Professional Documents
Culture Documents
Noor-Book.com المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا
Noor-Book.com المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا
Noor-Book.com المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا
النبوي
تربية وتنظيما وزحفا
تأليف
عبد السالم ياسني
مجيع احلقوق حمفوظة للمؤلف
الطبعة الثانية
1410ه – 1989م
بسم اهلل الرمحن الرحيم
متهيد
1
-1إن أصبح الحكام منطقيين مع مبادئهم المعلنة عن إعطاء الحريات العامة
فيقبلوا وجود حركة إسالمية علنية معترف بها إلى جانب الحركات واألحزاب السياسية
األخرى .وأقل ما يطلب من حكام المسلمين أن يعترفوا بحق الشعب المسلم في ممارسة
إسالمه دون وصاية الحكومة.
-2إن أدرك الحكام خطأهم في اضطهاد اإلسالميين وعقدوا نية صالحة لدعم
الحركة اإلسالمية ،ليتصالحوا مع اهلل ومع الشعب المسلم ،وبرهنوا عنها بميثاق يصوت
عليه الشعب يعقدون فيه مع اهلل ومع المؤمنين الرجوع إلى الحكم بما أنزل اهلل بعد فترة
انتقالية يعطون فيها المؤمنين كامل الحرية وكامل الدعم لبناء كيان إسالمي سياسي
تتهيأ به انتخابات إسالمية ودستور إسالمي وحكومة إسالمية.
ما ينبغي لنا أن نسكت ويغتنم األعداء سكوتنا ليتهمونا بالغموض والتخلف الفكري
وينسبوا لنا ما شاءوا من تهم اإلرهاب والتآمر .وما ينبغي لنا أن نخاف من تبعات الكلمة
الصريحة المسؤولة فإنما ذل المسلمون من غياب هذه الكلمة.
بديهي أن الذي يكتب في التنظيم اإلسالمي في وقت تتآمر فيه قوى الشر على
المؤمنين ليس من الغباء بحيث ينظم تنظيما سريا .فإن أوذي على الكلمة الحرة فستبقى
الخطة وسينظم ويربي آخرون ،وسيذهب الصف األول والثاني .لكن النصر للمؤمنين
موعود ولو كره الكافرون .نطالب بحقنا بموقع أقدام تحت الشمس .وهلل العزة ولرسوله
وللمؤمنين ولكن المنافقين ال يفقهون.
من كان من إخوتنا وأخواتنا يلتاع لضياع القضية اإلسالمية ويتشوف لقيام حركة
إسالمية منظمة ويأنس من نفسه االستعداد والرغبة ليبني مستقبل اإلسالم فسيفهمنا
ويؤيدنا ويتأمل عرض تصورنا لمنهاج العمل .فبدون تصور واضح لمنطلق الحركة
وسيرها وأهدافها ومراحلها لن نستطيع بناء.
ومن ال لوعة له على اإلسالم وال عزم له على جهاد فال كالم معه.
2
مقدمات
منهاج النبوة:
ِ
َنزْل َنا إِلَ ْي َك ا ْلكتَ َ
اب {وأ َ
قال اهلل تعالى يخاطب رسوله محمدا صلى اهلل عليه وسلمَ :
َنز َل اللّ ُه َوالَ اب َو ُم َه ْي ِمناً َعلَ ْي ِه فَ ْ
اح ُكم َب ْي َن ُهم ِب َما أ َ صدِّقاً لِّما َب ْي َن َي َد ْي ِه ِم َن ا ْل ِكتَ ِ
َ ق ُم َِبا ْل َح ِّ
ق ِل ُك ٍّل َج َع ْل َنا ِمن ُك ْم ِش ْر َع ًة َو ِم ْن َهاجاً} 1.قال ابن عباس اءك ِم َن ا ْل َح ِّاءه ْم َع َّما َج َ َه َو ُتَتَِّب ْع أ ْ
رضي اهلل عنهما« :الشرعة ما ورد به القرآن ،والمنهاج ما وردت به السنة» .أنزل اهلل
الكتاب بالحق وبلسان عربي مبين .والشرع والشريعة والمنهاج في لغة العرب بمعنى
الطريق .وبين أيدي المسلمين وفي صدورهم آيات اهلل يتلونها ثم ال تترجم أعماال .بين
أيديهم سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يحبونها ويقرأونها ويعجبون ويحنون ،لكن ال
يسلكون كما سلك صلى اهلل عليه وسلم وصحبه مسلك الجهاد الذي سما بهم إلى ذرى
اإليمان واإلحسان تربية ورفعهم إلى الخالفة في األرض تنظيما ودولة.
المسلمون بحاجة اليوم الكتشاف المنهاج النبوي كي يسلكوا طريق اإليمان والجهاد
إلى الغاية اإلحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند اهلل في دار اآلخرة ،إو�لى الغاية
االستخالفية التي ندبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج واستكملوا الشروط.
إنه طريق واحد يسمو به العبد إلى الوقوف ،بل السجود ،بين يدي ربه متذلال
مطيعا باذال ماله ونفسه في اهلل ،وتسمو به األمة من كبوتها ،واستعباد األعداء لها في
األرض ،و ذلتها في نفسها ،وتخلفها الحضاري واالقتصادي والعسكري ،إلى حيث تنال
1
املائدة48 ،
3
شرف وراثة من خاطبه اهلل في هذه اآلية من سورة المائدة بأن يحقق هيمنة القرآن على
كل فكر ،وأمر اهلل على كل أمر ،و حاكمية اهلل على كل حاكمية.
ما هو منهاج المسلمين؟ ما هو طريقهم على معارج الكتاب والسنة ،لكي ال يبقى
التعبد القابع في مساجد الركود منفصال عن الحياة العامة لألمة ،ولكي يكون اإلقبال
على اهلل عز وجل هو نفس الجهاد ولب الجهاد ،لتكون كلمة اهلل هي العليا في األرض؟
هذا كتاب اهلل بين أيدينا وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم متألقة في الصحائف
وفي ضمائرنا ،وفيهما الحق كله .فكيف نفعل لنترجم الكتاب والسنة برنامجا عمليا
يحيي العبد باإليمان ويحيي األمة المخاطبة في القرآن بيأيها الذين آمنوا حتى تلبي
هذا الخطاب ،وتنفذ ما يأتي بعده في آيات اهلل من أوامر إلهية تريد منا الطاعة هلل
واالتباع لرسوله ال االنهزام أمام الطاغوت ،تعدنا إن أطعنا اهلل واتبعنا رسوله أن نكون
أئمة األرض؟
كلمة «منهجية» التي تترجم معنى أجنبيا تفيد تنظيم أفكار موجهة وطرائق عملية
الستنباط فكري أو تحليل علمي أو تطبيق في حياة الناس .ونفضل كلمة «منهاج»
القرآنية النبوية لندل بها ال على وساطة المنهاج من حيث كونه جس ار علميا بين الحق
في كتاب اهلل وسنة رسوله وبين حياة المسلمين فقط ،بل لنربط به معاني التمسك الصارم
بأمر اهلل في كتابه ،ومعاني االتباع لسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم في السلوك الفردي
والجماعي ،الخاص والعام ،النفسي والخلقي واليومي ،العبادي واالجتماعي ،السياسي
واالقتصادي ،الرباني في كلمة واحدة .وال يعني هذا أن نربي وننظم جماعة تنظر إلى
ماضينا المجيد تحت راية محمد صلى اهلل عليه وسلم وخلفائه المهديين الراشدين وتقعد
مع األحالم ،بل يعني تهييء جيل وأجيال من بعده صالحة لخالفة اهلل ورسوله في
األرض على نسق التربية والجهاد النبويين ،ولهدف إعادة الخالفة على منهاج النبوة بعد
الحكم العاض والجبري اللذين داما قرونا طويلة.
نجد كلمة منهاج مقترنة في موعود رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبشارته لنا
بكلمة نبوة .فهو منهاج نبوة ،وهو المنهاج النبوي ،منهاج تربية وتنظيم جهادي ،تعرضا
واستعدادا إلقامة الخالفة اإلسالمية التي يرضى اهلل عز وجل عن كل منا إن بذل
4
قصارى جهده إلقامتها على المنهاج الواضح والنموذج المنير ،منهاج رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم الذي قال فيما رواه اإلمام أحمد عنه بسند صحيح « :تكون النبوة فيكم ما
شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها .ثم تكون خالفة على منهاج النبوة
فتكون ما شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها .ثم تكون ملكا عاضا ،فتكون
ما شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها .ثم تكون ملكا جبريا ،فتكون ما
شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها .ثم تكون خالفة على منهاج النبوة.
ثم سكت».
الملك العاض الذي يعض على األمة بالوراثة وبيعة اإلكراه مضى وولى .والمسلمون
اليوم تحت القهر الجبري أي الدكتاتوري بلسان العصر ،ولهو أفظع من العاض ،ألن
الجبر إن كان يلوح بشعارات الدين كما كان يفعل الملك العاض فقد أفرغ أجهزة الحكم
واإلعالم والتعليم وأفرغ قوانين الحكم من كل معاني اإلسالم .إو�ن هذه األمة المغلوبة
على أمرها بحاجة لمن يربي وينظم جيال يحرر األمة من ربقة الجبر الملحد أو
المستتر تحت شعارات اإلسالم ،ويقيم لألمة دولة الخالفة الموعود بها عموما في آيات
استخالف المؤمنين المستضعفين في القرآن ،المنصوص عليها في سياق تاريخي في
هذا الحديث النبوي المشرق الذي نضعه بين أعيننا رجاء يقينيا ،ونو ار هاديا ،ونداء غيبيا
وتاريخيا ،قد أخذت األمة تسمع له ،وتنتفض تلبية له بما يؤيد اهلل به عباده من نصر
أخذت تباشيره تجلو عنا غسق الفتنة وظالم الجاهلية المحيط.
جهود األمة مبعثرة ،والعدو الذي يعزم أن يسكت صوت اإلسالم ،ويضلل جهاد
المسلمين ،ويحتوي حركتهم ،منظم معبأ متضامن مع قادة الفتنة فينا .فنحتاج لوضوح
5
خط الجهاد الذي ينتظرنا ،ونحتاج لتربية اإليمان وتنظيم اإلرادة اإليمانية في األمة.
نحتاج إلى قيادات مؤمنة وعلم تربوي ،وحكمة تنظيمية ،لكي ال تذهب جهودنا في
فوضى ردود الفعل الموقوتة االنفجارية أمام تحرك األعداء.
في األمة خير ،فيها غضب على حكم الجاهلية مكبوت ،أنبت اهلل بين ظهرانيها
جيال أشرب قلبه محبة اهلل ورسوله ،فيها طاقات هائلة .ذلك الغضب بحاجة لتوجيه
حتى ال ينصرف في انتفاضات عقيمة ،ذلك النبات الرباني بحاجة إلى رعاية وتربية
حتى يشتد ويؤتي ثمرته ،تلك الطاقات بحاجة إلى تنظيم قوي يهدم الباطل ويؤسس دولة
الحق ويبنيها.
إن أعداءنا ما هم إال حطام بشري من حيث العقيدة والفكر والخلق والرجولة ،لكنهم
يحكموننا لما لهم من انضباط بخط فكري يلتزمون به ،وتنظيم مصلحي أو حديدي
إيديولوجي يجمع قوامهم في قبضة ضاربة تعيث فسادا في قيم األمة المعنوية والمادية.
إو�نما صرنا غثاء السيل ال نملك من أمرنا شيئا ألن الوهن ،وهو خوف الموت وحب
الحياة الدنيا ،احتل أنفسنا في غياب التربية اإليمانية ،وألن الصف المرصوص الذي
يحب اهلل عز وجل أن نقاتل وسطه في سبيله انفرط وتشتت لفرقة الخالف ،و نفرة
القلوب ،إو�عجاب كل ذي رأي برأيه ،وكل ذي رئاسة برئاسته.
األمة فيها خير ،لكنها ضحية للتضليل والتهييج الحكوميين والحزبيين ،وحمالت
التشكيك في اإلسالم ودعاته عاتية .فلكي ننازع دعاة الجبر والتضليل القائمين على
أبواب جهنم كما جاء في الحديث ال بد لنا من دعوة واضحة تنير الطريق أمام األمة،
وال بد من تربية وتنظيم صف متراص من المؤمنين يتوسطون الشعب ،ويقيمون صلبه،
يتغلغلون في بيئاته ،شاهدين ،حاضرين ،ثابتين على خطى هادفة ،يأتم الشعب المسلم
بها ،ويتبعها ،ويساندها ،ويستلهم من رسوخها في الحق و دؤوبها على السير في جادة
الجهاد معاني االعتزاز باهلل ورسوله ودينه ،ومعاني العطاء في سبيل اهلل حتى الشهادة،
على شريعة مستقيمة ال تتلوى ،وعلى منهاج ال تضطرب بالسائرين عليه مفاجآت
الرزايا.
6
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة:
الذين يستنهضون الشعوب المسلمة حكومات ومعارضات ثورية وحزبية أشكال
وألوان من يسار الجاهلية ويمينها .ينافسون دعوة الحق بدعوات اللبرالية واالشتراكية،
ويضربون على أوتار القومية والتقدمية والوطنية .يدعون إلى التعبئة العامة من أجل
التنمية ،من أجل التحرر من أحد جانبي الجاهلية ،وهو تحرر ال يتم إال باالنضواء
تحت لواء الجانب اآلخر .وتدوي صيحة العودة إلى اهلل بين المسلمين .تدوي من أعماق
ضمير األمة على لسان الدعاة ،ويصبح النداء اإلسالمي شعا ار يرفعه حكام الجبر
واألحزاب السياسية القومية ،مزايدات ،سباق إلى االتجار باإلسالم.
لطالما بقي اإلسالم غامضا في ذهن الناس ،طالما قبع اإلسالم في التقوى الفردية،
في المسجد ال يخرج منه ،في الكتب الفقهية وخالفاتها ،في الفضاء النفسي بعيدا عن
واقع المسلمين .واآلن قد تقدم فهم اإلسالم وتعمق بفضل اهلل على رجال الدعوة الذين
ابتعثهم إلعادة بناء األمة .فأخذ يتضح للمسلمين أن اإليمان الذي كان حيا في قلوب
سلفنا الصالح ،فاعال في مجتمعهم وفي العالم ،يمكن أن يصبح بديال للفتنة وعلى رأسها
الحكم الجبري ،يمكن أن يعود كما كان حركة عالمية منتصرة.
علينا أن ننظر عاليا وبعيدا لنخطط حركة اإلسالم ،ونقودها في ساحات الجهاد،
يجب أن نصحح المنطلق لئال نتشتت على سطح األحداث .آن ألمتنا أن تطمح
طموحا عالميا رغم قصورنا الحاضر وانهزامنا الحضاري المؤقت .وليس لنا ما يميزنا
عن شعوب األرض عندما تقارن المقومات والوسائل إال أننا حملة رسالة اهلل إلى
العالم .قرآننا زادنا وسالحنا .واهلل عز وجل ولينا ،ومحمد صلى اهلل عليه وسلم نموذجنا
إو�مامنا .فلكي نكون على مستوى المهمة التاريخية أمامنا وهي أن نسعى إلقامة الخالفة
اإلسالمية على منهاج النبوة يلزم أن نعطي لإلنسان ،لكل إنسان ،النموذج الحي الناجح
للفرد السعيد واألمة المهيبة .نحن المسلمين نرزح تحت ثقل تراث الفتنة وتراث التخلف
الحضاري ،فيخيل إلينا أن مالحقة الجاهلية إلنجاز مثل ما أنجزت من صناعات مشروع
كاف لو أضفنا إلى تلك المالحقة أصالتنا وشريعتنا .لن نقدم بذلك لإلنسان أية رسالة،
فللناس جميعا أصالة ونصيب من التقدم الحضاري يشقى بهما الناس ،يهربون من هذا
7
إلى تلك سعيا وراء معنى للوجود والحياة.
رسالتنا ألنفسنا ولإلنسان أن يكون اهلل عز وجل غاية كل فرد من العباد .أن
يكون ابتغاء رضاه ،والسباق إلى مغفرته وجنته ،والسير على مدارج اإليمان واإلحسان
لمعرفته ،والوصول إليه ،والنظر إلى وجهه الكريم ،منطلق اإلرادة ،وحادي المسارعة
وقبلة الرجاء .هذا معنى أن اإلسالم دعوة إلى اهلل ،دعوة إلى االستسالم بين يديه،
نحب لقاءه ،ونطيع أمره ،ونقبل حاكميته ،ونجاهد إلعالء كلمته ،ونطلب االستشهاد في
سبيله .ونحن بهذا فقط نكون قد ار من قدر اهلل.
الغاية اإلحسانية إذن هي كلمة اإلسالم ،واقتراحه ،وثمرته الموجهة لكل فرد.
واألهداف الجماعية لألمة ،من تحرر عن الجاهلية ،ونجاح في االقتصاد ،وظهور في
األرض ،شروط ضرورية ليسمع اإلنسان تلك الكلمة ،ويقبل ذلك االقتراح ،ويجني تلك
الثمرة .فذلك السباق الذي عرضه اهلل على كل منا إلى مغفرته وجنته ورضاه والنظر
إلى وجهه هو رسالتنا للعالم الشقي بحضارته المادية ،المهدد بالعنف الجاهلي النووي،
المتخبط بزعامة الجاهلية وكيدها وجهلها باهلل في مشاكل تؤذن بسقوط الحضارة الغربية
السائرة إلى أفول.
فالخالفة اإلسالمية وهي جوهر الحضارة اإلسالمية المرجو بناؤها ،ما هي بديل
لحضارة المادة من حيث صناعتها إو�نجازاتها االجتماعية والسياسية والحياتية ،بل تكون
استم ار ار على شكل جديد لنفس الحضارة المادية إن لم تكن الدعوة إلى اهلل ،البالغة إلى
كل إنسان ،الملحة عليه ،المتحببة إليه بالعيش الكريم تحت ظلها ،واإليواء الكريم إلى
كنفها ،هي روح الحضارة ومهمة الخالفة .نحن المسلمين موعودون بالخالفة في األرض
لنعمرها ،لكن عمارتها ليست مقصودة لذات العمارة ،إنما عمارتها شرط ليعرف العبد ربه
ويتهيأ للقائه بعد الموت .بهذا نحن قوة ال تقاوم.
كثي ار ما تق أر لمفكرين مسلمين ،فتمر عليك الصفحات والفصول ال تعثر على ذكر
اهلل ،ومحبة اهلل ،والعبودية هلل ،وال على ذكر الجنة والنار واآلخرة وحياة الخلود .ذلك
أن أسلوب التفكير ومجال التفكير الجاهليين ال مكان فيهما لكل ذلك .فينقطع حديث
بعضنا عن تلك المساحة اإليمانية األبدية انحسا ار إلى األبعاد المادية التاريخية المألوفة.
8
لهذا نضع بين يدي هذه الصحيفة بإلحاح ذكر اهلل تعالى .ألن التربية ال تكون
إسالمية إن لم تحقق في نفس المربي الرغبة في اهلل واالستعداد المتحفز للسباق إلى
مغفرته وجنته ورضاه ووجهه حتى االستشهاد .وألن التنظيم ال يكون إسالميا إن لم
تنتظم محبة اهلل تعالى والتنافس في الجهاد إليه جماعة المؤمنين.
نحن المسلمين ثمانمائة أو ألف مليون على وجهها اليوم .وهي أعداد غثائية مغلوبة
على أمرها ،ال قدرة لها على تغيير ما بها .إو�نما أتتنا هذه الغثائية من خوفنا الموت.
ولن نصبح مستحقين لخالفة اهلل ورسوله في األرض إال إن أصبحت غاية كل مجاهد
من أهل اإليمان أن يموت في سبيل اهلل ،إو�ال إن نهضنا للجهاد المستميت في صف
منتظم مرصوص يحب اهلل من يرصه وينصر إلى جنابه الكريم من يقاتل فيه ويبذل فيه
المال والنفس .ذلك المؤمن المجاهد لن يكون إال نتاج تربية ،وذلك الصف لن ينتظم إال
إن كان المنهاج المنظم نبويا وهمة رجاله ربانية.
القومة اإلسالمية:
كلمة قومة أخذناها من تاريخنا .فقد كان علماؤنا يسمون جند اهلل الناهضين في
وجه الظلمة قائمين .عرف تاريخنا قائمين من آل البيت كاإلمام الحسين بن علي،
وزيد ،ومحمد النفس الزكية ،ويحيى ،إو�براهيم .نستعمل كلمة قومة تفاديا الستعمال كلمة
ثورة .ألن «ثورة» فيها العنف ونحن نريد القوة .والقوة وضع يد التنفيذ في مواضعها
الشرعية بينما العنف وضعها بميزان الهوى والغضب« .ثورة» كلمة استعملت لوصف
الحركات االجتماعية الجاهلية ،فنريد أن نتميز في التعبير ليكون جهادنا نسجا على
منوالنا النبوي ،ال نتلوث بتقليد الكافر .على أن القومة نريدها جذرية تنقلنا من بناء الفتنة
ونظامها ،وأجواء الجاهلية ونطاقها ،إلى مكان األمن والقوة في ظل اإلسالم ،إو�لى مكانة
العزة باهلل ورسوله ،والبد لهذا من هدم ما فسد هدما ال يظلم وال يحيف ،هدما بشريعة
اهلل ،ال عنفا أعمى على اإلنسان كالعنف المعهود عندهم في ثوراتهم.
9
التحرر ،تلك «الثورات» التي نقلت شعوبنا المغلوبة على أمرها من نظام جاهلي يميني
إلى آخر يساري ،ثم عودا على بدء في حمى االضطراب التي تعصف بنا على يد حكام
الجبر فينا.
تربيتنا وتنظيمنا ينبغي أن يعدا القوة اإلسالمية الذاتية التي ال تعتمد على سند
جاهلي ،لتقاوم آثار الفساد في مجتمعاتنا وجند اإلفساد الجاثم على صدرنا ،حتى
نستقيم على أقدامنا ،ونكسب المناعة ضد الغزو الفكري ،والغزو الفعلي ،والحصار
الكائد والخانق من وراء حدودنا .في بالدنا اإلسالمية صنائع للجاهلية ،وسدنة من بني
جلدتنا لمصالحها وفكرها ،يحكموننا بغير ما أنزل اهلل .فجهادهم ال يتأتى بوسائل على
نمط وسائلهم ،وال على أرضية صنعوها وهيأوها وبثوا فيها األلغام من حيث ال ندري.
لن يقوم القومة اإلسالمية إال جند اهلل الذين يتعين أن ننشئهم ونربيهم على نشدان
الشهادة ،ثم ننظمهم وننظم تغلغلهم في الشعب تعاطفا معه وتعليما وتبشي ار وتحريضا،
حتى تتألف الموجة اإلسالمية العارمة التي ينبغي أن نقودها لتكون قومة إسالمية ال
ثورة عمياء.
في القومة اإلسالمية ينبغي أن يعرف كل مجاهد من جند اهلل مهمته في الصف،
يتصورها بوضوح كما يتصور المهمة الكلية للجند وخط سيره .إو�ن كان صناع الثورات
ال يعرفون من التربية إال التثقيف اإليديولوجي يتلوه االنضباط الحديدي في التنظيم،
فإن صناعة القومة تريد من جند اهلل ،مع اإليمان باهلل والسباق إليه ،مشاركة في الفهم
والتنفيذ بحافز من داخل ،بحافز اإليمان والبذل في اهلل .وال تأتي الطاعة لنظام الصف
إال مكمال من خارج.
أمرنا اهلل عز وجل أن ال نطيع أمر المفسدين .قال عز من قائل على لسان صالح
ون ِفي ْال َْر ِ
ض ين ُي ْف ِس ُد َ
ين الَِّذ َ
س ِرِف َ ِ
عليه السالم يخاطب قومهَ { :وَل تُط ُ
يعوا أ َْم َر ا ْل ُم ْ
صِل ُح َ
ون}. َوَل ُي ْ
1
واألمر سار فينا إلى يوم القيامة .فعندما تتألف الموجة العارمة يستطيع المؤمنون
1الشعراء152-151 ،
10
إيقاف الفساد بالعصيان الشامل ،واإلضراب العام ،والنزول للشارع ،حتى يخزي اهلل
المسرفين الذين يفسدون في األرض وال يصلحون .على أن القومة قد تشق وسط
األحداث المتموجة طريقا إلى اإلسالم غير هذه المحجة الناصعة .فيربى المؤمنون على
الصمود الطويل ،دون رفض الفرص التاريخية والفجوات والغرات في صف المسرفين.
ويرصد الصف اإلسالمي على سلوك تلك المسيرة القاصدة دون أن يمنعه ذلك عن
النفاذ إلى الحكم من مسارب جانبية كلما كان التسرب حكمة .هناك خطر احتواء الموجة
اإلسالمية بإفساد الرجال ،والكيد للحركة ،واالنحراف بها .ولكن متى كانت التربية
إحسانية ،وكان الجند وقادة الجند ربانيين ،فإن لعبة االحتواء تنفضح وتنهزم آخر األمر.
صمود ومرونة ،خط ثابت وحركة حكيمة .البد أن نعرف قواعد الحرب السياسية
المحلية والعالمية .وال بد أن يكون للتنظيم المجاهد أفق فكري ،ومواضع أقدام على رقعة
السياسة ،واستعداد لمزاحمة األعداء ومكايدتهم ما دامت الموجة العارمة لما تتألف .وال
بد أن تكون التربية إعدادا شامال لذلك المؤمن المجاهد الذي ينبري أمام العدو ،يعرض
صدره للرصاص والدبابات عند الحاجة ،لكنه يتجهز بكل أسباب القوة العلمية والعملية
ليساهم في الصف وراء القيادة في التقدم خطوة خطوة بالقضية اإلسالمية ،س ار وجهرا،
ك ار وفرا ،يوما لنا ويوما علينا ،حتى النصر إن شاء اهلل.
11
الفصل األول
اقتحام العقبة إلى اهلل
• عقبات
• مهمات جند اهلل
• كيف يؤدي جند اهلل مهماتهم؟
اقتحام العقبة إلى اهلل
عقبات:
الدعوة إلى اهلل تخاطب اإلنسان من حيث كونه إنسانا في كبد ،تستحثه للنهوض
من الجهل باهلل والقعود عن الجهاد في سبيل اهلل .تشجعه على اقتحام العقبة التي
يتجاوز باقتحامها عوائق الشح المجبولة عليه النفوس ،فيصبح مؤهال لالنضمام لجماعة
المؤمنين المتواصين بالصبر والمرحمة ،المصطفين للميمنة والسعادة عند اهلل.
التربية اإلسالمية تخاطب أعمق ما في اإلنسان وهو شعوره بالخواء والعبث ما
دام بعيدا عن اهلل .ثم ترفعه في صحبة المؤمنين المتواصين الصابرين المتراحمين إلى
طلب أسمى غاية وهي وجه اهلل واالستواء مع أصحاب الميمنة .االلتزام اإلسالمي
اإليماني اإلحساني ليس كااللتزام السياسي .فهذا ال يحتاج إال لتربية الفكر .أما الدخول
مع المؤمنين فيريد اندماجا عاطفيا وفكريا وحركيا في جسم الجماعة ،اندماجا ال ينقطع
بانتهاء الحياة الدنيا بل يمتد إلى الحياة األبدية .مصير اإلنسان األخروي بعد أن يسلم
وينضم للجماعة مرتبط بمصير الجهاد الجماعي .فمن اقتحم كل العقبات التي تحول بينه
وبين نصر اهلل تعالى بالمال والنفس كان من أصحاب الميمنة واستحق جزاء المجاهدين.
1البلد
13
السؤال المطروح على فقه التجديد وعلى المنهاج النبوي في التربية والتنظيم هو:
كيف نربي اإليمان في القلوب ،وعلم الجهاد في العقول ،ودراية التحرك بين الناس،
وطلب الشهادة في سبيل اهلل مع الصف وبنظام الصف؟ الكتاب والسنة شريعة متلوة
معلومة .أحكام الشريعة معطلة إال في بعض العبادات عند بعض المسلمين ،ففقه
المنهاج -وهو ثمرة اجتهاد لهذا المكان وهذا الزمان -يطلب إليه أن يتناول كليات
التربية ،وكليات الجهاد ،بما في ذلك تنظيم حزب اهلل بما يضمن إحياء رجال ونساء،
إو�حياء أمة ،وتحريك الكل على المنهاج النبوي -على الطريق الصاعد عبر العقبة-
المؤدي للخالفة اإلسالمية بالنسبة لألمة ولرضى اهلل في الميمنة بالنسبة لكل مؤمن
ومؤمنة .كتاب اهلل وسنة نبيه شريعة ثابتة ،ونحن أمة وأجيال طرأنا في األرض ووجدنا
أنفسنا نحمل ثقل قلة إيماننا ،وثقل الفتنة بيننا ،وثقل الحرب المسعرة علينا .فهذه األجيال
الطارئة لن تتحول أمة تحمل رسالة اهلل وتنصر دين اهلل في األرض إن اكتفت بتكديس
العلم بالكتاب والسنة .المنهاج الضروري لكي يصبح الطارئ أصيال هو المنهاج الذي
يربي اإلنسان انطالقا من كبده الفردي والجماعي ،ويرفعه مع الجماعة إلى قمة العقبة،
إلى حيث ينال رضى اهلل دنيا وأخرى .تصعيد الهمم والجهود وتعبئتها لتكون في مستوى
الجهاد ،هما مهمة المنهاج النبوي وثمرته المرجوة.
السير الثابت الخطى بال فتور إلى ساحة الشهادة في سبيل اهلل هو ما نريده ممن
نربيهم من الناس وممن ننظمهم من جند اهلل .التربية بداية السير ،فمتى كانت متينة
على هدى من اهلل كان الجهاد ممكنا ،إو�ن أخللنا في التربية فال يصح أن ننتظر نص ار
من اهلل .من المسلمين من تغلب حركيتهم تربيتهم ،فسرعان ما ينقلب العمل اإلسالمي
في النية عمال حزبيا سياسيا في الفعل.
إنها خطوات إلى الموت في سبيل هلل ،فمهما كانت الهمة الفردية لدى كل مؤمن ال
ترتفع بصاحبها على كل العقبات نية ،كان السبيل إلى الموت في سبيل الهوى .ومتى
كانت القوة الجماعية لخلل في همم األفراد ،ال تستهدف رضى اهلل كان الفشل.
على أن التدرج ضروري في التربية ،فال يتحمل كل الناس أن يسمعوا وال أن
يستجيبوا لنداء المسيرة الجهادية من أول لقاء وعاشر لقاء .نكتفي ممن ندعوهم بفضول
من المال والوقت والجهد ريثما تنضج رجولتهم اإليمانية فيهبوا كل المال وكل الوقت وكل
14
الجهد والنفس هلل.
ويأتي وقت يفهم فيه المؤمن أن الدنيا ما خلقت لراحة المؤمنين ،إنما هو جهاد
شاق وعقبة تقتحم ،والمجاهد من كان يومه أفضل من أمسه مثابرة ومصابرة ،ومن «ينام
على أفضل العزائم» لغده كما يقول اإلمام البنا رحمه اهلل.
يجب أن يكون الهم األول لكل مؤمن ومؤمنة نيل رضى اهلل ،ورضى اهلل أشبه
أن يناله المجاهدون .فمن ثم ينبغي للتربية اإليمانية اإلحسانية أن تربط جهاد النفس
لترويضها على الحق بجهاد العلم والعمل .وينبغي للتنظيم المنهاجي أن يؤسس حركته
األفقية اليومية والتاريخية على ذلك الشوق الذي يحث العبد على اقتحام العقبة إلى اهلل.
عقبات كثيرة أمام المؤمن وأمام جماعة الجهاد يمكن تلخيصها في ثالث لكل منها
بعد نفسي تربوي وبعد اجتماعي تنظيمي:
-1الذهنية الرعوية .وهي ذهنية النفوس القاعدة التي تنتظر أن يفعل بها وال تفعل،
وأن يدبر غيرها لها وهي ال تقدر أن تدبر .أولئك قوم يحق عليهم قول رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم« :من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق».
-3العادة الجارفة للمجتمعات المسلمة في تيار التبعية للوضع السائد ،المانعة لنا
أن نعرف معروفا بميزان الشرع ،أو ننكر منك ار يذمه الشرع ،فتنة!
ودون التغيير مقاومة الحكام واضطهادهم للدعاة .دونه جهل المسلمين باإلسالم.
دونه هذه الحضارة المادية التي احتلت نفوسنا وأرضنا وحياتنا السياسية واليومية
ببضائعها وأفكارها وصنائعها فينا ومكرها.
15
من يريد تغيير واقع الفتنة ال بد أن يحسب حساب الواقع ،ليربي الرجال والنساء،
وينظم الصف القادر على مسك الواقع المرذول ،بقوة وحكمة .عقول متخلفة تحتاج بعد نور
اإليمان إلى نور العلم باهلل ودينه إو�لى العلم بنواميس اهلل في الكون ،عقبة! عند الجاهلية
تقدم تكنولوجي يبهر النفوس الضعيفة فتعرض عن اإليمان باهلل تبعية وخنوعا .عقبة! ال
يكفي أن نذكر الناس بالمؤمنين األولين الذين جاهدوا تحت لواء اإلسالم مع رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم وخلفائه الراشدين .أولئك أعدوا ما استطاعوا من قوة على مستوى
عصرهم .ونحن يلزمنا إعداد قوة العلم بالنواميس اإللهية على مستوى مستقبل العالم في
نفس الوقت الذي نقوي فيه إيماننا .ونحن متخلفون حضاريا وعقليا .عقبة! جند اهلل مندوب
ليزيل الظلم الطبقي داخل مجتمعاتنا المفتونة ويصد العدوان الجاهلي .ونحن معزولون
عن الحكم في بالدنا .محاربون من خارج بتمالؤ حكام الجبر فينا .عقبة! جند اهلل مندوبون
ليعيدوا بناء األمة على قواعد اإليمان .فلكي يعتمدوا على اهلل في ذلك ال يصلح أن ينتظروا
أن يقوم غيرهم بذلك البناء .يقول المتواكل هنا :أين نحن من القدرة على هذه المهمة
الضخمة؟ عقبة! ويقول المتوكل :إذا كان اهلل معنا فلن نغلب من قلة ،ولن نفشل إن اتخذنا
كل ما في وسعنا من أسباب! ونحن لها صعودا إلى قمة العقبة إن شاء اهلل!
وبما أن جهاد النفس وجهاد األعداء يقتضي مزاحمة الناس بالمناكب ،ومكايدتهم،
ومخاتلتهم ،ومواجهتهم بما تقتضي األحوال ،ال الهروب من ساحة المكايدة والقتال،
فإن جند اهلل بحاجة لتصحيح االتجاه في كل خطوة لكيال تفضي بهم حركاتهم إلى
مواطن الردى .فكل تعليم وتربية ،وكل حركة ،وكل تخطيط إو�نجاز ،ال تكون إسالمية
إال بموافقتها واستجابتها ألمر اهلل ورسوله .الموافقة واالستجابة لنقل صحيح من كتاب
16
وسنة يجتهد في إطارهما عقل عالم ،بإرادة جهادية.
مهمات جند اهلل بدءا من أسفل العقبة ،وهو واقعنا كأمة متخلفة مقهورة ،وانتهاء إلى
قمة العقبة بإقامة األمة الوارثة في مقام الخالفة عن اهلل ورسوله ،هي بالترتيب الذي ال
يمنع التداخل والتزامن متى كانا حكمة:
جماعة المسلمين أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األمة بلزومها في أحاديث
كثيرة منها حديث أبي ذر الذي رواه أبو داود« :من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع
ربقة اإلسالم من عنقه» .ومنها من حديث صحيح رواه الترمذي عن عمر ...« :عليكم
بالجماعة ،إو�ياكم والفرقة ...من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة».
ومنذ انفراط عقد الجماعة األولى بمقتل اإلمام علي كرم اهلل وجهه اختلفت األمة
فأصبحت لها جماعات .إما واقفة مع حكام العض والجبر إو�ما عليهم .واآلن وقد توزعت
األمة في أقطار مستقل بعضها عن بعض في دويالت غثائية يطلب إلى المؤمنين أن
يسعوا إلقامة جماعة المسلمين .لكن البناء ال يمكن من أعلى .فنظ ار لحصول فئات
المؤمنين الموزعين في أقطار بالد اإلسالم تحت سيطرة حكام حريصين على قطع
صالت الحركة اإلسالمية العالمية ،مسارعين لقمع كل اتصال تنظيمي من قطر إلى
قطر بدعوى التعامل مع قوات «أجنبية» ،ونظ ار لتعدد التنظيمات اإلسالمية المنتشرة
في أكثر من قطر ،ونظ ار ألن النزاع بين بعض هذه التنظيمات يبعد إمكانيات تأليف
التنظيمات المحلية القطرية لتعلق الفئات القطرية بجانب دون جانب ،نرى أن أنسب
إطار للتنظيم هو القطر كما صاغته الفتن التاريخية وكما تحكمه الدويالت القومية .ذلك
مرحلة حتى تتحرر األقطار ،واحدا بعد اآلخر ،وتلتقي الدول اإلسالمية المحررة لتعيد
وحدة المسلمين بتوحيد التنظيمات القطرية في كيان عالمي.
ينبغي أن نربي رجاال فوق مستوى االنتماء التعصبي ،فغيرهم لن يبنوا جماعة.
17
وال يغتر الدعاة بأن تكثير العدد وحده يكون «جماعة المسلمين» مهما كان التنظيم
في ظاهره محكما .ال بد من تربية رجال يكونون مع الحق ال مع الهوى .والحق القيام
بتجميع طاقات المسلمين ال بتبديدها .والهوى الباطل أن نستعبد الرجال ونربطهم فك ار
وحركة بالرجال ال بالصواب .قال اإلمام علي كرم اهلل وجهه البن الكواء «الجماعة واهلل
مجامعة أهل الحق إو�ن قلوا .والفرقة مجامعة أهل الباطل ولو كثروا» .وقال معاذ بن
جبل رضي اهلل عنه« :الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك».
جند اهلل بعد التربية والتنظيم وأثناءهما يجب وجوبا ملحا أن يلجوا الميدان السياسي،
ويعدوا كل القوة ،ويوجهوا كل الجهد للوصول إلى الحكم في قطرهم .ال ينتظر المؤمنون
أن يبدأ انتصار اإلسالم في العالم بمعجزة من السماء .ليكن الهدف المباشر هو الزحف
األرضي لالستيالء على الحكم .وسنفصل كيف فيما يأتي إن شاء اهلل.
المسلمون المجاهدون أمة واحدة عبر الحدود الفتنوية .هم الذين ندبهم اهلل فانتدبوا
ون ِبا ْلمعر ِ
وف َوَي ْن َه ْو َن َع ِن ُم ٌة َي ْد ُع َ ِفي قولهَ { :وْلتَ ُكن ِّمن ُك ْم أ َّ
ون إلَى ا ْل َخ ْي ِر َوَيأ ُ
ْم ُر َ َ ْ ُ
ون} 1.هم أمة مجاهدة من بين األمة العامة التي قال اهلل ا ْل ُمن َك ِر َوأ ُْولَ ِـئ َك ُه ُم ا ْل ُم ْفِل ُح َ
2
اس}. ُخ ِر َج ْت ِل َّلن ِ
ُم ٍة أ ْفيهاُ { :كنتُ ْم َخ ْي َر أ َّ
فقبل تحرير األقطار ال بد من تنسيق بين الجماعات عبر العالم تنسيقا ال يثير داخل
كل قطر حساسيات الخالفات خارجه .فذلك تهييء الفكر ،واالجتهاد ،ومنهاج التربية
والتنظيم ،ومنهاج الحكم ،ليوم تتحرر فيه األقطار ،فيلتقي المؤمنون ويتدرجوا لوحدة
االندماج .على أن صورة الوحدة يمكن ،بل يستحسن لمزايا توزيع المسؤوليات ولمضار
الحكومة المركزية ،أن تكون من نوع ما يسميه العصر فيدرالية.
