫على مُرادِهم؛ وِفْقِ المعنى اللُّغويِّ ومعهودِهم في‬
‫الخطابِ بلسانِهم للتعبيرِ عن المقصود‪ .‬وأما في العصرِ‬
‫الرَّاهنِ فقد استعملَتْ للدلالة على التغييرِ‬
‫الجماعيِّ‪ ،‬المصحوبِ بضرورات فكريَّة وعقيديةٍ‪،‬‬
‫واستعملَها غيرُ المسلمينَ للدلالة على التغييرِ‬
‫الجماعيِّ في السُّلطةِ والدولة بدوافع زيادةِ تفوُّقِ‬
‫الفهمِ الماديِّ للعالَم؛ وذلك حسبَ وجهةِ نظرِهم في‬
‫عقيدةِ فَصْلِ الدَّدِّينِ عن الحياةِ‪ ،‬أو عقيدةِ أنَّ‬
‫كل ما يأتِي من خلالِهم‬ ‫العالَم مادةٌ‪ ،‬وا عوا أنَّ ًا‬
‫هو‪ :‬من الأمورِ النَّاهضةِ حصر ‪ ،‬وخاصَّة ما كان ضدَّ‬
‫عاداتِ الأُمم وتقاليدِ الشُّعوبِ‪ ،‬أو على وجهِ‬
‫الخصوصِ ضدَّ الدينِ‪ ،‬أي ضدَّ الإيْمانِ بالله‬
‫للدلالة على‬‫ُل‬ ‫وشرائعهِ‪ .‬ثم شاعَ استعمالُ َّيالكلمةِ‬
‫المعنى الجديدِ في إجرَاءِ أ تغييرٍ يَمي إليه‬
‫الناسُ في آرائِهم وعموم أعرافِهم‪ ،‬بقصدِ الجديد مما‬
‫الكلمة‬
‫ًا‬ ‫يخترعونَهُ من قِيَمٍ وأفهامٍ؛ًا وليس لدلالةًِا‬
‫وِفْقَ هذا الإطلاق معنى محدد ينتجُ مفهوم واضح ‪.‬‬
‫وإنَّما صارتِ الكلمةُ بحُكم الإطلاقات اللَّفظيةِ‬
‫المستعملة للتعبيرِ عن معانِي مُوَلَّدَةٍ يريدُها‬
‫‪213‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫قائلُها‪.‬‬
‫وإذا أخذنَا بالفهمِ الذي ينسجمُ ولغةَ العربِ‬
‫ولسانِهم‪ ،‬فإنَّ المعنى الذي يك ن دلالةً للكلمةِ؛‬
‫والاستعمال المعاصرِ لَها؛ هو‪ِّ :‬و القيامُ بِمسؤولية‬
‫الأمرِ المعيَّن بقصدِ التغيير العامِّ أو الجزئيِّ؛‬
‫مما يوصلُ إلى التغييرِ‪ ،‬أي مما يوصلُ إلى الإصلاحِ‪،‬‬
‫َأَرَأْيُتْمُ‬
‫كان الفساد‬ ‫أي َقْو‬ ‫وإلاَّ كان استمرارُ الواقعِ المنحطَقَِّل َي‬
‫َوَرَزَقى‪  :‬اْنُه ْزا ًا ِمَحَس ًا َوَم‬
‫اللهَرُ تعالَ‬
‫قال ْن‬ ‫البطلانُ‪َ ،‬ب َن‬
‫أو ُك ُت َعَل‬ ‫ْن‬
‫ن ْص َاَحا‬ ‫َّا‬ ‫َعْنُه ْن ُأ ُدق‬‫َأْنَه ُكْم ي‬
‫ُأ ُد نَأْن ُأَخى َفُكْم َل َم ي‬
‫ِر يَّبُب ل ال ل‬ ‫ا ِّي ٍة ِمى ا ِّب ا ِن ِم‬
‫ْسَتَطْعُت‬ ‫َمِإ ي‬
‫هذا كان المفهومُ الِإْمُحِرَ ِإ للنَِّإهضةِ‬ ‫‪ِ)1(‬ل ولِ ِإ‬ ‫ِرا ا‬
‫في نفوسِ الناس‪ ،‬هو التغييرُ الجماعيُّ المصحوبُ‬
‫بدوافعِ الفكر والمعتقد الهادفِ‪ ،‬أي تغييرُ المجتمعِ‬
‫من حالٍ في أفكارهِ ونُظُمِهِ إلى حالٍ أُخرى يرادُ‬
‫فيها التقدُّمًا وإنجازُ أعمالٍ لم يستطعِ المجتمعُ‬
‫إنجازَها سابق ‪ .‬ونَهضةُ الإنسانِ؛ بِهذا المعنى‪ :‬هي‬
‫تغيُّرُ حالهِ مِن فكرٍ ورأي ومعتقدٍ إلى فكرٍ آخر‬
‫ورأي ومعتقدٍ‪.‬‬
‫ويحصلُ هذا للفردِ بسبب تكوينِ القناعات‪ ،‬ويحصلُ‬
‫للمجتمعِ بسبب تغيُّرّيِ الرَّأيِ العامِّ والعُرْفِ‪،‬‬
‫وكِلاَ السَّببين فكر َّوٌ تحكمهُ دوافعُ الإيْمانِ في‬
‫مناخِ أجوائهِ التي كَ نَتْ القناعات‪ ،‬من جهةِ إدراك‬
‫الصِّلةِ بالله أو أنَّها أهملَتْ هذه الصِّلة أو‬
‫أنكرَتْها‪.‬‬
‫والذي يبدُو لنا في استعمالِ كلمة النَّهضةِ‪ ،‬هو‬
‫الاستعمالُ الذي يفرضهُ لسان العربِ للدلالة على‬
‫القيَامِ بِمسؤوليَّةِ العملِ بقصد الإنجازِ‪ ،‬وتحقيق‬
‫الأهداف المرجوَّةِ‪ .‬لِهذا كان التحديدُ الأمثلُ‬
‫لِمفهوم النَّهضةِ؛ هو الاستعمالُ المباحِ الدَّالِّ‬
‫على حقيقتِها في عُرْفِ اللغةِ‪ ،‬ومقتضَى الدَّلائلِ‬

‫(?) هود ‪.88 /‬‬ ‫‪1‬‬


‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫ُّسَّن‬ ‫‪214‬‬

‫الشرعيَّة في الكتابِ وال ة‪ ،‬بوصفِهما مصدرَا‬


‫التشريعِ في الفقه الإسلاميِّ ومرجعيَّة الفهمِ في‬
‫أذهان المسلمين‪ .‬فنجدُ أنَّ حقيقةَ النهضةِ هي‪:‬‬
‫التغييرُ العازِمُ على القيامِ بالأعمال بقصد إنجازِها‬
‫على سبيلِ السُّرعةِ والدقَّةِ‪ ،‬وبطريقةِ التقيُّدِ‬
‫بأحكام الشَّريعةِ الإسلاميَّة على أساسِ عقيدتِها في‬
‫الآخر‪ ،‬فيهيمنُ على هذا‬ ‫ّي‬ ‫الإيْمانِ بالله وباليومِ‬
‫الإيْمانُ الذي يع ِنُ إدراكَ الصِّلةِ‬ ‫التقيُّدَّزِ َّل‬
‫َع َوَج‬
‫وِفْقَ َّيما جاءَ به سيِّدُنا الرسولُ‬ ‫بالله‬
‫مُحَمَّدٌ ‪‬؛ وليسَ أ قيامٍ بعمل ! لِهذا كان‬
‫التغييرُ المطلوب؛ هو التغييرُ الْمُلْتَزِمُلُ‬
‫َوَجََّلمِيَّةِ‪ ،‬التي تص‬ ‫بِأَسْبَابِ الْعَقِيْدَةِ َّز‬
‫الإسْلا‬ ‫َع‬
‫بقصدًاِ العبادة؛‬ ‫والجماعةَ باللهِ‬ ‫ًا‬ ‫الفردَ‬
‫ولِهذا أيض ؛ قد لا يكون التغييرُ ًامحمود ؛ فهو إذن‬
‫المطلوبَّتُ‪،‬‬
‫وهو َقْو َح‬ ‫محمود ُر َم‬
‫َّن‬
‫صحيحة‪ ،‬وقد يكونَهُ َا ُيَغ‬
‫ليسَ بنهضةٍ َّز َّل‬
‫َع َوَج‬
‫ى‬ ‫ا‬ ‫اللهُ َأْنُف ْم ‪  :‬الل ل‬ ‫قال ُر ْا َم‬
‫ُيَغ‬
‫ٍم‬ ‫ِب‬ ‫ِّي‬
‫‪ ‬قال القرطبيُّ‪( :‬أَخْب َرَ اللهُ‬ ‫ِإ‬ ‫(‪)1‬‬
‫و ا‬
‫الآيَةِ أَنَّهُ لاَ يُغَيِّرُ مَا‬ ‫فِِّيي هَذِهِِب ِس ِه‬
‫بِق َوْمٍ حَتَّى يَق َعَ فِيْهِمْ تَغْيِي ْرٌ)(‪ .)2‬كم ا‬
‫غيَّرَ اللهُ بالأنصارِ في المدينة فأقامَ ّيالرَّسُولُ‬
‫سيِّدُنا مُحَمَّدٌ ُأُح ‪ ‬الدولةَ‪ّ ،‬يوكما غ َر اللهُ‬
‫دٍ بسببِ تغ ُرِ ما بأنفسِهم‬ ‫بالمنهزمينَ يومَ‬
‫فانكسرَ الجيشُ‪.‬‬
‫ويلاحظُ أنَّ دلالةَ النَّهْضَةِ غيرُ دلالةِ‬
‫التَّقَدُّمِ في الخطابِ الفكريِّ؛ مع أنَّها قد‬
‫تكونُ شاملةً له‪ ،‬لأنَّ التقدُّمَ ينظرُ في الأسبابِ‬
‫الماديَّة لحركةِ الإنسان في العالَم مثل التراتيبِ‬
‫الإداريَّة والمدنية والتقنيَّةِ الآلية وغيرُها‪.‬‬
‫وتشملُ النهضةُ في دلالتِها هذه الحركةَ وتؤسِّسُها‬
‫على قاعدةِ الفكر والمعتقد والدِّينِ‪ .‬فالنهضةُ فيها‬

‫(?) الرعد ‪.11 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) الجامع لأحكام القرآن‪ :‬ج‪ 9‬ص‪.294‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪215‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫دلالةُ إقامةِ الحياة على قاعدةِ الفكر بقصدِ بناء‬


‫الحضَارةِ‪ ،‬والتقدُّمُ فيه َّي دلالةٌ تختَصُّ بالجانبِ‬
‫بحسبِ‬ ‫ُّش‬ ‫النهضة‬ ‫الماديِّ فحسب‪ .‬وبِهذا َّن يتع نَ مفهومَُّي‬
‫ُؤ‬ ‫َع َي‬ ‫َأَّت ُه َي ٌم َّس َمْسُؤْو‬
‫ال َدو‬ ‫ْلَع‬ ‫ا‬ ‫ا ْلُمَؤ َعَل ْيَم‬ ‫ْغ‬ ‫ِّ‪:‬‬
‫الإسلامي َق‬
‫َط‬ ‫المفهوم ْلَمَص‬
‫َوَتْد ْي‬
‫ىال ِر ا ِة َّقا ي ِن‬ ‫ِب ِل ُّسِة‬
‫الَأْعَم ي ِقَعَلا‬
‫ِب‬ ‫ْس َا َّيا َو اَقْص ْنَجي‬
‫َعًة‬
‫َس ِسي ال ِإ ِنال ِب ِقا ِة‬
‫َط‬ ‫َو‬ ‫ْرَع‬
‫ال اِي ِر ى‬ ‫ال ِبلِرَّز َّل ِلِح ِب ِر ا ِة‬
‫ْلَيْو‬
‫ِّد ِة‬ ‫ِة‬ ‫الآِل ‪.‬‬ ‫ِب ِل‬ ‫للِإ َع ِم ِةَوَج ِبَواْحِد َس ِإابًا ِز‬
‫ِخِر‬ ‫ِل ِم‬ ‫ِت‬ ‫ِه‬
‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ :)3‬م ْفُهوُم اْلَك ْو ِن ‪:‬‬
‫ْلَكْوُن‬
‫ا ‪ :‬إنَّ دلالةَ الكونِ في اللغة واللِّسانِ‬
‫أكثرُ شُموليَّةً من دلالتِها في الاصطلاحِ‪ ،‬فالذي‬
‫يتبادرُ إلى الذِّهنِ عند إطلاقِ لفظ الكونِ هو‬
‫مجموعُ الأَجرامِ السَّماويةِ‪ ،‬وكذا عندَ إطلاقِ لفظ‬
‫الحياةِ بأنه ذاكَ المظهرُ الفرديُّ للكائناتِ في‬
‫النمُوِّ والحركةِ والتكاثر‪ُ،‬ي وكذا الإنسانُ هو هذا‬
‫الكائنُ البشريُّ‪ .‬والذي ًة لاحَظُ أن الكونَ َحَدُثفي‬
‫َوَكَّوَنفالكونُهُ‪ :‬الْ‬
‫َأْشَي َء ‪.‬‬ ‫للفكرِ؛‬ ‫َّو‬
‫أكثرَُنُهسع َأْحَدَثُه‬
‫واللسانَثُة َوَك‬‫َح‬ ‫َواللَكُّغةَنُةِ‬
‫الل ال ا ‪:‬‬ ‫‪.‬‬ ‫َأْوَجَدَها ‪ :‬ال ا ‪.‬‬ ‫ال‬
‫ا‪ .‬والكونُ واحدُ الأَكْوَانِ‪ ،‬ويطلقُ ويراد به‬ ‫ِد‬ ‫ِئ‬
‫جميعُ الأشياءِ الحادثة من الجماداتِ والنباتات‬
‫والأحياءِ غير العاقلةِ‪ ،‬ومع أن الإنسانَ يدخلُ فيها‪،‬‬
‫ولكنه تَمَيَّزَ بعقلهَِّص فخرجَ إلىما يُمَيِّزَُعهَّزُ‬
‫اللهُ‬ ‫فََّلخُ صَ بالذكرَّسِ لما اختُ به من العقلِ‪ .‬قال َّن‬
‫َيُق ُل‬ ‫َم‬ ‫َمَو َو َأْر َو َذ َقَض َأْم ًا َف‬ ‫َوَج ِّص َب ُع‬
‫َع اَّز َوَجىَّل رَق َلْت َرا َأَّن و‬ ‫َفَيُك ُنال ا ال‬ ‫َل ُه ‪ُ :‬كْن‪ ‬ي‬
‫ِإ‬ ‫َبَشٌر َق َل َكَذ ‪  :‬ا‬ ‫ِإ‬ ‫ِض‬ ‫ِت‬ ‫َيُك ُن ِد و‬
‫َيْخُلُق ىَم‬ ‫َيْمَسْس الل هُ‬
‫َوَلٌد ‪َ‬وَلْم وق ال‬
‫(‪)1‬‬
‫ُه‬
‫ا‬ ‫الل ِّب‬
‫ُن‬ ‫َفَيُك‬ ‫ُكْن‬ ‫ُه‬ ‫َل‬ ‫َيَشو ُء يَذ َقَض َأْم ًا َف َّنَمي َيُق ُل ا‬
‫َأْرَض‪ )2‬وق َحال‬ ‫(‬
‫َخَلَق َّسَمَوِلِك َو و ‪‬‬ ‫ا ِل َعاَّز َوَجىَّل رَوُهَو ِنَّل ا و‬
‫َيْوَم ُيْنَفُخال‬ ‫ال اُمْلُك ال‬ ‫ِإا ي ُّق‬ ‫اللهُ ِإَيُق ُل ُكْن ‪َ:‬فَيُك‪‬‬
‫َوَلُه‬ ‫َح‬ ‫ُلُه‬ ‫ُق‬ ‫ُن‬ ‫َوَيْوَم‬
‫ُّص‬
‫َعو ُم َغْيو َو و َشِذ َهالَد َوُه َو الَحِت ُم َخ ِبُر ِّقي‬
‫(‪ِ3‬ف)‬
‫ال ي ال ي ‪‬‬ ‫ال ا‬ ‫ا ال‬ ‫ال و‬
‫ِب‬ ‫ِك‬ ‫ِة‬ ‫ِب‬ ‫ِل‬ ‫ِر‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪ )2‬آل عمران‪.47 /‬‬ ‫(?) البقرة‪.117 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫الأنعام‪.73 /‬‬
‫(‪ )4‬الأعراف‪.54 /‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪216‬‬
‫فنجدُ من دراسةِ دلالة لفظ الكونِ في َّزالنص َّل‬
‫ِّ‬ ‫َع َوَج‬
‫الحدثُ الذي أوجدَهُ اللهُ‬ ‫ْيَجقُرْآنِيِّ أنهَوَأْمُرُه‬ ‫الْ‬
‫فيها بأن تكونَ كما أمرَ‪ ،‬وأن‬ ‫َيْظَهَرا الأشياءِ‬
‫ِبِإ ِدمنها هذا الوجودُ المحسوس من النَّسَقِ المخصوصِ‬
‫من‬ ‫َّن َّب‬ ‫َّز َّل‬
‫فذاكَ ُه‬ ‫بينَها ثم َّسالوضعُ المعيَّنُ َعَّتفيهَوَجَّي لَها‪َّ.‬م َر ُكُم‬ ‫َّل‬
‫َأ ‪ُ :‬ثِإ َّش ْسَتَو َعَل‬
‫الل‬ ‫والأمرِ َوقالَأْرَضاللهُ‬
‫َّن‬ ‫َمَو‬ ‫َخَلَقِ‬
‫الْخَلْق‬
‫َيْطُلُبُه َح اًا َو اْمَس َوى َقَمَرى‬ ‫الَه َر ي‬ ‫ا َعْري ُيْغ ال َّل ا‬
‫ْيَل‬
‫ٍم‬ ‫ِف ِس ِة‬ ‫ي َّخ ا ِت‬ ‫ِذُّن‬
‫ال َرَك‬‫َأْمال ا َأ َا َلُه ِثيثَخْلُق َوال َأْمُر َتَب‬ ‫َوال ُجِش َم ُّب ِشُمَس َر‬
‫ا‬ ‫ال‬ ‫ال‬ ‫َع ا َل َن ‪ ،‬ل‬ ‫ال ُه و َر‬
‫ال ا ي ‪ . ‬ف الوجودُ ه و أث رُ الْخَل ْقِ‬ ‫ِرِه‬
‫ٍت ِب (‪)1‬‬
‫الل‬
‫والأمرِ‪ ،‬فخًاَلَقَ اللهُ الأشياءَ بعينها فتميَّزت‬ ‫ِم‬
‫ًا‬
‫وجود عينيّ من بعدِ عدمٍ‪ ،‬وأمرَ فيها أقواتَها‬
‫وخواصَّها بأن حَكَمَ فيها بأمرهِ فقضَى بقولِ كُنْ‬
‫فكانَ‪ ،‬وظهرَ الوجودُ الكونِيُّ بِهذا النَّسَقِ‬
‫المخصوصِ في الأشياء على وضعِها المعيَّن المعروفِ‬
‫للإنسان وما يظهرُ منه للعقلاءِ باستمرار‪ .‬فتميَّزَ‬
‫الوجودُ الكونِيُّ في السَّمواتِ والأرض في انتظامِ‬
‫الأمرِ المفروض عليها‪ ،‬فالمادةُ‬ ‫المادة بنظامٍ وفْقَ ّي‬
‫محكومةٌ بقانون يس ِرُها‪ ،‬وتَميَّزَ الوجودُ‬
‫الإنسانِيُّ بالبشرِ؛ وهو هذا الكائنُ الحيُّ الذي‬ ‫ّس‬
‫يح ُ ويشعر ويفكِّرُ‪ ،‬وتَميَّزَ الوجودُ الحياتِيُّ‬
‫بِما يظهرُ في الوجودِ كله من النمُوِّ والحركة‬
‫والتكاثرِ في هذا النَّسقِ المخصوصِ وبالأوضاع‬
‫المعيَّنة المعروفة في الأشياءِ فتباركَ اللهُ أحسنُ‬
‫الخالقينَ‪.‬‬
‫اْلَم ْبَح ُث (‪ِ : )4‬في َد َالَلِة اْلِفْك ِر َع ِن اْلَحَياِة الُّد ْنَيا‪:‬‬
‫َي‬ ‫ُه َلُكُم‬ ‫َكَذ َك ُيَب ُن‬ ‫ُّد‬
‫الآ ا‬ ‫الل‬ ‫تعالى‪ْ:‬نَي ‪‬‬ ‫َّل قال َّك‬
‫اللهَنُ‬
‫تعالى‪ِ:‬ت‬ ‫(ِّي‪)2‬‬
‫َر‬ ‫َلَع َّلُكْم َتَتَف ُرو ي ال ا ِل‬
‫َو‬
‫َّك‬ ‫اللهُ‬ ‫وقال‬ ‫‪‬‬
‫َوُقُع ِةًا َوَعَل ُجُن ْم‬ ‫الآ‬ ‫َن َيْذُكُرَّس َن ِف َه َي ًا‬
‫َوَيَتَف ُر َن‬
‫َّتىْف ُرو َو َّتَفُّك ُر و‬ ‫ِخ ود‬ ‫و َمَو الل َو َأْرام‬ ‫‪‬ا ي‬
‫َخْل‬
‫الِقْكَر ‪ )3(‬وينتج ال ي ِبِه ال‬ ‫ال اَّن‬ ‫ي ِذ‬
‫ِك‬ ‫ًا‬ ‫ْكَر‬
‫التأمُّلِ في حصولِ‬ ‫ال ِض هو تَمام‬ ‫ِقحتم ‪ ،‬لأ ِت‬ ‫ِفال‬
‫ِف‬ ‫‪ِ 2‬ف‬
‫(?) البقرة ‪ 219 /‬و‪.220‬‬
‫‪1‬‬
‫‪217‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫المعنىُر في الذِّهنِ‪ .‬وفي اللغة يطلقُ الفكرُ ويراد به‬ ‫َّت ُّك‬
‫َف‬
‫(ال ) أي التأمُّلُ وجَاْلَوَْكُرلانُ النَّظرِ والبحث عن‬
‫) وهو إعمالُ النظرِ َّص‬
‫في‬ ‫منه (‬
‫ِف‬ ‫المطلوبِ‪ ،‬والاسمُْل ْكَرُة‬
‫) ويراد بِها القوَّةُ التي خَ‬ ‫الأشياء؛ وكذا (ا‬
‫الله بِها ذهنَ الإنسانِ لتحصيل العلمِ وتفسير‬ ‫ِف‬
‫المعلوم به‪ ،‬وعلى هَذا؛ فإنَّ الفكرَ؛ والتفكُّرَ‬
‫بِمعنى واحدٍ؛ وهو جَوَلانُ تلك القوَّةِ الخاصَّة‬
‫معلومة‬ ‫لذهنِ الإنسان بحسب نظرِ العقل ًافي أمورٍ ًا‬
‫َبَأْسَمَافي َهُؤ َاعن‬
‫جهولُئ أو خ‬ ‫لتؤدِّي إلىتفسيرِ أمر كان مَ َأْن‬
‫ل‬ ‫َّا‬ ‫ا‬ ‫المتفَكِّرِ‪ .‬قالَ اللهُ تعالى‪ :‬و ي‬
‫ْنَّل ُكْنُتْم َّنَصا يَن‪َ ،‬قاُلوْا‪ُ :‬سْبَحاَنَك لِبَا ِنْلَم َلَنا ِء ل َماِء‬
‫َك ِدِقَأْنَت ْلَع ُم ْلَح ُم َق َل ِع َي َدُم ِإَأْن ْئُهْم‬ ‫ِإَع ْمَتَن‬
‫ا ي ا ي‪ ،‬ا‪ :‬ا آ‬ ‫ا‬
‫ِّهن‬‫َأْس َما ِإْم‪ )1(‬ف الفِكِْلرُ ج َوِكَلانُ العلمِ في ال ذ ِب‬
‫إلىَفُّكمعنى الخبرِ وفائدته‪ ،‬وهذا‬ ‫ِئِه واقعٌ ليَصِلَ َّت‬
‫ُم‬ ‫ْكُر‬ ‫ِببِما له‬
‫في حقيقةِ أمر الدُّنيا‬ ‫الاس ل‬ ‫المعنى هو ال‬
‫ِل ِر‬ ‫ِف‬ ‫والآخرةِ‪.‬‬
‫ُر‬
‫ولِهذا كانَ الفك جَوَلان العلمِ في الذهن بِما‬
‫لهُّد واقعًٌا‪ ،‬ولا يكونُ غيرَ ذلك‪ ،‬فما ليس له واقعٌ لا‬
‫يع فكر ‪ ،‬ويتأتَّى جَوَلانُ الواقعِ في الذهن بقصدِ‬
‫إصدار الحكم عليه‪ ،‬وبِما أُوْتِيَ الإنسانُ فيه من‬
‫علمٍ‪ ،‬قال الراغبُ في المفرداتِ‪( :‬وَذَلِكَ‬
‫لِلإِنْسَانِ دُونَ الْحَيْوَانِ‪ ،‬وَلاَ يُقَالُ إلاَّ‬
‫فِيْمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ صُورَةٌ فِي‬
‫الْقَلْبِ)‪ .‬أي لِما يُمكِنُ أن يتمثَّلَ في الذهنِ‬
‫فلا يصحُّ إطلاقُ الفكرِ على ما ليسَ له واقعٌ‪ ،‬لأنه‬
‫خيالٌ‪ .‬ولا فيما لا يدرَكُ واقعهُ؛ لأنه تخمينٌ أو‬
‫الأثرَتَفَِّكُرعنْا ابنَِذ عبَّاس قال‪[ :‬‬ ‫ولقد َاجاءَ في َو َا‬ ‫وَتَفََّكهُرْمْاٌ‪.‬‬
‫و يَف َّنآلُكْم َلْناللَتْق ُر لْا َلُه و ي ا الل ] وفي‬
‫ِه‬ ‫ِت‬ ‫](‪ِ .)2‬ف‬ ‫ِه و‬ ‫ِء‬ ‫الأثر‪ِ[ :‬ف‬
‫ِد‬ ‫ِإ‬
‫(?) آل عمران ‪.191 /‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?) البقرة ‪.33-32 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) عن ابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال‪ :‬قالَ رسولُ‬ ‫‪2‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪218‬‬

‫ويتأتَّى الفكرُ بالبحث والنظرِ والدَّرسِ؛ أي‬


‫يتأتَّى الفكرُ في الذهنِ بإعمال النظر في الأشياءِ‬
‫مع وجود العلم بقصدِ الوصُول إلى المعانِي‪ ،‬أو تحصيلُ‬
‫الْحُكَْقْومُ‬ ‫َّن‬
‫هو َي‬ ‫حقيقتِها‪ .‬ومعنى هذا أنَّ الفكرَ َذ َك‬
‫لآ ا‬ ‫ي‬ ‫علىالواقعِ‪ ،‬قال اللهُ تعالى‪ :‬‬ ‫َّك‬
‫َأَي ا ٍم‬
‫َيَتَفَّل ُروَن‪َّ )1(‬كوق ال الل هُ تع الى‪ِ  :‬إُيَب ُنِف اللِلُه َلُكُم ٍتال ِل‬
‫َلْيَك‬
‫ِت‬ ‫َوَأ َزْلَن‬ ‫ِّي‬ ‫َلَع ُكْم َتَتَف ُروَن‪َّ )2(‬ن‬
‫تعالى‪َّ :‬ل‪ ‬ن اَّك‬ ‫ُ‬ ‫الله‬ ‫وقال‬
‫َم ُن َل َلْي ْم َوَلَع ُهْم َيَتَف ُر َن‬ ‫ْكَر ُتَب َن‬
‫و ِإ‪.)3(‬‬ ‫ا‬ ‫لا‬ ‫ال‬
‫فدلالةُ النُّصوصِ صريحةٌ في استعمالِ العلم‬ ‫ِه‬ ‫ِإ‬ ‫ِّز‬ ‫ِس‬ ‫ِل‬ ‫ِّي‬ ‫ِل‬ ‫ِّذ‬
‫الضروريِّ؛ أو المعلومات البدهيَّة‪ ،‬أو العلمِ‬
‫الشرعيِّ لبيان َّك حقيقةِ الأمُورِ‪ ،‬أي َّكأمور الدُّنيا‬
‫َو َا َتَف ُر ْا‬ ‫َا‬ ‫َتَف ُر ْا‬
‫و ي الل َعَّز]‬ ‫و ي آل الل ل‬ ‫اللهِ ‪[ :‬‬
‫رواهُ البيهقي في شعبِف الإيِْءمان‪ِ :‬هباب في الإيْمانِف باللهِه‬ ‫َّل‬
‫َوَج‬
‫‪ :‬الحديث (‪ .)120‬وقال‪ :‬هذا إسناد فيه نظر‪ .‬وفي الأسماءِ‬
‫والصفات عند ابنِ عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا‪ :‬باب ما ذكر‬
‫في الذات‪ :‬ص‪ :283‬قال الهيثمي‪ :‬عن ابن عمر رضي الله عنهما‬
‫قال‪ :‬الحديث؛ رواه الطبراني في الأوسط وفيه الوازع بن نافع‬
‫وهو متروك‪ .‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ :‬باب التفكر في‬
‫الله‪ :‬ج ‪ 1‬ص‪ .81‬ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء عن شهر‬
‫عن ابنِ عبَّاس‪ :‬خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ‪ ‬عَلَى نَاسٍ مِنْ‬
‫َتَتَفَِّكيُر َنخَلْقِ اللهِ !‬ ‫أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَفَكَّرُ َمونَ ف‬
‫َا و ُتَف ؟ُرْو ] قَالُوا‪:‬‬ ‫فَقَالَ رَسُولُ اللهِ‪ [ :‬ي‬
‫ا َّكي الل‬ ‫َخْلي اللهَِّك! قَالِفَ‪ [ :‬ل‬ ‫َوَتَفتَّكَُرفَْاكَّرُ فِ‬
‫نَ‬
‫‪ْ .67‬ا ِه‬
‫قال‬ ‫ِف‬ ‫ص‬ ‫‪6‬‬ ‫ِّك‬ ‫ج‬ ‫الأولياء‪:‬‬ ‫حلية‬ ‫]‬ ‫الل‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫َو َا َتَف ُر‬ ‫َخْل‬ ‫َتَف ُر ْا‬ ‫خاوي‪َّ:‬نِفُكْم َلْنِق‬
‫و ي‬ ‫الل ل‬ ‫فقال‪َ[ :‬تْق ُرِه وَقْدَرُهي‬ ‫السَّ َف‬
‫ِف‬
‫إسرافيل‬ ‫الحديث ِهوفيه ذكر‬ ‫ِق‬ ‫]‬ ‫ِف‬ ‫وا‬ ‫الل ‪،‬‬
‫وللطبرانيِإ َّكفي الأوسطِد والبيهقي في َّك‬
‫الشعب من حديث ابن عمر‬ ‫َو َا َتَف ُر ْا‬ ‫َا‬ ‫ِه ًا َتَف ُر ْا‬
‫و ي الل ] أسانيدها‬ ‫موقوف [ و ي آل الل ل‬
‫صحيح‪ .‬إنتهى‪.‬‬ ‫والمعنى ِه‬ ‫ِف‬ ‫يكتسب قوة؛‬ ‫ِه‬ ‫اجتماعها ِء‬‫ِف‬ ‫ضعيفة؛ لكن‬
‫المقاصد الحسنة‪ :‬الحديث (‪ )342‬ص‪ .173‬قال ابن حجر‪( :‬وقد‬
‫ترجمََّك البيهقيُّ في الأسماءِ والصفات ما جاء في الذاتِ‪،‬‬
‫المتفقِْا عليه‪َ .‬ذ ‪ ..‬وحديث ابن عباس‬ ‫هريرةَوَ َا ُتَف ُر‬ ‫وأوردَُر ْاحديث أبُكِي َشْي‬ ‫َتَف‬
‫و ي ا الل ] موقوفٌ‬ ‫ل‬ ‫و ي‬ ‫[‬
‫البخاري‪ :‬شرح‬ ‫صحيح ِه‬ ‫الباري ِفشرح ِت‬ ‫نتهى‪ :‬فتح ِّك‬ ‫وسنده جيِِّفدٌ) ِّلا ٍء‬
‫الحديث (‪ :)7402‬ج ‪ 13‬ص‪.472‬‬
‫(‪ )2‬البقرة ‪.266 /‬‬ ‫(?) الرعد ‪ 3 /‬وغيرها‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(‪ )3‬النحل ‪.44 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫‪219‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫َّت ُّك‬ ‫وأمورَّم الآخرةِ‪.‬‬


‫َف ُر‬ ‫ْكُر‬
‫في‬ ‫عن الحياةِ الدُّنيا فهو ال‬ ‫أ ا ال‬
‫بالمفهومِ‬ ‫الدنيا‬ ‫والحياةُ‬ ‫الدنيا‪،‬‬ ‫ِف‬ ‫الحياةِ‬
‫الإسلاميِّ‪ :‬هي ما يقابلُ الحياةَ الآخرة‪ ،‬أو هي‬ ‫َّل‬
‫الْمَحُّدْْنَيضَةِ‪،‬‬ ‫َة‬ ‫لذاتِها‬
‫ْلَحَي‬ ‫َثَر‬ ‫َو‬ ‫والرغبات‬
‫َطَغ‬ ‫َمْن‬
‫ال ذاتُ والشَّهواتَُّم‬
‫َفَأ‬ ‫ُه َتَع َل‬ ‫َق َل‬
‫(‪َّ1‬ا)‬
‫ى‪ ،‬آُّدْنَي ا ا ال َر ا‪‬‬ ‫َوَم ْلَحَي ُة‬ ‫ا‬ ‫‪‬‬ ‫‪:‬‬ ‫ى‬ ‫ا‬
‫ُه َتَع َل‬ ‫الل‬ ‫َوَقا َل‬
‫ل‬ ‫ا ى‪  :‬ا ا ا ال ا ّصي الآ‬ ‫َمَتا ٌع الل‬
‫ِإ‬ ‫ِة‬ ‫ِخ‬ ‫ِف‬
‫ا ‪ )2(‬فالحي اةُ ال دنيا في دلال ةِ الن َين الأغ راضُ‬
‫الدُّنيويَّةُ؛ وهي ما يتحركّيُ به الوجدانُ الشعوريُّ‬
‫في البقاء والنَّوعِ والتد ُن أو إشباع الجوعاتِ‬
‫العضوية‪ .‬وكلُّ تَفَكُّرٍ في هذا المتاعِ هو ًافكرٌ عن‬
‫الحياةِ الدنيا‪ ،‬أي كلُّ تَأَمُّلٍ ينتجُ أفكار تحلُّ‬
‫مشكلاتِ الإنسان الغذائيَّة؛ أو الصحية؛ أو‬
‫الاجتماعيةِ؛ أو الاقتصادية؛ أو السِّياسيةِ أو غيرِها‬
‫الإنسان والجماعةِ؛ فهي أفكارٌ عن‬ ‫َّو‬ ‫من متعلَّقات‬
‫الحياةِ الدنيا‪ .‬فتتك نُ من جرَّاء التفكيرِ في هذا‬
‫المتاعِ أفكارٌ وآراء وأحكامٌ عن الأشياءِ‪ ،‬أو عن‬
‫نظامِ ترتيبِها في سلوكِ الناس؛ فمجموعُ هذه الآراءِ‬
‫الدنيا‪،‬‬
‫الحياةِ َو َأْحَك‬‫َر‬ ‫والأحكام والنُّظُمِ هو فكرٌُهَو عن‬
‫َمْجُم ُع‬
‫الدنيا‪ُ :‬مَعَّي َوَط و َق الآ ا ال ا‬ ‫َنَم‬ ‫َأْشَي‬‫الحياةِ‬ ‫َن‬ ‫ْنَس‬ ‫َتْرُبُط عن‬
‫فالفكرُ‬ ‫َّل‬
‫فيعيِّنُ ِم‬
‫هذا‬ ‫ِء‬ ‫يًا ‪.‬‬ ‫ال ا ال ا‬ ‫ا ي‬
‫ًا‬ ‫ّدًا‬ ‫ٍة‬ ‫ِر‬ ‫ٍن‬ ‫ٍط‬ ‫ِب‬ ‫ِء‬ ‫ِب‬ ‫ِإ‬ ‫ِت‬
‫للإنسان كيفَ يتعاملُ معها أخذ أو ر ‪ ،‬فِعل‬ ‫الفكرُ ًا‬
‫أو تَرْك ‪ ،‬فبالفكرِ عن الحياةِ الدنيا يتعيَّنُ رأيُ‬
‫الإنسانِ وموقفه تجاهَ الأشياءِ والأفعال‪ ،‬فيظهرُ‬
‫سلوكه بأجواءِ مشاعر الرِّضا أو الغضبِ بحسب إدراكهِ‬
‫ووعيه لَها‪.‬‬
‫بإطلاق؛ فإذا‬ ‫ًا‬ ‫والفكرُ عن الحياةِ الدنيا من الفكرِ‬
‫اعتمدَ الإنسانُ في تقريرهِ العقل أساس للنظرِ‬
‫والبحث والدرسَّسَِس؛كان هذا الإنسانُ علىغيرِ هُدًى من‬
‫اللهِ‪ ،‬وإذا أ بنيانَ فكرهِ عن الحياة الدُّنيا على‬
‫أساسِ العقيدة الإسلامية وقاعدتِها الفكريَّة في‬
‫(‪ )5‬الرعد ‪.26 /‬‬ ‫(?) النازعات ‪.38-37 /‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫ُّن‬ ‫‪220‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ُظ‬
‫التشريعِ وسَ ال ‪ ،‬كان هذا الإنسانُ مهتدي قطع ؛‬
‫الرسولِ مُحَمَّدٍ ‪‬‬ ‫ُد‬ ‫َتْهَت‬‫لأنه مُت ُهَّبَِتَععِّنٌ َللسُنِمَوَّةْنِ ُتسي ُعِّدُهِنا‬ ‫َق َل‬
‫وا‪ .)1(‬لِه ذا ك ان‬ ‫ي و‬ ‫ا ى‪ :‬‬ ‫ا الل‬
‫الدنيا في الإسلام هو الأحكامُ‬ ‫الفكرُ عن الحياةِ ِإ ِط‬
‫ُّو‬ ‫ّظ‬
‫المجتمعَِتَع َلعلى‬ ‫ُه‬ ‫في‬
‫َّن َق َل‬ ‫الناس‬ ‫َ‬ ‫حياة‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫الشرعية التي تُنَ‬
‫وجميع ُتَبتنَن عاتِها َما ُناللَل َلْيا ْمى‪:‬‬ ‫كافَّة ْكَر‬ ‫المستوياتِ َلْيَك‬
‫َوَأ َزْلَن‬
‫‪‬‬ ‫ا‬ ‫لا‬ ‫ال‬ ‫‪ ‬ن ا‬
‫نيا؛ ِه هو‬ ‫الحياةِ الدِّزُّ ِإ‬ ‫وباختصارٍ ِإفإنَّ ِّذالفكرَِل ِّيعن ِل ِس‬
‫مجموعُ الآراء والأحكامِ التي تتعلقُ بإشباعِ الإنسان‬
‫لجوعاته العضويَّة والغريزيةِ‪.‬‬
‫ولقد أدركَ الصحابةُ التفكيرَ في الحياةِ الدنيا‬
‫رجلَلٍ‬ ‫حمن َيعن َرُس‬ ‫الرَّ‬
‫َرُجٌل‬ ‫عبدَقِ َل‬ ‫قِبَالَةَ الآخرةِ‪ ،‬عن حميدِ بن‬
‫َّك‬ ‫َّر‬
‫قال‪ُ [ :‬جُلاَّش َّر َفَف َّل ‪ْ:‬رُت اْيَن َق وَل‬ ‫الله ‪‬‬
‫َتْغَضْب َق َل‬ ‫أصحابِ رسَُقولَلِ َا‬ ‫منَّن ُّي َأْو‬
‫ا‬ ‫ال ‪ُ :‬ك ُه‬ ‫ْلَغَض ُب اَيْجَم ُع‬
‫‪.‬‬ ‫اللِه؛ َمِصِني؟َق َلا ‪َ :‬ف ل َذ‬
‫ِح‪)2‬‬
‫وفي‬
‫] َيْو ًا‬
‫(‬
‫ال ُل‬‫َّي َرُس‬ ‫‪ ‬ا اَق‪َ،‬ل َفَقاَل ا‬ ‫ال‬
‫ربيعةَ ا ‪َ(:‬لُه ا َو ْدَمي– أيُْه و َسْلالل َي‪َ -‬ر مْيَعُة؛‬ ‫ِإ‬ ‫َّف‬ ‫ِب‬
‫َّم‬ ‫ِه‬ ‫ِل‬ ‫حديثَِيَر ْن‬ ‫َم‬
‫ِبُّد ُث‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫[‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ى‬ ‫ا‬
‫!‬ ‫الل‬‫َأْم ي َيا َرُسوِنَل َّن‬ ‫َفُقْلُت‪َّ :‬كَأْنُظُرِخ ِتي ِإ‬ ‫ِلُأْع َك؟ ] َقِماَل؛ ِخ ِت‬
‫َفَعَرْفُت َأ ِه ْنَي‬ ‫ُأْعِطُمَك َذ َك‪َ .‬قاَل‪َّ :‬نَفَف ْرُت ِفي َنْفِر‬
‫َوَيْأال ْي ا‬ ‫ي؛‬
‫ِفْيَه ِسْز ًا َسَيْك ْي‬ ‫ُمْنَقِل َعٌة َزِل َلٌة َوَأ‬
‫ي‪.‬‬ ‫ي‬ ‫ِر َر‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫َق َلِط َفُقْلُتاِئ َأْس‪َ ،‬أُل َرُس ِلَل‬
‫ِن‬ ‫ِت‬ ‫ِف ِن(‪)3‬‬
‫و الل ‪ ‬لآ ي ‪ )...‬وبِه ذا‬ ‫ِف‬ ‫‪:‬‬ ‫ا؛‬
‫ِت‬
‫يتوجهُ الفكر عن الحياةِ الدنيا عند المسلمِ إلى‬ ‫ِخ‬ ‫ِه‬
‫َوَجَّلها بطريقةٍ‬ ‫يركبُ‬ ‫الآخرة؛ باستخدامِ الدُّنيا مَطِيَّةً َّز‬
‫َع‬
‫َو ؛ْبَت على َمأن‬ ‫شرعية وبقلبٍ سليم مُنيبٍ إلى اللهِ‬
‫تعالى‪ُّ :‬داْنَي َوَأْحي ْنا‬ ‫ْن‬ ‫َبَك‬ ‫نياَس َنقال‬ ‫َت‬ ‫ُّ‬
‫َا‬ ‫الد‬
‫َو‬ ‫َرَة‬ ‫نصيبََرهُ من‬ ‫َّد‬
‫لا َكينسَىُه‬ ‫َت‬
‫ال اِغ ِف‬ ‫ل ن ي‬ ‫آ ا الل ال ا الآ‬
‫ِس‬ ‫ِم‬ ‫ِص‬ ‫ِخ‬
‫(?) النور ‪.54 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه الإمام أحمد في المسند‪ :‬جـ‪ 5‬ص‪373‬؛ قال‬ ‫‪2‬‬

‫الهيثمي‪ :‬رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح‪ :‬مجمع الزوائد‬


‫ومنبع الفوائد‪ :‬باب ما جاء في الغضب‪ :‬ج ‪ 8‬ص‪.69‬‬
‫(?) رواه الإمام أحمد في المسند‪ :‬ج ‪ 4‬ص‪ ،59‬ورواه مسلم‬ ‫‪3‬‬

‫وأبو داود والنسائي من حديث الأوزاعي‪ ،‬والترمذي وابن‬


‫ماجه من غير تفصيل‪ .‬وينظر‪ :‬جامع المسانيد والسنن لابن‬
‫كثير‪ :‬ج‪ 4‬ص‪ :256‬الحديث (‪2631‬و‪.)2632‬‬
‫‪221‬‬
‫َّن‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫َه‬ ‫َأْر‬ ‫ُه َلْيَك َو َا َتْب ْلَفَس َد‬ ‫َأْحَسَن‬
‫َكَما ُّب‬
‫الل‬ ‫ا ا ي ال‬ ‫ل‬ ‫الل‬
‫ْلُمْف َن‬ ‫َا ُي‬
‫ي ِإ‪)1(‬؛ ولكنَِّغ الإنسانَ ِف يحتاجُ ِض منِإ نفسهِ‬ ‫ا‬ ‫ل‬
‫العزمَ على الطاعة؛ فالذي يعزمُ على طاعةِ الله‬ ‫ِسِد‬ ‫ِح‬
‫ويُمارس الصدقَ في ذلك يَصِلُ بإذن اللهِ‪.‬‬
‫َّو‬ ‫أفكاٌر َّل‬
‫تتعلُق بالَّتَر ُّك ِز اْلُم نِتِج‪:‬‬ ‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ )5‬فاِئَد ٌة‪َّ :‬ز‬
‫َتْيَنَّت ُكْم ُق َو ْذُكُر ْا‬ ‫ُخُذ ْا َم َء‬ ‫َّل َعَّت َوَج‬
‫ا و‬
‫ٍة‬ ‫ُكْم َت ُق َن ‪ )2( :‬و َأْخ اُذ ا اَن ِبُوُل‬ ‫اللهُ‬ ‫َم قال َلَع‬
‫‪ :‬ال ا ‪ ،‬ويحت اجُ‬ ‫و ‪ ‬وال‬ ‫اي‬
‫التناول القوةَ إذا تطلَّبَ الأمرُ منه ْلَعْزُمالنقلَ‬ ‫ِه‬ ‫ِف‬
‫على‬ ‫والأداء؛ ومن ضروراتِ القوَّة في التناولِ ا‬
‫هو َلفي‬ ‫كما َتَع‬
‫وإمضاؤه ُه‬ ‫الأمورِ‪ ،‬أي عقدَِّك القلب على الأمرِ َق َل‬
‫ا ى‪:‬‬ ‫َفَتَوِ ْلبه َعَلوالمحافظة عليه‪ ،‬ا الل‬ ‫بالقيام‬ ‫حقيقتهِ‪َ،‬ع َزْمَت‬‫َف َذ‬
‫الأخ ذَلُ‬ ‫ُ‬ ‫ق‬
‫َوَلَقْد َع ْدَن‬ ‫يتف‬ ‫فلا‬ ‫(‪)3‬‬
‫‪‬‬
‫ُهِه َتَع َل‬ ‫الل‬ ‫ى‬
‫َق َل‬ ‫ا‬ ‫‪‬‬
‫ا َأْيى‬ ‫الل َعْزًم ا ى‪ :‬‬ ‫ِإ‬
‫الراغبُ‪ِ( :‬إ‬
‫ِه‬ ‫َوَلْم َنا ْد َلُه‬‫العزمِ‪،‬‬ ‫دون َفَن َي‬ ‫بقوَّةْنٍ َقْبُل‬ ‫َدَم‬
‫قال‬ ‫(‪)4‬‬
‫‪‬‬ ‫ا‬
‫ِج َوَع َمًة َعَل ْل َي‬ ‫َفَظًة َعَل َم ِس ُأ َر‬ ‫آُمَح‬
‫ى ا ا )‪ .‬لِهذا كان‬ ‫ي‬ ‫‪،‬‬ ‫ى ا‬ ‫ِم‬ ‫ا‬
‫ِم‬ ‫ِق‬
‫لا بدَّ من العزمِ حين إرادة التغيير من نفسِ المرء‬ ‫ِز‬ ‫ِبِه‬ ‫ِم‬
‫ولا ينتظرُ ذلك من غيرهِ؛ وأن يتوجَّهَ إلى مباشرةِ‬
‫الأمور بنفسهِ‪َّ .‬ت‬ ‫َّم‬
‫َو َأْخ‬ ‫َن ُو‬ ‫َمْوُض ُع‬ ‫َأ‬
‫ال ‪ :‬فهو الرسالةُ وبيان‬ ‫و ال ا‬ ‫ا‬
‫ِذ‬
‫ُمَح؛ أي التزام المكلَّفِ هَدْيَ سيِّدنا‬ ‫ِل‬ ‫َّم‬ ‫الرَّسُولِ‬
‫في‬ ‫َّص‬
‫واِّتباعهَّص َاُة‬
‫ٍد ‪ ،‬بكلِّ ما جاءَ به وأمرَ‪َ،‬عَلْي‬ ‫الرسولِ‬
‫َّس‬
‫ُّرِ في ًا بيانه له كما جاءَ عنهُ َعَلْيِه ال لَاُة‬ ‫التفكَاُم‬ ‫َو‬
‫ال ل‬ ‫َوالَّسلَاُم قَوًْال ؛ والتأسِّي بِما جاءَ عنه‬
‫الوقايةُ من‬ ‫ِه‬ ‫ال ل فعل ‪ .‬ويترتبُ على هذا الأخذِ؛‬ ‫َّن‬
‫والأمانُ بالإطمئنان لرضوانِ ر العالَمين‪.‬‬ ‫َّت‬ ‫ال ار؛‬
‫ِّب‬ ‫َن ُوُل‬ ‫َوُيَح ُم‬
‫الارتقاءُ‬
‫ّح‬ ‫ال ا إنتاجَ العملِ ليحصل منه‬
‫بما يُِّتثْمِرُ النهضةَ‪ ،‬لأن التفكيرَ العاديَّ لا يص ُ‬

‫(‪)4‬‬ ‫(‪ )3‬البقرة‪ 63 /‬والأعراف‪.171 /‬‬ ‫(?) القصص‪.77 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫آل عمران ‪.159 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫(?) طه ‪.115 /‬‬ ‫‪4‬‬


‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪222‬‬

‫في مثلِ هذا المقام‪ ،‬بل لا بدَّ من التفكيرِ الجادِّ؛‬


‫الذي يهدفُ إلى حقائقِ الأُمورِ على ًا مستوَى الفكرةِ‬
‫التي آمَنَ بِها واعتقدَها منار لأَفْهَامِهِ‬
‫وأحكامهِ؛ فإذا كان العزمُ بالفطرةِ من ضرورات‬
‫للقيام‬‫َل‬ ‫التوجُّهِ لحملِ الفكرة؛ فإنَّ العزمَ‬
‫بِمهمَّاتِ الفكرةِ ومسؤولياتِها والمحافظة عليها ن‬
‫ِم‬
‫أرضِ‬ ‫أركانِ هذا العزمِ حين ممارسة الفكرةِ في‬
‫الترجمةُ الصحيحة للفكرةِ‪.‬‬
‫ّو‬ ‫الواقع‪ ،‬لأنَّ السلوكَ هو‬
‫وحين إجراء هذه الممارسةِ تَتَكَ َنُ الخبرةُ ويتأتَّى‬
‫النضجُ باللازمِ الفكريِّ‪ ،‬وهذا كلهُ يتطلَّبُ‬
‫الإيْمانَ حين أخذِ الفكرة ُف في حُجُرَاتِ العلمِ‬
‫وحلقات الدَّرسِ‪ ،‬فينظرُ المكل تناولَ الفكرِ وإيجاده‬
‫في الذهنِ وحركة النَّفسِ واطمئنان القلبِ‪.‬‬
‫َمَس ٌك‬ ‫َتَن ُو ْل ْك َو ْيَج‬
‫ا ؛ أقوَاها‪ :‬أنْ يتقصَّدَ‬ ‫ا‬ ‫وفي ا ا‬
‫ِل‬ ‫ِدِه‬
‫للفكرةِ تحويلَها في ذهنهِ من صفة العلم‬ ‫ِإ‬ ‫ِر‬ ‫ِف‬ ‫ِل‬ ‫الآخذَ‬
‫المجرَّدِ والمعلومات المحضَة‪ ،‬إلى صفةِ الحكم على‬
‫الواقعِ بدليل الإثبات ونفي الضدِّ؛ أو بدليلِ‬
‫التسليم لقبولِ الفكرة من غير منازعةٍ لصدق رِجَالِ‬
‫إسنادِها‪ .‬ومن خلالِ حلقات الدَّرسِ في حُجرات العلمِ‬
‫يعرف المكلَّفُ أن سببَ أخذِها‪-‬أي الفكرة‪ -‬هو محاولةًاُ‬
‫الحكميَّةِ تصديق‬
‫ًا‬ ‫الذهنِ بضرورتِها‬ ‫إيجادِها في ًا‬
‫بإثباتٍ أو نفي بتكذيبٍ‪ ،‬أو تسليم لضرورةِ صدق‬
‫غيرِ‬‫المخبِرِ من غيرِ منازعته في الأمرِ أو من َّي‬
‫مجادلتهِ فيه كما هو حالُ الفهمِ من الأدلة الشرع ة‪.‬‬
‫فإذا تحوَّ ًالت الفكرةُ في الذهنِ إلى هذه الصفة‪ ،‬صارت‬
‫فيه إيْمان بتصديقٍ أو بتسليم؛ وهذه الصيرورةُ هي‬
‫القناعةُ بالفكرةِ‪ ،‬مما يجعلُها تنتقلُ في ذهنِ الشخص‬
‫من صفتِها الأنانيَّة الفردية الشخصانية إلى صفةِ‬
‫التعامُلِ مع الواقعِ بدلالاتِها المفهوميَّة‬
‫وضروراتِها العمليَّة‪ ،‬أي انتقلت الفكرةُ بالقناعةِ‬
‫إلى صفة مفهومٍ ومقياس‪.‬‬
‫ًا‬ ‫َو ْلَقَن َعُة‬
‫ا ا ‪ :‬هي الإيْمانُ باعتقادِ صواب الفكرِ جزم‬
‫‪223‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫ْلُمْحَكهو فيما يعرفُ من الدينِ من غير خلافٍ بدلالة‬


‫كما‬
‫من النصو الشرعية أو باعتقادٍ يغلبُ على‬ ‫ا‬
‫ِص‬ ‫ِم‬
‫الظنِّ كما هو في مسائلِ الخلاف من غيرِ اختلاف عندَ‬
‫الواعين‪ .‬وتحصيلُها هذا المستوى يجعلُها لا تطيقُ أن‬
‫تبقَى حبيسةً فيه؛ وهي تتفاعلُ مع الإحساسِ بالواقع‬
‫والفكر لديه؛ بل تنطلقُ من عقال الكبتِ بأسباب الوهنِ‬
‫أو الْجُبنِ أو العزلة إلى ساحاتِ التعبير عن‬
‫حقيقتِها بالعرفان الصادقِ؛ والرأي الثاقبِ؛ والأحكامِ‬
‫ناخِ الإيْمانِ وأجواء إدراكِ‬ ‫المستنيرَةِ في مَ ًا‬
‫الصِّلة باللهِ؛ دخُول في علاقاتِ الجماعة والمجتمع‪.‬‬
‫وهذا هو معنى التَّرَكُّزِ المنتجِ لعملية إيجاد‬
‫الفكرِ في الأذهان‪ ،‬وهو الذي يحصلُ به إيجادُ‬
‫المفاهيم الصحيحةِ عنها في ممارسات الفردِ والجماعة‬
‫في حيِّز المجتمعِ‪.‬‬

‫اْلَم ْبَح ُث (‪ُ :)6‬مَو اَفَقُة ِفْك َر ِة الِّر َس اَلِة ِلِفْطَر ِة اِإل ْنَس اِن ‪:‬‬
‫ًا‬
‫ُّ إنسانٍ على الفطرة سويّ ‪ ،‬ويتوجَّهُ‬ ‫يولدُ كلَّزًا‬
‫َّد‬ ‫َّل‬ ‫َّو‬
‫استجابة َوالوجدانَقِ َر أوَفَهَدآخر‪،‬‬ ‫َّل‬ ‫َّل‬
‫طبيعي ‪َ،‬وَج بشكلٍ من َخَلَق َفَس‬‫َع‬ ‫للدينِ‬
‫(‪)1‬‬
‫ى‪‬‬ ‫ى ا ي‬ ‫‪ :‬ا ي‬ ‫قال اللهُ‬
‫والْهَُعدَّزَى َوَجهنا الاستقامةُ على الطريقةِ التي يريدُها‬
‫ِذ‬ ‫ِذ‬ ‫َّل‬
‫وأرسلَ بِها الرُّسلَ؛ وتتأتَّى بطريقةِ‬ ‫الله‬
‫التربية والتبليغِ ووسائلهما لتغييرِ ما في النَّفسِ‬
‫مما طرأَ عليها من الفسادِ أو الإفساد وإصلاحهما‪ .‬لأن‬
‫الفسادَ والإفسادَ الطارئان هما الضَّلاَلُ الْمتأتِّي‬
‫بالجهلِ أو العناد‪ ،‬فالضلالُ يقابل الْهُدَى بأن‬
‫يتخذَ الإنسانُ لنفسهِ ما يعيِّنُ له الحلالَ والحرام‬
‫لا على وفقِ هدَى الرسالة وطريقةِ الرسُلِ‪.‬‬
‫ومما يؤكدُ العاملَ التربويَّ من طريقة التغييرِ‬
‫على الفساد والإفساد ما جاء في الحديثِ أنَّ َّا‬
‫أبا‬ ‫َم ْن َمْوُل‬
‫و ل‬ ‫هريرةَ قال‪ :‬قالَ رَسُولُ اللهِ ‪ [ :‬ا‬
‫ٍد ِإ‬ ‫ِم‬
‫(?) الأعلى‪.3-2/‬‬ ‫‪1‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪224‬‬
‫ُّسَأْو‬ ‫َأْو ُيَن َر‬ ‫َفَأَبَو ُه ُيَه َد‬ ‫ْل ْطَر‬ ‫ُي َلُد َعَل‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫ُتْنَتُج ْلَب َمُة َّت َب ِّو َمًةِنِه َجْمَع َء ِّصَهْل ِنِهُت َن‬ ‫ا‬ ‫؛‬ ‫ا‬ ‫َكَم‬ ‫ى‬ ‫ُيَمو َس‬
‫و‬ ‫ِة‬ ‫ِف‬
‫ِح‬ ‫َتْجَدُع؛ َنَه‬
‫ا ي َح يَأْنُتْم ا‬
‫ِه‬ ‫ِه‬ ‫َهِّج اِنِهْن‪َ ،‬جْدَعا َء‬
‫و ا ]‪ .‬وفي‬ ‫ا ] وفي لفظ‪ [ :‬ى‬ ‫يا‬
‫ِفكتابِ القدر في صحيح البخاريِّ‪ :‬قَالَ رَجُلٌ‪ :‬يَا‬ ‫ِم‬
‫َيْعَمُلَ َن قَبْلَ ذَلِكَ‬ ‫َأْعَلُمَأَيَمْتَ َك لُنَوْاْ مَات‬ ‫رَسُولَ اللهِ ُه! أَر‬
‫لفظٍ‬ ‫ُّم‬ ‫ُّل‬
‫ُك ِب اْنَس ا وَت ْدُه ُأ وُه ]‪َ.‬عَل وفيْل ْطَر‬ ‫؟ قَالَ‪[ :‬الل‬
‫ىَف ْنا َك َن‪،‬‬ ‫َوُيَن َراٍن ِلُّم َوُيَم َس‬ ‫ُيَه َد[‬
‫سلمٍ‪َ:‬بْعُدقالَ‪:‬‬ ‫َوَأَبَوُ ُه‬
‫لِم‬
‫ِة‬
‫ْيَطا ُنا‬ ‫َّش‬
‫ِف‬ ‫ا ؛‬ ‫ِإ‬ ‫ُّل‬
‫َّا‬ ‫ِإ‬ ‫ِنِه‬ ‫ِّج‬ ‫ُمْس َمْيا َفُمْس ٌم ِّوَّاُك اِنِهْنَس َتِّص اْدُهِنِه ُأ ُه‬
‫يَلْكِزُهُ ال ا‬
‫َوُهَو‬ ‫ْبُنَه‬ ‫َمْرَيَم اِنَو‬ ‫!‬
‫َّت‬ ‫َّل‬ ‫ِل‬ ‫ِإ‬ ‫َعَليِل حُِنضْلْنَّلَيِل ‪ ،‬ل‬
‫لفظٍ‪َ[ :‬ي ِإلَنَّا َعْنُه‬ ‫َعَل ا َه ا ] ْلوفي َح‬
‫َمْوُلِة ُي ىَلُد ِبي َعَل‬ ‫ىَلْيَس ْن ا‬ ‫ِه ] ِإ أو [‬ ‫ِفَسىُنُه ا‬
‫ى‬ ‫ل‬ ‫ُنُه ِم و و‬ ‫ِذِه‬ ‫روايةَرٍ‪[ :‬‬ ‫ا ]ِم ِةوفي َّت‬
‫ِإ‬ ‫ا ِم ](‪ٍ .)1‬د‬ ‫َس‬ ‫َعْنُه‬ ‫ُيَع‬ ‫ْل ْطَر َح‬ ‫َه‬
‫ى‬ ‫ِل ا‬
‫علىٌن هذا‪ِّ،‬ب فإنَّ ِل الإنسانَ في دلالة النصوصِ‬ ‫ِذِه ِف ِة‬
‫بناءً ُمَتَد‬
‫بطب ‪ ،‬بل هذا واقعهُ المحسوس والمدركُ‬ ‫الشرعية‬
‫منه حيث يظهرُ عليه أثر التديُّنِ بالتقديسِ والعبادة‬ ‫ِعِه‬ ‫ِّي‬
‫وممارسة الشعائرِ المعيَّنة في أفعالهِ‪ .‬ولربَّما‬
‫يخفَى عليه شأنُ هذه الآثارِ الفطريَّة‪ ،‬وهو لا يعرفُ‬
‫أنه يقومُ بفعلِ عبادة أو تقديسٍ‪ ،‬لأنه يغفلُ حقيقةَ‬
‫هذه المشاعرِ النفسيَّة أو دوافعها الوجدانية من‬