18
-4الخالفة الوارثة:
عندها يجب على المؤمنين في العالم أن ينصبوا خليفة عليهم باجتماع أولي األمر
من رجال الدعوة والدولة اإلسالميين ،وانتخاب خليفة لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
عليهم .وقبل الوصول إلى نظام الخالفة ،وهو النظام الموعود في حديث اإلمام أحمد
الذي أسلفناه ،وهو النظام الشرعي ،يقام إمام قطري في كل بلد تحرر .وسنكتب إن شاء
اهلل في نظام الدولة اإلسالمية تفصيل ذلك.
عندها يمكن لألمة الموعودة بالوراثة واالستخالف في األرض أن تبلغ رسالة اهلل
ِ
ق سولَ ُه ِبا ْل ُه َدى َوِد ِ
ين ا ْل َح ِّ للعالم تحقيقا لوعد اهلل حيث قالُ { :ه َو الَّذي أ َْر َ
س َل َر ُ
ِّين ُكلِّ ِه} 1.وقد بشرنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أحاديث ِل ُي ْظ ِه َرهُ َعلَى الد ِ
صحاح بأن الخالفة على منهاج النبوة آتية ،وقال في حديث رواه ابن حبان في صحيحه
وغيره ،وهو حديث صحيح« :ليبلغن هذا األمر ما بلغ الليل والنهار .وال يترك اهلل بيت
مدر وال وبر إال أدخله اهلل هذا الدين ،بعز عزيز أو بذل ذليل .ع از يعز اهلل به اإلسالم
وذال يذل اهلل به الكفر» .وروى اإلمام أحمد والدارمي وغيرهما وهو حديث صحيـح أن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أخبر أن القسطنطينية تفتح قبـل رومية -وهي روما.-
وقد فتحت األولى والثانية ستفتح ال ريب والمستقبل لإلسالم.
هذه بإجمال مهمات جند اهلل .ولكل مرحلة من مراحل الزحف إلى الحكم ،ومن
مراحل البناء تربية وتنظيما ودولة ،ينبغي أن يفهم جند اهلل مهمتهم المستقبلية ،فيتهيأوا
لها ،ويتحركوا في يومهم بما ال يعرقل حركة غدهم .إنها مسؤولية شعوب مفككة ،مغزوة،
متخلفة اقتصاديا وعلميا وعسكريا وحضاريا .مشاكل أمثال الجبال تريد جيال مؤمنا من
نوع جديد من الرجال .تريد جماعة عضوية متماسكة باإليمان ،قوية بالخبرة واألمانة
على البلوغ بركب الدعوة والدولة اإلسالميين ،بالمنهاج النبوي ،إلى الهدف السامق.
مهمات جند اهلل تريد كتائب منظمة ،تريد الضبط ،تريد الفهم الواضح لعقبة السير،
تريد فهما ألمر اهلل ورسوله ،وفقها للعالم ونواميسه وما يضطرب فيه من قوى معادية
1التوبة33 ،
19
لإلسالم أو مستعدة لمسالمته .تريد مهمات اإلسالميين رجاال أح ار ار من طاغوت الهوى
وطاغوت الناس ،عبادا هلل ،يربون تربية المؤمن المسؤول أمام اهلل والناس ،المشارك
بصدق إو�خالص في بناء أمته ،يرجو بلوغ قمة العقبة لينظر وجه اهلل.
إن عضو جماعة المسلمين المجاهد إذا كان في مستوى اإليمان واإلحسان هو
لبنة البناء .فعلى نوعية تربيته يتوقف نجاح القومة اإلسالمية في القطر والعالم .وللقومة
شروط ،بعد قوة إيمان المؤمن ،تتلخص في إحكام التنظيم على شريعة اهلل ،محبة بين
المؤمنين ،وشورى ،وتناصحا ،وطاعة .تتلخص في القدرة الجماعية على التفاعل مع
الظروف الداخلية والخارجية ،قدرة تريد علما ،ووسائل ،وتخطيطيا ومرونة.
المنهاج النبوي في التحرك الجهادي بين أيدينا نقرأه في السيرة العطرة .وعلينا
اتباعه في الخط الرئيسي ،واالجتهاد في جزئيات الحركة ،إلنزالها على أحكام اهلل وسنة
رسوله صلى اهلل عليه وسلم.
كائن عضوي حي تألف في مكة رباه المعصوم المؤيد المنصور ،هو جماعة
سميت فيما بعد المهاجرين .وتحركت الجماعة ،وصدقت ،وتحاب أعضاؤها في اهلل،
وتوالوا فيه ،وسمعوا ،وأطاعوا ،وتشاوروا في األمر ،ثم جاء أنصار اهلل من يثرب فبايعوا،
وآووا ونصروا .وجاهد المؤمنون المخاطبون بالقرآن ،من مهاجرين وأنصار ،تحت قيادة،
وبتعبئة ،وعلى مراحل ،حتى سقطت طواغيت الكفر.
كان للمؤمنين وهم يتلقون الوحي طريا تفوق على المشركين في الثقة باهلل والعلم
20
به .فكان العشرون منهم يغلبون المائتين من سواهم .كانوا رجاال صنعتهم التربية النبوية
ومحصهم اهلل باألذى والشدائد .فلما أيقنوا أن ما عند اهلل خير ،غلب سباقهم إلى مغفرة
اهلل ورضوانه وجنته عوامل الجبن البشري.
عندما يكون مع المؤمنين كتائب مما يشبه هذه التربية وذلك التآلف والتنظيم ،يمكن
أن يعتمد جند اهلل على موعود اهلل ورسوله ،وينشبوا الزحف .بدون كائن عضوي حي
منظم ال يتصور عمل .فعلى المؤمنين أن يقول بعضهم لبعض« :بأيدينا نسأل اهلل أن
ينزل قدره .فهات يدك نتحاب ونتعاهد على نصر اهلل» .وللزحف محجة الحبة وهدف
معلن ،ومرونة ضرورية ،وثمن معلوم.
-1المحجة الالحبة:
ال نكذب على حكام الجبر وال على أنفسنا عندما ندعوهم للتوبة والسلوك مسلك
عمر بن عبد العزيز :إنما نتحداهم ونتخذ مظلة سياسية يعلم الكل ،نحن وهم ،ماذا تعني
الكلمات .بعد هذا نقول :إن على المؤمنين أن يعمقوا ثقتهم باهلل عز وجل ،ويربوا جيال
وأجياال ،وينظموا صفا قطريا متينا منتش ار في الشعب ،يعلمه ،ويستنهضه ،ويحرضه
على اإليمان استعدادا ليوم نبلغ فيه أشدنا ويبلغ فشلهم غايته ،فيزلزل حزب اهلل ،من
ورائه الشعب المسلم ،أنظمة الجبر .ال تعوقنا صعوبة عقبات هذه المحجة عن ولوجها،
وال تستخفنا العجلة على الصبر على طولها .وال يمنعنا هذا التهييء على المدى الطويل
من التحرك الميداني النشيط.
لم تنجح حتى اآلن حركة إسالمية في الوصول إلى الحكم بغير هذا المسلك
الوعر الطويل .إيران أمامنا .ولهذا الطريق ثمن سنذكره فيما يلي .أما إيثار العافية،
والسكوت األخرس عن الحق ،وهامشية السرية ،فليست من سنة رسل اهلل عليهم
الصالة والسالم .نوح عليه السالم قال لقومه« :فأجمعوا أمركم وشركاءكم .ثم ال
يكن أمركم عليكم غمة .ثم اقضوا إلي وال تنظرون» .وقال هود عليه السالم لقومه:
«فكيدوني جميعا ثم ال تنظرون» .وقال شعيب لقومه« :ويا قوم اعملوا على مكانتكم
إني عامل .سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب .وارتقبوا إني
معكم رقيب» .وقال أنبياء اهلل مثل ذلك .وقيل لمحمد صلى اهلل عليه وسلمُ { :ق ْل
ون لَ ُه ع ِ ِ ِ
اق َب ُة َ ون َمن تَ ُك ُ
ف تَ ْعلَ ُم َ اع َملُواْ َعلَى َم َكا َنت ُك ْم إِ ِّني َعام ٌل فَ َ
س ْو َ َيا قَ ْوِم ْ
21
الد ِ
ِّار} 1.فنزل صلى اهلل عليه وسلم إلى بطحاء مكة وأعلن أن ال إله إال اهلل،
ِّ
وسفه الطاغوت ،وأوذي ،وعزاه اهلل عز وجل بقولهَ { :ولَقَ ْد ُكذ َب ْت ُر ُ
س ٌل ِّمن
ص ُرَنا }. ص َب ُرواْ َعلَى َما ُك ِّذ ُبواْ َوأُو ُذ واْ َحتَّى أَتَ ُ ِ
اه ْم َن ْ قَ ْبل َك فَ َ
2
اعملوا على مكانتكم .اعملوا ما في وسعكم ووسائلكم .هذه كلمة من وطد نفسه
على اقتحام العقبة ،ووثق باهلل وباع نفسه وماله هلل.
قد يكون تحدي الطاغوت تهو ار في ظروف ال يقدرها إال من يعانيها .لكن ليتق
اهلل المؤمنون أن يمنعهم من الجهر بالحق فهم يبرر القعود ،أو زعم أن هذا النبات
اإلسالمي الشاب من يربيه وينظمه إن ذهبت أنا وذهبنا نحن .المهم أن نجنب الصف
تبعات مواقفنا السلبية وأخطاءنا .المهم جدا أال نذهب هدرا ،وأن يدفع األعداء ثمنا
باهظا لحياتنا ،وأن يترك استشهادنا دويا ومثال لمن بعدنا .المهم أال يلعب األعداء
بحياتنا وموتنا .فإن اهلل هو الذي أنبت ،وهو الذي يرعى ،ويبعث من أوليائه من يشاء
لخدمة اإلسالم.
ال نقول كلمة األفغاني رحمه اهلل« :قل كلمتك وامش» فلم يعد الوقت مناسبا لها،
وال هي تقوم بمهمة وقد استيقظ المسلمون بصيحات من سبقونا بإيمان .نقول إن واجب
الدعاة أن يربوا وينظموا ويزحفوا .ولكن ال بد من دفع الثمن والتربية بالمواقف الناصعة.
فلعل مجاهدا مثل سيد قطب رحمه اهلل كانت شهادته في سبيل اهلل أكبر مساهمة في
دفع قضية المسلمين إلى النصر بفضل نعمة اهلل عليه بذلك الموقف االستشهادي .كان
يقول رحمه اهلل ما معناه « :أعمالنا دمى ال تسري فيها الحياة إال بدمائنا».
ال تجد في بالد المسلمين ترددا في صفوف األحزاب السياسية ،خاصة الشيوعية
1األنعام.135 ،
2األنعام34 ،
22
والعلمانية ،أن تعلن عزمها على فرض نظامها ،وتنشر خطها السياسي الهادف إلى
إقامة الدولة االشتراكية العلمانية .أفنكون نحن أخس همة ،وأبلد فكرا ،ونحن مسلمون،
والبالد مسلمة والشعوب مسلمة؟
ال شك أن أنظمة الجبر تتعاون معهم وتركز عداءها وحربها علينا .لكن قد يكون
مرجع ذلك إلى أن تلك األحزاب تعرف قواعد اللعبة السياسية وقواعد اإلستراتيجية
والتكتيك بلسان العصر وال نحب نحن أن نعرف .وقد علمنا رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم كيف نتصرف ،إذ استعمل الحبيب كل وسائل عصره .نعم كل وسائل عصره من
الدخول تحت حماية كبير مشرك ،ومن عقد معاهدات التعايش مع اليهود والتصالح مع
قريش ،ومن ربط أحالف مع القبائل ،ومن تعبئة في الحرب على مثال ما عرف في
زمانه صلى اهلل عليه وسلم ،إلى ما سوى ذلك من خدع الحرب ،ورأي الفطناء ،ومكائد
الزمان.
ول َوأ ُْوِلي األ َْم ِر ِ ِ ُّها الَِّذ َ
س َالر ُ
يعواْ َّ
يعواْ اللّ َه َوأَط ُ
آم ُنواْ أَط ُ
ين َ قال اهلل تعالىَ{ :يا أَي َ
ِمن ُكم} 1.نقف عند قوله «منكم» ِ
أمَّنا دمى اإللحاد في أفغانستان؟ ِ
أمَّنا من سفك دماء ْ
َّ ِ
المؤمنين في مصر ومن يسفكها في كل بالد المسلمين؟ أمنا أمثال من عذب المؤمنات
الطاهرات القانتات بما لم يعذب به أحد في تاريخ البشر؟ ِ
أمَّنا من يأمر بالمنكر وينهى
عن المعروف؟ ويطول التساؤل.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه اإلمام أحمد وابن ماجة والطبراني،
وهو حديث صحيح ،عن ابن مسعود« :سيلي أموركم رجال يطفئون السنة ويعملون
بالبدعة ،ويؤخرون الصالة عن مواقيتها» فقلت (أي ابن مسعود)« :يا رسول اهلل:
إن أدركتهم كيف أفعل؟ «قال« :تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل! ال طاعة لمن
1النساء59 ،
23
عصى اهلل».
ونقل الحافظ المنذري وروى الترمذي والحاكم اتفاق الصحابة على أن من أخر
الصالة عن وقتها عمدا فقد كفر .هذا في حق عامة الناس ،فما بالك بالحاكم!
وروى أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وهو حديث
صحيح عن بريدة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إن العهد الذي بيننا وبينهم
الصالة ،فمن تركها فقد كفر».
من أخر الصالة عن وقتها عامدا كفر ،ومن أخرها فقد تركها ،ومن تركها أصبح
منهم ال ِمَّنا ،ومن كان منهم ال ِمَّنا فال طاعة له علينا« .وتسألني يا ابن أم عبد ما
تفعل؟».
قال عبادة بن الصامت فيما رواه الشيخان والنسائي« :بايعنا رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا،
وعلى أال ننازع األمر أهله» .وفي رواية قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إال أن
تروا كف ار بواحا عندكم من اهلل فيه برهان».
تأخير الصالة عمدا كفر بواح .أين نحن ممن يعلنون كفرهم في كل نطق؟ أين
نحن من حكام الجبر العلمانيين جها ار الفاسقين ليال ونهارا ،الكافرين الظالمين إسرافا
وتبارا! نرى دمى اإللحاد في أفغانستان وغيرها يصلون في التلفزيون وعلى صفحات
المجالت ينافقون .ومن وراء خفض الجسوم ورفعها قلوب عشعش فيها جحود اهلل،
ومحاربة اهلل ،إو�حالل ما حرم اهلل.
قال الشوكاني شرحا لحديث نبوي يقول« :ال طاعة في معصية اهلل» :أي ال تجب
بل تحرم على من كان قاد ار عن االمتناع.
يحرم علينا السكوت والرضى وطاعة من يعصون اهلل .إو�نه الثمن يؤدى .إو�ن لمن
أداه رضوان اهلل عز وجل ،روى أبو نعيم في «دالئل النبوة» أن رسول اهلل صلى اهلل
24
عليه وسلم قال« :أال إن رحى اإلسالم دائرة ،فدوروا مع الكتاب حيث دار .أال إن كتاب
اهلل والسلطان سيختلفان ،فال تفارقوا الكتاب .أال إنه سيكون عليكم أمراء يرضون ألنفسهم
ما ال يرضون لكم ،إن أطعتموهم أضلوكم .إو�ن عصيتموهم قتلوكم» قالوا« :وما نفعل يا
رسول اهلل؟» قال« :كما فعل أصحاب موسى ،حملوا على الخشب ،ونشروا بالمناشير.
فوالذي نفس محمد بيده ،لموت في طاعة خير من حياة في معصية».
خطنا السياسي الواضح هو أننا ال نعارض حكام الجبر معارضة األحزاب على
مستوى تدبير المعاش واالقتصاد بل نعصيهم ألنهم خرجوا عن دائرة اإلسالم إال أن
يتوبوا توبة عمر بن عبد العزيز .وقد كتبنا في غير هذا المكان ماذا نعني بهذا .نعصيهم
ونعارضهم ألنهم خربوا الدين ،واتخذوا من أمريكا وروسيا أولياء من دون المؤمنين.
األمر أعمق وأخطر وأشد صرامة من مجرد المعارضة السياسية.
لكن الشعب الخامل المضلل والشباب المشحون المهيج ،ال يكاد أحد منهم يفهم
وجوب الخروج عن طاعة من أخر الصالة عن وقتها .ال يفهم العامة أن حاكما ال
يصلي رجل يعصي اهلل وقد يجحده ابتداء .فإذا جحد وعصى أصبح طاغوتا ،وحكم
بهواه ،وحارب اهلل ،وظلم عباده .أهون على من يعصي اهلل بترك الصالة ،وهي عماد
الدين ،أن يعصيه في سائر الدين .فإذا عطل الدين حكم بغير ما أنزل اهلل ،فكان من
الكافرين الفاسقين الظالمين ،فعزله المنصب شرعا .ال بد أن نشرح للشعب وللشباب
ماذا يعني التحول اإلسالمي الذي نريده بالنسبة للظلم الطبقي ،بالنسبة للتبعية ،بالنسبة
للمستقبل االقتصادي واالجتماعي والسياسي لبالدنا ،نشرح كل ذلك في تفاصيله،
فنتحدث عن الخبز اليومي ،عن العامل المهضوم الحق ،عن أب األسرة المقهور تحت
أعباء المعاش ،عن الفالح الذي يستغله الثري الظالم والحاكم الجبار ،عن التعليم
وفساده ،عن القضاء ورشاه ،عن اإلدارة الكسيحة السخيفة ،وعن مسؤولية الحكم في كل
هذا .وبتفصيل إو�لحاح نخبر الخاص والعام أن اهلل ما أمر بشيء مثل ما أمر بالعدل.
فال نكن أقل إلحاحا على هذه النقطة من الشيوعيين ،وال نكن أقل حرصا على التبشير
بالحرية -إذ ال إكراه في الدين -من الرأسماليين مع الفارق بيننا وبين يمين الجاهلية
ويسارها .تحرير اإلنسان من ظلم الطبقية ،وتحرير أرض المسلمين من العدو الصهيوني
الجاثم على أعز بقعة من بالدنا يعنيان عندنا مصير العزة أو مصير الهوان ،مصير
25
كل واحد منا عند اهلل ،ومصير هذه األمة في التاريخ .نشرح للعامة التغيير المطلوب
في حياتهم ونربط باإلسالم ،ونعلم.
نريد تغيي ار جوهريا يأتي بنيان الفتنة من القواعد .فعلينا أن نكون ال على مستوى
العصر الذي تتحكم فيه الجاهلية وقيمها ،بل على مستوى مستقبل نقترحه نحن على
التاريخ ،ونصنعه ،ونخترعه على هدى من اهلل وبإذنه .يتهمنا األعداء بالرجعية،
يجمعون في كلمتهم إسالم تاركي الصالة الجبريين إو�سالم الدعاة المجددين .وترك
الصالة عندنا أقذع لعنة ،لكن األعداء ال يريدون أن يميزوا بين إنحناءات المنافقين
وقيام المؤمنين بين يدي ربهم .والرجعية النظر إلى وراء .فال يمنعنا تشبثنا بسنة نبينا
صلى اهلل عليه وسلم أن نفكر ونخطط ونطرح مشاكل المستقبل بوسائل الحاضر ،ال
سي ار مع الخط الذي تسير فيه الحضارة المادية الصائرة إلى الهاوية ،لكن إعدادا لقوة
العلم والتنظيم كي نحل مشاكل التنمية ،ونحل معها مشاكل الحضارة المادية المفروضة
علينا ،ريثما نقيم حضارة أخوية على مستوى حاجة اإلنسانية للحرية وطمأنينية العيش
والنفس ،ونرد السالم للعالم .إننا ال نرضى بهيمنة الدول العظمى على العالم ،وال
باستعباد اإلنسان وهضم كرامته وحقوقه اآلدمية ،وال بطحن جسم اإلنسان ووقته بين
عجالت اإلنتاج واالستهالك ،وال بتشويه نفس اإلنسان وحياته الفكرية والعاطفية بالثقافة
المنحلة المخدرة العنيفة.
يجب أن نصنع فك ار مستقبليا يلقي على آفاق هذا القرن الخامس عشر ،قرن
اإلسالم بإذن اهلل ،ومن بعده ،نور القرآن ونور الهدي النبوي .يلقي على حياة البشر نو ار
به يميزون ما ينفع في الدنيا واآلخرة ،وما يضر في الدنيا واآلخرة .إو�ننا لفي سباق مع
الثورة الصناعية التي سبقونا بها ،ومع الثورة اإلعالمية -أقصد ثورة اإللكترون وآالت
العد والتنظيم والضبط -التي ال يقدر ما ستحدثه في حياة الناس من آثار إال اهلل تبارك
وتعالى.
ال سالح لدينا ،فيجب أن نبني اقتصاد القوة إلعداده ،ال وحدة ترجى بين حكام
الجور وال فائدة من وحدتهم ،فيجب أن نهيء وحدة الشعوب المسلمة بعد تربيتها
وتعليمها وتحريرها.
26
يجب أن نحارب ،نحن اإلسالميين ،قبل التحرر وبعده ،محاوالت التعتيم على
فكرنا ونوايانا ،وفهمنا للواقع ،وخطتنا لتغيير العالم يجب أن نحارب التهميش والتخويف
اللذين يريدان منا أن نبقى في الحركية السرية العنيفة لينقض علينا الحكام ،فإن كان في
يدنا عصا دسوا فيها مسدسا ليلصقوا بنا تهمتهم المنطلية على الناس ،تهمة الصهاينة
المبيتة« :إخوان مسلمون = إرهابيون قتالون رجعيون».
نبرز بمشروعنا ،ونعلنه ،ونحارب دونه بأساليب السياسة ما انفتح لنا فجوة ،وبكل
األساليب إن اضطهدنا.
-4المرونة:
قد يكون بعضنا تحت نظام من أنظمة الجبر ألجأته ضرورة البحث عن مشروعية
ما أن يفتح باب الحريات العامة .إن كان هذا فخط عالمنا المودودي رحمه اهلل أن يساهم
المسلمون في اللعبة الديمقراطية .هذا يتيح للمسلمين أن يعرفوا بقضيتهم وحلهم لمشاكل
األمة على وضح النهار .ولوجود هذا الوضوح يتهيأ للمسلمين أن يقارعوا الحجة بالحجة
ويبلغوا للناس رسالتهم من منابر البرلمان والتجمعات والمناصب االنتخابية.
هذا جيد ،مع السكوت المؤقت الضروري عن أن اإلسالم له مشروعيته ،وهي شيء
آخر غير مشروعية الديمقراطية التي تسمح لصنائع أمريكا وروسيا بالتربع على منصات
األمة ،يعلمونها الخنوع للكافرين واإللحاد في دين اهلل.
وقد يكون بعضنا تحت نظام غير ديمقراطي يتقرب لإلسالم -كما يحدث ونحن
نكتب في باكستان وغيرها -عندها يمكن للمؤمنين أن يطلبوا من الحكام المحتاجين لسند
شعبي ميثاقا إسالميا يعلن على الجميع ،ويصوت عليه الشعب ،ويعطي الحكام عهودهم
على العمل لتهييء الحكم اإلسالمي بعد مرحلة انتقالية تحدد.
وقد يكون -وهذا حادث فعال -بعضنا تحت ظروف أعقبت إجهادا وبالء .عندها
يكون التسرب اللطيف إلى أجهزة دول الجبر اإلعالمية والحكومية خدمة للدعوة على
المدى البعيد .وليكف بعضنا عن اتهام بعض في قضية التميز والمنابذة ،فإن لكل
مقام مقاال .ومن أحنى رأسه أمام العاصفة بنية تغيير أسلوب الجهاد فإنما يعمل على
27
المستوى الجماعي بهذا الحديث النبوي الوارد في حق المؤمن الفرد .وال بأس .روى
الشيخان عن أبي هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :مثل المؤمن كمثل
خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفتها .فإذا سكنت اعتدلت وكذلك المؤمن يكفأ بالبالء.
ومثل الفاجر كاألرزة صماء معتدلة .حتى يقصمها اهلل إذا شاء».
ولو تتبعت سيرة المصطفى صلى اهلل عليه وسلم لرأيت هذا الصبر عند البالء
ومرونة خامة الزرع .مثال عندما ألح سهيل بن عمرو في كتابة صلح الحديبية على
أن يمحي من الصحيفة البسملة ونسبة الرسالة إلى محمد صلى اهلل عليه وسلم فمحاها
نبي الرحمة بيده الكريمة.
على أن التسرب ألجهزة الحكم ،إو�عداد الرجال لكل مناصب الدولة ومواطن الخبرة
والقيادة فيها ،جزء أساسي من الخط الالحب الذي يجب أن يمضي فيكون ذلك الخط
صلب العمل وحواشيه مرونة ،ويكون النهر وروافده الفرص التاريخية ،ويكون الثابت
على السير في الوجهة وما يأتي به اهلل من انعراجات سياسية متحركات ال توقف السير.
السياسة الشرعية تجيب أن القومة اإلسالمية على حكام الجبر مشروعة ،وال
يصطدم بالشرع أي من الرأي والخدعة الحربية والمكايدة التي وصفنا بعضها .ومن
الرأي والخدعة والمكايدة أن نكتب هذا ونعلنه لمن يعلم قواعد اللعبة السياسية ومداخل
األمور .أما غيره فيحسب أن الرأي والحرب والكيد في أن يخفي أمره فال يعرفه أحد،
فتنسب إليه الطوام ،وتنصب له الحبائل ،ويسقط مضغة في قبضة الطاغوت .واهلل من
ورائهم محيط .إو�نها لعقبة واقتحام.
28
الفصل الثاني
تجديد الدين واإليمان
• التجديد
• اإلسالم واإليمان واإلحسان
• شعب اإليمان
تجديد الدين واإليمان
التجديد:
كثر من بين حكام الجبر المرشحون السم مجدد القرن .وبعضهم ممن ال يمت إلى
اإليمان بصلة ألّف في الموضوع .الذهنية الرعوية االنتظارية التي تعتمد على الغير أن
يدبر لها أمرها سائدة ،فهم يرسخون االنتظار والقعود بالتزوير ورفع الشعارات.
علماؤنا السابقون بإيمان تناقشوا طويال لمعرفة مجددي القرون السالفة .ونحن يهمنا
حبا في اإلطالع ،لكن أن نعرف معنى التجديد ،ومن يجدد ،وبم يجدد ،وكيف يجدد ال ّ
تحريا أن يكون جهادنا مستمدا من الهدي النبوي ،منضبطا بالسنة النبوية ،سائ ار على
منهاج النبوة.
-1روى اإلمام أحمد وحسنه السيوطي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:
«إن اإليمان يخلق (أي يبلى) في القلب كما يخلق الثوب ،فجددوا إيمانكم» وفي رواية:
«إن اإليمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ،فاسألوا اهلل تعالى أن يجدد
اإليمان في قلوبكم» .ورواه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك.
-2روى أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة أن رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم قال« :إن اهلل يبعث لهذه األمة على رأس كل مائة سنة من يجدد
لها دينها».
-3روى اإلمام أحمد والطبراني ،ورجال أحمد ثقات ،والحديث صححه السيوطي،
عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :جددوا
إيمانكم» ،قيل« :يا رسول اهلل وكيف نجدد إيماننا؟» قال« :أكثروا من قول ال إله إال
اهلل».
30
تحصَّل لنا من هذه األحاديث الشريفة أن اإليمان يبلى فيجب تجديده ،يضعف
فتتعين تقويته وأن األمة تكلؤها عناية اهلل فيبعث سبحانه لها من يجدد لها دينها ،وأن
اإليمان يعالج من باله وضعفه بطب موصوف ال لبس في كنهه وماهيته ووسيلته.
جاء في األثر أن اإليمان قول باللسان وتصديق بالجنان (وهو القلب) وعمل
باألركان .لكن موطن اإليمان القلب ،بل هو منطلق اإليمان .فإن خبت بواعث اإليمان
في القلب بطل العمل ونطق اللسان نفاقا .ومتى قوي اإليمان في القلب بتجديده اشتدت
بواعث العمل الصالح .فالتجديد المطلوب لألمة هو تجديد بواعثها لتقوم ،أفرادا تجدد
إيمانهم بالتربية ،وجماعة تجددت قوتها بتجدد بواعث أعضائها اإليمانية ،بواجب الجهاد
واقتحام العقبة.
ليس التجديد تغيي ار للثابت من شرع اهلل ،فإن أحكام الكتاب والسنة ماضية إلى يوم
القيامة ،دعاة العصرنة يودون لو نقصنا من اإلسالم هذه الصالة المستغرقة للوقت،
وهذا الصيام المرهق للعمال ،وصيرناه إيديولوجية بلباس عصري ،ال نرتاب أن االجتهاد
ضروري لتكييف حياة العصر مع شرع اهلل ،فهو تسليم العصر ال عصرنة اإلسالم.
يبعث اهلل عز وجل من يجدد لألمة دينها .اختلف علماؤنا منذ قديم في تعيين مجدد
كل قرن ،واتفقوا أو كادوا أن مجدد القرن األول عمر بن عبد العزيز رضي اهلل عنه.
ونحن ننظر إلى القرن الرابع عشر فنرى فيه رجاال يبرز من بينهم الشيخ البنا بنورانية
خاصة ،وأثر في تربية هذه األجيال الصالحة ،فال نبعد أن يكون هو رحمه اهلل مجدد
القرن الماضي.
نحن على عتبة القرن الخامس عشر وليس حديث في العالم إال عن صحوة اإلسالم
ويقظته .فهذا التجديد على رأس هذا القرن يعلن عن نفسه بظهور نسأل اهلل أن يكون
سيره حاسما .كما نرجوه جلت عظمته أن يستعملنا لنكون من هذا المن الذي يجدد اهلل
«من» المذكورة في الحديث قد تعني شخصا بعينه كما تعني
به الدين لألمة .فرأينا أن َ
جماعة يتعاونون على إحقاق الحق بعد إبطال الباطل.
بقيت الوصفة الطبية كلمة ال إله إال اهلل ،قولها ،اإلكثار من قولها ،باللسان.
باللسان أوال .أال إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أوتي جوامع الحكم ،فكالمه علمي
31
دقيق ،ووصفه هنا للطب المجدد لإليمان ال أوضح وال أبسط منه :اإلكثار من قول
ال إله إال اهلل فجند اهلل زادهم ال إله إال اهلل ،كلمة مجددة على اللسان ،يكثرون منها.
واإلكثار لم يعين حده .ونرى أن المئات من المرات ال تكفي ،يلزم حزب من ال إله إال اهلل
آالف المرات بالعشي واإلبكار وما بينهما ،بالغدو واآلصال ،آناء الليل وأطراف النهار.
أال إنه طب نبوي ،قول باللسان أوال ،ومع الطب وبعده فجند اهلل برنامجهم لدحض
الطاغوت إو�حقاق الحق ال إله إال اهلل ،ال معبود إال إياه ،ال حاكم إال هو ،ال مشرع إال
هو ،ال مرغوبا في رضاه ومخوفا من غضبه إال هو.
وقد جمعت بفضل اهلل أكثر من سبع وعشرين حديثا في فضل ال إله إال اهلل،
فالحمد هلل دعاء أن يجدد إيماننا باإلكثار من قولها ،باللسان أوال ،باالستغراق فيها.
واإلكثار منها ركن أساسي في التربية كما سنرى إن شاء اهلل.
لكلمة إسالم معنى عام يشمل في مدرجته كل معاني العبودية هلل تعالى ،وله معنى
خاص عندما يطلق على درجة من درجات العبودية .إنه ال بد لنا من تصنيف الناس
في مجتمعاتنا اإلسالمية لنعرف أين كل واحد من هذا السلم المرتقي من إسالم إليمان
إلحسان .ثم ال بد لنا عند التربية أن ننتظر ثمرة التربية ،وهي ارتقاء أصحابنا من إسالم
ال يتميز عن عامة الناس ،إلى إيمان يتكامل فيؤهلهم للدخول في الصف ،ثم يتكامل
1الرعد28 ،
32
فيؤهلهم للجهاد في الصف ،ثم ترق ثالث يرفع ذوي االستعداد من رجال الصف إلى
مرتبة اإلحسان.
أتتنا أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مروية عنه في جلساته وخطبه
ووعظه ووصاياه .لكن حديث جبريل المشهور الذي رواه الشيخان وأصحاب السنن عن
عمر جاءنا في حلة من التشويق والغرابة والتفصيل التربوي .جاء جبريل فرآه الصحابة
وسمعوه وتلقوا حواره الغريب مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ما ذاك إال ألهمية هذا
التفصيل الذي ال نجده في حديث غيره.
قال عمر« :بينما نحن جلوس عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذات يوم إذ طلع
علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ،ال يرى عليه أثر السفر ،وال يعرفه
منا أحد ،حتى جلس إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ،ووضع
كفيه على فخديه ،وقال :يا محمد! أخبرني عن اإلسالم! فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم :اإلسالم أن تشهد أن ال إله إال اهلل وأن محمدا رسول اهلل ،وتقيم الصالة ،وتؤتي
الزكاة ،وتصوم رمضان ،وتحج البيت إن استطعت إليه سبيال .قال :صدقت! فعجبنا له
يسأله ويصدقه! قال :فأخبرني عن اإليمان! قال :أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله
واليوم اآلخر ،وتؤمن بالقدر خيره وشره .قال :صدقت! قال :فأخبرني عن اإلحسان!
قال :أن تعبد اهلل كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك ،قال :فأخبرني عن الساعة!
قال :ما المسؤول عنها بأعلم من السائل! قال :فأخبرني عن أماراتها! قال :أن تلد األمة
رَّبتها ،وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان .ثم انطلق .فلبثت
مليا ،ثم قال لي (أي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم) :يا عمر! أتدري من السائل؟
قلت :اهلل ورسوله أعلم! قال :إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
احتاج األمر ألهميته أن ينزل جبريل على صورة رجل ويحاور رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم حوا ار مدهشا ليعلمهم دينهم .الدين إسالم إو�يمان إو�حسان وترقب للساعة،
والدين الذي يجدده اهلل لألمة بمن يصطفيه من خلقه هو كل هذا ،ال يتبعض.
ومن كونه ال يتبعض نلح هنا على اقتحام العقبة ،وقد أخذنا العبارة من كالم اهلل
33
تعالى ،صعود في درجات اإلسالم واإليمان واإلحسان.
جند اهلل ال بد أن يكونوا كلهم من المؤمنين ،ال يكفي أن يكونوا مسلمين بهذا المعنى
الخاص .لكن سعي كل واحد منهم الستكمال إيمانه فالترقي إلى مرتبة اإلحسان أمر
أساسي بدونه ترتخي الصلة باهلل عز وجل وتفتر ،فال مفر لها إن فتر شوق العبد إلى
ربه وحب لقائه إال دركات النفاق.
أولياء اهلل درجات ،والوالية الكبرى ،والية فتح البصائر ونورانية الشهادة بين الناس
بالقسط درجة خاصة يصطفي اهلل لها من يشاء من عباده.
لكن الوقوف على الباب ،والتذلل بين يدي رب األرباب من كسب العبد .فيجب
وجوبا أكيدا أن يربى جند اهلل على لزوم باب العبودية ،امتثاال حريصا دقيقا ألمر اهلل عز
وجل ،ومناجاة له ،وحضو ار قلبيا عند ذكر اللسان وخارجه ،حتى يصبح العبد المؤمن
ذاك ار ربه ،قائما بين يديه ال يفتر .على هذا يتوقف نجاح القومة اإلسالمية ،وهذا القيام
بين يدي اهلل عز وجل هو لب القومة ومغزاها وروحها.
نق أر عند بعض علمائنا ذك ار للكمال والوراثة ،ويخيل لبعضنا أن كمال الوراثة
ينحصر في التحصيل العلمي .كال واهلل! إنما الكمال االختصاصي وراثة لمقامات
اإلحسان .وهو اختصاص إلهي ال يدخل كسب العبد فيه إال من حيث كون التحصيل
العلمي الضروري والتربية يهيئان للدخول على باب دخل منه إلى حضرة القرب من أنعم
اهلل عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
34
ينبغي لجند اهلل أن يناجوا ربهم في الصالة وفي أوقات الذكر بما علمنا سبحانه أن
نطلب ،وهو أن يهدينا الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم عليهم .ومع المناجاة القولية
إخبات في القلب وتذلل ،واستفتاح ألبواب رحمته ،يختص برحمته من يشاء ،ومن يشأ
يجعله على صراط مستقيم إو�ذا أحبك ألهمك الطلب.
شعب اإليمان:
روى الشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
قال« :اإليمان بضع وسبعون شعبة -عند البخاري بضع وستون( -زاد مسلم) :أعالها
قول ال إله إال اهلل ،وأدناها إماطة األذى عن الطريق ،والحياء شعبة من اإليمان».
نجد أن ال إله إال اهلل ،إكثا ار من قولها أوال ،هي أعلى شعب اإليمان ال ننس هذا،
فبنسيانه نظهر استهانتنا بصدق وبيان المعلم الرباني صلى اهلل عليه وسلم.
سواد جند اهلل ال بد أن يكونوا مؤمنين ،ال يكفي أن يكونوا مسلمين بالمعنى الخاص،
مع التوجه الواجب لمراتب اإلحسان.
رأينا أن التجديد هو تجديد اإليمان بعد باله ،وأن الدين الذي أتى جبريل ليعلمه
المؤمنين هو الدين الذي يجدده من يبعثهم اهلل على رأس كل مائة سنة .ورأينا أن القرآن
الكريم يخاطب المؤمنين ال المسلمين وال المحسنين ،ذلك أن من المسلمين من يأتي
لألعمال الظاهرة من شهادة وصالة وغيرهما وهو منافق ،فهذا ال يخاطب بالقيام على
دين اهلل .وألن اإلحسان درجة خاصة واصطفاء ،ينبغي أن يتوق إليهما كل المؤمنين،
لكن تعيين أصحابهما ليس من اختصاص البشر.
فبقي المؤمنون ،وال بد أن تكون لهم مواصفات بها يعرفون ،وتربية تهيئهم ليحملوا
مسؤولية تنفيذ أمر اهلل ،وتنظيم يجعل منهم جندا قادرين على التنفيذ ،وقانون يضبط
زحفهم إلى الجهاد.
35
الحديث النبوي عن شعب اإليمان يعطي وسيلة التربية القلبية ال إله إال اهلل ،ويصف
ثمرة اإليمان في خلق الحياء ،ويتنزل إلى تلمس دالئل اإليمان في أسهل األعمال
وأبسطها كإماطة األذى عن الطريق .هذه الثالثة نماذج للسلوك الرباني النوراني :ال إله
إال اهلل ونورانيتها -وللتهذيب الوجداني :الحياء والخير الذي يأتي به -وللمشاركة الفعلية
في الحياة العامة الجماعية :إماطة األذى عن طريق المسلمين.
وقد ألف في شعب اإليمان اإلمام الحافظ أبو عبد اهلل الحليمي ،واإلمام الحافظ عبد
اهلل البيهقي وغيرهما كثير ،رضي اهلل عن الجميع.
ورضي اهلل عنا إذ نلتمس على أثرهم المنهاج النبوي للتربية والتنظيم والجهاد في
جمع شعب اإليمان وترتيبها وتنسيقها.
ألفوا شعب اإليمان وهم رجال الحديث والفقه على نسق وافق قصدهم من جمع
حديـث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتقديمه -كما فعل الحليمي في كتابه الذي طبع
أخي ار والذي نقل عنه علماؤنا كثي ار عبر األجيال -ككل متمسك يصور حياة اإليمان في
قلب المؤمن وقالبه وفي المجتمع.
ولنا اهتمامات لعصرنا وما بعده ،ونواجه جهل الناس بإسالمهم فنؤلف تأليفا غير
تأليفهم .ال نأتي بجديد بدعي ،لكن نرتب مراحل التربية والتنظيم والجهاد ،ونحسب سبعا
وسبعين شعبة متدرجة ما فيها حرف واحد خارج عن كتاب اهلل وسنة رسوله صلى اهلل
عليه وسلم .أتينا بالترتيب فقط لمقاصد تربوية تنظيمية ،فهي سياسة شرعية ال غبار
عليها.
وقسمنا السبع والسبعين شعبة عشر فئات سميناها الخصال العشر ،وجمعناها في
كتاب يضم أكثر من ألفي حديث نبوي يسر اهلل تحقيقه وطبعه .ونبسط هنا إن شاء اهلل
محصول تدبرنا لشعب اإليمان ،نجعلها صلب المنهاج النبوي ودليله.
تتدرج الخصال العشر من الخطاب القرآني لإلنسان وندبه إياه القتحام العقبة
والكينونة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
36
فحصول اإلنسان في مرحمة الجماعة ،باكتشافه أخوتها الدافئة الرفيقة الباذلة
الحنون ،يحصل الخصلة األولى :الصحبة والجماعة ،ثم يترقى من خصلة إلى خصلة
حتى يحصل الخصلة العاشرة وهي :الجهاد .وبذلك تكون تربيته تمت ،وعضويته في
تنظيم جند اهلل استوثقت .وبتحصيل جند اهلل جماعة لفضائل شعب اإليمان يكون التنظيم
قد استوفى خصائص حزب اهلل المنصورين الغالبين.
إن شعب اإليمان ،كما يدل على ذلك المعنى اللغوي لشعب ،روافد يتألف منها
نهر اإليمان .فإن تصورناها خيوطا إيمانية تربط العبد بربه فهي تكون ،إن فتلت وأتقن
تأليف رجالها حتى أصبح خلقهم القرآن ،حبل اهلل المتين الممتد من السماء رحمة إلى
األرض ،حيث تظهر عمال حكيما وجهادا مجددا .وعندئذ فالتمسك بجماعة المسلمين
في األرض استمساك بالعروة الوثقى.
نرجع إن شاء اهلل إلى شعب اإليمان والخصال العشر في الفصل الخامس بعد
فصلين في عموميات التربية والتنظيم.
37
الفصل الثالث
التربيـــة
كان علماؤنا ممن ألف في طبقات الرجال يكتبون« :فالن فريد في مجموعه»،
يقصدون أن ما اجتمع فيه من فضائل العلم والعمل جعله ممتا از ال يماثله أحد في
اجتماع تلك الفضائل.
ونحن نعتقد أن ما من عبد إال وأعطاه اهلل تبارك وتعالى المنعم خصوصيات في
الجسم والعقل وقابليات اإليمان واإلحسان ،لذلك فال يمكن أن تنتج التربية جيال متماثال
أفراده كما تخرج البضائع من المعمل .فنحتفظ بكلمة «مجموع» ومفهوم «مجموع».
األعرابية:
األعرابية صفة لألعراب ،وللكلمة مدلول لغوي ،فاألعراب لغة هم العرب البدو،
كما أن للكلمة معنى إسالميا قرآنيا .وهم في القرآن والسنة مسلمون أسلموا ولم يهاجروا
إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال نصروه نصرة األوس والخزرج رضي اهلل عنهم.
فاألعراب في القرآن والحديث هم ،في مقابل المهاجرين واألنصار ،قوم مسلمون في
أطراف جماعة المسلمين سكنا إو�يمانا .جماعة المسلمين هم المهاجرون واألنصار على
عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ونعلم في سيرة الجهاد النبوي غناءهم في اإلسالم
وسابقتهم ،ونق أر سورة التوبة لنعلم أن األعراب خليط من مسلمين صادقين ،وآخرين
منافقين ،وآخرين قاعدين متخلفين ،وآخرين يخونون عهد اهلل :خليط .وغثاؤنا الحالي
خليط فيهم الصالحون وفيهم دون ذلك ،فتصنيف الناس على عهدنا وما بعده ال ينطلق
من تكفير أحد وال تضليله إال أن يكون كفر بواح لنا فيه من اهلل برهان ،لكن نميز
الصادقين حتى ال نحسب أن عدد المحوقلين يغني شيئا في حقائق الجهاد.
39
مراتب جند اهلل:
ال نستطيع أن نعلم ،إال بحسن الظن الذي أمرنا به ،قدر عبد من عباد اهلل
سولُ ُه
س َي َرى اللّ ُه َع َملَ ُك ْم َوَر ُ عند اهلل ،بيد أن اهلل عز وجل يقولَ { :وُق ِل ْ
اع َملُواْ فَ َ
ون} 1 .فما يعلمه اهلل تعالى من درجات عباده عنده غيب .إو�نما نعطي جند َوا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ
اهلل مراتب حسب ما نراه نحن وما نقدره من كفاءتهم وغنائهم في الجهاد .ونترك ما بين
العبد وربه.
نرى أن اإلكثار من المراتب أمر ال حاجة إليه ،كما أنه ال حاجة إلى رتب أصال
لوال ضرورة أن يعرف كل مؤمن مكان رباطه ومستوى مسؤولياته في الهيكل التنظيمي
والسلم التنفيذي .فابتداء من إسالم عام ،من مجتمع ال مقاييس إسالمية فيه ،نربي
ونمتحن من كان قابال للتربية ومن يقترح نفسه حتى نأنس أنه أصبح نصي ار للدعوة
فنسميه عضوا نصيرا ،فإذا زاد على المشاركة الناصرة وحصل على مجموع جيد من
الفضائل العلمية العملية الخلقية التنفيذية سميناه عضوا مهاجرا ،استئناسا وتفاؤال بهذين
اللقبين الكريمين عند اهلل.
والجند ال بد أن يرضوا بالرتبة الظاهرة التي أحلهم فيها إخوتهم .مجلس الشعبة
برئاسة نقيب الشعبة ونقباء األسر التي تتكون منها الشعبة -سنحدد مباني الشعبة
1التوبة105 ،
40
واألسرة في الفصل التالي إن شاء اهلل -هو الذي يتصرف في مرتبية األعضاء
والمرشحين للعضوية.
من حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (رواه اإلمام أحمد ومسلم والترمذي
والنسائي)« :الناس كإبل مائة ال تكاد تجد فيها راحلة» .عامة الناس ال تحمل إال هم
العيش وهم الدنيا ،وقليل من يدفعه هم اآلخرة للتحرر من جاذبية األرض .وأقل منهم
من يحمل هم األمة ،وأقل منهم من يجمع إلى هم األمة الشوق الدائم للموت في سبيل
اهلل ،وأقل منهم من يترجم ذلك الهم وذلك الشوق جهادا فيه غناء لألمة.
فال يدخلن في عضوية الجماعة ونظامها إال القادرون على حمل هم األمة،
القادرون على بذل النفس والنفيس جهادا في سبيل اهلل ،األقوياء األمناء على ذلك ،مع
شرط التقوى ومحبة اهلل ورسوله.
حين فضل عمر رضي اهلل عنه الناس في العطاء بعضهم على بعض ،وقد كانوا
على عهد الصديق رضي اهلل عنه سواسية فيه ،سألوه عن ميزان التفضيل ،فقال« :المرء
وغناؤه في اإلسالم ،المرء وسابقته في اإلسالم ،والمرء وحظه من اهلل».
ونحتاج لهذا الميزان ،فهو من سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي أمرنا أن
نعض بالنواجذ على سنة خلفائه الراشدين .في بعض األقطار جماعة منظمة نشأت
نشأة طبيعية من دعوة رجل أو جماعة موحدة من أول أمرها ،وفي أقطار أخرى
جماعات وخالفات أو مجرد أفراد من المؤمنين.
41
الذين هم تحته يسمح بالحريات العامة أو يجتمعون س ار إن كان يضطهد .ويختار هؤالء
األصناف الثالثة مجلسا قياديا ويختار المجلس مرشدا .ومن هذه القيادة ينبثق البناء
الهرمي نزوال ليلتقي باختيار أهل الغناء والسابقة والحظ من اهلل في القاعدة .وسنرجع
إلى البناء الهرمي في الفصل التالي إن شاء اهلل.
ويفيدنا ميزان عمر في تحديد مواصفات الشخصية اإلسالمية التي نربيها ،خاصة
األعضاء القياديين .فمن كان ذا غناء وسابقة وحظ من اهلل كان خليقا أن تتمثل فيه
شعب اإليمان سلوكا أخالقيا إيمانيا وعلما وقدرة على النهوض بالجماعة الموكول إليه
تربيتها.
تربية مستقبلية:
نحتاج لجماعة تواجه عقبات الحاضر لتخرق طريقها إلى العزة باهلل ورسوله عبر
1املائدة8 ،
42
عقبات االضطهاد .لكن مهمتها ال تنحصر في هذا ،فال بد لها أن تهيئ المستقبل،
مستقبل تحمل مسؤولية دولة ،وتغيير ما باألمة من تخلف حضاري ،وذلة وتبعية،
وعجز عن حمل رسالة اهلل .فينبغي للجماعة المدعوة ألن تشهد على الناس بالقسط
أن تكون قادرة على الصمود وسط األزمات العويصة التي يتخبط فيها العالم ،وعالمنا
اإلسالمي المغزو المستعمر بصفة خاصة .فالبد إذن أن يتطلع المؤمن الذي نربيه
-نثير فيه نحن هذا التطلع ونغذيه -ليكون من صانعي غد أمته .كان اإلمام البنا رحمه
اهلل يتحدث عن ضرورة صناعة الموت ،يعني أن يكون هم المؤمن االستشهاد جهادا
في سبيل اهلل .ونضيف نحن أن هناك صناعة أخرى في نفس المستوى من الضرورة
وهي صناعة التاريخ .فاهتمام النصير والمهاجر والنقيب يجب أن ينصب حول مصيره
عند اهلل ،فيعمق إيمانه وشوقه ،ويعد حياته ليبذلها عند الحاجة في سبيل اهلل .كما يجب
أن يحمله ذلك اإليمان نفسه وذلك الشوق وذلك االستعداد للموت على تهييء طاقاته
الفكرية والمالية والعملية وطاقات من حوله لخدمة بناء الدولة اإلسالمية .مصير المؤمن
هم انتصار
هم ما بعد موته ال ينفك عن ّ
المقبل على اهلل حقا ال ينفك عن مصير أمتهّ .
دين اهلل واستم ارره.
األسر:
َ
ُسر يسهر عليها نقيب يعين
يؤلف جند اهلل والمتدرجون نحو التأهيل للجندية في أ َ
من فوق ،على ضوء الشورى في القواعد .وعند قلة المؤمنين تؤلف األسرة من اثنين
وثالثة حتى يأتي اهلل بأمره .ومن واجب كل عضو أن يسعى إلثراء أسرته بأفضل
العناصر .وفي األسرة يراقب المؤمن الجديد ويربى وتقدر أهليته حتى يعلن عضوا،
يعينه مجلس الشعبة المكون من نقباء أسر الشعبة .فإذا زادت األسرة على عشرة
أعضاء معترف بعضويتهم أخذ طائفة منهم مع طائفة من العناصر تحت االختبار
ليكونوا أسرة جديدة بحيث ال يؤخذ أقوى األعضاء في جانب فتضعف األسرتان .الجو
التربوي في األسرة متوقف على وجود عناصر قوية بإيمانها وقدرتها على العمل .فعلى
أسر الشعبة أن تتولى األسر المبتدئة بالزيارة والدعم المادي والمعنوي حتى تنهض.
43
الحلق في المساجد:
المسجد كان على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين
عرين أسود ،ورياض جهاد ،ومدرسة جامعة ،ومقر قيادة أركان جند اهلل ،ومجلس
شوراهم .ذلك أن بيت اهلل أحق البيوت أن ينطلق منها ويرجع إليها ويتجمع فيها ويتآلف
جند اهلل.
تحت حكم الجبر ينبغي أن يكون تحرير المسجد من اإلسالم الرسمي مطلبا
أساسيا ،وقبل قيام الدولة ما أمكن وبعد ذلك بتأكيد البد أن يكون المسجد مكان اللقاء
بالشعب ،ومدرسة التربية العامة ،ومجالس اإليمان.
حلقات الدروس في المسجد يحضرها أعضاء األسر إلى جانب العامة ،يتعرفون
للناس ،ويعلمون الناس ويتلقون هم من العلم ما ال تتاح الفرصة لتلقيه في جلسات
األسرة وفي البيت.
من أهم وسائل الدعوة والتربية ،خاصة في األوساط الطالبية ،تنظيم اللقاءات
للتعريف باإلسالم .وينبغي أن تنوع نشاطات هذه اللقاءات من معارض للكتب اإلسالمية
ومجالس لتجويد القرآن ومن رياضة وحلقات للنقاش.
المعسكرات والرباطات:
من أهم ما يربط المؤمنين أيام وليال أمضوها في فسحات اإليمان واألخوة والتعاون
الجاد والمثمر بعيدا عن ضوضاء الناس .ينفع كثي ار خاصة المبتدئين من الشباب أن
يشاركوا في معسكرات خارج البلد ما أمكن .وعلى كل شعبة أن تعد لوازم المعسكر
44
ووسائل إقامته ،تستقل بها ،تكون جاهزة لتنظيم معسكرات دورية ألسرها .وينبغي تنظيم
برنامج كل معسكر بدقة .فيركز فيه على موضوع للدراسة معين وتوزع أوقات الليل
والنهار لقيام الليل والتالوة والوعظ والرياضة والتعارف وتبادل الخبرات إو�عداد المستقبل.
وفي فترات غير متباعدة يجلس المؤمنون في رباط يعكفون فيه على ذكر اهلل عز وجل
ليتجدد اإليمان وتتقوى العزائم.
تربية الشباب:
إننا بحاجة لبناء أمة ،والشباب يكونون في مجتمعاتنا المفتونة جيشا من العاطلين
الذين أسيء تعليمهم وتربيتهم .فإذا حصلوا بين أيدينا قبل قيام الدولة وبعده يجب أن
نعدهم إعدادا جادا ليكونوا جند التحرير والبناء .ومتى حصرنا الشباب عن الحركة
ولم نهيء لهم مجاال لصرف نشاطهم خارج جلسات األسرة انفجروا في حركية عنيفة
تضطرب وال تبني .فالبد للشباب من رياضة وخرجات في المعسكر وسياحة .أقصد
سياحة الدعوة والخروج في القرى والمدن لدعوة الناس إلى اإلسالم .وفي الجامعات
ينظمون أنشطتهم بما يظهر قوة المؤمنين وصحة عقيدتهم وفكرهم.
تربية المؤمنات:
العضو النصير هو القادر على رصد صفوة أوقاته خارج المهنة للدعوة .فوقت يومي
45
ألذكاره وتالوته وحفظه .ووقت ليلي لتهجده وتذللـه بين يدي اهلل عز وجل .وثالث لقاءات
ما أمكن في األسبوع لمجالس أسرته ونشاطاتها .وساعة في كل يوم ما أمكن لزيارة من
يرجو استجابتهم للدعوة ،وحده أو مع بعض إخوته ،ممن يزيدون الدعوة قيمة .ووقت في
األسبوع للرياضة .ووقت شهري للمعسكر والسياحة .ووقت في كل حين لسائر أعمال
البر الموصوفة في شعب اإليمان.
وبعد أن نذكر أن التربية ال تقتصر على التحصيل العلمي وأنها تهدف ليكون
للعضو في الجماعة «مجموع» طيب من شعب اإليمان والكفاءات والخبرة والغناء نعطي
أسماء كتب لتكون مرجعا ودليال عاما.
-1القرآن الكريم:
الحفظ والتجويد والتفسير .اقـ أر آداب القرآن في كتـاب «التبيان» للنووي .من
التفـاسير :تفسير ابن كثير »-أحكام القرآن» ألبي بكر بن العربي« -تحت ظالل
القرآن» لسيد قطب.
-2الحديث:
البخاري ومسلم وكتب السنن -رياض الصالحين كرفيق .مع التفاسير المعتبرة
خاصة «فتح الباري» .األربعون النووية حد أدنى للحفظ والتحصيل.
-3فقه العقيدة:
«كبرى اليقينيات الكونية» للدكتور سعيد رمضان البوطي -شرح العقيدة الطحاوية-
شرح العقيدة الواسطية.
-4فقه العبادات:
46
ال اعتراض على فقه المذاهب المعتمدة .لكن فيما يرجع للعبادات وعمال بقوله
صلى اهلل عليه وسلم« :صلوا كما رأيتموني أصلي» نفضل أن يكون للمؤمن علم بأدلة
األحكام.
من الكتب« :فقه السنة» لسيد سابق « -نيل األوطار» للشوكاني وهو كتاب توسع
في الفقه.
-5فقه السيرة:
«فقه السيرة» للدكتور سعيد رمضان البوطي -سيرة ابن هشام مع حاشية اإلمام
السهيلي المسماة «الروض اآلنف»« -حياة الصحابة» للشيخ محمد يوسف الكاندهلوي.
-6فقه السنة:
«قوت القلوب» ألبي طالب المكي «-الرسالة القشيرية» لإلمام القشيري« -إحياء
علوم الدين» لحجة اإلسالم الغزالي «-الفتح الرباني» للشيخ عبد القادر الجيالني-
«بستان العارفين لإلمام النووي.
ما في هذه الكتب من زهادة ال تتناسب مع وقتنا وال مع مقتضيات الجهاد ال ينقص
من قيمتها التربوية .ولنحن أحوج إلى من يشوقنا إلى اهلل منا إلى من يبدد طاقاتنا في
السطوح والخالفات.
ولمن يقلد قل :مضى السلف الصالح على اعتبار رجال الرسالة القشيرية نموذجا
لصالحي هذه األمة .وال نجد في كتابات محدث فقيه مجتهد كابن تيمية رحمه اهلل
إال تبجيال لهم .هذا الفقيه المجتهد أثنى على الشيخ عبد القادر ثناء كثيرا ،واعتبره
من «مشايخ أهل االستقامة» ومن «أئمة المسلمين» وسماه ابن القيم «الشيخ العارف
القدوة» .وكان ابن تيمية رحمه اهلل يق أر «قوت القلوب» المرة بعد األخرى ،وأثنى على
47
أبي طالب ثناء حسنا ،واستصوب عقيدته في كتاب «اإليمان».
لن تجد الطب النفسي وال الهمة العالية مثل ما تجد عند الجيالني وأبي طالب
المكي .وقل لمن يطعن في «اإلحياء» من المنتسبين للحديث أن الحافظ العراقي عمد
إلى أحاديث «اإلحياء» فأخرجها خدمة لهذا الكتاب القيم .واختصره الحافظ المقدسي،
واختصر االختصار الحافظ ابن رجب الحنبلي .فال يصدنك عن معين طب القلوب هذا
صاد .وما وقفت عنده من عبارات ال تفهمها فكل أمرها إلى اهلل ،واعلم أن من يتحدث
عن خفايا النفس البشرية البد أن يعبر بالكناية والمجاز.
-8فقه الدعوة:
رسالة اإلمام البنا -كتب الشيخ المودودي -كتب د .يوسف القرضاوي -كتب
الشيخ سعيد حوى -كتب الشيخ أبي الحسن الندوي.
-9تاريخ اإلسالم:
«ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» للشيخ أبي الحسن الندوي « -رجال الفكر
والدعوة» لنفس المؤلف.
-10تراجم الرجال:
نعم المذكر والمشجع قصص سلفنا الصالح .ألن اهلل تعالى جعل هذه النفس
البشرية تتأثر بتأمل األمثال من جنسنا ما ال تتأثر بالوعظ المجرد ،فعسى أن نق أر سيرة
رجل من الصالحين أو سيرة عالم من المجاهدين فنقول ألنفسنا نوبخها ونستنهضها:
«فاتك الرجال يا خسيسة!»« .صفة الصفوة» ألبي الفرج بن الجوزي « -اإلسالم بين
العلماء والحكام» لعبد العزيز البدري .من استطاع الصبر على حلية أبي نعيم فذاك.
-11اللغة العربية والصرف:
أخرناهما عدا وهما اآللة الضرورية لكل علم إسالمي « -مفردات ألفاظ القرآن»
للراغب األصفهاني «-النحو الوافي» لعباس حسن « -الصرف» محمد خير الدين
الحلواني.
48
فقه الواقع واالختصاص:
من إعداد القوة التي أمرنا بها أن يتعلم كل مؤمن لغة أجنبية أو لغات .وأن يق أر
من كتب علم السياسة واأليديولوجية المعاصرة ما به يستطيع أن يخاطب أهل العصر
على مستوى تفكيرهم .هذا إلى جانب اختصاصه في العلم إن كان من أهل العلم ،وفي
المهنة أيا ما كانت حتى يبرز فيها .ال ننس أننا بحاجة لرجال الدعوة قبل قيام الدولة
اإلسالمية وبعده ،وبحاجة ألطر الدولة ليديروا االقتصاد واإلدارة ومؤسسات الدولة
هم األمة ال يحمله الورع القاعد،
وأجهزة الحكم ،ليروضوها على الخضوع ألحكام اهللّ .
لكن يحمله وينهض بمقتضياته األقوياء بالعلم والخبرة األمناء بخوف اهلل والوفاء بعهده.
من أعمال شعب اإليمان ما يلزم المؤمن مرة في العمر كالحج .ومنها ما يلزم مرة
في السنة كصوم رمضان ،ومنها ما هو موقوت مضبوط كالصالة والزكاة ،ومنها ما
يسنح في أوانه وبمناسبته كعيادة المريض وتشييع الجنازة ،ومنها ما هو فرصة دائمة
كإماطة األذى عن الطريق ،ومنها ما هو صفة نفسية مصاحبة كالحياء ،ومنها ما ينبغي
أن يصبح عادة راسخة كقول ال إله إال اهلل.
لكن المؤمن يجب أن تكون في حياته اليومية معالم لتكون قدمه راسخة في زمن
العبادة والجهاد ال في زمن العادة واللهو .هنالك أوقات المهنة واألسرة والمدرسة والشغل،
فيجب أال يمنع توقيت زمن الوظائف الدنيوية عن إقامة الصالة في وقتها بأي ثمن،
وعن الصالة في الجماعة والمسجد ما أمكن .فإن لم تكن جماعة ومسجد فواجب
المجاهد أن يؤلف حوله المصلين في معمله إو�دارته ومدرسته ويتخذوا لهم مسجدا وأذانا
إو�ماما ودقائق وعظ ودعوة.
-1يبدأ المؤمن يومه ساعة ،أو سويعة إن تكاسل وال ينبغي له ،قبل الفجر يصلي
49
الوتر النبوي إحدى عشر ركعة .ثم يجلس لالستغفار ليكون من المستغفرين باألسحار.
-2الجلسة بعد صالة الصبح إلى الشروق سنة .فذاك زمن مبارك يحافظ عليه
المؤمن ما أمكن تالوة ،جزءا في اليوم بين صباح ومساء وذك ار وتعلما وحفظا.
-4السنن الرواتب ،وليوتر قبل النوم من ال يقوى على القيام أو يخاف فوات
الوقت .ووتر السحر أمثل.
-5ثالث جلسات من ربع ساعة على األقل لذكر ال إله إال اهلل مع حضور القلب
مع اهلل عز وجل.
-6اإلكثار من الصالة على النبي صلى اهلل عليه وسلم ( 300مرة على األقل
يوميا) ،وتخصيص ليلة الجمعة ويومها للصالة عليه.
-7قبل النوم توجه هلل عز وجل ،وحاسب نفسك ،وجدد التوبة ،ونم على ذكر اهلل
وعلى أفضل العزائم ،ليكون آخر عهدك باليقظة مناجاة ربك أن يفتح لك أبواب الجهاد
والوصول إليه.
-8إن كنت طالبا فابذل الجهد الكافي والوقت الكافي للمذاكرة .فأول واجباتك بعد
الصالة والتالوة والذكر وتحصيل الحد األدنى من العلم أن تنجح في دراستك وتتفوق.
وليكن وقتك بمثابة ميزانية تنفق منها ،فكن بوقتك شحيحا أن تصرفه في الغفلة
وتضيعه في ما ال يغني ،واعلم أن الوقت الذي تندم عليه والت ساعة ندم هو وقت
لم تذكر فيه اهلل تعالى باللسان والقلب والجهاد لنصرة دينه .اقتصد في وقت نفسك وال
تضيع وقت إخوتك بالزيارات الطويلة وبقلة ضبط المواعد.
50
توازن التربية:
إن الخلل الذي يحدث في التربية ينتج عنه خلل في التنظيم ،ومن ثم فشل الجهاد
كله .فعلى قوة الرجال ،عمق إيمان ومتانة خلق ودراية وقدرة على اإلنجاز ،يتوقف
نجاح العمل.
يجب أال تكون السمة الغالبة على جند اهلل زهادة بدعوى الروحانية ،وال إغراقا في
الفكر ،وال تقصي ار وال إسرافا في الحركة.
كان اإلمام علي كرم اهلل وجهه يخاطب جنده في حروب الفتنة يقول« :يا أشباه
الرجال وال رجال!» .ذلك أن عامة جنده كان من مسلمة الفتوح ،ما نالوا من التربية
نصيبا مما ناله الرجال حق الرجال الذين عرفهم اإلمام الخليفة وعاش بينهم وجاهد.
شروط التربية:
التربية اإليمانية عملية على نجاحها يتوقف ميالد المسلم إلى عالم اإليمان ،ثم
نشوءه فيه وتمكنه ورجولته ،وال جهاد بال تربية ،وال يكون التنظيم إسالميا إن لم تكن
التربية إيمانية.
الشرط األول في نجاح التربية وجود صحبة وجماعة تتلقى الوارد عليها في رحاب
المؤمنين المتواصين بالصبر والمرحمة .الوجه الباش ،والكلمة المبشرة المشجعة ،أول ما
ينبغي أن يدركه الوارد من وجود مرحمة ومحبة في األسرة التربوية حتى يحب صحبتها
والسير معها.
51
ومحبة الواردين ،بل محبة المسلمين حين ندعوهم ليردوا علينا ،ال تأتي بتصنع وال
هي نفاق اجتماعي .إنما يجدها المؤمن يفرح بكل رجل هداه اهلل على يده.
يسمي سيد قطب رحمه اهلل الجماعة المصحوبة محضنا ،ويسمي «عزلة شعورية»
الشعور الجديد عند الوارد حين يلمس الرحمة مع المؤمنين فيكره ماضيه ويقبل على
إخوته الجدد.
وال تنجح التربية إن كان النقيب المشرف عليها مجردا عن عاطفة المرحمة أو لم
يكن قدوة في تقواه وسلوكه ،صحبته ال تنفع إذا.
وسنذكر إن شاء اهلل في شعبة الهجرة كيف يطوي الوارد المراحل بالخروج الفعلي
من بيئته العادية ،واالنعزال في المعسكر والسياحة الدعوية ،ليندمج مع البيئة اإليمانية
الصالحة.
يقول سيدنا وابن سيدنا عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما« :أوتينا اإليمان قبل
القرآن ،وأنتم أوتيتم القرآن قبل اإليمان فأنتم تنثرونه نثر الدقل» والدقل رديء التمر.
أخرجه الحاكم وصححه .واختصرناه.
رأينا أن اإليمان يتجدد باإلكثار من قول ال إله إال اهلل ،فعندما تكون الصحبة
صالحة ،رجال صالحا وجماعة صالحة ،ويقبل الكل على ذكر الكلمة الطيبة النورانية
حتى يخرجوا عن الغفلة ،ينشأ جو إيماني مشع ،ينشأ في الجماعة فيض إلهي ،رحمة،
نور تستمد منه القلوب بعضها ببعض .فتلك هي الطاقة اإليمانية ،الجذوة األولى التي
تحرك القلوب والعقول لتلقي القرآن بنية التنفيذ كما كان يقول سيد قطب رحمه اهلل.
النبع ال إله إال اهلل ،والفيض نورها ،حتى يستطيع المؤمن وجماعة المؤمنين تلقي
شمس القرآن ،ومدد القرآن ،وبركة القرآن ،وحتى يستطيعوا العمل بمقتضى القرآن.
وسنرى إن شاء اهلل أن تحت خصلة الذكر في تصنيفها اثنتا عشرة شعبة من شعب
52
اإليمان ،أهمها الصالة ،وأعالها قول ال إله إال اهلل وقلبها القرآن تالوة ومحبة وعمال.
المهمة المندوب إليها حزب اهلل مهمة شاقة ،إنها مهمة بناء أمة ،مهمة استثنائية،
فنريد رجاال من نوع جيد ،لهم استعداد جيد ،ليصبحوا جنودا ،ويكون لهم غناء في ميادين
الجهاد .أعني بكلمة صدق استعداد الوارد ليتحلى بشعب اإليمان ،ويندمج في الجماعة
ويكون له من قوة اإلرادة وطول النفس ما يمكنه من إنجاز المهمات حتى النهاية.
ال فائدة من ضرب الحديد البارد ،وال فائدة من محاولة تربية من ليس له استعداد.
وهنا يطرح سؤال :هل التنظيم اإلسالمي تنظيم نخبوي أو جماهيري بلسان العصر؟
ُنجيب أن جماعة المسلمين ال تتكون إال من المهاجرين واألنصار كما كانت على
عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ومن عداهم يسمون في القرآن أعرابا فال يخاطب
بالجهاد إال من هاجر ونصر.
كذلك اليوم ال بد أن يكون الصف مكونا من عناصر قادرة على التماسك ،وال بد داخل
الصف أن نميز العناصر القيادية ذات االستعداد العالي لنضعها في مكان المسؤولية.
والجماعة بعد هذا ،وبقوة تماسكها ،تستطيع أن تستقطب عطف الشعب ،وتستدعي
سنده ودعمه ،بل واجبها أن تعلم الشعب وتربيه وتعبئه .وال تملك أن تفعل إن كان صفها
ضعيفا.
53
الفصل الرابع
التنظيـم
في اآليات فقه في الفرائض ،فقد كان األنصار والمهاجرون يتوارثون في أول
الهجرة وحاجة المسلمين لتضامن اقتصادي ثم نسخ الحكم.
أما فقه اآليات المحكم الذي ينير لنا مقتضيات وحدود وشروط الدخول في جماعة
المسلمين فهو مفصل بكل دقة.
قال الراغب األصفهاني« :الوالء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصوال ليس
بينهما ما ليس منهما ،ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن
اه ُدواْ
اج ُرواْ َو َج َآم ُنواْ َو َه َ
ين َ فالمؤمنون حق اإليمان كما جاء في اآليات هم {الَِّذ َ
اج ُرواْ َما لَ ُكم ِّمن َوالَ َي ِت ِهم
ين آم ُنواْ َولَم ُي َه ِ
ْ
َِّ
{والذ َ َ ص ُرواْ}َ ،
آوواْ َّوَن َ يل اللّ ِه َوالَِّذ َ
ين َ س ِب ِ ِ
في َ
شي ٍء َحتَّى ُي َه ِ
اج ُرواْ}. ِّمن َ ْ
الوالية قرب بين المؤمنين وتناصر وأخوة ووحدة األمر الجامع بينهم.
معنى هذا من حيث تأليف وتنظيم جماعة المسلمين ،المخاطبة بالقرآن ،المسؤولة
عن إبطال الباطل إو�حقاق الحق ،عن تغيير المنكر إو�حالل المعروف محله ،أن
المؤمنين الذين قطعوا حبال الجاهلية ،وأبلوا البالء الحسن في نصرة دين اهلل إو�يواء
القضية اإلسالمية هم وحدهم دون غيرهم من أعراب المسلمين أهل الوالية والحل والعقد.
ونذكر أن لكمة «أعراب» مدلوال قرآنيا تبين معانيه سورة التوبة.
ال تحسبن أن الهجرة والنصرة معنيان قاما بجماعة الصحابة ثم ذهبا ،كال! فإن
معاني القرآن الكريم خالدة ،فعلينا أن نبحث عن مناط حكمي الهجرة والنصرة في واقعنا
الفتنوي ،فإذا حددنا من هو المهاجر ،وما هي الهجرة والجهاد ،وحددنا ما هي النصرة
واإليواء ،اتضح لنا كيف ننزل تلك األحكام على مجتمعاتنا وفئات الناس فينا.
ليست الهجرة والنصرة حركتين تاريخيتين انتهتا ،المهاجر من هاجر ما حرم اهلل كما
جاء في الحديث ،والهجرة قطع لما بينك وبين ماض بعيد عن االلتزام بالجهاد ،والنصرة
بذل وعطاء وانتصار لقضية اإلسالم.
«ال هجرة بعد الفتح ،لكن جهاد ونية» هذا حديث شريف ،ورواية البخاري« :ال
ستَ ِوي ِمن ُكم {َل َي ْ هجرة بعد فتح مكة» .معنى هذا الحديث في اآلية الكريمة:
َد َر َج ًة ِّم َن ا لَِّذ َ
ين ظ ُم ق ِمن قَ ْب ِل ا ْلفَتْ ِح َوقَاتَ َل أ ُْولَ ِئ َك أ ْ
َع َ َّم ْن أَنفَ َ
56
أَنفَقُوا ِمن َب ْع ُد َوقَاتَلُوا } 1.فالجهاد في سبيل اهلل والهجرة إلى اهلل ،والنصرة
لدينه ،أعمال مطلوبة مأجورة أساسية في الدين ،في كل عصر وحين .إو�نما فاز أهل
السابقة في اإلسالم ،وأهل الغناء في اإلسالم ،وأصحاب الحظ من اهلل بالدرجة العظمى،
ألن جهادهم وهجرتهم ونصرتهم كانت واإلسالم محاصر محارب ،وكلما وجد اإلسالم
في حصار ،كما هو األمر في عصرنا ،فأهل السابقة والغناء والحظ من اهلل هم أهل
الوالية ،ومن لحق بالجماعة من بعد الفتح أو أثناءه -والفتح في عصرنا قيام الدولة
آم ُنواْ اإلسالمية -فيعمه قول اهلل تعالى فيما مر معنا في سورة األنفالَ { :وا لَِّذ َ
ين َ
2
ك ِمن ُك ْم }.
اه ُد واْ َم َع ُك ْم فَأ ُْولَ ِـئ َ
اج ُر واْ َو َج َ ِ
من َب ْع ُد َو َه َ
اإلمارة:
نشأت الجماعة األولى على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نشأة فطرية لم
ينطرح معها مشكل تأليف الجماعة وتنظيمها .رسول من اهلل مؤيد بالوحي والنصر
اإللهيين دعا وربى وقاد جند اهلل للنصر .أما في عصرنا فتأليف جماعة المسلمين
القطرية ثم العالمية ،شيئا فشيئا ،ومرحلة مرحلة كلما تحررت أقطار اإلسالم ،وحيث ال
توجد جماعة انبثقت عن دعوة موحدة وتربية موحدة ،يقتضي تنظيم الوالية على قواعد
اإلمارة الشرعية.
قال اهلل تعالى يخاطب المؤمنين حق اإليمان وقد عرفنا من همَ { :يا أ ُّ
َي َها
3
َم ِر ِمن ُك ْم }.
ول َوأ ُْو ِلي ا أل ْ
س َالر ُ
يعواْ َّ ِ
يعواْ اللّ َه َوأَط ُ
ِ
آم ُنواْ أَط ُ ا لَِّذ َ
ين َ
منكم ال من غيركم .ففريضة عازمة على المسلمين أن يقيموا الخالفة اإلسالمية .وهي
هدف لن نبلغه بانتظار أن تنزل الخالفة مهيأة على حد سواء على كل األقطار ،في
وقت واحد .البد من البدء باإلمارات القطرية حتى تتحرر دار اإلسالم تباعا إن شاء اهلل.
1احلديد10 ،
2األنفال75 ،
3النساء59 ،
57
نبدأ تهييء اإلمارة القطرية بإقامة دعوة موحدة منظمة بقيادة مجلس إماري للدعوة
وأمير للدعوة القطرية .مهمة التنظيم بقيادته أن يربي جند اهلل ،ويؤلف الصف ،ويقود
الجهاد حتى التحرير .ولنسم هذه اإلمارة إرشادا ،فنقول :مجلس إرشاد ،ومرشد عام
للقطر .وبعد التحرير يتم انتخاب أمير القطر ليكون مرشدا للدعوة وأمي ار للدولة معا.
إن تنصيب أمير ونظام إماري من آكد الواجبات ،فال نمل من تكرار أنه ال تحرير
إال بجهاد ،وال جهاد إال بتنظيم ،وال تنظيم إال بنظام إمارة ،وال جدوى من التنظيم إال
بتربية ،وكل ذلك ال معنى له إسالميا إال إن روعي في كل حركاته وتفاصيله أحكام
الشرع المطهر.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إذا خرج ثالثة في سفر فليؤمروا أحدهم».
رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي سعيد وأبي هريرة.
وقال صلى اهلل عليه وسلم« :من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ،مات
ميتة جاهلية .ومن قاتل -في رواية من قتل -تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو
إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية .ومن خرج على أمتي يضرب برها
وفاجرها وال يتحاشى من مؤمنها وال يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه» .رواه
مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة.
ما العمل ،والسفر لتجديد دين اهلل وتحرير المسلمين من الرايات العمية والعصبيات
القومية وحركات التكفير والتغريب أعظم السفر؟ ال خيار إال بين إقامة جماعة إو�مارة
لكيال نموت ميتة جاهلية وبين االنصياع لمن برهنوا بقتل المسلمين ومماألة الكافرين
بأنهم ليسوا منا ولسنا منهم فتكون القتلة جاهلية.
النظام اإلماري:
السلم اإلماري كما يلي:
-1األمير -المرشد العام المنتخب في مرحلة القومة -هو صاحب العزم ،أي اتخاذ
58
القرار ،بعد المشورة مع مجلس اإلرشاد العام المنتخب أيضا .ونفضل أن يحتفظ باألمير
والمجلس ما دام كل من األمير وأعضاء المجلس لم يتعمدوا مخالفة شرعية .ويعطي
كل منهم -خاصة المرشد العام األمير -العذر إن أخطأ عن اجتهاد .فالحاكم إن اجتهد
فأخطأ له أجره عند اهلل ،وعند المؤمنين يعذر .فإن تبين أن الخطأ عمد ومخالفة ،عزل.
نرجع إلى كل هذا بالتفصيل إن شاء اهلل في فصول عن نظام الدولة اإلسالمية الحقة.
-2نقيب مرشد ومجلس إرشاد في كل إقليم في القطر.
-3نقيب مرشد ومجلس إرشاد في كل جهة من جهات اإلقليم .فإن كانت مدينة
من مدن اإلقليم كبيرة قسمت إلى جهات.
-4نقيب مرشد ومجلس إرشاد لكل شعبة .والشعبة ال تتعدى في معدلها عشر
أسر .واألسرة عشرة أعضاء.
-5نقيب مرب يسهر على األسرة ومجلسه أعضاء األسرة.
قيادات التنظيم:
عند التأسيس يجتمع أهل الغناء والسابقة والحظ من اهلل فيختارون مجلسا لإلرشاد
العام ،سبعة أعضاء عدد مناسب لحصر اآلراء ،وتعميق التآلف والتفاهم والتعاون بين
كل رجال القيادة على كل مستوى.
-1مجلس اإلرشاد:
مجلس اإلرشاد العام يختار المرشد العام من بين أعضائه.