‫(?) رواه البخاري في الصحيح‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬الحديث(‪1358‬و‬ ‫‪1‬‬

‫‪ )1359‬وفي كتاب التفسير‪ :‬الحديث(‪ ،)4775‬والحديث (‪،)1385‬‬


‫وفي شرح ابن حجر للحديث نقل تفسير العلماء للفظة (فطرة)‪.‬‬
‫وفي كتاب القدر‪ :‬الحديث (‪ .)6599‬ومسلم في الصحيح‪ :‬كتاب‬
‫القدر‪ :‬الحديث(‪ .)22/2658‬وفيه زيادة؛ قَالَ رَجُلٌ‪ :‬يَا‬
‫َيْعَمُللََنوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قال‪:‬‬ ‫اللهِ!َم أََكرَُنأَْايْتَ‬ ‫رَسُولَ‬
‫الحديث (‬ ‫مسلم‪:‬‬ ‫لفظ‬ ‫وفي‬ ‫]‪.‬‬ ‫وُّم‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫[ اللُه َأْعَلُم ُّل‬
‫َبْعُد‬
‫‪ :)25‬قال‪ُ [:‬ك ِب ْنَسا َت ْدُه ُأ ُه َعَلى اْل ْطَر ‪َ ،‬وَأَبَواُه ُّل‬
‫َمْي َّاَفُمْس ٌم ُك‬ ‫ُمْس ِة‬
‫َوُيَم َسِلا َّش ؛ َف ْن َكاَنا ِف‬ ‫ُيَه َدا َوُيَن َرُّما ِإ ٍن‬
‫ْبُنَه‬ ‫َو‬ ‫َمْرَيَم!‬ ‫ُن‬ ‫ْيَط‬
‫َعَل ِنلَه ِل ْل َّل ا َحَّت ا ]‬ ‫يلكزهِّجَعَل الِنِهْل اَّلِإ ي حضني ِل‪،‬‬ ‫ْنَسا ِنِهَت ْدُه ِّصُأ َّاُهِنِه‬
‫ِّو‬
‫َّا‬ ‫َوُهَو‬
‫َعَلى‬ ‫َلْيَسأو ْن[ ِهَمْوُلىِإ ُي ا‬
‫َلُد‬ ‫ِف]‬ ‫ى ا‬ ‫ِإوفي ِنلفظ‪ِ:‬ل‬
‫َعْنُه [ َسِإلَّتُنُه‬ ‫َي َن‬
‫ى‬ ‫ِة‬‫ل‬ ‫ِم‬ ‫ِذِه‬
‫و و‬ ‫ِة‬
‫رواية‪[ :‬‬‫ِم‬ ‫وفي‬ ‫َه ي ْل ْطَر َحا ]‬
‫ِإ‬ ‫ُنُه‬ ‫َس‬ ‫َعْنُه‬ ‫َر‬ ‫ُيَع‬
‫‪ )23/2658‬من‬ ‫ا ]‪ِ :‬مالحديث ٍد(‬ ‫ِل ى‬ ‫ِب ا‬
‫مسلم؛ وينظر في سنن أبي داود‪ :‬الحديث (‪ .)4714‬وفي جامع‬ ‫ِل‬ ‫ِّب‬ ‫ِة‬ ‫ِف‬ ‫ِذِه‬
‫الترمذي‪ :‬الحديث (‪.)2138‬‬
‫‪225‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫ويتذلَّلُ لَها‬ ‫الغريزةِ‪ .‬فتجدهُ ينقادُ للأشياء ُت‬


‫ويُظًْاهِرُ في قلبهِ منتهى الاحترام جاهها‪ ،‬فيؤخذُ‬
‫ملهوف بالجمالِ والعَظَمَةِ والقوَّة ويخضعُ لذكرَى‬
‫العظماء والأبطالِ‪ ،‬ويستكينُ لوُجهاءِ القوم ورؤسائهم‪،‬‬
‫وهو يظنُّ أن النفعَ والضرَّ منهم؛ أو من آثارِهم‪ ،‬أو‬
‫وهو‬ ‫الاحترامَ َّن‬
‫َّب‬
‫هم‪َ ،‬دَتَن‬
‫َأَطْعَنلَ َس‬
‫القلبيَّ‬ ‫عليه ُل ْا َر َن‬ ‫أنه يرَى ما ُّليوجبُ َّسَوَق‬
‫ا ا ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫يقول‪  :‬اَلو‬ ‫الآخرةَِفَأَض َن‬ ‫في‬
‫َوُكَبَر َءَن‬
‫ِإ‬
‫و ا ال ي ‪ . ‬لِه ذا فإن ه إذا ت ُرِكَ‬ ‫(‪)1‬‬
‫ا ا‬
‫الشعورُ الوجدانِيُّ من غير فكرٍ فسيكون عرضةً‬ ‫ِب‬
‫َّش‬
‫راته‪.‬‬
‫للتبديل والتغييرِ بحسب مثيرات الواقعِ ومتغيِّ َوَن َط‬
‫أما إذا استعملَ الإنسانُ فِكْرَهُ وحِسَّهُ‪،‬‬
‫عقلَهُ لإدراكِ حقائق الأمورِ بقصد معرفةِ المطلوب‬
‫وفهمِ المقصود منها‪ ،‬فإنه يأخذُ في توجيهِ مشاعره‬
‫بِما يتوصلُ إليه عقلهُ من الأفكارِ‪ ،‬وبِما‬
‫يَتَوَلَّدُ عنها من المفاهيمِ والمقاييس‪ ،‬وبِها‬
‫يَنْضَجُ في ذهنهِ ما أدركَ من الآراء والأحكامِ‪.‬‬
‫فكان لا بدَّ من القاعدةِ الفكرية التي يستندُ َّز َّل‬
‫عليها‬‫َع َوَج‬ ‫الإدراكُ وتتكوَّنُ بِها َّر‬
‫اللهُُس ُء َعَم ‪:‬‬ ‫قالَن َلُه‬ ‫المفاهيمُ‬
‫َكَمْن ُز‬ ‫َأَفَمْن َك َن َعَل َب َن‬
‫و‬ ‫ن‬ ‫َو‪َّ ‬تَبُع ْا اَأْهَو ى‬
‫َءُهْم‬
‫ِلِه‬ ‫ِّي‬ ‫ا ‪ِّ)2(‬ي‪ٍ .‬ة ِّم ِّبِه‬ ‫ا و‬
‫أما كيف توافقُ فكرةُ الرسالةُِع فطرةَ الإنسان‪،‬‬
‫هي مجمو طاقاتهِ الذهنية‬ ‫َّي‬ ‫فذاكَ أنَّ فطرةَّطَ‬
‫الإنسان‪ْ:‬ه ُة‬ ‫ُت‬ ‫َق‬
‫والحيويَّة‪َ.‬و َّطوالَق اُت ا ْلَحَيال َّيُة ‪ :‬هي الإحساسُ والشعور‬
‫والعقلُ‪ .‬ال ا ا ا ِّذ ِن‪ :‬هي الإحساسُ الغريزيُّ‬
‫وحركته في الوجدانِ بأثرِو خواصِّ الحاجاتِ العضوية أو‬
‫مظاهرِ الغرائز‪ .‬وقد جعلَ اللهُ هذه الفطرةَ مجبولةً‬
‫على الإسلامِ صافيةً ما لم يكدِّرْها شيءٌ من مداخلات‬
‫المذاهبًاِ‬ ‫واعوجاج‬ ‫َّز َّل‬
‫َح‬ ‫الأفكار ْم َوْجَهَك‬
‫التربيَةِ َّلفي تحريفَعِ َّن َوَج َفَأ‬
‫َعَلْيَه َا َتْب َل ل يَخْل يف‬ ‫َس ‪‬‬ ‫والآراء‪ .‬قال اللهُ‬
‫َفَطَر‬ ‫ْطَرَت‬
‫ِن‬
‫الل‬ ‫ِن‬ ‫ِّد‬ ‫ِل‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ِق‬‫ا‬ ‫َّن‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫َّن‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫الل‬
‫َيْعَلُم وَن ‪ِ(‬ل‪ِ .)3‬ق ومعنىِه‬
‫َذِف َك ال يُنِه الَقِت ُم َوَل َأْكَثَر ال ا َّم لَا ِد‬
‫ُمَحِس‬ ‫ِك‬ ‫ِّي‬ ‫ِّد‬ ‫‪ِ 1‬ل‬
‫د ‪.14/‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫(?) الأحزاب ‪.67 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫(‪ )2‬يوسف ‪.40 /‬‬ ‫(?) الروم ‪.30/‬‬ ‫‪3‬‬


‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪226‬‬

‫الدِّينِ القَيِّمِ‪ ،‬هو ما أودعَ اللهُ في الفطرةِ‬


‫ترتاحَ‬
‫ًا‬ ‫حين خَلْقِهَا من الأمرِ المقدور فيها‪ ،‬بأن لا‬
‫به شيئ ُن‪،‬‬ ‫َّا َّي‬ ‫إلا بأنْ َّا‬ ‫بحيويَّ َّز َّل‬
‫تشركَ َذ َك‬
‫وحده ولا ُه‬ ‫تعبدَهُ‬
‫َتْعُبُد ْا‬ ‫تهاَّن َوَج َأَمَرَّن َأ‬ ‫َع‬
‫ال ي‬ ‫ا‬ ‫ل َا َيْعَلُمو َن ل‬ ‫لقولهِ َوَل َأْكَث َر ‪‬‬
‫َق ُم‬
‫مخلوق ةٌ ِّدفي‬
‫ِل‬ ‫فهي‬ ‫و ‪ِ‬إ(‪ِ )1‬إ‬ ‫ال ا ل‬ ‫ال‬
‫ابتداءِ خلقِها على الإسلامِ لربِّ العالَمين‪ ،‬بأن‬ ‫ِس‬ ‫ِك‬ ‫ِّي‬
‫ّث‬
‫وَ َقَ اللهُ ذلكَ عليها‪ ،‬قال القرطبيُّ‪ :‬قال شيخُنا‪:‬‬
‫(إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ‬
‫مُؤَهَّلَةً لِقَبُولِ الْحَقِّ كَمَا خَلَقَ‬
‫قَابِلَةً‬ ‫وَأَسْمَاعَهُمْ‬ ‫أَعْيُنَهُمْ‬
‫لِلْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ‪ ،‬فَمَا دَامَتْ‬
‫بَاقِيَةً عَلَى ذَلِكَ الْقَبُولِ؛ وَعَلَى تِلْكَ‬
‫وَدِيْنَّلَ‬ ‫الْحَقَّ‬ ‫أَدْرَكَتِ‬ ‫الأَهْلِيَّةِ‬
‫الإسْلاَمِ وَهُوَ الدِّيْنُ الْحَقُّ‪ .‬وَقَدْ دَكَمَ‬
‫َهْلنَىُت ُّسقََنوْلُهَهُ ‪َ[ :‬جْدَع َءا‬ ‫الَْءمَعْ‬ ‫ُتْنَتُجَى صَبِحََّمُةةِ َب هَذَمًةَا َجْمَع‬
‫عَل‬
‫ا َل]‬ ‫و يا ن‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ال ي‬
‫يَعْنِي أِهَنَّ الْبًَاهِيْمَةَ تَلِدُ وَلَدَهَا كَامِ‬
‫ِم‬ ‫ِف‬ ‫ِح‬ ‫ِه‬
‫الْخِلْقَةِ سَلِيْم مِنَ الآفَاتِ‪ ،‬فَلَو تُرِكًاَ‬
‫عَلَى ًاأَصْلِ تِلْكَ الْخِلْقَةِ ُيلَبَقِيَ كَامِل‬
‫َفُتْجَدُعيْئ مِنَ الْعُيُوبِ‪ ،‬لَكِنْ تَصَرَّفُ فِيْهِ‬ ‫بَرِ‬
‫أُذُنُهُ؛ وَيُوسَمُ وَجْهُهُ؛ فَتَطْرَأُ‬
‫عَلَيْهِ الآفَاتُ وَالنَّقَائِصُ فَيَخْرُجُ عَنِ‬
‫الأَصْلِ؛ وَكَذَلِكَ الإنْسَانُ‪ ،‬وَهُوَ تَشْبِيْهٌ‬
‫ِحٌ)(‪.)2‬‬ ‫ُهُ وَاض‬ ‫ِعٌ وَوَجْ ه‬ ‫وَاق‬
‫ِّ‬
‫وفي الحديثِ َّدعن عِيَاضِ بن حمارِ َّن الْمُجًَااشِعَِأي َا‬
‫اسِ يَوَهْم ‪َ:‬خَلَق[ لَدَم‬ ‫ُثُكْم رَسَمُولََح َثاللهِ ‪ُ‬ه قَالَ َتلِلنَّ َأ‬ ‫أُأَحَنَّ‬
‫اللًا َا َحَرآ َم‬ ‫ْلَم َل َح َا‬ ‫في ُهُم ا ‪،‬‬
‫ِبِه‬ ‫ِك‬ ‫ُحَنَفا َء ُمْسَّمِني ْيَنالل َوَأْعَط‬
‫َوَبِّدْي ِب‬
‫ا‬ ‫َوَحَر ًال‬
‫َأْعَط ُهُم ا ُه ا َح اَا ًا ل ل‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬
‫ام ]‪ .‬وهذا‬ ‫لل‬ ‫الل‬ ‫ا‬ ‫ْيِن‪ِ،‬ه َفَجَعُلوْا َّن اِلِم‬
‫يدلُّ على أ ِمالإنسانَ حين يستعملُ عقلَهُ بالأفكارِ‬ ‫ِف ِه‬
‫الصحيحة المنتجةِ فإنَّها تتجاوبُ معها فطرتهُ في‬
‫إحساسهِ وشعوره وتفكيرهِ‪ ،‬فيستوِي التجاوبُ في نفسهِ‬
‫(?) الجامع لأحكام القرآن‪ :‬ج ‪ 14‬ص‪.29‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪1‬‬
‫‪227‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫َوَتَع َلفيهما‬ ‫ُسْبَحَ َنُهاللهُ‬


‫باستواء الفكرةِ مع الفطرة‪ ،‬بِما أودع‬
‫َوَتَع َلفي‬‫اُسْبَح َنُه ا ى‬ ‫من أمرهِ؛ فالدينُ القَيِّمُ أمرهُ‬
‫اى‬ ‫ا‬ ‫الفطرةِ أن تستجيبَ لبارئِها‪ ،‬وأمرهُ‬
‫في الشريعةِ أن تجاوبَ تداعياتِ الفطرة وخواطرِها‪.‬‬
‫وبِهذا التجاوبِ بين حركتَي الفطرةِ والفكرة تستوِي‬
‫حركتَا العقلِ والقلب في إحساسِ الإنسان وفكرهِ‬
‫وشعوره إلى اطمئنان وأمانٍ في مناخ الإيْمانِ بالله‬
‫واليومِ الآخر وأجوائهما الروحيَّة‪.‬‬
‫ولِهذا جاءَ في الأحاديثِ تفسيرُ العملية‬
‫الصهريَّة لاندماجِ الفكرة بالفطرة ومزجِ الخواصِّ‬
‫الناحية‬ ‫المادية للإنسان بالناحيةِ الروحية‪ ،‬أي ربطَّزِ َّل‬
‫َع َوَج‬
‫حين‬ ‫الفكريَّةِ للعقل بإدراكِ الصِّلة باللهِ‬
‫التعاملِ مع الأشياء ومظاهرِ النَّفس تجاهَها‪ .‬وهذا‬
‫الفهمُ ملاحظٌ من إدراكِ سبب ورودِ حديث الفطرةِ‪ ،‬كما‬
‫جاءَ عن الأسودِ بن سريعٍ؛ قال‪ :‬غَزَوْتُ مَعَ‬
‫رَسُولِ اللهِ ‪ ‬فَفُتِحَ لَهُمْ‪ ،‬فَتَنَاوَلَ بَعْضُ‬
‫النَّاسِ قَتْلَ الْوِلْدَمَانَِب‪ُ ،‬ل فَُّذبََّيلَةَغَ ذَلِكَ‬
‫وفي‬
‫ْلَقْتُل ِّر َل؟ ]َأْن ‪َ-‬قَتُل ْا‬
‫َأْفَض ا ُم ا ال‬ ‫َأْقَوالَ‪[ :‬‬
‫النَّبِيََّم ‪َ،‬ب ُلفَقَ‬
‫و‬ ‫ى‬ ‫ا‬ ‫ى‬ ‫ا‬ ‫رواية‪َ:‬ة [ ا ا‬ ‫ُّذ َّي‬
‫ِبِه يَا رَِإسُولَ اللهِ!‬ ‫ال ؟ ] ‪ -‬فَقَالٍَم ُء رَجُلٌ‪:‬‬
‫ْلُمْشَالََن‪:‬‬‫َأْبَنشُْءرِكِيْنَ؟ فَق‬ ‫ُرُكْمَبْنَا الْمُ‬ ‫َّمَا هُمَْي أ‬ ‫إن ِّر‬
‫َأَوَلْيَس َخَي ُرُكْم َأْو َاَدا ْلُمْش َّت َن اَأ َاِرِكيَا‬ ‫ا‬
‫ُّل‬ ‫ِخ‬ ‫َّي‬ ‫ُّذ‬
‫[‬
‫ْطَر َح ي ؟‪ُ-‬يْع َبل َعْنَهل‬ ‫رواية‪ُ :‬ك َنْسَم ُتاَلُد َعَل ل ْل ا‬ ‫ُة‬ ‫‪-‬وفي‬
‫ُتْقَتُل‬
‫ا‬ ‫‪ ،‬ى‬‫ِرِك‬ ‫ى ا‬ ‫و‬ ‫ال ‪،‬‬
‫َساُنَها‪ِّ ،‬رَفَأَبَواُه ُيَه َدٍةا َها َوُيَن َرا َهاِف ](‪ِ1‬ة)‪َّ.‬ز َّل ِر‬
‫َو‬ ‫َع َوَج‬ ‫القدس ‪ُّ:‬ل قالِّص ِن َّن‬
‫ِّو ِن‬ ‫ِل‬
‫اللهُهْمُ َأَتْتُهُم ‪َّ[ :‬شَي ُني‬ ‫َو‬ ‫ُهْم‬ ‫ُك‬ ‫َء‬ ‫َخَلْقُتوفي َبالحديثِ‬
‫ُحَنَف‬
‫ال اِإِّني‬ ‫ا ْم ِّي ‪،‬‬ ‫َلْتُهْماِديَعْن‬
‫ِط‬
‫ي ] قال النوويُّ‪ :‬اجْتَالَتْهُمْ‬ ‫ِإ‬ ‫َفاْجَتا ِع‬
‫ِد ِنِه‬
‫(?) رواه الطبرانِي في المعجم الكبير‪ :‬مسند الأسود بن‬ ‫‪1‬‬

‫سريع‪:‬ج ‪ 1‬ص‪ :283‬الحديث (‪ 826‬وما بعد) حتى الحديث (‬


‫ص‪435‬‬ ‫‪3‬‬ ‫ج‬ ‫أحمد‪:‬‬ ‫الإمام‬ ‫ومسند‬ ‫‪.)836‬‬
‫و ج ‪ 4‬ص‪ ،24‬قال الهيثمي‪ :‬رواه أحمدُ بأسانيد والطبراني‬
‫في الكبير والأوسطِ وبعض أسانيد أحمد ورجاله ثقات‪ .‬مجمع‬
‫الزوائد‪ :‬ج ‪ 5‬ص‪.316‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪228‬‬

‫بِهِمْ‬ ‫فَذَهَبُوا‬ ‫اسْتَخَفُّوهُمْ‬ ‫أَيْ‬


‫وَأَزَالُوهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ‪ ،‬وُأَجَالُواْ‬
‫مَعَهُمْ فِي الْبَاط ِلِ(‪ .)1‬وفي الح ديثَِّم عن بَي بنَّل‬
‫ْلُغ َاُم‬ ‫َأ‬
‫َأَبَوْي ل ُطْغَيا ًاي‬ ‫اللهَعِ َش‪َ[ :‬أْرَهَق ا ا‬ ‫قال‪ُ :‬رقَُطالَّطَعَ رَكَسُ ًاولُ َلْو‬
‫َقَتَلُهٍ ْلَخ‬
‫كعب‬
‫انِذ‬ ‫ا ل‬ ‫ار‪،‬‬ ‫ا‬
‫َغْت َنْظَرُت ُه‬ ‫َوُكْف رًا ](‪ِ)2‬ض‪ .‬والِب ْب ُع َّل ِفليس َخْلق ًاَّف‪ ،‬ب ل ُخُلق ًا‪َ ،‬ف َزا ِه‬
‫َوَلْيَس َل َص َا َو َدْي‬ ‫َن ْلُك‬ ‫َأْه ْل‬ ‫َل َطَب‬
‫ا‬ ‫ى ل‬ ‫ا ا؛‬ ‫ا‬ ‫ى ا‬
‫طبائع تِلَ ِه‬
‫ميل‬ ‫ِح‬ ‫الإنسانِ ِإمن‬ ‫وذلك ِةبِِمما في ِر‬ ‫أعلمُ؛ِل ِم‬ ‫ِإوالله ِئِع‬
‫إلى أخلاقِ أهل الجنَّة وطبائع تَميل إلى أخلاقِ أهل‬
‫َعْنَه الحديثِ ُدعن َي أُمِّ المؤمنين عَائِشَةُ‬ ‫النَّارِ‪ُ،‬ه وفي‬ ‫َر َي‬
‫رَسُولُ اللهِ ‪ ‬إلَى‬ ‫ا قالت‪:‬‬ ‫الل‬
‫جِضِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ ِعالأَنْصَارِ! فَقُلْتُ‪ :‬يَا‬
‫رَسُولَ اللهِ؛ طُوبَى لِهَذَا الْعُصْفُورِ مِنْ‬
‫السُّوءَّنَ‬ ‫عَصَافِيْرِ َّجَّن الْجَنَّةِ‪ ،‬لَوَمَْغْيَر يَذَعَكْلَيَمِ َع َشَة‬
‫َخَلَقُهْم أَلَه َوُهْم ِل اَأْص َااِئ َب ! ِإْم‬ ‫وَلَهَمَْخَلَقيُدْرِكْهَُأْه؟ ًاقال‪[ :‬‬
‫َخَلَقُهْم َوُهْم اَأْص َا يَب ْمل آ ا ‪،‬‬ ‫َوَخَلَق َّن لَأْه ًا ل‬ ‫الل‬
‫]ِب(‪ِ .)3‬ئِه‬ ‫ِف‬
‫ي ل آا‬ ‫ِة‬ ‫ِل‬
‫ل ا َّي ل‬
‫ِئِه‬ ‫ِب‬ ‫ِف‬ ‫ِل ِر‬
‫ولِهذا ب نَ الرسولُ ‪ ‬طريقةَ الإصلاحِ وعمليةَ‬
‫بإدراك الأشخاصِ والبيئة التي يعيشونَ فيها‬ ‫َّي‬ ‫التغييرِ‬
‫والمجتمعِ‪ ،‬وع نَ سُبُلًَا التعاملِ معهم والحذرَ منهم‬ ‫ًا‬
‫قاصد التغييرَ ابتداء من التعاملِ مع النفسِ في‬
‫الشُّمَّخصِ المقابل بقصدِ إصلاحها‪ ،‬وأن القضيةَ ابتلاءٌ‬
‫َيْصُل ي في حملِ الدَّعوة‬ ‫وتح لُ مسؤوليةِ الدَّورِ ال يا‬
‫َّة الجماعةِ‬ ‫ِد‬ ‫للناسِ‪ ،‬بالعنايةِ بالفرد لكي ِّر‬
‫حًَا لجزئي ًا‬ ‫ًا‬
‫وصُول إلى إعدادِ الجماعة إعداد موثوق به لحملِ‬
‫الرِّسالةِ إلى العالَم‪ ،‬عن عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ‬
‫َمُكْمَ‬
‫َأْنَ ُأَعذَات‬ ‫َأَمَر قَال‬‫اللهِ ‪‬‬ ‫الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ َّن‬
‫يُّل‬ ‫َر‬ ‫َأ َا‬ ‫يَوْمٍ ف َّم َّل‬
‫ْلُتْمِي خُطَْعبََمتِهِ‪َ:‬يْو[ ل َهَذِإ ِّبُك َم ِن َنَحْلُتُه ِّلَعْب ًا‬
‫ي‬ ‫َم َج‬
‫د‬ ‫ا‬ ‫ي ا‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫ٍل‬ ‫ِم‬ ‫ِن‬ ‫ِم‬ ‫ِه‬
‫(?) ينظر‪ :‬شرح مسلم‪ :‬ج ‪ 7‬ص‪ .203‬والحديث رواه مسلم في‬ ‫‪1‬‬

‫الصحيح‪ :‬الحديث (‪.)63/2865‬‬


‫(?) رواه مسلم في كتاب القدر‪ :‬الحديث (‪.)29/2661‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) رواه مسلم في الصحيح‪ :‬الحديث (‪.)31/2662‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪229‬‬
‫َّن‬ ‫ُّل‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫َخَلْقُت َب َي ُحَنَف َء َّرُك ُهُم َو ُهْم َأَتْتُهُم‬ ‫َح َّشٌل َو‬
‫َأْحَلْلُت‬
‫َّن‬ ‫لاَي‪ْ ،‬يُن ِإِّنَف ْجَت َلْتُهْم ِع َعْنِد ْي ْم َوَح َمْت َعَلْي ْمِإ َم‬
‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ي‬
‫ا‬ ‫ا ا‬ ‫ال ا‬
‫َوَأَمَرْتُهْم َأْن ُيْش ُكوْا ِدي َمِنِها َلْم ُأَن ْل ِه ُسْلَطانًا‪َ ،‬و َّا‬ ‫َلُهْم ِط‬
‫ل‬‫اللَه َنَظَر َلى َأْه ِرالَأْر ِب َفَمَقَتُهْم َعَرَّنبِّزِهِْمِبِه َوَعَجمِهِْم ِإ‬
‫َم َبَعْثُتَك َأْبَتِإْيَك‬ ‫ْن ِإ َأْه ِل ْل َت ِض َوَق َل‬ ‫َبَق َي‬
‫َتْقَرُؤُه‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫َعَلْيَك َتابًا لَاِإ َيْغُسُلُه اْلَماُء ِل‬ ‫َوَأْنَزْلُت َّنِك ِب‬
‫َوَأْبَت ي ِم َك‪ِ ،‬ل‬
‫َه ِك َأَمَر َأْن ُأْح َق ُقَرْي ًا َفُقْلُت‬ ‫َوَيْقَظ ًا َو‬ ‫َن ًا‬
‫ُخْبَزًة َق َل ْسَتْخشْجُهْم َكَم ‪:‬‬ ‫َيْثُلُغ ‪ْ،‬ا َرْأ اللَفَيَدُع ُه ي‬ ‫َرا مِل َذ ِب ان‬
‫ُنَغ َك وَوَأْن ِنْق ‪َ،‬فَسُنْنا ُقِر‪ :‬اَعَلْيَك َو ْبَعْثا‬ ‫ْسَتْخَرُج اَك َو وْغُزُهْم ِإ ي‪،‬‬ ‫ِئي‬
‫ِر‬ ‫ِس‬ ‫اَجْيِّب ًا ِإ و ‪،‬‬
‫َعَك َمْن َعَصَّف‪َ،‬ك اَق َل‬ ‫ا ِف‬ ‫َأَط‬ ‫َمْن‬ ‫ْل‬
‫‪ِّ،‬ز ا ِف‬
‫ْثَلُه ‪،‬‬
‫َوَق‬ ‫َنْبَعْث ا‬
‫َخْمَسًة‬ ‫َّن‬
‫َوَرُجٌل‪:‬‬
‫ُمَتَص ٌق ُمَو اٌق ‪ ،‬ا‬ ‫ُسْلَط ِب ُمْق ٌط‬ ‫ُذ‬ ‫َاَثٌة‬ ‫َث‬ ‫ش‬
‫َوَأْهُل ْلَج‬
‫َوَع ْيٌف ‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ِت‬ ‫ِم‬
‫ْلَقْل ‪ُ :‬ك و‬ ‫َر ْيٌم َرا ْيُق ل‬
‫ُمَتَع ٌف ُذ‬ ‫ِّد‬ ‫َّل‬ ‫َوُمْس‬
‫ِس‬‫َّض‬ ‫ُقْرَب‬
‫ٍن‬ ‫َّن‬
‫َا َزْبَر َلُهو‬ ‫ْيُف ‪،‬‬ ‫يَخْمَسٌة ى‬ ‫َوَأْهُل‬ ‫َق َل ِة ا‬
‫ال ِّلا َاِذ َيْبَتُغ‪َ ،‬ن الَأْه ًاِلٍمَو اَا يَمِف لًا َو ِّفْلَخ ُن؛‬ ‫ِب ِل‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬ ‫َّلِحَيا ‪ِ .‬ق‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫‪،‬‬ ‫ال‬ ‫وَّق َّاِعل ل ِذ‬ ‫ِعاَّل ٍلْيَن ُهْم ْيُكْم َتَبعًا لِر‬
‫َخ َنُه َوَرُجٌل َا ُيْصِئُح‬ ‫َيْخَف َّا َلُه َطَمٌع َو ْن َد‬ ‫ا ِذي لَا ِف‬
‫ْلُبْخَل‬ ‫ل‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫؛‬ ‫ى‬
‫ُعَك َعْن ِإَأْه َك َوَما َك‪َ ،‬وَذَكَر ا ِب‬ ‫َولَاِذ ُيْم ي ل َوُهَو ُيَخا ِإ‬
‫ُف‬ ‫(‪َ )1‬و ِل ْن ْي‬ ‫َأ َّس ْلَك ِس َب َوِإ ْن ْي ْلُفَح‬
‫ِل ال ح َاشِ‪ :‬ه و‬ ‫ال‬ ‫َلُه ]‬ ‫َزْبَر ِد ا‬
‫ا‬ ‫ا ْلُخُل ال‬
‫‪ :‬لا عَقْلَ لهُ يَمْنَعُهُ‬ ‫ِر‬ ‫ِض‬ ‫ِّش‬ ‫ِش‬ ‫ِر‬ ‫ال ي ِذا ‪ .‬لاَ‬
‫ِض‬ ‫ِّش‬ ‫ِو‬
‫ينبغِي‪.‬‬‫ِق‬ ‫مما ِءلا‬
‫أما عن أقوالِ العلماء في تفسيرِ موافقة الفكرة‬
‫للفطرةِ كما جاءت في دلالة النُّصوصِ الشَّرعيةِ‪:‬‬
‫نقلَ ابنُ حجر في الفتحِ فقالَ‪ :‬قال القرطبيُّ في‬ ‫ْلُمْف‬
‫(ا م)‪ :‬المعنى أنَّ الله خلقَ قلوبَ بني آدم‬
‫مؤهلةِهً لقبولِ الحقِّ‪ ،‬كما خلقَ أعينَهم وأسماعَهم‬
‫قابلةً للمرئيات والمسموعاتِ‪ ،‬فما دامت باقيةً على‬
‫ذلك القَبُولِ وعلى تلك الأهليَّة أدركتَّلِ الحقَّ؛‬
‫على َمُةهذا‬ ‫ودينُ الإسلام هو الدينُ الحقُّ‪َ،‬كَم وقد د‬
‫ُتْنَتُج َب‬
‫ال ي ]‬ ‫المعنى بقيَّة الحديثِ حيث قال‪ [ :‬ا‬
‫ِه‬
‫يعني أن البهيمةًاَ تلدُ الولدَ كامل الخلقةِ‪ ،‬فلو تركَ‬
‫كان بريئ ًا من العيبِ‪ ،‬لكنَّهم تصرَّفُوا فيه‬ ‫كذلك ُأ‬
‫بقطعِ ذنه مثل فخرج عن الأصلِ‪ ،‬وهو تشبيهٌ واقعٌ؛‬
‫(?) رواه مسلم في الصحيح‪ :‬الحديث (‪.)63/2865‬‬ ‫‪1‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪230‬‬

‫ووجههُ واضحٌ واللهُ أعلم‪.‬‬


‫ُي َلُد‬
‫ابنُ الْقَيِّمِ‪ :‬ليسَ المرادُ بقولهِ [ و‬ ‫َعَل وقالْل ْطَر‬
‫يعلمْنُ‬ ‫] أنه خَرَجَ من بطنِ َو أُمُهِّهِ‬
‫َأْخَرَجُكْم‬ ‫ى ا‬
‫يقولُ‪  :‬الل‬ ‫ِة‬ ‫ِف‬
‫َّم‬
‫ِم‬ ‫تعالى َشْي ًا‬ ‫لأنَّ َااللهَ‬
‫َتْعَلُم َن‬ ‫الدِّينُأَ؛َه ُكْم‬ ‫ُبُط‬
‫ئ ‪ ‬ولكن المرادَ أن‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫مقتضيةٌ لمعرفة دينِ الإسلام ومحبَّته‪ ،‬فنفسُ‬ ‫فطرتَهُ ِت‬ ‫ِن‬
‫الفطرة تستلزمُ الإقرارَ والمحبة‪ ،‬وليس المرادُ‬
‫مجرَّدَ قبولًِا الفطرة لذلك‪ ،‬لأنه لا يتغيرُ بتهويد‬
‫الأبوينِ مثل بحيث يُخرجان الفطرةَ عن القبولِ‪،‬‬
‫وإنَّما المرادُ أن كلَّ مولودٍ يولد على إقرارهِ‬
‫بالربوبية‪ ،‬فلو خُلِّيَ وعُدِمَ المعارضةَ لم يعدل عن‬
‫ذلك إلى غيرهِ‪ ،‬كما أنه يولدُ على محبَّة ما يلائمُ‬
‫بَدَنَهُ من ارتضاعِ اللبن حتى يصرفَهُ عنه صارفٌ‪،‬‬
‫ومن ثم شُبهت الفطرةُ باللبن‪ ،‬بل كانت إياهُ في‬
‫تأويلِ الرُّؤيا‪ .‬واللهُ أعلم‪ .‬انتهى(‪.)1‬‬

‫اْلَم ْبَح ُث (‪ِ :)7‬في َأَّن اْلِفْك َر اْلُم ْسَتِنيَر ُهَو اِإل ْس َالُم ‪:‬‬
‫الفكرُ المستنير على نوعينِ‪ :‬منه ما هو عقيدةٌ‬
‫والأفكارُ المتعلِّقة بِها‪ .‬ومنه ما هو أحكامٌ شرعية‬
‫والأفكارُ المتعلِّقة بِها‪ ،‬والعقيدةُ أساسُ الفكرِ‪،‬‬
‫والأحكامُ الشرعية بُنْيَانُ هذا التَّأسيسِ بقصد‬
‫تنظيمِ الحياة بطريقةِ العقيدة‪ .‬ويقابلُ الفكرَ‬
‫المستنير الفكرُ المنحطُّ؛ والفكرُ الضيِّقُ؛ والفكر‬
‫الروحيُّ الإشراقي بلا كسبٍ ولا علم؛ والفكرُ الروحي‬
‫بلا نظامٍ؛ والفكرُ الإلحاديُّ؛ وهكذا أجناسٌ من‬
‫الفكرِ الذي اعتنقَهُ الناسُ وكانوا على مذاهبَ شتَّى‬
‫فيه‪ .‬وليس إطلاقُ الفكرِ المستنير إطلاقُ لفظٍ على‬
‫اصطلاحِ القوم حسبَ مذاهبهم‪ ،‬وإنَّما يتميَّزُ الفكرُ‬
‫المستنير بأصالتهِ من حيث الإطلاقُ في اللُّغة‬
‫واللسانِ‪ ،‬ثم استعمالهُ عندَ العقلاءِ وفي الْقُرْآنِ‬
‫الكريم‪ ،‬ثم خصائصهُ التي تعيِّنُ حقيقتَهُ التي‬
‫(?) فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ :‬ج‪ 3‬ص‪.319-318‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪231‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫تطابقُ واقعَها عند إطلاقهِ؛ وللبيانِ نقولُ‪:‬‬


‫َّي‬ ‫ُّل‬
‫َو َس‬ ‫ْلَعَر‬
‫َغ ْلَعَر‬ ‫ًا‬
‫ا ا ؛ فالفكرُ هو ما‬ ‫ا‬ ‫أول ‪ :‬ي ال‬
‫واقعِلٌ ِنفهو ِب‬
‫الحكمُ على الواقعِ‬ ‫جَالَ في ِف الذهنِِة وله ِب ِة‬
‫مأخوذةٌ من النورِ وهو‬ ‫َّض‬
‫وقد تقدَّم‪ .‬وصفةُ المستنيرَِءُه َوَو َحُه‬
‫‪ ،‬واستنارَ الشيءُ‬ ‫الضياءُ‪ ،‬وأنَارَ الشيءُ أضا‬ ‫َأَض َء‬
‫ا بغيرهِ وَوَضُحَ بهِ‪ .‬ويستضيءُ الفكر بغيرهِ إذا‬
‫كشفَهُ ووضَّحهُ‪ ،‬فكان هذا الكشفُ والإيضاح بِمثابة‬
‫البيانِ بالقصد والتعريفِ بالمراد منه‪ .‬فيجري الفكرُ‬
‫في أذهانِ العقلاء بِهذا الكشفِ والإيضاح إلى ما‬
‫يحقِّقُ المطلوبَ وينجزُ المرادَ حين التعامل مع‬
‫َرُتُهْقَ إضاءةَبِ َن الكاشف َّشْيله‬ ‫الإدراكَِن وِف‬
‫ْس‬ ‫موضوعيَّة‬
‫الواقعِ بِ ُن ُر‬ ‫ْلُمَب‬
‫ل‬
‫ِإ ِتِه ِل ِءَظ‬ ‫ا‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫وا‬ ‫الفك‬
‫ُأُم‬ ‫و‬ ‫َوواْيَض ِّيِن َحَق‬
‫و‬ ‫‪.‬‬
‫ا َعَل ال وَط ي ؛ من باب إطلا العر لف‬ ‫ِت‬ ‫ِر‬ ‫ْلَمَنا‬
‫اِإ ا على ( م ال يق) والشيء الذي يوضعُ فوقَهُ‬
‫ِب‬ ‫ِق‬ ‫ِه‬ ‫ِف‬ ‫ِر‬ ‫ِئِق‬ ‫ِل‬ ‫ِحِه‬
‫الظلمةَ وعتمةَ الأشياءِ‪ .‬فإذا كان‬ ‫سراجٌِر ليزيلَ عنهم ِر‬
‫الأمرُ كذلك في لغةِ العرب ولسانِهم‪ ،‬فإنَّ الفكرَ‬
‫المستنير هو الحكمُ على الواقعِ بِما يجولُ في الذهنِ‬
‫إيضاح معنى وبيا استندُ إليه في تقريرِ المسائل‪،‬‬ ‫من‬
‫َفَأْبَعَد‬
‫َّل‬
‫الذهنِ‪َ،‬وَج وكشفَ‬ ‫َّز‬ ‫ٍن‬
‫الأخطاءَ والأوهام والخيالات عن َع‬
‫لهم‬ ‫له حقائقَ الأمور‪ ،‬لِهذا وَصَفَ اللهُ‬
‫القُرْآنَ بأنه بُرْهَانٌ تقومُ فيه الحجة َّزونُورٌَّل‬
‫َع َوَج‬ ‫يُبُّيَّيِنُ َّنلَهم حقائقَ الأمورِ َّر‬
‫ُ‬ ‫الله‬
‫ُكْم َوَأْنَزْلَن َلْيُكْم‬ ‫قال‬ ‫ُس َقْد َج َءُكْم ُبْرَه ٌن‬ ‫َيَأ َه‬
‫آ‬ ‫ا ن‬ ‫آ‬ ‫ُن‪ً ‬ا اُّم الًا ا‬
‫ِإ‬ ‫ِّم ِّب‬ ‫ين ‪.)1(‬‬ ‫ور‬
‫ْلُقْر‬ ‫َمْعَن ُه‬ ‫ْلُعَق َا َوَتْأ‬ ‫ْس ْعَم‬ ‫ِب ًا‬
‫ي ا آ‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ثَانِي ‪ :‬ي ا ا ا ل‬ ‫ْلَك‬
‫الكريم عيَّنَِف ثلاثة ِنَ‬ ‫ِك ِد‬ ‫الْقُرْآنَِء‬ ‫ا ي ؛ فنجدِفُ أنِت ِل‬
‫ّخ‬
‫تحليلِ‬ ‫ِر ِم‬
‫أنواعٍ من الفكر‪ ،‬وش ْكٌر ْن َغْيَّز َّلْل َو ْكٌر َّنْن َغْي‬
‫في‬ ‫تها‬ ‫َّ‬ ‫مرجعي‬ ‫َ‬ ‫حسب‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ص‬ ‫َ‬
‫َمْن‬ ‫‪،‬‬ ‫الأمور وطلب المراد‪:‬‬
‫اللهُ َع ِر َوَجِع ‪ٍ:‬م ‪َ‬و ِفَنُّم الِم ا ِر‬
‫ُهًدى‪َ ،‬و ْكٌر ُمْسَت يٌر‪ ،‬قالِف ِم‬
‫ِن َغْي ْل َو َا ُهَدًى َو َا َت‬ ‫ُيَج ُل‬
‫ا ِم ي ‪ِ)2(‬س‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ا ِفي الل‬
‫ِك ٍب ِن ٍر‬ ‫ِه ِب ِر ِع ٍم‬ ‫ِد ِف‬
‫(?) النساء ‪.174 /‬‬ ‫‪1‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪232‬‬
‫َّم َّل‬
‫ُيَج ُل َغْي ْل‬ ‫َأ‬
‫الفكرِ‬
‫ّك‬ ‫‪ :‬فهو الذي يتعاملُ مع‬ ‫ا ا ي ا‬
‫بالانفعالٍمٍ الوجدانِيٍّ من غيرِ تف ُر‬ ‫وحقائق ِذ ُّب‬
‫الأمور ِد ِب ِر ِع‬
‫لَها أو تد رٍ؛ وهو الذي ينظرُ في الأمورِ بفكرٍ‬
‫مُنْحَط وجدانِيٍّ عاطفي ُدللمدافعةِ فقط‪ُ،‬عْمَقوليس بقصدِ‬
‫َّي نظ ؛ ولا‬ ‫محاججت‬
‫َه‬ ‫المحاججةَتَأُّمللفائد ؛ ُذ ولا تجَر في‬
‫َظَو‬ ‫َة‬
‫ا ا ِهالعاد ‪ٍ ،‬روينتجُ‬ ‫فيأخ الأمو‬ ‫؛ ِة‬ ‫زياد‬
‫ِة‬ ‫ِهِر‬
‫عنه التفكير السطحيّ في الأشياءِ لا محالة‪ .‬مثالُ‬ ‫ِب‬ ‫ٍل‬
‫ذلك‪ :‬عندما خاصًَامَ النَّضْرُ بن الحارثِ سيِّدَنا‬
‫الرسولَ مُحَمَّد ‪ ‬في قَصَصِ القُرْآنِ وأخبارِ‬
‫الناسِ أخبارَ فارسَ والروم‪،‬‬ ‫الأُمم‪ ،‬فأخذَ يقصُّ على َّن‬
‫وهو يحسبُ الأمرَ كما ظ ؛ من أنه روايةٌ قصصية‬
‫محضَةٌ‪ ،‬وهو ما كان يؤذِي به النضرُ رسولَ اللهِ‪‬؛‬
‫ابن هشام‪(:‬كَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ ‪‬‬ ‫قال ًا‬
‫مَجْلِس فَدَعَا فِيْهِ ّذ إلَىاللهِ تَعَالَى وًاَتَلاَ‬
‫َخَلَفُههِ قُرَيْش مَا‬ ‫فِيْهِ الْقُرْآنَ وَحَ ََرَ فِيْ‬
‫‪ -‬أيِ النَّضْرُ‪-‬‬ ‫أَصَابَ الأُمَمَ الْخَالِيَةَ‪،‬‬
‫فِي مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ؛ فَحَدَّثَهُمْ عَنْ‬
‫رُسْتُمَ السِّنْدِيْدِ ‪ -‬هو طلوعَُأ الشمسِ وهم‬
‫ارِ‪،‬‬ ‫ينسبونَ إليه كلَّ جميلٍ ‪ -‬وَعَنْ سْفَنْدِيَ َّم‬
‫ُمَح‬
‫دٌ‬ ‫وَمُلُوكِ فَارِسَ‪ ،‬ثُمّنَّ يَقُولُ‪ :‬وَاللهِ مَا‬
‫بِأَحْسَنَ حَدِيْثٍ مِ ِي‪ ،‬وَمَا أَحَادِيْثُهُ إلاَّ‬
‫الأَوَّلِيْنَ؛ اكْتَتَبَهَا َوَقكَُلمَا‬ ‫أَسَاطِيْرُ‬
‫ُبْكَرًة ‪َ‬وَأ ا ًاوا‬ ‫اللهُ َعَلْيفِيْهِ‬ ‫َّو‬
‫َّن‬ ‫ُتْمَل‬
‫َّس‬ ‫ْكَتَتَبَهْزََّرلَفَ َي‬
‫أَأَسَكْتُرَتِبَُأهَا‪َ .‬ن فَأَن‬
‫يل َن‪،‬‬‫ُهِص َك‬ ‫َمى َو ِهَو َأْر‬ ‫َيْعَلُم ا‬ ‫ُقْلا َأي َزَلُهال َّل ي ا‬
‫ال َعَلْي َي ُتَنا‬ ‫ُتْتَل‬ ‫ال ِه ي ال ا َذا‬ ‫َغُف ِطًر ن َر ًما ِل ي‬
‫َق َلو اَأَس ي ُرا‪ِ‬ذ(‪َ )1‬أوَّوَنََنزَلَِّس فِِفيْهِ‪  :‬اِت ى ِض ِإ آ ا ا‬
‫ومثاله‪ :‬اليهوديِهُّ الذي‬ ‫ِإ‬ ‫اِح ي ال ي ‪)3( ))2(‬؛‬ ‫ا‬
‫جاءَ إلى سيِّدِنا الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ‪ ‬وقالَ‪ :‬يَا‬ ‫ِل‬ ‫ِط‬ ‫َّم‬
‫ُمَح‬
‫دُ! أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ‬
‫(‪ )3‬املطففني ‪/‬‬ ‫(‪ )2‬الفرقان ‪6-5 /‬‬ ‫(?) الحج‪ 8 /‬ولقمان‪.20 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪13‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫(?) رواهُ ابن هشام في السيرة النبوية‪ :‬ج ‪ 1‬ص‪.383‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪233‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫هُوَ؟ وَهُوَ يَظُنُّ بِالله كَمَا تَقُولُ‬


‫َعْنُهَمعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ‬ ‫مُشَبِّهَةَُر َيالْيَهُهُودِ!‬
‫ا‪ :‬أَنَّ يَهُودَ جَاءَتِ‬ ‫الل‬ ‫عَبَّاسٍ‬
‫َّم‬
‫النَّبِيَّ ‪ ‬مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ ُمَحالأَشْرَفِ‬ ‫ِض‬
‫دُ صَِعفَّزْ‬ ‫وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ؛ فَقَالُواْ‪ :‬يَا‬
‫لَوَجََّلنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ‬
‫‪ :‬قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ‬
‫ولَدْ فَيَخْرُجُ‬ ‫يَلِدْ فَيَخْرُجُ مِنْهُ‪ ،‬وَلَمْ يُ‬
‫مِنْ شَْي ‪ ،‬وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‪َّ،‬ز وَلاََّل‬
‫َع َوَج‬
‫شَبَهَ‪ٍ .‬ءفَقَالَ‪ً [:‬اهَذِهِ صًاِفَةُ رَبِّي‬
‫وَتَق َدَّسَ عُل ُوّ كَبِي ْر ](‪ .)1‬فَمِث ْلُ ه ؤلاءِ‬
‫يجادلون من غيرِ علمٍ؛ ويتفكَّرون في الأمورِ‬
‫بسطحيَّة لا عمقَ فيه‪ ،‬ولا ينظرون الأمورَ بِتَرَ‬
‫ولا حكمةٍ‪ ،‬ويعبِّرون عن أفكارِهم بلغة القومِ لاٍّو‬
‫بضرورات َّلالفكرِ ومقتضاهُ في الواقعِ والحقيقة‪.‬‬ ‫َّم‬
‫ُيَج ُل ْن َغْي ُهًد‬ ‫َأ‬
‫ًاى‪ :‬فهو الذي عندهُ عِلْمٌ‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫فكريّ ‪ ،‬وإنَّما يحصرُ نفسه في‬ ‫وهو ليسَ ِذ مُنِْدحَطِّمًا ِر‬
‫زاويةِ ضيِّقة من الفكرِ‪ ،‬فهو من أهلِ الفكر الضيِّقِ‪،‬‬
‫فتغلَّبَ على فكرهِ نزعاتٌ شخصانيَّة؛ ومثالهُ‪:‬‬
‫عُتْبَةُ بْنُ رَبِيْعَةَ عندما قرأَ عليه سيِّدُنا‬

‫(?) قال في الفتحِ‪ :‬أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات بسند‬ ‫‪1‬‬

‫حسن‪ :‬فتح الباري‪ :‬كتاب التوحيد‪ :‬شرح الحديث(‪ :)7375‬ج ‪13‬‬


‫في كتاب الأسماء والصفات‪ :‬باب قول‬ ‫البيهقي َشْئ‬
‫ص‪441‬؛ وهو عندَلْيَس َك ْث‬
‫‪ :‬ص‪ 278،279‬عن ابن عباس‪ .‬قال‬ ‫الله تعالى‪ :‬‬
‫المنثور‪ :‬ج ‪ 8‬ص‪ :669‬تفسير سورة الإخلاص‪:‬‬ ‫السيوطي‪ :‬في الدر ِم ِلِه‬
‫أخرجه ابن جرير (الطبري) عن عكرمةَ ‪ ،‬أنَّ‬
‫الْمُشْرِكِيْنَ قَالُوا‪ :‬يَا رَسُولَ اللهِ‪ :‬أَخْبِرْنَا‬
‫َأَحٌد وَمُِهنْ َّصأََمُديِّ‬
‫ُقْلكَُهَومَا ُههُوَ؟‬
‫عَْينْ رَبِّكَ‪ ،‬صِفْ لَنَا رَبَّ‬
‫الل ال ‪‬؛‬ ‫الل‬ ‫شَ هُوَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ ‪‬‬
‫ينظر‪ :‬تفسير الطبري‪ :‬تفسير سورة الإخلاص؛ قال القرطبي‪:‬‬ ‫ٍء‬
‫َأَحٌد‪ ،‬أن أهلَ ًاالتفسيرِ‬ ‫ُهَو‪ُ 20‬هص‪246‬‬ ‫ُقْل ج‬
‫الجامع لأحكام القرآن‪:‬‬
‫‪ ‬نزلَتْ جواب لأهلِ‬ ‫الل‬ ‫قالوا‪ :‬إنَّ الآيةَ ‪‬‬
‫الشِّركِ لَمَّا قالوا لرسولِ الله ‪ :‬صِفْ لَنَا‬
‫رَبَّكَ!! أ نْ ذهبٍ هو أم من نُحاسٍ أم من صفر؟‬
‫ِم‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫َّم‬ ‫‪234‬‬
‫ُمَح‬
‫فلمََّلا بلغَ‬ ‫‪،‬‬
‫ُة َر‬ ‫ِ‬ ‫خان‬ ‫ُّ‬ ‫الد‬
‫ّط‬ ‫ِ‬ ‫ورة‬ ‫ُ‬ ‫س‬ ‫من‬ ‫‪‬‬ ‫ٌ‬‫د‬ ‫الرسولُ‬
‫والوعيدَ ما بَلَغَ؛ تع َف عتب ال سو ‪ ‬أن‬ ‫التهديدَ ًا‬
‫يس كتَ خوف ٌم من أن يق عَ علي هِ وقوم ه الع ذاب ‪ ،‬فه و‬
‫(‪)1‬‬

‫عنده عِلْ ؛ ولكن علمَه لم يَهْ هِ ُأإلىسواءِ‬


‫السَّبيلِ؛ لأنه لم يفكِّرْ بالأمرِ ِدالذي خبر به‬
‫وبِما حوله والغاياتِ منه على أساسِ الكتابِ‬
‫والإيْمانِ‪ .‬والسببُ في ذلكَ أنه لا يتَّخذِ الكتابَ‬
‫المنيرَ ليهديَهُ من الضَّلالةِ ويبيِّن له الأحكامَ‬
‫(?) أخرج البيهقي في دلائل النبوة‪ :‬ج ‪ 2‬ص‪ :204-202‬بسنده‬ ‫‪1‬‬