-2المرشد العام:
المرشد العام يؤمر النقباء والمرشدين على كل المستويات ،ويتخذ كل الق اررات
التربوية والتنظيمية ،ويرجح األحكام الشرعية فيما فيه خالف ،ويوزع المسؤوليات،
ويفوض في المهمات .كل ذلك باستشارة مجلس اإلرشاد في أهم الق اررات .ونرى أن
لألمير أن يرجح رأي األقلية ما لم يكن شبه إجماع وهو اتفاق ثلثي األعضاء ،فأحرى
إن كان إجماع كامل ،وأن يستشير من له خبرة خاصة من دون سائر أعضاء مجلس
اإلرشاد أو من خارج مجلس اإلرشاد .ومن حقه أن يتخذ القرار في األمور التنفيذية
الجزئية العاجلة دون استشارة .وسيف العزل مصلت على رقبته إن تعسف.
59
َم ِر } 1.واألمر في لغة العرب هو األمر ِ ش ِقال اهلل تعالىَ { :و َ
او ْر ُه ْم في ا أل ْ
المهم .يقال :أمر (على وزن فرح) أمره أي عظم .فللمرشد واألمير أن يستشير في بعض
األمر دون بعض .على أية حال يأثم إن ترك الشورى وبركتها .لكن المستعجالت تريد
مبادرات تنفيذية .واالنتظار للتشاور يفوت الفرص .واغتنامها واجب .وما ال يتم الواجب
إال به فهو واجب.
روى ابن سعد عن يعقوب بن يزيد قال« :كان عمر رضي اهلل عنه يستشير عبد
اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما في األمر إذا أهمه ويقول :غص غواص!» وروى أيضا
عن سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه أنه قال« :ما رأيت أحدا أحضر فهما وال ألب
لبا وال أكثر علما وال أوسع حلما من ابن عباس! ولقد رأيت عمر بن الخطاب رضي اهلل
عنه يدعوه للمعضالت ثم يقول :قد جاءتك معضلة! ثم ال يجاوز قوله .فإن حوله ألهل
بدر من المهاجرين واألنصار».
«معضلة» ،و«ال يجاوز قوله» ،و«إن حوله ألهل بدر من المهاجرين واألنصار»
ال يشاورهم .سنة تنفيذية في حاالت االستعجال والحاجة للخبرة الخاصة التي ال يفيد أن
يستشار في شأنها غير أهل العلم والحلم إال تألفا للقلوب.
على أن خطر استبداد فرد باألمر -ال سيما إن أسيء اختياره أول األمر -من أعظم
األخطار .وما يصاب المسلمون بمثل ما أصيبوا به من طغيان أصحاب الرئاسات.
فزيادة على المناعة التي ينبغي أن تكون للجماعة لتعصي األمير إذا عصى اهلل ،وتعزله
إن خرج عن الجادة ،يجب أن يكون معيار اختيار األمير حظه من اهلل ،أي تقواه وفقهه
للشرع .قبل ومع معياري القوة التنفيذية وفقه الواقع ،يجب أن ال يولي المؤمنون أمرهم
على كل مستوى من مستويات التنظيم إال كل قوي أمين ،كل حفيظ عليم.
60
-3المجالس:
أ -األسرة مجلس لكنه مفتوح بمعرفة النقيب المربي ،يتشاور مع أعضاء األسرة
ليقبل الوارد إن زكاه أعضاء األسرة المعترف بعضويتهم للمشاركة في نشاط األسرة.
وبعد أن يبرهن الوارد على صدقه وأهليته في مدة ال تقل عن سنة ،يقرر مجلس الشعبة
في أمره ،فيمنحه العضوية في مرتبة نصير بأغلبية سبعة أصوات .والترقية إلى مرتبة
مهاجر كذلك ،إو�لى رتبة نقيب كذلك.
ب -مجلس الشعبة عشرة ،وهم نقباء األسر العشر التي تتكون من مجموعها
الشعبة ،يختارون من بينهم بأغلبية سبعة أصوات واحدا يقترحونه على أمير القطر
أو من يفوض إليه ليؤمره عليه نقيبا .كما يختارون من أعضاء أسر الشعبة بنفس
األغلبية ،رجال صالحا ليكون نقيبا مربيا ألسرة جديدة ،يقترحونه على المرشد العام
أمير القطر أو من يفوض له ليؤمره .ويمكن لألمير ونائبه أن يرفض تأمير من اقترحه
المجلس للمنصبين فيعاد اختيار آخر مكانه .نقيب الشعبة بتشاور مع مجلس الشعبة،
يقدر ويقرر اشتقاق أسرة جديدة يؤلف أعضاءها من األفراد الزائدين على عشرة في
أسر الشعبة ،لكن نقيب األسرة الجديدة ومربيها يختاره مجلس الشعبة كما مر ،ويؤمره
األمير القطري أو نائبه .كما أن تأسيس شعبة جديدة من عشر أسر يقدره ويقرره نقيب
مجلس الجهة بمشاورة مجلس الجهة .لكن نقيب الشعبة الجديدة يختاره مجلس الشعبة
الجديدة نفسه بأغلبية سبعة أصوات ويقترحونه للتأمر .وتأليف جهة جديدة يخضع
لنقيب ومجلس اإلقليم .وتأليف إقليم جديد يخضع للمرشد العام ومجلس اإلرشاد العام.
وال يصبح النقيب نقيبا ماضي األمر على أي مستوى إال بتأمير المرشد العام أو نائبه
المفوض له .اختيار أعضاء األسر للعضوية واختيار النقباء المربين لألسر الجديدة من
اختصاص مجلس الشعبة.
ج -مجلس الجهة سبعة أعضاء يختارهم من بينهم مجموع نقباء شعب الجهة بأغلبية
ثلثي األعضاء .شعب الجهة وجهات اإلقليم وأقاليم القطر يمكن أن تتعدى العشرة فال
تحصر كما يحصر عدد أسر الشعبة ألن التربية في القاعدة تطلب اتصاال من قريب،
أما اإلرشاد من المستويات األخرى فيمكن ،إن كانت االتصاالت منظمة ومتكررة على
كل المستويات ،مع كثرة كتائب جند اهلل .السبعة األعضاء المختارون يختارون من بينهم
بأغلبية أربعة أصوات واحدا منهم يقترحونه على المرشد العام ليؤمره عليهم أو يؤمره نائبه.
61
فإن رفضه المرشد العام أو نائبه يعاد اختيار آخر .ولألمير القطري ونائبه حق رفض من
يقترحونه عليه ولو مرات على كل المستويات.
د -مجلس اإلقليم سبعة يختارهم من بينهم نقباء الجهات .والسبعة يختارون واحدا
بأغلبية أربعة أصوات يقترحونه على األمير أو نائبه فيؤمرانه أو يرفضانه.
هـ -مجلس التنفيذ القطري من سبعة أعضاء إلى أربعين عضوا إلى أكثر حسب
اتساع دائرة العمل .يختار أعضاء مجلس التنفيذ القطري مؤتم ار يضم كل نقباء التنظيم
ابتداء من نقباء الشعب .فيجتمع كل نقباء الشعب وكل نقباء الجهات وكل نقباء
األقاليم يصوتون على األعضاء المطلوب اختيارهم .ويتم االختيار بأغلبية ثلثي أعضاء
المؤتمر .أعضاء المؤتمر التنفيذي القطري يختارون بأغلبية ثلثي عددهم رجال يقترحونه
على األمير المرشد العام ليؤمره أو يرفضه .كل المجالس األخرى تبقى قارة ألن مهماتها
تربوية إرشادية ،والتربية واإلرشاد ينبنيان على التعارف والصحبة التامتين .أما المجلس
القطري التنفيذي فمهماته إرشادية إدارية ،فينبغي أن يجدد كل ثالث سنوات لئال تغلب
العادة المكتبية على روح الدعوة ،وليتولى التسيير عناصر شابة نشيطة ،ولكي يستفاد
من الخبرات والقدرات التي تظهر بين جند اهلل .ويمكن تجديد اختيار أعضاء المجلس
مرات ما داموا صالحين حائزين على ثقة الجماعة.
و -مجلس اإلرشاد العام سبعة أعضاء يختارهم عند التأسيس مؤتمر ألهل الغناء
والسابقة والحظ من اهلل يتعارفون بينهم بأغلبية ثلثي األصوات .ويختار السبعة واحد منهم
بأغلبية أربعة أصوات أمي ار قطريا ينصبونه ويعقدون معه عقد اإلمارة .أما في مراحل
ما بعد التأسيس فيعقد مؤتمر عام يحضره كل نقباء المجالس ابتداء من مستوى الشعبة،
أي كل نقباء الشعب ،وكل نقباء الجهات وكل نقباء األقاليم ،وكل أعضاء المجلس
القطري التنفيذي ،فيختارون كل أعضاء مجلس اإلرشاد أو بعضهم إن حل األمير هذا
المجلس ،أو مات أحد أعضاء المجلس أو استقال .واختيار األمير بعد مرحلة التأسيس
وعقب موت أو استقالة أو عزل األمير السابق يتم كما يلي :يجتمع المؤتمر العام،
مؤتمر نقباء الشعب والجهات واألقاليم وأعضاء المجلس التنفيذي ،فيصوتون على رجلين
صالحين يقترحهما أربعة أو أكثر من أعضاء مجلس اإلرشاد اقتراحا مكتوبا ،يخطه
كل منهم بيده ،ويشهد فيه اهلل والمؤمنين على صدق نصيحته ،يبين فيه فضل وأهلية
62
من يرشحهما وترجيحه ألحدهما .ويتم االختيار متى حصل أحد المرشحين على ثلثي
أصوات المؤتمر.
مالحظات:
أ -هذا سلم إماري قطري .أما السلم اإلماري عن اتحاد قطرين بعد التحرير أو أكثر
إلى أن تتم الوحدة الخالفية فينظر فيه عند أوانه إن شاء اهلل.
ب -هذا سلم دعوة .أما التنظيم المزدوج الجامع بين مؤسسات الدولة وتنظيم الدعوة
فنتحدث عنه في فصول الحقة إن شاء اهلل عن المنهاج النبوي في نظام الدولة.
ج -متى حل مجلس من مجالس التنظيم أو عزل األمير بعض أعضائه أو ماتوا
أو استقالوا فيتم تعويضهم باختيار المجلس األدنى لمن يخلف فراغ المجلس األعلى
تباعا إلى أن تمأل كل الفراغات.
األمير المرشد العام هو المربي األول ،يولي أو يرفض من تختاره المجالس للنقابات،
ومن يختاره المؤتمر العام لعضوية المجلس التنفيذي القطري .وال تنعقد اإلمارات على
مستوى النقابة أو عضوية المجلس التنفيذي إال إن عقدها بصك يمضيه هو أو نائبه ،فإن
رفض تعيين مرشح أعيد االنتخاب ولو مرات .المرشد العام ما له الحق في إقالة عضو
من أعضاء مجلس اإلرشاد العام .إنما له الحق أن يجمع المؤتمر العام ويقترح عليه عزل
أحد أعضاء مجلس اإلرشاد .فيقدم صكا يكتبه بيمينه ويشهد اهلل والمؤمنين على صدق
نصيحته ،يبين فيه أسباب اتهامه للعضو واقتراح عزله .ويعزل العضو إن صوت ضده
ثلثا أعضاء المؤتمر ،وليس لألمير الحق أن يقترح عزل أكثر من عضو واحد في السنة
من أعضاء المجلس .وله الحق أن يحل مجلس اإلرشاد العام أمام المؤتمر العام وبذلك
63
تنحل إمارته هو نفسه ويعيد المؤتمر في جلساته حاال اختيار مجلس إرشاد عام جديد
يختار بدوره مرشدا عاما .فإن حصل أن أعيد اختيار األمير المرشد العام السابق من
بين األعضاء السبعة المختارين فليس واجبا على السبعة إعادة اختياره أميرا.
ولألمير المرشد العام أن يعزل كل نقيب أو عضو في مجلس التنفيذ القطري ،أو
موظف في أجهزة التنفيذ .وله أن يحل كل مجلس ما دون مجلس اإلرشاد العام .وله
أن يفصل عن عضوية الجماعة .وله أن يفوض لنائب عنه في هذه المهمات.
وله التصرف العام في أمر الجماعة ،ولو اعترض بعض أعضاء مجلس اإلرشاد
العام .أما إذا أجمعوا على رأي ،أو أجمع أربعة منهم ،فليس له الحق في مخالفتهم،
لقوله صلى اهلل عليه وسلم ألبي بكر وعمر «لو اتفقتما في مشورة ما خالفتكما» .من
هذا الحديث نأخذ أن رأي ثلثي أعضاء مجلس الشورى ملزم لألمير .فإن الصديق
والفاروق يمثالن ثلثي المجلس بين يدي العضو الثالث المصطفى صلى اهلل عليه
وسلم.
وهو الذي يتخذ الق اررات التربوية والتنظيمية ،ويرجح األحكام الشرعية في
الخالفات ،ويوزع المسؤوليات ،ويفوض في المهمات.
أما المال فيتصرف فيه األمير في حدود ميزانية عامة يضعها بمساعدة مجلس
اإلرشاد العام ومجلس التنفيذ القطري ،ويتبناها مجلس التنفيذ في جلسة ممتزجة مع
مجلس اإلرشاد برئاسة األمير بثلثي األصوات .على أن تعطاه صالحيات واسعة
للمهمات الطارئة والمستعجلة.
األمير هو الذي يمضي أو يرفض خطط التربية ،وبرامج الدعوة ،أو يعدلها.
ويعين اختصاصات األجهزة ،وينقل الموظفين والمتفرغين .ويتخذ الخط السياسي
للجماعة ويفاوض عنها داخل القطر وخارجه.
64
إن كان التنظيم مضطهدا أو محاربا فعلى كل المؤمنين أن يقفوا مع أميرهم .فإن
اقتضى نظر الجماعة أن يختفي وجب عليهم كتمان أمره.
في الحاالت الخاصة من حاالت األمن أو الخوف يحق لألمير أن يصدر أمره
بعزمة يعزمها على كل المؤمنين فتجب طاعته.
كفاء للصالحيات الواسعة التي تعطى لألمير يجب أن يعطى للجماعة -ممثلة
في مجلس اإلرشاد العام والمؤتمر العام ،وهو مؤتمر النقباء ابتداء من مجالس الشعب،
وأعضاء مجلس التنفيذ القطري -الحق في عزل األمير .فمتى اتفق أربعة من أعضاء
مجلس اإلرشاد العام على تجريح األمير بفسق ظاهر ،أو شبهة في العقيدة ،أو عجز
في كفاءته التنفيذية ،أو محاباة أو تبذير ،وبعد النصيحة الواجبة له إذا لم تفد ،يستدعي
مجلس اإلرشاد المؤتمر العام ،ويقدم له أربعة صكوك فأكثر ،يكتبها المجرحون بأيمانهم،
ويشهدون فيها اهلل والمؤمنين على صدق نصيحتهم ،يبينون فيها ما ينكرون على
األمير .فإن صوت ثلثا أعضاء المؤتمر العام ،ويصوت معهم أعضاء مجلس اإلرشاد،
ضد األمير عزل .وانتخب حاال واحدا لمجلس اإلرشاد ليسد فراغه ثم يختار حاال أمير
جديد على الطريقة التي وصفنا في حديثنا عن مجلس اإلرشاد العام ورئاسته.
فإن استقال فاستقالته تقدم لمجلس اإلرشاد ،ومجلس اإلرشاد يقبلها أو يرفضها .فإن
قبلها استدعى المؤتمر العام الختيار أمير جديد.
وفي حالتي استقالة األمير أو موته ،يتولى مكانه أكبر أعضاء مجلس اإلرشاد سنا
إلى أن يتم ملء فراغه واختيار خلفه .أما إن مات واحد أو أكثر من نقباء المجالس
وأعضاء المجلس التنفيذي ،أو استقال ،أو عزله األمير ،فيعين األمير أو نائبه من
يخلف المستقيلين والموتى والمعزولين حتى يسد الفراغ ويختار الخلف.
-3مجلس اإلرشاد:
هم أهل المبادرة وشورى األمير ووزراؤه .يفوض أليهم شاء اإلشراف على واحد
أو أكثر من أجهزة التنظيم التربوية واإلدارية والنقابية واإلعالمية ،وهم مربو الجماعة
65
وعلماؤها .بحركتهم داخل الجماعة يشيع اإليمان .وبسداد رأيهم وبدعائهم تتم الصالحات
بنعمة اهلل .هم القيادة إلى جانب األمير ،وهم حراس الحق الشاهدون ،ال يعزل األمير
واحدا منهم لكن يحل مجلسهم فينحل عقده معهم .ما يسمى بلسان العصر قيادة جماعية
ال مكان له في اإلسالم ،وال معنى له في علم السياسة وممارسة السلطان .فاألمير هو
صاحب األمر والنهي في كل صغيرة وكبيرة ،إال إن أجمع مجلس اإلرشاد أو أربعة من
أعضائه على رأي فهو له ملزم .وباتفاق أربعة من أعضاء مجلس اإلرشاد يقترح عزل
األمير على المؤتمر العام كما مر ،مجلسهم أسبوعي مع األمير ،بل يومي.
-5مجالس النقباء:
هذه المجالس تربوية إرشادية تنفيذية .ما يأتيها من آراء ومقترحات من تحتها
تناقشه ،وترفعه مستوى لمستوى ،حتى مجلس اإلرشاد فاألمير .وما يأتيها من أوامر
من فوقها تنفذه بضبط ومشاركة تامين مخلصين .مجلس التنفيذ ،وأجهزته ومكاتبه،
66
هو الواسطة بين مجالس النقباء القاعدية والقيادة ممثلة في األمير ومجلسه اإلرشادي.
-6التفرغ:
أساس العمل الدعوي الجهادي التطوع .فكل عضو في الجماعة يقوم بدعوة الناس
وتعليمهم ،ويساهم بكل ما في وسعه لنصرة جند اهلل ونصرة اهلل .لكن البد من تفرغ رجال
للتربية والجهاد .فكل النقباء ابتداء من نقباء الشعب يتفرغون للدعوة .ويعطى لكل منهم
أجر معلوم بال إفراط وال تفريط .كما يتفرغ للعمل الدعوي الجهادي كل أعضاء مجلس
التنفيذ ومجلس اإلرشاد واألمير .وليحذر المؤمنون أن يعطوا التفرغ لمن يقنع بأجر زهيد
دون أن تكون له قوة وأمانة ،ودون أن يصلح بعمله وتقواه أن يكون مثاال مربيا.
وتتخذ الجماعة موظفين من أعضائها يتفرغون حيثما دعت الضرورة .لكن ليحذر
المؤمنون السقوط في األمراض المكتبية .فتربية الرجال وتنظيمهم بحاجة إلى حد أدنى
من الورق ومعالجته .لكن المتفرغين والموظفين ليس من شأنهم أن يتحكموا في مصالح
الجماعة من مقعدهم البعيد عن ساحة الجهاد.
-7االقتراح والمبادرة:
كل عضو في الجماعة يقترح على أسرته أو مجلسه ما يراه صالحا من مبادرات.
فالق اررات اليومية تتخذ في عين المجلس وتنفذ .واألوامر من القيادة تنفذ بالنصيحة
التامة ولو كان رأي المنفذ مخالفا .أما الق اررات المهمة والقضايا المعضلة فيقترح فيها
كل مجلس على المجلس الذي فوقه ،ويرفع كل مجلس إلى من فوقه التخاذ القرار
النهائي حيث االختصاص .اختصاص المجالس واألجهزة والمكاتب وتعريف المعضل
من غيره تضبطها القوانين الجزئية للتنظيم .هذه القوانين تتخذ في مجلس اإلرشاد على
محك الممارسة.
67
-8وظيفتا التربية والتعليم:
وظيفة التربية بالقدوة والمثال والتعليم هي المهمة األولى والدائمة لكل المؤمنين ،كل
من مكانته اإليمانية والخلقية ،مهما كان مكانه ووظيفته في التنظيم .المكان في التنظيم
والوظيفة ينبغي أن يزيد المؤمنين تواضعا وحرصا على خدمة إخوتهم .فإن اهلل عز وجل
يكره أن يرى المؤمن يتميز عن إخوته كما جاء في الحديث.
التنظيم بدون تربية جسم بال روح .والتنظيم الذي يصبح مسيروه جبابرة متكبرون
طاغوت.
-9الترشيح واالقتراع:
ال يجوز شرعا أن يرشح أحد نفسه لمنصب ،ألنه من تزكية النفس التي نهينا عنها
في القرآن .وألن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :يا عبد الرحمن بن سمرة! ال
تسأل اإلمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ،إو�ن أعطيتها عن مسألة
وكلت إليها» رواه الشيخان.
رأينا أن مجلس اإلرشاد -أربعة من أعضائه فأكثر -يرشح رجلين لإلرشاد العام
-بعد مرحلة التأسيس -فيصوت المؤتمر العام الختيار أحدهما .ترشيح المؤمنين
بعضهم بعضا من باب الشهادة التي تكتب عند اهلل ويسأل صاحبها عنها .فلذلك يربط
الترشيح بذمم المؤمنين لتطرد النيات الناقصة .فكل من يرشح أحدا إلمارة أو عزل
يكتب ترشيحه في صك بيمينه يشهد اهلل فيه على صدق نصيحته ويشهد المؤمنين،
68
ويبين فضل وأهلية مرشحه أو مرشحيه أو سبب تجريحه له .ويحتفظ بالصك وثيقة.
وال يخف المؤمنون في اهلل لومة الئم .فإن الناس العاديين المجردين من معاني اإليمان
السامية يتعادون عداء قاتال لتجاوز الناس شخوصهم في التشريفات ،والندب للرئاسات،
أو لطعن الناس في سلوكهم.
عند انتخاب نقباء المجالس ،أو أعضاء المجلس التنفيذي ،أو مجلس اإلرشاد ،أو
األمير ،يجتمع المجلس المختص ،أو المؤتمر المختص ،كما مر تفصيل ذلك .ثم تق أر
ترشيحات أعضاء المجلس أو المؤتمر على الحاضرين ،ويخصص لذلك وقت محدود.
ثم يبدأ االقتراع السري وتحصى النتائج .فإن حصل النصاب المطلوب ،إو�ال يعاد
االقتراع حتى تتم ثالثة أيام .فإن اختار المجلس والمؤتمر فذاك إو�ال يرجح األمير
ويؤمر .أما في انتخاب األمير نفسه فإن مضت ثالثة أيام دون أن يحصل نصاب
الثلثين ،فيرجع لمجلس اإلرشاد يختارون واحدا بأغلبية أربعة أصوات.
ال يصلح نشر الترشيحات قبل انعقاد جلسات االختيار ،وال االقتصار على مرشح
واحد لكل منصب ،إو�ال لما كان معنى لالختيار.
ما وجدنا في هذا الباب مستندا لتحليل نصاب الثلثين كحد أدنى للحصول على
األغلبية إلى سنة اإلمام عمر رضي اهلل عنه حين أوصى ألهل الشورى الستة وقال لهم:
«تشاوروا في أمركم .فإن كان اثنان واثنان واثنان فارجعوا في الشورى إو�ن كان أربعة
واثنان فخذوا صنف األكثر» .وفي رواية أخرى « :إو�ن اجتمع رأي ثالثة وثالثة فاتبعوا
صنف عبد الرحمن واسمعوا وأطيعوا» رواه ابن سعد ،كان رضي اهلل عنه قد أمر صهيبا
أن يصلي بالناس ثالثة أيام فحدد بذلك زمن المداوالت.
لهذا نرى أن نصاب الثلثين في كل مداوالت المؤمنين سنة .كما هي سنة الرجوع إلى
مرجح -األمير أو مجلس اإلرشاد -كما هي سنة أال تمتد المداوالت أكثر من ثالثة أيام.
إن الخالف في الرأي وفي الحكم على األشخاص أمر «مشترك» بين الناس مسلميهم
69
وكافريهم ،إو�ن نصاب الثلثين بعيد المنال عادة .والذي يجعلنا هنا نحتفظ بسنة أمير
المؤمنين عمر هو:
أ -أن األمر تربية ودعوة .وعندما تجتمع الدعوة والدولة في يد واحدة وتتشعب
المصالح ينظر في أغلبية أدنى فيما عدا اختيار اإلمام من مداوالت الشورى.
ب -أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حين بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن
أمرهما أن يتطاوعا وقال لهما« :يس ار وال تعس ار وبش ار وال تنف ار وتطاوعا وال تختلفا» رواه
البخاري وأحمد وغيرهما .فبما هي دعوة وتربية فينبغي للمؤمنين في مداوالتهم أن يلزموا
جانب اليسر والتنازل عن الخالف.
إو�ذا كان اختالف األمة رحمة كما جاء في الحديث لتنويع االجتهاد ،إو�عطاء
الرخصة لمن ال يستطيع العزائم ،ولدرء الحدود بالشبهات ،فإن الخالف على األشخاص
والنزاع على المناصب نقمة .وما ينبغي للدعاة إال التطاوع ونبذ أسباب الخالف.
مجلس اإلرشاد مستمر بحضرة األمير .مجلس التنفيذ يجتمع لدراسة الميزانية
ودراسة أحوال الجماعة مرتين في السنة على األقل .ثم أعضاؤه بحضرة األمير
لالستشارة والتنفيذ باستمرار.
مؤتمر النقباء يجتمع كل سنة النتخاب ثلث أعضاء مجلس التنفيذ ودراسة ما
يطرحه األمير للدراسة ،ويترأسه األمير أو نائبه.
المؤتمر العام -وهو مؤتمر كل النقباء ابتداء من الشعب بإضافة أعضاء المجلس
التنفيذي ومجلس اإلرشاد -يترأسه األمير :يجتمع كل ثالث سنوات لدراسة أحوال
الدعوة ومرحلة الجهاد وخط السير .ويجتمع عند الطوارئ الختيار األمير وعزله أو
70
اختيار أو عزل أعضاء مجلس اإلرشاد .يمكن لألمير أن يستدعي المؤتمر العام
لجلسات استثنائية.
األمير هو الذي يتخذ قرار اجتماع مؤتمر النقباء ،والمؤتمر العام ،ويكلف من
ينظم جلساتهما ويحدد زمانهما.
مجلس اإلقليم يجتمع كل شهر على األقل ،يترأسه ويستدعيه وينظم جلساته
وجدول أعماله نقيب اإلقليم.
مجالس اإليمان على مستوى األسرة ثالث مرات في األسبوع ما أمكن ،حلقات
للعلم والذكر إو�فطار جماعي ،وليلة للقيام.
وال تقتصر هذه االجتماعات على األسرة مغلقة على نفسها ،بل المطلوب تزاور
أعضاء األسر وتبادل االتصال بينها ،واالشتراك في اإلفطار والقيام وفي كل أسباب
التعارف والتحاب ،حض ار وسفرا ،وسياحة ومعسكرا ،وعلى كل المستويات.
يو ّكل عضو مجالس الشورى واالنتخاب واتخاذ الق اررات من ينوب عنه إذا كان
له عذر .ويحمل النائب إلى المجلس توكيال مكتوبا.
أجهزة التنظيم:
التنظيم جسم متحرك في ساحة الجهاد السياسي لحيازة إمامة الشعب والزحف إلى
71
الحكم .المهمة التربوية الدعوية هي محور العمل .تربية األعضاء والتغلغل في الشعب،
وفي كل أوساط المجتمع ،إليقاظ الخاملين ،وجمع طاقات المتعاطفين ،وتوجيه الرأي
العام لتأييد القضية اإلسالمية.
ما دامت أجهزة الدولة في أيدي حكام الجبر ،فعلى الجماعة أن تنظم
نشاط أجهزتها لتغطي حاجات التنظيم ،ولتؤسس وتحرك وتوجه الوجهة اإلسالمية
منظمات فرعية كمنظمات الشباب ،والطالب ،والرياضة ،والنقابة ،وكل المؤسسات
االجتماعية التي أمكن التسرب إليها .وتشكل مؤسسات التعليم هدف الدعوة األول.
فيوجه المؤمنون لوظائف التعليم ،ويخصص جهد خاص لتأسيس مدارس إسالمية
حرة .هذه المنظمات تدخل إليها الدعوة بالتبني ،والتسرب الخفي ،واإللحاق أو
بالتأسيس .ويسهر عليها أعضاء الجماعة وأجهزتها.
أجهزة التنظيم مكان أسرارها ،ومفصل قوتها التنفيذية .فينبغي كتم أمورها ،بل
إخفاء مكانها ورجالها في حالة اضطهاد المؤمنين أكثر من إخفاء الفروع.
نقيب المجلس التنفيذي هو أمير التنفيذ المسؤول عن متابعة الق اررات وضبط
اإلنجا زات.
يوزع أعضاء مجلسه تحت إشراف مجلس اإلرشاد إلى لجان يعين هو رؤساءها
72
تحت إشراف وبمشاورة عضو مجلس اإلرشاد المختص.
كما يعطى لكل لجنة وكل مكتب وجهاز من أجهزته اختصاصها ،ومواقيتها،
ومهماتها ،وأساليب اإلنجاز والعمل ،ووسائلهما.
كل ذلك تحت إشراف األمير ومجلس اإلرشاد وعضو هذا المجلس المختص،
وبمشاورة مع لجانه وأعضاء مجلسه.
يجدد نقيب مجلس التنفيذ كل سنتين ،يختاره المجلس بأغلبية ثلثي األصوات
كما مر .ويختار ممن حصلوا على خبرة في األجهزة.
األجهزة:
ال تستطيع الجماعة أن تؤدي مهماتها التربوية والجهادية إال إن توفرت لها،
مع إرادة المؤمنين وعزمهم على الموت في سبيل اهلل ،وسائل عمل تنسق الجهود،
وتبلغ إلى أعماق الشعب ،وتكون حاضرة فعالة في حياته اليومية.
73
في مرحلة الزحف نحو الحكم تسعى الجماعة إليجاد أجهزة للدعوة .وعند قيام
الدولة اإلسالمية تبقى مؤسسات وأجهزة الدعوة مستقلة عن مؤسسات وأجهزة الدولة
ليمكن للدعوة -وهي اليد اليمنى في حياة المسلمين -أن تؤدي وظيفتها في تعاون مع
اليد األخرى ،لكن من مكان التوجيه والتربية والمراقبة.
قبل قيام الدولة اإلسالمية تسعى الدعوة ما وسعها ،في سرية يناسبها التسرب
اللطيف ،أو اغتناما للحريات العامة التي يضطر الحكام أن يتنازلوا عنها للشعب،
أن تصل للمدارس ،والجامعات ،والنقابات ،والتعاونيات ،والجمعيات المهنية والثقافية
والنسوية ،واتحادات الرياضة والشباب ،وما إلى ذلك من كل المنظمات والتجمعات
الموجودة فعال .وعلى الجماعة أن تؤسس أجهزتها الموازية في كل هذه الميادين ،فيكون
العمل من داخل المنظمات الرسمية ،والعمل من داخل األجهزة الخاصة ،سائ ار في اتجاه
واحد .يكون التنظيم الجهادي أصال تتفرع عنه وتخدم أهدافه هذه المنظمات بنشاط
العناصر المؤمنة المكلفة بمهمات التغلغل.
نذكر بعض األجهزة الخاصة الضرورية لتسيير الجماعة ومساعدة عملية التغلغل.
على سبيل المثال ال الحصر.
-1المسجد:
هو المؤسسة الدعوية األولى ،بيت اهلل منه وفيه إو�ليه ينطلق الجهاد ويخطط ويأوي.
وينبغي في األقطار التي يهيمن الحكام على مساجدها أن يكون المطلب األول للدعاة
تحرير المساجد من اإلسالم الرسمي وهو إسالم الحكام ،ومن إسالم الرسوم وهو اإلسالم
الخامل.
في الوضع المستقيم يكون نقيب الشعبة خطيب مسجد القرية والحي إو�مامه ،ويكون
نقيب الجهة خطيب إو�مام جامع الجهة ،ويكون نقيب اإلقليم خطيب إو�مام الجامع األكبر.
يكون بناء المساجد وتعميمها وعمارتها من أهم وسائل تربية الشعب .وينبغي أن
يكون إلى جانب المسجد مرافق للمكتبة والدراسة والطهارة والرياضة وسكن الضيوف.
74
حلقات التعليم ومجالس اإليمان في المساجد جزء ال يتج أز من برامج تربية المؤمنين.
يجلسون إلى جانب الشعب ويربطون الصالت ويوثقونها ،ويكثرون سواد أنصار الدعوة.
-2مكتب العضوية:
مكتب مركزي وفروع له إن اقتضى الحال لضبط الطاقات البشرية الموجودة في
التنظيم .على أن تكون الفروع مكتفية بالحد األدنى من الورق لئال يسقط التنظيم في
أمراض المكتبية.
-3مكتب العالقات:
ترتكز فيه المعلومات والمخططات ،والوسائل لالتصاالت في الداخل والخارج.
-4اللجنة التربوية:
لتنسيق اللقاءات ،والمحاضرات ،والندوات الثقافية ،ووضع البرامج والكتب والدراسات،
وتكوين الرجال بصفة عامة.
-5اللجنة السياسية:
لتحليل األوضاع ،وجمع المعلومات ،وتسديد الخط السياسي للجماعة إو�عداد برنامج
الحكم اإلسالمي لحل مشاكل القطر عن معرفة تامة بما يجري فيه.
-6لجنة التعليم:
تعنى بتوجيه الدعوة في صفوف الطلبة ،وتنظيم تخصصاتهم في الدراسة خدمة
للدعوة .وتعنى باالتصال برجال التعليم ،ودعوتهم للعمل اإلسالمي .فالتعليم منبت
الرجال ،ويستحق عناية خاصة.
75
لكي تكون الدعوة على مستوى المستقبل ،وال تكتفي بالعشوائية والعفوية والتقليد في
أعمالها وتنسق نشاطات الفروع.
-8لجنة اإلعالم:
تكلف بتبليغ الشعب القطري واألمة المسلمة والعالم أخبار المسلمين على حقيقتها
العدوة .تتخذ لذلك ما يتاح من وكاالت أنباء ،وصحف ،ومجالت،
لتحارب وسائل اإلعالم َّ
وكتب ،إو�ذاعات ،وتلفزات.
-9اللجنة المالية:
تدير أموال الجماعة .تجمع اشتراكات األعضاء ،والتبرعات ،والزكوات فتنفق هذه
على مستحقيها من األصناف الثمانية المذكورة في القرآن ،وتنفق األخرى أو تستثمرها
للدعوة .وتؤسس منشآت تجارية وصناعية ،وتعاونيات ،ومصارف إسالمية .ويحدد نقيب
المجلس التنفيذي مع اللجنة شروط صرف األموال ،إو�دارة وتوقيع صكوكها ،ليكون كل
ذلك تحت عهدته.
ينسق تحركات أعضاء الجماعة في سياحة الدعوة ومعسكرات التربية .على أن
يكون لكل شعبة خيامها ووسائل تنقلها .وهذا المكتب يؤلف الجماعات الخارجة للدعوة،
ويربط الصلة من إقليم إلقليم ،ليتم تعارف المؤمنين في المعسكرات .والرياضة حقل
خصب للدعوة.
76
الشباب المؤمن مأمور بالزواج .والتهيؤ للزواج بتوفير المال والمسكن مأمور به.
كذلك الحج .وعلى الجماعة أن تؤسس أس ار دعوية بالزواج كما عليها أن تنظم صحبة
الحج لتتمتن أواصر األخوة في تلك الرحلة الركنية في اإلسالم.
النواظم الثالث:
تحدثنا عن هياكل التنظيم ،وسلم إمارته ،ومجالسه ،وأجهزته .كل ذلك جسم التنظيم
وحسه أما روحه ومعناه ،فنذكرهما هنا .إن الوالية بين المؤمنين التي بدأنا بها الفصل ما
هي رباط خارجي ،وحركة أجسام في مجالس ،وأوراق وأرقام في مكاتب وأجهزة.
الوالية قرب ونصرة وجهاد .والجهاد يقتضي سياسية قلوب المؤمنين وعقولهم
وجهودهم بما يضمن لكل منهم نيل رضى اهلل عز وجل ،ويضمن لألمة العزة باهلل
ورسوله ،ويضمن لدين اهلل وكلمته الظهور على الدين كله.
إذا كان المؤمنون جواهر نفيسة كل منهم على حدة فإنهم إن انتظموا في عقد
ازدادوا نفاسة .ونسمي الروابط المعنوية التي تكون روح التنظيم نواظم لقرب المبنى بين
كلمة تنظيم وكلمة نواظم .فال تنظيم إال بنواظم.
إو�ن عمدنا -ومن هنا نبدأ إو�ليه نعود -إلى قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
وعمله وتربيته نجد أن تنظيمه صلى اهلل عليه وسلم وتربيته لم تكن ربط الرجال بروابط
خارجية فقط ،بل كان أصحابه جماعة عضوية ،يألم بعضهم أللم بعض ،وينصر
بعضهم بعضا على الحق ،في جادة الجهاد الطويلة الصاعدة عبر العقبة إلى اهلل.
قال صلى اهلل عليه وسلم« :مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل
الجسم إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» رواه اإلمام أحمد
ومسلم عن النعمان بن بشير.
77
فجماعة المسلمين بناء عضوي ،ظهر في هذا الحديث الشريف خاصية من
خصائصه وهي المحبة في اهلل والتعاون والتراحم .وفي كتاب اهلل عز وجل وسنة رسوله
خاصيتان أخريان تضافان إلى هذه .فيكتمل البناء العضوي القادر على التعاطف
والتفاهم والعمل الجهادي الجماعي.
هي ثالث نواظم :الحب في اهلل ،والتناصح والتشاور في اهلل ،والطاعة هلل ولرسوله
وألولي األمر .ثالث نواظم ال تقوم إحداها مقام األخرى ،وال يقوى جسم إسالمي على
جهاد إسالمي إال بها.
فإن بقينا -ونحن نبقى ال نستبدل -مع الجسد كما مثل الحبيب صلى اهلل عليه
وسلم ،فيتراءى لنا أن جسم الجماعة المجاهدة يتكون من لحم ودم ومن هيكل عظمي
ثم من سائر األجهزة من مخ وعصب وما سواهما.
فالمحبة في اهلل في نظرنا لحم الجسد ودمه .وهو بها وحدها جسم رخو ال يقوم
لجهاد .والهيكل العظمي هو التناصح والتشاور لما فيهما من صالبة في الحق تشبه
صالبة العظم في الجسم .والتناصح والتشاور بال محبة تغطي العيب ،وتتجاوز عن
الهفوة ،فقعقعة آراء ،وأنانيات ،وتأجيج خالف .ثم ال يكون الجسد حيا إال برئيس يقوده،
وأجهزة تنفذ أوامر الرئيس ،فالرئيس في جسد اللحم والدم والعظم العقل اآلمر ،والرئيس
في جسم الجماعة المؤمنة العضوية األمير ومعه سلم اإلمارة بمثابة أجهزة الجسد.
هذا الوئام يأتي من لين المؤمنين بعضهم لبعض وتراحمهم .قال اهلل تعالى يصفهم:
ين مع ُه أ ِ
َشدَّاء َعلَى ا ْل ُكفَّ ِ ِ ِ
ار ُر َح َماء َب ْي َن ُه ْم}. سو ُل اللَّه َوالَّذ َ َ َ
{ ُم َح َّم ٌد َّر ُ
1
1الفتح29 ،
78
ومن التحاب في اهلل واللين للمؤمنين يبدأ التأليف .قال اهلل تعالى يخاطب رسوله
نت فَظّاً َغِلي َ
ظ ا ْل َق ْل ِب المصطفى{ :فَ ِب َما َر ْح َم ٍة ِّم َن اللّ ِه ِل َ
نت لَ ُه ْم َولَ ْو ُك َ
1
الَ نفَضُّواْ ِم ْن َح ْو ِل َك }.
ومن التحاب في اهلل واللين للمؤمنين تتألف عناصر القوة الجهادية ،وعناصر الدفع
في وجه العدو .قال تعالى{ :أ ِ
َش َّد اء َعلَى ا ْل ُكفَّ ِ
ار ُر َح َماء َب ْي َن ُه ْم } .ما قدروا
على تلك الشدة إال بوجود هذه الرحمة.