‫ُمَحََّملأُ‬
‫عن جابرِ بن عبدالله قال‪ :‬قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالْم‬
‫دٍ‬ ‫مِنْ قُرَيْشٍ‪ :‬لَقَدِ انْتًاَشَرَ عًَالَيْنَا أَمْرُ‬
‫فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُل عَالِمْء َنبِالسِّحْرِ‬
‫وَالْكَهَانَةِ فَكَلِّمْهُ ثُمَّ ا ا بِبَيَانٍ مِنْ‬
‫أَمْرِهِ‪ ،‬فَقَالَ عُتْبَةُ‪ :‬لَقَدْ ِتسَمِعْتُ بِقَوْلِ‬
‫السَّحَرَةِ ًاوَالْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ‪ ،‬وَعَلِمْتُ مِنْ‬
‫ذَلِكَ عِلْم وَمَا يَخْفَى عَلَيَّ إنْ كَانَ كَذَلِكَ؛‬
‫فُمَحََّمأَتَاهُ‪ .‬فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ عُتْبَةُ‪ :‬يَا‬
‫دُ ! أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمُ ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ‬
‫عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدَاللهِ ؟‬
‫فَلَمْ يُجِبْهُ‪ .‬قَالَ‪ :‬فِيْمَ تَشْتِمُ آلِهَتَنَا‪،‬‬
‫ًا‬ ‫وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا فَإِنْ كُنْتَ إنَّمَا بِكَ‬
‫الرِّئَاسَةُ عَقَدْنَا أَلْوِيَتَنَا لَكَ‪ .‬فَكُنْتَ رَأْس‬
‫مَا بَقِيْتَ‪ ،‬وَإنْ كَانَ بِكَ الْبَاءَةُ زَوَّجْنَاكَ‬
‫عَشْرَ نِسْوَةٍ تَخْتَارُ مِنْ أيِّ أَبْيَاتِ قُرَيْشٍ‬
‫شِئْتَ‪ ،‬وَإنْ كَانَ بِكَ الْمَالُ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ‬
‫أَمْوَالِنَا مَا تَسْتَغْنِي بِهَا أَنْتَ وَعَقِبَكَ مِنْ‬
‫َّر‬
‫بََّرعْدِكَ‪ .‬وَرَسُولُ اللهَِّر ‪ ‬سَاكَّرِتٌ لاَ يَْستَكَلَّمُ‪ْ ،‬حَم‬
‫الل ال‬ ‫فَلَْيمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ‪: ‬‬
‫حم‪َ .‬تنْ يٌل ْن ال ْحَم ال ي ‪َ .‬تاٌب ِب ُفِم َلْت آِهَياُتُه ِن‬ ‫ال ‪ًّ .‬ي‬
‫َأ َذْرُتُكْم‬ ‫َن‬ ‫َيْعَلُم‬ ‫َقْو‬ ‫ُقْر ًن َعَر‬
‫َوَثُم‪َ ‬دفَِنقَرَأِحَ ِمحَتِكَّى بَِّصلَغَ ‪ ‬ن‬
‫َص آِحَقًةاِم ْثَل اَص َق ِز َع ِم و‬
‫و ‪ ‬فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى‬ ‫ِب اِل ٍم ا‬ ‫ا‬
‫فِِعيْهِ ِموَنَاشِعَدِةَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ‪ .‬وَلَمْ‬
‫ٍد‬
‫يَخْرُجْ إلَى أَهْلِهِ وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ‪ ...‬ثُمَّ قَالَ‬
‫عُتْبَةُ لِلْمَلإ مِنْ قُرَيْشٍ‪ :‬فَأَمْسَكْتُ بِفِيْهِ‬
‫ُمَحَّْمتًُاهُ الرَّحِمَ أَنْ ًايَكُفَّ‪ ،‬وَقَدْ عَلِمْتُمْ‬ ‫وَنَاشَد‬
‫د إذَا قَالَ شَيْئ لَمْ يَكْذِبْ‪ ،‬فَخِفْتُ‬ ‫أَنَّ‬
‫أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ‪.‬‬
‫‪235‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫ًا‬
‫بحقائقِ ًاالأمور‪ ،‬فكان تفكيرهُ تفكير‬ ‫الصحيحة ويعرِّفه ًا‬ ‫ًا‬
‫عادي ؛ وليس تفكير سطحيّ ؛ لأنه عَلِمَ وَأَدْرَكَ‪،‬‬
‫ولكنه أخذَ الأمور في حدودٍ ضيِّقة لا بنظرٍ بعيد‬
‫ُكْنَتْ‬
‫يؤمِن‬ ‫َأْمَمَن َم‬ ‫هذا ل‬ ‫والدراسة‪ُ،‬ر ًاولِ ْن‬ ‫َأْوَحْيَن َلْيَك‬ ‫َوَكَذِ َك البحث‬ ‫الغايةِ؛ عميق‬
‫َنْه ا ا َمْن‬ ‫وح‬
‫َم ُن ِإَوَل ْن َجَعْلَن ُه ِمُن ًا‬
‫ا‬ ‫قال تعالى‪:‬‬
‫َتْد َم ْل َت ُب َوِل َا‬
‫ي‬ ‫ِر‬ ‫ا ور‬ ‫َّن‬
‫ي ا ا ا ل ال يْ ا‬
‫َنَشِراُء َّم ْن َبِكا َنا َو َك ِإ َلَتْه ي َلِكى َرا ُمْسَت ي ‪ِ)1(‬د‪ِ .‬بِه‬
‫الرسالاتُ من‬ ‫َأ اِم اْلِعْكُر ِداْلُمْسَت ِإيُر ي اِدْلُقْرآِإ اْلَكِص ي ٍط‪ :‬فهوِق ٍم‬
‫ّي‬ ‫ِن ًا‬
‫حصر ‪ِ،‬ف وع َنَِن ذلكِر ِمربُّ العزَّةِ بقوله‬ ‫ِف‬
‫العالَ ُّممين‬‫ِّ َت‬ ‫رب َا‬
‫َو‬
‫ي ‪ ‬في آيتينِ من سورتَي الحجِّ‪8 /‬‬ ‫ا‬ ‫‪‬ل‬
‫اللهُ‬ ‫َ‬ ‫قال‬ ‫ولقمان‪ِ/‬ك‪ٍ20‬ب‪ِ ،‬نوأنٍر الرسُلَ يأتون بالرسالةِ؛ُّز‬ ‫َّز‬
‫َو َت‬ ‫ُب‬ ‫َو‬ ‫َن‬ ‫َب‬ ‫ُرُسُلُهْم‬ ‫َءْتُهْم‬ ‫َج‬ ‫َوَج‬
‫ال ُّزُب َوال َتا‬ ‫َو‬ ‫َن‬ ‫َب‬ ‫ع ُم ل ‪ ‬ا َع َّز َوَج َّل َج ُءال ا‬
‫‪ ‬اِب و ِّي الِت ا ِب الِر ِبالِك اِب‬ ‫الُْم ي ‪ )2(‬وقوله‬
‫ويعينِب‬ ‫هم ِتالأحكامَِر؛ ِك‬ ‫الْ ِني ِر‪)3(‬فجعلَ الكتابَ يبيِّنُِب لَ ِّي‬
‫َوَجَّلمسالك ُسّنالإنارةِ من‬ ‫َّز‬
‫الحياة؛ بِ‬ ‫َع‬ ‫لَهمِن ِرمناهجَ السيرِ في‬
‫ال ةَ بأنَّها‬ ‫الكتاب‪ .‬وكذلك وصفَ اللهُ‬
‫تنيرُ للإنسانِ الطريقَ‪ ،‬أي تبيِّنُ المرادَ في‬
‫قال‬
‫بالرسالةَِوُمَب ًا‬
‫َأْرَسْلَن َك َش ًا‬ ‫خاطبََّن الناسَ‬ ‫مقاصدِ َّز الش َّلَّارعُِّي حين َّن ُّي‬
‫َع َوَج َيَأ َه‬
‫ر‬ ‫ْذ ا َو َر اًا ُم ا ًاد‬ ‫الله ًا َوَد ًا‪َ ‬ل ا ال‬ ‫َوَن‬
‫ولا‬‫ير ‪ِّ .)4(‬ش‬ ‫ِه‬ ‫اج‬ ‫ى الل ِب ِإ‬ ‫اي‬ ‫ير‬
‫تعبيرٍ عن ِنأنَّ الرسولَ‬ ‫دلالة النص ِهِّ ِبِإمن ِن ِه ِس‬ ‫يخفِذَى ما فيِع ِإ‬
‫للمؤمنينَ‬ ‫ًا‬ ‫مُبَلِّغٌ لأُمَّتهِ الإسلامَ ومبشِّرٌ‬
‫بالجنةِ ونذيرٌ للعصاةِ بالنار‪ ،‬وجعلَهُ مب ن لهذا‬
‫كلِّه؛ فوصفَهُ بالسِّراجِ المنير وهي صفةِّيٌ تقومُ‬
‫بذاتِها من حيث الوجودُ‪ ،‬فإنارتهُ مثل إنارةِ‬
‫َمَعُهِهذا جاءَ في الحديثِ‬ ‫وللأفكار ل‬
‫ْلُقْر َن َو ْثَلُه‬ ‫للأحكامِ‬ ‫القُرْآنِ ُأْو ُت‬
‫] ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ي ا آ‬ ‫الصحيح [‬
‫ِم‬ ‫ِت‬
‫(?) الشورى ‪.52 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(‬ ‫(‪ )2‬آل عمران ‪.184 /‬‬ ‫(?) فاطر ‪.25 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ )3‬الأحزاب ‪.46-45/‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫رسولُ ُت‬
‫قال‪َ :‬ا قال ُأْو‬ ‫الكندي‬
‫يكرب ْثَلُه‬
‫بن معدَت َب َو‬ ‫المقدام ُت‬ ‫(?) الحديث َأعنَا‬
‫‪5‬‬
‫َمَعُه َأ‬ ‫ُأ‬
‫َرُجٌل َيْنَث َشْبَع‪ً ،‬ا ل َعَل يَأ َك ي‬ ‫ال ا‬ ‫ِإِّني َأ وَاِتي ُي َشُك‬
‫الله َن‪َ :‬و [ ْثَلُهل َمَعُه‬
‫ُقْر‬
‫ِت‬
‫ى ي ؛‬ ‫ِإِّن‬ ‫ان‬ ‫ي‬ ‫ِم‬ ‫ِك‬ ‫؛ ل و‬ ‫ال آ‬
‫ِر ِتِه‬ ‫ِن‬ ‫ِم‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪236‬‬

‫وبناءً على هذا كان الفكرُ المستنير في الاستعمالِ‬


‫للتعبيرِ عن فكرِ الرِّسالةِ‬ ‫ّو‬ ‫القُرْآنِيِّ؛ يطلقُ‬
‫ونصوصِها الشرعية التي تك ِنُ من نفسها مصدرَ تفكيرٍ‬
‫أجمعين‪.‬‬ ‫للمؤمنين ومحاسبةٍ لَهم ولغيرِهم من الناس َّن‬
‫ْل ْكَر‬ ‫َأ‬ ‫َّت‬
‫ا‬ ‫يلاحظَ فيْلُمْسَتهذا المقامِ؛‬ ‫ْف‬ ‫أن‬
‫هذا َرينبغُهَوِي َغْيُر‬‫لِْلُمْسَت‬
‫ِف‬
‫ي ‪ ،‬لأنَّ التفكيرَ‬ ‫ال ي ا‬ ‫ي‪:‬‬ ‫ا‬
‫ِر‬ ‫ِن‬
‫المستنيرَ يجري في ذهنِ المرء المسلمِ بقصدِ أخذه من‬‫ِر‬ ‫ِك‬ ‫ِن‬
‫فكرِ الرسالة؛ وحُسْنِ تعاملهِ مع خطابِ الشارع‬
‫بدلالاته على الواقعِ الفكريِّ والعملي؛ فهو أثرٌ‬
‫للفكرِ المستنير‪ .‬والفكرُ المستنيرُ هو الفكرُ‬
‫هدي الوحيِ من دلالات‬ ‫الرسالِيُّ الذي يستضيءُ بُِّسَّن‬
‫خطابِ الشَّارع في الكتاب وال ةِ وفي مناخ الإيْمانِ‬
‫المنحط َّل‬
‫ُّ‪:‬‬ ‫َّز‬
‫به بعدَ العلم واليقينِ؛ ويقابلهُ الفكر َع َوَج‬
‫؛‬ ‫الذي لا يقومُ على أساسٍ الوحيِّ من اللهِ‬
‫كالأفكارِ الوضعيَّة والمذاهب البشريةِ‪ .‬وكذلك الفكرُ‬
‫الضيِّقُ (أحاديُّ النظرةِ)‪.‬‬
‫ويكون التفكيرُ على ثلاثةِ مستويات‪ :‬التفكيرُ‬
‫السطحيُّ‪ :‬وهو الذي ًايغلبُ على أهلِ الفكرِ المنحط‬
‫والفكرِ الضيِّق غالب ‪ .‬والتفكيرُ العميق‪ :‬وهو ربَّما‬
‫َحَمَل الفكرِ الضيِّق‪ .‬والتفكيرُ المستنير‪:‬‬ ‫يوجدُ عند أهل‬
‫بإيْمانٍ بعد العلم‪،‬‬ ‫ةِ الرِّسالةِ ًا‬ ‫ويوجدُ عند‬
‫َّما التفتَ إليه غيرُهم وقليل ما هم؟!‬ ‫ورب َّم‬
‫ُه‬ ‫ْلُمْسَت‬ ‫َخَص ُص ْل ْك‬ ‫َأ‬
‫َسَعُة بخِصَالِ‬ ‫ي ‪ :‬فإن يتصف‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫ال ‪.‬‬ ‫ِن ِر‪.1‬‬ ‫ِف ِر‬
‫وهي‪:‬‬ ‫ِئ‬ ‫معيَّنة‬
‫ُّل‬
‫ْنُّل َح َا َفَأ ُه َوَم‬ ‫َفَم َوَج ُت‬ ‫ُقْر‬ ‫َيُق ُل َعَلْيُكْم‬
‫َلُكْم َلْحُم و ‪َ،‬م ا‬ ‫ْنالَحَر آ ‪َ،‬فَح ُما ُه دَأ مَا يَا َي ل‬ ‫و‬
‫ا‬ ‫ٍل ِح ال َّا‬ ‫و ‪ ،‬ل ِفل ِه ِم‬ ‫َوَجدُتْم ي ِب ا ِن‬
‫ِح ِرَأ‬ ‫َو َاِح ُلَقَطُة ُمَع‬ ‫َس‬ ‫الَأْه ِفَوِهلَا ِمُكل يٍم َنا ِّر‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫بع‪،‬‬ ‫ال‬ ‫من‬
‫َيْسَتْغِلِّيَي َعْن َص ِذُب ٍب َمْن َنَزَل َقْو َفَعَلْي ْم َأ َيْقُر ُه َف َل‬
‫ن ِهٍد وِإ ن م‬ ‫ها ا ها‪ ،‬و‬
‫]‪ُ.‬س مسند الإمام ِإأحمد‪:‬‬ ‫َيْقُروِنُه َفَلُه َأنْ ِحيعقبهم بِمِثْلِِب قٍِمرَاهُ ِه‬
‫ج ُس‪ 4‬ص‪ .131-130‬سنن أبي داود‪ :‬كتاب ال نة‪ :‬باب في لزوم‬
‫ال نة‪ :‬الحديث (‪ )4604‬وبِهذا اللفظ كما هو عند الإمام‬
‫أحمد في المسند‪ .‬وعند الطبراني في المعجم الكبير‪ :‬الحديث (‬
‫‪ )670‬من ج ‪ 20‬ص‪.232‬‬
‫ِح‬
‫‪237‬‬
‫َّي‬ ‫َّي‬ ‫َّي‬ ‫اْلَمَبا ُث ُّش‬
‫ْنَس ُة‬ ‫ْلَعَم ُة‬ ‫ُم ُة‬
‫‪ .4 .‬ال ا ‪.‬‬ ‫ال و ‪ .3 .‬ا‬ ‫‪َّ .2‬م‬
‫ِإ ِن‬ ‫ِل‬ ‫ِل َسَعُة‬ ‫َأ‬
‫ا ال ‪ :‬فهي احتواءُ خطابهِ في دلائله على‬
‫إمكانِ النَّظر في كلِّ مشكلةٍ‪ ،‬لمعالجتِها في‬
‫إطارِها المنهجيِّ العام حين النظرِ فيها‪ ،‬أو في‬
‫جزئيَّاتِها الفروعيَّة؛ فيتأتَّى به تفسيرُ حقائقِ‬
‫الأشياء؛ أو تنظيمُ الأعمالِ علىّب مستوى الفكرِ‬
‫والمعتقد وعلى مستوَى الأفعالِ ليص ُها في أهدافهِ‬
‫ومشروعيَّ ُّشته‪َّ .‬ي‬ ‫َّم‬
‫ُم ُة‬ ‫َأ‬
‫ا ال و ‪ :‬فهي القدرةُ الواعية في الفكرِ على‬
‫تنظيمِ جميعِل الشُّؤونِ الحياتيَّة؛ في العباداتِ‬
‫والمعاملات والأخلاق والعلاقاتِ عامةً وخاصَّةً؛‬
‫متكاملةٍ كاملة؛ على أساسِ الفكر‬ ‫ّي‬ ‫وغيرها بِمنظومة‬
‫والمعتقدِ‪ ،‬ولا تأخذُ أ َ ضيقٍ أو عُسر في أمرِها‪.‬‬
‫فهي على عكسِ النَّظرةِ الضيقة‪ ،‬فالنظرةُ الشمولية لا‬
‫النظرةِ الأُحاديَّة للأشياءِ‪.‬‬ ‫تتفقَّمُ مع َّي‬
‫ْلَعَم ُة‬ ‫َأ‬
‫َو ْنَس اَّيُة ا ْل ْك ‪ :‬فهي إمكانُ لَمسِ الأفكار وتطبيقِها‪.‬‬
‫هي ملاءمتهُ للفطرةِ‪.‬‬ ‫ِل‬
‫اَّم ا ‪َّ :‬ت‬
‫ْلُمْسَت‬ ‫ْف‬ ‫ِإ َأ ِن َط ِفَقُةِر‬
‫ي ‪ :‬فهي الطريقةُ الفطرية‬ ‫ال ي ا‬ ‫ي‬ ‫ا‬
‫ِر‬ ‫ِن‬
‫التي تجرِي في ذهنِ الإنسان بعمليَّة ربطِ الواقع‬ ‫ِر‬ ‫ِك‬ ‫ِر‬
‫المحسوسِ بالمعلومات السابقة‪ ،‬وكيفيَّتها ثابتةٌ‬
‫دائمة؛ وتتأتَّى من النظرِ في الواقع؛ لإدراكِ‬
‫ماهيته؛ ومعرفة حقيقتهِ؛ ثم تفسيرِ علاقاته بِما‬
‫حوله؛ للإحاطةِ بعلمه‪ ،‬ثم النظرُ إليه من زاوية‬
‫الفكرِ المتبنَّى؛ بقصدِ الحكم عليه بِما يفيدُ‬
‫العملَ؛ والوصولَ إلى الأهدافِ والغايات المنشودةِ؛‬
‫سواءٌ على مستوَى الفطرةِ؛ بأن يفكِّرَ الإنسانُ‬
‫بأشياءٍ لمعرفة حقيقتِها في الوجودِ؛ وتفسيرِ هذه‬
‫الحقيقة بفكرة كليَّة؛ أو بعدَ معرفةِ الفكرة الكلية؛‬
‫َّش‬ ‫والنظرِ من خلالِها إلى العالَم‪.‬‬
‫ْر‬ ‫ْل َط‬ ‫ْل ْك َعَل َد َا‬ ‫ْط َا‬ ‫ُمَت َبَعٌة‬
‫ا ا ال ‪ :‬قد‬ ‫ى ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ا‬
‫ِعِّي‬ ‫ِب‬ ‫ِخ‬ ‫ِئِل‬
‫يقلقُ بعضُ المعاصرين من إطلاقِ لفظ (فكر) على دلائلِ‬ ‫ِر‬ ‫ِف‬ ‫ِق‬ ‫ِإ‬ ‫ِف‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪238‬‬
‫ّد‬
‫الإسلام العقيديَّة والفقهية‪ ،‬ويع ُون هذا الإطلاقَ من‬
‫المصطلحاتِ المولَّدة المعاصرة‪ ،‬فلا يتسامحونَ في‬
‫تسميةِ (الفكرِ الإسلاميِّ) أو (أفكارٍ إسلاميَّة)‬
‫فيعتبرون أنَّ هذا الإطلاقَ من الألفاظِ المنهيِّ‬
‫عنها؛ أو الألفاظِ البدعيَّة الْمُحْدَثَةِ‪ .‬ويقولٌيُ‬
‫قائِلُهم‪ :‬إن الإسلامَ ليس مجموعَ أفكارٍ؛ لكنه وُسََّنحْ‬
‫نزلَ من ربِّ العالَمين في القُرْآنِ العظيم وفي ةَّدِ‬
‫النبيِّ الكريم ‪ ‬الذي لا ينطقُ عن الهوَى‪ ،‬ثم عُّح‬
‫بأنه أمرٌ قابل للطَّرحِ والمناقشة‪ ،‬قد يص‬ ‫الفكرَ ّح‬
‫وقد لا يص ُ؛ فقالَ‪ :‬فلا يجوزُ أن يطلقَ (فِكْرٌ) على‬
‫الإسلامِ؛ لأنَّ التفكيرَ من خصائصِ المخلوقينَ؛‬
‫والفكرُ يقبلُ الخطأَ والصواب‪ .‬وقال آخرًُا‪ :‬وكيفَ يصحُّ‬
‫أن يكونَ الإسلامُ ومصدرهُ الوحيُ فكر ؛ والفكرُ هو‬
‫ما ًايفرزهُ العقل؛ فلا يجوزُ بحالٍ أن يكون الإسلامُ‬
‫مظهر للفكرِ الإنسانِيِّ؟‬
‫َل‬
‫وعلى ما يبدُو أن مثلَ هذه المقولاتِ م تستنِدْ‬
‫على وَعْ كا للسانِ العرب واستعمالات القُرْآنِ‬
‫للفظِ ٍف(فِكْرٍ) ! وأَخذت تتحَّكمُ في هذا‬ ‫الكريم ٍي‬
‫الإطلاقِ من غير تَمحيصٍ أو بيانٍ لِمعنى الفكرِ كما‬
‫هو في لسانِ العرب ومعهودهم اللغويِّ‪ ،‬ولا ببيانِ‬
‫معناهُ كما يجرِي في ذهنِ الإنسان‪ ،‬قُلْتُ‪ :‬فليسَ من‬ ‫َضْي‬
‫الاسلامِ أنهُ مجموعُ أفكارٍ‪ ،‬لأنه‬ ‫ًا‬ ‫على‬ ‫َ‬‫يطلق‬ ‫أن‬
‫إنٍرْ لم يكن فكر يَعْقِلُهُ الإنسانُ وتدركهُ‬
‫أن‬ ‫َّل‬ ‫َّز‬
‫الأبصار؛ ًافماذا يكونُ؟ َعوليس َوَجهناكَ تنافرٌ بين ًا‬
‫؛ وأن يكون فِكْر‬ ‫يكونَ وحي من اللهِ‬
‫يَتَفَكَّرُ به الإنسانُ وتدرِكُ معانِيَهُ الأبصارُ‪.‬‬
‫بل هذا من ّج ضروراتِ أمرِ التَّكليفِ‪ ،‬بل الخطابُ‬
‫الإسلامي مو َهٌ إلى تفعيلِ العقولِ لإدراك معناهُ‬
‫والإيْمانِ به عن طريقِها‪.‬‬
‫أما أن يقالَ بأنَّ الفكرَ هو ما يفرزهُ العقل!‬
‫فهذا تعميمٌ ليس في محلِّه؛ لأن الفكرَ نتاجُ العقلِ‪،‬‬
‫وينسبُ بحسب مصدرهِ العلميِّ ومرجعيته في التفسيرِ‬
‫‪239‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫المعرفِيِّ‪ ،‬وإذا نظرنَا إلى الفكرِ من هذه الجهة؛‬


‫بالمعلومات السابقةِ‪ .‬وجرَى في‬ ‫َّل‬ ‫فالفكرُ تفسيرُ الواقعِ‬
‫ذهنِ آدَمَ ‪ ‬منذُ أن عَ مَهُ اللهُ العلمَ الذي‬
‫ُعجَهِلَتْهُ الملائكةُ فانبأَهُم بأسماءِ الأشياء التي‬
‫رضت عليهم‪ .‬فالفكرُ ما يجولُ في الذهنِ ويجري به‬
‫عقلُ الإنسانِ لإدراك الأشياء بغضِّ النظرِ عن‬
‫كان‬
‫ًا‬ ‫مصدريَّته ومرجعيته‪ ،‬ويتعيَّن بحسبِهما‪ .‬فإذا‬
‫مرجعهًاُ الوحيُ الثابت‪ ،‬أي الإسلامُ بوصفهِ خطابٌر‬
‫شرعيٌّي؛ فتكون مرجعيَّته ًاإسلاميةًاً؛ فيسمَّى (فك‬
‫إسلام )‪ .‬وإذا كان عقليّ محض ‪ ،‬أي يُبْتَنَى‬
‫بالاستنتاجِ والملاحظة؛ أو الاستقراءِ‪ ،‬فهذا فكرٌ‬
‫عقلانِيٌّ‪ ،‬أو كانت مرجعيَّته تراثه الدينيُّ؛ فهذا‬
‫فكرٌ دينيٌّ‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫هو الدينُ ًاالذي‬ ‫ومن المقطوعِ به أنَّ الإسلامَ َّم‬
‫ُمَح‬ ‫ُأ‬
‫دٍ ‪ ‬وحي من‬ ‫نْزِلَ َعَّزعلىَوَجَّلسَيِّدًِانَا الرًىَّسُولِ‬
‫ُّسَّن‬
‫الكريم‪،‬‬ ‫؛ لفظ ومعن وهو ُمَحَّمالقُرْآنُ‬ ‫اللهًِا‬
‫دٍ ‪ ‬وهو ال ةُ‪.‬‬ ‫وبيان بِهدي سيِّدِنا الرَّسُولِ‬
‫لِيُنَظِّمَ حياةَ الناسِ في علاقتِهم مع ربِّهم؛‬
‫وعلاقتِهم مع أنفسهم؛ وعلاقتِهم مع غيرهم من الناسِ‬
‫والأشياء‪.‬‬
‫المقامِ؛ لا يرادُ بِها‬ ‫َل‬ ‫الوحي في هذا‬ ‫وحقيقةُ ًا‬
‫جبريلَ ‪ ‬قطع ‪ ،‬لأن جبريلَ مَ كٌ يحضرُ الأنبياءَ‬
‫ويخبرُ بقصدِ مراد‬ ‫والرُّسَُّزلَ عََّللَيْهِمُ السَّلاَمُ؛ َّز‬
‫َع َوَج‬
‫في الكُتُبِ المنَ لةِ عليهم‪ ،‬أو‬ ‫الله‬
‫ببيانِها للناس‪ ،‬وليسَ من خلافٍ في فَهْمِ هذه‬
‫المناقشةَ في تعريفِ‬ ‫ًا‬ ‫المسألةِ‪ ،‬ولا هي قضيةٌ تحتاجُ‬
‫الفكر أو إطلاقهِ على الإسلامِ‪ .‬وقطع أنَّ الإخبارَ‬
‫تعالى‪:‬‬ ‫ِّ‪ ،‬قال‬ ‫النبي‬ ‫بلسانِ‬ ‫القومِ أي‬ ‫يكونُ بلسان ُّم‬
‫َك‬ ‫َس‬ ‫َل‬ ‫َتَع‬ ‫ُه‬ ‫َل‬ ‫َوَق‬ ‫َع َر‬ ‫َس‬
‫(‪)2‬‬
‫ا ى‪ُّ:‬سَّن‪ ‬ا ‪‬‬ ‫ا الل‬ ‫(‪)1‬‬
‫ي‪‬‬ ‫‪ ‬ا‬
‫العلماءُ على الكتابِ وال ةِبِلبأن ِنَّهما‬ ‫ِبِلهذاٍن أَطْلِبٍّيَقَ ِب ٍن‬
‫ولِ‬
‫(‪ )2‬مريم‪ 97 /‬والدخان‪.58 /‬‬ ‫(?) الشعراء ‪.195 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(‪ )3‬ص~ ‪.20/‬‬ ‫‪2‬‬


‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪240‬‬

‫خطابٌ شرعيٌّ إلى العبادِ‪ ،‬والخطابُ في عُرْفِ العربِ‬


‫الكلامِ‪ .‬وأصلهُ قولهُ‬ ‫َط‬ ‫ْل‬ ‫َل‬ ‫ْكَمَُة في‬
‫َوَفْص‬ ‫المراجعة‬
‫ْل‬ ‫ُه‬ ‫ولسانِهم‪َ:‬وَء هو‬
‫َتْيَن‬
‫أي البي انِ‬ ‫ا ا ‪َّ‬ز(‪َّ )1‬ل‬ ‫تع الى‪  :‬ا ا ا‬
‫ِخ ِبَع َوَج‬ ‫ِح‬
‫والباطلِ‬ ‫الفاصلِ بين الحقِّ الذي يريدهُ الله‬
‫الذين هُم عليهِ؛ بإيجازِ المعنى الكثيرِ في اللفظ‬
‫الكريم‪ ،‬ثم قولِ الرسولِ ‪‬‬ ‫القليلِ كما في الْقُرْآنِ ُّسَّن‬
‫َُّّل؛‬ ‫َّز‬
‫الشرعيَوَج‬‫وفعلهِ وإقراره كما هو في ال ةِ‪ .‬والخطابُ َع‬
‫يحملُ دلالةَ هذا المفهومِ بِمعنى‪ :‬أنَّ اللهَ‬
‫أرجعَ إلى العبادِ الكلامَ الذي يفهمونه بِنَظْمٍ‬
‫مُعْجِزٍ هو الْقُرْآنُ الكريم ليب نَ لَهم قصدَ‬
‫مرادهِ الذي اختلفُوا فيه أو جَِّيحَدُوا بأنباءِ‬
‫الرُّسل إليهم فيه أو لتَنْظِيْمِ حياتِهم حسبَ مراده‬
‫فكلُّ هذا هو خطابٌ‪.‬‬
‫النصِّ الشرعيِّ؛‬ ‫وخطابُ الشَّارعِ‪ :‬هو دلائلَُّز َّل‬
‫َع َوَج‬
‫‪ ،‬ودلائلُ هذا‬ ‫فالنصُّ الشرعي وحيٌ من اللهِ‬
‫النصِّ هي الخطابُ المراد عقله وإدراكُ معانيهِ بِما‬
‫يؤدِّي إلى الفكرًِا؛ ثم الفهمِ؛ ثم الفقه؛ ثم العملِ‪.‬‬
‫ولهذا ليس وَارِد عند العلماءِ إطلاقُ الفكرِ على‬
‫النصِّ الشرعي ولا بحالٍ من الأحوال؛ وهذا من‬
‫المسائلِ الأوَّليةِ في أُصُولِ الفقهِ؛ ولم يَرِدْ‬
‫لديهم بحثٌ في هذه المسألةِ في مَظَانِّ ًامباحثِ‬
‫حدِّ ما نَعْلََزمَّلُ؛ وليس مراد عند‬ ‫أصُولِ الفقه على ًا‬
‫به المتفرنِجُون‬ ‫عامَّة الناسِ أيض ‪ ،‬ولربَّما‬
‫والحضارة‬ ‫الوافدة‬ ‫بالثقافةِ‬ ‫تأثَّروا‬ ‫الذين‬
‫الرأسماليَّة الليبرالية‪ .‬وليس لأجلِهم نغيِّرُ لسانَ‬
‫العربِ أو نبدِّلُ لغتَهم على ما تواضَعُوا عليهِ في‬
‫دلائل الكلامِ‪.‬‬
‫َّث‬
‫الشرعي‬ ‫ولا يعقل أن ًا يتفوه وا على دلائل النص‬
‫الشارع الحكيم جعلها كذلك وح‬ ‫بأنَّها ليست فكر ‪ ،‬لأن ٍع‬
‫عشر‬ ‫َّن‬
‫سبعة َأْن‬ ‫أكثرُظُكْممن َو َد‬ ‫في َأ‬ ‫الكريم َم‬ ‫ُقْل‬ ‫على ًاالتفكير في القرآن‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫موضع ‪ ،‬قال الله تعالى‪ :‬‬
‫ِب ِح ٍة‬ ‫ِع‬ ‫ِإ‬
‫‪1‬‬
‫‪241‬‬
‫َّن‬ ‫َّم‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫َّك‬
‫َمْثَن َوُفَر َد ُث َتَتَف ُر َم َص ُكْم ْن‬ ‫َتُق ُم‬
‫َبْيَن َيَدْي َعَذ وا َش ا ا‬ ‫وا لله َن ٌرى َلُكْم ا ى‬ ‫ْنو ُهَو‬
‫خطابٌٍة‬ ‫ي ِب‪ِ )1(‬حِبوهذا ِم ِج‬ ‫ا‬ ‫الا ي‬
‫سولُنِ‬ ‫ٍد‬ ‫ِد‬ ‫ٍب‬ ‫ِإللناسِ عامِذَّة يوجِّ‬
‫بالرَُّيَب‬ ‫مانِ َكَذ َك‬ ‫َوَقهَُلهم ُهللإيْ‬
‫َتَع ُّدَل‬
‫ْنَي ‪‬‬ ‫ا ى‪:‬‬ ‫الل‬ ‫الْمُرْسَلِ إليهِم؛َّل ا َّك‬
‫َّل‪ِّ2‬ي)‬
‫َر‬ ‫ِل‬ ‫َو‬ ‫َن‬ ‫ُر‬ ‫َلَع ُكْم َتَتَف‬ ‫ُه َلُكُم َأَي‬
‫ُه الَتَع َل ِت َكَذ َك ُيَب ُن ِف ُه َلُكُم َأَي ِخ ِةَلَع ُكْم‬
‫‪‬‬ ‫الآ‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫اللَل‬
‫(‬
‫و‬ ‫َوَق‬
‫ْعَم‬ ‫ا‬ ‫ال‬
‫ُق ْل َه ْل َيْس َت‬ ‫الل‬ ‫ُه َتَع َل‬ ‫‪‬‬ ‫‪:‬‬ ‫ى‬ ‫ا‬ ‫الل‬
‫َتَتَف ُر َن (‪َ )3‬وَق َل‬
‫اَّك‬
‫ُه َتَع َل يِت الأَأَوَلْمى‬ ‫الل ِل ا ِّيى‬
‫َوَق‪َ :‬ل‪‬‬ ‫َّك‬ ‫َو ْلَب وُر‪َ ‬أَف ا‬
‫ِو‬ ‫َّس‬ ‫َتَتَف ُر َن (‪)4‬‬
‫َيَتَف ُرِصي َّا َألاُف ْم َم و ‪َ‬خَلَق ا ُه اللَّلَم َو اَو ى‪َ:‬أْرَض‪َ ‬وَم‬
‫ا َّك‬
‫َها‬ ‫الل ال ا اَن َي ال‬
‫ْذُكُر َن‬ ‫َبْيَنُهَموا ي ن ْلَح ا‬
‫َّس‬ ‫ِت‬ ‫ا ِسِه ‪ )5(‬وق ال تع َّك‬ ‫ا ِف‬
‫الى‪ُ:‬ر َن‪‬ا ِذي َخْل و َم َو‬
‫الل‬ ‫َوَيَتَف‬ ‫ْم‬ ‫ُجُن‬ ‫َوَعَل‬ ‫ل‬
‫َياًما ِإ َّبو اِب ِّق‬
‫ًد‬ ‫َوُقُع‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ال‬
‫ُسْبَح َنَك ِقَف َن َعَذ ِتَب‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫ى‬
‫َوِق َّنَأْر َر َن َم َخَلْقَت َهَذ َب ًا‬
‫َوَقا َل ا ُه َتَعِبِه َلا اَوَلل ْو ِفْئَنا َلَرَفْعَن ا ُه َها‬ ‫ال‬
‫ْلَكْل ْنا‬ ‫ا‬ ‫ِق‬ ‫ِط‬
‫َأْخَلَد اَل اللَأْر َو َّتاَبَعى‪َ :‬هَو‪ُ ‬ه َفَمَثُلُه ا‬ ‫(‪)6‬‬ ‫ِض‬
‫ال َّناُه ‪‬‬
‫ا َّلِب‬ ‫َكَمَث‬ ‫ِش‬ ‫َوَل ِر‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫َتْحِكَّذْل َعَلْي ِإَيْلَهْث َأْو ِضَتْتُرْكُه َيْلَهْث َذَّل َك َمَثُل ِلْلَقْو ِب ِإَن‬ ‫ال‬ ‫ى‬
‫ا ي‬ ‫َي َن َف ْقُص ْص ْلَقَص َص َلَع ُهْم َيَتَفَّك ُرا‬
‫ال‬ ‫و ‪ِ ‬م وقِذ‬ ‫)‬ ‫‪7‬‬‫(‬ ‫َن‬ ‫ُّد ِل‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬‫َك ِمُبوا آِه َّن‬
‫َّمْنَي َكَم َّن َأْنَزْلَن ُه ْن‬ ‫ِب َمِت َمَثُل ْلَحَي‬ ‫َّس‬
‫ا‬
‫َّزَّي َيْأُكُل ٍءَّن ُس َو َأْنَعَّنِمُم‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫َنَب اُت ِةَأْر‬
‫ا‬ ‫تعالى‪َ :‬ف‪ ‬ا‬
‫ْخَتَلَط‬ ‫َم‬
‫ال ا اِإ‬ ‫َّت‬
‫ُزْخُرَفَه ِض َوِم ا َنْت َوَظال اَأْهُلَه ال َأ اُهْم‬ ‫َأْرُض ا ال‬
‫ِبِه‬ ‫َأَخَذ‬ ‫َح ى ِء‬
‫َذ‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫َق ِإُر َن َعَلْيَهِت َأَت َه َأْمُرَن َلْي ًا َأْو َنَه ًر َفَجَعْلَن َه‬ ‫ال‬ ‫ا‬
‫اَقْوا‬ ‫اا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫اا‬ ‫ا‬ ‫ا و‬
‫َح ِديَّكًدا َكَأْن َلْم َتْغَن الَأْم َكَذ َك ُنَف ُل َّزالآَيا َّز‬
‫ْيُت وَنٍم‬ ‫ال ِل‬ ‫َلُكْم َّن ِّصال ْرَع َو ِت‬ ‫َيَتَف َّنُروَن‪ )8(‬وق ال تع الى‪ِ:‬ب ‪ُ‬يْنِسَّثُت ِل‬ ‫ِص‬
‫ِب ِه َذ َك َيًة َقْو‬ ‫ِب َمَر‬ ‫َل َو َأْعَن َب َو ْن ُك‬ ‫َو‬
‫لآ‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫الَّك‬
‫َخَل َق َّدَلُكْم ِلْن ٍم‬ ‫َيَتَف ِخُروَن‪ )9(‬وق ال تعِم الى‪ِّ:‬ل ‪َ‬و ْن آِتَيا ِإ ِفَأْن ِل‬
‫َوَرْحَمًة‬ ‫َوَجَعَل ِه َبْيَنُكْم َمَو ًة ِم‬ ‫ِت‬ ‫َلْيَه‬ ‫َأ ُف ُكْم َأْزَو ًج َتْسُكُن‬
‫ِما‬ ‫وا‬ ‫اا‬ ‫ن‬
‫ِإ‬ ‫ِل‬ ‫ِس‬
‫(‪ )2‬البقرة ‪.220-219 /‬‬ ‫سبأ ‪.46 /‬‬ ‫(?)‬ ‫‪1‬‬

‫البقرة ‪.266 /‬‬ ‫(‪)3‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫‪.8‬‬ ‫‪/‬‬ ‫الروم‬ ‫(‪)5‬‬ ‫الأنعام ‪.50 /‬‬ ‫(?)‬ ‫‪4‬‬

‫آل عمران ‪.191 /‬‬ ‫(‪)6‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪6‬‬

‫(‬ ‫(‪ )2‬يونس ‪.24 /‬‬ ‫(?) الأعراف ‪.176 /‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ )3‬النحل ‪.11 /‬‬ ‫‪8‬‬


‫‪9‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪242‬‬
‫َّن‬
‫َّك‬
‫َيَتَف ُر َن (‪)10‬‬
‫َقْو‬ ‫َي‬ ‫َك‬ ‫َذ‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫َّو‬ ‫و‪‬‬ ‫لآ ا‬ ‫ي‬
‫ٍت ِل ٍم‬ ‫ِإ ِف ِل‬
‫وكذلك لا يُعْقَلُ أن يتف هَ الواعون على‬
‫النُّصوصِ الشرعية بأنَّها فكرٌ؛ لأنَّها خطابًاٌ‬
‫يصدرَّل عن عقلٍ بشريًاٍّ‪ ،‬وإنَّما جاءت وحي‬ ‫َوَج‬
‫متعيِّنٌ لمَّز‬
‫َع‬
‫‪ ،‬فليسَ وارد في هذا المقامِ َّز‬
‫أن‬ ‫ُيمن اللهِ‬
‫َع‬ ‫ًا‬ ‫َّل‬
‫بحثَ في الخطابِ أكثرَ من كونهِ وحي من اللهِ‬ ‫َوَج‬
‫بلسانٍ ُمَحَّمعربِيٍّ مبينٍ؛ أو بلسانِ النبيِّ‬
‫دٍ ‪ .‬وهناك فَرْقٌ لا يخفَى ُع على‬ ‫الرَّسُولِ‬
‫سَوِيِّ العقلِ بين النصِّ والدلائلِ فيه‪ ،‬وإذا ًا رِفَ‬
‫عقلُ إنسانٍ شاعر أو‬ ‫النص ًاِّ َّل البشريِّ ًا‬ ‫أنًَّا مصدرَ‬
‫ناثر أو قَصَعَصيَوَج أو فيلَسُوف ‪ ،‬فإن النصَّ الشرعي‬ ‫َّز‬
‫هذا المصدرِ‬ ‫‪ .‬والبحثُ في ماهيَّة ًا‬ ‫مصدرهُ اللهُ‬
‫مُتَعَذِّرًٌا عند العقلاءِ فهو ممنوعٌ عقل ‪ً ،‬ا ومنهيٌّ‬
‫عنه شَرْع فالنظرُ فيه وبحثهُ حرامٌ شرع ‪ .‬لِهذا‬
‫اللهِ وليس من‬ ‫ًا‬ ‫يكفِي أن نعرفَ أنًاَّ هذا ًاالنصَّ من‬
‫وليسَ وارد البحث عن‬ ‫ًا‬ ‫وضعِ البشر إيْمان واعتقاد ‪.‬‬
‫كيفيةِ نشوئه أكثرَ من كونهِ وحي من اللهِ فقط في‬
‫هذا المقامِ‪.‬‬
‫ًء‬
‫وبنا على هذا‪ ،‬لا يصحُّ ًاما قالَهُ بعضُ المعاصرين‬
‫من أنَّ الإسلامَ ليس فكر ؛ بل الإسلامُ فكرٌ عن‬
‫الكونِ والإنسان والحياةِ يتمثَّلُ في العقيدةِ؛ وفكرٌ‬
‫عن معالجةِ المشكلات في الحياةِ يتمثَّلُ في الفقهِ‬
‫الإسلاميِّ في أبوابه العبادات والأخلاق والملبوسات‬
‫والمطعومات؛ وفكرٌ لًِاممارسة الحياةِ في جميع الميادينِ‬
‫المجتمعيَّة متمثِّل بأحكامِ التنفيذ والمحافظة على‬
‫التنفيذِ وحملِ الدَّعوةِ إلى العالَم‪ .‬ففي دلائلِ‬
‫ِّ الشرعي ما يهتدِي به البشرُ حين‬ ‫الخطاب الإسلامي ًا‬
‫يتَّخذونَهُ فكر لَهم يَعْقِلُونَهُ ويرشدون به؛‬
‫لينتجَ منهُ الخطابُ الإسلامي الفكريُّ‪ ،‬أو الفقهي‪،‬‬
‫أو الخبراتِيُّ‪ .‬فما دامت مرجعيةُ التفكيرِ تَكْمُنُ في‬

‫(?) الروم ‪.21 /‬‬ ‫‪10‬‬


‫‪243‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫ودلالاتهِ الخطابيَّة؛ فإن‬ ‫ُّد‬


‫الشرعي‬ ‫ماهيَّة النصِّ‬
‫ًا‬
‫المنتوجَ الفكريَّ يع إسلاميّ لا هوَى فيه ولا‬
‫الخطابَ‬
‫ًا‬ ‫َفْصُل في الاجتهادِ‪ .‬أي أن‬ ‫ضلالةَ وإن أخطأَ‬
‫وهوَفْهُمالنصُّ الذي جاء وحي من‬ ‫فيهَّل ال‬
‫َوَج‬
‫الإسلاميَّز‬
‫َع‬
‫أدركتَّزْهَُوَجَّلعقولُ‬
‫َع‬ ‫الذي‬ ‫وهو‬ ‫ال‬ ‫وفيه‬ ‫؛‬ ‫اللهِ‬
‫فيه‬ ‫العلماءِ واهتدت إلى قصدِ مُرادِ الله‬
‫منهم‪.‬‬
‫أما أنْ يطلقَ (تَصَوُّرٌ) على الفكرِ الإسلاميِّ؛‬
‫فصاحةً‪،‬‬
‫ّو‬ ‫أو على النصِّ الإسلامي‪ ،‬فهذا مما لا يصحُّ‬
‫مع أنه قد يخفَى على كثيرٍ من الناس‪ ،‬لأن التص ُرَ‬
‫هو ّوالأثرُ الضعيفُ للإدراكِ‪ .‬وذاكَ أنَّ العربَ تطلقُ‬
‫التص ُرَ على ما لا يثبتُ حكمه في الذهنِ‪ ،‬فلا‬
‫يتأتَّى به تصديقٌ ولا تسليمٌ؛ فلاَ يُغْنِي ٌّي‬
‫في‬
‫إيجادِ القناعات وحصول الإيْمانِ‪ .‬وإذا قال افْرَنْجِ‬
‫أو كافرٌ بالتصوُّرِ الإسلاميِّ؛ فذاكَ أنه لا يؤمنُ‬
‫باللهِ ولا باليوم الآخر؛ وإذا قالَها مسلمٌ‪ ،‬فذاك‬
‫أنه غافلٌ عن دلالةِ اللفظ في كلام العربِ؛ أو انساقَ‬
‫وراء مقولاتٍ لم يُتْعِبْ نفسَهُ في تعيين دلالاتِها؛‬
‫فيجبُ أن تُصَحَّحَ له أُغْلُوطَتَهُ؛ بأن يُرْشَدَ‬
‫إلى استعمالِ الكلام الذي يليقُ بإيْمانهِ؛ وربَّما‬
‫انساقَ وراء عُجمةِ لسانٍ وفكرٍ‪.‬‬
‫الرأيَّوَُل يتردَّدُ بين‬
‫َأ‬ ‫أما القولُ بأن الفكرَ أو‬
‫الصوابِ والخطأ؛ فهذا أحدُ اثنين؛ ال ‪ :‬رأيٌ لإنسانٍ‬
‫من بناتِ فكره‪ ،‬فينظرُ؛ إن كان أمرهُ في غيرِ أمور‬
‫الدين ويُبْتَنَى عليه عملٌ؛ فيتحرَّى فيه الرُّشْدُ‬
‫والصوابُ‪ .‬وإن كان َّثفي أمرٍ من أُمورِ الدين‪ ،‬فيضربُ‬
‫عرضُ الحائطِ‪ .‬ال ا ي‪ :‬رأيٌ لِمجتهدٍ نشأَ في ذهنهِ‬
‫به ُب‬
‫ِن‬
‫من عد نظرٍ وعمق دراسةٍ وزيادة بحث في النصوصِ‬
‫الشرعيَّة؛ فإنه ينظرُ حسبَ أدلَّته وحجيَّتها على‬
‫المطلوبِ‪ ،‬فيترجَّحُ القطعيُّ لثبوتِ الإحكام لنصِّه‬
‫ودلالته‪ ،‬وأما الظنيُّ منه؛ فإنه يبقى على ظنيَّته‬
‫لاحتمالِ النصِّ أكثرَ من دلالةِ معنى‪ ،‬فيترجَّحُ‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪244‬‬

‫بالظنِّ وهو في كلِّ الأحوالِ فكرٌ‪ ،‬لِمَا بذلَ به‬


‫عقلُ الإنسان من جُهْدٍ لإدراك المطلوبِ‪ .‬فهو فكرٌ‬
‫حالَ كونهِ تفسيرَ الواقعِ بالعلم الشرعيِّ الذي جاء‬
‫به النصُّ‪ ،‬وبحسب مقتضَى لسانِ العرب وهذا معلومٌ من‬
‫بديهيَّات العُلومِ الشرعية في الفقهِ والحديث‬
‫والتفسير والحمدُ لله على ما أَنْعَمَ‪.‬‬

‫المبحث (‪َ :)8‬م ْبَح ٌث ِفي َد َالَلِة اِإل ْقَر اِر ِفي الُّرُّلَغ ِة َو الِّلَس اِن َو اْلِفْك ِر‪:‬‬
‫ُمْسَتَق‬ ‫َقَر‬ ‫ْقَر ُر ْن‬
‫من الأرض‪ ،‬قالَّنْحفي‬ ‫(الْلَق ا ) وهو ال‬ ‫ال ا‬
‫الصحاح‪ :‬ويوم َي (ا َن ) اليومُ الذي بعدَ يومِ ال ؛‬ ‫ِر‬ ‫ُّر‬ ‫ِم‬ ‫ِإ‬
‫تون‪،‬‬ ‫مكثون ويثبُ ِر‬ ‫و ِّرفي منازلِهم؛ َّنأي يَ َّر‬
‫ُبُي ُك (‪َ )1‬وَق‬ ‫الناسَتَع َلِق َوَقْرَن‬ ‫َقلأنَلَّ ُه‬
‫ْلَبْرُد‪،‬‬
‫في مكانهِ‬ ‫ًاِفي وِت ‪ْ، ‬لُق‬ ‫ا ى‪ً :‬ا‪‬‬ ‫ا الل‬
‫َوَمَثُلا َك َم؛‬ ‫َتَع َل )‪ :‬وهو‬ ‫إذا ثَبَتَ ثُبوت جامد َق‪َ ،‬لوأصلهُهُ (ا‬
‫ِّر‬ ‫َّث‬
‫ُّكونَ؛ْجُت ْتا ْناللَفْو اَأْرى‪َ :‬م‪َ ‬لَه ِل ٍةْن‬ ‫الس َث‬ ‫َكَشَجَري َخ‬
‫َخوهوَث يقتضِ‬
‫ا ا‬ ‫ال‬ ‫ي ا‬ ‫ي‬
‫لا ق رارَ علىِم‬ ‫وقي ل‪ِ :‬ض‬ ‫َقِبَرا ٍة‪ )2(‬أي ٍة م ا ِب لٍَةه ا من ثب ِماتٍ‪ِ ،‬ق‬
‫زأرٍِر الأسد‪ ،‬أي لا أمنَ ولا ثباتَ مع تردُّدِ‬
‫الراغبُ في المفردات‪:‬‬ ‫َّر‬ ‫الاضطرابِ من شدَّة الخوفِ‪ .‬قال‬
‫َق‬
‫؛ كَاسْتَجَابَ‬ ‫وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى‬
‫ُّر‬ ‫َّز َّل‬ ‫وَأَجَابَ‪.‬‬
‫َوُن‬
‫‪َّ  :‬ل‬ ‫َوَج‬ ‫َع‬ ‫ُر‬ ‫ْقَر‬
‫الله‬ ‫قال‬ ‫ِ‬‫يء‬ ‫َّ‬ ‫الش‬ ‫ُ‬ ‫إثبات‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬ ‫وال‬
‫َأْرَح ا َم ا َنَش اُء َلى َأَج ‪ .)3(‬وجمل ة الأم رِ أن َّتُكِق‬ ‫ي ال ِإ‬
‫ْلُمْسَتَق‬ ‫ُي‬
‫ال ا ‪.‬‬ ‫الإنسانُ‪ٍ،‬ل فليس ا‬ ‫ِإ‬ ‫ِفحال نقلِم عنها‬
‫حين‬ ‫ويتأتَّى الإقرارُ في الفكرِ والمعتقدِب بإثباتِّرِهما ِّم‬
‫يتجاوَبان مع حركةِ العقل في ًاذهنِ الإنسان وحركةِ‬
‫صدرِ الإنسان‪ ،‬إثبات لدلالتهما؛ إمَّا‬ ‫القلب في ًا‬
‫ويظهرُ أثرًاُهما في اللِّسانِ‪ً ،‬ا وإما‬ ‫بالعقلِ فكر ًا‬
‫بالقلبِ اطمئنان وقَبُول ؛ وإما بِهِما مع ‪ .‬مع‬
‫والمعتقد؛ ُّمُهوما يجرِي‬ ‫ُيَض‬ ‫ملاحظةِ أن الإقرارَ بالفكرِ‬
‫مجراهُما؛ لا يُغْنِي بالقلبِ ما لم ا الإعلانُ‬
‫(‪ )2‬إبراهيم ‪.26 /‬‬ ‫(?) الأحزاب ‪.33 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(‪ )3‬الحج ‪.5 /‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬
‫‪245‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫باللسانِ‪ ،‬أي يجبُ أن تظهرَ حركةُ الفكر في العقلِ‬‫َّب‬


‫ْلُمَع‬
‫ا ر عنها ًا باللسانًا مع حركةِ القلب المطمئِنِّ‬
‫للفكرِ تصديق وقبول ليكونَ مظهرُهما في اللسانِ‬
‫صادقَ اللَّهجةِ وفي السُّلوكِ مخلصَ الفعلِ‪.‬‬
‫ويتعلَّقُ بِمبحث الإقرارِ تعيينُ دلالاتِ مفاهيم‬
‫والإنكارِ والجهل والجحود‪ .‬فيلاحظُ‬ ‫ُّد‬ ‫العلمِ والمعرفة؛‬
‫ُه‬
‫أن الإقرارَ لا يضا الجهلُ؛ لأن الإقرارَ عملية‬
‫معيَّن من‬ ‫عقليَّة تجري في الذهنِ بقصد إثبات نوعٍ ُّد‬
‫العلمِ‪ ،‬ويضادُّ العلمُ الجهلَ‪ُّ ،‬دفالجهلُ ض العلمِ‬
‫الإقرارِ‪ .‬ولاًا يضا الإقرارُ الجحودَ؛‬ ‫ًا‬ ‫وليس الجهلُ ضد‬
‫لأن الإقرارَ نوع معرفيّ اختصَّ به إيْمانُ‬
‫المعرفةُ الجحودَ‪،‬‬ ‫المكلَّف فصارَ قناعةً له؛ ويضادُّ ّدًا‬
‫فالجحودُ ضد المعرفةِ وليس الجحودُ ض للإقرارِ‪ .‬فلا‬
‫يتأتَّى عند الجاهلِ قرارٌ في المسألة‪ ،‬لأنه ليس من‬
‫أهلِ صناعة القرارِ‪ ،‬ولا يطلبُ من الجاحدِ إقرارٌ مِن‬
‫غير ب نةٍ‪ ،‬بل لا يطلبُ منه إقرارٌ‪ ،‬لأنه يعرفُ‬
‫الأمرَ ِّي على غيرِ حقيقته التي في القرارِ المعيَّن‪،‬‬
‫يطلبُ منه توبةٌ أو يحاجَجُ‬ ‫َّل‬
‫فلا ًايطلبُ منه‪ ،‬وإنَّماُيَع ُم‬
‫ويرشدُ من ضلالهِ‪.‬‬ ‫فكريّ ؛ وأما الجاهلُ ف‬
‫اتخاذٌ للعلم وإثباتهُ‪،‬‬ ‫َّي‬ ‫ويلاحظُ في الإقرارِ أنه‬
‫فلا بدَّ له من العلمِ‪ ،‬وليس أ علمٍ مجرَّدٍ؛ أو‬
‫بوصفهِ معلومات محضةٍ؛ وإنَّما هو نوعٌ من العلمِ‬
‫الذي يُتَوَصَّلُ بصحيحِ النظر فيه إلى الفكرِ‪ ،‬وليسَ‬
‫العلمُ بِمعنى الخبرِ المسموع من غيرِ فقهٍ ًافيه ولا‬
‫تدبُّرٍ لمعانيه؛ فحفظُ النُّصوصِ ليس إقرار بِها‪،‬‬
‫فاحتاجَ المكلَّفُ لاتخاذِ القرار إلى العلمِ الذي‬
‫يُم نه من الإثباتِ أو النفي‪ ،‬وهو أخصُّ أنواعِ‬
‫العلم‪ ،‬أي هو المعرفةُ؛ فكان لا بدَّ من العنايةِ‬ ‫ِّك‬
‫بالعلم بقصد الوصُولِ إلى المعرفةِ به‪ ،‬وبِ ُّد‬
‫ما‬
‫لإيجادِ القناعة واتخاذِ القرارِ؛ فالذي يضا‬ ‫ُر‬ ‫لهُ‬
‫يؤهِّ َر‬
‫الإقرا الإنكا ‪.‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪246‬‬

‫وذلكَ أن العلمَ هو إدراكُ الشيء على ما هُو في‬


‫الواقعَّوِ؛ وهو على ضَربين‪:‬‬
‫الأ ل‪ :‬الإدراكُ الجازم؛ أي الإدراكُ الجازم‬
‫ُّب‬
‫التسليمِ؛‬ ‫المطابقُ للواقع بِما يؤدِّي إلىالتصديقِ ُّكأو‬
‫ويحصلُ هذا النوعُ من العلمِ بعد تَفَ وتَدَ ‪،‬‬
‫فتتحولُ المعلومات في الذهنِ إلى صفةِ ٍرالإثبات ٍرأو‬
‫النفي؛ عن طريقِ الأدلة المعتبرةِ في الموضوع‪،‬‬
‫فتتأتَّى به القناعةُ لدى المكلَّف؛ وهذا النوعُ من‬
‫المعرفةُ ويضادُّهُ الجحودُ‪.‬‬ ‫العلمَِّض هو َّث‬
‫َو ْرُب‬
‫ال ال ا ي‪ :‬هو الإدراكُ غيرُ الجازمِ‪ ،‬ويحدثُ به‬
‫الظنِّ أو من غيرِ حكم على‬ ‫الظنُّ أو غِنَلَبَةُ ُّو‬
‫ما حصلَ به نوعٌ من‬ ‫الواقع‪ ،‬ويحدثُ به التص رُ‪ ،‬وربَّ ُّد‬
‫القبول؛ وهذا النوعُ من العلمِ يضا ه الجهلُ‪.‬‬
‫ًا‬
‫ويلاحظ أن الجهلَ أنواعٌ أيض ‪:‬‬ ‫َّو‬
‫َأ ُل‬
‫ال ‪ُ :‬هعجزُ المكلَّف عن المعلوماتِ التي من شأنِها‬
‫أن تُمَ ن من العلمِ بالشيء؛ إما لِفَقْدِهِ لَها أو‬
‫عدمًاِها؛ ِّك وإما لعجزهِ عن تحصيلها‪ ،‬فلا يقدرُ لَها‬
‫طلب ‪ .‬فهذا النوعُ يحتاج المكلَّفُ فيه إلى التأهيلِ‬
‫بِما يَّثُم نه من التَّعَلُّمِ‪.‬‬
‫ِّك‬ ‫َو‬
‫ال ا ي‪ :‬هو إدراكُ الشيءِ على خلاف ما هو في‬
‫الواقعِ؛ِن فيف رُ المكلَّفُ الواقعَ بحكمٍ لا ينطبقُ‬
‫ما لم يجزم به‪ ،‬فهو مُُّوتَحَ رٌ فيه؛ أو‬ ‫عليه؛ وربَّ ِّس‬
‫خاطئٌ نتيجةَ‬ ‫يجزمُ به؛ فالأولُ منهما‪ :‬هو تص ر ِّي‬
‫تفسيرِ الواقع بِما لا يتفقُ معه العلمُ أو لا‬
‫يأتلِفُ؛ فهو حكمٌ مغلوطٌ‪ ،‬أو مفهوم مغلوطٌ نتيجةَ‬
‫الجهلِ‪ .‬والثانِي منهما‪ :‬هو عبارةٌ َّكعن إدراكٍ جازم‬
‫غيرِ مطابق للواقعِ؛ فهو جَهْلٌ مُرَ بٌ؛ لأنه جهلُ‬
‫حقيقةِ الشيء‪ ،‬ويجهلُ بأنه يجهلُ‪ ،‬بل يجزِمُ بجهلهِ‬
‫على قدرِ ما يجزمُ بِغَلَطِهِ‪ .‬ويعالَجُ الجهلُ‬
‫بِمعالجة الفكرِ والإدراك؛ وبتصحيحِ ضوابط الفكرِ‬
‫ومقاييسه‪ ،‬وتوجيهِ طريقة التفكيرِ في المسألة إلى‬
‫‪247‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫قواعدها وضروراتِها؛ لأنه ضربٌ من القرارِ الخاطئ‬


‫والإقرارِ المخطئ ‪.‬‬
‫وعلى هذا لا يكفِي العلمُ للإقرارِ بالمسألة‪،‬‬
‫وإنَّما لا بدََّيُبَّتمن الإثباتِ‪ ،‬ولا يستطيعُ الجاهل أن‬ ‫َّر‬
‫ُي‬
‫فيه بحكمٍ من شأنه إثباتٌ أو نفي؛‬ ‫في أمر أو‬
‫فلا يقابلُ الإقرارُ العلمَ‪ ،‬كما لا يقابلهُ الجهل؛‬ ‫ِق‬
‫بعيدٌ؛ بل لا يُنْتَظَرُ من جاهلٍ إقرارٌ‪.‬‬ ‫والجهلُ ُّد‬
‫ُم ّرًا‬
‫بِها ما لم تحصل‬ ‫ولا يع العالِم بالمسألة‬
‫ِق‬
‫له عزيْمةٌ عليها؛ أي لا بدَّ أن تتحوَّل علميَّتهُ‬
‫بِها إلى قناعةٍ‪ ،‬عن طريقِ ُّد ما يلزمهُ من الأدلَّة‪ُّ .‬د‬
‫ويلاحظُ أن الجحودَ ُّص يضا المعرفةَ؛ والإنكارَ يضا‬
‫الإقرارَ‪ .‬فالإقرارُعُ أخ من المعرفةِ؛ والمعرفةُ أخصُّ‬
‫من العلمِ؛ فإذا لم أن العلمَ إدراكُ الشيء كما هو‬
‫في الواقعِ‪ ،‬وأن المعرفةَ تحصيلُ هذا الإدراكِ‬
‫بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ؛ فإنَّ الإقرارَ ُيحصُولُ‬
‫القناعةِ بالمعرفة على سبيلِ الإعلان الذي ظْهِرُ‬
‫ُّد‬ ‫العزمَ على أمرِها‪.‬‬
‫وقُلْنَا‪ :‬إنَّ الإقرارَ يقابله الإنكارُ ويضا ه‪،‬‬
‫لأن الإقرارَ إثباتُ القلبِ واللسان للمعتقدِ والعلم؛‬
‫والإنكارَ نفيُّدُ القلب واللسان لَهما‪ .‬ويقابلُ المعرفةَ‬
‫الجحودُ ويضا ها‪ ،‬لأن المعرفةَ حصولُ القناعةِ بالعلم‬
‫المكلََّهفُ‬‫فإذا َل أعلنََوَجَحُد‬
‫إعلانٍ؛ ُه َتَع‬ ‫غير َق َل‬
‫واليقينِ به من ًا‬
‫ا ى‪  :‬وا ا‬ ‫خلافَها صار جاحِد ‪ .‬ا الل‬
‫َواْس َتْيَقَنْتَها َأْنُفُس ُهْم‪ )1(‬ف الجحودُ نفيُ م ا في القلبِب‬
‫َق ُه‬
‫إثباتهُ‪ ،‬أو نفيُ اللِّسان لِما ل العقلُ‪ .‬وإذا‬
‫أعلنَ ما في القلبِ إثباتهُمُ‪ّ،‬رًاوجرَتِْب به القناعةُ في‬
‫؛ وإلا فهو منكرٌ‪ ،‬لأن‬ ‫حركتَي العقلِ والقلب‪ ،‬صار‬
‫ِق‬
‫الإنكارَ نفيُ القلب واللسانِ لِما بلغَهما من‬
‫العلمِ؛ ثم لأنَّ الإقرارَ يحتاجُ إلىتفعيلِ حركتَي‬
‫العقلِ والقلب بالفكرِ والعلم‪ ،‬ثم الاطمئنانِ إلى‬

‫(?) النمل ‪.14 /‬‬ ‫‪1‬‬


‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪248‬‬

‫وتحويله إلى قناعةٍ بالإيْمانِ‪.‬‬ ‫ًا‬ ‫سبيلِ إيجاد الفكرِ‬


‫ولِهذا كان الإقرارُ‪ :‬إثبات للفكرِ والمعتقدِ بالقلب‬
‫واللسان‪ ،‬فهو تصديقٌ بإعلان يجرِي في العقلِ ويظهرُ‬
‫على اللِّسان‪ ،‬ويطمئنُّ ًا له القلبُ ويتمثَّلُ في‬
‫السُّلوكِ‪ .‬وعلىهذا أيض ؛ يحتاجُ المكلَّفُ حين‬
‫الدخولِ في الإسلام إلى استعمالِ عَقْلِهِ للوصول‬
‫إلىحقائقِ الإسلام بِما ّك يوفِّرُ البرهانَ والدليلَ‬
‫حسبَ المسألةِ وبِما يُمَ ِنُهُ من الاتِّباعِ‪.‬‬
‫وحاجةُ المكلَّفِ للإقرار بالإسلامِ حين الدخولِ‬
‫فيه‪ ،‬ليست لسلامةِ إسلامه فحسب‪ ،‬بل لِلتَّهَيُّؤِ في‬
‫دخولِ الإيْمانِ القلبَ‪ ،‬وليتحوَّلَ حالهُ من حالِ‬
‫المسلم السالِم إسلامه إلى حال المسلمِ والمؤمن‬
‫والْمُحسنِ ثم درجات الصالحين والصدِّيقين‪ .‬ثم إن‬
‫طريقةَ الإقرارِ في طلب الدَّليلِ والبرهان تلزمهُ‬
‫لأنَّ إعلانَ‬ ‫ًا‬ ‫للقيام بِمسوؤليَّاتهًا التكليفيَّة‪،‬‬
‫الشهادة يجعلهُ مُسلم ؛ ولكنه ليس إسْلام يَُقعَْللِنُهُهُ‬
‫الل‬ ‫ا‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬‫قلبه‬ ‫في‬ ‫ُ‬ ‫مان‬ ‫ْ‬‫الإي‬‫إيْمانًا‪ ،‬ولَمَّا يدخلِ َّن‬
‫َقَّم َلْت َأْعَر ُب َم ُقْل َلْم ُتْؤ ُن َوَل ْن ُق ُل‬ ‫َتَع َل‬
‫و وا‬ ‫َيْدُخْل ا َمآ ُن ا ُقُل ُكْم وا‬ ‫َأْسَلْمَن‪َ :‬وَل ا ال‬
‫اى‬
‫ال ي ا ي و ‪ِ1(‬م) فيكفِِكي إسلامُ‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫ِب‬ ‫ِف‬ ‫ِإ‬
‫المرءِ بإعلان الشًَّاهادتين‪ ،‬ولكن هل يكفِي ذلكَ في‬
‫قَبولهِ بوصفه َّصشاهد بين الناسِ ًا على أمورِ الحياة‬
‫والدين‪ ،‬لقد ف ل العلماءُ كثير في مسألة طريقِ‬
‫الإيْمان؛ وترجَّحَ ما نقلَهُ ابنُ حجرٍ في الفتح من‬
‫كلامِ الحافظَِلُه صلاح الدين العلائيِّ؛ قال‪( :‬مَنْ لاَ‬
‫لِفَهْمِ شَيْءٍ مِنَ الأَدِلَّةِ‪،‬‬ ‫أَهْلِيَّةَ‬
‫وَحَصَلَ لَهُ الْيَقِيْنُ التَّامُّ بِالْمَطْلُوبِ؛‬
‫إمَّا بِنَشْأَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لِنُورٍ‬
‫يَقْذِفُهُ اللهُ فِي قَلْبِهِ؛ فَإنَّهٌةُ يَكْفِي‬
‫مِنْهُ بِذَلِكَ‪ ،‬وَمَنْ َف فِيْهِ أَهْلِيَّ لِفَهْمِ‬
‫الأَدِلَّةِ؛ لَمْ يُكْتَ مِنْهُ إلاَّ بِالإيْمَانِ‬
‫عَنْ دَلِيْلٍ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَدَلِيْلُ كُلِّ أَحَدٍ‬
‫بِحَسْبِهِ‪ .‬وَتَكْفِي الأَدِلَّةُ الْمُجْمَلَةُ‬
‫(?) الحجرات ‪.14 /‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪249‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫الَّتِي تَحْصُلُ بِأَدْنَى نَظَرٍ‪ .‬وَمَنْ حَصَلَتْ‬


‫عِنْدَهُ شُبْهَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعَلُّمُ إلَى‬
‫أَنُْقْلُتتَزُولَ عَنْهُ)(‪.)1‬‬
‫مسلمٍ له أهليَّةٌ على تبليغِ‬ ‫‪ :‬فوجبَ على كلِّ ًا‬
‫الإسلام والدَّعوة له؛ فضل عن أهليَّةِ الفهمِ؛ وجبَ‬
‫عليه أن يَتَعَلَّمَ من الأدلَّة والبراهين ما‬
‫يَقْوَى به فَهْمُهُ؛ ويحسُنُ به خطابهُ للناسِ‪.‬‬
‫فيعملُ ليؤهِّلَ نفسَهُ بالخطابِ الفكريِّ لرعاية‬
‫الشُّؤونِ من موقعهِ‪ .‬وعلى هذا فليسَ الإقرارُ مسألةً‬
‫فرديةً؛ أو فلسفية خياليةً؛ بل ضرورةٌ للعمل‬
‫المسلمِ في‬
‫ًا‬ ‫شخصيةَ‬
‫ًا‬ ‫تكتنفُ‬
‫وسلامةٍ ًا‬
‫بالإسلامِ بجديَّة ًا‬
‫في‬ ‫رائد‬ ‫وخطاب‬ ‫وعمل‬ ‫صناعةِ الحياة فكر‬
‫العلاقاتِ(‪.)2‬‬

‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ :)9‬م ْفُهوُمُّل اِإل ْد َر اِك في الُّلغِة واالْص ِط َالِح‪:‬‬
‫ُح ُق‬
‫َأْدَرَكَوََزَمابَُنهُ‬
‫َأْدَرَكُهالصِّحاح‪ :‬قلتُ‪ :‬ص‬ ‫الإدراك‪ :‬ال َمَشو ؛َحَّتقال في‬ ‫َح ُق‬
‫َّل‬
‫ا ه‪.‬‬ ‫‪ ،‬وعاش حتى‬ ‫ال ا ؛ يقال ى ى‬
‫َبَلَغِ‪َ .‬وَن وأَدْرَكُتَ‬ ‫َّث‬
‫وأَدْرَُمكَ‪َ:‬بَلَغ بَغَلََةغَ أَبَقْصَوَى َمُرالشْيَّيْء‬
‫ضج‪ .‬ودركا‬ ‫َّدَّر ُك أ‬
‫الغُلاَ َمَن ُل اي ْه ال ا؛ ال‬ ‫َّن‬
‫بالتشديد‪ ،‬الكثيرُ‬ ‫َّر‬ ‫َّس‬ ‫ِّص‬
‫از أ ِلها‪ .‬و(ال َح ا ٌس) َد ٌك‬ ‫ال ار‪،‬‬
‫ا ‪.‬‬ ‫الإدراكِ؛ إلا أنَّهم قالوا‪ :‬ا‬
‫ُة‬
‫به ٌّلالإحاط بالشيء‪ ،‬أو‬ ‫َّتويطلقُ َّدالإدراكُ ويراد َل َق‬
‫ٌّل‬
‫ك بالآخر‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ِح(‪)3‬‬
‫أمرهِ‪َ ،‬همن َجباب ًع‬ ‫بلوغُ َذأقصَى َرُك‬ ‫َح‬
‫‪ ‬ى ا ا ا وا ي ا ي ا‪ ‬أي لَح ِقَ ك بالآخر‪.‬‬
‫وأدركَِإهُ ببصرهِ‪ِ ،‬ف أي رِمَآهُ‪ ،‬بحصولِ الصُّورة في‬
‫الذهنِ بعد جولان الإحساسِ بالواقع المعيَّن لَها‬

‫(?) فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ :‬ج ‪ 13‬ص‪.438‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) ينظ ر‪ :‬اجلامع ألحك ام الق رآن‪ :‬تفس ري اآلي ات املذكورة آنف ًا‪ .‬وينظ ر‪ :‬ت رتيب‬ ‫‪2‬‬

‫القاموس احمليط‪ ،‬واملفردات يف غريب القرآن‪ ،‬أساس البالغة‪ ،‬خمتار الصحاح‪ :‬مادة‬
‫(قر) و(جحد) و(عرف) و(علم) ‪.‬‬
‫(?) الأعراف ‪.38 /‬‬ ‫‪3‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪250‬‬
‫َا ُتْد ُكُه َأْبَص ُر‬
‫ال ا ‪ )4(‬أي لا تراهُ‬ ‫فيهِ‪ ،‬وقوله تعالى‪ :‬ل‬
‫ِر‬
‫الحواسُّ الخمسُ؛ إذا حملنا البصرَ على الجارحةِ‪ .‬أما‬
‫إذا حملنا الإدراكَ على البصيرةِ‪ ،‬فيكون الإدراكُ‬
‫بِمعنى المعرفةِ‪ ،‬وهي حصولُ المعنى في الذهنِ بُِّثما‬
‫يعبِّر عن الواقعِ‪ ،‬فهي تقريرُ الفكرِ؛ ُّبأي تَم ل‬
‫المعنى في الذهنِ بعد تفكُّرٍ بواقعهِ وتد رٍ لأثره‬
‫مما‬
‫ًى‬ ‫ومعانيهِ‪ .‬أي بأثَرِ جولان الفكرِ في الذهن‬
‫معن‬
‫ليؤلِّف َأْبَص ُر‬
‫المحسوس ُتْد ُكُه‬
‫َا‬ ‫يُلْحِقُ المعلومات بالواقعِ‬
‫ال ا ‪‬‬ ‫بِهما‪ .‬فيكون تفسيرُ قولهِ تعالى‪ :‬ل‬
‫ِر‬
‫أي تعجزُ العقول عن معرفتهِ‪ ،‬فهي عاجزةٌ عن معرفة‬
‫يقول‬
‫َمْنة‪َ .‬يُة‬ ‫والتفكيريَّ‬
‫َي‬ ‫كُنْهِهِ وذاتهِ بطاقاتِها الحسِّية؛‬
‫غا‬ ‫َمْعرٍَف الصِّدِّيْقُ‪ ( :‬ا‬ ‫ِّدُنا ُقُصأبُُرو َعْنبَكْ‬ ‫سي َف‬
‫َمْع‬
‫)‪ .‬لأن غايةَ معرفتهِ تعالى‪،‬‬ ‫َت ال و‬
‫فتعلمَ أنه ليس بشيءٍ منها‪ ،‬ولا‬ ‫أنِر ِتِهعرِفَ الأشياءَ ِر ِتِه‬
‫ّي‬
‫بِمثلها‪ ،‬وإنَّما تُم ِزُ من وجودِ الأشياء وجودَهُ‪،‬‬
‫تدركُ ذاتَهَُكْتُهولا تعرف كُنْهَهُ؛‬ ‫فتعرفُ َّز َّل‬
‫ولا ُد ُك‬ ‫وجوده‪ُ ،‬م‬
‫َع َوَج‬
‫العقولُ وتحيط به‬ ‫ما أدر‬ ‫و‬ ‫فاللهُ‬
‫الأبصارُ‪ ،‬فالإدراكُ هو الإحاطة بالشيء بِما يك نُ‬ ‫ِّل‬ ‫ِج‬
‫الخبرَتَفَِّكُرعنْا رسولَِذ الله ِّو ‪:‬‬ ‫معنىَتَف ُرفيْا الذهنِ‪َ ،‬ا وجاء في َو َا‬
‫َّك‬
‫و ي ا الل ‪،‬‬ ‫َلْن َتْق يُر ْاآل الل ل‬ ‫[َف َّنُكْم و‬
‫ِه‬ ‫ِت‬ ‫ِف‬ ‫ِه‬ ‫ِف و ]‪ِ.‬ء‬
‫ّس‬ ‫ِد‬ ‫ِإ‬
‫وعلى هذا كان الإدراكُ على ضربين‪ :‬ح ِيٌّ‬
‫ومعرفِيٌّ‪ .‬والحسيُّ هو تَمثل الواقع في الذهن من‬
‫غيرِ حُكم عليه بنفيٍ أو إثبات‪ ،‬أي لا يجرِي في‬
‫عملُ تفكُُّّورٍ‪ ،‬ويطلقُ على هذا النَّمطِ‬
‫ُتْنَتَقُش من‬ ‫الذهن ْل‬‫ْدَر‬
‫به‬ ‫ال ا ا ‪ :‬التص رُ؛ وهو بِهذا المعنى ما‬
‫في الذهنِ ويتميَّز به غيرِها؛ ويكفي فيه‬ ‫الأعيانُ ِحِّسِّي‬
‫ِإ ِك‬
‫الغريزيُّيِّ‪ ،‬بِما يؤثرُ في‬ ‫أثرهُ في حركةِ الإحساسِ‬
‫ْدَر ُك ْلَمْع‬
‫يجرِي به‬ ‫إشباعِ الجوعات‪ .‬أما الِإ ا ا ِرِف ‪ ،‬فهو ما ُت‬
‫لْحِقُ‬ ‫العقلُ في الذهن بعمليَّة تَفَكُّرٍ؛‬
‫التمثُّلَ للواقعِ المحسوس في ذهنِ الإنسان بالعلمِ‬

‫(?) الأنعام ‪.105 /‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪251‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫عنه‪ ،‬وهو المرادُ بقول الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ‪:‬‬


‫(الَّتِي يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ)‪ ،‬أي ما يقعًاُ‬
‫بالحواسِّ الخمس فيتصوَّرُ في الذهن بوصفهِ عين‬
‫تتميزُ به عن غيرِها ويتميزُ بِها عنها‪ ،‬فيجري في‬
‫الذهنِ البحثُ عن عِلًاْمٍ يفسِّرهُ‪ ،‬وأمرٍ يُنَظِّمُهُ‬
‫بِما يعطي معنى معين له‪ .‬فيصلُ المتفكِّرُ في هذا‬
‫الواقعِ المحسوس إلى إصدارِ الحكم علىحقيقتهِ بإثباتٍ‬
‫أو نفي‪ ،‬أو معنى يرشدُ إليه وجودُ الشيءِ بِما‬
‫تَميَّزَ به عن غيرهِ‪ ،‬أو تَميَّزَ غيرهُ به عنه‪،‬‬
‫فالشيءُ يراد بهِ العينُ الموجود‪ ،‬ويرادُ به‬
‫تَمَيُّزُ وجودهِ من عدمه‪ .‬كما في الضَّوءِ يتميَّز‬
‫به الظِّلُّ‪ ،‬فلولا وجودُ الضوءِ لَمَا تَميَّزَ‬
‫الظلُّ من عدمهِ؛ ووجودُ الصوتِ فيتميَّز به السكونُ‪،‬‬
‫ووجودُ العجلةِ فتُعْرَفُ السكينةُ والهدوء‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وكذا وجودُ الكونِ والإنسان والحياةِ‪ ،‬فيتميَّز بِها‬
‫وجودُ الخالقِ العظيم بداهةً‪ ،‬لأنه لا يُتَصَوَّرُ‬
‫ْلَمْعْجُّيَدَهَّلَا‪.‬‬
‫وجودُها بنفسِها‪ ،‬فتدلُّ على مُهَوَوْجُْدَرودٍُك أَو‬
‫َّس‬ ‫َّت‬
‫ْلَمْحُس ي‬
‫‪ ،‬ا‬ ‫ال َق ا اْلَو‬ ‫ْلَمْعُلُّ‪َ:‬م‬
‫فالإدراكُْلَح العقلي‬
‫وعلى هذا ْه ْن‬ ‫َيَتَأ‬
‫ِرِف ا َفِذو‬ ‫ْثَب‬ ‫ْثَبا ا ُوُج و اَوَنْفال اِإَعَد اَأْو ا‬ ‫الِّذ ِنَعَلْي‬
‫ْصَدى َّدِفي ْلُحْك‬
‫ِس‬ ‫ا‬ ‫ِقِع‬ ‫ِب‬ ‫‪،‬‬ ‫ِة‬ ‫ِب‬ ‫ِت‬ ‫و‬ ‫ِق‬
‫ا‬ ‫ِإ‬ ‫ِم‬ ‫ل ا ا‬
‫ابًاٍة‬
‫ُلُه؛‬ ‫َيْثُبُت ٍتَصَوِلِص‬
‫َيْثُبُتِلَّن َح ٍديَقًة‪ٍ ،‬يَأْوُّد ِلَنْف ٍم َخَط ِإ‬
‫َوْه ٍت‬
‫َيْنِإ ي ِر َها‪ِ ،‬مَأْو َنْف ِه ِبِإ‬
‫َنْف َا ُيَق‬ ‫َا ُيَق ُلُه َنْفٌي َأ ُه َا ُيَض ُه َأْو‬ ‫َأْو ْثَب‬
‫ا‬ ‫ْثَبِف ٌت ِض اَأَّنُه ل ْسَتْغَناٍي ِل ٍمَوُهَو ل ُكِق ل َأْحَو ا ‪َ،‬تْصٍي ِلٌق ٍإ ل‬
‫ِب‬ ‫ي ‪ٍ .‬ي‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫اِإ ل ٍت ا ىِب ؛‬
‫ِلِه ِد‬ ‫ِف ِّل‬ ‫ِبِه‬ ‫ِإ َف َن‬
‫الكونَل والإنسان‬
‫ِم البحثِ والدراسة والنظرُِسْبَح فيَنُه َوَتَع‬
‫ا ى‪ ،‬وينفِي‬ ‫ا‬ ‫والحياة يَثْبُتُ وجودُ الخالق‬
‫التَّفَكُّرُ عَدَمَهُ‪ ،‬فهو إثباتٌ لوجودِ الله ونفيٌ‬
‫لعدمهِ‪ .‬ومن التفكرِ في صفاتِ الأشياء فإنَّها محدودةٌ‬
‫ومتغيِّرةٌ‪ ،‬ومحتاجة وقاصرةٌ‪ ،‬ينفي أنَّها غَنِيَّةٌ‬
‫بذاتِها قائمةٌ ًابحالِها‪ ،‬ومن نَفْيِ الوَهْمِ بأن‬
‫نتعاملَ معه حسيّ ‪ ،‬كما في رؤية السَّرابِ‪ ،‬وتعيين‬
‫كثافاتٍ مختلفة تظهرُ حقيقتهُ‪،‬‬ ‫ضوئيٌّ في‬ ‫َّن‬ ‫َّن‬
‫ًا‬ ‫أنه َمانعكاسٌ ًء‬
‫بأ ًا ن ظ ه ما كان واهِم ؛ وكذا أن لِهذا الوجودِ‬
‫خالق لا تدركهُ العقول‪ ،‬وتقصرُ عن معرفتهِ الأبصار‬
‫يظهرُ حقيقةً أنَّ اللهَ فوق الحواسِّ‪ ،‬ويظهرُ‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪252‬‬

‫حقيقتهُ بأنه مَنًا قالَ بتعدُّد الآلِهة أو عَبَدَ‬


‫الأصنامَ كان واهِم بزعمهِ أنَّها الآلِهةُ‪ ،‬فقد أخطأَ‬
‫الذين قالُوا بأنَّ المسيحَ ابنَ مريم هو اللهُ أو‬
‫حلَّ به الإلهُ‪ ،‬ويكفي للردِّ عليهم بأنَّ اللهًاَ‬
‫واحدٌ أحد لم يلِدْ ولم يولَدْ ولم يكن له كُفُو‬
‫أحدٌ‪.‬‬
‫ًء‬
‫وبنا على هذا فإنَّ الإدراكَ المعرفِيَّ يحتاجُ‬
‫إلى حركة العقلًاِ بربط الواقع المحسوسِ بالمعلومات‬
‫السابقةِ‪ ،‬رَبْط يُلْحِقُهَا به على وجهِ التَّفسيرِ‬
‫وإيجاد العلمِ المخصوصِ ليتعاملَ العقلُ مع الواقعِ‬
‫الحسيِّ للوصول إلى معرفةِ حقيقتها(‪.)1‬‬
‫الَّر ْأُي اْلَع اُّم ؛ َو اْلُعْر ُف اْلَع اُّم ؛ َو اْلِبْيَئُة‪:‬‬
‫)‪َ :‬م َفاِهْيٌم ‪ُّ :‬م‬
‫المبحث (‪َّ 10‬ر‬
‫ْأُي ْلَع‬
‫ا ا ‪ :‬فهو مجموعُ الآراء والأحكامِ‬ ‫أما ال‬
‫والمعتقدات والأفهامِ التي تُهيمِنُ على أذهانِ‬
‫النَّاس حين تعامُلِهم مع أنفسِهم في علاقاتِهم‬
‫والمجتمعيةِ‪.‬‬
‫َّم‬ ‫الجماعيَّة‬
‫ْلَع ُة‬ ‫َأْعَر ُف‬
‫وأما ال ا ا ا ‪ :‬فهي صفةُ المشاعرِ السَّائدة‬
‫الأفكارِ في‬ ‫وصلةُ َّل‬ ‫َّز‬
‫في هذه العلاقاتِ المجتمعيَّة‪َ ،‬ع َوَج‬
‫‪ ،‬وسلامةُ‬ ‫أذهانِهم بإدراكِ الصِّلة بالله‬
‫المفاهيمِ عن الحياة والأشياءِ من الغَلَطِ‪ ،‬ثم‬
‫عدالةُ النِّظامِ أو ظُلْمِهِ‪ .‬ومن التَّرَابُطِ‬
‫الجدلِيِّ‪ ،‬والتَّلاحُمِ أو التفكُّكِ في نسيجِ هذه‬
‫الأعراف والرَّأي العامِّ في حركة عقولِهم وقلوبِهم‬ ‫َّو‬
‫َيَتَك ُن‬
‫نَمطٌ من الأجواءِ الجماعية ومناخِها في‬
‫َتْأُكُلَ‬
‫َقْرَي هريرة‬
‫ْرُت أبِي‬ ‫الطِّيْبَةِ أو الْخُبْثِ‪ .‬ففي الحديثُِأ عن‬
‫َّن‬
‫اللهِْلَم ‪َ :‬نُة[ ِمَتْن َّز ِب َّل ٍةَس َكَم‬
‫َيْثسُُبولُ َو َي‬
‫‪ْ‬لُقَريقول‪َ :‬يُققَُلالَنَ رَ‬
‫ا ي ؛ َع ي َوَجال ا ُتْؤ ا‬ ‫َخَبَث ْلَح ؛‬
‫اَيْن ى؛ ْل ُرو و ‪:‬‬
‫‪  :‬ي‬ ‫ِف‬ ‫ِد‬
‫ا ي ] وقال اللهُ‬ ‫(ِه‪)2‬‬ ‫ِر‬ ‫ي ا ي‬
‫ِت‬ ‫ِد ِد‬ ‫ِك‬ ‫ِف‬
‫القرآن‪،‬‬ ‫غريب‬ ‫في‬ ‫المفردات‬ ‫(?) ينظر‪ :‬القاموس المحيط‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫التعريفات للجرجاني‪ :‬مادة (درك)‪.‬‬


‫(?) رواه البخاري في الصحيح‪ :‬كتاب فضائل المدينة‪ :‬باب فضل‬ ‫‪2‬‬

‫المدينة وأنَّها تنفي الخبث‪ :‬الحديث (‪ .)1871‬ومسلم في‬


‫‪253‬‬
‫َّن‬ ‫َّل‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫ا‬ ‫ل‬ ‫ْذ َر َها َوَيْض ُب اللُه الَأْمَثاَل َّث‬ ‫ي‬ ‫ُأُكَلَها ُك َّك‬ ‫َّل‬
‫َوَمَثُلِن َك َمِّب َخ َث ِر َكَشَجَر َخ َث َّل ْجُت ِلْت ِسْن‬ ‫َن‬ ‫ُر‬
‫ِحو ٍن ِبِإ‬ ‫َيَتَذ‬ ‫ُهْم‬ ‫َلَع‬
‫ا‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫وا‬ ‫َفْو الَأْر َّث َما َلَها ِلْن ٍةَقَراِبُّد ٍةُيَث ُت ٍةاللُهِب اٍة يَن ُّل آَمُنِم‬
‫ُه‬ ‫َر ِذَوُي‬ ‫ْنَي َو‬ ‫ْلَحَي‬ ‫ْلَقْو‬
‫الل‬ ‫َوَيْفَعُل ي اُه ِمَم ا َيَشالُءٍر ا ِّب ي الآ‬ ‫اَّظِق َنالِض ا‬
‫ِخ ِة ِض‬ ‫ِبِت ِفالل ا ِة ا ‪ِ .)1(‬ف‬ ‫ِبال ا ِلي‬
‫ِلِم ْيَئُة‬
‫َف ْل‬
‫‪ :‬هي طبيعةُ العلاقاتِ العامَّة التي يعيشُها‬ ‫ا‬
‫الإنسانُ في حيِّزِ الجماعةِ والمجتمع‪ ،‬وما تكتنفهُ‬ ‫ِب‬
‫مشاعرٍ صالحةٍ أو فاسدةٍ‪ ،‬وأفكارٍ متَّصلةٍ بالله‬ ‫من َّل‬ ‫َّز‬
‫َع َوَج‬
‫أو منقطعةٍ من إدراكِ هذه الصِّلة‪ ،‬ومفاهيمٍ‬
‫صحيحة أو مغلوطةٍ‪ ،‬وطبيعةِ النظام المجتمعيِّ الذي‬
‫يحكمُ سيرَ الجماعة والأفرادِ وما يحملهُ المنفِّذون‬
‫من إحسانِ تطبيقه أو إساءَةِ تطبيقهِ‪ ،‬أو طبيعةِ‬
‫النظام ذاتِها وما فيها من عدالةِ تشريعٍ أو شقَاء‬
‫وظُلْمٍ‪.‬‬

‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ :)11‬م ْفُهوُم اْلَعِقيَد ِة َو اِال ْع ِتَقاِد َو ُحِّج َّيُة الُّس َّنِة ِفيِهَم ا‪:‬‬
‫الأذهان‪:‬‬ ‫َّا‬ ‫ِ‬ ‫بعض‬ ‫على‬ ‫ِ‬ ‫ربَّما أشَكل َفْهُم هذه َّن‬
‫العبارة‬
‫َعْن‬ ‫َيْحُرُم َعَلْي َأْن َيْعَت َدُه َأ ْلَعَق َد َا ُتْؤَخُذ‬
‫ل‬ ‫؛ ل ا ا ل‬ ‫(َي ْي‬
‫ِإ‬ ‫ٌّد‬ ‫ِئ‬
‫)؛ وخاصَّةً إذا تُكُلِّمَ بِها بين عامَّة‬ ‫ِق‬ ‫ِه‬
‫العلمِ‪ ،‬فتقعُ وكأنَّها ر لحديثِ‬ ‫َّم‬ ‫ِق ٍن‬
‫الناسِ من غيرِ أهل ُمَح‬
‫دٍ ‪ ‬الذي يأتِي عن طريقِ‬ ‫رسول اللهِ سيِّدنا‬
‫الآحاد‪ ،‬أي يأتِي بسندٍ غير متواترٍ‪ .‬وليست القضيةُ‬
‫العامةُ أو غيرُ المؤهَّلين بالعلمِ‬ ‫كما ظَنَّ َفْه‬
‫المسائلِ العميقة‪ ،‬من مثلِ هذه‬ ‫المشرفِ على‬
‫تفهمََدُه العبارةُ على النحو‬ ‫ِم‬
‫المسألة‪ .‬وكان المرادُ أنْ‬
‫الآتِي‪َ( :‬يْحُرُم َعَلْي َأْن َيْعَتَّن ) أي يَحرمُ علىَّا‬
‫َأ ِق ْلَعَق َد َا ُتْؤَخُذ‬ ‫المكلَّفِ الجزمُ ِه‬
‫ل‬ ‫بالظنِّ‪( .‬ل ا ا ل‬ ‫َعْن َي ْي‬
‫ِإ‬
‫الإسلامِ‬ ‫) أي لأنَّ العقائدَ التي هي ِئأركانُ‬
‫ِق ٍن‬
‫الصحيح‪ :‬كتاب الحج‪ :‬باب المدينة تنفي شرارها‪ :‬الحديث (‬
‫‪.)488/1382‬‬
‫(?) إبراهيم ‪.27-24 /‬‬ ‫‪1‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪254‬‬

‫والأفكارَ الأصوليَّةًَا المتعلِّقة بِها بِما يجعلُ‬


‫إسلامَ المرءِ سالِم وعقيدتَهُ صحيحةً لا تؤخذُ‬
‫لأنَّها علمٌ جازمٌ‪ ،‬ولا يُغنِي الظنُّ من‬ ‫بالظنِّ‪ً ،‬ا‬
‫الحقًءِّ شيئ ‪ ،‬فيحرمُ عليه بناءُ عقيدتهِ أو تأسيسِها‬
‫إنشا في ذهنهِ وحركة قلبهِ من غيرِ الأدلَّة اللازمة‬
‫لِمثله حتى يتأتَّى الجزمُ عنده بِما يقطعُ الظنَّ أو‬
‫الشكَّ أو الترددَ‪.‬‬
‫ولِهذا كان لا بدَّ من بيانِ بعض الأفكارِ‬
‫المنهجيَّة للضرورةِ البحثية لفهمِ المسألة على وجهِها‬
‫حسبَ َّنما يسعُ المقام فقُلْتُ‪:‬‬
‫َأَحُدُهَم‬ ‫ْنَد ْلُمْس َن َعَل َضْرَبْي‬ ‫ْع َق َد‬
‫ا‪:‬‬ ‫‪:‬‬ ‫ى‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ال ا ا‬ ‫‪.1‬‬
‫ِن‬ ‫ِلِم‬
‫اعتقاداتٌ لا يصحُّ الاختلافُ فيها‪ ،‬بل لم يُعْرَفِ‬ ‫ِع‬ ‫ِت‬ ‫ِت‬ ‫ِا‬ ‫ِإ‬
‫الخلافُ بين المسلمينَ فيها‪ ،‬وهي الأسُسُ الفكريَّة‬
‫المعتقدِ الايْمانِيِّ والأفكارِ‬ ‫ُي‬ ‫للإسلامِ في‬
‫المتعلِّقة به؛ مما عْرَفُ بِمسائل أصُولِ الدين‬
‫مثلُ الإيْمانِ‬ ‫والذهنيِّ‪ً ،‬ا‬
‫ًا‬ ‫في شِقِّهَا القلبيِّ‬
‫بأركانِ العقيدة الخمسةِ تصديق وتسليم ‪ ،‬والايْمانِ‬
‫بتسليمٍ للأفكارِ المتعلِّقة بالعقيدة من الإيْمانِ‬
‫بأنَّ الرزقَ بيدِ الله؛ وأنَّ الأجلَ بقضاءِ الله؛‬
‫والْهُدَى والضَّلال؛ والقضاءِ والقدر؛ وغيرِها من‬
‫المسائل المتعلِّقة بالعقيدةِ‪ .‬ومن مسائلِ أصُول‬
‫الدينِ الأفكارُ العمليَّة التي يترتَّبُ على‬
‫وَعْيِهَا سلامةُ إسلام المرءِ وصحَّةُ اعتقاداتهِ؛‬
‫مثلُ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ؛‬
‫والإمامةِ؛ والطاعة؛ والشُّورَى؛ والجهادِ؛ وغيرِها‬
‫مما لم يعرَفْ خلافٌ بين المسلمين في وُجُوبِهِ أو‬
‫مما يُعْلَمُ من الدينِ بالضَّرورة أنه لازمٌ‬
‫لسلامةِ إسلام المرء وإيْمانهِ‪ .‬وكذلك مسائلُ أصُولِ‬
‫الفقه التي لم يُعْرَفْ فيها خلافٌ وهي القواعدُ‬
‫لإدراكهِ في الاتباع والتأسِّي بسيِّدِنا‬ ‫َّم‬
‫الضَّابطة ُمَح‬
‫‪ .‬فهذا كلهُ من الأفكارِ‬ ‫الرَّسُولِ‬
‫والاعتقادات التي لا تؤخذُ إلا عن يقينٍ‪ ،‬بل‬ ‫ٍد‬
‫‪255‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫طبيعتُها الفكريةُ أنَّها تؤخذُ بالدليلِ القطعيِّ‪،‬‬


‫َّد‬
‫المسلمين‬ ‫أي عن يقينٍ‪ .‬وهي من الأمرِ الجامع بين‬
‫الذي لا يصحُّ الخلافُ فيه ولا الاختلافُ؛ وع‬
‫الشَّارعُ الاختلافَ فيه والخلافَ فِرْقَةً‬
‫وضَلاَلَةً؛ فهي اعتقادات محكمة لا تقبل تعدد‬
‫الأفهام فيها‪.‬‬ ‫َّث‬
‫َو‬
‫ال ا ي‪ :‬اعتقاداتٌ يصحُّ الاختلافُ فيها على ما‬
‫للمكلَّفِ من غَلَبَةِ الظنِّ حين أخذِها‪،‬‬ ‫ظهرَ ِن‬
‫لأنَّها مما أذِنَ الشارعُ بالخلافِ فيها؛ وسَكَتَ عن‬
‫تعدُّدِ الأفهام لَها؛ ولأنَّ طبيعتَها مما‬
‫يُمْكِنُ أن يدخلَها الاحتمالُ حين فَهْمِ دلالاتِ‬
‫نصوصِها على الواقعِ‪ ،‬بل اختلفَ العلماءُ والفقهاء‬
‫في فهمِهم إيَّاها‪ ،‬ولم يظهَرْ من الشَّارعِ نقضٌ‬
‫للاختلافاتِ أو تقريرٌ لأحدِها عن الآخر‪ ،‬وكذلك‬
‫أذِنَ لَهم بِهذا الاختلافِ‪ .‬وهذه الأفكارُ هي من‬
‫الأُمورِ الشرعيَّة العمليةِ المرتبطة بالأحكامِ‬
‫الشرعية ذات الأدلة المتشا هة القابلَةِ للتعدُّدِ‬
‫في الرَّأيِ فيها‪ .‬مثلُ ِبمسألةِ اللَّمسِ ونقضِ‬
‫الوُضوءِ‪ ،‬والمصافحَةِ والصُّورةِ وغيرِها وجميعِ‬
‫علم الخلافِ‪.‬‬ ‫مسائلِ َّن‬
‫ُه‬ ‫ُد‬
‫والنظر في‬ ‫ًا‬ ‫ُ‬ ‫البحث‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬ ‫المكل‬ ‫على‬ ‫ُ‬ ‫يجب‬ ‫ف‬ ‫‪:‬‬ ‫‪ .2‬وبع‬
‫َّل‬
‫عقل ْلُمَك أو‬ ‫كلِّ ًا أمرٍ أوجبَ الشارعُ العلمَ به‬ ‫ِإ‬
‫َف‬ ‫نَقْل ؛ وجعلَهُ من َّي‬
‫ضرورات سلامةِ إسلامه؛ ا فُ‬ ‫ْس َا‬ ‫ْلَع َد‬ ‫ُمَط َلٌب‬
‫ا ي ال ل ؛ وبِما ثَبَتَ بالْقُرْآنِ‬ ‫ا‬
‫بالدلائل‬ ‫ِة‬ ‫ِم‬ ‫ِإ‬ ‫ِة‬ ‫ِق‬ ‫ِب‬
‫المتواتر َو ْنَش‬
‫ْيَم‬ ‫والحديثِ َتْأالقطعيِّ‬
‫ْلُمْعَتَق‬ ‫َس‬ ‫الكريم‬
‫َكَم‬
‫ا في‬ ‫ال ا‬ ‫ي ا‬ ‫المح ة‪ ،‬على ي‬
‫ِئِهِهما‬ ‫بدلالة ِإ خطاب‬‫يتأتَّىِإ ِنِّي‬
‫ِد‬ ‫والقلب‪ِ.‬س وِس ما‬ ‫حركتَي العقلِ ِب ِل‬
‫بتحديدٍ دقيقٍ ومعالِمِب واضحةٍ ُي لا تشتبهُ على‬
‫السُهَّامعِ أو المتلَقِّي؛ بل لا شْكِلُ على الناسِ‬ ‫َفْهُم‬
‫؛ ولا يصعبُ؛ ولا يخفَى في أم جعلَهُ الشارعُ‬
‫والمكلفُ مسؤولٌ عن‬ ‫ٍر‬ ‫محلَّ اعتقا جاز وطل يقي ‪.‬‬
‫والبحث فيٍم كلِِّب ما ٍنهو موضوعُ نظرٍ مطلوب‬ ‫ٍد‬ ‫النظرِ‬
‫لسلامهِ إسلامه وكمال إيْمانهِ؛ وبحثهُ لازمٌ على‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪256‬‬

‫وجه الوجوبِ‪.‬‬
‫ُفأما ما لا يرتبطُ بسلامةِ إسلام المرء؛ ولا‬
‫يعر بالضرورةِ العقليَّة ُف أنه يلزمُ لذلك؛ أي مِن‬
‫بالضَّرورة الشرعيةِ‪ ،‬أي‬ ‫خلال بحثِ واقعه؛ ولا يعر ًا‬
‫لم يجعلْهُ الشارعُ متعيِّن في بحثِ مطلوبٍ‪ ،‬أو‬
‫نظرٍ في خطابهِ على وجه من‬ ‫لم يجعلْهُ موضوعَ ٌد‬
‫أوجهِ الخطاب أنه مرا أو مقصود لذاته؛ فلا يصحُّ‬
‫أن يجعلَهُ المسلمونَ موضوعَ جدلٍ بين الناس‪ ،‬لا‬
‫على مستوَى الفكرِ والعلم‪ ،‬ولا على مستوَى‬
‫الْمُحَاكَمَةِ العقيديَّة‪ .‬وسيما نوعُ الخطابِ‬
‫لدينا معلوماتٌ كافية‬ ‫تتوفَّرْ ْلُمْخَتَز‬
‫المنقول الذي لم ْلُمْجَم‬
‫؛ فإن الشارعَ لم‬ ‫وا‬ ‫لتفسيرهِ وبيانه كا‬
‫ِل‬ ‫ِل‬
‫يجعلْهُ مناطَ نظرٍ ولا موضوعَ تفكُّرٍ كأخبارِ‬
‫الدَّجَّالِ وعذابِ القبر والدَّابَّةِّد وغيرِها مما‬
‫يُذْكَرُ في النُّبُؤَاتِ عند الْمُحَ ِثِيْنَ‪ ،‬ثَُرم‬
‫لَم يطلُبْ منَّاَمَحَّلالشارعُ الإيْمانَ بهِ ولا النظ‬
‫فلا َميوضعَلْيَس َلَك البحث ْلٌموالعل ‪ ،‬لقولهِ تعالى‪:‬‬ ‫فيه؛َا َتْقُف‬
‫َو‬
‫‪ ‬وهذا من المباحثِ‬‫ِم‬ ‫(‪)1‬‬
‫ا‬ ‫ل‬ ‫‪‬‬
‫ِع‬ ‫ِبِه‬ ‫ّد‬
‫لا‬
‫التي ح َها العلماءَُّم بأنَّها من المتشابهِ الذي ًا‬
‫سبيلَ للعلمِ بهُمَح فلا يصحُّ أن يوضعَ محل‬
‫دُ بن أحمدَ السَّرْخَسِيِّ‬ ‫للجَدَلِ؛ قال‬
‫في(الْمُتَشَابِهُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ) أنهُ‪:‬‬
‫(اسْمٌ لِمَا انْقَطَعَ رَجَاءُ مَعْرِفَةِ‬
‫الْمُرَادِ مِنْهُ لِمَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ‬
‫فِيْهِ؛ وَأَنَّ الْحُكْمَ فِيْهِ اعْتِقَادُ‬
‫الْحَقِيْقَةِ وَالتَّسْلِيْمُ بِتَرْكِ الطَّلَبِ‪،‬‬
‫وَالاشْتِغَالُ بِالْوُقُوفِ عَلَى الْمُرَادِ‬
‫مِنْهُ فِي دَلاَلَةِ النَّصِّ بِمَا يُفِيْدُ‬
‫ُتْنَظُرَ‪ ،‬لاَ ُة بِمَا يَعْجَزُ عَنْهُ‬ ‫الْعَمَلَ وَالْعِلْم‬
‫ُندلال ذكر في سياق الن ‪،‬‬ ‫الإدُْترَاكُ)‪ .‬أي‬
‫ِّص‬ ‫َّن‬ ‫ِه‬
‫وإفاد ها للتشري ُف وبيا َر الوجه المقصود في المراد‬
‫يتكل النظ أكثر من ذلك‪ .‬لأ هذا من‬ ‫ِع‬ ‫الشرع ‪ ،‬ولا‬
‫ِّي‬
‫(?) الإسراء ‪.36 /‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪257‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫سبيلَ َّيللعلمِ به(‪.)1‬‬ ‫َّش‬ ‫المتشابهَّنُ الذي ُّنلا‬


‫َوَأَم َر َه‬ ‫ْر‬ ‫ُص‬ ‫ُي َاَحُظ َأ‬
‫ا ا ا‪ ،‬ما هو ٌهقطعيُّ‬ ‫ُمْحَكٌمال و ال‬ ‫ي‬ ‫‪ .3‬ل‬
‫‪ ،‬وما هو ظنيُّ الدلالةِ متشاب ‪ .‬ولا‬ ‫ِت‬ ‫ِة‬ ‫ِع‬ ‫ِص‬ ‫ِف‬ ‫الدلالةِ‬
‫خلافَ في القطعيِّ الدلالة‪ ،‬أما الظنيُّ؛ فإنه‬
‫يبقَى على ظنيَّةِ دلالتهِ واحتمالية الرَّأي‬
‫المستنبطِ منه‪ ،‬ولا يصحُّ أن يجزمَ مجتهدٌ‬
‫بصوابيَّة الرأيِ الذي استنبطَهُ ودليلهُ ظنيٌّ‪،‬‬
‫ولكنه يُرَجِّحُ ما غَلَبَ على ظنًاِّهِ بالحكمِ على‬
‫الواقع‪ ،‬ويبقى ما استنبطَهُ صواب في حقِّهِ حتى‬
‫يَثْبُتَ خطأُهُ‪ .‬والرأيُ الآخر خطأٌ حتى يَثْبُتَ‬
‫صوابهُ‪ .‬وعلى هذا لا ًايصحُّ عند العقلاءِ الجزمُ‬
‫بِما هو ًامظنونٌ‪ ،‬فضل عن أنَّ الجزمَ بالظنِّ‬
‫حرامٌ شرع ‪ً،‬ا ما لم يثبُتْ بعلمٍ‪ ،‬والظنُّ غيرُ‬
‫العقيديََّّاة‬
‫الأمورِ ْن ْل‬ ‫قطعَل ؛ ُهبخاصَتَعََّلة فيَم َلُه‬ ‫ْلُمْحَكَمِ َّظ َق‬
‫العلم‬
‫ُه َتَع َل ل‬ ‫َل‬ ‫ا َب َع ‪ ،‬ا َوَماللَقَتُل ُها َيى‪ً :‬ا‪ ‬ا َوَقم‬
‫ِإ‬ ‫ٍم‬ ‫ِع‬ ‫ِم‬
‫َّظَّن َو َّنا ى‪َّ :‬ظَّن‪‬‬ ‫ِبِه‬
‫ين ُع‪َ2(‬ن) اَّا الل‬ ‫َّت‬ ‫َما اَلُه ِةال ‪ْ ،‬ن ا ْل و‬
‫‪ ،‬ن ِق و ل الُّسَّن‬ ‫َي‬ ‫ِّتا م ِّن‬
‫ال‬
‫لَا ُيْغ ي ِبِه ِما ِع ٍم ئ ِإ‬
‫ًا‬ ‫َشْي‬ ‫ْلَح‬ ‫َن‬
‫ى‬
‫ُمَح‪َّ(‬م‪ِ .)3‬بثم أنِإَّ َّرال ةَ ِإمن هديِ‬
‫دٍ‪ ‬أنه أقَ المختلِفين في‬ ‫سيِّدِِننا ِمالرَّسُِّقولِ‬
‫فهمِ الأدلَّة الظنيةِ؛ كما في حديثِ بني‬
‫قُرَيْظَةَ وحديث أبِي سعيدٍ ًاوحديث النَّزَّالِ‪،‬‬
‫وغيرُها كثير(‪ .)4‬لِهذا ليس صَحيح أن يجزمَ المكلفُ‬
‫باعتقاداتهِ التي على سبيلِ غَلَبَةِ الظنِّ‪ ،‬وهذا‬
‫ضربٌ من التَّحَكُّمِ العقليِّ في جدلِ الأفكار؛‬
‫وليس هو بناءُ الحوارِ والتفاهم بين المسلمينَ على‬
‫ضوابط معتبرةٍ من علمِ الشَّريعة أو ضروراتِ العقل؛‬
‫إذا ما سَكَتْنَا عن أنه ضربٌ من الطائفيَّة‬
‫للمذهبِ المتبنَّى عندَهُ‪ ،‬ولا يصحُّ‬ ‫والتعصُّبِ ًا‬
‫مثلُ هذا قطع لِمَا جاء فيه من توجيهِ الشَّارعِ‬
‫(?) أصول الفقه‪ :‬ج ‪ 1‬ص‪ 169‬تحقيق أبو الوفاء‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) النساء ‪.157 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) النجم ‪.28 /‬‬ ‫‪3‬‬

‫(?) تقدمت األمثلة يف الصفحة (‪.)120‬‬ ‫‪4‬‬


‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪258‬‬

‫للمكلفِ إلى غيرِ العصبيَّة ونَهيهِ عنها على وجهِ‬


‫التَّحريمِ‪.‬‬
‫التسليم بالأخبار الظنيَّة؛ أي‬ ‫ِ‬ ‫‪ .4‬ثم يلاحظُ الفرقُ بين‬
‫القطعي من الكِتَابِ‬
‫ِّ‬ ‫غيرُِّسَّن الحديث المتواترِ‪ ،‬وبين‬
‫وال ةِ‪ .‬وبين دلالاتًاِها القطعيَّة أو الظنية كذلكَ‪.‬‬
‫ويحصلُ الخلافُ غالب في الأخبارِ الظنيَّة الثبوتِ‬
‫والدلالة‪ ،‬وفي بحثِها والنظرِ فيها‪ ،‬فمِمَّا يجبُ‬
‫أن يتداركَ فهمُهُ على المسلمينَ‪ ،‬أن قبولَ أخبارِ‬
‫المهديِّ المنتظرِ والدجَّالِ وعذابِ القبرِ قبولٌ‬
‫بالتسليمِ‪ ،‬وليسَ معناهُ مطلوبٌ من المكلفِ بحثُها‬
‫أو النظرُ فيها‪ ،‬وإنَّما يعنِي قبولُها من غيرِ‬
‫منازعة دلائلِها وأماراتِها فيًا غير موضوعِ بحثها في‬
‫عُرْفِ الشَّارعِ‪ ،‬فهي غالب جاءت للتحذيرِ مِن‬
‫للتأكيدِ َةعلى معروفٍ بوصفها قرائن‪ ،‬أي‬ ‫منكرٍ أو َع‬
‫ُد‬
‫الأحكام المرادة على الوج‬ ‫ومعرف‬ ‫التشري‬ ‫تفي‬
‫أو اْلُحرَم ‪ ،‬فيتناولُ المكلفُِه‬ ‫المقصود من ال‬
‫ِة‬
‫النظرَ مِن هذه الزاويةِ في الموضوعِ ولا يذهبُ‬ ‫ِحِّل‬
‫إلى حقائقِ وجودِ المهديِّ المنتظرِ أو الدجَّالًاِ‬
‫أو عذاب القبرِ‪ ،‬لأنَُّي هذا المعنى ليس مطلوب‬
‫للنظرِ والبحث‪ ،‬ولا لْزَمُ به المسلمون على‬
‫اعتباراتِ المباحث العقيديَّة ليجزمَ به المكلَّفُ‬
‫أو يظنَّ به‪ ،‬فهي ليست موضوعَ بحثٍ عقيديٍّ‪،‬‬
‫ولكنَّها تؤخذُ في مباحثِ الترغيب والتَّرهيبِ‪ ،‬أو‬
‫التحريضِ أو التحذير‪ ،‬أو الأمرِ والنهي أي بِما‬
‫يتعلَّقُ بِمباحث الفقهِ والأخلاق‪ .‬وبحثُها في غيرِ‬
‫هذا المجال الموضوعيّيِّ‪ ،‬بحثٌ ُّد يتعدًاَّى حدودَهُ‬
‫المنهجيَّة من غيرِ ب ِنةٍ‪ .‬ويع طلب للناظرِ من‬
‫المكلَّفِ أن يعتقدَ ما لم يطلبه الشارعُ منه‪ ،‬وهو‬
‫غفلةٌ تؤدِّي إلى بدعةٍ في إحداثِ عقائد غيرِ‬
‫سِلْيمِ بأخبارِها‬
‫الت ْ‬‫افى َمَع َّ‬ ‫مأمورين بِها‪ .‬وهذا َال َيَتَن َ‬
‫الصَّحيحةِ السَّنَدِ ولم تتعارَضْ مع قطعيِّ‬
‫الدلالةِ أو راجح الأمارةِ‪ .‬لأنَّ التسليمَ قبولُ‬
‫خبرٍ من غيرِ منازعة في سندهِ‪ ،‬والتسليمُ في‬
‫دلالةِ الخبر وأمارته‪ :‬قَبولُ الفكرةِ لثبوت صدقِ‬
‫‪259‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫مطلوبٍ البحثُ فيها ولا‬ ‫المخبرِ؛ والزيادةُ غير َح َر‬


‫الباحثين واضطرابِ‬ ‫النظرُ‪ ،‬بل هي َتَح ُّك ٌم من ي‬
‫ِة‬ ‫مناهجهم‪.‬‬
‫وص؛ بالتعاملِ مع‬ ‫ِ‬ ‫الن ُ‬
‫ص‬ ‫امِل َمَع َهِذِه ُّ‬ ‫وَتْج ِري الطَِّرْيقَُة ِفي التَّعَ ُ‬
‫دلالتِها العملية فقط‪ ،‬لأنَّها ليست من مطالبِ‬
‫َنُمُّرَّة السندْكِ‪ ،‬ثم‬ ‫العقيدة ولا من مباحثِها بعد ثبوتِ صح‬
‫من‬ ‫به لل‬ ‫ما جاءَ منها في غيرِ باب الأعمال‬
‫ِر‬ ‫ِّذ‬
‫غيرِ تفكُّرٍ فيه حتى يأتِي زمانهُ‪ ،‬ولا نجعلَهُ في‬
‫حيِّزِ التأثيرِ على تفكيرِ العامَّة من المقلِّدين‬
‫أو الْهَمَجِ من الناسِ‪ ،‬قال الإمامُ أحْمَدُ بْنُ‬
‫حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ‪( :‬وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ‬
‫تَفْسِيْرَ الْحَدِيْثِ وَيَبْلُغْهُ عَقْلُهُ؛ فَقَدْ‬
‫كَفَى ذَلِكَ وَأَحْكَمَ لَهُ‪ ،‬فَعَلَيْهِ الإيْمَانُ‬
‫بِهِ وَالتَّسْلِيْمُ لَهُ مِثْلُ حَدِيْثِ الصَّادِقِ‬
‫وَالْمَصْدُوقِ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الْقَدْرِ‪،‬‬
‫وَمِثْلُ أَحَادِيْثِ الرُّؤْيَةِ كُُُلِّهَا وَإنْ‬
‫نَبَتْ عَنِ الأَسْمَاعِ وَاسْتَوْحَشَ مِنْهَا‬
‫الْمُسْتَمِعُ‪ ،‬فَإنَّمَا عَلَيْهِ الإيْمًاَانُ بِهًَاا‬
‫وَاحِد‬ ‫وَأَنْ لاَ يَرُدَّ مِنْهَا جُزْء‬
‫وَغَيْرِهَا مِنَ الأَحَادِيْثِ الْمَأْثُورَاتِ مِنَ‬
‫الثِّقَاتِ)انتهى(‪ .)1‬ثم يجبُ أن يُعًْالَمَ أنَّ ما جاءَ‬
‫يضربُ بعضهُ بعض ولا يكذِّبهُ‪ ،‬بل‬ ‫عن رسولَِّص الله‪َّ ‬سلا ًا‬
‫لقولهِ‬ ‫يجهلُونَ؛‬ ‫َّن‬
‫َقْبَلُكْم َهَذ‬ ‫الناسَّنََمْن َك َن‬
‫بعض ولكنَم َهَلَك‬ ‫َعَلْيصَدِّقُ َاُةبعضَوَهُ َاُم‬ ‫يُ‬
‫ُأْن َل َت ُب ا‪،‬‬ ‫َبْعَضُه[ َبْعا َو َم ا‬ ‫َضَرُب ْا ال َتل َب ال ل ‪:‬‬
‫ِب‬
‫الل َف َا ُتَك ُب ‪َ،‬بْعَضُه َبْعا ًا َفَم َع اْمُتْم الل‬ ‫ِإ‬ ‫ُيَص ُقِهو َبْعَضُها‬
‫ْنُه‬
‫ِه‬ ‫ِبوا ٍض ِإ ض ‪ِ ،‬ز ا ِك‬ ‫ًا‬
‫ض ‪ِ ،‬ه‬ ‫َبْع‬ ‫ِك‬
‫َع‬ ‫َل‬ ‫ُه‬ ‫ُل‬ ‫َف‬‫ْلُتْم ل‬ ‫َج‬ ‫َوَم‬ ‫َفُقِّدُل ْا‬
‫ِم‬ ‫ِل‬ ‫‪.‬‬ ‫)‬ ‫‪2‬‬‫(‬
‫]‬ ‫ا‬ ‫ى‬ ‫و ِّذ‬ ‫ا‬ ‫‪،‬‬ ‫وو‬
‫ُّسَّن‬ ‫ِلِمِه‬ ‫ِإ‬ ‫ِك‬ ‫ِه‬
‫(?) نقله اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل ال ة‬ ‫‪1‬‬

‫والجماعة‪ :‬ج ‪ 1‬ص‪.157‬‬


‫(?) رواه الإمام أحمد في المسند‪ :‬ج‪ 2‬ص‪ً181‬او‪ 185‬عن عمرِو‬ ‫‪2‬‬

‫بن العاصِ؛ قال‪ :‬سَمِعَ النَّبِيُّ‪ ‬قَوْم يَتَدَارَؤُنَ‬


‫! فَقَالَ‪ [ :‬إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ‬
‫بِهَذَا ضَُأرَبُوا كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ‪،‬‬
‫وَإنَّمَا نْزِلَ كِتَابُ اللهِ يُصَدِّقُ بَعْضَهُ‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪260‬‬

‫‪ .5‬ثم مما يجبُ أن يُعْلَمَ‪ ،‬أنه ليسَ كلُّ ذِكْرٍ‬


‫لأمر من الأمورِ الفكريَّة َّتواجبَ البحثِ فيه‬
‫والتنقيبِ عنهُ‪ ،‬فما لم يَتَأَ طلبُ نظرٍ ومزيدُ‬
‫تحتِّمُها الدلائلُ الشرعيةِ‪ ،‬يًاُكْرَهُ‬ ‫تَفَكُّرٍ ًا‬
‫النظرُ شرع ولا يستحسنُ البحثُ عقل ‪ .‬قال‬
‫الشاطبيُّ‪( :‬كُلُّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ‪ ،‬فَطَلَبُ‬
‫الشَّارِعِ لَهُ إنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ هُوَ‬
‫وَسِيْلَةً إلَى التَّعَبُّدِ بِهِ للهُ تَعَالَى‪،‬‬
‫لاَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَإنْ ظَهَرَ فِيْهِ‬
‫اعْتِبَارُ جِهَةٍ أُخْرَى فَبِالتَّبَعِ)(‪.)1‬‬
‫ريبُدَ‬ ‫لا‬ ‫ٌ‬ ‫آتية‬ ‫فمثلًا الإيْمَانُ بالساعةِ وأنََّّنها َّس‬
‫فيها أمرٌ قطعي ُّلٌّ لقولهِ تعالى‪  :‬ال اَعَة آ َيٌة َأَكاَّن‬
‫َوَأ‬ ‫ِت‬ ‫َتْسَعى‪ِ )2(‬إ‬
‫ُأْخَّسيَها ُتْجَزى ُك َنْف َما َّن‬
‫‪‬‬
‫ْلُقُب‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫ِ‬‫وقوله‬
‫َه َيْبَعُث َمْن‬ ‫ِف َعَة ِل َيٌة َا َرْيَب ٍس ِبَه َوَأ‬
‫ي ا و‬ ‫الل‬ ‫يا‬ ‫ل‬ ‫ال ا آ‬
‫مانُ بالسَّاعةِ من ِف الأفكارِِر‬ ‫فقطعًا الإيْ ِف‬ ‫ِت‬ ‫(‪)3‬‬
‫‪‬‬
‫المتعلِّقة بالإيْمانِ باليوم الآخرِ‪ ،‬وهي مِن‬
‫الأفكارِ التي تَصِلُ العقيدةَ الإسلاميةَ بأعمالِ‬
‫المكلَّفين لتربِطها بالجزاءِ أي بالثوابِ والعقاب‬
‫الأخرويَّين‪ ،‬فهي ضرورةٌ فكرية عقيديةٌ لازمة يحكمًاُ‬
‫بِها النصُّ‪ ،‬وهي مبحثٌ واجب الإيْمانِ به تسليم‬
‫لِما جاءَ في النصوصِ القطعيَّة الثبوتِ القطعية‬
‫الدلالةِ‪ .‬ومع هذا نجدُ أنَّ الشارعَ لم يجعلها‬
‫َنَكَّةَعْنِ‬
‫َيْسَأُلعام‬
‫عنها من‬ ‫سألَ َّل‬‫َّز‬
‫موضوعَ نظرٍ ولا محلَّ بحثٍ لمن َع َوَج‬
‫‪  :‬و‬ ‫الناسِ أو خاصَّتهم‪ ،‬قالَ اللهُ‬
‫ًا‬
‫بَعْض ؛ فَلاَ تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَمَا‬
‫عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا وَمَا جَهِلْتُمْ فَكِلُوهُ‬
‫إلَى عَالِمِهِ ] وعن أبِي هريرةَ‪ :‬ج ‪ 2‬ص‪ 300‬بلفظِ‪:‬‬
‫[ فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُواْ‪ ،‬وَمَا جَهِلْتُمْ‬
‫مِنْهُ فَرُدُّوهُ إلَى عَالِمِهِ ]‪ .‬وإسنادهُ صحيح‪.‬‬
‫(?) الموافقات في أصول الشريعة‪ :‬ج‪ 1‬ص‪.60‬‬ ‫‪1‬‬