اإليمان والتقوى في القلب منبعهما ،والحب في اهلل في القلب منبته .فتربية القلوب
على محبة اهلل ورسوله والمؤمنين أول خيط في حبل اهلل المتين .وقد جعلنا حب اهلل
ورسوله وحب المؤمنين أهم شعب اإليمان المندمجة تحت الخصلة األولى« :الصحبة
والجماعة».
فال جماعة إال بتحاب في اهلل وصحبة فيه .إو�ن شر ما يفرق جماعات المسلمين
غفلتهم عن اهلل حتى ينسوه فينسيهم أنفسهم ،فتقسوا القلوب من ترك ذكر اهلل .وتتمثل
هذه القسوة في تباغض المسلمين فال جماعة وال إيمان.
دستور األخوة في اهلل وبرنامجها العملي في قول اهلل عز وجل ،كما أخبر عنه خليله
79
صلى اهلل عليه وسلم ،قال« :حقت محبتي للمتحابين في ،وحقت محبتي للمتزاورين
في ،وحقت محبتي للمتباذلين في ،المتحابون في على منابر من نور ،يغبطهم بمكانهم
النبيون والصديقون والشهداء» رواه اإلمام أحمد والطبراني والحاكم وهو حديث صحيح
عن عبادة بن الصامت.
أال إو�ن الرئاسات تذهب التقوى وتخرب األخوة .فلين المحبة بين المؤمنين مهما
كانت المكانة شرط ليكون التنظيم إسالميا وليكون المؤمنون إخوة حقا وفعال ال قوال
ادعاء.
و ً
ف َع ْن ُه ْم قال اهلل تعالى يأمر رسوله ويأمرنا بعد أن ذكر منته عليه{ :فَ ْ
اع ُ
َم ِر }. ِ ش ِاستَ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم َو َ
او ْر ُه ْم في ا أل ْ َو ْ
2
عند االنتقال من الناظمة األخوية إلى الناظمة الشورية ال بد من إلحاح أخير على
تغليب المحبة وتسبيقها .اعف عنهم حتى يأنسوا بعطفك ،واستغفر لهم حتى يعملوا
أنك تحمل همهم أمام اهلل ،ثم بعد ذلك شاورهم لتكون شوراكم تفاهما أخويا ال جدال
و مواجهة بين اآلراء الجافة .األمير و المأمور سواسية في الحاجة لمن يحب ويعفو
ويستغفر ،وفي الحاجة لمن ينصح ويشير.
1احلجرات10 ،
2آل عمران159 ،
80
الناظمة الثانية :النصيحة والشورى
في الصحيح «الدين النصيحة» .قال اهلل تعالى يصف المؤمنينَ { :وا لَِّذ َ
ين
ِ
ورى َب ْي َن ُه ْم }.
ش ََم ُر ُه ْم ُ
الص َل ةَ َوأ ْ
َّ ابوا ل َرِّب ِه ْم َوأَ قَ ُ
اموا استَ َج ُ
ْ
1
أمر األمة اليوم بين أيدي حكام الجبر .وهؤالء يحكمون استبدادا وتعسفا وظلما
وأثرة .فال يمكن أن يحل جند اهلل مشاكل األمة في الحكم واالقتصاد وسائر الميادين
بإحالل استبداد مكان استبداد وظلم مكان ظلم .فمن بدء تنظيم الدعوة ،يجب أن يكون
األمر شورى بين المؤمنين ،طاعة هلل عز وجل ،واستعدادا ليوم يتسلم فيه المؤمنون
مقاليد الحكم ،ويتحدون الجاهلين الذين يحملون شعار الديمقراطية بما تحمله هذه الكلمة
الجوفاء من معاني النبل والعدل في خيال الناس.
الحضارة األخوية ومجتمع الرحمة المنشودان عمادها على صعيد القلب حب اهلل
ورسوله والمؤمنين ،وعمادهما على صعيد الفكر والفهم والرأي والسياسة الشورى.
كان أول ما بدأ به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تأليف جماعة المؤمنين من
المهاجرين واألنصار أن آخى بينهم .عقد األخوة الثنائية عقد خاص لصحبة خاصة
ِ
َّد َك
ي أَي َداخل العقد األخوي العام .ويمن اهلل تعالى على نبيه فيقول لهُ { :ه َو ا لَّذ َ
ضف َب ْي َن ُقلُو ِب ِه ْم لَ ْو أَنفَ ْق َت َما ِفي ا أل َْر ِ ص ِرِه َو ِبا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ
ين َوأَ لَّ َ ِب َن ْ
َج ِميعاً َّما أَ لَّفَ ْت َب ْي َن ُقلُو ِب ِه ْم َولَ ِـك َّن اللّ َه أَ لَّ َ
ف َب ْي َن ُه ْم إِ َّن ُه َع ِز ٌ
يز
يم } 2.لكن هذه األلفة القلبية ،وهذه المحبة األخوية ،عنصر واحد من عناصر ِ
َحك ٌ
الجمع الثالث .وما حققه الرسول صلى اهلل عليه وسلم وصحبه الكرام من جالئل األعمال
الجهادية ما كان ليتم لو بقي األمر عند األلفة والمحبة ،بل كان المربي المعصوم صلى اهلل
عليه وسلم معا الصاحب المحبوب والقائد المطاع ،وكان بين المحبة والطاعة مجال فسيح
للتفاهم الفكري وتبادل الرأي والتشاور.
1الشورى38 ،
2األنفال63-62 ،
81
ين مع ُه أ ِ
َشدَّاء َعلَى ا ْل ُكفَّ ِ ِ ِ
ار ُر َح َماء َب ْي َن ُهم}. سو ُل اللَّه َوالَّذ َ َ َ
{ ُم َح َّم ٌد َّر ُ
كانوا مع المعصوم صلى اهلل عليه وسلم معية محبة وطاعة واتباع .ورغم النبوة والعصمة
كان يستشير ويرجع للرأي السديد كما فعل صلى اهلل عليه وسلم عندما سأله الخباب
بن المنذر عن منزله األول ببدر .وكان صلى اهلل عليه وسلم ينهى أصحابه وينهانا أن
نكون إمعة نتبع الناس اهتدوا أم ضلوا .فنحن مع غياب النبوة والعصمة أحوج أن يفهم
كل منا ،داخل التنظيم لم وكيف ومتى وماذا عن تشاور وتراض ،لئال يكون إمعة تابعا.
واإلمعة التابع ال غناء فيه للجهاد .بل الغناء لمن يلتزم بمهمات ينفذها بصدق
ونصيحة ولو كان مخالفا لرأي الجماعة وقيادتها .بعد أن شارك في الشورى من مكانه
في التنظيم ،وعلى مستوى مهمته.
الناظمة الثالثة التي سنتحدث عنها بعد حين إن شاء اهلل هي الطاعة وواسطة
النواظم هي الشورى بين المحبة والطاعة .والجمع بين هذه النواظم العاطفية الفكرية
العملية من أعوص األمور .تطرح للنقاش مشكلة واألفهام متفاوتة والتجارب مختلفة.
فتحتد اآلراء وتتنابذ األفكار فتتهدد المحبة ،ويطل حب الرئاسة واالنتصار للرأي على
النفوس .فذلك حين تكون الشدة امتالك النفس عند الغضب .ثم يعزم القرار ويطلب إليك
أن ترجع للرأي الغالب فتمتنع النفس .فذلك حين اقتحام عقبة الهوى.
فنرى هنا بوضوح تداخل التربية مع التنظيم في اإلسالم .اإليمان يطلب إلي أن
أحاج أخي مهما كانت وجهات النظر متباينة ،ومهما كان النقاش والخالف عميقين،
دون أن أحقد ،بل دون أن ينقص من حبي وتقديري ألخي ،هذا ال يأتي إال بتربية
اإليمان حتى تصبح أعمالي في الصالة وخارج الصالة عبادة أتقرب بها إلى اهلل ال
إلي اإليمان أن أطيع األمير وأنا أرى أن وجهة نظري أحق.
أغفل عن ذكره .ثم يطلب َّ
وهذا أيضا ال يأتي إال بتربية تشعرني أن طاعة أولي األمر منا من طاعة اهلل ورسوله.
آداب المشورة:
مراعاة اآلداب الشرعية عند إسداء النصح وعند المشورة تعصم من االنزالق في
الجدل ،ومن إثارة النعرة النفسية التي تتعلق بلف الكالم والدوران لئال أعترف بهزيمتي
أمامك.
82
تبدأ المشورة بذكر اهلل بآيات من كتابه ليشعر الجمع أن المجلس مجلس علم وحلم،
تنتهي فيه حريتي لنقد إخوتي عند الحد الفاصل بين التعديل والتجريح الشرعيين وبين
الحملة الشخصية والجدل.
أستمع بالصبر التام لما عند إخوتي ،لكن في حدود الوقت ،وبإمرة من له اإلمرة
إلدارة النقاش.
ثم أساهم بما عندي باللطف الالزم ،جاعال نصب عيني أن الهدف هو اتخاذ قرار
جماعي ال االنتصار الجدلي ،فقدرتي أنا على الخطابة والمحاجة قصد الظهور ال وزن
لها بالنسبة لقدرة الجماعة على اتخاذ قرار وتنفيذه.
وأحضر المجلس وقد جمعت معلومات مضبوطة كافية لئال يدور المجلس في
الخواء اللفظي.
وينبغي أال تعتمد شكليات النقاش عندما يكون المجلس من سبعة وعشرة أشخاص
فإن ذلك يلهب النفوس وال يفيد .أما إذا كان المجلس كثي ار فالمطلوب إلى أمير الجلسة
أن يضبط النقاش ،ويوجهه ،ويوقف من يخلط ،ويطور النقاش ،ويلخص المراحل،
83
ويسرع بها .وهي خبرة وعلم ال غنى لنا عنهما .تسيير مجلس الشورى مكمل أساسي
للشورى.
الجو العام للنقاش ينبغي أن يكون أخويا جادا لكن في غير تجهم .فالجو العسكري
في مجالس الشورى ال ينتج.
مع الجد ومن قبله ينبغي أن تغلب المودة والتسامح والتراضي ،بشرط أال تتميع
األمور ،وتسقط في الفوضى واختالط الرأي.
ولنحذر هنا من التبذل ،وهو اإلسفاف والمزاح البارد ،أشد مما نحذر منه عادة.
فإن جو المجامالت وتبادل الفكاهات ،جو قاتل ال يليق تربية وال خلقا وال تنظيما بجند
اهلل المجاهدين .لنقل إن الصيغة المثلى في كلمتين« :صرامة أخوية».
المشورة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ،لكن المشورة النافعة هي التي تنتهي
فكريا وعاطفيا بعد التصويت واتخاذ القرار ،فينصرف كل إلى مهمته .ال التي تترك
أصداء الغل والح اززات ،نعوذ باهلل.
إذا كان نص من كتاب اهلل وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم واضحا في األذهان
مقبوال في النفوس قطعي الداللة عند كل أفراد الجماعة فال مجال للتشاور.
موضوع الشورى عند الجماعة المنظمة الجادة ال ينبغي مطلقا أن يستهدف الخالفيات
84
الفقهية الجزئية التي قتلتها أجيال علمائنا رضي اهلل عنهم أجمعين اجتهادا ومقارنة إنما
التشاور في األعمال الجهادية وفي الكليات اإليمانية التي تتفاوت فيها معرفة المؤمنين
بالنقول ،وكفاءاتهم في العقول ،إو�رادتهم التنفيذية.
لهذا نرى مع من يرى في هذه النقطة المهمة في حياة المسلمين أن الحسم والترجيح
يجب أن يكون ألمير المجلس إن كان للمجلس حق التقرير ،وألمير القطر على كل
حال ،بقطع النظر عن األقلية واألغلبية .مالم تبلغ األغلبية ثلثي األعضاء فيحق على
األمير أن يتبع.
ذلك أن أعمال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تطبيق ألمر اهلل له بالعزم في األمر
بعد الشورى« :وشاورهم في األمر ،فإذا عزمت فتوكل على اهلل» .العزم له ولخلفائه
من بعده.
فكل أعماله وأوامره الجهادية أصلها أن يعزم هو .فكان يؤمر من يشاء ،ويعزل من
يشاء ،ويندب من يشاء من أصحابه إلى المهمات ،ويجهز الجيش ،ويقوده ويصفه .وما
جاءنا من استشاراته الشريفة تشريع للشورى وتطبيق ،وليس تشريعا لألقلية واألغلبية.
فإنه صلى اهلل عليه وسلم تبع الخباب بن المنذر في بدرولم يستشر غيره ،وخص
بمشورته الدائمة الخيرين أبا بكر وعمر دون غيرهما ،وعمل برأي أبي بكر في أسرى
بدر ولم يعمل برأي عمر ،ال ألقلية وأغلبية بل ترجيحا منه صلى اهلل عليه وسلم لرأي
صاحبه الصديق.
فالشورى في ميزان الشريعة مرحلة للتفاهم ضرورية لكنها وحدها ال تفضي إلى
تنفيذ إن لم يكن القرار القابل للتنفيذ والطاعة الملزمة.
نعم هناك خطر استبداد األمير ،وخطر التعرض للخطأ إن لم تستفد الجماعة من
85
آراء كل المؤمنين ،وخطر أن يصبح المؤمنون إمعة وقطيعا يساق إن كانت
مشاركتهم في الشورى صورية .لهذا كانت المسؤولية في التنظيم أساسية .فكل نقيب
وأمير ومسؤول عن العمل يتشاور مع من يليه تربية وسياسة للقلوب والعقول والجهود.
فمتى لم يحسن إشراك المؤمنين وسياستهم عزل .واألمير العام نفسه يعزل إن أساء
إشراك المؤمنين في األمر وسياستهم ،فيرجع األمر إلى ذمة المؤمن الفرد الذي ال يطيع
في معصية ،وال يقر على منكر .يسمع ويطيع بعد أن يبذل النصح والرأي ،لكن يقف
وقفة صلبة إن قررت الجماعة عزل األمير.
االستخارة:
أدوى الداء المتربص بجماعة جند اهلل الغفلة عن اهلل .لهذا كتب عمر إلى جنده
الذين طلبوا عونا« :إن أهم أمركم عندي الصالة!» .فنحن بين يدي اهلل عز وجل قبل
المشورة وأثناءها وبعدها .فلكيال يكون عملنا مصالح نتداولها بيننا ،ولكيال يكون جهادنا
عالقات أفقية أرضية ،نذكر اهلل عند الشورى نستخيره .وقد كان الحبيب محمد صلى
اهلل عليه وسلم يعلم أصحابه دعاء االستخارة كما يعلمهم آية من كتاب اهلل تعالى .وهو
القائل صلى اهلل عليه وسلم« :ما خاب من استخار وال ندم من استشار وال عال من
اقتصد» وهو حديث حسن رواه الطبراني عن أنس .فجمع بين االستخارة ،وهي تعلق
باهلل واعتماد عليه ،وبين االستشارة ،وهي استعانة بإخوته ،وبين االقتصاد وهو تدبير
للمعاش.
معرفة المتشاورين بالموضوع ،وتقليبهم للمشكالت ،وتعميقهم للنظرة على أساس
مقارنة اآلراء إو�حضار ذوي الخبرة والتجربة ،ال تغني شيئا إن لم يصحب كل
ِ
ص ِرِه
َي َد َك ِب َن ْ خطوة من خطوات جند اهلل نصر اهلل .قال تعالىُ { :ه َو ا لَّذ َ
ي أ َّ
ين } 1.فسبق نصر اهلل ،وهو مدد آت منه سبحانه ،قبل المدد المتمثل َو ِبا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ
في المؤمنين .فقبل ومع وبعد اتخاذ أسباب الشورى والتدبير والتنفيذ ،يبقى جند اهلل
متوجهين لجانب العليم الخبير العزيز المقتدر ،يستخيرونه ،ويستنصرونه ،ويبكون
على بابه.
1األنفال62 ،
86
النصيحة الخاصة والعامة:
عند البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عن تميم الداري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم قال« :الدين النصيحة» قلنا« :لمن يا رسول اهلل؟» قال« :هلل ولرسوله وألئمة
المسلمين وعامتهم».
ما تأخر المسلمون إال لخمول ذمة المسلم وسكوته عن كلمة الحق أم ار بالمعروف
ونهيا عن المنكر ونصحا خاصا وعاما .لن نتعرض هنا للعوامل التاريخية التي أدت
بالمجتمع اإلسالمي إلى أن سادته الذهنية الرعوية ،ذهنية مستقيلة من مهامها ،متنازلة
عن حريتها فليس هنا مكان التحليل التاريخي.
ما أنزل اهلل عز وجل من أحكام وأوامر ثابت في الكتاب والسنة غائب عن واقع
المسلمين .لماذا؟
الدين خضوع هلل عز وجل ينافي حاكمية غيره .والدين النصيحة -وليس النصيحة
هنا إسداء النصح الجزئي بل هي الموقف الواضح تجاه الحاكم والمحكوم -أم اًر
بالمعروف ونهيا عن المنكر .فما ابتعد واقعنا عن اإلسالم ،وما سكت المسلمون عن
الظلم ،وما خضعوا واستخذوا ،إال لخراب الدين في الذمم .لم يعد وجود للمؤمن الذي
يصدع بالحق ،ويقاتل الباطل ،ويحرك التاريخ.
الشعب من حولنا خامل ،أوهموه قرونا أنه رعية كالقطيع ترعى ،وال حق لها في
الرأي وال في شيء من أمرها.
كلمات رفض ،وثورة ،ونضال ،وشجاعة الموقف السياسي مشحونة بتوتر العصر
87
وتوجه اإلنسان المحروم المستضعف إلى طلب العدل والكرامة .فعندما نستعمل كلمة
نصيحة كمفهوم منهاجي إنما نقصد التعبير عن حياة اإليمان والغيرة اإليمانية التي تحيي
العناصر المجاهدة مقابل ما تحيي معاني تلك الكلمات العناصر المناضلة من غيرنا.
أمام جماعة المسلمين المجاهدة قوى حية بالحقد الطبقي ،منظمة باالنضباط
اليساري ،موجهة باإلديولوجية المسيطرة على العقول .وفي مواجهة المسلمين عدو جاهلي
يلعب بالدمى التي تحكم المسلمين .وللدمى نفسها كيد وكذب على اإلسالم والمسلمين.
والشعب رعية كما أوهموه ،خامل إال حيث نبت الحقد الحزبي ،إذ عجزنا عن تفجير
الغضب هلل.
وال نقدر على مواجهة العدو وتهييء مستقبل القومة اإلسالمية بعناصر فاترة قليلة
المشاركة تسمع وتطيع ،دون أن تكون على بينة من أمرها.
الدين النصيحة هلل بقيام الجماعة والفرد على حدوده ،حراسة يقظة متوثبة .الدين
النصيحة لرسوله بالحرص الشديد على اتباعه في الكليات والجزئيات ،كليات إقامة
الحكم اإلسالمي إو�حياء األمة باإليمان ،وجزئيات الفقه والعبادة .الدين النصيحة ألئمة
المسلمين بدءا بإقامة أولي األمر منا ال من غيرنا من المنافقين والملحدين .الدين
النصيحة لعامة المسلمين بتحريضهم على اإليمان إو�يقاظ الذهنية الرعوية لتصبح همة
قادرة على قلع جذور الظلم وبناء مجتمع األخوة والعدل.
الشورى في مجالس مغلقة ،وبمسطرة مسبقة ،سرعان ما تغلب عليها العادة فيخمل
ما نريده أن يكون هو اليقظة بعينها ،تسري من مؤمن إلى مؤمن ،حتى تعم األمة كلها،
إن لم نوسع الشورى في النصيحة خاصة وعامة.
نعم هنالك أسرار الزمة في كل تنظيم ال مجال لبثها ونشرها .لكن المطلوب إلى
كل عضو في الجماعة أن يهتم بأمر المسلمين وبأمر جماعته ويشارك ويقترح ،وينتقد
من موقعه وخبرته واختصاصه وعمومه.
88
أمرنا أال نكون إمعة ،فينبغي أن نربي في المؤمن القدرة على الصدع برأيه .في
المؤتمرات العامة ومجالس شورى التنظيم يطلب إلى القادرين على الحضور المالحظة
واالستفادة .ويعد أعضاء المجالس والمؤتمرات مشاركتهم باستنصاح إخوتهم من حولهم
قبل الحضور ،تطبيقا لقوله تعالى{ :وأمرهم شورى بينهم } ولقول رسوله:
«من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم».
وهنا بعد أن ذكرنا ما يوردنا الهلكة بالسكوت والخمول القطيعي نذكر ما يجب أن
نخلص منه ونتخلص من الثرثرة السطحية التي تأكل أوقات الناس.
التشتت في القيل والقال يغفل عن اهلل ،ويبعد عنه ،ويضعف اإليمان والنصيحة في
اللغة تحمل معنى الوضوح ومعنى الربط .فما نصح لنفسه وال هلل ولرسوله وللمسلمين من
يشكك في ق اررات القيادة ،يجتر خالفه في الرأي مع غيره .وال نصح من ال يؤثر الصمت
في مكانه على الكالم في غير موضوعه .وال نصح من احترف النقد ألجل النقد.
في قاعدة التنظيم على مستوى المؤمن واألسرة والشعبة والجهة واإلقليم يطلب
نشاط متحفز واهتمام متوثب .لكن النشاط غير الفوضى .فمتى جاء من أعلى
استشارة لزم أن ندلي بما عندنا من رأي ،لكن إن جاء أمر فالواجب أن نبذل ما عندنا
من غناء في التنفيذ.
1النساء59 ،
89
س ِ
ول إِ ن ُكنتُ ْم ش ْي ٍء فَ ُرُّد وهُ إِ لَى اللّ ِه َو َّ
الر ُ َ از ْعتُ ْم ِفي {فَِإ ن تََن َ
اآلخ ِر } 1.فمع وجود أولي األمر منا المرضيين يمكن ِ ون ِباللّ ِه َوا ْل َي ْوِم
تُ ْؤ ِم ُن َ
أن يحصل نزاع الختالف الرأي .أمرنا عندئذ أن نرد األمر إلى اهلل ورسوله.
القوة التنفيذية لكل جماعة هي قدرتها أفرادا وفئات على اتخاذ القرار والطاعة
للقيادة المقررة .في عهد الرسول المعصوم صلى اهلل عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين
كان اإلمام متمسكا بالعروة الوثقى ،وكانت الطاعة فحدث ما يسميه المؤرخون معجزة
تاريخية .ثم اعوج والة األمر عن الجادة شيئا فشيئا ،واستغلوا األمر القرآني الصارم
بطاعة أولي األمر منا ،فغلبت الطاعة العمياء على حق النصيحة وحق االعتراض على
القيادة وأنستهما .وبذلك تمكنت الذهنية الرعوية والخمول إال في صف بعض علمائنا
الذين ميزوا في تاريخ مبكر-من عهد اإلمامين حسين بن علي وعبد اهلل بن الزبير -من
هم أولو األمر منا ومن هم من غيرنا.
يتعارض واجب الطاعة مع واجب النصيحة والشورى .فإما تميل كفة القهر
السلطاني ،فينفرد باألمر فرد أو زمرة تلعب باألمة .إو�ما تميل كفة الشغب .فتصبح
النصيحة فوضى والشورى انحالال.
قصم ظهر المسلمين التمويه عليهم بأحاديث السمع والطاعة ولزوم الجامعة
يقدمها أولو األمر العاضين الجبريين ومن يخدمهم من علماء القصور أو من ديدان
القراء علماء السوء على أنها الكلمة األولى واألخيرة وعلى أنهم منا .ال نشك أن من
بين والة المسلمين الوراثيين من كانوا على نصيب جيد من التقوى .ناهيك باإلمام الفذ
عمر بن عبد العزيز .لكن وقوفنا عند متن األحاديث الوقفة العلمية الالئقة بكالم من
ال ينطق عن الهوى ،وعند األلفاظ القرآنية المحفوظة يكشف لنا عن الزيف من أصله.
«أولو األمر منكم»« ،منكم» هذه تبعيضية تدل على أن ولي األمر ال بد أن يكون
جزءا بل عضوا من جسم األمة يألم لما تألم« .منكم» تبعية ،فليس منا من لم ينبع من
بيننا ،نكون نحن اخترناه وبايعناه واشترطنا عليه« .منكم» شورية ،فليس منا من يستبد
علينا ويتجر في مصيرنا.
1النساء59 ،
90
يتعارض واجب الطاعة وواجب النصيحة والشورى ،وتلعب الرئاسة بمن يلي أمرنا
ونحن لم نتأكد من أنه منا عضوية ونبعا وشورى ،فيصبح التنظيم أو الدولة جماعة من
الخدم عند أقدام األمير ،تتلى له آيات الطاعة وأحاديثها ،فيزداد طغيانا ويزداد من حوله
من الخدم خنوعا حتى يعبد من دون اهلل.
إن التنظيم اإلسالمي والدولة اإلسالمية يراد أن يكونا جسما قويا قاد ار على التنفيذ،
والطاعة عصمة األمر كله مع المحبة والشورى .إو�ن تنازعنا في شيء نرده إلى اهلل
ورسوله نقدر على الوقوف في وجه األمير إن زاغ إال إن كانت طاعتنا له تعبدا هلل ال
لمنصب وجاه.
متى كان أمر اهلل في كتابه وسنة رسوله قطعي الثبوت والداللة واضحا ال يحتمل
وجوها فطاعة األمير مشتقة مباشرة من طاعة اهلل ورسوله .وهذا في العبادات واألحكام.
فمتى كان وجهان فأكثر مما اجتهد فيه من قبلنا ،وأمكن تطبيق أحدهما ،وصلح
أمر األمة عليه ،فلإلمام حق الترجيح.
أما إن كان غير ذلك فالسياسة الشرعية أن يجتهد الحاكم -أصاب أم أخطأ -في
حدود الشريعة.
يقول اإلمام البنا رحمه اهلل ورضي عنه في القاعدة الخامسة من أصوله العشرين:
«ورأي اإلمام ونائبه فيما ال نص فيه وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة
معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية .وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات.
واألصل في العبادات التعبد دون االلتفات إلى المعاني .وفي العادات االلتفات إلى
األسرار والحكم والمقاصد».
الطاعة والهيبة:
ذكرنا نصيب التنظيم من الطاعة ،أما نصيب التربية منها أي ربطها بمعاني اإليمان
91
وهي من أهم شعبه ،وبالمحبة وهي كنز تهدده رياح الخالف فنتحدث عنه بلسان
شهيدنا سيد قطب رحمه اهلل .نحتاج للتعبير عن المعاني الرقيقة ذلك األسلوب المشرق.
س ِ
ول َب ْي َن ُك ْم َك ُد َعاء قال رحمه اهلل في قوله تعالىَ{ :ل تَ ْج َعلُوا ُد َعاء َّ
الر ُ
بع ِ
ض ُكم َب ْعضاً }. َْ
1
«فال بد من امتالء القلوب بالتوقير لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى تستشعر
توقير كل كلمة منه وكل توجيه .وهي لفتة ضرورية فال بد للمربي من وقار ،وال بد
للقائد من هيبة .وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا وأن ينسوا هم أنه مربيهم
فيدعوه دعاء بعضهم بعضا .يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم ،يرتفع
بها عليهم في ق اررة شعورهم ،ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير».
ما ينبغي أن تكون عالقات األمير بالجماعة عالقة قانونية إدارية .تقنين الطاعة
وسلمها وسيلة ال غاية ،الغاية رضى اهلل ،ورضى اهلل في الجهاد إلعالء كلمته ،والجهاد
ال بد فيه من أمير ومأمور ،ومقرر ،ومنفذ ،واجتهاد ،وتشاور مع اختالف الرأي ،ثم
سمع وطاعة .وليست طاعة ولي أمر المسلمين نسخة من االنضباط الثوري ،بل هي
عبادة من القلب ،وولي األمر محبوب مهاب معظم ،موقر.
عقد اإلمارة:
قد نجد من رجال الدعوة أو المقتحمين فيها من يريد من أتباعه سمعا وطاعة بال
حدود وال شروط .ويساء استعمال كلمة بيعة فتنغلق جماعة من المسلمين على نفسها،
وال تلبث أن تضلل من خالفها وتكفر .ما نحن بصدد التعريض بأحد ،إنما نحن بصدد
البحث عن منهاج لتربية وتنظيم مؤمنين مسؤولين ال إمعات تابعين.
ال نستعمل كلمة بيعة ،تعظيما لشأنها فهي من مفاهيم عقد الخالفة .ندخرها ليوم
يجمع اهلل فيه شمل األمة .لكن ال بد من عقد وعهد وميثاق .وعقد الجماعة القطرية
مرحلة ال بد منها ،إو�قامة الخالفة واجب على المسلمين ،وما ال يتم الواجب إال به فهو
واجب .فمتى اجتمعت كلمة المؤمنين ذوي الغناء والسابقة والحظ من اهلل في قطر،
وعقدوا إمارة ،فحرمتها كحرمة البيعة دون أن تكونها .وما يعطيها تلك الحرمة إال النص
1االنور63 ،
92
الصريح فيها على أنها مرحلة نحو الخالفة تسقط بإقامتها.
بايع الصحابة رضي اهلل عنهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبايعات متنوعة.
فبعضهم بايع على اإلسالم ،وبعضهم على اإلسالم والجهاد ،وبعضهم بايع على الصدقة
والجهاد ،وبعضهم بايع على الهجرة ،وبعضهم على النصرة ،وبعضهم على الجهاد،
وبعضهم بايع على السمع والطاعة والمحبة ،وبعضهم على النصيحة ،وبعضهم على
الصبر ،وبعضهم على األثرة .وبايع النساء على ما جاء في القرآن الكريمَ { :يا أَي َ
ُّها
ش ْيئاً ش ِر ْك َن ِباللَّ ِه َ ات ُي َبا ِي ْع َن َك َعلَى أَن َّل ُي ْ اءك ا ْل ُم ْؤ ِم َن ُالن ِب ُّي إِ َذ ا َج َ
َّ
ين ِب ُب ْهتَ ٍ
ان َي ْفتَ ِري َن ُه ين َوَل َي ْقتُ ْل َن أ َْوَل َد ُه َّن َوَل َيأ ِْت َ ْن َوَل َي ْزِن َ
س ِرق َ َوَل َي ْ
استَ ْغ ِف ْر ٍ ِ ِ ِ ِ
َب ْي َن أ َْيد ي ِه َّن َوأ َْر ُجل ِه َّن َوَل َي ْعصي َن َك في َم ْع ُر وف فَ َبا ِي ْع ُه َّن َو ْ
ِ َّ َّ
يم }.
ور َّرح ٌ لَ ُه َّن الل َه إِ َّن الل َه َغفُ ٌ
1
تعددت صيغ البيعة بتعدد الظروف واألشخاص والمهمات .فال مانع من بيعة يبايع
فيها الوارد عند قبول الجماعة عضويته كنصير ،ثم ثانية عند قبوله كمهاجر ،ثم ثالثة
عندما يستقر ،ويستأنس بذمته ،ويوثق بقوته وغنائه ،يندمج فيها نهائيا في صف الجهاد.
وال مانع من توكيد العقد اإلماري عند العزمات واألزمات ،إيقاظا للهمم وتذكي ار
بالواجب.
فصول العقد:
يعطى العقد اإلماري كل ما يستحقه من جدية وقداسة .فهو عهد أمام اهلل تعالى
يلتزم بمقتضاه المبايع والمبايع له -والمبايعة عقد مبادلة بشروط يقبلها الجانبان-على
1املمتحنة12 ،
93
ين آم ُنواْ أ َْوفُواْ ِبا ْل ُعقُ ِ
ود }. َِّ الوفاء بالعقد .قال اهلل تعالىَ { :يا أ ُّ
َي َها ا لذ َ َ
1
فكل عقد بين المؤمنين عقد محترم ،تجاريا كان أو غيره .لكن حرمة العقود تزداد بحرمة
المتعاقد عليه .فإذا كان عقد اإلمارة موضوعه أشرف المواضيع فالوفاء به مما يقرب
إلى اهلل عز وجل .واللعب به أفجر الفجور.
لهذا نود أن تكون فصول العقد واضحة ،ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من
حيي عن بينة .إو�ن اهلل لسميع عليم .وهو القائل سبحانه لنبيه ولنا{ :إِ َّن ا لَِّذ َ
ين
َي ِد ي ِه ْم } 2.وكذلك يد اهلل
ق أْون اللَّ َه َي ُد اللَّ ِه فَ ْو َ
ُي َبا ِي ُعو َن َك إِ َّن َما ُي َبا ِي ُع َ
فوق يدي خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم يجتمع مسلمو األرض على رجل
يختارونه لذلك المقام األسمى ،وتلك المسؤولية العظمى .وفي انتظار تلك البيعة الكاملة
تكون العقود القطرية بما هي خطوات ضرورية نحو ذلك العقد الجامع ،تستمد حرمتها
كاملة من كونها شعبة تصب في البيعة الخالفية المستقبلة الموعودة التي يشهدها اهلل
ومالئكته.
عندما بايع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وفد األوس والخزرج بيعة العقبة األولى
بايعهم بيعة النساء .فكان العقد ينص على واجب كل مسلم من جهة األنصار ،وعلى
جزائه في الدار اآلخرة من جهة النبي صلى اهلل عليه وسلم .روى الشيخان عن عبادة
بن الصامت قال :كنا اثني عشر رجال ،فقال لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
«تعالوا بايعوني على أن ال تشركوا باهلل شيئا وال تسرقوا وال تزنوا وال تقتلوا أوالدكم وال
تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم وال تعصوني في معروف .فمن وفي منكم فأجره
على اهلل .ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له .ومن أصاب
من ذلك شيئا فستره اهلل فأمره إلى اهلل ،إن شاء عاقبه إو�ن شاء عفا عنه» .قال عبادة:
فبايعناه على ذلك.
التزام بين العبد وربه ليس فيه تعاقد على جهاد والرسول شاهد.
1املائدة1 ،
2الفتح10 ،
94
فلما كان من العام القابل وفد على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في الموسم
ثالثة وسبعون رجال وامرأتان ،فكانت بيعة العقبة الثانية ،وهي بيعة ربطت بين ذمة
المؤمنين وذمة النبي الرسول بشروط واضحة.قال ابن هشام يروي عن ابن إسحاق
عن كعب بن مالك« :فواعدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم العقبة من أوسط أيام
التشريق ( )...قال فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى
جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب .فتكلم القوم وقالوا :خذ منا لنفسك ولربك ما
أحببت ،فتكلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فتال القرآن ،ودعا إلى اهلل ،ورغب في
اإلسالم .ثم قال« :أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فأخذ
البراء بن معرور بيده ،ثم قال« :نعم! والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه
أزرنا .فبايعنا يا رسول اهلل .فنحن واهلل أبناء الحروب وأهل الحلقة .ورثناها كاب ار عن
كابر» .فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهـان فقال :يا رسـول اهلل! إن بيننا وبين الرجال
-يعني اليهود -حباال إو�نا قاطعوها .فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اهلل أن
ترجع إلى قومك وتدعنا؟.
فتبسم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ثم قال« :بل الدم الدم! والهدم الهدم! أنا
منكم وأنتم مني ،أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» .هذه البيعة النبوية الثانية التزام
متبادل:
فمن جانب األنصار التزام بأن يمنعوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مما يمنعون
منه نساءهم وأبناءهم.
ومن جانبه التزام دمه« :الدم الدم!» وبيته بمن فيه« :الهدم الهدم!» دفاعا عمن
أصبحوا منه وهو منهم ،يحارب من حاربوا ،ويسالم من سالموا.
ومرة أخرى نقف عند قوله صلى اهلل عليه وسلم« :أنا منكم وأنتم مني» ،لكي ال
نتوهم أن اهلل عز وجل يبارك ويشهد عقدا يستعبد فيه رئيس قائد عباد اهلل يسخرهم لهواه،
يرتاح ويتعبون ،ويقاتلون وهو قاعد.
هكذا بدأ جهاد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه .ولغد اإلسالم يجب أن
95
يكون العقد متبادال وواضحا ومفصل الشروط وااللتزامات.
-1ال يجوز عقد إمارة قطرية جهادية سياسية إال باجتماع جمهرة أهل القطر،
أعني منهم أهل السابقة والغناء والحظ من اهلل .فإن كان رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم حين بويع على الجهاد يمثل ومن معه اإلسالم ،إذ لم يكن على وجهها مسلمون
غيرهم ،فإن المؤمنين الساعين إلقامة دين اهلل اليوم في أقطار اإلسالم كثير .فإن جاز
للرسول الكريم وهو المعصوم وهم وحدهم المسلمون ،أن يتابعوا من دون الناس ،فما
يحق لنا اليوم والمؤمنون كثير أن نتابع إال بشروط .فنتصور هذه األقطار التي قسمت
إليها الفتنة دار اإلسالم بمثابة جزر مقطوعة الصلة عن بعضها .فإن جاز استقالل كل
أهل جزيرة بأمرهم عن الجزر األخرى الستحالة قومة إسالمية متزامنة في كل األقطار،
فال يجوز أن تكون في الجزيرة الواحدة جماعتان وأكثر وال يسعى عقالء المؤمنين
وصالحوهم لتوحيد الصف وعقد إمارة يرضى عنها اهلل ورسوله والمؤمنون .عقد رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم البيعة مع أصحابه وأهل األرض من دونهم كفار .ويعقد أهل
القطر المسلم اليوم في ما بينهم من دون المسلمين الناعسين والمثبطين والغافلين .لكن
ال بد أن يسعوا لجمع أصلح شطر أهل السابقة والغناء والحظ من اهلل ،المدركين لواقع
اإلسالم ،المستجيبين لنداء اهلل ووعد رسول اهلل بإقامة حكم اهلل في األرض ،المريدين
لذلك ،القادرين عليه .جمع أصلح شطر إن تعذرت تعبئة كل ذوي النيات الحسنة.
-2ويتم العقد على إقامة دولة إسالمية قطرية تسعى منذ قيامها لتوحيد المسلمين
ودعم جهاد كل قطر حتى الخالفة.
-3ويكون كتاب اهلل وسنة رسوله دستور العمل ،ومرجع الخالف ،باجتهاد
المؤمنين جميعا ،وترجيح األمير فيما تعذر فيه الوصول إلى إجماع أو شبهه.
وبعد هذه البنود العامة التي حددت الفاعل والهدف والخط ،تأتي بنود التنظيم
الجهادي .نأخذها من حديث عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه الذي رواه الشيخان
والنسائي .يقول فيه« :بايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على السمع والطاعة في
العسر واليسر والمنشط والمكره ،وعلى أثرة علينا ،وعلى أال ننازع األمر أهله» قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إال أن تروا كف ار بواحا عندكم من اهلل فيه برهان».
96
-4السمع والطاعة لألمير ومن ينوب عنه مع الشورى التي ال تلزم األمير إال مع
إجماع مجلس اإلرشاد أو شبه إجماعه ،وهو إجماع وتصميم ثلثي األعضاء.
-5السمع والطاعة في العسر واليسر .فليس الجهاد في سبيل اهلل فسحة مريحة.
ويقدح في بيعة المرء بل بفسخها ،أن يؤثر الراحة ويكثر من االعتذار بقوله« :ال
أستطيع!» نعم في حديث للبخاري عن ابن عمر رضي اهلل عنهما قال« :كنا إذا بايعنا
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا :فيما استطعت! فال يكلف
اهلل نفسا إال وسعها ،وال يحق لألمير أن يكلف المؤمنين فوق طاقتهم .هنا رحمة يجب
على األمير والمؤمنين أن يفيئوا إلى ظلها عند وهج نيران العدو ،وعند شدائد العقبات،
دون أن يتخذوها ذريعة للكسل والتواكل والميل إلى االسترواح .إنها العقبة تقتحم!