‫(‪ )4‬الأعراف ‪/‬‬ ‫(‪ )3‬الحج ‪.7 /‬‬ ‫(?) طه ‪.15 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.187‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪261‬‬
‫َّن‬ ‫َّي‬ ‫اْلَمَباَّسِح ُث‬
‫َع َأ َن ُمْرَس َه ُقْلَّس َم َّي ْلُمَه ْنَد َر‬
‫وقال‬
‫ِإَع اَأ ِع َن اَّنُمْرَسِع َه ِّب َم َّس َأْنَت ْن‬
‫(‪)1‬‬
‫‪‬‬ ‫ي‬ ‫َيْسَأُل َنَك اَعْنا‬
‫ا‬ ‫ال ا‬
‫تعالى‪  :‬و‬ ‫ِة‬
‫ُسا اَعْن ِفي َع َّمِمُقْل‬ ‫ال ا َيْسَأُلَك ا‬
‫َّي‬ ‫ِة‬ ‫َّنْكَر َه‬
‫ِةُمَح‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫‪‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫ِذ َما ْلُمَه ْنَد‬
‫وقال‬ ‫(‪)2‬‬
‫‪‬‬ ‫ا‬
‫دٌ‬ ‫الل ‪ . ‬وب ن سيِّدُنا الرسولُ‬ ‫(‪)3‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫ِإ‪ ‬أنَّ قضيةَ الساعةِ‪ ،‬قضيةُ عملٍ‪ ،‬وليس قضيةَ انتظارٍ‬ ‫ِه‬ ‫ِع‬ ‫ِع‬
‫قضيةَ بحثٍ ونظر‪ ،‬فقال لِمن سألَهُ‬ ‫وتوَاكُلَمٍ ولا‬
‫َأْعَدْدَت َلَه‬
‫ا] هذا لتوجيهِ تفكيره إلىأنَّ‬ ‫(‪)4‬‬
‫عنها‪ [:‬ا‬
‫هذه الفكرةَ من مقتضياتِ العمل ودوافعهِ‪ ،‬وليس من‬
‫عنها‬
‫مقتضياتِ الجدَلِ والمناظراتَِّس‪ ،‬وقال لمن سألَهُ َم‬
‫أمورِ َنالدِّينِ وأساسيَّاتهِ [ ا‬ ‫باعتبارِهاَعْنَه من َأْعَلَم‬
‫ْلَمْسُؤ ُل‬
‫أي أنَّها ليست‬ ‫(‪)5‬‬
‫ال ا ]‬ ‫ا‬ ‫ا و‬
‫ِئِل‬ ‫ِم‬ ‫ِب‬ ‫‪1‬‬

‫(‪ )2‬الأحزاب ‪.63 /‬‬ ‫(?) النازعات ‪.43-42 /‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬
‫َفَق َل‬ ‫َق َل َج َء َرُجٌل َل َرُس‬ ‫َعْن َأَن ْب َم‬
‫َمَت ‪َ‬ي ُما ‪َّ :‬س اَع َفَق َم ى َّن ُّيو َلالل َّص‪َ ‬ا ا ‪:‬‬ ‫ا‬ ‫(?)‬ ‫‪4‬‬

‫ال َي ِل ى َّسِهالَع ل ؛‬ ‫ِلٍك ا ال ا ؟ َّس اِإ‬ ‫ى‬ ‫!‬‫َياَّم َرُسوَل ِسالل ِن‬
‫ُل َعْن‬ ‫َأْيَن‬ ‫ْنَقَضْت ِهَص َاُتُه َقِق َل‬ ‫َفَل ا ا َّر‬
‫َأْعَدْدَت اَلَه ؟ ِة]‬
‫َمِب ا ِإ ال‬ ‫ا‬ ‫ال‬
‫َّم َق َل‬ ‫ِة‬ ‫[‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬ ‫!‬
‫ُجُل َّنَأَن َّرَي َرُس َل‬ ‫ل‬ ‫َفَق َل‬
‫ِةاَم ؟ ]‬ ‫اللِه ُث! َّاَقاِئ َل‪َ[ :‬ي ِقاُّبَرُسِمَل‬ ‫َفَكَأ ا اُجَل وْسَتَك َن‬ ‫ال ‪:‬‬ ‫َق َلا َأَنُس‬
‫َوَرُس اَلُه‬ ‫اَأَّب‪ُ :‬أا و َهالل‬ ‫َلَه َك َر الَص َا اَو َا اَصْو!‪،‬‬ ‫َأْعَدْدُت ‪:‬‬ ‫ا‬
‫الل َمْن ِه و‬
‫َأْحَبْبَت‪.‬‬ ‫َوَأْنَت َمَع‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫؛‬
‫َاْلَمْرُء َمَع َمْن َأَح‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ا‬
‫َرَأْيُتوُل ِب‬
‫َفَق َل َرُس‬
‫]‬ ‫َفَرَحُهْمِح َهَذ‬ ‫ْلُمْس [ٍة َن َبْعَد ٍم ْسِإ َا ِّن‪،‬‬ ‫الل ‪:‬‬ ‫َفَرَح‬ ‫َفَما‬
‫ا‪ .‬رواه‬ ‫ال ل‬ ‫ي‬ ‫ِها‬ ‫ا‬
‫باب ما جاءِب أن المرء مع‬ ‫الزهد‪ِ :‬م‬ ‫ِإ‬ ‫الترمذي في الجامع‪ِ:‬لِمكتاب‬
‫من أحب‪ :‬الحديث (‪ ،)2385‬والبخاري في الصحيح‪ :‬كتاب‬
‫الأحكام‪ :‬باب القضاء والفتيا‪ :‬الحديث (‪ ،)7153‬ومسلم في‬
‫الصحيح‪ :‬كتاب البر والصلة‪ :‬باب المرء مع من أحب‪ :‬الحديث (‬
‫َّن‬ ‫َّن ُّي‬ ‫‪ .)161/2630‬وما بعده‪.‬‬
‫َب ًا َيْو ًا‬ ‫َك َن‬ ‫َعْن َأ ُهَرْيَرَة َق َل‬
‫ال َل ‪ْ ‬يَما ُنز َأْن مُتْؤ َن ل ا ‪،‬‬ ‫ا‬ ‫[‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬ ‫َفَأَت ُه ي‬ ‫(?)‬ ‫‪5‬‬

‫َوَم ‪،‬‬
‫الل‬‫ِل ِس‬ ‫َرُجٌل َفقَاَل‪َ :‬ما ال ْيَماُن؟ َقا ِب‪ :‬ال اِر‬ ‫ا ِب‬
‫َوُت َمِها‬ ‫ْلَبْع ‪ِ .‬مَقاَل‪ِ:‬ب‬ ‫ا‬
‫ُوُتْؤِإ َن‬
‫‪،‬‬
‫َو َق ِإ َوُرُس‬
‫‪،‬‬ ‫ا‬
‫َوُكُت‬ ‫َوَم َا َك‬
‫َأْن َتْعُبَدِلِه َه َو َا ُتْش َك‬ ‫ِبِلَاُم ِئِه‬ ‫َّصلْسِئَاُمِتِه َق َل ِبِه َّزْس‬
‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬
‫َوَتُص َمِملَرَمَضِب َن ِثَق َل‪َ ،‬وَم ي‬ ‫ْلَمْفُر َضَة َّنالل‬ ‫الِإ لَاَة ؟ َوُتْؤا ‪ :‬الِإ َك َة‬
‫ل‬
‫ِق‬
‫َتُكْن ا‬ ‫ِبِه‬ ‫ِر‬
‫َتْعُبَد ا َّس َهو َكَأ‪َ ،‬ك َتَرو ُه َف اْن ‪َ .‬لْم ا ‪:‬‬ ‫ال ا‬
‫َتَر ُه‬ ‫الَّنلْحَس ُن‪َ ،‬ق ِتَلي َأْن‬
‫ا‬
‫ْلَمْسُؤ ُل َعْنَهَّب َأْعَلَم‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬‫َعُة َق َل َم‬ ‫الل‬ ‫َفالِإُه اَّسَيَر؟ َك اَق‪َ :‬ل َوَمَت‬
‫ِإ‬
‫َأْشَر ؟َه ا ‪َ:‬ذ اَوَلَدا وَأَمُة َر اَتَه‬ ‫َوَسُأْخ ُرَك ىَعْن ال ا‬ ‫ا‪ .‬ا‪:‬‬ ‫ِإَن‬
‫ال َخْم َاِبا‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ا‪:‬‬
‫ُبْهِطَّن ُّي ِإ ْلُبْنَيَّن ِت َو‬ ‫ا‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫ال‬
‫ل‬ ‫ي‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫َوَل ُرَعاُةِب الَّم‬ ‫ِمَو َذا َّنَتَطاِئِلَّا‬
‫ِن َهِف ْنَدُهٍس ْلُم‬ ‫ُه َّم ُث ِإِبِلَت َا‬ ‫َيْعَلُمُه‬
‫َيَرْو ِعَشْي ًا ِع َفَق َل‬ ‫َأْدَبَرل َفَقالِمَل ِفُرُّد‪ُ ‬ه ‪َ:‬فَلْم الل‬ ‫الل ُث‪.‬‬ ‫َيُة‬ ‫ِإَّس َع ل‬
‫ا ئ‪ .‬ا‪:‬‬ ‫‪ .‬ا ِب و ‪ِ .‬إ‬ ‫ال ا ‪ِ ‬إالآ ‪.‬‬
‫ِة‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪262‬‬

‫موضوعَ بح ‪ .‬وهكذا يجبُ تناولُ الأفكارِ المتعلِّقة‬


‫بأصولِ الدٍثِّينِ مما يربطُ أركانَ العقيدةِ بالانبثاق‬
‫الفكريِّ والابتناء عليها حتى ينتجَ العملَ‪ ،‬فإنَّها‬ ‫ٌر‬
‫أفكا ليست موضوعَ بحثٍ ونظر‪ ،‬وإنَّما يتناولُ شأنَها‬
‫موضوعه ْهمن توجيهِ أعمالِ السَّالكِ‬ ‫بِما هو في بابِ َف ْنَت‬
‫يَرْحَمُنِ ي وَيَرْحَمُكَ‬ ‫إلىخيرِ المسالكِ‪ .‬ا‬
‫ِب‬
‫اللهُ‪ .‬هذا إذا كان النظرُ في بحثِ الفكرة‬
‫المتعلِّقةِ بالعقيدة وجاءَ نصٌّ قطعي ُّسَّنالثبوتِ قطعيُّ‬
‫الدلالةِ من القُرْآنِ الكريم أو ال ةِ المطهَّرة‪،‬‬
‫فما بالُكَ بنصٍّ ظنيِّ الثبوتِ ويرتبطُ بالجزئيَّات‬
‫الأعمالِ‪ ،‬فَلاَحِظْ‪.‬‬ ‫بالكلياتِ من َّن‬
‫َّم‬ ‫لا‬
‫َوَبْعُد ُث ْعَلْم‬
‫أ غرضَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ‬ ‫ا‬ ‫‪:‬‬ ‫‪.6‬‬
‫من عبارتهِ على ما يبدو ي‪ :‬هو تأكيدُ حكمٍ شرعيٍّ‬
‫في منهجيَّةِ اعتقادٍ‪ِ،‬ل وبقصد رفعِ جَدَلِ‬
‫المتكلِّمين وغيرِهم حولَ حجيَّة حديثِ خبر الآحادِ‬
‫في غيرِ موضوعه‪ .‬ولبيانِ أنَّ خبرَ الآحادِ لا‬
‫يصلحُ لتأسيسِ معتقد إيْمَانِيٍّ أو إنشائهِ‪ ،‬فلا‬ ‫ُّج‬
‫ُي‬
‫حت به في العقائدِ من هذا الوجه‪ ،‬وليس الغرضُ‬
‫نفي حجيَّته في بيانِ مفاهيم العقيدةِ أو في توجيه‬
‫َّن‬
‫َجَعَل َذ َك‬ ‫َس َنُهْم َق َل َأُب َعْب‬ ‫َهَذَّل ْب ٌل َج َء ُيَع ُم‬
‫الل ‪:‬‬ ‫و‬ ‫ال ا ي ‪ .‬ا‬ ‫ُك ُها َن ي ْيَما‬
‫باب سؤال ِل‬ ‫الإيمان‪ِ :‬ه‬
‫ِد‬ ‫ِج ِر ال ا ]‪ .‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب‬
‫ِد‬ ‫ِّل‬
‫الحديث ِن(‪ )50‬و(‪ )4777‬من رواية أبي هريرة وليس فيه‬ ‫جبريل‪ِ :‬إ‬
‫ِم‬
‫(وكتبه) ولفظه‪[ :‬الإيْمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ‬
‫وَمَلاَئِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ‬
‫بِالْبَعْثِ ] قال في الفتح‪ :‬قوله [وَكُتُبِهِ] هذه عند‬
‫الأصليِّ هنا‪ ،‬واتفقَ الرواة على ذكرِها في التفسير‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ج ‪ 1‬ص‪ ،157‬طبعة دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪ ،‬حقق‬
‫أصلها عبد العزيز بن باز‪ ،‬وقد راجعت الطبعات السابقة لغير‬
‫المحقق‪ ،‬فهي كما مثبت في طبعاته كلها‪ .‬والحديث عن عمر بن‬
‫باب بيان‬ ‫الخطاب ‪ :‬أخرجه مسلم في الصحيح‪ :‬كتاب الإيمان‪ّ :‬ن‬
‫الإيْمان‪ :‬الحديث (‪ .)1/8‬وسنن أبي داود‪ :‬كتاب الس ة‪ :‬باب‬
‫في القدر‪ :‬الحديث (‪ .)4695‬والجامع الصحيح للترمذي‪ :‬كتاب‬
‫الإيْمان‪ :‬باب ما جاء في وصف جبريل‪ :‬الحديث (‪ .)2610‬وسنن‬
‫النسائي‪ :‬كتاب الإيْمان‪ :‬باب نعت الإسلام‪ :‬ج ‪ 8‬ص‪.97‬‬
‫والحديث حسن صحيح مشهور‪.‬‬
‫‪263‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫معانِي الأفكار إلى صح ُيَّةِ الاعتقادات وسلامةِ‬


‫إسلام المرء‪ ،‬لأنهُ لا عْلَمُ خلافٌ في حجيَّة‬
‫يفيدُ العملَ‪ ،‬سواءٌ كان ُكُّلالعملُ‬
‫خبرًاِ الآحاد بِما ًا‬
‫فع‬ ‫فعل للعقلِ أو فعل للجوارحِ‪ ،‬والعملُ هو‬
‫مقصود في التفكيرِ أو التطبيق‪ ،‬في العمليةِ العقليةٍل‬
‫أو الممارساتِ السلوكيَّة‪ ،‬لِهذا ليس بالضرورةِ أن‬
‫يُفْهَمَ من عبارتهِ أنَّ غيرًَا الخبرِ المتواتر‬
‫ليسَ بحجَّة في العقيدةِ مُطلق ‪ً،‬ا أي أنَّ خبرَ‬
‫ََّّسةٌ‬
‫الآحادِ ليس بحجة في العقائدِ مطلق ‪ ،‬بل هو حجُمَؤ‬
‫في العقيدةِ على سبيلِ البيان وإيضاح المراد لل‬
‫العقيديِّ في عقلِ المرء وقلبه‪ .‬ولا يخفَى الفرقُِس‬
‫بين تأسيسِ المعتقد وإنشائهِ بِما يترتَّبُ عليه‬
‫صحَّة إسلامِ المرء أو كُفْرِهِ‪ ،‬وبين توجيهِ‬
‫المعانِي بقصدِ سلامة إسلامهِ‪ ،‬ثم حصول الدرجاتِ في‬
‫الفهمِ وإيضاح المعنى في ذهنِ المكلَّفِ للفكرة‬
‫التي أسْلَمَّنَ لَها وآمن بِها‪.‬‬‫َّم‬
‫ُث ْعَلْم‬
‫أ لخبرِ الآحاد‪،‬؛ مع ظنيَّته؛ دورٌ واضح‬ ‫ا‬ ‫‪.7‬‬
‫في إرشادِ المكلَّف إلى تصحيحِ مفاهيمه العقيديَّةِ‬
‫والسلوكية‪ ،‬وإلى تصويبِ مناهج النظر والبحثِ‬
‫والدراسة؛ لأنه يوضِّحُ المطلوبَ الخبريَّ المؤسَّس‬
‫في مراكزِ التَّنَبُّهِ الفكريَّةِ والحسيةِ في‬
‫ذهنه ويوجِّهُها على قصدِ مراد الشَّارعِ‪ .‬وهذا‬
‫التوجيهُ؛ لا يتوهَّمه البعضُ أنه تحكمٌ في تفسيرِ‬
‫عبارة الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ‪ ،‬وإنَّما هو‬
‫فهمٌ يتأتَّى على البداهةِ عنده؛ وعند غيرهِ من‬
‫العلماء والفقهاءِ؛ فتجدُهم يستدلُّون بأخبارِ‬
‫الآحاد في إيضاح المعانِي المؤسَّسة من أصُولِ‬
‫الدِّين وأصُول الفقهِ‪ ،‬وهو كثيرٌ لمن عرفَ العلم‬
‫في حلقاتِ الدَّرسِ وفي حُجراتِ العلم‪ .‬وهو كثيرٌ‬
‫عند الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ‪ ،‬لأنه من ضروراتًاِ‬
‫مناهجًا البحث الفقهي ًاِّ للمدرسةِ الإسلامية قديْم‬
‫وحديث ؛ وتجدهُ ظاهر في بحثهِ الموسوم (إزَالَةُ‬
‫الأَتْرِبَةِ عَنِ الْجُذُورِ) ومباحث كتابِ‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪264‬‬

‫في‬ ‫والذي‬ ‫الإسْلاَمِيَّةُ)‬ ‫(الشَّخْصِيَّةُ‬


‫مسائِلِهما ومباحثهما ارتباطٌ وثيق بالعقيدةِ‪ ،‬بل‬
‫هُما مسائلُ ومباحثُ في أصُولِ الدين وتصحيحِ‬
‫وتوجيهُّج العملِ وأصُولِ الفقهِ‪،‬‬ ‫َيْحَت‬ ‫مفاهيم الاعتقاداتِ‬
‫بخبرِ الآحاد في توضيحِ‬ ‫فتجدهُ رَحِمَهُ اللهُ‬
‫المفاهيم وإعادةِ صياغتها‪.‬‬ ‫َّم‬
‫ُث ْعَلْم‬
‫ِّيَّةُ‬ ‫أنَّ الخلافَ في هذه المسألةِ (حُج ًا‬ ‫ا‬ ‫‪.8‬‬
‫خَبَرِ الآحَادِ فِي الْعَقَائِدِ) قديْم بين‬
‫العلماءِ؛ وليسَ موضوعَ الخلافِ حجيَّةُ خبرِ‬
‫بيانِ المعنى للنَّصِّ المتواترِ من‬ ‫الآحاد على ُّسَّن‬
‫الكِتَابِ وال ة؛ وإنَّما الخلافُ ًافي حجيًءَّة خبرِ‬
‫إثباتُّدِ العقيدة تأسِيْس ُيَعُّدوإنشا ؛ وفيما‬ ‫الآحاد على ُيَع‬
‫من مباحثِ‬ ‫عقيدةً أو لا‬ ‫هو عقيدةٌ؛ و‬
‫العقيدةِ الإسلامية وتوجيه البحثِ والنظر في القولِ‬
‫بجواز الاحتجاجِ على مسائل أدخلَها بعضُ الناسِ في‬
‫مباحث العقيدةِ والإيْمانِ؛ أم يحرمُ؟ لأنَّ‬
‫الحديثَ الظنيَّ يفيدُ توضيحَ المعنى وبيانَ الحكمِ‬
‫العقيديِّ‪ ،‬كما أنه يفيدُ توضيحَ المعنى وبيان‬
‫الحكمِ الشرعيِّ‪ ،‬ولِهذا استدلَّ علماءُ الشريعةِ‬
‫والمفسِّرين‬ ‫الفقهاءًِا‬ ‫من‬ ‫الإسلامية‬
‫والْمُحَدِّثِيْنَ واحتجُّوا جميع بخبرِ الآحاد في‬
‫العقيدة على سبيلِ البيان والتفسير‪ .‬لا على سبيلِ‬
‫التَّأسِيس والإنشاء‪ ،‬فَانْتَبِهْ يَرْحَمُكَ اللهُ‪.‬‬
‫‪ .9‬وعلى ما يبدُو ي أنَّ الخلافَ مرفوعٌ إن شاءَ‬
‫اللهُ‪ ،‬إذا اتضَحَِل تصويبُ المعانِي في ُعالأذهانِ على‬
‫المتقد َّيٌِّةمِ؛ ولا سيما إذا لِمَ أنه لا‬ ‫َمْب‬ ‫هذا الوجه‬
‫على خب الآحاد يتقرَّرُ بِها‬ ‫توجدُ عقيدةٌ‬
‫ُمْنَشَأٌةُ‬
‫كفره‪َ ،‬سٌةأو أنَّ إسلامَهُ غير‬‫ِر‬ ‫َّس‬ ‫ِن‬
‫المرء أو‬ ‫َّن‬ ‫إسلامُ‬
‫ُمَؤ‬
‫على خب آحا أو‬ ‫سالِمٍ‪ ،‬لأ عقيدتَهُ‬
‫ولِ‬ ‫ٍد‬ ‫ِر‬
‫به‪ .‬أما اعتقاداتُ المسلمينَ في غيرِ أصُ ًا‬
‫المعتقدِ والدِّينِ‪ ،‬فإنهُ يدخلُها الظنُّ حتم ‪،‬‬
‫والظنُّ في هذا المقامِ من لوازم الاتِّباعِ بقصد‬
‫‪265‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫التعبُّدِ‪ ،‬أي من ضروراتِ رَبْطِ الفكرِ بالناحية‬


‫الروحية‪ ،‬ولا يصحُّ من المكلَّفِ أن يُلْزِمَ غيرَهُ‬
‫ِّهِ أو رجَّحَهُ من‬ ‫ما اعتقدَهُ أو غلبَ على ظن ًا‬
‫الأدلةِ وهو ظنيٌّ‪ ،‬أي ليس قطعيّ ‪ ،‬وليسَ موضوعهُ مما‬
‫يجبُ علىالمكلَّفِ اعتقادَهُ؛ وبخاصَّة في الفروعِ‪،‬‬
‫أو المسائل التي لا يُبْنَىعليها عَمَلٌ‪ ،‬أو المسائل‬
‫البعيدةِ عن مدارك الجمهُورِ وعامَّة الناسِ‪ ،‬أو‬
‫مما هو ليس بعقيدةٍ‪.‬‬ ‫المباحث الكلاميَّة وغيرِها‪َّ ،‬م‬
‫ُمَح‬
‫دٍ ‪ ‬المختلِفِينَ‬ ‫ولقد وصفَ سيِّدُنا الرسولِ‬
‫َاُكَمَهْمُمْحِ ٌن الْقُرْآنِ بأنَّهم مُحسِنُونَ فقال‪:‬‬ ‫في ف‬
‫]‪.‬‬ ‫[ ل َّم ا‬
‫ُق‬ ‫ًا‬ ‫ِك ُث ْعَلْم ِس‬
‫ا ‪ :‬أنَّ كثير من المباحثِ التي مَتْ في‬ ‫‪.10‬‬
‫ِّد‬
‫هذا المجالِ على أنَّها مسائلُ عقيديةٌ ومباحثُ‬
‫أصُوليةٌ‪ ،‬واختلَفَ الناسُ فيها؛ أنَّها في‬
‫حقيقتِها من جدلِ المتكلِّمين من جميعِ التيَّارات‬
‫الفكريَّةِ الإسلامية‪ ،‬ومن سوءِ توجيه الباحثين عند‬
‫تبويبِ مسائل البحثِ والنظر حسبَ أبوابِها في‬
‫العلمِ من المعتقد َّث والدين من أبوابِ العلُومِ‬
‫الشرعية‪ ،‬وربَّما أ رَتْ معظمُها في اتجاهاتِ‬
‫الرَّأي العامِّ والأعرافِ البيئيَّة في زمانِهم‪،‬‬
‫وليس في غالبِها من ضروراتِ الدِّينِ أو لوازمِ‬
‫الإيْمانِ‪ .‬بل أنَّها لم تُعْرَفْ في مباحثِ‬
‫الصَّحابة وسلَفِهم من التابعين‪ ،‬بل أنَّ منهجيَّةَ‬
‫التفكيرِ عند الصَّحابةِ والسلف من القُرَّاءِ‬
‫التابعينَ (الْفُقَهَاءِ الْعَا مِيْنَ) لا تنظرُ في‬
‫المباحثِ الفكريَّة كما نَظَرِلَ أهلُ الكلامِ من‬
‫وللباحثِ‬ ‫والْمُتَفَلْسِفَةِ؛‬ ‫الْمَنَاطِقَةِ‬
‫المتعمِّقِ مزيدُ تأمُّلٍ وكثرةُ إيضاحٍ‪ ،‬وربَّما‬
‫يكفي ما أوجزناهُ في حَسْمِ البيانِ واللهُ أعلمُ‪.‬‬
‫‪ .11‬وعلى هذا يبدُو لِي ُتأنَّ عبارةَ الْمُصَوَمَنِّفَلْمِ‬
‫رَحِمَهُ اللهُ؛ َّطربَّما قرأ كما يأتِي‪ :‬ا ُّص‬
‫َوَن‬ ‫ْلَعْقُل َمْطُل َخَب‬ ‫ْيَقَتْي‬ ‫َيْثُبْت َعْن َه َتْي‬
‫‪،‬‬ ‫و‬ ‫‪ :‬ا‬ ‫ال‬ ‫ا‬
‫ِل ٍب ِرٍّي‬ ‫ِر ِن‬ ‫ِن‬
‫اْلَمَباَّلِح ُث‬ ‫َّي‬ ‫ُّسَّن‬ ‫‪266‬‬
‫َيْحُرُم َعَلْي َأْي َعَل ْلُمَك‬ ‫ْلَقْط‬ ‫ْل َت َو‬
‫َأَّن ( ْلُمَقَّرَر ى ا ُأُص )‬ ‫اَأْنِك اَيْجِب َم َّن َم ِة َغَلَب ِعَعَلِة َظ‬
‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ال‬
‫ي َّت وِف‬ ‫؛ ل ا‬‫َّظ‬
‫ِه‬ ‫ى‬ ‫ا‬
‫ُتْؤَخُذ ال َعَلىَسَّظ ْيَّي ِفال ْح ْيِل‬ ‫ال ْسلَاِز َأ ِب اْلَعَقاَّل َد لَا ِّنِه‬
‫اللُهِم‬‫الَأْحَكِّنا ال ِب ِل ‪َ .‬و ِر‬ ‫ِب‬ ‫ْلُمَك ِئ ْلَجْزُم‬
‫ا‬
‫َفَيْحُرُم َعَل‬
‫َأْعَلُم ِم ى ا‬ ‫ِإ‬
‫ِّن ِة‬ ‫ِم‬ ‫ِب‬ ‫ِف‬ ‫‪.‬‬

‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ :)12‬م ْفُهوُم ُم ْص َطَلِح (َأْهِل الُّس َّنِة)‪:‬‬


‫َأْهٌل‬
‫وأََّاهُْتُهلُ‬
‫هـ ل)‪ُ ،‬و‬ ‫ُقْرَبِ ُه (أ ُل‬
‫في اللغةُه من الأصل‬
‫َزْوَجُتُه؛‬‫ْلَمْذَهَوُو َمْن َيا ؛ُن وأه الأمُج ‪ :‬ل‬
‫عشيرتُ وذ‬ ‫الرَّجُلِ‪َّ :‬ك‬
‫ُنُه‬ ‫ُس‬
‫ْهُرُه‪ٌّ :‬ي ‪.‬‬ ‫‪ .‬وللر ِر‬ ‫ي‬ ‫‪:‬‬ ‫وللبيتِ‪ :‬ا ‪ .‬و‬
‫وبناتهُ و ِل عل ‪‬‬ ‫آلُ بيتهِِد ِبِه‬ ‫أزواجهُ ِب‬‫ِل‬ ‫وللنبيِّ ‪:‬‬
‫ِص‬
‫للحديثِ فيه ‪ ،‬وليس لَهم ميِّزةٌ إلاَّ ما خصَّهم به‬ ‫(‪)1‬‬

‫(?) عن شَهْرِ بن حَوْشَبٍ قالَ‪ :‬سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ‬ ‫‪1‬‬

‫زَوْجِ النَّبِيِّ ‪ ‬حِيْنَ جَاءَ نَعْيُ الْحُسَيْنِ بْنِ‬


‫عَلِيٍّ؛ لَعَنَتْ أَهْلَ الْعِرَاقِ؛ فَقَالَتْ‪ :‬قَتَلُوهُ‬
‫قَتَلَهُمُ اللهُ؛ غَرُّوهُ وَذَلُّوهُ لَعَنَهُمُ اللهُ‪.‬‬
‫فَإنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ‪ ‬جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ‬
‫غَدِيَّةً بِبُرْمَةٍ قَدْ صَنَعَتْ لَهُ فِيْهَا‬
‫عَصِيْدَةً تَحْمِلُهُ لَهُ بِطَبَقٍ لَهَا حَتَّى‬
‫وَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ‪ ،‬فَقَالَ لَهَا‪ [ :‬أَيْنَ‬
‫ابْنُ عَمِّكِ ؟ ] قَالَتْ‪ :‬هُوَ فِي الْبَيْتِ! قال‪:‬‬
‫[ فَاذْهَبِي؛ فَادْعِيْهِ‪ ،‬وَائْتِنِي بِابْنَيْهِ ]‬
‫ُّ وَاحِدٍ‬ ‫ٌّي‬
‫قَالَتْ‪ :‬فَجَاءَتْ تَقُودُ ابْنَيْهَا‪ ،‬كْثُل َم‬
‫مِنْهُمَا بِيَدٍ‪ ،‬وَعَلِ يَمْشِي فِي إ ا‪ ،‬حَتَّى‬
‫دَخَلُواْ عَلَى رَسُولٌِّي اللهِ ‪ ‬فَأَجْلَسِرِهَهُمَا فِي‬
‫حِجْرِهِ‪ ،‬وَجَلَسَ عَلِ عَنْ يَمِيْنِهِ‪ ،‬وَجَلَسَتْ‬
‫فَاطِمَةُ عَنْ يَسَارِهِ؛ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ‪:‬‬
‫فَاجْتَذَبَ مِنْ تَحْتِي ‪ -‬وفي ًءرواية الطبرانًاِيِّ‬
‫التفسيرُ‪ :‬فَمَدَّ يَدَهُ ‪ -‬كِسَا خَيْبَرِيّ كَانَ‬ ‫ًا‬
‫بِسَاط لَنَا عَلَى الْمَنَامَةِ فِي الْمًاَدِيْنَةِ؛‬
‫فَلَفَّهُ النَّبِيُّ ‪ ‬عَلَيْهِمْ جَمِيْع ‪ ،‬فَأَخَذَ‬
‫بِشِمَالِهِ طَرَفَي الْكَِعسَّزَاءَوَجَِّل‪ ،‬وَأَلْوَى بِيَدِهِ‬
‫قَالَ‪ [ :‬اللَّهُمَّ أَهْلَ‬ ‫الْيُمْنَى إلَى رَبِّهِ‬
‫بَيْتِي أًاَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ‬
‫تَطْهِيْر ‪ ،‬اللَّهُمَّ أَهْلَ بَيًاْتِي أَذْهِبْ عَنْهُمُ‬
‫الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيْر ‪ ،‬اللَّهُمَّ أَهْلَ‬
‫‪267‬‬
‫َّم‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫ُأ ُتُه‬
‫؛‬ ‫النبيُّ في فضلِهم بالقُربَى‪ .‬بل لكلِّ نبيٍّ‪:‬‬
‫لأنَّهم على ُّصدينهِ وسالكِين مسالِكَ ا با ‪ .‬وآلُ‬
‫لفظ ِعِهآلِ إلا‬ ‫الرَّجُلِ أخَ من أهلِ‪ ،‬ولا يستعملُ ِّت‬
‫ًا‬ ‫َشَر‬
‫فيما فيه فٌ غالب ‪ ،‬فلا يقالُ آلُ الاسكافِيِّ‪ ،‬كما‬
‫أنه خُصَّ بالإضافةِ إلى أعلامِ النَّاطقين دونَ‬
‫النكراتِ والأمكنة والأزمنةِ؛ فيقالُ آلُ فلانٍ‪ ،‬ولا‬
‫يقالُ آل الرجُلِ‪ ،‬ولا آلُ زمان كذا‪ ،‬ويقال أهلُ بلدِ‬
‫ما‬ ‫َّس‬ ‫َّص‬
‫بأهلهَوِ لَِاُم‬ ‫َعَلْيِّ ‪َ ‬اُة‬ ‫كذا وموضع كذا‪ .‬وخُصَّ آلُ النبي‬
‫ال ل‬ ‫ال ل‬ ‫لَهم من ُهْمشرفِ النَّسَبِ به‬
‫ِه‬
‫ُأوآلَهِ؛ ف أهلهُ وآلهُ‪ .‬فأهلُ النبيِّ عامٌّ يشمَلُ‬
‫متَهُ وأهلُ بيتهِ‪ ،‬وآلهُ خاصٌّ بأهلِ بيته ومَن‬
‫جعلَهم تحتَ كسائهِ في الحديث الصحيحِ‪.‬‬
‫ُل‬
‫وأه النبيِّ عامَّةُ أهلِ الله وخاصَّته‪ ،‬وهم‬
‫أهلُ الفقهِ والدين كما جاءَ في الأحاديثِ‪ ،‬وهم‬
‫في‬ ‫َّر‬
‫ابنُِع عبَّاس ُس َل‬ ‫أوْلِي الأمرِ‪ ،‬وليس أهلَأُ ُعالأمرِ‪َ ،‬هعن َوَأ‬
‫تعالى‪َ :‬يْع ي واَأْهَلاللْل ْق َوي واْي ال و‬
‫َوَأْهَل‬ ‫قوله َّل ْنُكْم‬
‫تفسيرِ َأْم‬ ‫َوُأْو‬
‫‪،‬‬ ‫ال‬ ‫ِط‬ ‫ا‬ ‫َّن‬ ‫ي‬ ‫ِط‬ ‫(‬ ‫(‪)1‬‬
‫‪‬‬ ‫ال‬ ‫ي‬
‫ِر ِمْيَن ُيَع ُم َن ِن َس َمَع ِف َيِه ْي ِّدْم ِنَوَيْأُمُر َن‬ ‫َطاَعِل‬
‫و‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫و‬
‫َوَيْنَهْوَن َع ِّلْلُمْنَك َفَأْوَجَب ِل ُه َط َعَتُهْم‬ ‫ا‬ ‫الل‬
‫الل ِد اِنِه )(‪ )2‬وعن‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ْلَمْعُرو ِه ِذ‬ ‫ا ِة‬
‫ِر‬ ‫ِن‬ ‫ِف‬ ‫ِب‬

‫بَيْتِي أًاَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُتُمْ‬


‫تَطْهِيْر ] قَالَتْ‪ :‬يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَسْ مِنْ‬
‫أَهْلِكَ؟ قَالَ‪ُ [:‬ت بَلَى فَادْخُلِي فِي الْكِسَاءِ ]‬
‫قَالَتْ‪ :‬فَدَخَلْ فِي الْكِسَاءِ بَعْدَ مَا قَضَى‬
‫دُعَاءَهُ لابْنِ عَمِّهِ عَلِيٍّ وَابْنَيْهِ وَابْنَتِهِ‬
‫فَاطِمَةُ ‪ .‬انتهى‪ .‬رواه الإمام أحمد في المسند‪ :‬ج ‪ 6‬ص‬
‫‪ ،298‬والترمذي في الجامع‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬الحديث (‪)3871‬‬
‫وقال‪ :‬هذا حديث حسن‪ ،‬وهو أحسن شيء روي في هذا الباب‪ .‬ورواه‬
‫الطبري في التفسير‪ :‬ج‪ 22‬ص‪ 6‬وما بعدها؛ النص (‪.)21733‬‬
‫(?) النساء ‪.59 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين‪ :‬كتاب العلم‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫الحديث (‪ )423/134‬وهو شاهدٌ للحديث بعده؛ وقال‪ :‬وهذه‬


‫أحاديثُ ناطقةٌ بِما يلزمُ العلماءَ من التواضعِ لِمن‬
‫يعلمونَهم؛ ووافقهُ الذهبي في التلخيص‪.‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪268‬‬

‫قال‪ :‬قَمَصَالَعَ‬ ‫ٍ‬‫أنس‬ ‫وعن‬ ‫جابرٍ قال‪ُ( :‬أْو ي اْل ْق َواْلَخْي )(‪َّ )1‬ن‬
‫َي َص ُّدَبُه‬ ‫َاْلَمْعُروُف َلِر‬
‫رَُّسسُولُ اللهِ ِل‪ِ [:‬ف ِه‬
‫ا‬
‫َأْهُل‬ ‫ْنَي‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫ى‬
‫ال ا ِر‬ ‫ال و ؛ َوالآَفا اْلُمْه َكا ‪ِ .‬إ ا ِسو ِق ي ِح‬
‫ْلَمْعُر‬ ‫َوَأْهُل‬
‫َرُس َلالله ‪:‬‬ ‫الآ َر ]ِل(َّن‪ِ )2‬ت وعنه أيضًا‪ِ :‬ف‬
‫قال َيِفرسول‬ ‫ْلَمْعُرو ي ِت‬ ‫ا َّن ِء‬
‫ُهْم‬ ‫َم‬ ‫ْا‬ ‫ُل‬ ‫َق‬ ‫َن‬ ‫ْيَن‬ ‫َأْه‬
‫َأْهُل و ‪ :‬ن َوَخ َّصُتُها و الل ؟‬ ‫ْلُقْرال اُهْم] ا‬‫ِخ ِة‬ ‫[ للِف ِف‬
‫ِه‬ ‫](‪.)3‬‬ ‫ا‬ ‫الل‬ ‫َقِإاَل‪ِ [ :‬هُهْم ِل اِم آ ِس‬
‫َأْهُل‬
‫ِه‬ ‫ِن‬
‫في‬
‫النسبِ ُه‬ ‫وكانت َّنالشريعةُ حَكَمَتْ َّن برفعِ حُكم َق َل‬
‫والكافر‪َ،‬ص ا الل‬ ‫المسلمِ َعَمٌل َغْيُر‬
‫الأحكام ْن بينَأْه َك ُه‬ ‫كثيرٍ من ُه َلْيَس‬ ‫َتَع َل‬
‫ا ‪ ‬هذا‬ ‫(‪)4‬‬
‫اًاى‪ :‬‬
‫الشرعيَِّإة في الميراثِ ِلٍحوالقَصاص‬ ‫ِل‬ ‫فضل عن ِإالأحكامِ ِم‬
‫َفْه في الأهلِ‬ ‫والمعاملاتِ والمعاهدات‪ .‬فصار الرابطُ‬
‫رابطةَ المعتقد والدينِ‪ ،‬أو الرأيِ وال م المعيَّنين‪.‬‬
‫فالأهليَّةُ؛ مقدارُ الصلاحية لوجوبِ الحقوق المشروعةِ‬
‫له أو عليه؛ وهذا في اصطلاحِ الأصوُليِّين من‬
‫الفقهاءِ‪ ،‬فيعرفُ الأهل بِما أضافوا أنفسَهم إليه‪،‬‬
‫فأهلُ الحقِّ الذين أضافوا أنفسَهم إلى ما هوُه الحقُّ‬
‫عندَّن ربِّهم بالْحُجَجِ والبراهينِ‪ ،‬وقيلَ‪ :‬م أهلُ‬ ‫ُس‬
‫ال ة والجماعةِ‪ ،‬واشتهرَ القولُ‪ .‬فصارَ يقابلُ أهلَ‬
‫السُّنة والجماعةِ‪ ،‬أهلُ الأهواءِ‪ .‬وصار يطلقُ (أَهْلُ‬
‫الأَهْوَاءُّسَّنِ) على أهلِ القِبلة الذين يخالفونَ آراءَ‬
‫أهلِ ال ة والجماعة؛ في الرأيِ مثل الجبريَّة‪،‬‬
‫والقدريَّة‪ ،‬والروافضِ‪ ،‬والخوارج‪ ،‬أو يخالفونَهم‬
‫(?) رواه الحاكم في المستدرك‪ :‬كتاب العلم‪ :‬الحديث (‬ ‫‪1‬‬

‫‪ )422/133‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح له شاهد‪ ،‬وتفسير الصحابِي‬


‫عندهما مسند‪ .‬ووثقه الذهبي في التلخيص فقال‪ :‬حديث صحيح وله‬
‫شاهد‪.‬‬
‫(?) رواه الحاكم في المستدرك‪ :‬الحديث (‪ )429/140‬وفيه نظر‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) رواه الإمام أحمد في المسند‪ :‬ج ‪ 2‬ص‪127‬و‪128‬و‪ .242‬وسنن‬ ‫‪3‬‬

‫ابن ماجه‪ :‬المقدمة‪ :‬الحديث (‪ )215‬وقال في الزوائد‪ :‬إسناده‬


‫صحيح‪ .‬والحاكم في المستدرك‪ :‬كتاب فضائل القرآن‪ :‬الحديث (‬
‫‪ :)2046/27‬ج ‪ 1‬ص‪ .742‬وقال‪ :‬وقد روي هذا الحديث من ثلاثة‬
‫أوجه عن أنس هذا أمثلها‪ .‬ووافقه الذهبي وقال‪ :‬هذا أجودها‪.‬‬
‫(?) هود ‪.46 /‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪269‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫ًا‬
‫عقيديّ مثل المشبِّهة والمعطِّلة؛ أو يخالفونَهم في‬
‫الرَّأي السياسيِّ في الولاء للحُكَّامِ أو معارضتِهم‪.‬‬
‫وعلى ما يبدو أنَّ اصطلاحَ أهلِ السُّنة وإطلاقهِ‪،‬‬
‫برزَ بعد منتصفِ القرن الثانِي الهجريِّ‪ ،‬أو في‬
‫بداياتِ القرن الثَّالثِ‪ ،‬وبخاصَّة بعد محنةِ خَلْقِ‬
‫القُرْآنِ‪ ،‬فهو مصطلحٌ مولَّدٌ مُحْدَثٌ‪ ،‬وليس كمصطلحِ‬
‫أهل الأهواءِ الذي ظهرَ في عصرِ الإمام أبِي‬
‫حَنِيْفَةَ وَمَالِكٍ؛ فلقد أفتَى مالكٌ بأنه لا‬
‫تجوزُ شهادة أهلِ البِدَعِ والأهواءِ‪ ،‬ثم اصطلحَ‬
‫العلماءُ على أهلِ البِدَعِ والأهواءِ بأنَّهم أهلُ‬
‫الكلامِ مهما كانت مذاهبُهم الفكريَّة والعقيديةُ‬
‫والسياسيَّة‪.‬‬
‫وعلى ما يبدُو أنَّ عامَّةَ الناسِ يطلقونَ‬
‫السُّنة على ما يقابلهُ الشِّيعةُ‪،‬‬ ‫اصطلاحَ أهلِ ُّسَّن‬
‫المعنى‬
‫فيقالُ‪ :‬أهلُ ال ة والشِّيعة‪ ،‬فيدخلُ في هذا ًا‬
‫كلُّ مسلمٍ سِوَى الشيعةِ‪ ،‬وهذا المعنى ليسَ مراد في‬
‫الاصطلاحِ؛ لأنَّ مِن الشِّيعةِ من اعتمَدَهُ علماءُ‬
‫هم وإجازاتِ أسانيدهم لحديثِ‬ ‫الحديثِ في مصنَّفاتِ َّم‬
‫ُمَح‬
‫دٍ ‪ .‬فهذا معنى عامٌّ لا‬ ‫سيِّدنا الرَّسُولِ‬
‫يتحدَّدُ به مفهومٌ ُّصمتميِّزٌ‪.‬‬
‫يقابلُ المبتدعةَ وأهلَ‬
‫أما المعنى الأخ ؛ وهو ما ًا‬
‫َّن‬
‫الأهواءِ؛ وهو الأكثرُ استعمال وعليه ُسمدارُ كُتُبِ‬
‫الجرح والتَّعديلِ؛ فإذاُّسَّن قالوا‪ :‬صاحبُ ة‪ ،‬أو كان‬ ‫ُس ّيًا‬
‫‪ ،‬أو من أهلِ ال ة؛ فمقصودُهم ليس من أهلِ‬
‫ُّسَّن‬ ‫البدعة أو الأهواء‪َّ .‬د‬ ‫ِّن‬
‫ُم‬ ‫ْد‬ ‫ُقْلُت‬
‫‪ :‬ولهذا لم يتح مفهوًا أهلِ ال ة في القرن‬
‫الأول والثانِي بوصفهم مذهب لتيارٍ فكريٍّ عقيدي‬
‫سياسيٍّ‪ ،‬أي في بدءِ حركة الفُرَقَاءِ المسلمين على‬
‫مستوى الجدلِ الفكريِّ للآراء والمعتقداتِ التي شاعت‬
‫في العصرِ الأمويِّ وتبلورت فكرتُها في العصرِ‬
‫العباسيِّ‪ .‬وكان الفقهاءُ من أصحابِ المذاهب الفقهية‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫ُّد‬ ‫‪270‬‬

‫المعروفةِ والْمُحَدِّثُونَ ير ون على أصحابِ الآراء‬


‫والأهواءِ حسبما عندَهم من الرأيِ الفقهي أو النصِّ‬
‫والحديثِ؛ وكان‬
‫ًا‬ ‫الشرعي‪ .‬فكانت مناهجُهم تختصُّ بالفقه‬
‫الفقهاءُ تغلب عليهم صفةُ الحديثِ أيض ؛ كأبِي‬
‫حَنِيْفَةَ والإمامُ مَالِكٌ والشَّافِعِيُّ وأحْمَدُ‬
‫بنُ حَنْبَلَ‪ ،‬على الرغمِ من أنَّ الأخيرَ تَميَّزَ‬
‫بِمُسْنَدِهِ‪ .‬والإمامُ مالكٌ بالْمُوَطَّأ‪ ،‬والشافعيُّ‬
‫ظهرت عليه صفةُ الشَّرحِ وبيان كيفيَّة الاستدلال في‬
‫الأُمِّ والرسالةًِا؛ وكذلك جاءَ عن الإمام أبِي حنيفةُّدَ‬
‫لكنه قياس على موطَّأ مالكٍ ومسند أحمدَ‪ ،‬يع‬ ‫مسندٌ‪ً ،‬ا‬
‫ًا‬
‫جزء يسير بالنسبة لَهما أو لِما جاء َ في كتابِ‬
‫ُّسَّن‬ ‫للشافعيِّ‪.‬‬
‫ُّي‬ ‫الأُمِّ‬
‫وأول تَم زٍ لمذهب أهلِ ال ة والجماعة في المجالِ‬
‫الفكريِّ العقيدي بطريقة أهلِ الكلام كان حالَ ظهورِ‬
‫العلماء الثَّلاثةِ في القرن الرابع الهجريِّ‪ :‬أبو‬
‫الحسنِ عليُّ ًابن اسماعيل الأشعريُّ (‪330-260‬هـ) وهو‬
‫من الفقيهَين الآخرين‪ :‬أحمدَ‬ ‫الأكثرُ حظّ‬
‫مَنْصُور‬ ‫وأبو‬ ‫‪341‬هـ)‬ ‫(ت‬ ‫الطحَّاوِيِّ‬
‫الْمَاتْرِيْدِيِّ‬
‫(ت ‪333‬هـ) في سَمرقند‪ .‬والجديدُ الذي أحدثَهُ هؤلاء‬
‫العلماء الثلاثة هو استخدامُهم لمنهجِ المتكلِّمين في‬
‫الردِّ على المعتزلةِ؛ ولقوَّةِ الحدثِ الذي صَنَعَهُ‬
‫الحسن الأشعريِّ حين ظهورهِ في وَضَحِ النَّهارِ‬‫أبو ًا‬
‫متحدِّي المعتزلةَ سنة (‪295‬هـ) جذبَ الأفكارَ‬
‫وشَحَذَ الأذهان لدخولٍ قويٍّ ًاإلى فكرِ الناس ورأيهم‬
‫ومجادلاتِهم‪ ،‬بحيث غَطَّى كثير على مناهجِ الفقهاء‬
‫والمحدِّثين وشدَّ الرأيَ العام إليه‪ .‬لِهذا ما كان‬
‫من حالِ المحدِّثين وأهلِ منهجهم إلا أن ارتبطُوا‬
‫بعلمِ الكلام ومنهجِ المتكلمين على الرغم من‬
‫مخالفتِهم لهُ‪ .‬لا سيما أنَّ الإمامَ عبدالقاهر‬
‫عدَّها‬ ‫ُّسَّن‬
‫البغداديًاِّ (ت ‪429‬هـ) جمعَ المسائل في أصُولٍ َف‬
‫مُتَّفَق عليها بين أهلِ ال ة في كتابهِ (ال رْقُ‬
‫‪271‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫بَيْنَ ال رَقِ) الفصلُ الثالث من البابِ الخامس‪.‬‬


‫وعيُّسَّنَّن أن ِف هذه الأصُولَ التي اتَّفقَ عليها أهلُ‬
‫ال ة والجماعة يجبُ القول بِها وأنَّ مَن خالفَُّسَّنها‬
‫ضالٌّ أو كافرٌ‪ .‬فتميَّزَ مذهبُ فريقِ أهلِ ال ة‬
‫ُّسَّن‬ ‫والجماعة حينَها بِمذهب كلاميٍّ ُّسَّن‬
‫معيَّن‪.‬‬
‫ويلاحظُ أنَّ منهجَ أهلِ ال ة أو أصُولِ ال ة‬
‫كما‬ ‫هي‬ ‫عندَهم‬
‫أخرج اللاَّلْكَائِيُّ عن أحمدَ بن حنبلٍ يقول‪ :‬أصولُ‬ ‫ُّسَّن‬
‫ال ة عندَنا‪ :‬التمسُّكُ بِما كان عليه أصحابُ رسولِ‬
‫الله ‪ ‬والاقتداءُ بِها‪ ،‬وتركُ البِدَعِ وكلُّ بدعةٍ‬
‫ضلالةٌ‪ ،‬وتركُ الخصومات‪ ،‬والجلوسِ مع أصحابِ الأهواء‪،‬‬
‫ُّسَّنِ والجدالِ؛ والخصومات في الدِّينِ ‪...‬‬ ‫وتركُ الْمِرَاء‬
‫وقال‪ :‬ومن ال ة اللاَّزمةِ التي مَن تَرَكَ منها‬
‫خِصْلَةً لم يقُلْها ولم يؤمِنْ بِها لم يكن من‬
‫والتصديقُ‬ ‫َم‬ ‫أهلِها‪ :‬الإيْمانُ بالقدرِ خيره وشرِّهِ‪،‬‬
‫بالأحاديثِ فيه‪ ،‬والإيْمانُ بِها؛ لا يقال ؟ ولا‬
‫كيفَ ؟ إنَّما هو التصديقُ بِها والإيْمانِلُ بِها‪.‬‬
‫بِها‪:‬‬ ‫التسليمَ‬ ‫بالتصديقِ‬ ‫يريدُ‬ ‫قُلْتُ ‪:‬‬
‫وهو قبولُها من غيرِ منازعة‪ .‬ثم قالَ‪ :‬ومَن لم يعرِفْ‬
‫تفسيرَ الحديثِ ويَبْلُغْهُ عقلهُ؛ فقد كفَى ذلكَ‬
‫وأحكمَ لهُ‪ ،‬فعليهِ الإيْمانُ به والتسليمُ له مثلَ‬
‫حديث الصَّادِقِ وَالْمَصْدُوقِ وما كان مثلهُ في‬
‫القدَرِ‪ ،‬ومثلُ أحاديثِ الرُّؤية كلِّها‪ ،‬وإن نَبَتْ‬
‫عليه‬
‫ًا‬ ‫عن الأسماعِ واستوحشَ فيها المستمعُ فإنًَّاما‬
‫الإيْمانُ بِها وأن لا يَرُدَّ منها جزء واحد ًا‪،‬‬
‫وغيرِها من المأثوراتِ عن الثِّقات‪ ،‬لا يخاصمُ أحد‬
‫ولا يناظرهُ ولا يتعلَّمُ الجدلَ فإنَّ الكلامَ في‬
‫القدَرِ والرُّؤية والقُرْآنِ وغيرِها من السُُّّسَّننن‬
‫ولا يكونُ صاحبه من أهلِ ال ة‬ ‫مكروهٌ منهيٌّ عنه‪ُ ،‬يَس‬
‫حتىُّسَّن يدعَ الجدلَ و مَ‪ ،‬حتى إنْ أصابَ بكلامهِ‬
‫ِّل‬ ‫ال ةَ(‪.)1‬‬
‫ُّسَّن‬
‫(?) شرح اعتقاد أهل ال ة والجماعة‪ :‬ج ‪ 1‬ص‪.157-156‬‬ ‫‪1‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪272‬‬

‫وجاءَ بعد هؤلاءَِّو ابنُ تَيْمِيَّةَ وابْنُ قَيِّمِ‬


‫الْجَوْزِيَّةُ وط را الجدلَ الفكريَّ‪ ،‬وربَّما‬
‫ُّسَّنةُ الإسلامِ‪.‬‬
‫خالَفَهم من قبلُ الغَزَالِيُّ حجَّ‬
‫لتظهرَ الخلافاتُ بين مدارسِ أهل ال ة والجماعةِ؛‬
‫الكلاميةِ‬ ‫ومناهجِها‬ ‫الفكريَّة‬ ‫بتيَّاراتِها‬
‫والفلسفيَّة‪ :‬الأَشْعَرِيَّةُ؛ وَالْمَاتْرِيْدِيَّةُ؛‬
‫وَالطَّحَّاوِيَّةُ؛ وَالنَّسَفِيَّةُ؛ وهكذا‪ ،‬ولكن‬
‫يبقَى الأصلُ المعتبرُ هو منهجُ الصَّحابةِ وسلَفِهم‬
‫من الفقهاءِ والمحدِّثين؛ وليس منهجُ المضطرِبين‬
‫المتأثِّرين بعلمِ الكلام؛ ولكنَّ الرأيَ في موضوعِ‬
‫مسألة القضاءِ والقدَرِ كلّه يدورُ حولَ مقالةِ أبِي‬
‫الحسنِ الأشعريِّ وتطويرِ الأشاعرةِ لَها أو الحنابلةِ‬
‫المتأخِّرين‪.‬‬

‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ :)13‬فِر ْيُق اْلُم ْعَتِز َلِة‪:‬‬


‫َاْلُمْعَت َلُة‬
‫‪ :‬فريقٌ من الفُرَقَاءِ المسلمين لهُ طريقةٌ‬
‫في جدلِزِ الآراء والأفكارِ حين تكوينِ المفهوم‬
‫العقيديِّ‪ .‬ظهرَ نشوءُ هذا الفريقِ بشكل لافتٍ‬
‫للنَّظرِ في العصر الأمويِّ‪ ،‬وربَّما بواكيرهُ تقدَّمت‬
‫بواكيرِ ًا العصر الأمويِّ‪ ،‬وشغلَ الفكرَ الإسلاميَّ‬
‫إلى ًا‬
‫رَدْح طويل من الزمنِ حتى أواسطِ العصر العباسيِّ‪.‬‬
‫واختلفَ العلماءُ في سبب تسميتِهم بالمعتزلةِ على‬
‫أقوالٍ منها‪ :‬إطلاقُ التَّسميةِ من لسان الْحَسَنِ‬
‫الْبَصْرِيِّ الإمامِ المعروفِ (‪110-20‬هـ) ‪ .‬والقصةُ‬
‫كما يرويها الشهرستانِيُّ(‪(:)1‬أنهُ دخلَ رجلٌ على‬
‫الحسنِ البصريِّ فقالَ‪ :‬يا إمامَ الدِّينِ؛ لقد‬
‫ظهرَتْ في زماننا جماعةٌ يك رون أصحابَ الكبائرِ‪.‬‬
‫والكبيرةُ عندَهم كفرٌ يخرجُ ِّف به عن الملَّةِ‪ ،‬وهم‬
‫وَعِيْدِيَّةُ الخوارجِ‪ .‬وجماعةٌ يُرْجِئُونَ أصحابَ‬
‫تضرُّ مع الإيْمانِ بل‬
‫الكبائرِ‪ .‬والكبيرةُ عندهم لا ًا‬
‫العملُ على مذهبِهم ليسَ رُكن من الإيْمانِ‪ .‬ولا‬
‫(?) في الملل والنحل‪ :‬ج ‪ 1‬ص‪.48‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪273‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫يضرُّ مع الإيْمانِ معصيةٌ كما لا ينفعُ مع الكفرِ‬


‫طاعةٌ‪ ،‬وهم ًا مُرْجِئَةُ الأُمةِ‪ .‬فكيفَ تحكمُ لنا في‬
‫َعَطرَ الحسنُ في ذلكَ‪ .‬وقَبْلَ أن‬ ‫ذلكَ اعتقاد َو؟ ُلفتَفْبُنَكَّ‬
‫ًا ا ‪ :‬أنَا لا أقولًاُ إنَّ صاحبَ‬ ‫يجيبَ‪ ،‬قال ا‬
‫ٍء‬
‫الكبيرةِ مؤمنٌ مطلق ‪ ،‬ولا كافرٌ مطلق ‪ ،‬بل هو في‬ ‫ِص‬
‫مَنْزِلَةٍ بين المنْزِلتين‪ :‬لا مؤمنٌ ولا كافرٌ‪ .‬ثم‬
‫قامَ واعتزلَ إلى اسطوانةٍ من اسطوانات المسجدِ‬
‫يُقَرِّرُ ما أجابَ به على جماعةٍ من أصحابِ َيالحسن‪.‬‬
‫هو‬ ‫فقال الحسنُ‪ :‬إعْتَزَلَ عَنَّا وَاصِلُ‪ .‬فسُ‬
‫ِّم‬
‫هذه الحادثةَ‬ ‫وأصحابهُ معتزلةً)‪ .‬وعلى ما يبدو أنَّ َسْب‬
‫ليست بادِئَ الأمرِ‪ ،‬لأنَّ لكلِّ فكرٍ قُ تفكيرٍ؛‬
‫َعْنُهَمَّها ظهرت نِهاية‬‫يبدو أن‬
‫على َيما ُه‬
‫وبواكيرُ هذا التفكيرِ َر‬
‫ا وخاصَّة عندما‬ ‫الل‬ ‫خلافةِ الحسنِ بن عليِّ‬
‫ِض‬
‫نَزًَالَ سيِّدُنا الْحَسَنُ ‪ ‬عن الخلافةِ لمعاويةَ ‪‬‬
‫صُلح ‪ .‬قال أبو الْحُسينُِه الطَّّمرَائِفِيُّ في كتابهِ‬
‫(أهلُ الأهواءِ والبدع)‪ ( :‬مْ سَ َوا أنفسَهم معتزلةَّلً‪،‬‬
‫وذلك عندَما بايعَ الحسنُ بنُ عليِّ معاويةَ وس م‬
‫الأمرَ إليه‪ ،‬اعْتَزَلُوا الحسنَ ومعاويةَ وجميعَ‬
‫الناس ولزمُوا منازِلَهم ومساجدَهم‪ ،‬وقالوا نشتغلُ‬
‫في سببِ التَّسمية‬ ‫بالعلمِ والعبادة)‪ .‬وهناك أقاويلُ ًا‬
‫لا نجدُ لَها صحةً أو هي ضعيفةٌ جد فلم نذكرها‪ .‬أما‬
‫من حيثُ أصولُهم المنهجيَّة‪ ،‬فمناهجُهم منهجُ‬
‫المتكلِّمين ويأتِي البحثُ فيه باستفاضةٍ إن شاءَ‬
‫اللهُ في كتابِ الشَّخصيةِ الإسلاميَّة‪.‬‬
‫اْلَم ْبَح ُث (َّي‪َ :)14‬فِر ْيُق اْلَج ْبِر َّيِة‪:‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫َاْلَجْب ُة‬
‫بوصفِها تيَّار فكري نشأَ في البيئةِ‬
‫الإسلامية لا يستطيعُ أحدٌ من الباحثينَ إعادتَهُ إلى‬ ‫ِر‬
‫مرجعيَّتهِ الفكرية إلى شخصٍ معيَّن‪ ،‬وعلى الرغمِ مما‬
‫قيلَ عن الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ أَوْ جَهْمِ بْنِ‬
‫صَفْوَانَ أو غيرِهما‪ ،‬ولكنهُ تيارٌ فكري يؤمنُ‬
‫َوَجةَّلِ الْغَيْبِيَّةِ َّيوإرجاعِ الفعل إلى‬
‫بالقَدََعرَّزِيَّ‬
‫وأنَّ الإنسانَ مس رٌ لا خيارَ له في‬ ‫اللهِ‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪274‬‬