-6السمع والطاعة في المنشط والمكره .تأتي ظروف كاسحة تفل العزائم ويقل
المتطوع للمهمات الحاسمة .عندها يحق لألمير أن يعين رجال أو رجاال للمهمات حتى
ولو كان فيها الموت .روى مسلم عن حذيفة رضي اهلل عنه قال« :لقد رأيتنا مع رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليلة األحزاب -في غزوة الخندق -وأخذتنا ريح شديدة وقر.
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :أال رجل يأتينا بخبر القوم .جعله اهلل معي يوم
القيامة!» فسكتنا ،فلم يجبه منا أحد .ردد ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ثالثا.
ثم قال« :قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم!» فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم .قال:
«اذهب فأتني بخبر القوم ،وال تذعرهم علي» (ال تزعجهم) .فلما وليت من عنده جعلت
كأنما أمشي في حمام (ظالم وريح وغبار) حتى أتيتهم .فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره
بالنار .فوضعت سهما في كبد القوس ،فأردت أن أرميه .فذكرت قول رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم :وال تذعرهم علي! ولو رميته ألصبته .فرجعت وأنا أمشي في مثل
الحمام» .الحديث.
-7المبايعة على «األثرة علينا» .وهذا بند مهم جدا .ومعنى ذلك االلتزام بالصبر
97
ولو اعتقدت أن أولي األمر يعاملونك بالحيف ،ويفضلون غيرك عليك ،ويرقون من ال
يستحق إلى آخر ما تحدث به المرء نفسه .معنى ذلك أن أولي األمر قد يخطئون ،فهم
بشر .فلكيال يصبح عقد اإلمارة صورة تلعب بها الرياح ،نضرب لها أوتادا في نفس
المؤمن الذي ال تستفزه األهواء ،ويحسن الظن قبل أن يتهم ،ويغلب جانب الفتوة والبذل
على جانب الشح والتنافس على الجاه والرئاسة.
-8المبايعة على أال ننازع األمر أهله .بند الحق بالبند السابق .ألن الرئاسة مما
تحبه النفس ويزينه الهوى .فسرعان ما يخترع من عنده طموح مرضي -وكل طموح إلى
اإلمارة من أجل اإلمارة مرضي بميزان اإليمان -مبررات ليسقط أولي األمر من عين
الناس فيقوم له فيهم ناموس.
-9المبايعة على عزل من ظهر كفره بواحا ،أو ما يقدح في إمارته من فسق ظاهر
يجرح في عدالته أو عجز في كفاءته .قال اإلمام الماوردي« :فيخرج به -أي باإلمام-
عن اإلمامة شيئان :أحدهما جرح في عدالته والثاني نقص في بدنه -نقول نحن نقص
في كفاءاته الجسيمة والعقلية .-فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين:
أحدهما ما تابع فيه الشهوة .والثاني ما تعلق فيه بشبهة».
ولكيال يكون النزاع لألمير فوضى فصلنا في ما سبق مسطرة عزل األمير.
بهذا البند األخير تحدد شروط فسخ العقد .ألن األمير إن فسق لم يعد منا ،فأحرى
إن كفر .فإن لم يعد منا فما له علينا سمع وال طاعة .إذ األصل أن ال طاعة لمخلوق
في معصية الخالق .فمن فسق عن أمر ربه خرج تلقائيا من صفنا.
تسعة بنود علينا تنفيذها وعلى األمير فيها وفي كل ما أوجب اهلل علينا أن يفي
بالتزامه وهو واحد :أن يكون منا ،عضوا من كياننا ،نابعا من اختيارنا ،يستشيرنا وال
يستبد به هواه فيستبد علينا.
شرطنا السمع والطاعة في حدودهما الشرعية .وشرطه أن يكون وأن يبقى منا له ما
لنا وعليه ما علينا« :الدم الدم! والهدم الهدم!» هذا معنى أساسي في الوالية:
98
محبة متبادلة، ض ُه ْم أ َْو ِل َياء َب ْع ٍ
ض ). 1
ون َوا ْل ُم ْؤ ِم َن ُ
ات َب ْع ُ ( َوا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ
نصيحة متبادلة وتشاور ،نصرة متبادلة .ال جماعة إال بأمير وال أمير إال بجماعة .وروح
التنظيم الوالية بين المؤمنين محبة وتناصحا وطاعة.
األمير ح َكم:
تشجر مسائل خالفية ،أي تختلف كما تختلف أغصان الشجرة ،فإذا لم يفصل في
الخالف بالتحكيم الحاسم الفوري والنهائي انتقل األمر من «شجر» إلى «اشتجر» إلى
«تشاجر» فإذا هو خالف عدائي ،وحرب ،وذهاب ريح المؤمنين.
ليس لألمير في أمور التحكيم وغيرها من العزمات أن يخالف نصا محكما من
كتاب اهلل وسنة رسوله .لكن المؤمنين يأثمون إن لم يرجعوا في نزاعهم إلى أميرهم ليطبق
س ِ
ول إِ ن ش ْي ٍء فَ ُرُّد وهُ إِ لَى اللّ ِه َو َّ
الر ُ از ْعتُ ْم ِفي َ
فيهم قوله تعالى{ :فَِإ ن تََن َ
3 ِ
اآلخ ِر }. ون ِباللّ ِه َوا ْل َي ْوِم
ُكنتُ ْم تُ ْؤ ِم ُن َ
1التوبة71 ،
2النساء65 ،
3النساء59 ،
99
النصرة:
كذلك يحق لألمير على جماعة المؤمنين ،وراثة لرسول اهلل صلى اهلل عليه
الخالف تطبيقا لقوله تعالىَ { :وا لَِّذ َ
ين وسلم أن ينصروه في عزماته وفصله في
ص ُر واْ أُولَ ِـئ َك
آو واْ َّو َن َ ين َاللّ ِه َوا لَِّذ َ س ِب ِ
يل ِ
اه ُد واْ في َ
اج ُر واْ َو َج َآم ُنواْ َو َه َ
َ
ِ قائل{ :فَا لَِّذ َ ِ
آم ُنواْ ِبه َو َعَّز ُر وهُ ين َ ون َحقّاً } .وقوله عز من ُه ُم ا ْل ُم ْؤم ُن َ
1
بيد أن نصرة األمير ليست كنصرة المعصوم صلى اهلل عليه وسلم .ألن رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم نبي يوحى إليه فال سبيل ألحد أن يقدم بين يدي اهلل ورسوله.
واألمير يجتهد فيصيب ويخطئ كما يجتهد المؤمنون ويخطئون ،من كانت له منهم
جميعا مؤهالت االجتهاد وهي العلم بكتاب اهلل وسنة رسوله ،ومقاصد الشريعة ،والفهم
عن اهلل بإتقان لغة القرآن ،واالطالع على الناسخ والمنسوخ ،ثم دارية الواقع وحركة
العالم ،وكيد األعداء ،وحاجات األمة ،إو�مكانياتها.
فبسبب الحاجة األساسية أن تحسم الخالفات بين المؤمنين يحكم األمير فيما شجر
لئال يستفحل الخالف وتشب الفتنة.
وبسبب عدم عصمته وتعرضه للخطأ ،يعطى فسحة فال يضيق عليه في أحكامه
وعزماته بدعوى أن ترجيحه خالف األولى مثال في مذهب من المذاهب .يعطى األمير
كل حقه أن يجتهد ويخطئ ما دمنا ال نتهمه في صدقه ،تطبيقا لقول رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم« :إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ،إو�ذا حكم فاجتهد ثم أخطأ
فله أجر» رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
ولخطأ الحاكم في اجتهاده حدود في قوله صلى اهلل عليه وسلم« :ال طاعة لمخلوق
1األنفال74 ،
2األعراف157 ،
100
في معصية الخالق» وقوله« :السمع والطاعة على المرء فيما أحب أو كره إال أن يؤمر
بمعصية فال سمع وال طاعة».
ففي هذه الحدود تجب على المؤمنين نصرة األمير لتنفيذ عزماته وحكوماته .فإن
لم يقبل أهل الرأي المرجوح حكومته ،فعلى الجماعة أن تتضامن مع األمير ،وتفرض
حكومته ،تعزي از له ونصرة وتوقيرا.
لكن قد يتعدى األمير بهذه الحقوق الممنوحة له حده .فالرئاسة مزالق ،والبشر بشر
مهما كان ظاهرهم يشهد بتقواهم.
فإن اجتمع أربعة فأكثر من مجلس اإلرشاد العام على اتهامه ،واقترحوا كتابة مشهودة
عزله ،فعلى المؤمنين في الجماعة نصرة المتهمين لألمير بكل الوسائل حتى يجتمع
المؤتمر العام ويصوت .فإن صوت ثلثا المؤتمر على نزعه لزم المؤمنين أن ينصروا قرار
المؤتمر وسقط عنهم نصرة األمير ،بل لزمهم مقاومته إن أبى أن يتنازل.
101
أمراض التنظيم
الخالف:
ُم ًة و ِ
اح َد ةً َوالَ شاء َرُّب َك لَ َج َع َل َّ قال اهلل تعالىَ { :ولَ ْو َ
اس أ َّ َ الن َ
1
ك َخلَقَ ُه ْم }. ين إِ الَّ َمن َّر ِح َم َرُّب َك َو ِل َذ ِل َ
ون ُم ْختَِل ِف َ
َي َزا لُ َ
يتعارض واجب الوالية بين المؤمنين التي أمرنا بها وحددت لنا شروطها مع
هذا الخالف الفطري الذي ابتالنا اهلل به بين أمة وأمة ،وفئة وفئة ،وفرد وفرد .الوالية
تقتضي لم الشعث بين اآلراء واإلرادات واألنانيات بضبط النفس ،وبخسها ،وتوطيدها
على التعاون مع المؤمنين والذلة لهم -أي السهولة واللين ،-وتقتضي النفس الجامحة
المستروحة بريح الخالف أن ينتصر لها المرء في مواجهة أقرانه ،وأن يتعصب حتى
القتال.
هذا خالف جماعات يصاب به القطر فال يجد منه متخلصا ،وال له دواء ،ولن يجد إن
ظن المؤمنون أن الخالف يذهب بنصرتهم المتعصبة لحركة عالمية ضد حركة .وقد أشرنا
قبل إلى أن حبس الخالف في القطر أدنى أن يخفف منه وينهيه بقطع روافده المشتجرة
بتعدد الحركات العالمية.
1هود119-118 ،
102
أما الخالف داخل التنظيم الواحد الناشئ عن النقص في التربية وعن الخلل في
توازن النواظم الثالث ،أعني الحب في اهلل والنصيحة الشورية والطاعة فال دواء له يرجى
باتخاذ تدابير تنظيمية مهما كانت دقيقة .ذلك أن الخالف االشتجاري المفضي لتوهين
وتمزيق الجماعة نقمة تصيب العبيد إن ركبوا هواهم فركبهم الشيطان .فال عالج إال
رحمة من اهلل تصيبهم بقمع الهوى ،وتغليب األخوة ،والذلة على المؤمنين ،وطاعة أولي
األمر ،على النعرة والتصلب الغضبي.
ال مناص مع ذلك من اتخاذ تدابير نظامية لحسم الخالف ،ذكرنا أهمها وهو رد
الشيء المتنازع عليه إلى اهلل ورسوله بقبول حكومة األمير .وسنذكر غيرها بعد حين إن
شاء اهلل .قال شارح العقيدة الطحاوية في طاعة أولي األمر« :وقد دلت نصوص الكتاب
والسنة إو�جماع سلف األمة أن ولي األمر إو�مام الصالة والحاكم وأمير الحرب وعامل
الصدقة يطاع في مواضيع االجتهاد .وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد االجتهاد.
بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه .فإن مصلحة الجماعة واالئتالف ومفسدة
الفرقة واالختالف أعظم من المسائل الجزئية».
كلما أشجر بين المؤمنين خالف ،ونشب نزاع ،وهبت رياح الهوى ،وماجت مظلمات
بحر األنانية ،فليعلم المؤمنون أن إيمانهم نقص بمقدار ما ابتعدوا عن األخوة واللين
بينهم ،وليراجعوا دستور الوفاق والوئام في قول اهلل عز وجل كما حكى عنه رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم« :حقت محبتي للمتحابين في ،وحقت محبتي للمتواصلين في،
وحقت محبتي للمتناصحين في ،وحقت محبتي للمتزاورين في ،وحقت محبتي للمتباذلين
في ،المتحابون في على منابر من نور ،يغبطهم بمكانهم النبيئون والصديقون والشهداء»
رواه أحمد وابن حبان والحاكم والقضاعي عن عبادة بن الصامت.
قبل أن نصل إلى ضرورة إلزام المرء بالطاعة ،نفحص أسباب الوحشة أو الجفوة
بين المؤمنين .فإن كان الخالف على الرأي ال يتعدى مجال الرأي ،وال يتأثر بانفعاالت
فأمره هين .نلتمس اإلجماع أو شبهه ،أو ترجيح األمير ،وقد انتهى األمر .أما إن كان
الخالف غضبيا فننظر في الدستور اإللهي دستور الرحمة التي تغشى المؤمنين حين
يحبهم اهلل بتحابهم وتواصلهم وتناصحهم وتزاورهم وتباذلهم وشوقهم إلى اهلل عز وجل
يجلسهم على منابر من نور مغبوط عليها.
103
نسأل المتنازعين الغضبيين :هل تزاورتم؟ هل تباذلتم؟ هل تناصحتم؟ هل تجالستم؟
ويحكم هل تحاببتم حتى يحبكم اهلل؟ ويحكم هل ذكرتم اهلل ،هل تذكرونه فيذكركم
ويرحمكم أم نسيتموه فأنساكم ووكلكم لخالفكم وانفعالكم؟!
هو خالف ال ينجو منه إال من رحمهم اهلل كما قال اهلل تعالىَ { :والَ َي َزا لُ َ
ون
ك } 1وهي رحمة موعودة حسب دستور األخوة كما ين إِ الَّ َمن َّر ِح َم َرُّب َ
ُم ْختَِل ِف َ
قال الحديث« :وحقت محبتي.»...
ال إله إال اهلل حين نكثر من قولها نجدد بها إيماننا توحدنا وتذهب الخالف .ال
إله إال اهلل حين نذكر بها ربنا ومصيرنا إليه توحدنا إذ تذهب عنا الغفلة عن اهلل .ال
إله إال اهلل حين تفتح لنا أبواب رحمة اهلل الوسعة ،أبواب محبته والقرب منه ،تنشلنا من
مسارب الغضب والخالف الضيقة المبعدة عن اهلل .ال إله إال اهلل حين تضعنا في مقام
العبودية هلل ،نقبل حاكميته ونرفض ونقهر حاكمية طاغوت الهوى والشيطان تؤلف
بيننا في وجه طواغيت األرض من حكام الجور ،وتذيب ما تصلب من عواطفنا لما
التفت بعضنا إلى بعض فنسي اهلل ونسي الجهاد في سبيل اهلل .ال إله إال اهلل محمد
رسول اهلل حين تلفتنا إلى كتاب اهلل وسنة رسوله تمسح عن قلوبنا ألواء التعصب،
وتأخذنا أخذا رفيقا بين يدي اهلل ورسوله ،نرد إليهما أمرنا ،ونقبل حكومتهما بقبول
حكومة أولي األمر منا.
هذا حق التربية والوعظ في حسم الخالف .وحق اإلجراءات التنظيمية يأتي إن
شاء اهلل.
الوالية بين المؤمنين قرب وتحاب وتناصر ،والخالف الغضبي بعد ووحشة وتخريب
لألخوة المؤلفة والطاعة الجامعة .وكل مؤمن ال يملك نفسه وال يضبطها ال يستحق
1هود118 ،
104
عضوية الجماعة مهما كان مجموعه في الخصال العشر وشعب اإليمان جيدا .فإن وقع
ودخل من هذه صفته الجماعة فعبادته لهواه بالتعصب الغضبي يقدح في نصرته وهجرته
آم ُنواْ
ين َ وعضويته ،ألن اهلل عز وجل بين الوالية وأهليتها حيث قال { :إِ َّن ا لَِّذ َ
يل اللّ ِه َوا لَِّذ َ
ين س ِب ِ ِ ِ اه ُد واْ ِبأ ِ
َم َوال ِه ْم َوأَنفُس ِه ْم في َ ْ اج ُر واْ َو َج َ َو َه َ
ض } 1.فمن خرب الوالية بشذوذ ص ُر واْ أ ُْولَ ِـئ َك َب ْع ُ
ض ُه ْم أ َْو ِل َياء َب ْع ٍ آو واْ َّو َن َ
َ
طبعه وتعصبه للرأي خرج من الوالية ،وعزلته اآلية الكريمة.
في قصة المأل من بني اسرائيل إذ طلبوا إلى نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه
في سبيل اهلل أكثر من عبرة.
في حديث للبخاري في كتاب المغازي عن البراء رضي اهلل عنه قال« :ولم يجاوز
معه إال مؤمن» .أي مع طالوت الملك الذي عينه لبني إسرائيل نبيهم.
فكانت طاعة األمير الملك معيا ار لإليمان وقد مر ذلك الجند بامتحانات عدة:
أ -امتحان االستعداد لبذل النفس في سبيل اهلل .ولم ينجح فيه إال قليل ،قال اهلل
علَ ْي ِه ُم ا ْل ِقتَا ُل تََولَّ ْواْ إِ الَّ َق ِليالً ِّم ْن ُه ْم } (القصة كلها ِ
تعالىَ { :فلَ َّما ُكت َب َ
في سورة البقرة من اآلية 246إلى اآلية .)252
ب -امتحان النزول عن األنانية الفردية ،وهو نزول بدونه ال يمكن جمع الجماعة.
َمِلكاً
وت
طا لُ َال لَ ُه ْم َن ِب ُّي ُه ْم إِ َّن اللّ َه قَ ْد َب َع َث لَ ُك ْم َ
قال اهلل تعالىَ { :وقَ َ
ق ِبا ْل ُم ْل ِك ِم ْن ُه
َولَ ْم َح ُّ
ون لَ ُه ا ْل ُم ْل ُك َعلَ ْي َنا َو َن ْح ُن أ َ َنى َي ُك ُ قَا لُ َواْ أ َّ
ال } .وال شك أن االستكبار منع طائفة من الدخول في س َع ًة ِّم َن ا ْلم ِ
ُي ْؤ َت َ
َ
الصف.
1األنفال72 ،
105
ج -امتحان الطاعة الكلية قبل لقاء العدو ،فإنه ما لم يغلب ويقهر عدو األنانية
ص َل فَ َ المتمنع على الطاعة ألولي األمر ال سبيل لغلبة العدو .قال اهلل تعالىَ { :فلَ َّما
ِم ْن ُه ش ِر َب ال إِ َّن اللّ َه ُم ْبتَِلي ُكم ِب َن َه ٍر فَ َمن َ ود قَ َ وت ِبا ْل ُج ُن ِ
طا لُ ُ َ
ِب َي ِد ِه
ف ُغ ْرفَ ًة س ِم ِّني َو َمن لَّ ْم َي ْط َع ْم ُه فَِإ َّن ُه ِم ِّني إِ الَّ َم ِن ا ْغتََر َ َفلَ ْي َ
ش ِرُبواْ ِم ْن ُه إِ الَّ َق ِليالً ِّم ْن ُه ْم } .عصوا األمير فانتفت عنهم قابلية الجهاد. فَ َ
د -امتحان االتكال على اهلل .قلة لم تشرب وهي قلة من الذين لم يعترضوا على
إمارة طالوت ،ولم يظنوا أنه دونهم استحقاقا لقلة ثرائه .هم قلة من الذين حدثوا أنفسهم
بجهاد حين خاطبوا نبيهم في تأمير ملك عليهم .هذه القلة المنتخبة الممحصة ثالث
طا قَ َة لَ َنا ا ْل َي ْو َم ِب َجا لُ َ
وت مرات بقي فيها من يقول كما حكى اهلل عز وجل{ :الَ َ
نود ِه }.
َو ُج ِ
وما لقي العدو واستحق نصر اهلل والفوز عنده بتوكله على ربه إال أمثال
ين َيظُ ُّن َ
ون ال ا لَِّذ َ داود عليه السالم ،وهم الذين وصفهم اهلل سبحانه بقوله{ :قَ َ
يرةً ِبِإ ْذ ِن اللّ ِه ِ ِ ِ ٍ ِ ٍ ِ
َن ُهم ُّمالَ قُو اللّه َكم ِّمن ف َئة َقليلَة َغلَ َب ْت ف َئ ًة َكث َ أ َّ
غ َعلَ ْي َنا ين } وهم الذين قالوا عند اللقاء بثقةَ { :رَّب َنا أَ ف ِْر ْ الصا ِب ِر َ
َّ َواللّ ُه َم َع
ين } قال اهلل تعالى: ص ْبراً وثَِّب ْت أَ ْق َد ام َنا وانصرَنا علَى ا ْلقَوِم ا ْل َك ِ
اف ِر َ ْ َ َ َ ُْ َ َ
ِ
وت َوآتَاهُ اللّ ُه ا ْل ُم ْل َك ود َجا لُ َ او ُوهم ِبِإ ْذ ِن اللّه َوقَتَ َل َد ُ {فَ َه َز ُم ُ
ضض ُه ْم ِب َب ْع ٍ اس َب ْع َ اء َولَ ْوالَ َد فْعُ اللّ ِه َّ
الن َ َوا ْل ِح ْك َم َة َو َعلَّ َم ُه ِم َّما َي َ
ش ُ
ض }. س َد ِت ا أل َْر ُ لَّفَ َ
كان ال بد من تمحيص العناصر المريضة في الجند وفرزهم .فعندما بقي المؤمنون
حق اإليمان جاءهم نصر اهلل .فكان الدفاع منسوبا هلل وكان النصر من عنده .وما الناس
في العملية إال مجلى للمعاني المتصارعة :الكفر واإليمان .فكان ال بد أن يمثل اإليمان
رجال صادقون برئت همتهم من مرض القعود (االمتحان األول) .وبرئت أنفسهم من وباء
الحسد واألنانية واالستعالء في األرض بغير الحق (االمتحان الثاني) .وبرئت جوانحهم
106
من آفات العصيان عندما يصدر أمر للتنفيذ في الساعة الحرجة (االمتحان الثالث).
وبرئت قلوبهم من مثبطات االعتماد على غير اهلل (االمتحان الرابع).
تنبيه :إمارة طالوت جاءت وحيا من اهلل .لكن ال يقدح في إمارة من واله المؤمنون
أمرهم وعقدوا معه عقدا شرعيا أن يكون مصدر إمارته أرضيا .فإن اهلل تعالى مع
المحسنين ،فيؤول أمر عقد عقدوه إلى قداسة أمور السماء.
ص ُر ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ
ين }. صدق اهلل تعالى قالَ { :و َك َ
ان َحقّاً َعلَ ْي َنا َن ْ
1
وصدق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إنما الناس كإبل مائة ،ال تكاد تجد
فيها راحلة» رواه الشيخان .ومعناه أن الناس عند العد مع الرخاء والعافية كثير .فإذا
اقتضى األمر أن يحملوا أعباء الجهاد كما تحمل الراحلة النجيبة من بين الحيوانات
السائمة فال تكاد تجد واحدا بالمائة.
مرض العصيان -خاصة في الساعات الحرجة -هو الطامة الكبرى .قال اهلل تعالى
ِ يقص نبأ غزوة أحدَ { :حتَّى إِ َذ ا فَ ِش ْلتُ ْم َوتََن َ
َم ِر َو َع َ
ص ْيتُم از ْعتُ ْم في ا أل ْ
الد ْن َيا َو ِمن ُكم َّمن
يد ُّ ون ِمن ُكم َّمن ُي ِر ُ ِّمن َب ْع ِد َما أ ََرا ُكم َّما تُ ِح ُّب َ
2 ِ
اآلخ َرةَ }. ُي ِر ُ
يد
كان أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للرماة واضحا دقيقا في تلك الغزوة
االمتحانية .عند البخاري أنه صلى اهلل عليه وسلم أمرهم فقال« :ال تبرحوا! إن رأيتمونا
ظهرنا عليهم فال تبرحوا! إو�ن رأيتموهم ظهروا علينا فال تعينونا» وفي رواية « إو�ن
رأيتمونا تخطفنا الطير».
فكان جزاء عصيان المسلمين قائدهم عندما أراهم اهلل ما يحبون بانكشاف العدو
عند الصدمة األولى أن كانت تلك المقتلة العظيمة المليئة بالعبر.
1الروم47 ،
2آل عمران152 ،
107
قال الحافظ ابن حجر« :كان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من
الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة منها تعريف المسلمين عاقبة المعصية وشؤم
ارتكاب النهي لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول أال يبرحوا منه».
ولم يصب العقاب خاصة من عصوا ،بل أصاب كافة المسلمين ،قال اهلل تعالى:
1
ظلَ ُمواْ ِمن ُك ْم َخ َّ
آص ًة }. يب َّن ا لَِّذ َ
ين َ ِ ِ
{ َوا تَّقُواْ فتْ َن ًة الَّ تُص َ
وقد جمع اهلل لنا سبحانه في سياق سورة آل عمران ذكر أربعة أمراض مترابطة
بعضها يغذي بعضا وينتج عنه:
أ -الفشل
ب -التنازع في األمر ،وهو الخالف االنفعالي.
ج -العصيان ولو بحجة أن الظروف التي صدر فيها األمر تغيرت.
د -حب الدنيا وهو رأس البالء ومعدنه.
األمراض الفرعية:
حصل لنا أن أمراض الخالف االنفعالي دواؤها الشورى اإليمانية العميقة الهادئة،
حتى إذا قرر األمر وجبت الطاعة على ما تعاقد عليه المؤمنون عند عقد اإلمارة .هذه
الطاعة هي دواء آفات بل كوارث العصيان عندما تكون طاعة األمير مشتقة من طاعة
اهلل ورسوله الحقة بها ،وال تكون كذلك إذا كان أمر األمير مخالفا ألمر اهلل تعالى في
آية محكمة مجمع على فهمها أو حديث صحيح ال خالف في فهمه.
1األنفال25 ،
108
ج -تغليب الرأي الشخصي على قرار األمير ،وهو مرض مقابله اإليماني الوفاء
بالعهد والعقد.
د -االتكال على األسباب الظاهرة ،وهو مرض مقابله التوكل على اهلل عز وجل،
هذا مع إعطاء األسباب حقها بإعداد ما استطعنا من قوة .إو�نما األسباب الظاهرة من
وضع اهلل تعالى ،فادعاء تخطيها رفض للعبودية المضروبة علينا وعلى كل البشر على
سواء في هذا الميدان.
هـ -الفشل والهزيمة المعنوية ،وهو مرض يحدث بغلبة الهواجس األنانية والنفسية،
ودواء ذلك ذكر اهلل والحضور معه في كل األحوال.
و -والتنازع في األمر وهو الخالف االنفعالي عندما يتعدى نطاق األفراد فيسري
داؤه إلى الجماعة .ودواء ذلك الشورى السنية المنظمة.
ز -العصيان ودواؤه الطاعة بالمعروف.
ح -حب الدنيا وهو أصل البالء ،وحسمه بحب اهلل ورسوله والمؤمنين والجنة ولقاء
اهلل وهو عنا راض ،والنظر إلى وجهه الكريم.
عن هذه األصول تتفرع أمراض:
أ -المحسوبية ،فيوضع الرجال حيث ال ينبغي ،وذلك خراب التنظيم.
ب -االرتجال ليظهر كل مقدرته الكاذبة في المحافل وعند اتخاذ القرار.
ج -التعصب للرأي ،فيفوتنا بعدم االعتراف بخطئنا مثوبة التوبة وفضلها« :كل ابن
آدم خطاء وأفضل الخاطئين التوابون» .1وهذا التعصب هو بنفسه أصل للتنازع والفشل.
د -الوصاية على الناس بغير حق واالستعالء الخبيث ،فمن ديننا أن يوقر الصغير
الكبير ،ويرحم الكبير الصغير لكن الكبير إذا لم يكن في قلبه رحمة بها يرقب وجه اهلل
في رعيته ،وينتظر أن تصيبه بمحبته لهم رحمة من اهلل كفاء حسن رعايته ،يوشك أن
يتحول طاغوتا يستبد.
هـ -علة الجماهيرية .عندما يكبر التنظيم وتتوسع دوائره –خاصة بعد قيام الدولة
اإلسالمية -تكثر دواعي الخالف بين المؤمنين ،ويتسرب إليهم عناصر وصولية تأتي
العناصر المريضة:
ال ينبغي للتنظيم اإلسالمي أن يكون فئة مغلقة ،ونخبة خارج صفوف الشعب ومن
فوقه .وتتهددنا أخطار االنتهازية ودخول صفوفنا من قبل أصحاب الذين ال استعداد
لهم أن يندمجوا في جماعة المسلمين ،و ال أن يفيقوا من الغفلة عن اهلل حتى يصبح
اهلل همهم األول ،وال أن يبذلوا في سبيل اهلل ما لديهم من جهد ومال ليساهموا في إعادة
بناء األمة على أساس العدل االجتماعي والمساواة.
الطبقية ،والفساد ،ورخص الذمم ،هذه ظواهر النفاق دائما ،ووجود المنافقين في
الصف اإلسالمي ال مناص منه ،خاصة عندما يكبر التنظيم ويتوسع ،وتقوم الدولة
اإلسالمية .والكتاب والسنة مليئان بتحذيرنا من المنافقين ،واجبنا أن نأخذ حذرنا وعدتنا
لتطهير الصف من كل منافق أبدى لنا صفحة وجهه ،فتلك هي القاعدة.
على أن الصرامة في قبول الواردين في العضوية يجب أن تكون السد األول في
وجه هذه العناصر ،ولنحذر من تكاثر الواردين بعد انتصار الحركة اإلسالمية ،فما نؤتى
في صميمنا بضربة أفتك من فتح األبواب أمام الخاص والعام من الطغام.
القائد الجبار:
المزلقة الكبرى أن يوسد األمر إلى غير أهله ،وذلك من عالمات الساعة كما جاء
في الحديث ،ويعلم اهلل قصد نبيه الكريم بهذه الكلمة .لكن مما ال شك فيه أن ما يسمي في
110
لغة العصر بعبادة الشخصية ،أي تجبر القائد األمير وتألهه ،يؤذن بساعة هوي التنظيم
إلى دركات الجاهلية.
سرعان ما تغلب النفس ومغريات الدنيا األمير الذي وسد إليه األمر وهو ليس
من أهله ،فيخلط ما بين شخصه ومصلحته وما بين كيان الجماعة واألمة ومصالحها،
فيسبق مصلحته الدنيا ،ويسيء استعمال السلطة ،ويتأله على الناس .وعندها يصبح
باباً إليواء االنتهازيين المستعدين لعبادته فيرفعهم ويقدمهم ،ويؤخر الصالحين .وبعدها
يصبح أمر الجماعة مرتعا لالستغالل.
خطر ذلك ال حد له إن ظهر على المستوى األعلى إال بوجود جماعة تعاقدت من
بينا وجوب وقوف كل مؤمن إلى جانب الحق،أول يوم على عزل األمير إذا جار وقد َّ
وبينا مسطرة العزل.
لهذا أعطينا األمير السلطة التامة لعزل كل عضو ظهر عواره لحسم البالء من
جذوره قبل أن تتسلل أمراض أولي األمر وعيوبهم فتعم األمة وتستفحل على الزمن .ال
بد من حسم ،وآخر الدواء الكي.
باستثناء أعضاء مجلس اإلرشاد الذين ال يحق لألمير المرشد العام أن يعزلهم دون
تصويت المؤتمر العام.
العقوبات:
قبل العزل والحسم والكي ،يحتاج التنظيم إلى عالج دائم ليقوم ما يصلحه التقويم،
ويعيد إلى الصحة ما لم يقنط منه.
111
االضطرار إلى اتخاذ عقوبات في التنظيم دليل على خلل في التربية ونقص في
كفاية الفرز عند اختيار الصالحين.
فال بد من تقويم على كل المستويات دائم منتظم للناس ،واإلنجازات ،حتى تتالفى
األخطاء البسيطة «العادية» ،وحتى يعرف مصدر الكبيرة منها.
فما كان من األخطاء آتيا من ارتخاء المراقبة القلبية الطارئة على المؤمنين في
الغفالت ،الملفتة إياهم عن ذكر اهلل ،اتخذنا فيه ما من شأنه أن يوقظ القلب ويعيد إلى
ذكائه المراقبة الوجدانية.
حتى إذا استوفينا العالج التربوي وأسبابه ،آن أن نطبق أمر اهلل بالحكم على كل
ذي آفة أن يذهب عنا بآفته ،ال تصيبنا عاقبة ظلمه.
وال بد من قاض في نوازل العنت والخبال ،يقضي بأحكام الشرع فال بد من جهاز
مركزي وفروع له على مستوى الجهات.
112
الفصل الخامس
الخصال العشر وشعب اإليمان
س ِب ِيلي أ ْ
َد ُعو ِِ
قال اهلل تعالى يخاطب نبيه صلى اهلل عليه وسلمُ { :ق ْل َهـذ ه َ
1
يرٍة أَ َناْ َو َم ِن ا تََّب َع ِني }. ِ ِ ِ
إ لَى اللّه َعلَى َبص َ
ذلك السبيل عقبة تقتحم ،وليكون سلوكنا على ذلك السبيل ،على ذلك الصراط
المستقيم ،سلوكا على بصيرة ،واقتحاما على هدى ال على تخبط ،على علم ال على
ظن ،على حق وسنة ال على هوى وبدعة ،نحتاج لمعالم وأمارات على الطريق ،نتأكد
بها أننا لم نزغ.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إن لإلسالم صوى ومنا ار كمنار الطريق»
ص َّوة وهي الحجارة التي تعلم بها الطريق.
ُّوى جمع ُ
رواه الحاكم عن أبي هريرة .الص َ
فهو سلوك إذن ،سير وطريق تقطع مسافاتها ،وغاية يسعى إليها .ما هي طريق
معبدة سهلة ،بل هي طريق وعرة ،عقبة .من حديث لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
رواه البيهقي وابن سعد عن أبي البجير« :أال إو�ن عمل الجنة حزن بربوة ،أال إو�ن عمل
النار سهل بسهوة» .وهو حديث حسنه السيوطي ،يوافق في معناه ويشرح آية اقتحام
1يوسف108 ،
114
العقبة .الحزن الوعر والربوة العقبة والسهل والسهوة عكسهما.
شعب اإليمان:
والغاية اهلل عز وجل ،والمنزل الجنة ،لمن سلك طريق اإليمان ،وسبقت له من اهلل
الحسنى.
عندما يذكر اإلسالم لمن ال يعلم عن اإلسالم شيئا ،بل حتى عندما يتقدم في
سرب اإليمان من يتقدم ،يخيل للسامع والباحث والعابد والمجاهد صور شتى عن ما هو
اإلسالم ،وعن معنى درجات اإلسالم فاإليمان فاإلحسان .ما هو اإلسالم بالنسبة لي
كفرد له مبتدأ في الزمان ،ومثوى في المكان ،ومكانة ووظيفة في المجتمع ،وشهوات،
وعقل ،وطموح ،وموت .ثم معنى اإلسالم واإليمان واإلحسان بالنسبة لسير البشرية
التاريخي ولحاضر المسلمين ومستقبلهم .قد تكون الصور المتخيلة عائمة محلقة في
المعاني المجردة أو مغرقة في الجزئية ال تتجاوز االهتمامات الفردية.
فنريد أن تكون التربية اإليمانية والتنظيم الجهادي ،جامعين لكل معاني اإليمان،
وحركاته ،وعواطفه وعباداته ،سواء ما يخص منها الفرد وما يعم الجماعة وما وراءها من
العالم .وجدنا حديث شعب اإليمان ونكرره ،روى الشيخان أن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم قال« :اإليمان بضع وسبعون -عند البخاري بضع وستون -شعبة (زاد مسلم):
أعالها قول ال إال اهلل ،وأدناها إماطة األذى عن الطريق ،والحياء شعبة من اإليمان».
هذا الحديث الشريف يضع أقدامنا على منطلق الجادة ،ويضع لنا صوى ثالثة من
معالم الطريق ،ثم يحصر لنا عددها في بضع وسبعين.
فنريد أن يكون سلوكنا على بصيرة واتباع ،ونريد أن تكون الدعوة دعوة إلى اهلل،
ال مجرد دعوة لإلسالم أو مجرد دعوة للجهاد .فإن ذكر الغاية -وهي وجه اهلل تعالى-
والتذكير بأن األمر سير ،وسلوك ،ومراحل زمنية مداها عمر الفرد واستمرار الرسالة
إلى يوم القيامة ،يعطينا تصو ار متحركا لإلسالم ،يصور لنا اإليمان مجموع عالقات بين
115
العبد وربه وبين العبد والناس ،ثم بين جماعة المؤمنين المخاطبة بالقرآن ،وبين سائر
بني اإلنسان ،تم يصور لنا معنى كل ذلك ،ومعنى المبدأ والمعاد والدنيا واآلخرة.
لإلسالم صوى وطريق لها معالم ،والحديث عن شعب اإليمان يصور اإليمان
وحركة المؤمنين في سيرهم إلى اهلل نه ار له شعب وروافد.
العين التي ينبع منها اإليمان ،إذ هي أعلى شعبه ،قول ال إله إال اهلل .قولها
باللسان ،واعتقادها بالقلب ،وتنفيذ مقتضاها وهو حاكمية اهلل .ثم ينحدر النهر وتصب
فيه روافد سائر الشعب ،فكلما كان نصيب المرء من أعمال اإليمان وعواطفه وأقواله
وآدابه ومواقفه وعمله وسمته أكثر كان إيمانه أقوى.
يمثل نهر اإليمان في تجمعه وقوته الزاخرة في قلب المؤمن وجهاد الجماعة:
« -1مجموع» فضائل المؤمن ،وقد جعلنا كلمة «مجموع» مفهوما نعني به أن
المؤمنين يتفاوتون في اإليمان وخصال الخير ،فال ننتظر أن تعطينا التربية رجاال في
نفس المستوى في كل الجوانب ،وال ننشد في إخوتنا الكمال في كل الفضائل .هنالك
االستعداد والقابلية اللذان أودعهما اهلل تعالى في فطرة كل منا ،وهناك القدرة على الكسب
على التعلم والعمل وبذل الجهد ،إلى كل ما هنالك.
كان أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم متفاضلين باعتبار «المجموع» ،فما
أجمعت عليه األمة من تفضيل بعضهم على بعض استنادا لتفضيل رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم إياهم ال يدل على أن الفاضل فاضل في كل خصال اإليمان ،بل يدل
على أن مجموعه اإليماني في كله أرفع عند اهلل درجة وأثقل في ميزان األعمال والجهاد
وزنا .وال يمنع فضل هذا في جزئية إيمانية أن يكون مفضوال في مجموعه.
أورد الترمذي وابن حبان أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :أرحم أمتي
بأمتي أبو بكر ،وأشدهم في أمر اهلل عمر ،وأصدقهم حياء عثمان ،وأقرأهم لكتاب اهلل
أبي ،وأفرضهم زيد ،وأعلمهم بالحالل والحرام معاذ .أال إو�ن لكل أمة أمينا ،إو�ن أميننا
أيتها األمة أبو عبيدة بن الجراح».
116
وأحاديث أخرى مثل هذا تذكر الخصال التي برز فيها هذا على هذا.
-2الجماعة المؤمنة التي تقوى على الجهاد بتوفر الكفاءات والفضائل في أفرادها
وتكاملها .فبالنسبة للجماعة يمثل نهر اإليمان مجموع السلوك اإليماني في مجاالت
الحياة االجتماعية والسياسية واالقتصادية.
فمعنى الحل اإلسالمي أن يهيمن شرع اهلل بأحكامه ،واإليمان باهلل بكل شعبه،
على كل حركات المجتمع وعالقاته ونشاطاته ،في القضاء ،في الحكم ،في الجيش ،في
اإلدارة ،في الشرطة ،في التربية ،في الشباب ،في إنصاف المرأة ،في قوامة الرجل ،في
األموال واالقتصاد ،في الحياة اليومية ،في عالقات المسلمين مع الصديق والعدو ،في
األسرة والبيت ،في القطر وعبر األقطار ،حتى يتوحد المسلمون في العالم.
وغداة اإلسالم نحتاج أن تحتل القيم اإليمانية محل قيم الفتنة في كل مجال ،وتمأل
فراغا كبي ار على كل مستوى ،بعد أن ينفر الشعب من رائحة كل ما ليس منا وال من
ديننا .في كل جزئية مهما صغرت من حياة األمة ال بد أن يهيء المجاهدون الجواب
عن األسئلة ،والنشاط اإليماني ليخلف النشاط الجاهلي ،والفكر اإلسالمي ليسود حيث
كان يسود غيره ،واألخوة اإلسالمية لتعود الرحمة فتغطي الكراهية ،والعدل اإلسالمي
لينهي االستغالل الطبقي والحقد والبؤس.
مهمات المؤمنين يوم اإلسالم كثيرة وضخمة وشاملة ودقيقة ،فال بد من تهيئ
اإلسالم .وذلك من أول واجبات التربية والتنظيم ،وشعب اإليمان بعددها الواسع وشمولها
للعقيدة والعاطفة والحركة ،وكل السلوك ،هي المضمون الذي يتجسد فيه اإليمان طريقا
إلى اهلل وحال لمشاكل المجتمع واألمة ،ومنهاجا للحكم ،وتنمية ،وسياسة.
يمثل نهر اإليمان بشعبه الث اررة وقوته الزاخرة في قلوب اإلسالميين الصاحين من
117
غفوة ،الذاكرين اهلل من غفلة ،المتحفزين لجهاد ،طاقة النهوض لموعود اهلل بقيام الخالفة
على منهاج النبوة ،ووحدة المسلمين في العالم ،لموعود اهلل بدخول اإلسالم أهل الحجر
والمدر ،لسيادة الحضارة اإلسالمية والقيم اإليمانية على الجاهلية في األرض.
وحدة السلوك:
إن تفاوت األفراد قي االستعداد والكسب والتحلي بخصال اإليمان ال ينفي وال
يناقض وحدة السلوك التي تؤدي إلى وحدة الشعور ،فتؤدي هذه إلى وحدة الوالء.
فنهر اإليمان بشعبه يمثل وحدة سلوك تكسر الحواجز ،حواجز األنانيات ،والعادات،
وسائر الحدود النفسية ،واالجتماعية ،والسياسية ،والمصلحية ،التي ضربت بين أفراد
مجتمعاتنا المفتونة الطبقية ،وبين مجتمع وطني قومي وآخر.
انتماؤنا إلى اهلل عز وجل بوحدة السلوك اإليماني األخالقي ال يعني أن نتبخر من
على األرض ،بل بالعكس يعني أن نلتحم في جماعة الجهاد ،ثم نسعى بعد إقامة الدولة
اإلسالمية الفطرية أن نلتحم عبر حدود الفتنة حتى النصر والخالفة والوراثة بإذن اهلل.
وهذا يعني تحرير اإلنسان ،وتحرير األرض ،والجالد على ذلك.
الخصال العشر:
شعب اإليمان بضع وسبعون حصرها الحليمي والبيهقي في سبع وسبعين ،فنقف عند
118
هذا العدد إو�ن كان البضع من ثالثة إلى عشرة كما في اللغة.
فلكثرة العدد نقسم الشعب في تصنيفها إلى عشر فئات ،تكون كل فئة منها خصلة،
لتقارب موضوعها ومغزاها اإليماني ومرماها السلوكي.
* الخطوة األولى على طريق التربية والتنظيم ،على طريق المنهاج المؤدي
إلى اهلل عز وجل بالنسبة للمؤمن ،إو�لى الخالفة بالنسبة لألمة إو�لى سيادة الحضارة
اإلسالمية بالنسبة للعالم هي الصحبة والجماعة ،هي لقاء رجل يربيك وجماعة مؤمنة
تؤويك وتحضنك ،حتى يسري بصحبة المربى والجماعة إلى قلبك و»سلوكك أول سلك
من أسالك نور اإليمان ،وأول نفحة من عبيره ،وأول فيض من مائه».
* الخطوة الثانية ،اإلقبال على ذكر اهلل ترديدا للكلمة الطيبة وصالة وعبادة.
ومتى أصبح ذكر اهلل ودعاؤه واإلقبال عليه في كل زمان الفرد المؤمن والجماعة
اإليمانية المجاهدة هو الشغل األول للقلب واللسان و الجسم والفكر ،فقد بدأ تحول الفرد
والجماعة من الغفلة عن اهلل لذكره ،من اإلباق عن بابه للتوبة إليه ،من تحكيم الطاغوت
لنصرة شرعه.
* الخطوة الرابعة البذل ،بذل يزيل شح النفس الفردية ،فتزول بعموم اإليمان وسيادته
شقاوة البائس المحروم .عدل اإلسالم سيف يقطع بشرع اهلل الطبقية واألثرة واالستغالل،
والبذل المتطوع يأتي باألخوة سكينة ورحمة بين الناس.
119
الخطوة الخامسة علم. *
الخطوة السادسة عمل. *
الخطوة السابعة سمت. *
الخطوة الثامنة تؤدة. *
الخطوة التاسعة اقتصاد. *
* الخطوة العاشرة جهاد ،والجهاد ثمرة تربية وتنظيم وعمل نشيط ملتزم بخط
اإليمان ،وسير اإليمان وفيض اإليمان ،وسلوك اإليمان.
جعلنا الخصلة العاشرة مصبا لروافد اإليمان وشعبه ،متدرجين من أهون أعمال
اإليمان إلى أشقها .من لقاء فيه صحبة ومحبة رقيقة ومحضن دافئ أمين ،إلى الموت
في سبيل اهلل في ساحة الجهاد ،مع الجماعة.
وتدرجنا تربية من االتصال بأشخاص يشع منهم اإليمان إلى ذكر اهلل وهو الدواء
إلى امتحان الصدق بالبراهين العملية ،إلى بذل وعطاء ،إلى علم وعمل ،إلى سمت
وتميز إلى تؤدة وصبر إلى اقتصاد ومضاء في الطريق ،إلى اكتمال الرجولة بالكفاءة
للجهاد.
وتدرجنا تنظيما من صحبة فضفاضة عاطفية ،إلى عبادة فردية يندب الشارع أن
تكون جماعية فيضاعف عليها الجزاء ،إلى اختبار صدق الوارد ،إلى البدء بماله نأخذ
منه ،إلى تعبئة فكره لمعركة العلم ،إلى تشميره للعمل ،إلى انضمامه إلينا وتميزه عن
القاعدين ،إلى تمرسه بمهمات شاقة تريد الصبر ،إلى الموقف التنفيذي الذي ال يتردد،
إلى الجهاد والموت في سبيل اهلل.
الخصال العشر –وتحت كل منها عدة شعب من شعب اإليمان -منهاج تربية،
وتنظيم ،وحكم ،وسلوك إلى اهلل .تشمل كل الفرض والنفل والسنة والندب.
ففي حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن شعب اإليمان جمع بين ال إله إال اهلل
وهي أصل اإلسالم وركنه األول ،وبين الحياء وهو خلق ،وبين إماطة األذى وهي فضيلة
120
وروى البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن عدي« :إن لإليمان فرائض
وشرائع وحدودا وسننا ،فمن استكملها استكمل اإليمان ،ومن لم يستكملها لم يستكمل
اإليمان» .جمع بين الفرائض والسنن والحدود والشرائع ،فكلها صوى على الطريق والسنة
تكمل الفرائض ،والمكروه يلحق بالمحظور.
ثم إننا لم نضع ال إله إال اهلل في أول الشعب فهي أعالها ،إنما مهدنا لها بشعب
الصحبة والجماعة ألسبقية العامل االجتماعي -الوارد والمربي والرفيق -في التأثير فإنما
آمن من آمن ألنه سمع من دعاه لإليمان وصدقه واتبعه ،إو�نما كفر من كفر وانحرف
من انحرف بتأثير البيئة أول شيء.
نذكر إن شاء اهلل تحت كل خصلة مغزاها تربية ،ثم مغزاها تنظيما ،ثم نعد ما
أدرجناه تحتها من شعب اإليمان.
121
الخصلة األولى
الصحبة والجماعة
الصحبة والجماعة تربية:
ين مع ُه أ ِ
َشدَّاء َعلَى ا ْل ُكفَّ ِ ِ ِ
ار ُر َح َماء سو ُل اللَّه َوالَّذ َ َ َ
قال اهلل تعالىُ { :م َح َّم ٌد َّر ُ
َب ْي َن ُه ْم} 1.نقف مع كلمة «معه» ،فبهذه المعية والصحبة كانوا رجاال .ونقف عند
التراحم بينهم ،فبتلك المحبة الرحيمة كانوا جماعة.
فال غرو إن جعلنا الصحبة والجماعة أولى الخصال ،فقد أتبع اهلل عز وجل في
اآلية بعثة محمد صلى اهلل عليه وسلم بذكر المعية له ،فهي أولى صفات المؤمنين،
في ذلك الزمان وفي هذا وفي سائر األزمنة ،والرحمة بينهم مرآة لتلك المعية ،ومن كان
مع رسول اهلل فهو مع اهلل ،ومن بايع رسول اهلل فقد بايع اهلل ،ومن أحب رسول اهلل فقد
أحب اهلل.
كان رسول اهلل صلى اهلل عليم وسلم يقول كلما ارتحل في سفره« :اللهم أنت الخليفة
في األهل والصاحب في السفر» ،2،فلقوة تعلقه صلى اهلل عليه وسلم بربه عز وجل
سرت من قلبه الطاهر مادة اإليمان إلى من صحبه ،ثم امتدت الصحبة وراثة فكانت
رحمة بين الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،تسري من قلب لقلب،
ومن جيل لجيل ،بالصحبة والمحبة والتلمذة.
الصحبة والمصحوب:
من أصول الشيخ البنا رحمه اهلل« :ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما
1الفتح29 ،
2رواه األمام أمحد ومسلم وغريمها.
122
عرف من طيب أعمالهم قربة إلى اهلل تبارك وتعالى .واألولياء هم المذكورون في قوله
آم ُنواْ َو َكا ُنواْ َيتَّقُ َ
ون } 1والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، تعالى{ :ا لَِّذ َ
ين َ
مع اعتقاد أنهم –رضوان اهلل عليهم– ال يملكون ألنفسهم نفعا وال ض ار في حياتهم أو بعد
مماتهم فضال عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم».
بعد هذا نقول :إن المحبة واالحترام والثناء على الصالحين من هذه األمة قربة
إلى اهلل لقول اهلل عز وجل معلما إيانا األدب مع أحبائه ،وملقنا إيانا صيغة الدعاء لهم،
رب َنا ا ْغ ِف ْر لَ َنا
وموجب هذا الدعاء ،وهو أنهم سبقونا باإليمان ،وعلمونا اإليمانَّ ٍ{ :
آم ُنوا َرَّب َنا
ين َ ًّ لِّلَِّذ َ
ان َوَل تَ ْج َع ْل ِفي ُقلُوِب َنا ِغل
يم ِ س َبقُوَنا ِب ِْ
ال َ َوِِل ْخ َو ِان َنا الَِّذ َ
ين َ
يم}. إِ َّن َك ر ُؤ ٌ ِ
وف َّرح ٌ
2
َ
لكن احترام األولياء من بعيد ،ومحبتهم بال صحبة ،والثناء عليهم دون أن يكون
الثناء حاف از لنا على اللحاق بهم ،أعمال ال تثمر إيمانا إو�ن أثمرت ثوابا ،ومن الناس
من يحترم األموات ،ويحب األموات ،ويثني عليهم وحدهم ،معتقدا أنه ال ولي هلل من
معاصريه ،هؤالء يحرمون ثمرة صحبة الصالحين.
إو�نما ينفع اهلل عز وجل المؤمن الصادق الجاد في اإلقبال على ربه أول ما
ينفعه بصحبة رجل صالح ،ولي مرشد ،يقيضه له ،ويقذف في قلبه حبه .ومتى كان
المصحوب وليا هلل حقا والصاحب صادقا في طلبه وجه اهلل ظهرت ثمرة الصحبة .قال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في ما رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح وقال فيه
1يونس63 ،
2احلشر10 ،
123
الترمذي :حديث حسن« :الرجل على دين خليله ،فلينظر أحدكم من يخالل» ،واآليات
واألحاديث المشيرة إلى الصحبة والحاثة عليها كثير ،وكل تاريخ اإليمان يشهد بأن قلب
الداعي إلى اهلل على بصيرة ،نبيا كان أو وليا ،هو النبع الروحي الذي اغترفت منه
أجيال الصالحين بالصحبة ،والمالزمة ،والمحبة ،والتلمذة ،والمخاللة.
ومن المؤمنين من يرفع اهلل همته لطلب معرفة ربه والوصول إليه مع الذين أنعم
اهلل عليهم ،فمن كتب اهلل سبحانه له سابقة خير يسره لصحبة دليل رفيق ،ولي مرشد.
في وصف الرغبة في اهلل ووصف الولي المربي نورد كلمات للشيخ عبد القادر
الجيالني .وليس هذا الرباني الصالح رحمه اهلل ورضي عنه الشاهد الوحيد على سر
صحبة أولياء اهلل .إنما نقتصر على كالمه إلجماع علماء األمة على صالحه إو�مامته
وفضله.
قال رحمه اهلل يخاطب مريد وجه اهلل ،يضع قدمه على أول مدرجة على الطريق
إلى اهلل« :إذا أردت أن تصحب أحدا في اهلل عز وجل فأسبغ وضوءك عند سكون الهمم
ونوم العيون ثم أقبل على صالتك تفتح باب الصالة بطهورك ،وباب ربك بصالتك ،ثم
اسأله بعد فراغك :من أصحب؟ من الدليل؟ من المخبر عنك؟ من المفرد؟ من الخليفة؟
من النائب؟ هو كريم ال يخيب ظنك ،ال شك يلهم قلبك ،يوحي إلى سرك ،يبين لك،
يفتح األبواب ،تضيء لك الطريق ...فإذا اتحدت الجهات عند قلبك ،وغلب األمر على
1
تعيين واحد ،دونك واقصده».
ثم بين للطالب الجاد أن المعايير الظاهرة ال تصلح للحكم على والية اهلل ،قال« :ال
تنظر إلى فقره ونقصان نسبه ،إو�خالل حاله ،ورثاثته ،وقصور عبارته .فإن المعنى في
باطنه ال في ظاهره ،في بنيته ال على وجهه .وال تبدأه بالكالم (إجالال له) وال تبد له
حاال (أي ال تكشف أس ارره) انتظر فائدته من ربه ،هو الكاتب واألمر لغيره .هو سفير،
وقال يصف عطاء اهلل ألوليائه ونصره لهم« :إذا أراد اهلل عبدا ألمر هيأه له.
هذا شيء يتعلق بالمعاني ال بالصور .إذا تم لعبد ما ذكرت صح زهده في الدنيا
واآلخرة -أي كان طلبه وجه اهلل فوق طلبه جزاء اآلخرة ألن من أقبل اهلل تعالى عليه
منحه خير الدنيا واآلخرة )...( -تصير ذرته جبال ،قطرته بحرا ،كوكبه قمرا ،قمره
شمسا ،قليله كثيرا ،محوه وجودا ،فناؤه بقاء ،تحركه ثباتا ،تعلو شجرته وتشمخ إلى
العرش وأصلها إلى الثرى ( .)...ال دنيا تملكه ( .)...فإذا تم هذا صلح هذا العبد
للوقوف مع الخلق ،واألخذ بأيديهم ،وتخليصهم من بحر الدنيا .فإذا أراد اهلل بالعبد
خي ار جعله دليلهم ،وطبيبهم ،ومؤدبهم ،ومدربهم ،وترجمانهم ،وسانحهم ،ومنحتهم،
2
وسراجهم ،وشمسهم».
وعن ضرورة الشيخ المربي لمريد الوصول إلى اهلل ومعرفته والقرب من جنابه يقول:
«اصحب أرباب القلوب حتى يصير لك قلب .ال بد لك من شيخ حكيم عامل بحكم اهلل
3
عز وجل يهذبك ويعلمك وينصحك».
وكما نصح اإلمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضالل» بالصحبة ،وكما برهن
عمليا عن صدقه في طلب وجه اهلل إو�يقانه بضرورة صحبة شيخ كامل حين خرج -وهو
حجة المسلمين تشد إليه الرحال -في طلب مصحوب ،تاركا المال والجاه والدنيا ،كذلك
ينصح الجيالني حين يقول« :خذ مني دواء لمرض دينك ،واستعمله وقد جاءتك العافية.
من تقدم كانوا يطوفون الشرق والغرب في طلب األولياء والصالحين الذين هم أطباء
4
القلوب والدين .فإذا حصل لهم واحد منهم طلبوا منه دواء ألديانهم».
وقال رحمه اهلل حاثا على اتباع الكتاب والسنة وصحبة العارفين باهلل عز وجل:
ويصف الشيخ عبد القادر رحمه اهلل حال السالك إلى اهلل حين تجذبه إلى اهلل يد
العناية ،يقول« :يا غالم! ثم أمور باطنة ال تنكشف إال بعد الوصول إلى الحق عز
وجل ،والقيام على بابه ،ولقاء المفردين -وهم المشايخ العارفون باهلل الذاكرون اهلل كثيرا–
والنواب ،والوقوف هناك .إذا ما صرت إلى باب الحق عز وجل ،وأدمت الوقوف مع
األدب واإلطراق -الخشوع الدائم– فتح الباب في وجه قلبك ،وجذبه من جذب ،وقربه
من قرب ،ونومه من نوم ،وزفه من زف ،وكحله من كحل ،وحاله من حلى ،وفرحه من
فرح ،وآمنه من آمن ،وحدثه من حدث ،وكلمه من كلم» 2 ،والكتاب كله حكم فريدة.
عقد األخوة:
لندرة الهمم العالية المتشوفة إلى معرفة اهلل ،اليائسة من كل شيء دون اهلل،
المضطرة االضطرار الكلي إليه سبحانه ،الظمأى إلى مورد قربه ،يعز علينا نثر الحديث
عن اإلحسان وطريقه أكثر مما فعلنا ،فيتخطاه الناس وهو حرمة من حرم اهلل .فنحيل
على كتب مشايخ الطريق من حفظه اهلل من تدجيل الكاذبين وتشكيك الجاهلين.
درج السلف الصالح على عقد األخوة في اهلل مع من يرتجون صالحهم .وعقد
األخوة في اهلل نوع من الصحبة ،دون التلمذة والمخاللة والسلوك الموجه .فكان علماؤنا
وصلحاؤنا يكثرون من زيارة أهل الخير ،ويتبركون بلقائهم ،ويتواصون بأن يدعو بعضهم
لبعض ،ويذكر بعضهم بعضا بين يدي اهلل عز وجل في خلواتهم وجلواتهم وتهجدهم.
وفي الجماعة المنظمة المجاهدة ينبغي أن تفشو هذه الرابطة وتتمتن .فإن اهلل عز
دعاء الرابطة:
ما سماه الشيخ البنا رحمه اهلل ورد الرابطة إنما هو تجسيم وتطبيق عملي لعقد
األخوة بين المؤمنين.
ونرى دعاء الرابطة ضروريا لربط المؤمنين في جماعة .فإذا سرى معنى الربط
بتكرار المجالسة ،وتكرار الوقوف بين يدي اهلل في الصالة ،والعمل المشترك ،والدعاء
الرابط التقت الصحبة بالجماعة ولم تكن الجماعة شكال وال الصحبة صحبة انفرادية.
ينبغي لكل مؤمن –واألفضل وقت السحر عندما ينزل ربنا عز وجل إلى السماء
الدنيا يدعونا هل من تائب وسائل -أن يفتح دعاءه الرابط بالفاتحة ،ثم يستغفر اهلل
لذنبه ،ويسأله لنفسه ووالديه وأهله وولده وذوي رحمه خير الدنيا واآلخرة ،ويصلي
ويسلم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعلى أنبياء اهلل ورسله .ثم على الخلفاء
الراشدين والصحابة واألزواج والذرية .ثم على التابعين وصالحي األمة وأئمتها .ثم
يتلو معمما الدعاء« :ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبقونا باإليمان وال تجعل في قلوبنا
غال للذين آمنوا .ربنا إنك رؤوف رحيم» .ثم على المؤمنين المجاهدين في عصرنا
ويعرض على اهلل حوبتنا ويستفتح للمجاهدين .ثم يخصص بالدعاء من يربطه بهم
رباط الجهاد ويذكر األسماء .ثم يسأل اهلل ألمة محمد صلى اهلل عليه وسلم الرحمة
والمغفرة والنصر وخير الدنيا واآلخرة .ويتوجه في دعائه هذا لمستقبل اإلسالم والخالفة
والظهور على األعداء.
بهذا يستشعر المؤمن انتماءه إلى الموكب النوراني -موكب اإليمان والجهاد -من
لدن آدم إلى يوم القيامة فيدخل في بركة أمة الخير التي توالها اهلل .ويزداد صلة إيمانية
ومحبة بمن يدعو لهم عن ظهر غيب من إخوته.
127
ال جهاد إال بجماعة منظمة:
المسلمون في العالم بحاجة ماسة لتوحيد الكلمة ،والفكر ،والخط ،والمنهاج .من
المسلمين من يقتصر في دعوته على العلم ،ومنهم من يقتصر في تربيته على التقوى
الفردية ،ومنهم من يجعل كل همه الفكر اإلسالمي ،ومنهم من تغلبه الحركية فيتحرك
على سطح الواقع لفقدانه عمق اإليمان الكفيل وحده بإكسابنا الثقة باهلل ،وترشيحنا لتلقي
نصر اهلل ،والخالفة في األرض عن اهلل.
ومما يفرق وال يجمع وجود صحبات ال تفضي لجماعة .ووجود تقوى ال تتفتح على
جهاد.
يكون هذا حتى بين أولياء اهلل الصادقين أهل النور والفتح .ننظر إلى مستقبل
اإلسالم ،ونحن على يقين من أن الخالفة على منهاج النبوة وعد من اهلل ورسوله غير
مكذوب ،وعد اهلل حقا ،ومن أصدق من اهلل قيال .ولن يصلح آخر هذه األمة إال بما
صلح به أولها ،فال بد من أن يتولى تربية جند اهلل صالحو األمة من أولياء اهلل .فإذا
اعتبرنا أن من أولياء اهلل من ال وعي له بحاضر اإلسالم وال بمستقبله ،وال كفاءة له
لتنظيم الجهاد وقيادته مع وجود فضله وعلمه ،ومع ظهور كرامة اهلل له ،برز لنا مشكل
ليس بالسهل حله.
ذلك أن تعدد الصحبة ،وتعدد «المتبوعين المقدمين» كما يعبر الغزالي ،قد يكون
سببا في صدع وحدة الجماعة .فإن أولياء اهلل العارفين به ما هم في درجة الصحابة
رضي اهلل عنهم ،فهم أكثر تعرضا للخالف منهم .وال هم معصومون .فنخشى أن ينشأ
عن تفرقهم تفرق األمة من حيث نسعى للجمع.
فكيف نجمع بين صحبة مشايخ يدلوننا على طريق معرفة اهلل فيربون لنا رجاال
محسنين هم على كل حال صلب الجماعة وقوامها ،مع االحتفاظ بنظام الجماعة
ووحدتها؟
128
فطر اهلل عز وجل هذا اإلنسان على األنانية والدعوىَّ ،
فقل ما تجد بش ار ال يحدث
نفسه بالرئاسة على األمثال حتى ولو كان من المؤمنين .قال أحد الصالحين :آخر ما
يخرج من قلب العارفين باهلل حب الرئاسة.
فنزيد على ما درج عليه سلفنا الصالح من شروط الوالية وأهلية التربية -وقد ذكرنا
بعضها على لسان الجيالني -شرطا نعتبره أساسيا للحفاظ على وحدة الصف.
نعتبر شيخا ومربيا صالحا للجهاد من آتاه اهلل من فضله ،زيادة على ما يؤتي
أحباءه من فتح ،ومعرفة بربه ،وتقوى ،واتباع لسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،مزية
ال تعدلها -بالنسبة لمستقبل األمة -مزية ،خصلة من خصال اإليمان ال تعدلها خصلة
بالنسبة لمستقبل األمة ،أال وهي جمع الجماعة والحفاظ على وحدتها.
يشجع جند اهلل على صحبة من ظهر فضله من صالحي األمة وعلمائها العاملين
بشرط ،هو أن ال تتنافى تلك الصحبة مع الجماعة ،أي ال يغلب جانب التأمل،
والذكر المنفرد ،والتقوى االنعزالية والخلوة القاعدة ،جانب التحرك والجهاد إلقامة الدولة
اإلسالمية والخالفة على منهاج النبوة.
التربية المثلى هي التي تجعل من جندي اهلل عارفا باهلل مجاهدا في سبيله ،فمن
المتصدين للجهاد من هم في حماس إيماني دون الصدق .ومن أولياء اهلل من اعتزل
الناس فال يحدث نفسه بإحياء غيره فضال عن إحياء أمة.
وكيفما كان فضل الرجل الصالح فإن اهلل عز وجل أعطانا معيا ار لألفضلية حيث
اع ِد َ
ين َد َر َج ًة َو ُكـالًّ َو َع َد ين ِبأَمو ِال ِهم وأَنفُ ِس ِهم علَى ا ْلقَ ِ
ْ َ
ِِ قال{ :فَض َ
َّل اللّ ُه ا ْل ُم َجاهد َ ْ َ ْ َ
129
َج ارً ع ِظيماً َدرج ٍ
ات ِّم ْن ُه اع ِد َ
ين علَى ا ْلقَ ِ ِِ
ََ ين أ ْ َ ا ْل ُم َجاهد َ َ َّل اللّ ُه
س َنى َوفَض َ اللّ ُه ا ْل ُح ْ
1
غفُو ارً َّر ِحيماً}.
َ َو َم ْغ ِف َرةً َو َر ْح َم ًة َو َك َ
ان اللّ ُه
قيادة من عامة المؤمنين تنظم جهادا وتقوى على تنفيذ مهماته خير لألمة من
محسنين قاعدين بميزان ما نرى ،وقد أعلمنا اهلل أن لهذا الميزان شأنا حيث قالَ { :و ُق ِل
ون } 2فجعل حكمنا على سولُ ُه َوا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ
س َي َرى اللّ ُه َع َملَ ُك ْم َو َر ُ
اع َملُواْ فَ َ
ْ
ما نرى من نتائج عمل بعضنا حكما الحقا بحكم اهلل ورسوله.
لكن جماعة ال تتجاوز قيادتها مستوى عامة المؤمنين جماعة كالجماعة وليست
بها ،ليست بها حتى يكون اللب اإلحساني فقار ظهرها وسر نشأتها ،وعماد بنائها،
حتى يكون حب اهلل ورسوله حاديها ،والشوق إليه عز وجل رائدها والسير إليه منهاجها.
فإذا أراد اهلل بجماعة المؤمنين رشدا قيض لها من أوليائه من يشد أواصرها
بالصحبة المستمدة قوتها من القلوب ،الواقفة على باب اهلل تطرق ،تسترحم ،تستفتح،
تتضرع ،تبكي شوقا ولهفة .كل ذلك والجوارح آخذة في تعبئة الجهود ،والعقول منكبة
على العلم النافع إو�عداد ما أمرنا به من قوة الخبرة والتخطيط.
الجماعة المؤمنة المجاهدة تركيب عضوي كالجسد الواحد .فقيادة تمثل الرأس المفكر
دون أن تكون في نفس الوقت قلب الجماعة الحي قيادة ال تجمع الكفاءتين اإليمانيتين:
الرحمة القلبية والحكمة العقلية .وقيادة ذات رحمة في القلب ونورانية وكرامات ال تقدر
على فهم الواقع والتخطيط للمستقبل والتنفيذ قيادة كسيحة بميزان ما نرى ونحكمَ {،وإِ� َّن
1النساء95-96 ،
2التوبة105 ،
130
اللَّ َه لَ َم َع ا ْل ُم ْح ِس ِن َ
ين } 1المحسنين يعبدونه سبحانه كأنهم يرونه ،المحسنين في
فهم مهمات الجهاد وتنفيذها ،وقد كتب اهلل اإلحسان على كل شيء ،من رأس األمر كله
وهو صالح القلب إلى ما يتبع من جليل األمر ودقيقه.
اإلمام المصحوب:
روى اإلمام البخـاري عن المسور بن مخرمة رضي اهلل عنه قال« :لما طعن عمر
جعل يألم ،فقـال له ابن عباس –رضي اهلل عنهما -وكأنه يجزعه –يصبره ويسليه« :-يا
أمير المؤمنين! ولئن كان ذاك! –أي لنفرض أنك مت من طعنتك هذه -لقد صحبت
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأحسنت صحبته ،ثم فارقته وهو عنك راض .ثم صحبت
أبا بكر فأحسنت صحبته ،ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت صحبتهم –بفتحتين
أي أصحابهم -فأحسنت صحبتهم ،ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون .قال –أي
عمر :-أما ما ذكرت من صحبة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ورضاه ،فإنما ذاك ٌّ
من
من به علي .وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك ٌّ
من من اهلل تعالى َّ
من اهلل جل ذكره َّ
من به علي .وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك.
واهلل لو أن لي طالع األرض -أي ملئها -ذهبا الفتديت به من عذاب اهلل عز وجل
قبل أن أراه!».
من حديث للبخاري أن عثمان رضي اهلل عنه قال« :أما بعد فإن اهلل بعث محمدا
صلى اهلل عليه وسلم بالحق ،فكنت ممن استجاب هلل ولرسوله ،وآمنت بما بعث به،
وهاجرت الهجرتين كما قلت .وصحبت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبايعته .فواهلل
ما عصيته وال غششته حتى توفاه اهلل ،ثم أبو بكر مثله ،ثم عمر مثله».
نرى أن الصحابة رضي اهلل عنهم كانوا ينزلون خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم منزلته في حسن الصحبة والطاعة ،ويرون رضا األمير من رضا اهلل ،لم تكن
العالقة بين أمير المؤمنين ورعيته عالقة سلطة فقط ،بل كانت عالقة كلية ال ينفصل
فيها الحب واإلخالص عن الطاعة واالمتثال.
1العنكبوت69 ،
131
فكان األمير مصحوبا ترجى بركته ،ورئيسا يطاع أمره .كانت طاعة أولي األمر
الحقة بطاعة اهلل ورسوله منشقة منها ،وكانت محبة األمير من محبة اهلل ورسوله.
فالخالفة على منهاج النبوة ال تكون كذلك إال إن ولي أمر المسلمين رجال توفر
لهم التقوى والحظ من اهلل بقدر ما توفر لهم الغناء والكفاءة التنفيذية.
في مجتمعات الجاهلية والفتنة عالقات سلطوية على كل المستويات .في اإلسالم
تسبق الدعوة الدولة ،فإن اجتمعت الدعوة والدولة في يد جماعة المؤمنين فاألمير مرب
مصحوب ،وظيفته التربوية ال تنفك عن وظيفته السلطوية ،بل تستمد هذه من تلك
وتتقوى بها ،فإنما نطيع أولي األمر منا ألن اهلل أمرنا بذلك .العقد اإلماري ال بد منه
فهو شرع ،لكن طاعة األمير وحسن صحبته إو�جالله وتوقيره عبادة.
فإن اتبعتني:
ذهب موسى للقاء الخضر عليهما السالم ،يلتمس منه علماً كما أوحى اهلل إليه.
وقص اهلل تعالى علينا نبأ موسى في رحلته مع فتاه قال عز من قائل{ :فَ َو َج َدا َع ْبداً
وسى ال لَ ُه ُم َ ند َنا َو َعلَّ ْم َناهُ ِمن لَّ ُد َّنا ِع ْلماً قَ َ
ِّم ْن ِعب ِاد َنا آتَ ْي َناه ر ْحم ًة ِم ْن ِع ِ
َُ َ َ
ص ْب ارً ِ ال إِ َّن َك لَن تَ ِ َه ْل أَتَِّب ُع َك َعلَى أَن تُ َعلِّ َم ِن ِم َّما ُعلِّ ْم َت ُر ْ
يع َمع َي َ ستَط َ ْ شداً قَ َ
شاء اللَّ ُه َ
صا ِب ارً ستَ ِج ُد ِني إِن َ ال َ ص ِب ُر َعلَى َما لَ ْم تُ ِح ْط ِب ِه ُخ ْب ارً قَ َ ف تَ ْ َو َك ْي َ
ُح ِد َث لَ َك
ش ْي ٍء َحتَّى أ ْ سأَْل ِني َعن َ ِ
ال فَِإ ِن اتََّب ْعتَني فَ َل تَ ْ صي لَ َك أ َْم ارً قَ َ َع َِوَل أ ْ
1
ِم ْن ُه ِذ ْك ارً}.
عقد تلمذة بمقتضاه التزم التلميذ موسى ،وهو النبي الرسول من أولي العزم ،باتباع
شيخه ،وطاعته ،والصبر على مبادرته .وفي القصة تشريع موعظة لألمة التي تتلو
القرآن.
1الكهف70-65 ،
132
كان موسى فردا في هذا العقد كما كان الخضر عليهما السالم ،فهي صحبة
فردية.
أما العقد اإلماري والبيعة الخالفية فااللتزام التربوي فيها ضمني .عندما يبايع
المبايع على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأثرة عليه ،فإنما يسلم إمرة نفسه لألمير
والخليفة في كل شؤون دنياه وآخرته .فلما فسد األمراء ،وتسلطوا عليها بالسيف ،ولم تكن
لهم أهلية أن يربوا فتنفع صحبتهم ،اختل األمر كله فأصبح ملكا.
ولغد اإلسالم يختار المؤمنون أولي األمر منهم ،ويختارون من ينفع اهلل بصحبته
كما ينفع برأيه وقوته على البناء .القوي األمين ،رجل يقوى على ضبط شؤون األمة
سياسة إو�دارة وتنفيذا ،ويؤتمن على دين األمة تربية وحفظا وداللة على اهلل عز وجل.
ومن السنة أن يفرد اإلمام من يشاء بعقد الصحبة الخاص كما فعل رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،فإن كان العقد الضمني على الصحبة باعتبار أن رضى األمير
من رضى اهلل كما رأينا غير كاف ،فالحديث التالي يفتح مجاال إلبراز جانب الدعوة
والتربية في وظائف األمير.
أخرج البغوي وأبو نعيم وابن عساكر عن عتبة بن عبد رضي اهلل عنه قال« :بايعت
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سبع بيعات :خمسا على الطاعة واثنتين على المحبة».
صحبة طاعة وتلمذة بين عامة المؤمنين وأميرهم باإلحسان ،بها يتعرضون جميعا
لرضى اهلل .وصحبة أخوية بين رجل ورجل على شرط التلمذة والتوقير والطاعة ،كما
رأينا في صحبة موسى للخضر عليهما الصالة والسالم .والجمع بين الصحبتين في
المجتمع اإلسالمي المتجدد ،في التنظيم الدعوي قبل قيام الدولة اإلسالمية وبعدها ،سنة
مرغوب فيها.
فقد آخى النبي صلى اهلل عليه وسلم بين المهاجرين واألنصار ،فعين لألنصاري أخا له
133
من المهاجرين ليصحب هذا الحديث العهد باإلسالم أخا له سبقه باإليمان ،فينتفع بمالزمته،
في نفس الوقت الذي يصحب فيه االثنان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فينتفعان بتلك
الصحبة النبوية المباركة.
لم تكن الصحبتان متنافيتين ،بل كانتا متكاملتين .ونرجو اهلل عز وجل أن يقيض
لجماعة المؤمنين في أطوار تألفها في غد اإلسالم أولياء له يربون األجيال الطاهرة
في وجهة الجمع والتأليف الجهادي ال حسب صحبة االعتزال والخلوة .فإن كان هذا
األسلوب الفراري مالئما أيام كان اإلسالم في ضمور وتقلص ،فال مكان له غدا إن شـاء
اهلل -وقد بدأ هذا الغد األغر والحمد هلل -واإلسالم في إقبال ،وداعي اهلل في القلوب
ينادي :حي على الجهاد.
ال تكاد تجد من يشير في سياق الحديث عن إخاء النبي صلى اهلل عليه وسلم بين
المهاجرين واألنصار لغير تبادل المصالح المعاشية بين اإلخوة.كان ما نعرفه ونكبره
من إيثار األنصار رضي اهلل عنهم إخوتهم على أنفسهم حتى مدحهم اهلل جل شأنه في
قرآن يتلى ليستمر العمل بمقتضاه أبد الدهر .قال اهلل تعالى يذكر نتائج هذه الصحبة
ُخ ِر ُجوا ِمنين أ ْ ين الَِّذ َ في قلوب األنصار بصحبة المهاجرينِ{ :ل ْلفُقَراء ا ْلم َه ِ
اج ِر َ ُ َ
ِ يارِه ْم َوأ َْم َو ِال ِه ْم َي ْبتَ ُغ َ
ِد ِ
ضالً ِّم َن اللَّه َ ْ َ ً َ َ ُ ُ َ َ َ َ ُ
سولَ ُه رو ه َّ
ل ال ون ر نص ي و ا انو ض رِ و ون فَ ْ
ان ِمن قَ ْبِل ِه ْم ُي ِح ُّب َ
ون َم ْن يم َال ََّار َو ِْ ون َوالَِّذ َ
ين تََب َّو ُؤوا الد َ الص ِادقُ َ أ ُْولَ ِئ َك ُه ُم َّ
اج ًة ِّم َّما أُوتُوا َوُي ْؤِث ُر َ َهاجر إِلَ ْي ِهم وَل ي ِج ُد َ ِ
ون َعلَى ورِه ْم َح َص ُد ِ
ون في ُ ْ َ َ ََ
اص ٌة}. ص َ ان ِب ِه ْم َخ َ أَنفُ ِس ِه ْم َولَ ْو َك َ
1
لكن المحبة والصحبة كانتا المطلب التربوي من هذا اإلخاء .اق أر جيدا { ُي ِح ُّب َ
ون
اج َر إِلَ ْي ِه ْم} ،فهي صحبة سبقت اإليثار ،وكان اإليثار على النفس نتيجة لها،
َم ْن َه َ
ثم انظر كيف وصف اهلل تعالى المهاجرين بالصدق هنا وكيف أمر بصحبة الصادقين
الص ِاد ِق َ
ين}. آم ُنواْ اتَّقُواْ اللّ َه َو ُكوُنواْ َم َع َّ في قوله جل ذكرهَ { :يا أ َُّي َها الَِّذ َ
ين َ
2
1احلشر9-8 ،
2التوبة119 ،
134
«مع» و«أحب» كلمتان إن تتبعتهما في الكتاب والسنة بقلب مشتاق ظهر لك سر
الصحبة إن شاء اهلل.
ولتبادل المصالح بين اإلخوة ،وتخصيص المؤمن بصديق صاحب تكون قوية
أواصر المحبة والخدمة المتبادلة بينهما ،سند في كتاب اهلل عز وجل حيث قال{ :لَ ْي َ
س
س ُك ْم أَن تَأْ ُكلُوا ِمن ُب ُيوِت ُك ْم}
َعمى حرج} إلى أن قال{ :وَل علَى أَنفُ ِ
َ َ َعلَى ْال ْ َ َ َ ٌ
إلى أن قال{ :أَو ص ِد ِ
يق ُك ْم } 1،فجعل سبحانه األكل من بيت الصديق كاألكل من ْ َ
بيتنا أو بيوت آبائنا و أهلنا.