‫الفعلِ‪ ،‬ويَمتدُّ هذا الرأيُ إلى الفلسفةِ اليونانية‬


‫والفارسية والديانةِ اليهودية على ما يقالُ‪ .‬قال أبُو‬
‫زُهْرَةَ رَحِمَهُ اللهُ في تاريخِ المذاهب الإسلامية‪:‬‬
‫(ولكنَّا نجزمُ بأنَّ القولَ في الجبرِ شَاعًَا في‬
‫أوَّلِ العصرِ الأُمويِّ وكَثُرَ حتى صارَ مذهب في‬
‫آخرهِ) إهـ‪ُ.‬و وبواكيرُ هذا التيار الفكريِّ في أذهانِ‬
‫في‬
‫وولادتهَيُ ُه‬
‫َر‬ ‫المسلمين جدت على عهدِ الصَّحابة‪،‬‬
‫الل‬ ‫الشامِ كما يظهرُ ذلك من خطابِ ابنِ عبَّاس‬ ‫َعْنُهَم‬
‫ِض‬
‫ا وهو يَنْهَاهُمْ عن هذا القولِ‪ ،‬فيقولُ‪( :‬أَمَّا‬
‫بَعْدُ‪ :‬أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالتَّقْوَى وَبِكُمْ‬
‫ضَلَّ الْمُتَّقُونَ‪ ،‬وَتَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ‬
‫الْمَعَاصِي وَبِكُمْ ظَهَرَ الْعَاصُونَ‪ ،‬يَا‬
‫وَأَعْوَانِ‬ ‫سَلَفِ الْمُنَافِقِيْنَ‬ ‫أَبْنَاءَ‬
‫الظَّالِمِيْنَ وَخُزَّانِ مَسَاجِدِ الْفَاسِقِيْنَ‪.‬‬
‫َوَتَعَىَل اللهِ يَجْعَلُ‬
‫ُسْبَحْتََنُه عَل‬
‫هَلْ مِنْكُمْ إلاَّ مُف‬
‫ا ى وَيَنْسِبُهُ‬ ‫ٍر‬ ‫ا‬ ‫إجْرَامَهُ عَلَيْهِ‬
‫َّم‬
‫عَلاَنِيَةً إلَيْهِ)‪ .‬ويقولُ الحسنُ البصريُّ في‬
‫الجوابِ عليهم‪( :‬وَمَنْ حَ لَ ُء ذَنْبَهُ عَلَى رَ هِ‬
‫فَقَدْ كَفَرَ)‪ .‬ولقد كان عطا بن يسارٍ وخالدُ ِّببن‬
‫معبد الْجُهَنِيِّ يأتيانِ الحسنِ فيسألانه ويقولان‪:‬‬
‫يا أبَا سعيدٍ‪ ،‬إنَّ هؤلاءِ الملوك ‪-‬خلفاءُ بني‬
‫أُميَّة وولاتُهم‪ -‬يسفكون دماءَ الناسِ ويأخذون‬
‫الأموالَ ويفعلون ثم يقولون إنَّما تجرِي أعمالُنا‬
‫على قَدَرِ اللهِ‪ .‬فيقولُ الحسن‪( :‬كَذَبَ أَعْدَاءُ‬
‫اللهِ !)‪ .‬لِهذا وعلى ما يبدُو أنَّ ًانشوءَ هذا‬
‫المذهبِ كان بدوافعَ سياسيَّةٍ وليس تأسيس على فكرٍ‬
‫معيَّن محدَّدٍ‪.‬‬
‫المبحث (‪َ:)15‬كْيَف َيَتَع اَم ُل اْلُم ْس ِلُم َم َع الُّش ُعوِر اْلَق ْو ِمِّي ِلِال ِّتَج اَه اِت‬
‫الِّس َياِس َّيِة‪:‬‬
‫ُه‬ ‫َر َمُه‬
‫الل الجانبَ العقليَّ في‬ ‫ذكرَ الْمُصَنِّفُ‬
‫َّد‬ ‫ِح‬
‫فسادًاِ الرَّابطة القوميةِ‪ ،‬وهو مَنَاطٌ متحقِّقٌ فيها‪.‬‬
‫وفضل عن هذا فإنَّ الإسلامَ عَ الدعوةَ إلى‬
‫‪275‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫الرابطةِ القومية من صفاتِ الجاهليَّة؛ فَمَنَعَهَا‪،‬‬


‫بل عدَّها من أصُولِ الجاهلية المنقوضةِ بأُصُولِ‬
‫الإسلامِ؛ وذاكَ من وجهينِ‪:‬‬ ‫َّو‬
‫َوَجبَّلِ‬
‫النَّسَ‬ ‫الَأ ‪ :‬من جهةِ تأسِيس أصُولٍ لِمقياسِ َّز‬ ‫ُل‬
‫َع‬ ‫ِّ َّن‬ ‫الأَُّيخَوِي َّن‬
‫َوَجَعْلَن ُكْم ُشُع ًا‪:‬‬ ‫َوُأْنَث الله‬ ‫َخَلْقَن ُكْمالد ْنِّينَذَكِ قال‬ ‫وهو نسبُ‬ ‫ُس‬ ‫َيَأ َه‬
‫ا َّن‬
‫وب‬
‫َّز‬
‫ىَأْتَق ُكْما‬
‫َّص‬ ‫ٍر‬ ‫َأْكَرَمُكْمِّم ْنَد‬‫ا‬ ‫‪َ‬وَقَب َل َتَع َرُف ِإْا‬
‫ا‬ ‫ال‬ ‫ا‬
‫وقال‬
‫َاَةِه َّم َوَء اُت ْا‪َّ ‬ن َك َة‬
‫(‪)1‬‬
‫الل‬ ‫اِئ ِل َف اْن وَت ُبِإ ْا َوَأَق ُم ْا‬
‫ِع‬ ‫تعالى‪ُ:‬نُكْم ‪‬‬
‫اَّي و (‪ )2‬ا و ال ل ُمَح أ و ال اَه‬ ‫ِإ‬ ‫َف ْخَو‬
‫الل‬
‫ُه َأَمَر‬ ‫[‬ ‫‪:‬‬‫‪‬‬ ‫ٌ‬ ‫د‬ ‫دنا‬ ‫ِّ‬ ‫سي‬ ‫‪.‬وقال‬ ‫‪‬‬ ‫ي‬ ‫ال‬
‫َأَمَر َيْحَي َّس ِفْبَن َزَكِّد ِنَّط َخْم َوَأَن ُمُرُكْم َخْم‬ ‫ي‬ ‫ا‬
‫اللِإ َّجَم َعُةي‬ ‫َو‬ ‫‪،‬‬‫ْجَرُة‬ ‫ْل‬ ‫َو‬ ‫ى ْمُع َو ا َعُة َو اَه ُدآ‬ ‫ِإَّن‬
‫ال َف ‪َ،‬رَق ِرالَّجَما ِبَعَة‪ٍ ،‬سَقْيَدال ْبا ‪َ،‬فَقْد ا ِبَخَلَع ٍس ‪ْ،‬بَقَة ال ْسا َاِن؛‬ ‫َمْن‬ ‫َف َّن‪:‬‬
‫ُه‬
‫َّج َّيال ل‬
‫َفُهَو‬
‫ِه‬
‫َدْعَو‬ ‫َدَع‬
‫ِّج‬
‫َوَمْن‬ ‫َع‬ ‫ا َّا َأْنال ُيَرا‬ ‫ُعُن‬
‫ِبِه‬
‫ْن‬
‫ى ِرال ا ِإ ِم‬ ‫ِش ٍر ا‬ ‫ا ‪،‬‬ ‫ل َّن‬ ‫ِإ‬
‫إنْ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ِمْن ِقِه ِإ ] قِيِْجلَ‪ :‬يَاَّل رَسُِبولَ الله َّن‬
‫ِ!ِهِل ِة‬ ‫َم‬ ‫َجَه‬
‫َوَص َم َوَزَعَم َأ ُه ُمْس ٌم‬ ‫َو ْن َص‬
‫امَ؟ قال‪َّ :‬ل[ َسَّم ُكُمى؛ ْلُمْسا ؛ َن ْلُمْؤ َن َب َد‪،‬‬ ‫ِجِثِّيَصَ‬
‫َدْعَو‬ ‫َفِمصَلْدُعَّْاىو‬
‫ي ِلا‬ ‫ي ا‬ ‫ى الل ا ي ِإ ا ا‬ ‫ا و‬
‫ِع‬ ‫ِمِن‬
‫الل ] فهذه أسُسُ الفكرِ الإسلاميِّ وأصولهُ في‬ ‫ِلِم‬ ‫ِذ‬ ‫ِه‬ ‫(‪ِ3‬ب)‬

‫بناءِ مفهوم الأُخُوَّةِ والجماعةِ ومقاييسهُ في عيشِ‬ ‫ِه‬


‫الحياة‪ .‬وليس فيها رابطةٌ قومية‪ ،‬بل رابطتُها‬
‫َّر‬ ‫عقيديَّةٌ َّثإيْمَانيَّةٌ‪.‬‬
‫َّت‬ ‫الإسلام َّل‬ ‫َّز‬ ‫َاْلَوْجُه‬
‫َءُكْمِ‬
‫والدعوات‬ ‫َا َت ُذ ْا َء َب‬‫َ‬‫العصبية‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫َع َوَج‬ ‫َّ‬ ‫أن‬ ‫‪:‬‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ال‬
‫اآ‬ ‫و‬ ‫‪‬ل‬ ‫قال اللهُ‬ ‫الجاهلية‪ِ ،‬ن‬
‫ِخ‬
‫(?) التوبة ‪.11 /‬‬ ‫(?) الحجرات ‪.13 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) أخرجه‪ :‬الإمام أحمد في المسند‪ :‬ج‪ 4‬ص‪130‬و‪202‬؛‬ ‫‪3‬‬


‫‪2‬‬

‫في‬
‫جاء هذاُّي‬ ‫والترمذي في الجامع الصحيح‪َّ :‬مكتاب الأمثال‪ :‬باب ما‬
‫ْلَح ُثوقال‪َ:‬أْشَع‬
‫والصدقة‪ :‬الحديث (‪،)2863‬‬
‫ُمَح‬ ‫مثل الصلاة والصيام‬
‫د بن إسماعيل‪ :‬ا ا ال‬ ‫حديث حسن صحيح غريب‪ .‬قال‬
‫والطبراني ِرفي‬ ‫(راوي الحديث) له صحبة وله غير هذا الحديث؛ ِر‬
‫المعجم الكبير‪ :‬الحديث (‪ 3427‬وما بعده)؛ والحاكم في‬
‫المستدرك‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب فيما يدل على أن إجماع العلماء‬
‫حجة‪ :‬الحديث (‪ )406/115 ،405/116 ،404/115‬وقال‪ :‬هذا‬
‫حديث صحيح على ما أصَّلناه في الصحابة؛ وأخرجه عبدالرزاق‬
‫في المصنف رقم (‪.)20709‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫ُّب‬ ‫‪276‬‬
‫َوَم‬ ‫ُكْفَر َعَل ْيَم‬ ‫ْسَتَح ْا‬ ‫ْخَو َنُكْم َأْو َي َء‬ ‫َو‬
‫ن‬ ‫ىال ا‬ ‫َفُأْوَل َك ن ُهُما َّظ و ُم َنال‬ ‫َيَتَوَّلاُهْم ْنُكْم ا‬
‫اللهِ‬ ‫رسولُ ِن‬ ‫ال اَّي و ‪ )1(‬وقال ِإ‬ ‫ِإ‬ ‫ِل‬ ‫ِإ‬
‫َأْو َيْدُع‬ ‫ُعْصَب‬
‫َّي‬ ‫َيْغَضُب‬ ‫ِل‬ ‫َع‬ ‫َي‬ ‫َر‬ ‫َتْحَت‬ ‫َتَل‬ ‫َق‬ ‫َمْن‬
‫و‬ ‫ٌة‬ ‫َج‬ ‫ْتَلُتُه‬ ‫َف‬ ‫َل‬ ‫َفُق‬ ‫ُعْصَب ِّم َأْوا َيْنُصُر ِئ ا‬
‫ُعْصَبًة‬ ‫‪َ:‬ل [‬
‫] ‪ .‬وعن‬ ‫(‪)2‬‬ ‫ٍة‬ ‫ا‬‫ِل‬ ‫ٍة‬ ‫ِم‬ ‫ٍة‬ ‫ى‬
‫ِإجابرِ بن عبدِالله قال‪ :‬كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ‪ ‬فِي‬
‫ِهِل‬ ‫ِق‬ ‫ِت‬ ‫ٍة‬
‫اةٍ‪ ،‬فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ‬ ‫غُزَ ًا‬
‫رَجُل مِنَ الأَنْصَارِ‪ ،‬فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ‪ :‬يَا‬
‫يَمَا‬ ‫الْمُهَاجِرِيُّ‪:‬‬ ‫وَقَالَ‬ ‫لَلأَنْصَارِ!‬
‫َدْعَواجِرِيْنَ!‪ .‬فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ‪ [ :‬ا‬ ‫َّي‬ ‫َّج‬ ‫َبلَُللْمُهَ‬
‫] قَالُوا‪ :‬يَا رَسُولَ ًا اللهِ!‬ ‫ى ال ا‬ ‫ا‬
‫َنٌةُل مِنَ‬ ‫َّن‬
‫كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الَْدُعمَُههَاجَِفرِيَهْنَ ُمْنرَج‬ ‫ِة‬ ‫ِهِل‬
‫] ‪ .‬وفي‬ ‫(‪)3‬‬
‫ا‬ ‫الأَنْصَارِ‪ .‬فَقَالَ‪ [ :‬و ا‬
‫الدعوةَِّل‬ ‫َّز‬ ‫ِت‬ ‫َّن‬ ‫ِإ‬ ‫َّس‬ ‫َّص‬
‫النهيِ َاُمالجازم عن َه َع َوَج‬ ‫َعَلْيَّي على َّجَاُة َّيَو‬ ‫الحديث الصَّريحِ‬
‫ُمْؤ َّنٌن‬ ‫الل‬ ‫َوَفْخَر [‬
‫ال ل ‪:‬‬ ‫َة ال ل‬ ‫َأْذَهَب قولهُ‬
‫َعْنُكْم‬ ‫القومية‬
‫‪،‬‬ ‫الآبا‬ ‫ِإ‬ ‫ها‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫ِه‬ ‫ٌّي‬ ‫َقْدٌّي‬
‫ِهِل ِةآَدَم َوآَدُم ْنِب ُتَرا ِء‪َّ،‬ن َلَيَدَعِم‬ ‫وا‬
‫َبُن‬
‫َت ‪َ ،‬وَفا ٌر َش ‪ِ،‬عِّب َأنتْم َّن‬
‫َم ُهْم َفْحٌم َّلْنِم َفْح ٍبَجَه َم َأْو‬ ‫َفْخَرُهْم ِقَأْقَو ْم‬ ‫رجاٌل َّن ِج‬ ‫ِق‬
‫‪،‬‬
‫ِمَتْدَفُع َأْن َه‬ ‫ْع‬ ‫ْل‬ ‫ا‬ ‫َن‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫َعَل‬ ‫َأْهَوَن‬ ‫ُن‬ ‫َلَيُك‬
‫ا‬ ‫ِب ى ِمِهالل ِإ ا لا اِم تي‬ ‫َن‬‫َّنو‬
‫ِب ِف‬ ‫ِج ِن‬ ‫ِه ِم‬ ‫ال ت ](‪.)4‬‬

‫(?) التوبة ‪.23 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) أخرجه‪ :‬الإمام أحمد في المسند‪ :‬ج ‪ 2‬ص‪296‬؛ ومسلم في‬ ‫‪2‬‬

‫الجامع الصحيح‪ :‬كتاب الإمارة‪ :‬الحديث (‪)53/1848‬؛ وإسناده‬


‫صحيح‪.‬‬
‫الصحيح‪ :‬كتاب البر والصلاة‪ :‬باب‬
‫(?) أخرجه‪ :‬مسلم ًافي الجامع ًا‬
‫‪3‬‬

‫نصر الأخ ظالم أو مظلوم ‪ :‬الحديث (‪63‬و‪.)64/2584‬‬


‫والترمذي في الجامع الصحيح‪ :‬كتاب تفسير القرآن‪ :‬الحديث (‬
‫‪ )3315‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫(?) أخرجه‪ :‬الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة ‪ :‬ج ‪ 2‬ص‬ ‫‪4‬‬

‫‪ .361‬وأبو داود في السنن‪ :‬كتاب الأدب‪ :‬باب في التفاخر‬


‫بالأحساب‪ :‬الحديث (‪ .)5116‬والترمذي في الجامع الصحيح‪ :‬كتاب‬
‫المناقب‪ :‬باب في فضل الشام واليمن‪ :‬الحديث (‪ )3955‬وقال‪:‬‬
‫هذا حديث حسن غريب‪ ،‬والحديث (‪ )3956‬وقال‪ :‬هذا أصح عندنا‬
‫من الحديث الأول‪ .‬وربَّما ضعفه البعض؛ وليس بضعيف‪ :‬كما‬
‫تقدم؛ أما رواية ابن عمر‪ ،‬ففيها نظرٌ‪ ،‬مع أن ابن حجر قال‪:‬‬
‫ورجاله ‪ -‬أي رجال سند حديث ابن عمر ‪ -‬ثقات؛ إلا أن ابن‬
‫‪277‬‬
‫َّر‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫َم‬ ‫َبْعُد‬
‫و ‪ :‬فإنَّ الإسلامَ إذَّص ح التفاخرَ بالأنسابِ؛‬
‫والعصبيةَ الجاهلية‪ ،‬فإنه أ لَ ذلك على أسُسٍ معتبرةٍ‬
‫في الشريعة‪ ،‬لتربطَ المجتمعَ الإسلامي بِعَرَبِهِ‬
‫وَعَجَمِهِ‪ ،‬برابطةِ العقيدة الإسلامية‪ ،‬والأمرِ‬
‫الجامع في وحدةِ بلاد المسلمين‪ ،‬وبنظامِ أنَّ‬
‫السيادةَ للشَّرعِ؛ والأمانَ بأمانِ المسلمين‬
‫والسلطانَ لَهم ‪.‬‬
‫ثم أنََّّي الإسلامَ لم يهمِلْ جانبَ النَّسَّسَبِ حين‬
‫ها‪ ،‬وحينًا أ سَ مقياسَ‬ ‫َّد‬
‫نَقَضَ عِِّب ة الجاهليةِ ودعوتِ ًا‬
‫فطريّ لا بدَّ من‬ ‫ًا‬ ‫التقوى‪ ،‬وإنَّما ع النسبَ جانب‬
‫َّل‬
‫شرعي هو‬ ‫َّت‬ ‫َّل‬
‫َوَج مناطَو ُقلحكمٍ‬ ‫العنايةِ به على سبيل أنه َّز‬
‫يحققُ‬
‫َه‬ ‫َع‬
‫الل َّتاُق ْاي‬ ‫وا‬ ‫ا‬ ‫‪‬‬ ‫‪:‬‬ ‫الأرحامِ؛ قال اللهُ‬ ‫صلةَُءُل َن‬
‫َوالَأْرَحاَم ‪ )1(‬قال ابنُ عبَّاس‪َ(:‬أ ا وِذ‬ ‫و‬ ‫ا‬
‫َتَس‬
‫ِي َأْرَح ُم‬ ‫الَأْرَحاَم َوِبِهُلوَها) َّر‬
‫أخرجه ابنَأَق أبُبِي حاتم عنه‪ .‬وال ا‬ ‫َوُذُو‬ ‫َجْمُع َر‬
‫ال ا ؛ يطلقُ علىكلِّ مَن‬ ‫؛ ِص و ال‬
‫الآخرِ نسبٌ‪ِ.‬رلِهذا لا يهملُ المسلمُ‬ ‫ِحِم‬ ‫بينه وبين‬ ‫يجمعُ ِحٍم‬
‫نسبهٌنِ‪ ،‬لأنه مما يتمُّ به واجبُ صلةِ الأرحام‪.‬‬ ‫معرفةَ َب‬
‫بين معرفةِ الأنساب بقصدِ صلة الرَّحم‪،‬‬ ‫والفرقُ‬
‫وبين معرفتِها للتفاخر والعصبيَّة لشهوةِ وهوًى‪.‬‬ ‫ِّي‬

‫قال ابنُ حجرٍ العسقلانِيُّ‪ :‬والمرادُ بذكر هذه‬


‫الإشارةُ إلى الاحتياجِ إلى معرفةِ النَّسب‬
‫ُي‬ ‫الآيةِ؛‬
‫ًا‬
‫أيض ‪ ،‬لأنه عْرَفُ به ذَوُو الأرحامِ المأمور‬
‫بصلتِهم‪ .‬وذكرَ ابنُ حزمٍ في مقدِّمة كتاب النسبِ له‬
‫ًا‬
‫على مَن زعمَ‪ :‬أن علمَ النسبِ؛ علمٌ‬
‫َّم‬ ‫ِّ‬ ‫الرد‬ ‫في‬ ‫فصل‬
‫ُمَح‬
‫د بن المقري راويه عن عبدالله بن رجاء‬ ‫مردويه ذكر أن‬
‫عن موسى بن عقبة وهم في قوله موسى بن عقبة‪ ،‬وإنَّما هو‬
‫موسى بن عبيدة؛ وابن عقبة ثقة؛ وابن عبيدة ضعيف‪ ،‬وهو‬
‫معروف برواية موسى بن عبيدة؛ وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم‬
‫وغيره‪ .‬ينظر‪ :‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ :‬ج ‪ 6‬ص‪.653‬‬
‫لهذا ربَّما إسناده عن طريق ابن عمر فيه ضعف على وثاقة‬
‫ولكن إسناده عن أبِي هريرة حسن‪ .‬وربَّما جاء بإسناد‬ ‫رجاله؛ َّب‬
‫عن ابن ع اس‪ ،‬قاله الترمذيُّ‪.‬‬
‫(?) النساء ‪.1 /‬‬ ‫‪1‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪278‬‬

‫لا ينفعُ وجهلٌ لا يضرُّ‪ .‬بأنَّ في علم النسبِ ما هو‬


‫الكفايةِ؛ وما‬‫َّم‬
‫فرضٌ على كلِّ أحدٍ‪ ،‬وما هو فُُيرِضَ على ُمَح ًا‬
‫د رسولُ‬ ‫هو مستحبٌّ‪ .‬قال‪ :‬فمِن ذلك أن علمَ أنَّ‬
‫ابنُ عبدالله الهاشِميِّ؛ فمَن زعمَ أنه‬ ‫اللهِ ‪ ‬هو ًا‬
‫لم يكن هاشِمي فهو كافرٌ‪ ،‬وأن يعلمَ أن الخليفةَ من‬
‫قريشٍ ‪-‬قلتُ‪ :‬شرطُ الأفضليةٍ ‪ -‬وأن يعرفَ من يلقاهُ‬
‫محرَّمة ليتجنبَ تزويجَ ما يحرمُ عليه‬ ‫بنسبٍ في رحمٍ َم‬
‫منهم؛ وأن يعرفَ ن يتصلُ به ممن يرثهُ أو يجب عليه‬
‫أن يَبُرَّهُ من صلةٍ أو نفقة أو معاونة‪ .‬وأن يعرفَ‬
‫الصحابةَ وأن حُبَّهُمْ مطلوبٌ‪ ،‬وأن يعرف الأنصارَ‬
‫ليحسنَ إليهم لثبوتِ الوصية بذلك‪ ،‬ولأن حبَّهُم‬
‫إيْمانٌ وبغضُهم نفاقٌ‪ .‬قال‪ :‬ومِن الفقهاء‪ ،‬من يفرِّقُ‬
‫في الجزيةِ وفي الاسترقاق بين العربِ والعجم‪ ،‬فحاجةُ‬
‫علم النسبِ آكِدٌ‪ .‬قال‪ :‬وما فرضَ عمرُ ‪ ‬الديوانَ إلا‬
‫على القبائلِ‪ ،‬ولولا علمُ النسبِ ما تخلَّصَ له ذلك‪،‬‬
‫وقد تَبِعَهُ على ذلك عثمانُ وعليٌّ وغيرهما‪ .‬وقال‬
‫ابنُ عبدالبَرِّ أول كتابهِ النسب‪ :‬ولَعَمْرِي لم‬
‫يُنْصِفْ مَن زعمَ أنَّ علمَ النسب‪ ،‬علمٌ لا ينفعُ‪،‬‬
‫َّل‬ ‫وجهلٌ لا يضرُّ(‪.)1‬‬
‫َتَع ُم ْا ْن‬
‫و‬ ‫َأْرَحِ َمُكْمالله ‪[ : ‬‬
‫الحديثُِل َنعن رسول‬ ‫َأْنَس وفيُكْم َم َت‬
‫ِم‬
‫ا ] والذي يظهرُ حَمْلُ‬ ‫(‪)2‬‬
‫و‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫ِبِه‬ ‫ِص‬ ‫‪ِ 1‬ب‬
‫(?) فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ :‬ج ‪ 8‬ص‪.654‬‬
‫(?) أخرجه الإمام أحمد في المسند‪ :‬ج ‪ 2‬ص‪374‬؛ والترمذي في‬ ‫‪2‬‬

‫الجامع الصحيح‪ :‬كتاب البر والصلة‪ :‬الحديث (‪)1979‬؛ وقال‪:‬‬


‫هذا حديث غريب من هذا الوجه‪ .‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‪:‬‬
‫ج ‪ 1‬ص‪ :193-192‬رواه الطبرانِي في الأوسط‪ ،‬وفيه أبو‬
‫الأسباط بشر بن رافع وقد أجمعوا على ضعفه‪ .‬وليس في سند‬
‫بن‬ ‫َّل‬
‫العلاءَت ُل َن‬
‫الهيثمي‪َ :‬أْنَسوعن ُكْم َم‬
‫الإمام أحمد بشرَّن هذا‪ ،‬ثمَّر قالَتَع َّبُم ْا ْن‬
‫َلَة قال‪َ [ :‬مَح ٌةو َأْه اَمْثَر ٌة ا ْلَم و‬ ‫خارجةَأْرَحأنَمُكْمرسول َف الله ‪‬‬
‫ِصا ‪،‬‬ ‫ِمل ‪ِ ،‬ب ا‬ ‫ال‬ ‫َوَمْنَسَأٌة ا َأَج‪،‬‬
‫ِل‬ ‫ِل‬ ‫ِل‬ ‫ِل‬
‫ل ]‪ .‬رواه الطبراني ورجاله قد وثقوا‪ .‬ج ‪ 1‬ص‪193‬‬ ‫ِحِم‬ ‫ِص‬ ‫ِإ‬ ‫ِبِه‬
‫و ج ‪ 8‬ص‪ .152‬وأخرجه الحاكم في المستدرك‪ :‬كتاب البر‬ ‫ِل‬ ‫ِل‬
‫والصلة‪ :‬الحديث (‪ )7284/45‬عن أبي هريرة‪ ،‬وقال‪ :‬هذا حديث‬
‫بقوله‪:‬‬
‫صحيح الإسناد ولم يخرجاه‪ .‬وتابعه الذهبي في التلخيص ْع ُف ْا‬
‫صحيح‪ .‬وأما حديث ابن عباس‪ :‬قال‪ :‬قال رسول الله ‪ [ :‬ا و‬
‫ِر‬
‫‪279‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫ما وردَ من ذ في الباب على التعمُّقِ في مباحث‬


‫يشغلُ عما هو أهمُّ منه؛ أو بِما يوصلُ‬ ‫النسبِ بِما ٍّم‬
‫إلى التفاخرِ؛ أو القتالِ من أجله‪ ،‬فالذَّمُّ مسلطٌ‬
‫على الغضبِ للعصبية والقتال لشهوتِها‪ ،‬أو لنصرةِ قومه‬
‫وهواه(‪.)1‬‬
‫َو ْعَلْم‬
‫أن الخيريَّةَ بالفطرةِ قِوَامٌ غريزيٌّ في‬ ‫ا‬
‫وجدان الإنسانِ‪ ،‬والميلُ الجماعيُّ مظهرٌ من ًا مظاهرهِ‪،‬‬
‫َّسبِ حتم ؛ وجعلَ‬ ‫ويتأتَّى رَجْعُهُ في صلةِ النْنَي‬
‫التحتيَّة ل لات‬ ‫الإسلامُ هذه الفطرةَ قِوَامَ ال‬
‫ِص‬ ‫ِة‬ ‫ِب‬
‫الناسِ فيما بينهم‪ ،‬ولم يعدمْها أو يلغِيها‪ ،‬وإنَّما‬
‫نَظَّمَهَا بالإسلامِ وأحكامه‪ ،‬بالنظامِ الاجتماعيِّ‬
‫في الإسلام‪ ،‬وأنظمةِ المجتمع الأخرى‪ .‬هذا بالنسبةًاِ‬
‫لِما يتعلقُ بالأصلِ الفطريِّ للناس بوصفهم شُعوب‬
‫وقبائلَ‪.‬‬
‫أمَّا من جهةِ طبيعة علاقات الناسِ‪ ،‬وما يرتبطُ‬
‫بالْهِمَّةِ والعزيْمَة‪ ،‬فإن التفاوتَ حاصلٌ في‬
‫الفروقِ الفردية لا محالةَ‪ ،‬فتجدُ الشريفَ والمشروف‪،‬‬
‫من‬
‫ومشروفين‪ ،‬وهذا يكادُ يكون ًا‬ ‫فكانَّل الناسُ شرفاءَ‬
‫مختلف شعوبِهم وقبائلهم‪ ،‬وصول‬ ‫المس ماتِ بين الناس بِ َّب‬
‫إلى العائلةِ الواحدة‪ .‬ون ه إليهِ سيِّدُنا الرَّسُولُ‬
‫َّن‬ ‫َّم‬
‫َي ُرُهْم‬ ‫َس َمَع َن‬ ‫َت ُد َن‬ ‫ُمَح‬
‫وْس ال اَذ َف ُها ْا ‪َ ،‬وَت اُد َن َخْيَري‬ ‫ُرُهْم [‬ ‫دٌ َّي ‪َ ‬يفقال‪:‬‬
‫وِد ‪ِ ،‬خ و ِف‬ ‫ًةا‬ ‫الجا ة اَّشْأ َأَشيَّدُهْمِجالإ لا‬
‫ابنُ حجر‪:‬‬ ‫كراهي ](‪ِ2‬ق)‪ .‬قال ِج‬ ‫له ِم ِإ‬ ‫َّن ِف‬ ‫ِهِل ِخ‬
‫ًا‬ ‫الناِس ِفيَت ُدالَن ِن َس َمَع َن‬
‫ا ] أي أصُول مختلفةً؛ ووجهُ‬ ‫و ال ا‬ ‫قوله [‬
‫التشبيه أن المع نَ لَمَّا كان إذا استخرجَ ظهرَ ما‬ ‫ِد‬ ‫ِج‬
‫تتغيرُ صفته‪ ،‬فكذلك ًاصفةُ الشَّرَفِ لا‬ ‫اختفى منه ولا ِد‬
‫تتغيرُ في ذاتِها‪ ،‬بل مَن َّن كان شريف في الجاهلية فهو‬
‫َذ ُق َعْت َو ْن‬ ‫َأْنَس َبُكْم َت ُل ْا َأْرَح َمُكْم َف ُه َا ُقْرَب َر‬
‫ُبْعَد ‪َ،‬لَه َذ لُو َلْت َو ْن َك َنْت َبا َدًة ‪،‬‬
‫َك َنْتا َق َبًة و َو َا ا‬
‫ِل ِحٍما ِإ ي ِط ]‪ِ .‬إ‬
‫قال‬ ‫ا ِإ ا‬ ‫ي ِص‪ ،‬ل‬ ‫ا‬
‫ِع‬ ‫ِإ‬ ‫ِص‬ ‫ِإ‬
‫الحاكم‪ :‬الحديث (‪ :)7283/44‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين‬ ‫ِر‬
‫ولم يخرجاه‪ .‬وتابعه الذهبي قال‪ :‬على شرط البخاري ومسلم‪.‬‬
‫(?) ينظر‪ :‬شرح النووي على مسلم‪ :‬ج ‪ 2‬ص‪.482‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه البخاري في الصحيح‪ :‬الحديث (‪.)3493‬‬ ‫‪2‬‬


‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪280‬‬

‫بالنسبةِ لأهل الجاهلية رأسٌ‪ ،‬فإن أسلمَ استمرَّ‬


‫شرفهُ‪ ،‬وكان أشرفَ ممن أسلمَ من ًا المشروفين في‬
‫الجاهليةِ‪َ ،‬ذ علىَف ُهأن ْا يتميَّزَ بالفقه أيض ‪ ،‬قال‪ :‬وأمَّا‬
‫و ] ففيهِ إشارةٌ إلى أن الشَّرَفَ‬ ‫قوله‪ [ :‬ا‬
‫الإسلاميَِّإ لا يتمُّ إلا بالتفقُّهِ في الدينِ‪.‬‬ ‫ِق‬
‫وربَّما يقولُ أحدهم‪ :‬هذا بالنسبةِ للشُّعوب‬
‫والقبائلِ عامَّة‪ ،‬فما هو الحكمُ بالنسبة للعربِ منهم‬
‫خاصَّة؟ قُلْتُ‪ :‬تأخذُ القبائل العربيَّة حكمَ ما سبق‬
‫حالُها حال الناسِ‪ ،‬مع أن التميُّز للسانِها‪ ،‬وتَمتازُ‬
‫سان‬ ‫بقدرتِها السبَّاقة عن غيرِها في إدراك هذا اللُِّّسَّن‬
‫وفهمهِ وإدراك مراد الشَّارع في الكتابِ وال ة‬
‫علىالوجه المقصود فيه‪ ،‬فليست العربيةُ في هذا المجالِ‬
‫الحديث‪[:‬‬‫َّي‬ ‫َّن‬ ‫َّي‬
‫جاء َمفي ْلَعَر ُة‬ ‫ولقد َو‬ ‫لسانٌَو‪َ ،‬ا ُأ‬ ‫ما هيْن َأ‬ ‫نسبٍ‪ُ،‬ة وإنَأَحَُّكْم‬ ‫موضوعَ ْلَعَر‬ ‫َلْيَس‬
‫ا ا‬ ‫‪،‬‬ ‫ل‬ ‫َس ٌن ا‬
‫ِب‬ ‫ٍّم ِإ‬ ‫اِت ](‪ِ .)1‬ب ِب ِد ِم ٍب‬
‫ُه‬ ‫َر َمُه‬ ‫ِل َّج‬
‫الإمامُ الشَّافُهِعِيُّ ٌّي الل ‪( :‬فَأَقَامَ‬ ‫َّن‬ ‫قال‬
‫حُ تَُه بِأ كِتَابََّك عَرَبِِح ‪ ،‬فِي كُ آيََّل‬
‫ذَكَرْنَاهَّلَا‪ ،‬ثُمَّ أ دَ ذَلِكَ بِأَْن َنَفى ِّلَعْنُه ‪َ-‬جٍة‬
‫ْلَعَر‬ ‫َس َغْي َس‬ ‫َثَن ُؤُه‬
‫َنْعَلُمْ‬
‫َوَلَقْدِ مِن‬
‫ا ا ‪ ،‬فِي آيَتَيْن‬ ‫ا‬ ‫ا ‪ -‬ك‬
‫َّل‬ ‫كَّنِتَابِهِ‪ :‬فِلَقََّنٍنالَ ِرتَبِلَارِنَك ِب‬
‫َبَشٌرَ وَسَتُنَعَالَى‪ُ :‬يْل‪ُ ‬د َن َلْي‬ ‫َأ ُهْمٌّي َيُق ُل َن َم ُيَعٌّيُمُه‬
‫و‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫وو‬
‫َجَعْلَناِهُهٌّي‬
‫َوَلْو ِإ‬‫َأْعَج َوَهَذا َسِإاٌن َّلَعَر ِّل ُم يٌن ‪ِ)2(‬ل وَقَالِذَ‪ِ  :‬ح‬
‫ُقْرَءِمٌّيَنًا َأْعَج ِلّيًا َق ِبُل ْا ِبَلْو َا ُف َلْت َء َي ُتُه َءَأْعَج‬
‫اا‬ ‫ل‬ ‫او‬ ‫ا‬
‫ِم‬ ‫ِّص‬ ‫َوَعَر ‪ِ .)4())3(‬م‬
‫ِب‬
‫وجاءتِ النصوصُ الشرعية الوافرةُ بتأكيدِ أنَّ‬
‫العربيةَ في هذا المجال هي َساللَِّعَرسانُ‪ُّ،‬م قولهُ تعالى‬ ‫َس َك‬
‫ي ‪ )6(‬وقوله‬ ‫‪ ‬ا ‪ )5(‬وقولهُ تعالى ‪ ‬ا‬
‫ِبِل ٍن ِبٍّي ِب ٍن‬ ‫ِبِل ِن‬
‫(?) مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر‪ :‬ج ‪ 6‬ص‪.200‬‬ ‫‪1‬‬

‫(‪ )3‬فصلت ‪.44 /‬‬ ‫(?) النحل ‪.103 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) الرسالة‪ :‬فقرة (‪.)162-160‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪3‬‬

‫(?) مريم ‪ 97 /‬والدخان ‪.58 /‬‬ ‫‪5‬‬

‫(‪ )7‬إبراهيم ‪.4 /‬‬ ‫(?) الشعراء ‪.195 /‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪281‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫ًّي‬
‫ُحْكًم َعَر‬ ‫َس َقْو‬
‫ا‪.)2(‬‬ ‫ُمَحَُّم تعالى‪  :‬ا‬ ‫‪ )1(‬وقوله‬ ‫تعالى‪  :‬ا‬ ‫َّد‬
‫َّذُِكْمي‬ ‫ِب‬
‫َأْرلَُد ْاالَأَخ‬ ‫نا الرِمِهَّسُولُ َّل دٌ ‪ ‬الرَّجُ‬ ‫وعَ سيِِّبِلدُ ِن‬
‫ا‬ ‫و‬ ‫َفقََّنرُهَأََقْد فََضلَّلَحَنَ؛ إنَّهُ ضَ ‪ ،‬فَقَالَ‪[ :‬‬
‫ِش‬ ‫](‪.)3‬‬
‫وقريشٍ‬ ‫َّل‬ ‫َّس‬ ‫َّص‬ ‫ِإ أما ما جاءَ في‬
‫العربِْا‪ْ ،‬ن ُقَرْي‬ ‫َاُة َوقبائلَاُم َتَعَّد ُم‬ ‫مناقبِ‬ ‫َعَلْي‬
‫ال ل ‪ [:‬و‬ ‫ال ل‬ ‫خاصَّة‪ ،‬مثل قوله‬
‫َولَا ُتَع ُموَها] وفي لفظ[َقِه ُموْا ُقَرْيشًا َولَا تََق ُموَها]‪ِ.‬م فليسٍَش‬
‫المرادُِّل به فضلُ جنسٍ ِّدأو شرفُ قومية‪ ،‬وإنَّما المرادُ‬
‫به فضلُ قومٍ وشرفُهم بِما عاشَّيُوا في مجتمعِهم في‬
‫سالة‬
‫الرًاِّ َوَّوَا‬ ‫لحملِ ُقَرْي‬‫أجواءِ رأي عامٍّ وعُرف عام مه ئآِن َق ُم َّنْا‬ ‫َّد‬
‫الحديث ُر [َه ِّدَف و ْلُقَرش ُقلَة‬ ‫ففي َو َا ُتَؤ‬
‫ريرةِ‪ُ،‬قَرْي ًا‬
‫َّ ُم ْا‬ ‫وصفاءَه الس َق‬
‫ُتَق ُم‬
‫و ا‪،‬‬ ‫َرُجَلْيو ا‪ْ،‬ن وَغْي و ُقَرْي ش ل‬
‫ِشِّي‬ ‫ِل‬
‫والحديثِ عن الزهريِّ عن سهلِ‬ ‫ِإ‬ ‫ِّخ‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‬ ‫ِّد‬
‫ُس‬
‫ُنْبُليُّ َّرْأعَنِ‬ ‫بن ِنحَِمثَمَةَِر؛ فٍَشلَمَّا ئِلَ الزُّهْرِ‬
‫ال (‪)5‬؛‬ ‫الْمُرَادِ؟ مَا عَنَى بِذَلِكَ؟ قَالَ‪:‬‬
‫ِي‬
‫ويأتِي هذا النُّبْلُ من فصاحةِ اللسان في التعبير عن‬
‫صدقِ التعامل مع الواقعِ بالأفكار‪ ،‬أي وضوحِ البيان‪،‬‬

‫(‪ )8‬الرعد ‪.37 /‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪2‬‬

‫(?) ينظر‪ :‬كتاب الخصائص لابن جني‪ :‬ج ‪ 3‬ص‪ً .245‬اوالحديث عن‬ ‫‪3‬‬

‫ُكْمَرَأَ‬‫أبي الدرداء ‪ ‬قال‪ :‬سَمِعَ النَّبِيُّ َأْر‪ُ ‬درَْاجُلَأَخ ق‬


‫ا ] أخرجه‬ ‫و‬ ‫فَلَحَنَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ‪[ ‬‬
‫)‪ :‬وقال‪ :‬صحيح‬ ‫الحاكم في المستدرك‪ :‬الحديث (‪ِ 3643/780‬ش‬
‫الإسناد ولم يخرجاه‪ .‬وتابعه الذهبي في التلخيص‪ :‬ج ‪ 2‬ص‪:477‬‬
‫وقال‪ :‬صحيح‪.‬‬
‫الله ُتَؤ‪ُ ‬ر قال‪:‬‬ ‫َّل‬
‫رسولًا َو َا‬
‫حثمة‪ُ ،‬م ْاأن ُقَرْي‬‫عنُقَرْي سهلَوَّر َابن ُتَعأبُمِيَه َوَق‬ ‫الحديثْن‬
‫(?َّن)َتَع ُم ْا‬
‫‪4‬‬

‫وها‪،‬‬ ‫ش ل‬ ‫لُجَلْي ْنو ا‪َ،‬غْي ُقَرْيو‬ ‫َّو‬ ‫و‬


‫ِّخ‬ ‫ِّد‬ ‫ِّل‬ ‫ٍش‬ ‫ْلُقَر ِم ُق َة‬ ‫[َف‬
‫]‪ .‬أخرجه ابن أبِي‬ ‫ال‬
‫الفضائل‪ٍ:‬ش باب ما ذكر في فضل‬ ‫كتاب ِر‬
‫الكتاب المصنف‪ِ:‬ن ِم‬ ‫شيبة ِلفي ِشِّي‬ ‫ِإ‬
‫قريش‪ :‬النص (‪ )32376‬من ج ‪ 6‬ص‪.405‬‬
‫(?) أخرجه ابن أبي شيبة‪ :‬النص (‪ ،)32375‬والإمام أحمد في‬ ‫‪5‬‬

‫المسند‪ :‬ج ‪ 4‬ص‪ 81‬وص‪ .83‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‪ :‬باب‬


‫الاجتهاد‪ :‬ج ‪ 1‬ص‪:178‬ورجال أحمد رجال الصحيح‪ .‬وقال في‪ :‬ج‬
‫‪ 10‬ص‪ :26‬رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني‪ :‬ورجال‬
‫أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح‪.‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪282‬‬

‫البيانْنُ‪َ ،‬س ولِهذا جاءَ في الحديثِ‬ ‫هي َأْصَلَح‬


‫الفصاحةَْم ًا‬
‫ُه‬ ‫لأنَر َم‬
‫ا ] ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫الل ا ء‬ ‫[‬
‫ِم ِل ِنِه‬ ‫ِر‬ ‫ِح‬
‫فالأمرُ في تقديم قريشٍ‪ ،‬أمرُ علمٍ وأمانة ومثالٍ‬
‫لمن يتعاملُ مع نُصوصِ القُرْآنِ ليفسِّرَ آياته‬
‫ويعرفَ معانيه‪ ،‬فمعهودُهم حجَّة ُمَحفيَّم بيانِ ذلك‪،‬‬
‫دٌ َر‪َ ‬مُهكما جاءُهَ‬ ‫ذلك سيِّدُنا الرسولُ‬ ‫فَنَبَّهَ إلى ًا‬
‫الل ‪:‬‬ ‫َّر‬
‫في الحديث آنف ‪ ،‬وقال الشَّافِعِيُّ‬
‫ِح‬
‫َلَكَّهَوُ َقْو مَكِنْ‬
‫اللهُ َل ْكٌرنَبِي‬‫َّن‬
‫ُه‬ ‫(وَكََّصانَ مِمَّا عَ فَ َو‬
‫(‪)2‬‬
‫‪‬‬ ‫إنْعَامِهِ َمأَنْ قَالَ‪ :‬‬
‫ِم‬ ‫ِل‬ ‫ِذ‬
‫َأْقَر َنمَعَهُ بِكِتَابُِتْنهَِر‪.‬‬ ‫ِإ‬
‫الذِّكْرِ‬
‫ُّم‬ ‫َوَأْنهُْر َع بَِرَتَك‬
‫قَوْ‬ ‫فَخَ‬
‫ال يُق ‪ ‬وَقَالَ‪ :‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ُأ‬ ‫ُأوَّمَقَالَ‬
‫ْلُقَر‪َ :‬وَمْن َحْوَلَه ي‬
‫ال رَى‪ :‬مَكَّةُ‪ ،‬وِلَهِِذيَ‬ ‫ِب‬ ‫ِذ ِشا‪ .)4(‬و‬ ‫ا ى‬
‫بَلَدُهُ وَبَلَدُ قَوْمِهِ‪ ،‬فَجَعَلَهُمْ فِي‬
‫مَعَ‬ ‫وَأَدْخَلَهُمْ‬ ‫خَاصَّةً‪،‬‬ ‫كِتَابَِذهِ‬
‫الْمُنْ رِيْنَ عَامَّةً‪ ،‬وَقَضَى أَنْ يُنْذَرُواْ‬
‫بِلِسَانِهِمُ الْعَرَبِيِّ‪ :‬لِسَانُ قَوْمِهِ مِنْهُمْ‬
‫خَاصَّةً‪ .‬فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ‬
‫مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَغَهُ جُهْدَهُ‪،‬‬
‫َّىيَشْهَدَ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ‪ ،‬وَأَنَّ‬ ‫َّم‬
‫حُمَحَت ًا‬
‫د عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ‪ ،‬وَيَتْلُو بِهِ كِتَابَ‬

‫(?) عن سالِم ًاعن أبيه‪ :‬أنَّ عُمَرَ ‪‬؛ مَرَّ بِقَوْمٍ قَدْ‬ ‫‪1‬‬

‫رَمَوا رَشَق ‪ .‬فَقَالَ‪ :‬بِئْسَ مَا رَمَيْتُمْ‪.‬‬


‫قَالُوا‪ :‬إنَّا قَوْمٌ مُتَعَلِّمِيْنَ! قَالَ‪ :‬ذَنْبُكُمْ‬
‫َأْصَلَح‪ْ .‬ن‬
‫فِي لَحْنِكُمْ أَشَدُّ مِنْ ذَنْبِكَرُمَمْ فِيُه رََرُجمًْايِكُمْ‬
‫ل‬ ‫الل‬ ‫سَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ‪ ‬يَقُولُ‪[ :‬‬
‫الميزان‪ :‬ترجمة عيسى بن ِم‬ ‫ِح‬ ‫ا ]‪ .‬أورده ابن حجر في لسان‬
‫إبراهيم‪ :‬وقال‪ :‬هذا حديث لا يصح‪ :‬ج ‪ 4‬ص‪ 392‬ورواه البيهقي‬ ‫ِل ِنِه‬
‫في شعب الإيمان‪ :‬باب في طلب العلم‪ :‬الحديث (‪ )1678‬وقال‪:‬‬
‫رويناه عن عمر بإسناد غير قوي‪ .‬وعزاه السيوطي في الجامع‬
‫الصغير لابن الأنباري في الوقف وابن عدي في الضعفاء‬
‫والخطيب في الجامع عن عمر وابن عساكر عن أنس؛ ورمز له‬
‫بـ(الحسن)‪.‬‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪ )2‬الشعراء ‪.214 /‬‬ ‫(?) الزخرف ‪.44 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫الشورى ‪.7 /‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬
‫‪283‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫اللهِ‪ ،‬وَيَنْطِقُ بِالذِّكْرِ فُأِيْمَا افْتُرِضَ‬


‫عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبِيْرِ‪ ،‬وَ مِرَ بِهِ مِنَ‬
‫التَّسْبِيْحِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ‪ ،‬وَمَا‬
‫ازْدَادَ مِنَ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ الَّوَّذُهِي‬
‫جَعَلَهُ اللهُ لِسَانَ مَنْ خَتَمَ بِهِ نًُابُ تَ ‪،‬‬
‫وَأَنْزَلَ بِهِ ْنآخِرَ كُتُبِهِ‪ :‬كَانَ خَيْر لَهُ‪.‬‬
‫ِّكْرَ‬ ‫كَمَا عَلَيْهِ أ يَتَعَلَّمَ الصَّلاَةَ وَالذ ُأ‬
‫مِرَ‬ ‫وُوَمَا‬ ‫الْبَيْتَ‬ ‫وَيَأْتِيَ‬ ‫فِيْهَا‪،‬‬
‫جِّهَ لَهُ‪.‬‬ ‫بِإتْيَانِهِ‪ً ،‬اوَيَتَوَجَّهَ لِمَا‬
‫وَيَكُونُ تَبَع فِيًاْمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ وَنُدِبَ‬
‫إلَيْهِ لاَ مَتْبُوع )(‪.)1‬‬
‫أما القوميةُ‪ ،‬فنِسبَتُها إلى القومِ‪ ،‬مع القبائلِ‬
‫والعشائر المجتمعينَ من أصُولٍ واحدة في النَّسبٌِة‪،‬‬
‫وهي في مجالِ صِلَةِ الأرحامِ‪ ،‬حالٌ محمود‬
‫بالإسلامِ‪ ،‬لِما جاءَ في هذا المجالِ من دلائل توجبُ‬
‫على المسلمِ مسؤوليَّة صلةِ الرَّحم وتَبِعاتِه‪ ،‬فيكون‬
‫هذا الجسدِ آليةً ًاتحرِّكُها روحٌ بالإسلامِ عقيدةً‬ ‫في ًا‬
‫ونظام ‪ ،‬شريعةً ومنهاج ‪ .‬بل هذه الحالُ طبيعةٌ إنسانية‬
‫لأنَّها طبيعةٌ من طبائعِ البشر‪ ،‬صاغَها الإسلامُ‬
‫ظاهرةَاُةٍ‬‫َّص‬ ‫بنظامهِ‪ ،‬وأحكمَها بأحكامهِ‪ ،‬فحوَّلَهاَعَلْيمن‬
‫َّا‬ ‫َّس‬
‫ِه ال لْنَع‬ ‫قال‬
‫الْمَْننَعَنَةِ‪َ،‬بْعَد ُل‬ ‫َبَعَثِ ُه‬‫عصبيةَاُم إلىَم حال‬ ‫َو‬
‫و ل ي‬ ‫الل‬ ‫َقْو ‪ [ :‬ا‬‫ْنال ل‬
‫مجالِ ِف ِم ٍة‬
‫المجتمع‬ ‫اللهُ ِبٍّيالناسَ فيٍط ِإ‬ ‫ِم‬
‫ِمِه ] ‪ .‬بل خاطبَ ًا‬
‫(‪)2‬‬

‫حسبََهَذأرحامْلَبِهم‬ ‫ْن‬ ‫َو‬ ‫ِمليتعارَفُوا بصفتِهم شُعوب وقبائلَ؛ أي‬


‫َن ا اْلَع َّما‬ ‫َتْغُ ْي خلدون‪( :‬‬
‫ْلُمْنَك‬ ‫قال ابن‬ ‫ْيَن‬ ‫على ُلأساسُِّثَّوالإسلامْلَقِ؛‬
‫ا ا ِب‬ ‫ِم‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫َأْحَوا ال اَّن‬
‫َواْلُفَقَها ‪َ ،‬ف ِر َك ْيرًاِئِم َن ا ِبْلُمْنَتِي ِرْيَن ْل َباِرَد ِمَوُسُلو ُطُر ِة‬
‫ال ْي ِءَيْذَهُبوِإَن َلِثى اْل ِمَيا َعَلَّنى ِحِلَأْه ِلا ِعْلَجْو ِة َن الِكُأَمَراِق‬
‫الَأْمِم اْلَمْعُروِء‬ ‫َعْنُه‪َ ،‬و ِر‬ ‫ْلُمْنَك ِم َوال ْه ِل‬
‫َداِّدْيَنِن َلى َتْغ ْيِإ ا ِق‬
‫ِف‬ ‫ِر ِب‬ ‫ِي‬ ‫ِر‬ ‫ِي ِر‬ ‫ِع ِإ‬
‫(?) الرسالة‪ :‬الفقرة (‪.)168-165‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه الترمذي في الجامع في كتاب التفسير‪ :‬الحديث (‬ ‫‪2‬‬

‫‪ )3116‬وإسناده حسن‪.‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫َّث‬ ‫‪284‬‬
‫َفَيْكُثُر َأْتَب ُعُهْم‬ ‫َن َّد‬ ‫َعَلْي‬ ‫َو‬ ‫َرَج ًء‬
‫ا‬ ‫ًا‬ ‫‪،‬‬ ‫الل‬
‫ْلَغْوَغ ِم َو ْهَم‬ ‫َو اْلُمَتَلْثِف ُثْوَن ْم ِب َن‬
‫ا‬ ‫ال‬ ‫ي‬
‫ِه (‪)1‬‬ ‫ِه‬
‫ا ا ال ا )ًا ‪ .‬قطع على أنْ‬ ‫ا‬
‫ِء‬ ‫ِء‬
‫لا يكونَ أمرُ هذه العشائرِ مجتمِع إلا على أساسِ‬ ‫ِم‬ ‫ِبِه‬ ‫ِل‬
‫الإسلامية‪َ ،‬وَجَّلوبِما تتميَّزُ به كلُّ عشيرةٍ‬ ‫َّز‬
‫َع‬ ‫العقيدة‬
‫‪ ،‬ولِهذا كان أمرُها في حروبِ‬ ‫قُرْبَةً للهِ‬
‫يتميَّزُ كلٌّ بعشيرتهِ‪ ،‬حتى‬ ‫وجهادْمِهمَو َه ْم‬ ‫المسلمين َجَل‬
‫ا ‪ ،‬ولا يصيبُ غيرَهم عارُ‬ ‫يَمتازوا‬
‫هزيْمتِهم أو ضعفُ شكيمتِهم في المواجهة الجهاديَّة؛‬‫ِدِه‬ ‫ِج‬ ‫ِدِه‬ ‫ِب‬
‫وهذا ضربٌ من التنظيمِ الشعبيِّ والترتيبِ الوسيليِّ‬
‫لخدمةِ دعوة الإسلام ورفعِ رايته‪.‬‬
‫ًء‬
‫بنا على ما تقدَّم‪ ،‬فإنَّ الحرامَ في الدعوةِ‬
‫القومية‪ ،‬هو التفاخرُ والعصبية‪ ،‬وليس في الانتسابِ‬
‫إلى القومِ والعشيرة والقبيلةِ‪ ،‬بل هذا النسبُ‬
‫ومعرفتهُ يعدُّ من ضروراتِ الواقع لتحقيقِ أحكام‬
‫بين‬
‫ًا‬ ‫الشَّرعِ حين صلةِ الأرحام‪ .‬فيف قُ النابهُ‬
‫اعتبارِها مناط‬ ‫ِّر‬
‫الدعوةِ ًاإلى القومية لذاتِها‪ ،‬وبين ُأ‬
‫اجتماعيّ بسببِ التَّكاثرِ من ذكرٍ و نثى يُنَظَّمُ‬
‫بنظامِ الإسلام فينفِّذُ أحكامَهُ ويقويِّ شوكتَهُ َّز‬
‫في‬ ‫َع‬ ‫َّل‬
‫مجالات العملِ وميادين التطبيقِ‪ .‬بدليلِ أنَّ اللهَ‬ ‫َوَج‬
‫جعلَ أكرمَ الناسِ أتقاهُم‪ ،‬وجعلَ لكلِّ قومٍ‬
‫مناقبُ في مجالاتِ هذه التَّقوَى ويكفِي للباحث أن‬
‫يدرسَ مناقبَ الناسِ على عهدِ رَسُولِ اللهِ ‪ ‬ثم من‬
‫بعده في سيرةِ التاريخ ليعرفَ أنَّ لكلِّ قومٍ‬
‫مَنْقَبَةٌ أو مناقبُ تحسِنُها وترفعُ شأنَها أو‬
‫شأنِها‪ ،‬وفي ذلك عبرةٌ لمن‬ ‫تُسِيئُها وتحطُّ من ٌب‬
‫تَفَكَّرَ وله قلبٌ مني ‪ .‬وهذا ما وَسِعَهُ الحالُ‬
‫والمقام هنا واللهُ أعلمُ‪.‬‬
‫اْلَم ْبَح ُث (‪ :)16‬اإلْس َالُم َأْفَك ُّلاٌر َو َأْح َك اٌم ‪:‬‬
‫ُم ُك ُه َأْفَك ٌر‬ ‫َف َدٌة‬
‫ا ؛ حالَ كونِ الفكرة ما‬ ‫ا ‪ :‬الإسلا‬
‫يتوجَِّئهُ به الذهنُ من العلمِ تجاهَ المعلومِ من‬
‫(?) المقدمة لابن خلدون‪ :‬باب في أن الدعوة الدينية من غير‬ ‫‪1‬‬

‫عصبية لا تتم‪ :‬ص‪ :159‬طبعة دار البيان‪.‬‬


‫‪285‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫الواقع المحسوسِ‪ .‬والتَّفَكُّرُ فيه‪ ،‬جَوَلاَنُ هذا‬


‫التوجهِ بحسب العملية العقليةِ من رَبْطِ دلالة‬
‫النصوصِ الشرعية بالواقعِ مَنَاطِ نظر العقلِ‬
‫َقْبَل نوعينِ‪:‬‬ ‫وتفكُّرهِ‪ .‬والأفكار الإسلاميةُ ُب على‬
‫القو والعم ‪.‬‬ ‫الأوَّل‪ :‬أفكارُ معرفِة ما يج ُب‬
‫ِل‬ ‫ِل‬
‫والثانِي‪ :‬أفكارُ معرف ما يج في القو والعم ‪.‬‬
‫ِل‬ ‫ٌرِل‬ ‫َأْفَك‬ ‫ِة‬
‫أفكا تأخذُ حكمَ‬ ‫ِر َاْل ْقُه‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫من‬ ‫ويتعلَّقُ بالنوعينِ‬
‫) على ضربينِ‪،‬‬ ‫والأفكارُ العملية (‬ ‫ما تعلَّقت به‪َّ .‬ي‬
‫فعله ومقصدهِ فيه؛‬ ‫َضْرٌب‪ :‬لا يتعدَّى ةَ الإنسانِ من ِف‬
‫َضْرٌب‬
‫وهو العباداتُ‪ ،‬و ِن ‪ :‬يتعدَّى فعلَ الإنسان إلى غيرهِ؛‬
‫وهو المعاملاتُ‪ .‬ويتعلَّقُ بكِلاَ الضربينِ أفكارٌ في‬
‫الهيئة؛ والأخلاقِ؛ واللِّباس؛ والمأكلِ؛ والمشرب؛‬
‫والتوبة؛ والعقوبةِ‪ .‬فما يعالِجُ حاجات الإنسانِ‬
‫الإحساسَّد الغريزيِّ فيه والشعور الداخليِّ من‬ ‫ُع‬ ‫ومظاهرِ‬
‫َّد‬
‫معالَجات فقط‪ ،‬وهو من الفكرةِ؛ حال‬ ‫هذه الأفكار؛‬
‫كونهِ لا يتعدَّى فعلَ المرء إلى غيرهِ‪ ،‬لِهذا ع ت‬
‫كلُّ فكرةٍ لا تربطُ الإنسانَ بالإنسان معالجةً فكرية‬
‫لنفسيته وسلوكهِ؛ وأنَّها ليست من الطريقةِ‪ ،‬فأفكارُ‬
‫اللِّباس والمأكلِ والمشرب والتوبةِ والأخلاق‬
‫والعبادات أفكارُ معالجاتٍ للفكر والوجدانِ‪ ،‬فهي من‬
‫الفكرةِ‪.‬‬
‫أما الأفكارُ التي تربطُ الإنسانَ بالإنسان؛ فهي‬
‫الأفكارُ التي تَصْنَعُ العلاقاتِ وتقودُ الإنسانَ في‬
‫عيش الحياةِ بنمط معيَّن؛ فهي من الطريقةِ‪ ،‬حال‬
‫كونِها أفكار تنظِّمُ حياةَ الإنسان مع الإنسانِ بشكل‬
‫دائمٍ تنفيذيٍّ‪ ،‬فكلُّ ما يتعلَّقُ بتنفيذِ الفكرة‬
‫وتطبيقِها هو من الطريقة‪ ،‬لأنه أمرٌ جامع في تعارُفِ‬
‫الناس بعضهم بالبعض الآخرِ‪.‬‬
‫ُأْل َق‬
‫الضربِ الأول من أفكارِ الفقه‬ ‫بناء على هذا‬
‫ِح‬
‫بالفكرة بوصفه معالجات للحياةِ الفردية للمرء؛ تعالِجُ‬
‫الحالةَ الذهنية الفكرية والوجدانيةَ فحسب؛ وليس فيه‬
‫إظهارِ لكيفية تطبيقٌ جماعي كيانِيٌّ دائم‪ .‬لهذا كانتِ‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪286‬‬

‫الفكرةُ هي العقيدةُ والمعالجاتُ‪.‬‬


‫َّم‬
‫أ ا الطريقةُ‪ :‬فهي كلُّ فكرةٍ من النظام في شطرهِ‬
‫الذي يتعلَّقُ بكيفية تنفيذ أحكامِ الإسلام ومعالجاته‬
‫الجماعة صيرورةَ وحدةٍ‬
‫ُأ‬ ‫في الحياةِ‪ .‬فتجعلُ من حياةِ‬
‫اجتماعية أو كتلةٍ مجتمعية هي ال مة‪ .‬ويتأتَّى لها‬
‫ذلكَ في نسقِ علاقة تنفيذيةُمٍ لأفكار الإسلامِ وأحكامه‬
‫حياةَ الجماعةُِأ بكيان‬ ‫متجسِّدةً بالدولةِ‪ .‬وتن‬
‫ِّظ‬
‫الطائفةِ المؤمنة المعبِّرِ عن إرادة ال مة في‬
‫المحاسبةِ أو سجيَّتها بالطاعةِ‪ .‬فكلُّ فكرةٍ من‬
‫النظام‪ ،‬من شأنِها تطبيقُ أحكامِ الإسلام وتنفيذًاُ‬
‫أفكارهِ في الحياة هي من أفكارِ الطريقة‪ .‬فمثل‬
‫أحكامُ الوضوءِ والطَّهارة والحجِّ والبيوع والإجارةِ‬
‫والشركات والتعليمِ والعقوبات والخلافة هي من الفكرةِ‬
‫حال كونِها معالجاتٍ لسلوك الإنسان في الحياةِ‪ .‬أما‬
‫أفكارُ الحثِّ على الصلاةِ والمعاقبة على تركِها‪،‬‬
‫وإلزامِ الناس بلباسٍ مخصوص‪ ،‬والحثِّ على إشاعةِ‬
‫الأخلاق الفاضلة والمنعِ من إشاعة الفحشاءِ في‬
‫المجتمع فهي من الطريقةِ‪ .‬ومراقبةُ الأسواق‪ ،‬وإمضاءُ‬
‫العقودِ الصحيحة‪ ،‬والمحاسبةُ على العقود الفاسدةِ‪،‬‬
‫وردِّ الباطلةِ منها‪ ،‬والمعاقبةُ على الغشِّ‪،‬‬
‫والمحاسبةُ على الغَبْنِ فهو من الطريقةِ‪ .‬وتوليةُ‬
‫القضاءِ‪ ،‬وإقامةُ ُأ الحدود والعقوباتِ‪ ،‬وتنصيبُ‬
‫الخليفةِ‪ ،‬وتعيينُ ال مراء‪ ،‬والإعدادُ للجهاد‪ ،‬وتدريبُ‬
‫الجيوشِ‪ ،‬والأخذ بالشورى‪ ،‬وممارسةُ البيعة‪ ،‬فهي من‬
‫الطريقةِ‪ .‬وهكذا كلُّ فكرةٍ تتعلَّقُ ببيانِ كيفية‬
‫تنفيذِ أفكار الإسلامِ وتطبيقِ أحكامه‪ ،‬والمحافظة على‬
‫العقيدة وحملِ الدعوة له‪ ،‬هي من أفكارِ الطريقة‪.‬‬

‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ :)17‬م ْفُهوُم اْلُحِّر َّيِة ِفي اْلِفْك ِر اِإل ْس َالِمِّي ‪:‬‬
‫لم يستعملِ المسلمونَ لفظَ الحريةِ في عصر نَهضتهم‬
‫وريادتِهم‪ ،‬إلاَّ في مجال دلالتِها اللُّغويةِ‪،‬‬
‫‪287‬‬
‫ٌّر‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫ُف‬ ‫ُح‬ ‫َّي‬
‫خلا‬
‫َّلُحْكُم‬ ‫‪:‬‬ ‫اللغة؛‬
‫َيْج‬ ‫الشريعةِ لَها‪ .‬فيقالُ في‬ ‫ُة‬ ‫ْلَعْبرْفِ ُح‬ ‫وعُ‬
‫َتَتَم ْكُه‬ ‫ا َّشْي ؛ وال ْلُحنوعانِ‪ْ:‬لُح الأوَّلُ‪ :‬مَن لمَمْن عليه‬ ‫ُّر‬
‫ِر‬ ‫َّش‬ ‫ِّرَّذ‬ ‫ِد‬
‫الُّد ِء؛َّي نحو ا َّي ِبَنا ُّدِّرْل‪ْ ،‬ر والثَوَّانَِري‪َ :‬عَل لم ْلُمْقَتَنَي‬
‫ا‬ ‫ى ا‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫الصفاتُ ال ميمة‬
‫ذلكَ‪ ،‬من ِهغيرَّمِ ؛ وإلى هذاِت‬ ‫ال ْنَي ة‪ .‬والُعُبو ُةِم ُتضا ِح ِص‬
‫ُمَح‬
‫َعْبُدَّسُولَُن دٌ ِرٍّق‪ ‬بقولهِ‪[ :‬‬ ‫نا الر‬ ‫َس‬ ‫َعْبُد أشارَْرَهسيِدِّدَتُ‬ ‫المعنِوَى‬ ‫َت َس‬
‫ال ي ا ](‪ً)1‬ا لِهذا قيلَ‪:‬‬ ‫ال ؛‬
‫اشتقاق لمعناها من‬ ‫العربِ‪ِ :‬ع أشرافُهم ِّد ِر‬ ‫الحريةُ من ِّد ِم‬ ‫ِع َّد‬
‫َّد‬
‫شأنه؛‬ ‫الصعبِْشَتَّدمنَحُّرُهالأمرْسَتَحَّروتحمُّلِ‬ ‫َّر‬
‫واجتياز‬
‫ْلَقْتُل ْشَت‬ ‫ُّد‬ ‫ُظ‬ ‫الش َّرةِ ْسَتَح‬
‫فيقالُةُ‪ :‬ا َج َرُةالقي ‪ :‬ا ْن َحَر‪َ،‬ر وا َتْع ُض ا ‪ :‬ا ؛‬ ‫َح‬
‫ر فيها‪ .‬فكأن‬ ‫ا‬ ‫تسو‬ ‫وال ‪ :‬ال ا‬
‫ينالهُ إلا من‬ ‫صعبًاٌ لا‬ ‫أمرٌ ٍة‬ ‫الحريةَ في ِحهذا التشبيهِ‪ِ،‬م َّد‬
‫ًا‬ ‫ُع‬
‫توفرت لهُ فيه الأهلية‪ ،‬ف لَقب مميِّز لصاحبهِ‪،‬‬
‫َّم‬
‫بالعناية‪،‬‬ ‫مع أنه ًامن أصلِ فطرته‪ ،‬ولكنه‪ ،‬لأنه يتأتَّى‬ ‫َّد‬
‫َّم‬ ‫ُع‬
‫العربِ‪ :‬أشرافُهم؛ وذ‬ ‫َب‬ ‫من‬ ‫ُ‬ ‫الحرية‬
‫ُمَح‬ ‫‪:‬‬ ‫َ‬ ‫فقيل‬ ‫شرف‬
‫دٌ ‪ ‬طال الدُّنيا بِنَعْتِهِ‬ ‫سيِّدُنا الرَّسُولُ‬
‫إياه عبدَ الدرهمِ وعبدَ الدينارِ‪.‬‬
‫َّت‬
‫ُيْعَتَق‬ ‫ّرًا‬ ‫ْح ُر َج‬
‫من ر‬ ‫وال ي ‪ :‬عل الإنسان ح ‪ ،‬بأن‬
‫العبوديةِر واسترقاقِها‪ ،‬أي عِتْقِ المملوكِ‪ ،‬وله أحكامٌِّق‬
‫ِّ‪ُ ،‬مْؤوفيَن هذا المعنى قالَ‬ ‫الإسلامي‬ ‫الفقهِ‬ ‫في َّل‬ ‫مفصلة َّز‬
‫َرَقَب‬ ‫ُر‬ ‫َفَتْح‬ ‫َوَج‬ ‫َع‬
‫‪ ،)2(‬أو التحريرُ‬ ‫‪  :‬ي‬ ‫اللهُ‬
‫ٍة‬ ‫ِم‬
‫بِمعنى‪ :‬الإخلاصِ لله ر العالَمين بخلُوصِ العبادةِ‪،‬‬ ‫ٍة‬ ‫ِر‬
‫ِّب‬
‫َت َس‬
‫(?) الحديث عن أبِي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسولُ اللهِ ‪[ :‬‬ ‫‪1‬‬

‫َعْبُد ال يَنا َوَعْبُد ال ْرَه َوَعْبُد اْلَخ يَص ‪ْ :‬ن ُأْع َي َر َي َو ْن ِع‬
‫َعْب‬
‫ْنَتَكَسِم‪َ ،‬و َذا يَكِم َفلِةَا ِإاْنَتَعَش‪ِ.‬طَّرُطوَبِضى ِإ‬
‫َلْم ُيْعَطِّد َس َطِر‪َ ،‬ت َس َوا ِّد‬
‫َقَدَم ِلُه ٍد ْن‬ ‫ِإ ِشَأْشَع َرْأُسُه ُمْغَب‬ ‫َس‬ ‫َنا ِخ َفَر ِع‬
‫‪،‬‬ ‫ا‬
‫ٍة َّف َكِإَن‬ ‫؛‬ ‫‪،‬‬ ‫الل‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ِخٍذ ِبِع ِنْل َر َسِسِه َكِف َن ِب ِل ْل َرِهَس َوٍثْن َك َن‬ ‫َكآ َن‬
‫السَُّيَشاقَْع ا‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫‪،‬‬
‫ُيْؤَذْن َلُهِإ َو ْن ِفَشَفَع َلْم‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ي‬
‫ْسَتْأَذَن َلْم‬‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا ِف َق‬
‫ا‬ ‫ي‬
‫]‬ ‫ِة‬ ‫‪،‬‬ ‫ِة‬ ‫ِح‬ ‫ِف‬ ‫ا‬ ‫ِة‬ ‫ِح‬
‫ي السَّا ‪.‬‬
‫في الصحيح‪ :‬كتاب الجهاد ِإوالسير‪ :‬الحديث(‬ ‫البخاري ِإِن‬
‫ًا‬
‫ِة‬ ‫ِفرواه‬
‫‪ )2887‬ومختصر الحديث (‪ )2886‬وفي كتاب الرقائق‪ :‬الحديث‬
‫(‪ .)6435‬والترمذي في الجامع‪ :‬كتاب الزهد‪ :‬الحديث (‪.)2375‬‬
‫وابن ماجه في السنن‪ :‬الحديث (‪4135‬و‪.)4136‬‬
‫(?) النساء ‪.92 /‬‬ ‫‪2‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪288‬‬

‫ما‬ ‫فلا ينظرُ للدُّنيا لعينِها وقصدِ ذاتِها‪ ،‬وإنَّ‬


‫َنَذْرُت‬ ‫يسخِّرُها بِما َّر‬
‫تعالى‪َ :‬ت ‪ً‬ا‬
‫ُم‬ ‫ينالُ به الآخرةَ‪ ،‬قال‬
‫ًر‬ ‫َبْط ُمَح‬ ‫َلَك َم‬
‫ا‪)1(‬؛ فهي بِهذا المعنَى‪ :‬ع ق من‬ ‫ي‬ ‫ا ي‬
‫نيا‪ً ،‬اوهو شرفٌ يتأتَّى من الفقهِ بالإسلام‬ ‫الدُّ ِن‬
‫أمرِ ِف‬
‫ًا‬
‫إيْمان واحتساب ‪.‬‬
‫الفكرِ الإسلامي‬ ‫ذا‪ ،‬فليستِ ًاالحريةُ ًا في ُه‬ ‫وعلى هَ ًا‬
‫ًا‬
‫مفهُوم غامض ‪ ،‬أو مفهوم معاصر أخذَ المسلمونَ من‬
‫الغربيَّة وثقافتِها‪ .‬فهو في المعنَى‬ ‫آثارِ الحضارة ُق‬
‫الإسلاميِّ الانعتا من العبوديَّة لغيرِ الله بِمختلف‬
‫صُوَرِهَا وتوجيه العبوديةِ إلىالله وحده‪ ،‬وقمَّةُ هذا‬
‫الانعتاقِ الإخلاصُ لربِّ العالَمين بإخلاصِ العبادة‬
‫له وحدَهُ‪ .‬لِهذا أدركَ الواعونَ أنَّ العبوديةَ لغيرِ‬
‫الله هي الرُّكُونُ إلى الحياة الدُّنيا والطمَعِ‬
‫للعاجلة فيها وحُبِّها‪ ،‬وأدركَ الواعون أنَّ الحريةَ‬
‫الكائناتِ قاطبةً‪ ،‬لأنَّهم عرفوا‬ ‫َّز َّل‬
‫َّل‬ ‫َّز‬ ‫الانعتاقُ من ِرِّق َع َوَج‬
‫َوَجُ هذه المعرفةِ أن‬ ‫أنَّها مخلوقةٌ لله ٌد ‪ ،‬وقَعِمَّة‬
‫َّلُف ؛ ر َة العالَمين‪،‬‬ ‫يدركَ المرءُ أنه عب لله‬
‫ُمَحَِّمسَ المك ًاالحيا بالطاعاتِ‬
‫ِّب‬ ‫وقمَّةُ العبوديةِ أن يُمار‬
‫باتباع ًاسيِّدنا الرسُولِ دٍ ‪ ‬مخلِص في الاتِّباعِ‬
‫منعَتِق من كلِّ أم يربطهُ بالأرضِ غير الطاعة‪،‬‬
‫وقمَّةُ هذا الإخلاصِ ٍرأن تستوِي عندَهُ الأشياءُ فلا‬
‫المخاطرُ التي هي عندَ أهلِ الدُّنيا‬ ‫ُّد‬
‫ُتتتميَّزُ َرعنده َك‬
‫عَ مخاط ومهال ‪.‬‬
‫وعلى ما يبدُو؛ أنَّ مفهومَ الحريةِ غَدَا من‬
‫المفاهيمِ الغائبة عن أذهانِ المسلمين‪ .‬فاحتيجَ إلى‬
‫تذكيرِهم بحقيقة الحريًَّاة‪ ،‬من أنَّها فطرةٌ في‬
‫مظاهرِها الوجدانية ابتداء ‪ ،‬ثم إنَّها فكرةٌ ينالُها‬
‫من يجهَعََّزدُ َوَجَّلفي مسالكِ القُرْبَةِ وإدراكِ الصَِّملة‬
‫؛ فتجدُ خيارَ الناسِ في الجاهلية ن‬ ‫بالله‬
‫يهتَمُّ بِمعالِي الأُمورِ ويجهد في خصالِ الفطرة‬
‫السويَّة علىأساسٍ من الصدقِ والأمانة‪ ،‬والحرصِ‬
‫(?) آل عمران ‪.35 /‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪289‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫علىالصحيح من الأمرِ والوفاء والاستقامة وغيرِ ذلك من‬


‫الخصالِ الحميدة‪ .‬وعندما يصلُ الإسلامُ إليهم تجدُ‬
‫لينالَّلُوا شرفَ‬ ‫َّز‬
‫غالِبَ هؤلاء يعتنقونَ الإسلامَ َع َوَج‬
‫فيغدونَ‬
‫‪َ ،‬ي ُرُهْم‬ ‫الإسلامِ‪ ،‬ثم شرفَ العبوديَّة للهِ‬
‫ي‬ ‫الحديثِ [ ا‬ ‫الناس‪ ،‬لِهذاْس َاجاءَ َذ في‬ ‫من َّي‬
‫أشرافِ‬
‫ِف‬ ‫و ](‪ِ .)1‬خ‬ ‫ْا‬ ‫ُه‬ ‫َف‬ ‫ُرُهْم‬ ‫َي‬ ‫ْلَج‬
‫ا‬ ‫ي ال ل‬ ‫ا‬ ‫ا ا‬
‫ِق‬ ‫ِإ ِم ِإ‬ ‫ِف‬ ‫ِهِل ِة ِخ‬
‫ولقد استهوَتْ فكرةُ الحريَّة وِفًاْقَ المفهومِ‬
‫الغربِيِّ للحضارةِ الرأسماليَّة كثير من أبناءِ‬
‫المسلمين الذينَ وفَدُوا إلى بلادِ أوربَّا في‬
‫القَرنينِ الماضيَين؛ أي منذُ وِفَادَةِ رُفَاعَةَ‬
‫الطَّهْطَاوِيِّ (‪1873-1801‬م)‪ ،‬حين رافقَ إحدَى‬
‫البعثاتِ العلميَّة إلى باريس‪ ،‬في عهدِ الوالِي على‬
‫مصرَ محمَّد علي‪ ،‬وأقامَ فيها خمسَ سنوات من (‪-1826‬‬
‫‪1831‬م)‪ .‬فتكلَّمَ في مفهومِ الحرية‪ ،‬فقسَّمَها إلى‬
‫خمسةِ أقسامٍ؛ حريةٌ طبيعية؛ وحريةٌ سلوكيَّة؛ وحرية‬
‫دينيَّة؛ وحرية مدَنِية؛ وحرية سياسيَّة‪ ،‬ثم قالَ‪:‬‬
‫(فالحريةُ بِهذه المعانِي هي الوسيلةُ العظمَى لإسعادِ‬
‫أهالِي الممالكِ‪ ،‬فإذا كانت الحريةُ مبنيَّةً على‬
‫قوانين حسنةٍ عدليَّة كانت واسطةً عُظمًَاى في راحةِ‬
‫الأهالِي وإسعادِهم في بلادهم‪ ،‬وكانت سَبب في حبِّهم‬
‫َمْن‬
‫ُهْمْلَ يَا رَسُولَ اللهِ‬ ‫َأْكَرُمعن أبِي هريرةَ ‪ ‬قَالَ‪َ:‬أْتَققِي‬ ‫(?)‬ ‫‪1‬‬

‫ُّي‬
‫النَّاسِ ؟ قَالَ‪َ [ :‬فُيا ُسُف ]َن فَقَالُوا‪ُ :‬نلََنيْسَ عَنْ‬
‫الل‬ ‫الل اب‬ ‫هَذَا نَسْأَلُكَ؟ قَالَ‪ [ :‬و‬
‫ابُن َخ ي الل ] قَالُوا‪ :‬لَيْسَ عَِبنْ هَذِهَاَّن نَسْأِبِّيَلُكَ؟ِه‬
‫َس َمَع َن‬ ‫ِل ِل َفَعْن ِهَّجَمَع َّي ْلَعَر َتْسَأُل َن َت ُد َن‬
‫و ؟ ْس ِجَا و َذال َفا ُه ْا َّداِدَوَت ُد َن‬ ‫ُرُهْم‬
‫ِب‬ ‫اِدِن اَّشَي‬ ‫ُرُهْم [‬
‫َّن‬
‫قَيَالَ‪:‬‬
‫وَأ ‪ُ ،‬هْم َلُهو‬ ‫ا‬ ‫ي ال ل‬ ‫ا‬ ‫ي ال ا‬ ‫ا‬
‫ِج‬ ‫والإمرة)ِق ش‬ ‫الولاية ِم ِإ‬
‫ِإ‬ ‫ِخَخْيَر ال ِفا ي َهَذِهِلا ِةالِخ ْأ (أيِف‬
‫رواه البخاري ِنفي الصحيح‪ :‬كتاب أحاديث الأنبياء‪:‬‬ ‫َكَرا َيًة]‪ِ .‬س ِف‬
‫الحديث(‪ )3353‬وكتاب المناقب‪ :‬الحديث (‪ .)3493‬ومسلم في‬ ‫ِه‬
‫الصحيح‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ :‬الحديث (‪ )199/2526‬وفيه‬
‫زيادة [ وَتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فِي هَذَا‬
‫الأَمْرِ أَكْرَهُهُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ‪،‬‬
‫وَتَجِدُونَ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ‬
‫الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ‬
‫بِوَجْهٍ ]‪.‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪290‬‬

‫لأوطانِهم)‪ .‬وقال‪( :‬ولاًا يتصفُ الوطنيُّ بوصفِ ًاالحرية‬


‫إلا إذا كانَ مُنقاد لقانونِ الوطن ومعِين على‬
‫يذهب خيرُمَحَُّم الدينِ التونسيُّ عنه ببعيدٍ‪،‬‬
‫َّم‬
‫إجرائهِ)‪ .‬ولم ُمَح‬
‫د حُسين في كتابِ الإسلامُ‬ ‫د‬ ‫نقل قولَهُما‬
‫والحضارةُ الغربيَّة‪.‬‬
‫ويلاحظُ في تَبَنِّي هذا المفهومِ للحرية التأثيرُ‬
‫الواضح للثقافةِ الرأسماليَّة‪ ،‬وغفلةٌ تامَّة عن‬
‫مفهومِها في الثقافةِ الإسلامية وأصولِها الفكريَّة‬
‫والفقهية؛ ثم غيابُ المفهومِ المجتمعيِّ عنده‪ ،‬فلم‬
‫يحضُرْهُ أساسُ البناءِ للحضارة في دارِ الإسلام‪.‬‬
‫الحريةَ في حقيقتِها طبيعةٌ من طبائعِ البشر؛‬ ‫ًا‬ ‫بأنَّ‬
‫وليسَ مظهر ًامن مظاهرًاِ المجتمع‪ ،‬ولا يُمكن أن تكونَ‬
‫الحريةُ مظهر مجتمعيّ ‪ ،‬لأنَّها ظاهرةٌ فردية لشخصيةِ‬
‫الإنسان فحسب‪ .‬ثم كان ينبغِي أن يدركَ أنَّ المجتمعَ‬
‫الرأسمالِيَّ يقومُ علىأساسِ فكرة الإرادة الحرَّةِ‪،‬‬
‫وأنَّ المجتمعَ الإسلاميَّ يقومُ على أساسِ السِّيادة‬
‫َوَجَِّليِّ الأمر بالإسلامِ ما‬
‫للشرعِ ووجوب الطاعةَِعَّز لول‬
‫‪ ،‬ولا طاعةَ لمخلوقٍ في‬ ‫دامَ في طاعةِ الله‬
‫معصيةِ الخالق‪ .‬لِهذا لا تتأتَّى فكرةُ الحريةِ بالوصف‬
‫الجماعيِّ في المفهومِ الإسلامي؛ ولا بشكلٍ من‬
‫الأشكالِ؛ لأنَّ العلاقات أفعالٌ يجبُ أن تتقيَّدَ‬
‫بِمنظومةِ الإسلام الفقهيَّةِ‪ .‬وكان يجبُ التأكيدُ على‬
‫أنَّ الحريةَ طابعٌ فردي يكتنفُ تكوينَ الشخصيةِ في‬
‫الفكر الإسلاميِّ وعموميَّات الشريعةِ ثم طريقةُ‬
‫تربِيَتِها بالإسلامِ‪ ،‬والعنايةُ بتنَمِيَ ًاتها على‬
‫أساسِ العقيدة الإسلاميَّة‪ ،‬يجعلُ للمرءِ شرف تُهيمن‬
‫عليه مسالكُ المروءةِ والعدالة فيهِ‪.‬‬
‫َأ‬
‫ومنذُ ذلك الوقتِ‪ ،‬خذَ مفهومُ الحرية في إطارهِ‬
‫الغربِيِّ الرأسمالِيِّ يَتَمَلْمَلُ في أذهانِ أبناء‬
‫المسلمين‪ ،‬وتكتنفهُ الغشاوةُ‪ ،‬وكثيرٌ من الإبْهامِ‪،‬‬
‫لأنه في حقيقتهِ الرأسماليَّة يتناقضُ ومفاهيمَ‬
‫الأعماقِ في الحسِّ الإسلامي؛ فلا تكادُ تكشفُ‬
‫‪291‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫الدعواتُ الباطنية عن حقيقةِ ما تدعُو إليهِ‪.‬‬


‫ولما كان المفهومُ الرأسمالِيُّ للحريةِ يؤكد‬
‫بأنَّها شيء مُقَدَّسٌ لذاتهِ‪ ،‬وهي عندَهم حقُّ‬
‫تقريرِ المصير وإمكانيَّة التصرُّفِ وفقَ إرادةِ لا‬
‫تحدُّها الظروفُ الخارجية ويؤكدون أنَّ التصرفَ غيرُ‬
‫محدودٍ ومطلق؛ وهذا الإطلاقُ أساس المسؤوليةِ للإنسان‬
‫في عُرفِهم‪ ،‬بل هو الأساسُ الأخلاقيُّ في صناعةِ‬
‫الحياة الجماعية عندَهم‪ .‬ومع أنَّ هذا المفهومَ أوجدَ‬
‫ًا‬
‫نوع من التَّحَلُّلِ في تَماسُكِ علاقاتِ المجتمع‪،‬‬
‫بل الميوعةُ التامَّة‪ ،‬حتى غَدَا كثيرٌ من شعوبِ‬
‫أوربا لاَ تَقْوَى علىحمايةِ ذاتِها من أطماعِ دول‬
‫الرأسماليَّة الأُخرى‪ ،‬ولولا مخطَّطاتُ التوازنِ في‬
‫السياسة الدوليَّة‪ ،‬لابتلعَتْ دولُ الرأسماليةِ بعضَها‬
‫الآخر‪.‬‬
‫ولما نُقِلَ مفهومُ الحريةِ إلى بلاد المسلمين‬
‫وشاعَ في الرَّأي العامِّ بين المسلمين‪ ،‬وبخاصَّة‬
‫َّب‬
‫السياسية أو‬ ‫عندما اقترنَ بِمفهومِ نظامِ التعدديَّة‬
‫ًا‬
‫الديْمقراطية‪ ،‬وأصبحَ بعد الدعايَةِ له مح ب عند‬
‫غالبِ الناس‪ ،‬ووجدَ الآخرون خطورةَ هذا المفهومِ‪،‬‬
‫وربَّما انعكسَ ما وجدوهُ على تقريرِهم خطرَ مفهومِ‬
‫الحريَّة قالوا بحرمةِ استعمال كلمة (الحرية) و‬
‫(الديْمُقراطيةِ))(‪ .)1‬فربَّما بالغَ البعضُ ًاحين قال‬
‫على‬ ‫بحرمةِ استعمال كلمةِ الحريَّة قياس‬
‫الديْمقراطيَّة‪ ،‬فاستعمالُهما في حقيقتهِ من جهة بعضِ‬
‫المسلمين يَنُمُّ عن جهلٍ أو غفلة بدلالتِهما في‬
‫الواقعًِا‪ ،‬ودلالةُ الحريةِ في الشَّرعِ‪ .‬أما إذا كان‬
‫مُؤْمِن بِمفهومهما الغربِيِّ الرأسمالِيِّ فهو‬
‫لَيْسَ بِمُسْلِمٍ؛ لأنهُ اعتقدَ بغيرِ عقيدةِ الإسلام‬
‫كلمةِ‬
‫وبِما يناقِضُها‪ .‬ويلاحظُ أنَّ استعمالَ ًا‬
‫الحريَّة في الإسلامِ ليس بحرامٍ‪ ،‬لأن لَها واقع في‬
‫(?) ينظر‪ :‬الديْمقرَاطيَّة وحكم الإسلام فيها‪ :‬حرمة استعمال‬ ‫‪1‬‬

‫هاتين الكلمتين الديمقراطية والحرية ص‪.120‬‬


‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪292‬‬

‫عُرْفِ الإسلامِ ومفهومه‪ ،‬على غيرِ قصد ومرادِ‬


‫المفهوم الغربِيِّ الرأسمالِيِّ‪ .‬أما استعمالُ كلمةِ‬
‫الديْمُقراطية فهو غفلةٌ أو جَهْلٌ أو خُرَافةٌ أو‬
‫تحريفٌ للكَلِمِ عن مواضعهِ‪ ،‬أو أنَّهم أخطأُوا في‬
‫تعيينِ مفهومِها كما أخطأُوا في تعيينِ مفهومِ‬
‫المجتمع والحضارة وغيرِها من الحدودِ المعرفية‪ .‬فلهذا‬
‫كان يجبُ أن يلاحظَ الفرقُ في دلالةِ مفهوم الحريَّة‬
‫عند المسلمينَ ودلالَتِها عندَ الرأسماليِّين وغيرِهم‪،‬‬
‫وهو غيرُ استعمال كلمةِ الحرية عند المسلمينَ‪ ،‬ولقد‬
‫الفقه وعلم‬ ‫استعملَ المسلمون كلمةَ الحريةِ في علمِ ُحّرًا‬
‫أي ليس‬ ‫السُّلوكِ‪ ،‬فمنًا شُرُوطِ الخليفةِ أن يكون‬
‫بِعَبْدٍ‪ ،‬فضل عن الأحكامِ التفصيليَّة في حقِّ‬
‫الرَّقِيْقِ والأحرارِ وتفصيل واجباتِ وحقوق كلٍّ‬
‫َوَقْد‪.‬‬
‫الإسلاميِّ‬ ‫َّن‬
‫َس‬ ‫الفقهُِتُم‬
‫الموجودة في أبوابِ كُتَُمَتبِ ْسَتْعَب‬ ‫َّم‬
‫منهُما‬
‫َأْحَر عًُامَرَ ‪ ( :‬ى ا د ال ا‬ ‫المشهورُِتُهْمقولُ‬ ‫ومن‬
‫َوَلَدْتُهْم ُأ َه‬
‫ار )‪ .‬فليسَ كما تَوَهَّمَ البعضُ‬ ‫ا‬
‫وعدَّها من المصطلحِ الذي يحرمُ استعماله وقاسَهُ على‬
‫مصطلحِ الديْمُقراطيَّة‪ .‬بل يُنْظَرُ أمرُ الحريَّةِ‬
‫وواقعُها كما قالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ‪:‬‬
‫(الْحُرِّيَّةُ بِوَصْفِهَا صِفَةً فَرْدِيَّةً مِنْ‬
‫أَعْلَى الصِّفَاتِ وَأَرْوَعِهَا؛ وَهِيَ سَجِيَّةٌ‬
‫مِنَ السَّجَايَا بَلْ طَبِيْعَةٌ مِنْ طَبَْحَدائُِهَمعِ‬
‫ا اًا‪:‬‬ ‫ُأْخَرسَانُ فِيْهِ صِفَتَانِ‪:‬‬ ‫الإنْسَانِ‪ ،‬فَ َوالإنْ‬
‫ِإ‬
‫السِّيَادَةُ‪ .‬ال ى‪ :‬الإرَادَةُ‪ .‬وَبِهِما مَع‬
‫الإنْسَانِ؛ وَيَكْمَلًاُ‬ ‫شَخْصِيَّةُ‬ ‫تَكْتَمِلُ‬
‫الْمُتَمَيِّزُ؛ وَبِهِمَا مع‬ ‫الذَّاتِيُّ ًا‬ ‫وُجُودُهُ ًا‬
‫يَكُونُ حُرّ ًا لاَ عَبْد ؛ فَإذَا فًاُقِدَتِ الإرَادَةُ‬
‫كَانَ نَاقِص ؛ وَصَارَ مَشْلُول ؛ وَلَمْ يَعُدْ‬
‫لِوُجُودِهِ مَعْنَى‪ ،‬بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ‪:‬‬
‫بِأَنَّهُ إذَا فُقِدَتِ الإرَادَةُ فُقِدَتِ‬
‫السِّيَادَةُ‪ .‬أَمَّا ًا إذَا فُقِدَتِ السِّيَادَةُ‬
‫فَقَدْ صَارَ عَبْد يَسُودُهُ غَيْرُهُ؛ وَإنْ‬
‫كَانَتْ لَدَيْهِ إرَادَةٌ‪ ،‬فَالسِّيَادَةُ تُقَرِّرُ‬
‫‪293‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫دُونَ‬ ‫وَالتَّقْرِيْرُ‬ ‫تُنَفِّذُ‪.‬‬ ‫وَالإرَادَةُ‬


‫تَنْفِيْذٍ لاَ وُجُودَ لَهُ‪ ،‬وَالتَّنْفِيْذُ دُونَ‬
‫تَقْرِيْرٍ عُبُودِيَّةٌ‪ .‬وَمِنْ هُنَا كَانَتِ‬
‫السِّيَادَةُ هِيَ الَّتِي تَحْمِي الإنْسَانَ مِنَ‬
‫هَذِهِ‬ ‫مَظَاهِرِ‬ ‫وَمِنْ‬ ‫الْعُبُودِيَّةِ‪،‬‬
‫السِّيَادَةِ الْحُرِّيَّةُ فِي التَّصَرُّفَاتِ‪،‬‬
‫وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْحُرِّيَّةُ سَجِيَّةً مِنْ‬
‫مِنْ‬ ‫طَبِيْعَةً‬ ‫بَلْ‬ ‫الإنْسَانِ‬ ‫سَجَايَا‬
‫طَبَائِعِهِ) انتهى ‪ .‬ومن المقرَّرِ في الفقهِ‬
‫(‪)1‬‬

‫للشَّرعِ‪َ،‬د وأن التنفيذَ على‬‫الإسلاميِّ‪ ،‬أنَّ السيادةَ َّم‬


‫ًا ُأ‬ ‫ًا‬
‫العبدِ حاكم أو محكُوم ‪ ،‬ة أو ولةً‪ .‬فلهذا ليسَ‬ ‫ًا‬
‫صحيح ما ذهبَ إليه البعضُ من تحريمِ استعمال كلمةِ‬
‫الحريَّة؛ بِمعناها ًاالفكريِّ الذي تُقِرُّهُ الفطرةُ‬
‫لغةً والفكرةُ شرع ؛ ويجبُ تصحيحُ مفهومهم لَها‪.‬‬
‫فالحريةُ فطرةٌ بشريَّة عالَجَها الإسلامُ بنظامٍ من‬
‫الأحكامِ الشرعية‪ ،‬ومجموعةٍ ًامن الأفكارِ والمعتقداتِ‬
‫التي تجعلُ المسلمَ متقيِّد بِمنظومة الإسلامِ في‬
‫في‬
‫فالإنسانُ ًا‬
‫ًا‬ ‫الأفكارِ والأحكام والآراءِ والمعتقدات‪،‬‬
‫المفهومِ الإسلاميِّ كائنٌ مختار‪ ،‬وليسَ كائن مجبُور‬
‫تحكمهُ قوانين الطبيعةِ أو المجهول‪.‬‬
‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ :)18‬م ْفُهوُم الَّس َع اَدة‪:‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫َف َدٌة‬
‫ا ‪ :‬كثير ما تعرفُ الأشياءُ بأضدادِها‪ ،‬وكثير‬
‫ما تِئُعْرَفُ الأشياءُ عند فقدانِها‪ ،‬وعندما فقدَ‬
‫الناسُ الإسلامَ أو قبل أن يعرفوهُ‪ ،‬فإنَّهم كانوا في‬
‫تَيْهٍ وضَيَاعٍ فلسفيٍّ يتأوَّلُ الأمورَ ويبًاَرِّرُ‬
‫الأعمالَ‪ .‬ولقد كان مفهومُ السَّعادةِ مختلف بين‬
‫الناسِ في الفلسفاتِ القديْمَة والمعتقداتِ الدينيَّة‬
‫السالفة‪ ،‬وعنها انبثقَتْ آراءٌ وأفكار الفلسفاتِ‬
‫الحديثة مع تطويرٍ في بعضِ مجالات الرؤية‪ .‬لِهذا كانت‬
‫معرفةُ الفلسفة القديْمَة للسعادةِ تُرِيْنَا تَهافت‬
‫الفكرِ الفلسفيِّ القديم ورؤيتهِ السطحية للإنسان‬
‫(?) مفاهيم سياسية‪ :‬ص‪ 136-135‬طبعة سنة ‪1969‬م‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪294‬‬

‫وتَهافت الفكر ُو الوضعيِّ الحديث واضطرابِ رؤياهُ‬


‫ُتللإنسانِ‪ .‬ولقد جد في العالَم أربعةُ مذاهب فلسفيَّة‬
‫ن رُ مفاهيمَ السَّعادةِ للناس‪ .1 :‬المذهبُ‬
‫الرُّوَاقِيُّ ‪ .2‬المذهبُ الأَفِيْغُورسِيِّ أو‬ ‫ِّظ‬
‫الأبِيْقُورِي ‪ .3‬المذهبُ الْمُضْطَرِبُ ‪ .4‬المذهب‬
‫وللمعلوماتِ نقولُ‪:‬‬
‫َّلْفِيْقِيِّ‪َّ .‬ي‬ ‫الت َّن‬
‫ّي‬ ‫ّي‬ ‫َو‬ ‫ْلَمْذَهَب‬
‫ال ا ‪ ،‬هو مذهبٌ ماد ٌ حس ‪ ،‬يرَى أن‬ ‫إ ا‬
‫ُتْنَتُ‪،‬‬ ‫ِق‬ ‫ِّر‬
‫المعارفَ جميعُها حسيَّة‪ ،‬وأن السعادةَ هي الخير‬
‫وأنَّ الإنسانَ يبلغُ الخيرَ من طريقِ الفضيلة‪ ،‬و ج‬
‫العقلِ‪ ،‬ولهذا ليس‬
‫الفضيلةُ من الإرادةِ المعتمدة على ًا‬
‫لعملِ المجنون قيمةً ولو كان صَواب ‪ ،‬ومن الفضيلةِ‬
‫احتمالُ المشَاقِّ في سبيلِ الوصُولِ إلى الخيرِ‬
‫وتحقيقه‪ .‬وأن الناسَ جميعُهم سواء‪ :‬العبيدُ والأحرار‪،‬‬
‫واليونانيُّون والبرابرة‪ .‬أما الْحُرُّ الحقيقي فهو‬
‫الحكيمُ‪ :‬إنه غَنِيٌّ سعيدٌ‪ ،‬لأنه يحتملُ الْمَكَارِهَ‬
‫ويصبر عليها‪ .‬فالسعادةُ عندَهم العملُ‪.‬‬ ‫َّم‬
‫َأ ْيُغ ْر‬ ‫ْلَمْذَهُب‬ ‫َأ‬
‫ال و ي‪ :‬المثاليُّون؛ ومنهم الذين‬ ‫ا ا‬
‫شيء‬ ‫ِس‬ ‫ِف‬
‫ينكرُون الحقائقَ؛ فَيَرَوْنَ أن أساسَ كلًِّا َوَرَد‬
‫اللَّذَّةَ وآثامها‪ ،‬وأنَّ النفسَ ًاإذا عملت خير‬
‫عليها سرور وفرح وإذا عملَتْ شرّ وردَ عليها حزن‬
‫وتَرَحٌ‪ ،‬وإنَّما يكثرُ سرورُ كلِّ نفسٍ بالنفس‬
‫الأخرَى بالاجتماع بِها‪ .‬فتكونُ السعادةُ بأن تطلبًاَ‬
‫اللذَّة الحسيةًا بجميعِ أنواعِها‪ ،‬إذ لا خيرَ مُطلق‬
‫ولا شرَّ مطلق في اللَّذَّاتِ‪ ،‬وكلها أمورٌ نسبيَّة‪.‬‬
‫وإنَّما الشرُّ في كلِّ شيءٍ هو الانغماسُ فيه حتى‬
‫يعودَ الإسرافُ بالضدِّ على المتلذِّذِ‪ .‬فتحصلُ‬
‫السعادةُ بالموازنةِ بين اللذَّة والألَمِ‪ .‬فالسعادةُ‬
‫عندهم أن ينالَ الإنسانُ بأعمالهِ أعظمَ مقدار من‬
‫ِّ مقدارٍ من الألَمِ‪ .‬فيحتاجُ المرء‬ ‫اللذَّة مع أقل ًا‬
‫حتى يكون سَعيد دوام الاطمئنان‪ ،‬وعلى هذا يسعَْدَرى‬
‫المرءُ إلى أن يتمتَّعَ بالاطمئنانِ في الحياة قَ‬
‫الإمكانِ‪ ،‬فيجبُ عليه أن يتركَ الزَّواجَ والاشتغالَ‬
‫‪295‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫بأعمالِ الحكومة وبالأعمالِ الاجتماعية والجماعية؛‬


‫لأنَّها تزيدُ من التكاليفِ عليه وتقطعُ أسبابَ‬
‫َّش‬ ‫الاطمئنانِ له‪.‬‬
‫ْلُمْضَط‬ ‫ْلَمْذَه‬ ‫َمْذَه‬
‫وهم الذين‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬ ‫ال أو ا‬ ‫أما أصحابُ‬
‫دواعِي‬ ‫ِرِب‬ ‫ِب‬ ‫ِّك‬ ‫ِب‬
‫من ًا‬ ‫يقولونَ بعجزِهم عن إدراكِ ُيالحقائق؛ وقالوا‬
‫حُكم على‬ ‫الاطمئنانِ للنَّفسِ أنًا لا ًاصدِرَ الإنسانُ‬
‫خاصّ ‪.‬‬ ‫شيءٍ‪ ،‬ولا يُبْدِي رأي َّت‬
‫َفُه‬ ‫ْل ْي‬ ‫َأْصَح ُب ْلَمْذَه‬
‫مُ الذينَ ًاقالوا‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ا ا‬ ‫أما‬
‫ِقِّي‬ ‫ِف‬
‫الأفضلُ أن تأخذَ من كلِّ مذهبٍ ما تراهُ مناسب في‬ ‫ِب‬
‫حينهِ‪.‬‬
‫ولما جاءَتِ النصرانيةُ تطوَّرَ ٌّل الفكرُ الفلسفيُّ‬
‫بفلسفةِ النصرانية‪ ،‬بأن يذهبَ ك حسبَ فلسفتهِ‪،‬‬
‫وعندما يريدُ أن يتوبَ يأتِي إلى كرسيِّ الغفران‪،‬‬
‫لتأتًِاي بعد ذلك الفلسفاتُ الحديثة المتناقضةُ‬
‫تَمام ‪.‬وكلُّ هذه الفلسفات تعانِي المفاهيمَ المضطربة‬
‫الإنسانية والمبعدة لَها عن الاطمئنان‬ ‫ًا‬ ‫للنفسِ‬
‫فزادَتْها رَهَق ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫اْلَم ْبَح ُث (‪ :)19‬اْلِفْك ُر َو اْلَع ْقُل َو اإلْد َر اُك‪:‬‬


‫الفكرُ والعقل والإدراكُ بِمعنى واحد؛ من جهة‬
‫أنَّها عمليةٌ عقلية تجري في الذهنَِبْعُدلإنتاج المعانِي‬
‫التعاملَ معه‪.‬‬ ‫الدالَّة على واقعٍ؛ يستطيعُ المرء‬
‫وهنا تتداخلُ ثلاثةُ أمورٍ كلها مع بعضِها تؤدِّي إلى‬
‫تكامل تفكيرِ الإنسان واعتدال عقلهِ في التعاملِ مع‬
‫الواقع‪ ،‬وهذه الأمورُ الثلاثة ومتعلقاتِها هي العقلُ‬
‫والفكر والإدراك‪ ،‬فنعرِّفُها على النحوِ الآتِي‪:‬‬
‫ُك‬ ‫ُط‬ ‫ْلَعْقُل‬
‫ا ‪ :‬هو الرب والمس ‪ ،‬وربطُ الذهنِ الواقع‬
‫بالمعلومات عَقْلٌ‪ ،‬وإمساكهُ معانِيها عَقْلٌ‪،‬‬

‫(?) ينظر د‪ .‬عمر فروخ‪ :‬تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن‬ ‫‪1‬‬

‫خلدون‪ :‬ص‪ 122‬وما بعدها‪ :‬دار العلم للملايين‪ :‬الطبعة‬


‫الثانية ‪.1979‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪296‬‬

‫فالعقلُ‪ :‬هو تأليفُ معنى في الذهنِ بوساطة ربطِ‬


‫الواقع بالمعلومات‪ ،‬أي يحصلُ من ربطِ الواقع‬
‫من‬
‫بالمعلومات السابقةِ تأليفُ معنى في الذهنِ وينتجُ َر‬
‫التأليفُ حكمٍ على الواقع هو الفكرُ‪ ،‬لأن الفك‬ ‫ُم‬ ‫هذا‬
‫هو الحك على الواقعِ‪ .‬وتجري لتأليفِ المعنى وإنتاجِ‬
‫الحكم عملية عقليَّة ًاهي الإدراكُ؛ ولهذا يطلقُ على‬
‫الفكرِ والإدراك عقل ؛ حالَ كونه يتضمَّن هذه‬
‫الإجراءاتِ؛ وما يتكوَّن منها في ذهنِ الإنسان‪.‬‬
‫ويلاحظُ أنَّ حصولَ الربطِ؛ يجري لضرورةِ تقتضيها‬
‫المعلوماتِ ويتطلَّبُها الواقعُ‪ ،‬ولِهذا نَجِدُ مَن‬ ‫َّر‬
‫َع َف‬
‫العقلَ بأنه‪ :‬نقلُ الحسِّ بالواقعِ بوساطة‬
‫الحواسِّ إلى مراكزِ الإحساس ووجودِ معلومات سابقةٍ‬
‫تُفَسِّرُ هذا الإحساسَ بضرورةٍ تقتضِيها المعلومات‬
‫ويتطلَّبُها الواقعُ فيُي الربطِ بينهما فيصدرُ عن هذا‬
‫التفكيرِ تأليفُ معنى ع ر به عن الواقعِ ويحكمُ به‬
‫ِّب‬
‫والاقتصارٌ على التعريفِ الموجود‬ ‫عليهِ‪ .‬وهذا تفصيلٌ‬
‫في المتنِ يفي بالمطلوبِ‪.‬‬
‫ْل ْكُر‬
‫وا ‪ :‬هو ما يترتَّبُ في الذهنِ من معلومات تجاهَ‬
‫الواقعِفِ للوصول إلى معرفةِ حقائق الأشياءِ‪ ،‬والمعرفةُ‬
‫حكمٌ على الواقعِ‪ ،‬تنتظمُ باللغةِ وأساليبها حين‬
‫التعبيرِ عن المعنَى بالحكمِ المعرفِيِّ المتكوِّن‬
‫منه؛ فيتأتَّى الفكرُ بإدراك المعانِي حين تأليفِها‬
‫بعملية العقلِ التفكيريَّة لربطِ الواقع بالمعلوماتِ‪.‬‬
‫ْدَر ُك‬
‫وال ا ‪ :‬هو عمليةُ العقلِ لإنتاج الفكرِ‪ ،‬بسلوكِ‬
‫طريقة ِإ الرَّبْطِ لتأليفِ المعنى وإنتاجِ الحكم على‬
‫الواقعِ‪ ،‬ويتأتَّى ذلك في الذِّهنِ بأن يتمثَّلَ‬
‫الواقعُ المحسوس بالحكمِ عليه بإثباتٍ أو نفي‪ ،‬أو مِن‬
‫غيرِ الحكم عليه‪ .‬فالإدراكُ علىضربينِ؛ إدراكٌ‬
‫تصوريٌّ‪ ،‬وإدراكُ تصديقٍ؛ والإدراكُ التصوريُّ هو‬
‫تَمثل الواقعِ في الذهن من غيرِ حكمٍ عليه بإثبات أو‬
‫من‬‫ُّو‬
‫نفيٍ‪ ،‬فتجرِي العمليةُ العقلية بتأليفِ ًاالمعنى َر‬
‫غيرِ إنتاجِ فكرٍ‪ ،‬فيبقَى التفكيرُ سطحيّ أو تص‬
‫‪297‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫معلوما فحسب‪ .‬والإدراكُ التصديقيُّ هو تَمَثُّلُ‬


‫الواقعٍتِ في الذهن بالحكمِ عليه بإثباتٍ أو نفي‪،‬‬
‫فتجرِي العمليةُ العقلية بتأليفِ المعنى ثم إنتاجِ‬
‫الفكر‪ ،‬فيرتقِي المرءُ بعقليَّته بأسبابُيِ النهضة وهو‬
‫المرجوُّ‪ ،‬ومن التصديقِ التسليمُ لأنه بْتَنَى عليه‪.‬‬
‫أما الإدراكُ الشعوريُّ‪ ،‬فهو ما ظَهَرَ في الذهنِ من‬
‫حركة الشُّعورِ الداخليِّ تجاه الأشياء بكونِها‬
‫تُشْبِعُ أو لاَ تُشْبِعُ‪ ،‬فهو تَمييزٌ غريزيٌّ وليس‬
‫للفكرِ علاقةٌ به‪.‬‬
‫اْلَم ْبَح ُث (‪ :)20‬اْلِقَيُم‬
‫ومن دراسةِ واقع المنافع والمصالِح المؤثِّرةِ في‬
‫حياة الإنسانِ وفي فعلهِ السلوكيِّ الموصِلِ إلى‬
‫عورِ الدافع في اتجاهِ المنفعة والمصلحةِ‬ ‫إشباعِ الشُّ ُّد‬
‫فإنهُ لا يعت بالقيمةِ الواحدةِ في مجالات الحياة‬
‫على حسابِ القِيَمِ الأُخرى‪ ،‬إذ يحصلُ الاضطراب‬
‫حينَها إثْرَ مراعاةِ الإنسان لمكانتهِ ووجاهته حين‬
‫الفعلِ مع القصد‪ .‬لهذا تُنْظَرُ القيمةُ في إطارِ‬
‫الفكر وفهمِ المرء له من زاويةِ المبدأ الذي آمنَ به‪.‬‬
‫ومن دراستِها فيَّـ الواقع نجدُ أنَّ القيمَ أربعٌ هي‪:‬‬
‫ْل ْيَمُة ْلَم ُة‬
‫ا ا ي ‪ :‬وهي مقدارُ ما في الشيءِ من منفعة‬ ‫‪ .1‬ا‬
‫حسِّية ملموسةٍ تشبعُ الحاجاتِ العضويَّة وتسكنُ‬ ‫ِّد‬ ‫ِق‬
‫مظاهرَ الغرائزَِّي فيطمئنُّ لَها المرءُ بالإشباعِ‪.‬‬
‫ْنَس ُة‬ ‫ْل ْيَمُة‬
‫ال ا ‪ :‬وهي مقدارُ ما في الشَّيءِ من‬ ‫‪ .2‬ا‬
‫ِن‬
‫منفعةٍ شعوريَّة عاطفية تحرِّكُ الوجدانَ تجاه‬ ‫ِإ‬ ‫ِق‬
‫َّي‬ ‫الإنسانيةِ‪.‬‬
‫َأْخ َا ُة‬ ‫ْل ْيَمُة‬
‫ال ل ‪ :‬وهي مقدارُ ما في الفعلِ من‬ ‫‪ .3‬ا‬
‫ِق‬
‫هيئاتٍ وأشكال سلوكيَّة مخلصة وصادقةٍ أو خدَّاعة‬ ‫ِق‬
‫وكاذبةٍ‪ُّ .‬ر َّي‬
‫ْو ُة‬ ‫ْل ْيَمُة‬
‫‪ :‬وهي مقدارُ ما في الشيءِ أو‬ ‫ال‬ ‫‪ .4‬ا‬
‫بالله‬ ‫الصِّلة‬ ‫إدراكِ‬ ‫ِح‬
‫من‬ ‫َّل‬ ‫ِق‬
‫الفعلَوَجِ‬ ‫َّز‬
‫َع‬
‫حين ممارسةِ أسبابِ الحياة والنظرِ إليها‪.‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪298‬‬

‫وهي الأصلُ المعتمد لباقي القِيَمِ الثلاث في‬


‫المفهومِ الإسلاميِّ لأنَّ الأصلَ في دينِ الإسلام‬
‫أنه فكرٌ وعمل يوجِّهُ الإنسانُمَحََّم ويكيِّفُ سلوكَهُ‬
‫ٍ رَسُولِ اللهِ‬ ‫لعبادةِ ربِّه بِهدي سيِّدنا‬
‫ٍد‬ ‫‪.‬‬
‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ :)21‬الَّض َو اِبُط اْلِفْك ِر َّيُة ِللَّتَبِّني َو َض ُروَر اُتُه‪:‬‬
‫َم‬
‫لهُ أهليةٌ في أخذِ‬ ‫َد‬ ‫ن‬ ‫يتأتَّى التَّبَنِّي عندَ‬
‫تتوفرُ لديهِ‬
‫الفكرة بطريقتِها وأدلَّتها‪ ،‬أي عن ًامَن ًا‬
‫الفكرةِ تلقيّ فكري بحسبِها‪.‬‬ ‫َم‬ ‫القدرةُ على تلقِّي‬
‫وهذا لا يتأتَّى إلا عند ن له أهليةُ الاجتهادَِم؛ وهو‬
‫المجتهدُ الناشط في البحثِ والاستنباط؛ أو ن له‬
‫أهليَّةُ الاجتهادِ‪ ،‬ولا ينشطُ في استعمالِها‪ ،‬ويكتفِي‬
‫بأن يتلقَّى الفكرةَ من غيرهِ من المجتهدين‪ ،‬أو‬
‫الْمُتَّبِعُ‪ :‬وهو الَّذي عندَهُ بعضُ حصيلةٍ من‬
‫العلُومِ الشرعيَّة المعتبرةِ في الاجتهادِ‪ .‬فلهذا لا‬
‫يستطيعُ تبنِّي الأفكارِ والأحكام‪ ،‬وفَرْزِهَا من‬
‫الآراءِ المختلفة والمتباينَةِ؛ إلاَّ من كانت له‬
‫أهليةُ تحصيلِ شيء من العلومِ الشرعيَّة المعتبرة؛‬
‫مثلُ إتقانهِ لمقدِّمات في التفسيرِ وأصُولهِ؛ والفقهِ‬
‫وأصوله؛ والحديثِ وأصُولهِ‪ ،‬ولو بعضَ شيء منها‬
‫يؤهِّلهُ بإعطائهِ ًاكفاءة علميَّة في فهمِ المطلوب‬
‫الخبريِّ للفكرة فضل عن الإلمام الثقافِيِّ‪.‬‬
‫ًا‬ ‫َم‬
‫و ن ليس له أهليةٌ أو بعض أهلية‪ ،‬فليس صَالح‬
‫للتَّبَنِّي بنفسهِ‪ ،‬وإنَّما حالهُ حال العاميِّ‬
‫العاجزِ‪ ،‬فهو مقلِّدٌ عاميٌّ لا يقوَى علىحملِ‬
‫الرَّأي بأدلتهِ ومعانيه‪ ،‬فيكون غيرَ مؤهَّلٍ للأمرِ‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكرِ والدعوة للخير؛ وهذه حالُ‬
‫غالبِ الناسِ في زمَاننا هذا‪ ،‬بل حالُ كثيرٍ من‬
‫المتعلِّمين‪ ،‬إذ يغلبُ عليهم الجهلُ بِمسائل أوليَّة‬
‫في العلومِ الشرعية المعتبرةِ؛ وهي‪ :‬الفقهُ والتفسير‬
‫والحديثُ‪ .‬مما يفقِدُهم القدرةَ على تحمُّلِ‬
‫‪299‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫المسؤوليةِ الفكرية للرأي المتبنَّى‪ ،‬ولكنَّهم على‬


‫وجهِ التعميم يصلُحُون لتكثيرِ السَّوادِ حين َّص‬
‫رضاهَُاُةم‬ ‫َعَلْي‬ ‫َّث‬ ‫َّس‬
‫ل‬ ‫ال‬ ‫ْنُهْم لقوله‬
‫َوَمْن َر َي ِه َعَمَل َقْو‬ ‫صرتهِ‪،‬‬ ‫َقْو نَُفُهَو‬
‫َسَوهمَد في‬
‫مشاركتِ‬
‫َوبالعملَاُمِ أوَمْن َك َر‬
‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ال ل ‪[ :‬‬
‫ٍم‬ ‫ِض‬ ‫ِم‬ ‫َكاَن َش يكًا َمْن َع َلُه](‪ٍ .)1‬م‬
‫ِم‬ ‫ِل‬ ‫ِر‬
‫ثم لا بدَّ من اعتبارِ القدرة على العزمِ لتحصيل‬
‫الكفاءَةِ‪ ،‬والتي هي أحدُ أهدافِ هذا الكتابِ‬
‫ليتمكَّن المتعلِّمُ من تحصيلِ القدرة على العزمِ في‬
‫إيجاد الكفاءَة الذهنيَّة ليتأهَّلَ بِها تجاهَ تحصيلِ‬
‫بعض العلوم الشرعيَّة المعتبرة للتلَقِّي الفكريِّ‬
‫وصناعة الخطابِ الإسلاميِّ الواعي‪.‬‬
‫ُي‬
‫لِهذا ينبغِي على الدَّارسِ أن لا سارِعَ حين‬
‫قراءتهِ لهذا الكتابِ إلى الجدل والنِّقاشِ والحوارِ‬
‫مع الآخرين قبل ٌعالإذنِ له‪ ،‬مع أنَّ فيه ما يدفعهُ‬
‫داف في حقيقتهِ َّت ليمكِّنه من بناءِ‬ ‫لذلك؛ ولكنه ًا‬
‫شخصيَّته ابتداء بكفاءةِ الْمُ بِعِ (طالب العلمِ)‬
‫المتطلِّع إلى أهليةِ الاجتهاد‪ ،‬ثم لِما فيه من‬
‫حقائقِ واعية تتصاعَدُ به وترتقِي بذهنه‪ ،‬فَيَنْتَبِهُ‬
‫إلى تحويلِ هذه الطاقةِ الدافعة إلى القدرةِ الواعية‬
‫على تحصيلِ بعض العلُومِ الشرعية المعتبرةِ التي‬
‫تُؤَهِّلُهُ إلى حملِ الدعوة وصناعة خطابِها للأُمةِ؛‬
‫فاقتضَى التنويهَ؛ أي اقتضَى التنبيهَ إلى طريقةِ‬
‫التفكيرِ والفهم وإدراكِ الأسباب الموصِلَةِ إليها من‬
‫ًا‬
‫(?) عن عمرِو بن الحارثِ‪ :‬أنَّ رَجُل دَعَا عَبْدَاللهِ‬ ‫‪1‬‬

‫بْنَ مَسْعُودٍ ‪ ‬إلَى وًاَلِيْمَةٍ؛ فَلَمَّا جَاءَ‬


‫َمْن‪:‬‬
‫لَمِيَدْخُلَ سَمِعَ لَهْو ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ! فَقَالَ لَهُ‬
‫اللهِ‪ً‬ا‪َ [ :‬مْن‬
‫َقْوُولَكَ َن َش‬
‫َعَمَلرَس‬
‫إنِّيَوَمْنسََرمَِيعْتُ‬
‫الَ‪ْ:‬نُهْم‬ ‫َكَّثَر رََسَوجََدعْتَ‬
‫َقْو؟ قَ‬
‫َفُهَو‬
‫يك‬ ‫ا‬ ‫‪،‬‬ ‫َعِل َلُه ا‬
‫عنه ابن ِرحجر ِل‬ ‫المسند وحكاه ٍم‬‫ِض‬ ‫يعلى في‬ ‫]‪ .‬رواه ٍمأبو ِم‬
‫العسقلانيًا في المطالب العالية‪ :‬باب الرخصة في الرجوع لمن‬ ‫ِم‬
‫رأى منكر ‪ :‬الحديث (‪ )1605‬وإسناده منقطع‪ .‬والزيلعي في نصب‬
‫الراية‪ :‬كتاب الجنايات‪ :‬ج ‪ 4‬صًا‪ 346‬وقال‪ :‬رواه ابن المبارك‬
‫في كتاب الزهد والرقائق موقوف على أبِي ذَرٍّ ‪.‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪300‬‬

‫أوَّلياتِ العلومِ الشَّرعيةِ في نفسه‪ ،‬وإيجادها في‬


‫المتلقِّي منه قبلَ كلِّ شيءٍ‪.‬‬
‫َّو‬ ‫ُي‬
‫إيجادِ‬ ‫ثم مما ينبغي أن عْلَمَ أنَّ طريقةَ‬
‫القدرةِ الواعية يحتاجُ المكلَّفُ فيها إلى ما يتك نُ‬
‫لديهِ بعد قراءتهِ لسِيْرَةِ سَيِّدِنَا الرَّسُولِ‬ ‫َّم‬
‫ُمَح‬
‫ت َكْتِيْلِ‬ ‫في‬ ‫ًا‬ ‫‪‬‬ ‫ٍ‬ ‫د‬
‫الصَّحابة ‪ ‬جميع ‪ ،‬لهذا كان لا بدَّ من التأهيلِ‬
‫الشرعيِّ للتَّبَنِّي قبلَ ذلك‪ ،‬أي إيجادِ بعض كفاءة‬
‫ثقافيَّة للعلومِ الشرعية‪ ،‬ولا يكفِي إدراكُ موضوعِ‬
‫من تحصيلِ‬ ‫التَّبَنِّي فكرةً للتأهيلِ‪ ،‬وإنَّما لا بد َّم‬
‫َل‬
‫المعتبرة ُه في الاجتهادِ‪ ،‬وقد حَ لَها‬ ‫بعضِ العلوم َر َمُه‬
‫الل في هذا الكتابِ وهو ما يعرفُ‬ ‫الْمُصَنِّفُ‬
‫ُّسَّن‬
‫بحالِ الْمُسْتَدِلِّ في علمِ أصُولِ الفقهِ أو حال‬ ‫ِح‬
‫المكلَّف في أصُولِ ال ة وعلمِ السُّلوكِ‪.‬‬
‫ثم يلاحظُ‪ :‬أن التَّبَنًاِّي غيرُ التقليدِ‪ ،‬لأن‬
‫دائم ‪ ،‬وقد تقدَّمَ التنويهُ‬ ‫التقليدَ ظاهرةٌ فرديَّة َفَيْشَمُل‬
‫الفردَ والجماعةَ والأمة‬ ‫إليها‪ .‬أما التَّبَنِّي‪،‬‬
‫والدولةَ؛ ثم إنَّهُ يجرِي في الذِّهنِ على سبيلِ‬ ‫ْقَن‬
‫ال ا وليس على سبيلِ معرفة الدَّليلِ فحسب‪ ،‬وليسَ‬
‫بطريقةِعِ التَّسليمِ لرأيِ الشَّيخ أو العالِم في‬ ‫ِإ‬
‫المسألةِ من غيرِ طلب الدليل‪ ،‬لهذا لا يحتاجُ‬
‫المجتهدُ أن يوصِلَ ما استنبطَهُ إلى المقلِّدِ على‬
‫العلماء‬
‫بين ْمُتْم ْنُه‬ ‫سبيل الإقناعِ‪ ،‬لأنهُّد أمرٌ ربَّما يجرِي َع‬
‫رسولَلِ َعالله ‪ [ ‬ما ِل َلَعِمَمُه‬ ‫حديثُ‬
‫َفُر ُه‬ ‫وفيه ْلُتْم‬
‫خاصُلَّة‪َ ،‬وَم َج‬ ‫َفُق‬
‫َيْسَتْن ُط َنُه ْنُهْمو ى ا ] ولقوله تعالى‪:‬‬ ‫َّلو َنوا ا‬
‫أمرٌ‬‫‪ِ.)1(‬إ أماِلِمِهالتَّبَنِّي فإنه ِل‬ ‫وِه‬ ‫ا ي‬
‫لازم للعملِ من جهةِ القائمين على الأمرِ‪ ،‬بأفرادِهم‬ ‫ِم‬ ‫ِب‬ ‫ِذ‬
‫أو جماعاتِهم‪ ،‬وهو يَتَأَتَّى بالإقناعِ بطريقةِ‬
‫تحويلِ الفكرة بأدلَّتها ودلالاتِها وطرائقها إلى قناعةٍ‬
‫في ذهنِ المتلقِّي بِمنهجيَّة فكرية تلزمهُ للعملِ‪،‬‬
‫فتنتقلُ بعد هذا التَّحَوُّلِ الفكريِّ للرأيِ أو‬

‫(?) النساء ‪.83 /‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪301‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫المعلومات أو الأفكارِ في الذهن إلى صفةِ مفاهيم‬


‫ومقاييس‪ .‬ولِهذا كان التَّبَنِّي غيرَ التقليدِ؛ ولكن‬ ‫ُه‬
‫أمر ربَّما يتداخلُ في الحوارِ والنقاش بين الناسِ‪،‬‬
‫أو في المحاسَبةِ بين الأمَّةِ والحاكمِ‪ ،‬أو بين‬
‫الطوائفِ المؤمنة‪ .‬فَيَنْتَبِهُ المتعلِّمُ حين‬
‫التَّبَنِّي إلى الأسُسِ الفكرية والأصُولِ الفقهيَّة‬
‫المعتبرة فيه‪ ،‬ولا يَلْتَفِتُ إلى ذلكَ في التقليدِ‬ ‫ًا‬
‫غالب ‪ ،‬وإنَّما يرجعُ في التقليدِ إلى عالِمه فحسب‪،‬‬
‫وهذه الانتباهةُ ضروريةٌ حتى لا يقَعُوا في دوَّامةِ‬
‫الجدل من غيرِ طائل مرام مطلوبِ‪.‬‬
‫كما يلاحظُ في التَّبَنِّي أنه لازمٌ لكلِّ عملٍ‪،‬‬
‫وليسًا لكلِّ أم أو فك مُلاح في الواقعِ‪ ،‬لأنَّ‬
‫الشارعُ معتبرةً‪ ،‬وكثيرٌ‬ ‫كثير من الأمورٍرِ لا يعدٍرُّهاُّد ٍظ‬
‫ُيَرُِّدها‪ ،‬وكما قيلَ‪ :‬إنَّ‬ ‫ُيْعَتُّد لا يعت ب‬ ‫من الآراءِ والأفكار‬
‫عليهِ‪ .‬فيلاحظُ أن‬ ‫به لا‬ ‫الرأيَ الذي لا‬
‫ضرورةَ التَّبَنِّي هي لأمرٍ عمليٍّ في حياةِ الفردِ‬
‫لسلامة إسلامهِ وسلامة أعماله بقصدِ العبادة‪ ،‬أو‬
‫لأمرٍ جامع في حياةِ الأمة وجماعة المسلمين؛ أو أمرٍ‬
‫لازم لهما على مستوَى الفكرةِ والطريقة‪.‬‬
‫ويلاحظُ أن الضرورةَ الشرعية والواقعيةَ تلزمُ من‬
‫إدراكِ واقعِ التَّبَنِّي ومفهومه مراعاةَ الأسُسِ‬
‫الفكرية والأصُولِ الفقهية والقضايَا الواقعيَّة؛ وهي‬
‫للتفصيلِ وزيادة الإيضاحِ كما يأتِي‪:‬‬
‫َأَّو ًال ‪َّ:‬ت َالَّضُروَر ُة الَّش ْر ِع َّيُة ِلَتَبِّني اَألْح َك اَّنِم َو اَألْفَك اِر ‪َّ :‬ت‬
‫َخْذُتُه‬ ‫ًا‬ ‫َتَب ْيُت‬ ‫َأْخُذ‬ ‫َال َب ي في َّن‬
‫) فُلان ‪ ،‬ا‬ ‫اللغة‪َّ :‬تالَخَذُه ‪ ،‬وْبَن (‬ ‫َتَب ُه‬ ‫ًا‬
‫ا ا‪ .‬أماًا ُيفي الاصطلاحِ؛‬ ‫ا‪ :‬ا‬ ‫ابن ؛ ِّنأو‬
‫فيطلقُ على أخذِ الرَّأيِ بوصفهِ فكر ع رُ عن وجهةِ‬
‫الإلتزام المعبِّر‬ ‫ِّب‬ ‫نظر معيَّنة في المسألةِ على سبيلِ‬
‫عن قناعةِ المرء بالرَّأي الذي تحمَّلتهُ وجهةُ‬
‫النظرِ هذه‪ .‬فيتأتَّى لديه من ذلكَ موقفٌ تجاهَ‬
‫والمسائلِ‪.‬‬‫ُّد‬ ‫القضايا‬
‫ويُمكن ح مفهوم التَّبَنِّي من هذا الوجهِ بتعريف‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫َّر‬ ‫‪302‬‬
‫ْك ًا‬ ‫ْأ َّي َوْص‬ ‫َأْخُذ‬
‫َقَن َعر‬ ‫ال‬ ‫المراد؛ َأ بأنه‪:‬‬
‫ْلَمْطُل َب ْلَمْع‬ ‫المعنى َّيْلُمْش َلَة‬
‫يجمعُجُ ْلَو َع‬ ‫ُيَع‬
‫ا‬ ‫ِف‬ ‫ِفِه‬ ‫ِب‬ ‫ِي‬
‫َعَل َس و ا ْل َز ي‬ ‫ا‬ ‫ُّب‬ ‫َّت‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫َع‬ ‫َقْصِل ْلَعَم ِق َو‬
‫ِكال ِو ى ي ال ِرِف ا ‪ِ.‬ف ِهأي ِبسواءٍةً‬ ‫ا‬
‫ِبكانِد الرأيُ فكرَ معتقدٍ ودين‪ ،‬أو فكرَ فقهٍ من‬
‫ِم‬ ‫ِت‬ ‫ِإ‬ ‫ِل‬ ‫ِب‬ ‫ِد‬ ‫ِة‬ ‫ِبِن‬ ‫ِل‬
‫الأحكامِ الشرعية يفيدُ العملَ والتنفيذ‪.‬‬
‫ومثالهُ في الأوَّل‪ :‬فكرةُ لا إلهَ إلاَّ اللهِ‪،‬‬
‫ورسالته إلى‬ ‫ُش‬ ‫وأنَّ القُرْآنَ كتابُ اللهِ وكلامه‬
‫ُشالناسِ‪ ،‬فهذه أفكارُ عقيدةٌ عند المسلمِ و عَبٌ من‬
‫عَبِ الإيْمانِ عند المؤمنِ خاصَّة‪ .‬وكذا فكرةُ فصلِ‬
‫الدِّينِ عن الحياةِ‪ ،‬وأنَّ العقلَ أساسُ التشريعِ‪،‬‬
‫وأن المنفعةَ مقياسٌ للأعمالِ وأصلٌ للمصالحِ‪ ،‬فهذهِ‬
‫أفكارُ عقيدةٍ عند العلمانِيِّ وقناعاتٌ خاصَّة‬
‫بالحضارةِ الغربية والمؤمنين بِها‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أي فكرُ التشريعِ والأحكام‬ ‫ًا‬ ‫ومثالُ‬
‫الشرعية‪ ،‬فمثل فكرةُ أنَّ اللمسَ ينقضُ الوضوءَ في‬
‫رأي مجتهدٍ؛ وعند آخر أنَّ اللمسَ لا ينقضُ الوضوءَ‪،‬‬
‫فكلُّ واحدٍ منهما أخذَ الرأيَ على أنهُ حكمٌ شرعي في‬
‫حقِّه وكذا مقلِّدهُ‪ ،‬بِما توفرَ لديه من الأدلَّة‬
‫المعتبرةِ وعجزَ عن المزيدِ‪ ،‬فأفادهُ الجهد في إيجادِ‬
‫القناعةَّي فالتزمَ بِما آلَ إليه اجتهادهُ‪ .‬بقصدِ العلم‬
‫به وبن ة التعبُّدِ‪.‬‬
‫ًء‬
‫بنا على هذا‪ ،‬فإنه تتأتَّى الضرورةُ الشرعية في‬
‫بحثِ التَّبَنِّي وإدراكهِ والوعي عليه‪ ،‬من الحتميَّة‬
‫العمليةِ التي يفرضُها الإيْمانُ بالإسلامِ‪ ،‬بقصدِ أنه‬
‫دينٌ نَتَعَبَّدُ اللهَ به في علمِنا وعملنا‪ ،‬وفي‬
‫تفكيرِنا وتنفيذِنا‪ ،‬ولأنه كماَّي تقدَّمَ أن التَّبَنِّي‬
‫أخذَ الرأي بقصدِ العمل وبن ة التعبُّدِ؛ وموضوعهُ‬
‫الفكرُ والمعتقد‪ ،‬مما يُمَيِّزُ إسلامَ المرءِ عن‬
‫الكفَّارِ‪ ،‬أو موضوعَهُ الأحكام الشرعية؛ بِما يضبطُ‬
‫سلوكَ الفردِ في نسيجِ علاقات الجماعةِ على مستوَى‬
‫الفكرِ والشُّعور والنظامِ؛ أي على مستوَى الرَّأي‬
‫العامِّ للجماعةِ والعُرْفِ العامِّ في المجتمعِ‪.‬‬
‫‪303‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫َثاِنيًا ‪َ :‬الَّضُروَر ُة اْلَو اِقِع َّيُة ِلَتَبِّني اَألْح َك اِم َو اَألْفَك اِر ‪:‬‬
‫أما الضرورةُ الواقعية لبحثِ التَّبَنِّي‪ ،‬وهي‬
‫الضرورةُ التي يحتِّمُها منهجُ العقلِ عند العقلاءِ‪،‬‬
‫أن ما مِن إنسانٍ إلا وعندَهُ حاجاتٌ تفرضُ حركةَ‬
‫وجدانهِ بِمشاعر تجاه الواقعِ المحسوس‪ ،‬فتنشأُ روابطُ‬
‫بين الناسِ لإشباع دوافع حاجاتِهم‪ ،‬فتهيمنُ المنفعةُ‬
‫والمصلحة على اعتباراتِهم الوجدانيَّة‪ ،‬بِما في‬
‫الشَّيء من مقدارٍ يؤدِّي إلى إشباعِ دوافعهم‬
‫الوجدانيَّة هذه‪ ،‬فإن تركُوها لهذه الدوافعِ اضطربت‬
‫حياتُهم‪ ،‬وإذا فكَّرُوا فيها وانتظَمُوا بنظامٍ من‬
‫عقولِهم سادَهُم الفكرُ المعيَّن والرأيُ الْمُبْتَنَى‬
‫عليهِ وَالْمُنْبَثِقُ عنهُ‪ .‬وهذه السيادةُ للرأي‬
‫بحدِّ ذاتِها هي فكرٌ مُتَبَنَّى عندَ غالبِهم أو في‬
‫عُرفِهم العام ورأيهم العام‪ .‬ويع رُ العُرْفُ العامُّ‬
‫والرأيُ العام عن قناعاتِهم ِّبفي الفكرِ والمعتقد‬
‫والدِّينِ‪ .‬لِهذا كان التَّبَنِّي للرأيِ على مستوَى‬
‫الفردِ أو المجتمع حتميَّة واقعية وضرورة عقليَّة‬
‫بدهية‪.‬‬
‫أما الناحيةُ الواقعية لِلتَّبَنِّي علىمستوَى‬
‫الفكرةِ الإسلامية وطريقتها‪ ،‬فتتأتَّى برابطةِ الإطار‬
‫العامِّ للفكر والمعتقدِ والفقه‪ ،‬أي أنَّ مفهومَ‬
‫التَّبَنِّي يك نُ النسقَ الفكريَّ الحارسَ لقناعاتِ‬
‫الرأي العامِّ ِّوالإسلامي على مستوَى الفردِ والجماعة‬
‫والطائفة والدولة‪ ،‬فيأتِي من التَّبَنِّي السلامةُ‬
‫الأمنية والحصانَةُ الذاتية على كافَّة المستوياتِ‬
‫لحماية العقيدة والمحافظةِ على الإسلام في حياةِ‬
‫الفرد والجماعةِ والمجتمع‪ .‬ثم تنشيطُ فاعليَّة الدعوةِ‬
‫بالتبليغ والجهادِ‪ ،‬والنصيحةِ والمحاسبة‪ .‬سواءٌ في‬
‫الرَّأي العامِّ المحضِ أو في العُرْفِ العامِّ في‬
‫المجتمعِ؛ أي على مستوَى المشاعرِ الظاهرة في أعراف‬
‫الجماعةِ والأفكار والمفاهيمِ والنظام‪ .‬ثم إن اتضاحَ‬
‫مفهومَ التَّبَنِّي يضبطُ نسقَ علاقاتِ الناس بضبطِ‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪304‬‬

‫لوازم الفكرِ وطريقة التفكيرِ وربط الناحية الفكريَّة‬


‫بإدراك الصِّلةِ بالله َّي لِما فيه من قصدِ العملِ‬
‫بالأحكام الشرعيَّة ون ة التعبُّدِ‪ ،‬وبِما يصلِحُ‬
‫المشاعرَ ويراقِبُ ًا النظامَ بسجيَّة‪ .‬فالحرصُ على‬
‫التَّبَنِّي واقعيّ يصلِحُ الفكرَ المؤثِّرَ في‬
‫الرأيِ العامِّ للجماعة بِما يحملهُ من صفةِ‬
‫الإيْمانِ بالأحكام والمعتقدات والأفهامِ؛ ويؤثِّرُ‬
‫ذلك في العُرْفِ العامِّ من جهةِ إصلاح المشاعرِ‬
‫الفاسدة أو تغيِيرها وربطِ الناحيةِ الفكريَّة‬
‫والحراسةِ الواعيَةِ لتطبيقِ النظامِ‬
‫ًا‬ ‫بالناحية الروحية‬
‫فبِالتَّبَنِّي واقعيّ تَنْشَطُ الأمةُ بالنصيحةِ‬
‫والمحاسبة‪.‬‬
‫َثاِلثًا ‪َ :‬الَّضُروَر ُة اْلَع َم ِلَّيُة ِلَتَبِّني اَألْح َك اِم َو اَألْفَك اِر ‪:‬‬
‫ًا‬
‫يرتبطُ مفهوم التَّبَنِّي عمليّ بواقعِ تكوينِ‬
‫الرَّأي عندَ الناسِ‪ ،‬فتجدُ كلَّ إنسانٍ يحرصُ على‬
‫حتى الإنسانُ الذيًا لا‬ ‫قناعاتهِ مهما كانت‪ ،‬بل ًا‬
‫يَمتلِكُ من العلمِ إلا قليل ‪ ،‬ولا تجدهُ واعي مع‬
‫ذلكَ تجده يحرصُ على قناعاتهِ‪ ،‬ويريدُ أن يُلْزِمَ‬
‫بِها أو يحدِّثَ بِها أو يشِيعَها عندَ غيرهِ لالتماس‬
‫الفردِ الأعذارَ لنفسه في ًاأعمالهِ ًاأو لتبرير أخطائه‪.‬‬
‫ولهذا كان التَّبَنِّي أمر حاصِل بوعيِ الناس له‬
‫وعلى لوازمهِ أو بغفلتهم‪ .‬ومن هنا تنشأُ بين الناس‬
‫علاقاتٌ فكرية منسجمة ومحترمَةٌ‪ .‬أو تأخذُ طابعَ‬
‫المنازعة التي تكتنِفُها الخصوماتُ والمشادَّات‬
‫الجدليةُ من غيرِ علمٍ‪.‬‬
‫وهذا الجدلُ الفكري أو ذا الطابعِ السَّفسَطائيِّ‪،‬‬
‫يؤثرُ في طبيعةِ علاقات الناس‪ ،‬من حيثيَّات‬
‫المسؤوليةِ المجتمعية أو من حيثيَّات المسؤوليةِ‬
‫الفكريَّة والعقيدية والروحية‪ .‬مما يؤثِّرُ في صناعةِ‬
‫الرَّأي العامِّ في الجماعةِ وصناعة العُرْفِ العامِّ‬
‫في المجتمعِ‪ .‬ويلاحظُ أنَّ الفكرةَ هي الأساسُ‬
‫‪305‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫الموضوعيُّ في هذه الصناعةِ‪.‬‬


‫ولقد عالَجَ الإسلامُ الإجراءَ العمليَّ في صناعةِ‬
‫العلاقات في المجتمعِ‪ ،‬وتنميَةَ الشعورِ الجماعيِّ‬
‫والإحساسَ المسؤول بين الناسِ‪ ،‬بطريقةِ تَبَنِّي‬
‫الفكرِ المعيَّن المك ن للرأيِ العامِّ والمؤثِّرِ في‬
‫أعرافِ الأمَّة وشعورِّوِها المجتمعيِّ‪ ،‬وجعلَ ظهورَ هذه‬
‫الطريقةِ يتجسَّدُ بالنصيحةِ والمحاسبة؛ في الإطارِ‬
‫العامِّ لنِّظامِ الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ‪،‬‬
‫أو الدعوةِ إلى الخير؛ الدعوة إلى خيرٍ غائبٍ عن‬
‫أذهان الناس‪ ،‬والأمرِ بِمعروف ظهرَ تَرْكُهُ وهو‬
‫واجبٌ‪ ،‬ونَهيٌ عن منكرٍ ظهرَ فعلهُ وهو حرامٌ‪.‬‬
‫ويلاحظُ هذا وعلى كافَّة المستوياتِ الاجتماعية بين‬
‫الأفرادِ في حياتِهم الخاصَّة والعامة‪ ،‬أي على مستوَى‬
‫الجماعةِ في الأمة والطوائفِ المؤمنة أو على مستوَى‬
‫الدولةِ والأجهزة التنفيذيَّة لَها‪.‬‬
‫َر اِبعًا ‪َ :‬ح ْتِم َّيُة الَّتَبِّني َو ُلُز وُم ُه ‪:‬‬
‫ولهذا تحتِّمُ فكرةُ التَّبَنِّي لوازمَ تطبيقِ‬
‫أحكامِ الإسلام وأفكارهِ ومعتقداته‪ ،‬من جهةِ الفرد في‬
‫علاقات الخاصَّة‪ ،‬ومن جهةِ الحكَّامِ والأُمَراءِ في‬
‫علاقاتِهِ المجتمع العامَّة‪ .‬وطريقةُ التَّبَنًِّاي‬
‫الفكريِّ مع حتميَّتها الروحيةِ‪ ،‬فإنَّها تظهرُ عملي‬
‫بنهجِ نظام الإسلامِ طريقةً في العيشِ بالسجيَّة‪،‬‬
‫فتظهرُ بداهةً الدعوةًُا إلى الخيرِ الذي جاءَ به‬
‫الإسلامُ للناسِ طبيعي ‪ ،‬بِمعالجةِ المستحدثاتِ من‬
‫المشكلات ومستجدَّات الأمورِ لأنَّها من مقتضياتِ‬
‫الدِّينِ والإيْمانِ‪ ،‬ثم الأمرُ بالمعروفِ الذي ظهرَ‬
‫تركهُ وهو واجبٌ‪ ،‬والنهيُ عن المنكرِ الذي ظهرَ فعلهُ‬
‫وهو حرامٌ لأنَّ طبيعةَ الإيْمانِ تتنافرُ وما‬
‫َّن‬
‫المسلمين‬ ‫يضادُّها‪ .‬وقد جعلَ اللهُ النصيحةَ بين َّي‬
‫محمودةً وجعلَ له الأجرَ والثوابَ عنده؛ وع ن أ‬
‫النصيحةَ عامة لأئمةِ المسلمين وأمرائِهم وعامَّتهم‪.‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪306‬‬
‫ُب‬
‫وتأخذُ النصيحةُ عدَها الفكريَّ من جهةِ الناس وفيما‬
‫بينهم على سبيلِ التَّذكرةِ لأفرادهم‪ ،‬أو الإخبارِ‬
‫بالأفكار المطلوبَةِ والأحكامِ الشرعية الواجبةِ أو‬
‫المحمودة على سبيلِ البيان‪ ،‬فالمذاكرةُ في إطار‬
‫النصيحةُِب هي بيانُ المطلوبِ المعرفِيِّ على وجههِ‪.‬‬
‫وتأخذُ عدَها الفكريَّ والعملي من جهةِ الناس إلى‬
‫الْحُكَّامِ على سبيلِ المحاسبة على تطبيقِ الإسلام‪.‬‬
‫وهو من جهةِ الحُكَّامِ إلى الناسِ إلزامُهم‬
‫بالسَّمعِ والطاعة بالمعروفِ وهكذا تظهرُ حتميَّةُ‬
‫التَّبَنِّي في دارِ الإسلام أو في سلوكِ المسلم‬
‫لأنَّها من لوازمِ الإيْمَانِ وضروراتِ الدِّينِ‬
‫بوصفهِ الفكريِّ والعقيدي والفقهيِّ‪.‬‬
‫ويتأتَّى التَّبَنِّي من الناسِ على أربعةِ أنواع‪:‬‬
‫َأْفَر‬ ‫َتَب‬
‫الشيءُ‬
‫َتَب‬ ‫ي ال ا ‪ :‬الفردُ في اللغة‪ :‬هو‬ ‫الأوَّل‪:‬‬
‫ِد‬ ‫ِّن‬
‫َأْفَر لا ُهيختلطُ بغيرهِ فيحملُ خصائصَ نفسهِ فقط‪ ،‬و ي‬ ‫الذي‬
‫ِّن‬
‫ال ا و‪ :‬أنه يجبُ على كلِّ مكلَّفٍ عاقلٍ أن‬
‫يتعلَِّدمَ من الأفكارِ الإسلامية والأحكامِ الشرعية ما‬
‫يصِحُّ به اعتقادهِ‪ ،‬ويَسْلَمُ به إسلامهُ‪ ،‬ويستقيمُ‬
‫َوَجَّلَّهُ به مقاصدهُ‬ ‫به عملهُ‪ ،‬وتصلُحُ به نيَّتهُ؛ َّز‬
‫وتتوج‬ ‫َع‬
‫؛ ويتخلَّقُ به‬ ‫إلى غايتِها في رِضْوَانِ اللهِ‬
‫بالأخلاقِ الفاضلة‪ .‬فيجبُ عليه أن يتعلَّمَ كلَّ ما‬
‫يلزمهُ في حياتهِ اليومية؛ ويفهمهُ على وج يُمكنه من‬
‫الجماعة بوضعه‬‫تنسيقِ سلوكه والقيامِ بأعماله في نسقِ ٍه‬
‫المعيَّن ومع نسقِ المجتمع وفقَ القانونِ العام‬
‫للمجتمع‪ .‬فالتَّبَنِّي هنا واجبٌ لكلِّ ما يلزَمُ‬
‫المكلفَ في تدبيرِ شؤونه‪ ،‬بطريقةِ التقليد أو‬
‫القناعةِ‪ .‬ولا يلزمهُ أن يخاطبَ بِمُتَبَنَّاهُ‬
‫الفكريّ أو الفقهي الناسَّي؛ ما دامَ على مستواهُ‬
‫الفردي؛ ولكنه ًالهُ أن يُبَ ِنَ ًا إنْ تعرَّضَ لمواضعِ‬
‫التُهَمِ تفسير لفهمهِ لا دفاع عنه‪ ،‬لأنَّ الدفاعَ‬
‫تعصُّبٌ للرَّأيِ والعصبيَّة حرامٌ بكلِّ أنواعِها إلا‬
‫ما كانَ منها لحرماتِ الله‪ .‬أما المحاسبةُ أو البيان‬
‫‪307‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫فلأجلِ القناعة وتصحيحِ المفاهيم المغلوطةِ‪ ،‬ولا‬


‫يكونان إلاَّ في مجالسِ القضاء أو مجالسِ العلم أو‬
‫الذِّكرِ؛ وإلا سَتَنْشَأُ الخصوماتُ بين عَوَامِّ‬
‫الناسِ وجهَّالِهم‪ ،‬سيما أن الكثيرين في عصرِنا هذا‬
‫يجهلونَ أسبابَ العلمِ وأدبَ الحوارِ والمناظرةِ‪.‬‬
‫َجَم َع‬ ‫َتَب‬
‫ي الْ ا ؛ والجماعةُ هي‪ :‬الطائفةُ من‬ ‫الثانِي‪:‬‬
‫الطوائفِ المؤمنة؛ وهي كلٌّ فكريٌّ شعوري شائعٌ‪،‬‬ ‫ِة‬ ‫ِّن‬
‫تظهرُ حيويتهُ من شيوعهِ في الأمة؛ وتبنِّيها هو‪ :‬أنه‬
‫جماعةٍ تقومُ‬ ‫يجبُ على الطائفةِ المؤمنة؛ وهي كلُتَعَُّن َأْفَك َر‬
‫سيرََعَهها‬
‫ا َمْشُر‬ ‫علىأساسِ العقيدة الإسلاميةِ؛ أن‬
‫و ا‬ ‫ِّي‬
‫وأهدافها؛ أي أن تحدِّدَ بدقة ووضوحٍ تامَّين‬ ‫َّن‬
‫ْهَض‬
‫ي ال ‪ ،‬نَهضة الأمة وريادتِها‪ .‬فتقدِّم مشروعَها‬
‫ِّ في الدعوةِ إلى الخير والأمرِ بالمعروف‬ ‫ِفالنهضوي ِة‬
‫حاسبتها للأُمَراء‬ ‫والنهي عن المنكرِ‪ ،‬وأسبابِ مُ َأْم َج‬
‫ا ُر َرللأمَّةًاِ‬ ‫َّض‬
‫ِمٍع‬ ‫ٍر‬ ‫كلََّن‬ ‫والْحُكَّامِ‪ .‬بأن تعيَِّمنَ ُيْعَلُم‬
‫ال ي ال و أساس‬ ‫لتدعُو له‪ ،‬وأن تعيِّنَ ا‬
‫ِة‬ ‫ِب‬ ‫ِن‬
‫الدينَِمْشُروماَعَه يلزمُ لسلامة‬ ‫ِّد‬ ‫ِم‬ ‫َّم‬
‫لِمشروعها من عقيدةٍ وأصُولُثِ ُتَع ُن‬
‫و ا في الأمرِ‬ ‫إسلام الأمَّة والدولة‪،‬‬
‫ِّي‬
‫بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ‪ ،‬فتأمرُ بالمعروفِ الذي‬
‫ظهرَ تركهُ وهو واجبٌ‪ ،‬وتنهَى عن المنكرِ الذي ظهرَ‬
‫فعلهُ وهو حرامٌ‪ .‬فتتبنَّى الجماعةُ ما يلزمُ أمورَ‬
‫المجتمعِ وقضاياه المصيريَّة‪ ،‬وكلُّ أمرٍ جامع لا‬
‫يُعْلَمُ خلافٌ فيه بين المسلمين‪ ،‬أو هو أساسٌ‬
‫َوَتَتَبَّنِّ‬
‫عقيديٌّ وفكري لسلامةِ الدين في الرَّأي العام‬
‫ى‬ ‫وأعرافِ الأُمة وعاداتِها الموروثة والجديدةِ‪.‬‬ ‫َط َقًة‬
‫وهي محل ًاُّ‬ ‫ًا‬ ‫ائعة‬ ‫َّ‬ ‫الش‬ ‫للآراء‬ ‫ِ‬ ‫الجدل‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫في‬ ‫ي‬
‫واختلاف ُكبين َقالناسَمِ أو العلماء قديْم وحديث ‪.‬‬ ‫َّي‬ ‫َّي‬ ‫َّت‬ ‫ٍ‬ ‫خلاف‬ ‫ِر‬
‫َب‬ ‫َوَتْحُصُر‬
‫أساسيَّة فكرية عقيدية‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ال ي ي‬
‫الأمة ِر ٍةوسلامَة دينِها‪ .‬أما باقي‬ ‫بوجودِ ِض ٍة ِص‬
‫أو تتعلَِّّنقُ ِف ِّل‬
‫آراءِ الجماعة‪ ،‬فتقدِّمُها على أنَّها رأيٌ محتمل‬
‫لتفسيرِ ظاهرة اجتماعية أو سياسية قابلةٍ للحوار‪،‬‬
‫وأنَّها ليست محلَّ دعوةٍ ولا أمرٍ بِمعروف ولا نَهي‬
‫عن منكرٍ‪ ،‬لِما تقدَّم‪.‬‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪308‬‬
‫َّم‬
‫ُأ‬ ‫َتَب‬
‫ي ال ‪ :‬الأمةُ في حقيقتِها كيانٌ‬ ‫الثالثُ‪:‬‬
‫َّدٌ؛ وطبيعتُها لا تجعلُها‬ ‫ِة‬ ‫ِّن‬
‫اجتماعي متنوًاِّع ومعق ًا‬
‫تتبنَّى فكر أو رأي ‪ ،‬وإنَّما تتبنَّى الأمةُ‬
‫الأعمالَ والجماعةَ المعبِّرة عنها في الرأي والفكرِ‬
‫بأن‬ ‫َّن‬
‫حصلََعْنُهَم‬
‫كما ُه‬‫والحكم وتنيبُها ُس عنها في السُّلطانِ‪َ ،‬ر َي‬
‫ا‬ ‫الل‬ ‫تبنَّتِ الأمةُ ةَ أبِي بكر وعمرَ‬
‫ِض‬
‫على عهدِ عثمانَ ‪ .‬فالأمةُ تعتقدُ الإسلامَ‪،‬‬
‫وبتنوُّعها الاجتماعي تتعقدُ الآراء وتختلفُ لِما في‬
‫هذا التنوُّعِ من تفاوت في الفهمِ واختلاف في‬
‫القناعاتِ الجزئيًاَّة‪ ،‬وربَّما في الأفْهَامِ‬
‫الإيْمانيَّة أحيان ‪ ،‬لِهذا يشيعُ في الأمة الرأيُ‬
‫الغالبُ من مجموعِ الآراء والأحكام والمعتقداتِ‬
‫والأفهامِ ًاالإسلامية‪ً ،‬اويشيعُ فيها الشعورُ المعيَّن من‬
‫ذلك صالح أو فَاسد ‪ ،‬ومدَى تحسُّسِها لمصالِحها‬
‫بالإسلام واستحضارِها لمفاهيمه في أعمالِها وتفكيرها‪،‬‬
‫ثم وجودُ المفاهيمِ الإسلامية الصحيحةِ أو المغلوطة‬
‫عن دينِها‪ ،‬ثم تطبيقُ النظامِ عليها‪ ،‬فهي بِهذا‬
‫المعقَّد من الأمورِ لا يُمكن أن تتبنَّى‬ ‫ًا‬ ‫الزًاَّخمِ‬
‫رأي مختلَف فيه‪ ،‬ولكنَّها مجمعةٌ على إسلامِها‪.‬‬
‫فلهذا لا يبحثُ التبنِّي على مستوَى الأمَّة بالشكلِ‬
‫الفكريِّ‪ ،‬وإنَّما يبحثُ عن تبنِّي الأمة لأعمالِ‬
‫وأفكار الطائفةِ المؤمنة وقيادتِها في إصلاح شَأنِ‬
‫الجماعة أو مُحاسبةَِّد الدولة عليهِ‪.‬‬
‫ْوَل‬ ‫َتَب‬
‫ي ال ؛ والدولةُ‪ :‬هي كيانٌ تنفيذيٌّ‬ ‫الرابعُ‪:‬‬
‫ِة‬
‫لِمجموعِ المفاهيم والمقاييسِ والقناعات التي‬ ‫ِّن‬
‫اعتقدَتْها الأمةُ في رأيِها العامِّ وأعرافها‬
‫علىأساسِ العقيدة الإسلامية؛ وتبنِّي الدولةِ؛ هو‪ :‬أنه‬
‫يجبُ على الدولةِ أن تؤسِّسَ مفاهيمَها ومقاييسَها‬
‫وقناعاتِها على أساسِ العقيدة الإسلاميَّة‪ ،‬فتتبنَّى‬
‫كلَّ أمرٍ جامع من شأنهِ أن يحقِّقَ السيادةَ‬
‫للشَّرعِ في دار الإسلام فَتَعْلُو به كلمةُ‬
‫الإسلامِ‪ ،‬وتُحْفَظُ به وحدةُ بلادِ المسلمين‪ ،‬ويظهرُ‬
‫فيه سُلْطَانُ الأمةِ وأمانُ المسلمين‪ .‬أي كلُّ أمرٍ‬
‫‪309‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫جامع في التنفيذِ‪ ،‬وكلُّ أمر من شأنهِ المحافظةُ على‬


‫العقيدةِ الإسلامية والجهادِ في سبيل الله‪ .‬ثم أنَّها‬
‫تتركُ أمورَ الناسِ الخاصَّة ما دامت منضبطةً بأحكامِ‬
‫الشَّريعة‪ ،‬وتتركُ مواضعَ الخلافِ في غير الأمورِ‬
‫الجامعة ماُو لم يُرْفَعْ أمرهُ إلى الحاكمِ أو القاضي؛‬
‫وفي حال جِدَ فيه اختلافٌ بينَ المسلمين واقتضَى‬
‫الحالُ رفعَهُ‪ ،‬فإن الدولةَ تتدخلُ لرفعِ الخلاف‬
‫والاختلافَم بتبنِّي رأيٍ في المسألة يكونُ هو موضعُ‬
‫العملِ و لُّ التنفيذًِا مع احترامِ الرَّأي المقابل‬
‫ما دامَ ِحأصلهُ إسلامي ومرجعيتهُ شرعيةً‪ .‬ومن هنا‬
‫تَمَيَّزَ حالُ الدولة فيَّن التبنِّي عن حالِ الجماعة‪،‬‬
‫أو الطائفة المؤمنة‪ ،‬بأ الدولةَ تتبنَّى للتنفيذِ‬
‫وللمحافظة على الإسلام وحملِ الدعوة بالجهاد وسياساته‪،‬‬
‫والجماعةُ تتبنَّى ما من ًا شأنهِ أن يُدِيْمَ نَهضةَ‬
‫الأُمة وكما تقدَّم آنف في الدعوةِ إلى الخير‬
‫والنصيحة والمحاسبةِ‪.‬‬
‫َطِر يَقُة َتْغ ِييِر اْلُم َتَبَّنى‪:‬‬
‫َّن‬
‫ْلُمَتَب‬ ‫َط َقُة َتْغ‬
‫ى‪ :‬فعندَ الأفرادِ يأخذُ تغيير‬ ‫ي ا‬ ‫أما ي‬
‫المتبنَّىِر حكمَ المقلِّدِ الْمُتَّبِعِ والمقلِّد‬
‫ِر‬ ‫ِي‬
‫العاميِّ وقد تقدمَا‪ ،‬أما تغييرُ متبنَّى الجماعةِ‬
‫فيتأتَّى علىغيرِ طريقة ًا الاجتهادًاِ والتقليد‪ً،‬ا لأنَّ‬
‫الجماعةَ تَبَنَّتْ رأي فكريّ أو فقهي بِما‬
‫أوجبَهُ عليها الرأيُ من أدلَّته واستدلاله‪ ،‬وليسَ‬
‫كتقليدِ الْمُتَّبِعِ أو العاميِّ‪ ،‬وليس الرابطةُ‬
‫الفكرية على سبيلِ الإقناع كالرابطة بين الأشخاصِ‬
‫باعتبار صلاحِهم والعرفان لديهم‪ ،‬ولِهذا كان لا بد‬
‫للجماعةِ حتى تُغَيِّرَ متبنَّاها من الأفكارِ والآراء‬
‫والأفهامِ والأحكام ما يأتِي‪:‬‬
‫‪ .1‬بيانُ السببِ الموجب لإعادةِ النظر في المسألة؛‬
‫ببيانِ خطأ الرَّأي السابقِ أو بيان الثَّغرةِ التي‬
‫دعت إلى إعادةِ النظر‪.‬‬
‫‪ .2‬بيانُ الرأيِ في الجواب بشكلٍ قابل للحوار‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪310‬‬

‫والمناقشةِ بقصد استطلاعِ الرَّأي ولَفْتِ النظرِ‬


‫إلى المسألة بقضاياها الفكريَّة والعمليةِ‪.‬‬
‫‪ .3‬ثم تقريرُ الرأيٌِل الجديد بأدلَّته وكيفيَّة‬
‫استدلالهِ ممن ُدهو أه َي لذلكَ‪ ،‬أي من مجته ‪ .‬ولاَ‬
‫يُهْمِلُ المجته الرأ الذي يبديهِ الْمٍُدتَّبِعُ‬
‫مهما كانَ‪.‬‬
‫‪ .4‬مراقبةُ الطَّوارئ والمتغيِّراتِ التي ربَّما تأتِي‬
‫الاحتفاظًاِ بالرَّأي القديمِ كما هو باعتبارهِ‬ ‫مع ًا‬
‫تُراث فكري جرَى متابعتهُ وتقليبه وتنقيتهُ‪ .‬ثم‬
‫لا يصحُّ بحالٍ تغييرُ مَتْنِ أو عبارةِ الرَّأي‬
‫السابق‪ ،‬لا من الناحيةِ العلمية وهي الأمانةُ على‬
‫القولِ‪ .‬ولا من الناحيةِ العملية‪ ،‬لأنهُ رأيٌ يفيد‬
‫الخبرةَ وتنشيطَ مَلَكَاتِ الإبداعِ والفهم‪ً ،‬ا وهذا‬
‫ما درجَ عليه العلماءُ عامَّة والفقهاءُ قديْم ‪.‬‬
‫وأما تغييرُ متبنَّى الدولةِ فيختلفُ بحسب موضوعهِ‬
‫في موادِّ الدستُور أو في المسائلِ الجزئية للقضاء‪.‬‬
‫أما في شأنِ الدستورِ فهو مُنَاطٌ باعتبارِ الأدلَّة‬
‫المقطوع بِها على أساسِ العقيدة الإسلامية‪ ،‬لا‬
‫تبني‬
‫ًا‬ ‫علىأساسِ مذهبٍ معيَّن‪ ،‬وقد تقدم بيان طريقة‬
‫الدستور‪ .‬أما بالنسبةِ للقاضي‪ ،‬فعلى ما يعرفُ دستوريّ‬
‫أو بحسب اجتهادهِ في حينه‪ ،‬وله تفصيلٌ في بابهِ من‬
‫الفقه الإسلاميِّ‪ .‬اقتضى التنويه‪.‬‬
‫اْلَم ْبَح ُث (‪َ :)22‬تْنِبيٌه‪ُ :‬ح ْك ُم الِّد َّقِة ِفي اْلَكَالِم اْلُم ْسَتْع َمِل ‪:‬‬
‫َلَيَتَكزَّلَُمنِيِّ َك قَمَالَ‪:‬‬ ‫عن بِلاَلِ بْنِ الْحَ َّنارِثِ‬
‫َأَحَدُكْمالْمُ‬
‫ال َعَّز َوَجَّلن‬
‫ُه‬ ‫َفَيْكُتُب‬ ‫َبَلَغَت‬ ‫َم‬ ‫قُسْخَالَ رَسَُمولَُيُظُّناللهَأْنِ ‪:‬‬
‫َتْبُلَغ[‬
‫الل ِل ِة ِم‬ ‫ِب‬ ‫‪.‬‬ ‫ِإَيا‬ ‫الل ا‬
‫َم‬ ‫َيْو‬ ‫ُسْخَطُه‬ ‫َعَلْيِط َهاِه‬
‫ال ا ة ] ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫لى‬
‫َّل‬ ‫ِم ِق‬ ‫ِإ‬ ‫ِه ِب‬
‫ة‬ ‫(?) رواه الترمذي في الجامع الصحيح‪ :‬كتاب الزهد‪ :‬باب في‬ ‫‪1‬‬

‫الكلام‪ :‬الحديث (‪ )2319‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ .‬وابن ِق‬


‫ماجه في السنن‪ :‬كتاب الفتن‪ :‬باب كف اللسان في الفتنة‪:‬‬
‫الحديث (‪ .)3969‬والحاكم في المستدرك‪ :‬كتاب الايْمان‪:‬‬
‫‪311‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬

‫إنَّ الكلمةَ مسؤوليةِ يجوزُ استعمالُها أو يحرمُ‬


‫حسبَ الإذن في الانتفاعِ بِها وفقَ ما بَيَّنَهُ‬
‫الشرعُ فنهَى الشارعُ عن استعمالِ ألفاظٍ معيَّنة في‬
‫التعبيرِ عن واقع بعينهِ أو أن نوردَها في سياقٍ‬
‫معين‪ ،‬لِما تعبرُ به عن مقصودِ القوم وهو يخالفُ‬
‫العُرْفَ اللغويَّ من لسان العربِ أو المعهود الشرعيِّ‬
‫عندًا المسلمين‪ ،‬أو أنَّها تؤثِّرُ في الجانب الفكريِّ‬
‫سلب ‪ .‬مع ملاحظةِ أنَّ الأصلَ في اللفظةِ المعنى الذي‬
‫تواضَعَ عليه القومُ في عُرْفِهِمْ واصطلاحِهم‪ .‬ما لم‬
‫يصرِفْها الشارعُ إلى معهودٍ آخر‪.‬‬
‫ًا‬
‫ولقد استعملَ الْقُرْآنُ الكريمُ ألفاظ غيرَ‬
‫عربيَّة بَعْدَ تَعْرِيْبِهَا فأدخلَها في قاموسهِ‬
‫اللغويِّ واستعملَها في سياقِ كلامه بلسان عَرَبِيٍّ‬
‫مُبِيْنٍ مثلَ كلمةِ قِرْطَاسٍ‪ ،‬وقِسْطَاسٍ‪،‬‬
‫وسِجِّيْلٍ وغيرِها‪ .‬ونَهى عن استعمالِ ألفاظ عربيَّة‬
‫ضعت له َّي في سياقِ‬‫اسْتُعْمِلَتْ لغيرِ ما َروُ َن‬ ‫لأنَّها‬
‫نا‬ ‫َّم‬
‫مخاطبة ُمَحالرَّسُولِ ‪ ‬مثل كلمة اِع ا‪ ،‬وغ ر سيدُ ُر‬
‫دٌ ‪ ‬تسميةَ الكَرْمِ بالعنبِ لأنه لا يع‬ ‫الرسول‬
‫ِّب‬

‫َّم‬
‫ُمَح‬
‫د فقد‬ ‫الحديث (‪ )138‬وقال‪ :‬وأما حديث عبدالعزيز بن‬
‫أخرجه مسلم‪ُ.‬مَحَّمووافقه الذهبي في التلخيص قال‪ :‬هذا صحيح‪ ،‬رواه‬
‫د‪.‬‬ ‫جماعة عن‬
‫اْلَمَباِح ُث‬ ‫‪312‬‬

‫عن حقيقة المعنَى المراد(‪ ،)1‬وكذلك قولَهم عبدي(‪ ،)2‬لأنَّ‬


‫الشرعَ قد صَرَفَ معناهُ إلى دلالة شرعيةِ وأبْعَدَ‬
‫الدلالةَ العرفيةَ‪َّ .‬يحتى لا يشتركَ اللفظُ على السامعِ‬
‫فيضطربَ الفهمُ ويتم عَ المفهومُ‪.‬‬
‫ًا‬
‫فمثل مفهومُ الكفَّار أن الرِّبا مثلُ البيعِ‪،‬‬
‫َّل‬
‫قال‬ ‫َّن‬ ‫والمفهومُ َّن‬
‫البيع‪َ .‬وَأَح‬
‫غيرُ َب ْا‬ ‫با ْثُل‬ ‫الإسلامْا أنَم الرَِّبْيُع‬
‫في ُهْمَّر َق ُل‬‫َذ َك َأ‬
‫ال و ‪،‬‬ ‫تعالى‪َ ‬بْيَع َوَح َم ا و َب ْا ا ال‬
‫ال و ِإ‪ )3(‬وكذلك ِممفهومُ ِّرالأعْرَابِ‬ ‫اللُه الِل ِب‬
‫للإسلام والإيْمان ِّرإذ صَحَّحَهُ اللهُ لَهم بأنَّ‬
‫قولهْاِ‬ ‫َّل‬ ‫َّن‬
‫مانْاِ َوَلمن ُق ُل‬ ‫مفهومِ ْمالإيُتْؤْ ُن‬
‫غيرََء َم ُق‬
‫الإسلامَِأْعَر ُب‬ ‫مفهومَ َق َل‬
‫و ُّم ن و و‬ ‫تعالى‪  :‬ا ال ا ا ا ل‬
‫ِك‬
‫ُتَس ْا ْل َنَب‬ ‫ِم‬ ‫ِت‬
‫قال‪َ [ :‬هلاُهَو وَّدْهُرا‬ ‫النبي ‪َّ ‬ن‬
‫َف‬ ‫ْه‬
‫(?) عن أبِي هريرة ‪ ‬عن َّد‬
‫َخْيَبَة‬ ‫َكْرَم‬
‫‪1‬‬

‫ال َّن ]ِع رواه‬ ‫الل‬ ‫ال ؛‬ ‫ال ؛ ولا تقولوا‬


‫الأدب‪ِ :‬إ َيُق‬
‫ْلَكْرَم وعن َمأبي‬ ‫الحديثُل َن(‪)6182‬‬ ‫ِر‬ ‫البخاري في الصحيح‪ :‬كتاب‬
‫الحديث ا( َّد‬ ‫هريرة ‪َ‬قْلُبقال‪ْ:‬لُمْؤقال رسول الله ‪ [ ‬و و و ا ُّب ‪،‬‬ ‫ْلَكْرُم‬
‫ِإ‬
‫الصحيح‪َ :‬أَحُدُكُم َّن ْهَر‬ ‫البخاري في َا َيُس‬ ‫َّن‬ ‫رواه‬ ‫]‬ ‫َّد‬
‫ِمِن‬
‫ا‬ ‫َّن‬ ‫ا‬
‫َأَحُدُكْم[ لْل َن ْلَكْرَم َفال ‪،‬‬ ‫َيُق َلالصحيح‪:‬‬ ‫مسلمَا في‬ ‫ْهُر َو‬ ‫ولفظه عند‬ ‫َف‪َ .)6183‬ه ُهَو‬
‫ا ‪،‬‬ ‫و‬ ‫ْلَكْرَمالل َّرُجُل الْلُمْس ُم؛ ل‬
‫ِإ‬
‫كراهية‬ ‫الأدب‪ :‬باب‬ ‫ا ًا ] كتاب الألفاظ من ِل ِع ِب‬ ‫ال‬ ‫اِإ‬
‫الحديث (‪ .)6/2247‬قال ابن حجر‬ ‫ِل‬
‫كرم ‪:‬‬‫العنبرحمه َّن‬ ‫تسمية‬
‫والبزار َأْجمن َمحديث‬ ‫الطبراني‬ ‫أخرج‬ ‫الله‪َّ :‬ر‬
‫وقد‬ ‫العسقلاني‬
‫ْلُكُت ْلَكْرُم ْن‬ ‫ُج‬ ‫ْسَم‬
‫َأْكَرَمُه رفعه‪ُ:‬ه [َعَل اْلَخ َقال َو َّن يُكْم اَتْدُع َن ا ْلَح ‪َ،‬ط َن ْل َن ا‬ ‫سمرة‬
‫وِب ا ا ِم ا ِل‬ ‫ِإى ا ي ‪ِ ،‬ل ِف‬ ‫ْلَكْرَم الل‬
‫المرادَ ِع ِب‬ ‫الخطابِِإي ما ملخصه‪ :‬إن ِئ ِم‬ ‫ا ] الحديث‪ ،‬قال ِل ِة‬
‫بالنهيِّ‪ ،‬تأكيدُ تحريم الخمرًاِ بِمحو اسْمها‪َّ ،‬نولأنَّ في‬
‫كانوا يتوهََّممونه من‬
‫ْلَكْرُم‬ ‫تبقيةِ هذا الاسم لَها تقرير لما ًا‬
‫وقال‪ [ :‬ا ا‬ ‫ُه‬ ‫شاربَها‪ ،‬فنهَى عن تسميتها كرم‬ ‫تكرم ْلُمْؤ‬ ‫َقْلُب‬
‫] لما فيه من نور الايْمان و دى ِإالإسلام‪ .‬ينظر‪:‬‬ ‫ا‬
‫الباري شرح صحيح البخاري‪ :‬ج ‪ 10‬ص‪.694‬‬ ‫ِمِن‬ ‫فتح‬
‫َا‬ ‫ُّل‬ ‫ُّل‬ ‫َّن‬
‫قال‪ُ[ :‬كْمل َم ُء‬ ‫َوُك َس‬ ‫رسولُدَ اللهِ ‪‬‬ ‫َوَأَم قال‪ُ:‬ك إن‬
‫ُكْم َع‬ ‫هريرةَ ‪‬‬ ‫(َيُق?) ُلعن أبِي‬
‫َأَحُدُكْم َعْب‬
‫‪2‬‬

‫ا‬ ‫ا‬ ‫َوَفَت َياللَوَفَت؛‬


‫ي‬ ‫و َوَل ْن َيُقْلِدي ُغ َا ِتي‪َ،‬وَج َي‬
‫مسلم في‬‫ِإ‬ ‫ِئ‬ ‫ِن‬ ‫ِه‬ ‫ِب‬
‫رواهَا َيُق‬ ‫اِتي] َو‬ ‫ا‬ ‫ل ي ا ي‬
‫َيُقْل (َس ِر ِت‬ ‫َوَل ْنالحديثِم‬
‫الل ‪،‬‬
‫ْلَعْبُد َر ِك ِل‬ ‫ِه‬
‫ل‬ ‫زيادة‪ [ :‬ل‬ ‫‪ .)13/2249‬وفي‬ ‫الألفاظ‪:‬‬ ‫كتاب‬
‫ي]‪ .‬الحديث (‪ .)14‬والإمام أحمد في‬ ‫ي‪،‬‬ ‫ا‬
‫المسند‪ :‬ج ‪ 2‬ص‪ 433‬و‪ 463‬و‪ 484‬و‪ .496‬وأبو داود في السنن‪:‬‬ ‫ِّيِد‬ ‫ِل‬ ‫ِك‬ ‫ِّب‬
‫كتاب الأدب‪ :‬باب لا يقول المملوك‪ :‬الحديث (‪.)4975‬‬
‫(?) البقرة ‪.275 /‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪313‬‬ ‫اْلَمَباِح ُث‬
‫َأْسَلْمَن‬
‫ا‪ )1(‬واستعمل الكفارُ كلمةَ رَاعِنَا على معهودِ‬
‫ها‬ ‫َّل‬ ‫الصَّ َّز‬
‫فأبدلُلَ ْا‬
‫ولسان العربِ مع رسولِ الله ‪َ ‬وُق‬ ‫حابةِ َوَج‬
‫َع‬
‫بالنَّظَرِ بقولهِ تعالى‪  :‬و و‬ ‫ْنُظْرَنُ‬
‫الله‬
‫اٌّب ا‪ ‬لأنَّها استعملَتْ في لسانِ يهود وعُرفهم‬ ‫(‪)2‬‬

‫س يقصدونه‪ .‬وأبدلَ رسولُ اللهِ ‪ ‬كلمةَ الكَرْمِ‬


‫بالحبلةِ(‪ )3‬في التعبيرِ عن العنبِ وكلمة عبدي بفتاي‬
‫وهكذا فتنظرُ دلالةُ الكلمةِ حين الاستعمال من ناحيةِ‬
‫الشَّرعِ والبُعْدِ الفكريِّ العقيدي أو الفقهيِّ‬
‫فيها‪.‬‬

‫(?) الحجرات ‪.13 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) البقرة ‪.104 /‬‬ ‫‪2‬‬

‫النبي ‪ ‬قال‪:‬‬ ‫أبيه‪َ :‬وأنْلُحْبَلَة‬


‫ُقْوُل ْاعن ْل َنَب‬
‫بن ْنوائل‬‫علقمة َوَل‬ ‫(?) َا َتُق‬
‫الحديثُل ْاعن ْلَكْرَم‬
‫‪3‬‬

‫رواه مسلم‬
‫] ُحْبَلُة‬ ‫ا‬ ‫و ا‬ ‫وو ا ‪،‬‬ ‫[ ل‬
‫‪ )12/2248‬وال ‪ :‬ثَمر‬ ‫الألفاظ‪ :‬الحديث( ِع‬
‫ِك‬ ‫كتاب‬ ‫الصحيح‬ ‫في‬
‫ُظ‬
‫العضاة‪ ،‬وال ضاة كل شجر يع م وله شوك‪.‬‬
‫ِع‬

You might also like