ألفة وتداخل ورحمة ،وسنرى في شعب الخصلة مدى اتساع دائرة الصحبة المطلوبة
حتى أنها تعم المجتمع كله القريب واألقرب والصالح واألصلح.
يجعل من صلب العمل المنظم أثناء السياحة للدعوة زيارة أهل الخير والصالح،
فذلك من سنة هذه األمة.
وقد أوصى رسول اهلل عليه صلى اهلل عليه وسلم أصحابه إن أدركوا أويسا القرني
-ووصفه لهم -أن يلتمسوا منه الخير ،والحديث طويل عند مسلم في كتاب فضائل
الصحابة.
1النور61 ،
135
وروى اإلمام البخاري عن المغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال« :قدمت الشام
فصليت ركعتين ،ثم قلت :اللهم يسر لي جليسا صالحا ،فأتيت قوما فجلست إليهم ،فإذا
شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي ،قلت :من هذا؟ قالوا :أبو الدرداء ،فقلت :إني دعوت
اهلل أن ييسر لي جليسا صالحا فيسرك لي».
وروى الترمذي من طريق خيثمة بن عبد الرحمن قال« :أتيت المدينة فسألت اهلل
أن ييسر لي جليسا صالحا .فيسر لي أبا هريرة ،فقال :ممن أنت؟ قلت :من الكوفة
جئت ألتمس الخير».
فالخير الذي التمسوه رضي اهلل عنهم هو لقاء األخيار ،وبهذه اللقاءات والتجالس
واالتباع والصحبة بقي الخير في هذه األمة.
صحبة الشعب:
ينبغي لجند اهلل أن يتعبأوا للتغلغل في الشعب قصد إيقاظه وتربيته والتماس الخير
عند أهل الخير .وما من جلسة وال وقفة مع شخص من خلق اهلل ،تدعوه إلى اهلل،
وتحاجه في اهلل ،وتتحبب إليه في اهلل ،وتذكره باهلل ،إال وهي حركة مباركة.
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كثير الحركة دائبها في الدعوة .روى ابن القيم
في «زاد المعاد» عن أبي الزبير عن جابر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لبث
عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ يقول« :من يؤمنني؟ ومن
يؤويني؟» ومن ينصرني حتى أبلغ رساالت ربي فله الجنة؟» .اتباع الناس واإللحاح
عليهم في كل مكان ومناسبة وبكل أسلوب حكيم ،هذه سنة المصطفى صلى اهلل عليه
وسلم.
ينبغي أن تنظم تنظيما بادرة الرحمة التي يجدها المؤمن في قلبه عند توبته ودخوله
في الصف اإليماني ،التي تدفعه إلى الناس ليدعوهم إلى الخير.
تنظم هذه البادرة وتصان أن يدركها الفتور ،فمكان المؤمن مجالس الناس ونواديهم
136
وتجمعاتهم مهما كانت .وكلمته لكل من لقي عفوا في تنقالته ،في الحافلة وفي
مدرسته ،ومكتبه ،ومعمله ،وجواره ،وشارعه ،الدعوة إلى اهلل .وال يترك الفرص تأتي
عفوا بل يهيئها ،يقصد الناس يهجم ال يمل بالوجه الباسم ،والكلمة الطيبة ،والخلق
الجميل.
باب الدعوة الصحبة ،فكن كلمة الحق التي ال تخجل ،ووجه الخير الذي ال يعبس
إن جاءه الناس ،بل يسعى هو إلى الناس.
ساعي الخير كن ،وكن حيث يحب اهلل أن تكون ،بالوصف الذي يحبَ { :و َم ْن
سِل ِم َ
ين}. َحس ُن قَوالً ِّم َّمن َدعا إِلَى اللَّ ِه وع ِم َل ص ِالحاً وقَ َ ِ ِ
ال إِ َّنني م َن ا ْل ُم ْ ََ َ أْ َ ْ
1
َ َ
شعب الخصلة
نذكر شعب اإليمان كما صنفناها بإيجاز ،ويرجع لكتابنا «شعب اإليمان» يسر اهلل
تحقيقه وطبعه ،ففيه من األحاديث المفصلة ما يعطي لكل شعبة داللتها مبنية على كالم
المعصوم صلى اهلل عليه وسلم ،وسأرقم الشعب من 1إلى 77إن شاء اهلل.
يعرف المؤمن أن هلل عز وجل أولياء ،فالوالية العامة هي والية المؤمنين في قوله
آم ُنواْ ين َ ون الَِّذ َ تعالى{ :أَال إِ َّن أ َْوِل َياء اللّ ِه الَ َخ ْو ٌ
ف َعلَ ْي ِه ْم َوالَ ُه ْم َي ْح َزُن َ
ص ِب َر ْح َم ِت ِه ون} 2.والوالية الخاصة في قوله عز من قائلَ { :ي ْختَ ُّ َو َكا ُنواْ َيتَّقُ َ
اء } 3.أولياء اهلل يحبهم ويحبونه ،فيسعى المؤمن لمحبتهم ليدرجوه ،ويعلموه ش ُ َمن َي َ
137
محبة اهلل ورسوله .وما لصحبة األخيار من غاية إال أن يدلوك على اهلل ويحببوه
إليك ،فإذا علمت أن اهلل عز وجل يتقرب إليه بالفرض والنفل حتى يحب العبد فيكون
سمعه وبصره ويده ورجله كما يليق بجالله سبحانه ،وذقت حالوة اإليمان ،ثم تنسمت
ريح القربة حتى أصبح همك األول اهلل ،وغايتك وجهه ومحابه ،ومحاب رسوله مبتغاك،
فقد أشرفت على قمة العقبة.
وما يشرف عليها من لم يصبح اهلل ورسوله أحب إليه من نفسه ووالده وولده .روى
البخاري وغيره أن رسول اهلل صلى عليه وسلم قال« :والذي نفسي بيده ال يؤمن أحدكم
حتى أكون أحب إليه من والده وولده» ،بعضهم يعمد إلى تعبير المؤمنين عن هذه
المحبة كالتسييد ينتقده .يوشك هؤالء أن ينسونا أن محبته صلى اهلل عليه وسلم البالغة
شرط في اإليمان ،ال إيمان بدونها.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه عز وجل« :حقت محبتي
للمتحابين في ،وحقت محبتي للمتواصين في ،وحقت محبتي للمتناصحين في ،وحقت
محبتي للمتزاورين في ،وحقت محبتي للمتباذلين في .المتحابون في على منابر من نور،
يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء» رواه اإلمام أحمد وابن حبان والحاكم
والقضاعي عن عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه.
صحبة األخيار ،وزيارتهم ،إو� كرام الزائر ،إو� كرام ذوي الحرمة من العلماء،
138
والصالحين ،وآل البيت ،وعامة المسلمين .وتوقير الكبير ،ورحمة الصغير .المجتمع
اإلسالمي مجتمع إخاء ورحمة ،فيعبر عن هذه األخوة بكل معاني اإلكرام واإلحسان،
مع إنزال الناس منازلهم حسب غنائهم في اإلسالم وسابقتهم وحظهم من اهلل عز وجل.
الشعبة الرابعة :التأسي برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في خلقه
كان خلقه صلى اهلل عليه وسلم القرآن ،يعطي كل ذي حق حقه ،ثم يفيض خي ار
ورحمة على العالمين .ينبغي تقصي هديه صلى اهلل عليه وسلم في كتب الشمائل،
واتباع سنته صلى اهلل عليه وسلم في عظائم األمور ودقائقها .فالسنة الشريفة وحدها
كفيلة أن توحد سلوكنا ،وتجمعنا على نموذج واحد في الحركات والسكنات ،في العبادات
واألخالق ،في السمت وعلو الهمة .فإنه ال وصول إلى اهلل عز وجل إال على طريق
رسوله صلى اهلل عليه وسلم ،وال حقيقة إال حقيقته ،وال شريعة إال شريعته ،وال عقيدة إال
عقيدته ،وال سبيل إلى جنة اهلل ورضوانه ومعرفته إال باتباعه ظاه ار وباطنا .فذلك كله
برهان عن صدقنا في اتباعه ،إذ فاتتنا صحبته.
139
أهله ،ورقة ولطف باألطفال ،وقيام عليهم وخدمة.
من المؤمنين من يفتقد عند توبته مرشدا يدله على الرفق .فإذا كان له أبوان وذو
رحم سادرون في الغفالت ،أو يعلم اهلل ما عندهم من موبقات ،أعلن االبن واالبنة الحرب
على الوالدين واألقارب ،وخسرت الدعوة فرصة لتبليغ الناس أن اإلسالم رحمة وطهارة
وسلم للعالمين.
يرتكب التائب الذي ال مرشد له كبيرة عقوق الوالدين لمجرد أنه ال يجد عند أمه
وأبيه ذلك االلتزام بالسنة كما يقرأه في الكتب.
أال إن مجتمعنا مفتون ،وال يمكن طلب االستقامة من الناس ،ومن نظام األسرة
والمجتمع المتأثر بالجاهلية المبني على قيمها ،قبل أن نعيد بناء اإلسالم.
وانظر عند الشيخين قصة جريج حين قدم صالته على تلبية حاجة أمه .فهي
موعظة لنا أال نعق والدينا ،وال نقاطع أقاربنا ،باستعالء العابد الذي يحسب أن ركعاته
تغنيه عن بر من أمرنا ببره.
أضل ما يمكن أن يكون األبوان أن يدعوا الولد والبنت لكفرهما .وما أمرك
1لقمان15-14 ،
140
اهلل عندئذ بالعنف عليهما .إنما أمرك برفض الكفر مع إبقاء عالقات الصحبة لهما
بالمعروف .فما بالك بمن يعق والديه المسلمين لبدعة إضافية أو معصية« .واتبع سبيل
من أناب إلي» :ينبغي للمربي المتبع -أرأيت أن اهلل عز وجل ما ترك لنا فرصة للحث
على صحبة األخبار إال خاطبنا بها -أن يقود برفق حركة التجديد في األسر ،لتحبيب
اإلسالم للناس ،وتفادي معصية اهلل تعالى بتعريض النشء للعقوق .ومتى كانت األم
صالحة فهي أول صحبة نافعة أمر الشارع صلى اهلل عليه وسلم برعايتها .روى الشيخان
أن رجال سأل النبي صلى اهلل عليه وسلم« :من أحق الناس بحسن الصحبة؟» قال:
«أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك» .أي األقرب فاألقرب .هذا إن كانوا
صالحين وصحبة األخيار هي المعتمد على كل حال.
االستقرار االجتماعي بالزواج ،واإلنجاب ،وحمل مسؤولية بيت ،من أهم ما يعين
على ترشيد الرجال .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن عبد
اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه يخاطب الشباب« :يا معشر الشباب! من استطاع منكم
الباءة فليتزوج ،فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج .ومن لم يستطع فعليه بالصوم ،فإنه
له وجاء».
لإلسالم سنن في اختيار الزوجة ذات الدين ،واختيار األزواج من ذوي الدين
والخلق .فال حاجة اللتماس نشر الدعوة بتزويج المؤمنين والمؤمنات ممن ترجى توبتهم.
فإنها مضيعة لمستقبل شبابنا .لنركز اهتمامنا على تأسيس مجتمع طاهر بتخصيص
الطيبين للطيبات والسعي في تقريب فئات اإلسالميين بالزواج.
ولتكن أعراسنا مناسبة للدعوة وفرض سنن اإلسالم في إقامتها .وال بد في هذا من
مصانعة األسرة وتليينها للتنازل عن المهور الغالية ،والتكاثر في النفقة ،والغلو في اقتناء
األثاث ،وقصم ظهر الخاطب بالشروط.
141
ثم ليتق اهلل شبابنا وشوابنا أن يقيموا أمر اهلل في عشرة الزواج .فإن الطباع قد
تتنافر حتى بين المؤمنين والمؤمنات .وليست تظهر آثار التربية والدعوة في رخاء
األسرة التربوية والتنظيم الحركي المتآلف إنما تظهر في تخلق الزوجين المؤمنين ،و في
صبرهما على ما يبدر من حدة .ال سيما في أوائل العشرة.
جمع اهلل عز وجل وظيفة الزوج ووظيفة الزوجة في قوله جل ذكرهِّ { :
االر َجا ُل
ض َوِب َما أَنفَقُواْ ِم ْن
ض ُه ْم َعلَى َب ْع ٍ َّل اللّ ُه َب ْع َ ساء ِب َما فَض َ ون َعلَى ِّ
الن َ ام َ قَ َّو ُ
1
ات لِّ ْل َغ ْي ِب ِب َما َح ِف َ
ظ اللّ ُه}. ظ ٌ ات ح ِ
اف َ الص ِالح ُ ِ
ات قَانتَ ٌ َ
ِ
أ َْم َوال ِه ْم فَ َّ َ
فالرجل مسؤول عن رعيته يربيها ،ويطعمها ،ويكسوها ،ويحميها ،ويقيها نا ار وقودها
الناس والحجارة بتوجيهها إلى اإليمان .والمرأة حافظة لغيب الرجل ،حامية لظهره ،كي
ينبعث إلى جهاده آمنا أن تظهر من خلفه عورة تكسر صلبه .جند اهلل كتائب بعضها
يغشى ساحة الجهاد على كل الجبهات ،وبعضها خصص اهلل له الجبهة األمامية جبهة
إعداد المستقبل ،جبهة الحفاظ على الفطرة وسط المجتمع المفتون ،حتى تبرز أجيال
غد اإلسالم لموعود اهلل عز وجل.
ولنسائنا مهمة أشق من مهمة الرجل .ذلك أن مجتمع النساء بيننا جمع بين الحفاظ
على التقاليد البالية والسلوك الغازي .فمثقفاتنا بما يشعرن من تخلفهن عن ركب الدعارة
الجاهلية (في الجملة) أشد تحلال وانحالال من أمثالهن من الرجال .وما عند شعبياتنا
من خرافات مردها للبؤس والجهل ،والظلم ،وطول األمد ،واالنبهار باألسر الثرية،
وتقليدها في عادات التبذير ،كفيل أن يدفعهن لعداء الحجاب والحشمة والتقوى بمثل
عداء األخريات أو أشد.
لكن فطرة اإلسالم الموروثة ال يزال لها وجيب تحت رماد الفتنة .فالنساء إن صلحن
كن الركن الركين في بناء المجتمع اإلسالمي المتجدد.
1النساء34 ،
142
فعلى المؤمنات أن يعرفن جبهتهن.
وعلى رجال الدعوة قبل قيام دولة اإلسالم وبعده أن يعطوا لبؤس المرأة وحرمانها
وظلمها ما تطلبه من النصفة أول األوليات.
يتوسع مفهوم الصحبة والجماعة بتقدمنا في عد شعب هذه الخصلة .فمن محبة اهلل
تعالى ،وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ،إلى محبة حبيبه وحبيبنا محمد صلى اهلل عليه
وسلم ،إلى محبة أوليائه تعالى واألخيار من أمته صلى اهلل عليه وسلم ،إلى الوالدين
واألقربين ،والزوج والزوجة فالجار بالجنب فالضيف العابر.
وهكذا تكون الدعوة رحمة جامعة بين المؤمن وخالقه ،ثم تفيض فتعم من أمر اهلل
ورسوله بمحبتهم إو�كرامهم وحسن عشرتهم .وهكذا تتكون على نور محبة اهلل تعالى نواة
المجتمع اإلسالمي واألخوي وتتوسع.
ويمتاز المجتمع اإلسالمي بحسن التجاور بين المسلمين .من أهم ما تشكوه
مجتمعات االستهالك المكونة من األسر األنانية على نمط الجاهليين أن الناس أصبحوا
ال يأبه بعضهم لبعض ،وال يهتم ،وال يتكلم ،وال يعرف .فآصرة األخوة اإلسالمية الجامعة
تقرب األسر ،وتربطها بحقوق ضبطها الشرع وحث عليها .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فيما رواه الشيخان عن عائشة رضي اهلل عنها« :ما زال جبريل يوصيني بالجار
حتى ظننت أنه سيورثه».
أما إكرام الضيف بالقرى والخدمة والمالطفة ،فهو سمت الدعوة ،وأهم آدابها .بيوت
المؤمنين هي معاقل الدعوة ورباطاتها .فينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يفتحوا بيوتهم
للواردين .وعلى الدعاة أن يضربوا المثال في ذلك .فداعية ال يفتح باب داره ،وباب قلبه،
وبشاشة وجهه ،للمؤمنين والواردين دعي.
143
وال كلفة مما يعتاده الناس .فمتى بقيت الكلفة بين المؤمنين ،أو خجلت المؤمنة أن
يدخل بيتها وارد وواردة دون أن تقيم طقوس مجتمع التكلف واالستهالك ،فأمر الدعوة
في ذلك البيت إلى غير رشد.
على مستوى التنظيم تشاع مستلزمات األخوة بين جند اهلل ،يكرم بعضهم بعضا،
ويصلحون ذات بينهم ،ويسترون عورات الناس ما لم يكن فسق ،أو بدعة قادحة في
العقيدة ،أو خيانة ألمانات الجماعة.
ومن مكمالت الدعوة إدخال السرور على المسلمين ،وتنفيس كربهم ،ومدافعة
اضطهاد المستكبرين عنهم .حتى إذا اجتمعت الدعوة والدولة في يد المؤمنين كان معنى
هذه الشعبة إقامة مجتمع يكرم فيه المسلمون ،ويكرم فيه اإلنسان.
من المؤمنين من ينقص إيمانهم لسوء خلقهم ،وغلبة الطبع الغضبي عليهم ،حتى ال
تجد لهم حظا من هذا الشعبة .سوء الخلق العابر لمزعج أو هم طارئين يمكن عالجه.
أما صاحب الطبع الحاد الذي ال يصلح للعشرة فعالجه أن يجنب التنظيم .ألن االستقرار
النفسي شرط أساسي في بناء الجماعة .فأي عنصر يغلب عليه االنفعال يسبب قلق
144
المؤمنين ،ويصبح مثبطا ومنفرا .المؤمنون أبرار ،والبر حسن الخلق ،فمن ال حظ له فيه
يستعان بما لديه من خير لكن ال يعول عليه.
وغياب هذه الشعبة من مجموع المؤمن تسقط أهليته للعضوية ،ألنه ال صحبة مع
سوء الخلق واالنفعال الغضبي ،ومعهما تسقط كل شعب هذه الخصلة.
145
الخصلة الثانية:
الذكر
الذكر تربية
الكيمياء اإللهية ،والدواء والعالج التي بها يطهر القلب ،وهو مصب اإليمان
وملتقى شعبه ومصدر نوره ،هو ذكر اهلل .قال اهلل تعالى{ :أَالَ ِب ِذ ْك ِر اللّ ِه تَ ْط َم ِئ ُّن
وب} 1.إو�نما تحيى القلوب بذكر اهلل ،والتفكر في آالئه ،واستمطار رحمته، ا ْل ُقلُ ُ
ومناجاته ،واالعتذار إليه عن التقصير ،واستغفاره للذنب ،حتى يصبح هم المؤمن اهلل.
في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم قال« :من أصبح وهمه غير اهلل فليس من اهلل ،ومن أصبح ال يهتم بأمر
المسلمين فليس منهم ،ومن أعطى الدنية من نفسه غير مكره فليس مني».
إنه ال يستطيع حمل هم األمة ،وهو ثقيل ،إال من أصبح همه اهلل ،وغايته طلب
وجهه ،فهانت عليه الشدائد ،واسترخص الموت في سبيل محبوبه.
العالم كل ما سوى اهلل .وعالم اليوم تسيطر عليه الجاهلية ،وقيمها ،وثقافتها،
ووسائل إعالمها ،فال تكاد تسمع ذكر اهلل .والناس من حولك غافلون ،الهون،
مشتغلون بسفساف األمور .هم منغمرون في الحياة الدنيا ،لهوا ولعبا ،وشكا إو�لحادا،
وغفلة عن اهلل.
1الرعد28 ،
146
هذيان العالم ملعون ،أي مبعد مبعد عن اهلل (بفتح العين وكسرها) .قال رسول اهلل
عليه وسلم« :الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إال ذكر اهلل وما وااله ،وعالما ومتعلما» .رواه
ابن ماجه والطبراني بإسناد حسن.
وكتاب اهلل هو الحبل المتين ،هو الذكر الحكيم ،فتربية جند اهلل ترتكز على
االستمساك بهذا الحبل ،بهذه العروة التي من تمسك بها نجا .ثم بعد النجاء من هذيان
العالم يتبطن في القلب حب اهلل حتى يصير حب القرآن خلقنا ورائدنا.
تنظيم جند اهلل يجعل القرآن محور العلم ،ويجعل ما إلى ذكر اهلل من تدارس للقرآن،
وفهم له ،إو�عداد الفكر اإلسالمي الذي يحررنا من هذيان الجاهلية وفلسفتها ونظرياتها
اإلديولوجية ،مطلبا أساسيا.
وبعد قيام الدولة اإلسالمية يصبح القرآن ،وعلومه ،وما تفرع عنه من حكمة مادة
الثقافة والتعليم واإلعالم ،ليصطبغ المجتمع كله بصبغة القرآن ،صبغة اهلل ،ومن أحسن
من اهلل صبغة؟ وتكون العلوم الكونية التي يبزنا فيها اليوم الجاهليون مستنيرة بنور القرآن
خادمة ألهدافه.
القرآن ذكر يربي اإلرادة ،والقرآن شريعة تضبط عالئق التنظيم ،والقرآن دستور
للحكم والعلم وتغيير العالم.
من هذيان ما قبل اإلسالم ،وهو حديث الفكر المادي الجاهلي وفلسفاته ونظرياته
اإليديولوجية ،إلى لغة القرآن ،أعني لغة اللسان والقلب واإليمان.
أصول:
من أصول الشيخ البنا رحمه اهلل « :والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل
مسلم في تعريف أحكام اإلسالم .ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير
تكلف وال تعسف .ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات».
147
ومن أصوله رحمه اهلل« :ولإليمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور
وحالوة يقذفها اهلل في قلب من يشاء من عباده .ولكن اإللهام والخواطر والكشف والرؤى
ليست من أدلة األحكام الشرعية .وال تعتبر إال بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين
ونصوصه».
ومن أصوله رحمه اهلل« :وزيارة القبور ،أيا كانت ،سنة مشروعة بالكيفية المأثورة.
ولكن االستعانة بالمقبورين ،أيا كانوا ،ونداءهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم ،عن
قرب أو بعد ،والنذر لهم ،وتشييد القبور وسترها ،إو�ضافتها ،والتمسح بها ،والحلف بغير
اهلل ،وما يلحق بذلك من المبتدعات الكبائر ،تجب محاربتها .وال نتأول لهذه األعمال
سدا للذرائع».
ومن أصوله رحمه اهلل« :والعقيدة أساس العمل .وعمل القلب أهم من عمل
الجارحة .وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعا إو�ن اختلفت مرتبتا الطلب».
طلب الكمال:
ما أشار إليه الشيخ البنا رحمه اهلل من النور والحالوة واإللهام والكشف والرؤى
الصالحة عطاء يخص اهلل به من يشاء من عباده المؤمنين الذاكرين السالكين طريق
الحق .ومنتهى كل ذلك الفتح األكبر الذي يحصل ألولياء اهلل .وهم درجات والفتح
درجات .نترك الحديث في هذا لفحل من فحول األولياء ،هو الشيخ عبد القادر الجيالني
رحمه اهلل.
قال رحمه اهلل يصف حال المفتوح عليهم« :من قوي إيمانه وتمكن في إيقانه رأى
بقلبه جميع ما أخبره اهلل عز وجل به من أمور القيامة .يرى الجنة والنار وما فيها .يرى
الصور والملك الموكل به .يرى األشياء كما هي .يرى الدنيا وزوالها وانقالب دول أهلها.
يرى الخلق كأنهم قبور يمشون .إو�ذا اجتاز القبور أحس بما فيها من عذاب ونعيم .يرى
1
القيامة وما فيها من القيام والموافقة .يرى رحمة اهلل عز وجل وعذابه».
ارجع إلى كتاب «حياة الصحابة» للشيخ يوسف الكاندهلوي لتق أر ما كان يحدث
من فتح ألصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .إو�نما أتينا بشهادة رجل متأخر زمنا
عسى أن تستيقظ هممنا لنطلب إلى اهلل عز وجل كمال ذواتنا.
والمؤمن الرشيد إن عثر على ولي مرشد يسلكه ُوعورات الطريق ال يسأل اهلل الفتح
طلبا لحظ نفسه والكرامات .إنما يطلب من اهلل أن يغفر له ،ويرفعه في درجات القربة
ويعطيه كمال اإليمان واإلحسان.
فإن الفتح كرامة ،واالستقامة إلى اهلل هي مطلوب القوم .ورحم اهلل الشيخ البنا فقد
حذر من مزالق االعتماد على الكشف وسائر المظاهر النوارنية التي قد تتماثل في
شكلها مع المظاهر الشيطانية حتى ال يميز الجاهل بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
األوراد:
يقول الصالحون من هذه األمة« :من ال ورد له فال وارد له» .والوارد هو مزيد
اإليمان الذي يقذفه اهلل عز وجل في قلب المتبتلين الذاكرين اهلل كثي ار المتهجدين.
كان ألصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أوراد وأحزاب (أي أجزاء من القرآن
ونوافل من الخير يومية ال ينامون عنها) ،أنظر كتاب «حياة الصحابة».
يكون لجند اهلل أوراد أي أعمال دائمة من كل شعب هذه الخصلة .فمقل ومكثر
بالتدرج ،إلى أن يقوى إيمان الوارد ،فيصبح ذكر اهلل غذاء ضروريا ،وتصبح الكلمة
الطيبة ال يزال لسانه رطبا بذكرها.
وال بأس أن يتواصى اإلخوة ويتنافسوا في الذكر .فما جاء من أذكار وعبادات عن
149
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم محدودة بالعدد ،فال مكان لتجاوزها .وما ترك فيه لنا
الخيار أو ندبنا فيه إلى اإلكثار أكثرنا.
تحديد العدد ورفعه بالتدريج سياسة للنفوس الكالة الكسول وليس تشريعا .وبعضهم
يندد بمن يعين لنفسه عددا من النوافل واألذكار والدعوات والقرآن أو يحدده له غيره،
يعتبر ذلك افتياتا على الشارع .وما هي إال سياسة .المحذور أن يتقدم أحد بين يدي
اهلل ورسوله فيما جاء منصوصا على عدده .والمكروه أن تتعدى دائرة السنة ،كأن تختم
القرآن في أكثر من شهر أو أقل من ثالث .وليس مذهبنا أن نحدد ألحد وردا.
وللورد ،تحديدا ودواما ،سند في قوله صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن
عائشة رضي اهلل عنها« :أحب األعمال إلى اهلل أدومها ولو قل» .الدوام معناه تكرار
عدد العبادة يوميا .وهذا معنى الورد.
وما بعد الورد من استغراق الوقت كله في الذكر ،سنده حديث عائشة الذي رواه
مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يذكر اهلل
تعالى على كل أحيانه .وسنده ما رواه ابن حبان وابن السني والطبراني والبيهقي عن
معاذ رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :أحب األعمال إلى اهلل
أن تموت ولسانك رطب من ذكر اهلل».
ال إله إال اهلل أعلى شعب اإليمان .فطالب الحق ،ومريد اهلل ،وسالك الطريق إليه،
من نصح نفسه ،وانتصح بوصية اهلل ورسوله ،فجعل هذه الكلمة الطيبة على لسانه وفي
قلبه على كل أحيانه حتى يحبه اهلل.
الذكر تنظيما
ذكر اهلل غايته أن نتولى اهلل بالقيام بعبادته كما أمرنا حتى يتوالنا هو برحمته كما
وعدنا.
150
ومن ثم فالذكر ليس فقط مناجاة في الضمائر ،وكلمات على اللسان ،وشعائر
ظاهرة يعظمها المؤمن .بل الذكر الوقوف بين يدي اهلل صفا في الصالة ،يتقدم إليه
جند اهلل ألداء مراسيم العبودية ،ثم إشاعة حاكمية اهلل في عالقات جند اهلل مع اهلل،
وفي عالقاتهم استعدادا لتطبيق شريعته يوم يؤول الحكم إلى المؤمنين ،في كل مجاالت
الحكم ،والسياسة ،واالقتصاد ،وشكل المجتمع ،والعدل فيه ،والثقافة ،والجهاد كله.
الوالية هلل:
ينتقل جند اهلل من حال الغفلة وهذيان العالم إلى حال الذكر .في كل حركة،
وأمام كل موقف مستجد ،وعند كل عمل ،يصحح جند اهلل النيات ،ويضعون أسئلة
يجاب عنها جواب الذاكرين .فعن سؤال من نحن؟ يستبطن المؤمنون جواب :جند اهلل.
وعن سؤال الوالء ،جواب :والؤنا هلل .وعن سؤال الغاية ،جواب :وجه اهلل .وعن سؤال
القائد ،جواب :رسول اهلل .وعن سؤال الحاكم ،جواب :اهلل .وعن سؤال دستور الحكم:
كتاب اهلل .وعن سؤال الوسيلة :الجهاد في سبيل اهلل .وعن سؤال استعدادنا :الموت
في سبيل اهلل.
نقلة جماعية من معاني التجمع السياسي والتنظيم األرضي إلى معاني النسبة إلى
اهلل ورسوله وكتابه.
ذكر اهلل في حق جند اهلل أن يعيدوا صياغة الروابط العادية الغافلة فيفشوا فيها
معاني اإليمان فيما بينهم ،استعدادا ليعكسوا ذلك على المجتمع المسلم كله ،سياسة،
وتعليما ،وتخلقا واقتصادا ،وشعورا ،وسلوكا ،وعبودية هلل عز وجل.
ال بد من نقلة جماعية لنستعيد بيننا هوية اإليمان ،لتقارع من مكان العزة باهلل ،وقوة
االعتماد عليه ،ونور اتباع رسوله ،وحق شريعة كتابه ،هوية الباطل.
151
إذا كان جند اهلل واحدا واحدا من الذاكرين اهلل كثي ار سهل استعدادهم جماعة ليكون
والءهم للحق سبحانه من القوة بحيث يهيئهم للجهاد والموت في سبيل اهلل .فالجهاد
والموت في سبيل اهلل هما الخصلة الغائية لجماعة أولياء اهلل .وهما الوسيلة ،وهما ثمن
رضى اهلل سبحانه .في الحديث« :أال إن سلعة اهلل غالية ،أال إن سلعة اهلل الجنة!».
لن تكون دولة إسالمية ،وال خالفة إسالمية ،وال جهاد إسالمي ،إن لم تحدث في
إرادة جند اهلل وفكرهم ،في قلبهم وفي جوارحهم ،هذه النقلة ،نقلة الهوية والشخصية
والسلوك.
الناس عباد اهلل جميعا بنسبة الخلق والتدبير منه تعالى ونسبة االفتقار منهم.
لكن جند اهلل ،زيادة على عبودية القهر هذه ،يكتسبون باإلقبال على اهلل تعالى
عبودية اإلرادة واالختيار من جانبهم ،والرحمة والنصرة من جانبه عز وجل .فالمؤمن
يحقق اهلل له ،لمن يشاء ،عبودية كمال واليته ،وجماعة المؤمنين يحقق اهلل لهم النصر
والتمكين في األرض ،وكرامة المجاهدين في أية عاقبة من إحدى عاقبتي الحسنيين.
عزاء الجاهلية:
فإذا كان سوء الخلق الفردي مانعا من صالحية الفرد للدخول في الصف ،فإن ثمة
تخلقا سيئا ال يأتي من قبل طبع األفراد ،بل من طبيعة كل تجمع بشري .أقصد طبيعة
الوالء لإللف القريب ،وألسرة الدم ،وللقوم والوطن( .الدفاع عن حق األمة وتراب الوطن
اإلسالمي فرض).
الوالء هلل ،والوالية بين المؤمنين ،يناقضان مناقضة تامة الوالء العرقي والقومي.
والقومية داؤنا ووباؤنا المفرق للمسلمين على حيثيات النسب ،كما يفرقهم على حيثيات
السياسة الفتنوية في حدود هذه الدويالت القومية.
152
عندما يرد علينا الوارد من طالب الحق المرشحين لالنضمام ،يحتل إلف أسرة
اإليمان مكان عاداته العاطفية ،فيشجع على ذلك .لكن ينبغي أن ترفع التربية شعور
الوالء تدريجيا حتى يعم كل إخوانه في التنظيم ،وكل المؤمنين المجاهدين ،في كل
األقطار .على أن ال يتحول هذا الوالء الواسع إلى عاطفة فضفاضة تحل ما يريد التنظيم
جمعه .ففي مراحل البناء يكون الوالء على مستوى المرحلة .فوالء الطاعة ألولي األمر
في القطر ،قبل أن تتهيأ الوحدة ،يجب أال يناقش ويعارض بالوالء العام.
ومتى توحدت قلوب جند اهلل على حب اهلل ورسوله ،وعلى مداومة الحضور بين
يدي اهلل ورسوله ،ذهبت الطبيعة اإللفية وما يتفرع عنها من عصبيات.
وقد سمى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم العصبيات الدموية والقومية عزاء جاهليا،
ووصف لنا كيف نحارب هذا العزاء أشد الحرب .فكل رواسب التعصب لألشخاص
(الصحبة في اهلل واألخوة المطلوبان نقيضان للتعصب المفرق) ،أو الماضي ،أو
التكتالت داخل التنظيم ،تحارب أشد الحرب ،إن لم تفد التربية في رفع معناها ،أو تسرب
إلى الصف شخصيات فجة.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه
وال تكنوا» .رواه البخاري في األدب وأحمد والنسائي وغيرهم.
وقال عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه تطبيقا لألمر الشريف« :من اعتز بالقبائل
فأعضوه ،في رواية فأمصوه».
وهذه الكلمات عند العرب أقذع ما يسمع .لذلك أمرنا أن نستعملها لمحاربة أفتك
األمراض.
ونوسع مفهوم هذا األمر الشريف إلى ميدان الدعوة ،ومحاربة األفكار المستوردة.
فنكتب ونخاطب بكل ما ينقض فكر الجاهليين وأذنابهم من بيننا ،وبكل ما يسفه
القومية العصبية وحملة شعاراتها .نرفع النكير على ما يشتت األمة ويمنع من
وحدتها.
153
ال إله إال اهلل تجمع المسلمين .تجمعهم إلى اهلل قلوبا محاسبة على نياتها ،وأجساما
وذواتا محشورة إلى دارها بعد الموت .وتجمعهم شعوبا وقبائل ليعرفوا اهلل فيتعارفوا
ون إِالَّ
ويتآلفوا ويقوموا ألمر اهلل ،ال كتخبط العصبيات ،عصبيات الذين {الَ َيقُ ُ
وم َ
س} 1.وأي شيطان ومس أكثر إفسادا ان ِم َن ا ْل َم ِّ
ط ُ وم الَِّذي َيتَ َخ َّبطُ ُه َّ
الش ْي َ َك َما َيقُ ُ
للتنظيم من التعصب للرأي ،واألشخاص واالتجاهات ،ولألمة من العصبيات القومية،
والمذهبية ،والعرقية ،والطبقية.
ال بد لجند اهلل من تذويب الكيانات الشيطانية أول ما يفعلون بعد قيام الدولة
اإلسالمية .كيان الظلم الطبقي ،وكيان االنتماء المفرق للمسلمين ،وكيان االقتصاد التابع
للجاهليين واليهود ،وسائر كيانات الجهل والفقر والمرض.
الوالء هلل ليس آية تتلى ،وصلوات منعزلة في المساجد ،ورسوما على التلفزيون .بل
اتجاه عملي لتكون آيات اهلل شرعا يحكم كل الحياة ،والصالة شعار وحدة بين يدي اهلل،
والمساجد بوتقة لصياغة حضارة األخوة اإلسالمية بين العباد.
شعب الخصلة
شهادة أن ال إله إال اهلل مع الزمتها شهادة أن محمدا رسول اهلل هي أصل اإلسالم،
والركن الركين في اإليمان .شعبة هي أم الشعب ،ومنبع الفيض اإليماني ،وجماع
الخير .هي الكلمة الطيبة قوال واعتقادا .هي الشجرة الطيبة أصال وفروعا وطيبا وثمرا.
1البقرة275 ،
154
الس َماء} 1ما نصه« :إن اهلل شبه اإليمان ت َوفَ ْرُع َها ِفي َّ َصلُ َها ثَاِب ٌ شجرٍة َ ٍ
ط ِّي َبة أ ْ َك َ َ
ط ِّي َب ٍة} .فالكلمة هي كلمة
ش َجرٍة َ بالشجرة في قوله تعالى { َمثَالً َكِل َم ًة َ
ط ِّي َب ًة َك َ
اإلخالص (ال إله إال اهلل) ،والشجرة أصل اإليمان ،وأغصانها اتباع األمر واجتناب
النهي ،وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير ،وثمرها عمل الطاعات ،وحالوة الثمر جني
الثمرة .وغاية كماله (أي الثمر) تناهي نضج الثمرة ،وبه تظهر حالوتها».
فال إله إال اهلل في المثل الذي ضربه اهلل لنا توازي وتماثل اإليمان في تأصلهما،
وتفرعهما ،وثمرتهما ،وحالوتهما .بل الكلمة الطيبة هي أصل اإليمان وحقيقته ،منها
يتفرع ،وعنها يصدر ،ومن معينها يتدفق الرافد األعلى من روافده.
ال إله إال اهلل تجمع األمة المسلمة .فكل أهل التوحيد أهل القبلة إخوة لنا مهما كان
الخالف المذهبي ،ومهما كانت بدع بعضنا وفجورهم ،إال بدعة تخرج من أصل التوحيد،
أو فجو اًر يتعدى مرتكبه ويفسد األمة.
ال إله إال اهلل تجدد اإليمان كما جاء في الحديث« :جددوا إيمانكم .قالوا :كيف نجدد
إيماننا يا رسول اهلل؟ قال :أكثروا من قول ال إله إال اهلل» .رواه اإلمام أحمد ورجاله ثقات
والطبراني .ورمز السيوطي إلى صحته.
ورب معترض ومتعالم على اهلل ورسوله يأتي برأيه يقول« :كلمات وردت في السنة
من تسبيح وتحميد وغيرهما .فلم التركيز على كلمة اإلخالص دون غيرها؟».
اعلم يا أخي أن اهلل ورسوله أعلم .وقد وصف لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
خاصية الكلمة الطيبة في تجديد اإليمان .فمن اتبع وجرب عن يقين عرف .وذكرنا
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خصائص أذكار وعبادات أخرى ،فالمتبع اليقظ يميز.
روى مسلم عن أبي مالك األشعري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :الطهور شطر
اإليمان ،والحمد هلل تمأل الميزان .وسبحان اهلل والحمد هلل تمآلن (أو تمأل) ما بين السموات
1إبراهيم24 ،
155
واألرض .والصالة نور والصدقة برهان ،والصبر ضياء ،والقرآن حجة لك أو عليك
الحديث» .وقال صلى اهلل عليه وسلم فيما روى اإلمام أحمد والبيهقي« :سبحان اهلل
نصف الميزان ،والحمد هلل تمأل الميزان ،واهلل أكبر تمأل ما بين السماء واألرض.
والطهور نصف اإليمان والصوم نصف الصبر» حديث صححه السيوطي .فترى
التسبيح والتحميد والتكبير تعطي الثواب الجزيل ،وهو شيء يغشاك .وترى الطهارة
نصف اإليمان لكنها ال تجدده .وذكر المعصوم المحبوب صلى اهلل عليه وسلم أن ال
إله إال اهلل ،اإلكثار من قولها ،هي الكيمياء التي تجدد اإليمان ،وتقويه ،وتبعثه .كما
ذكر اهلل سبحانه أن القرآن شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة .فخذ لنفسك من طب
الكتاب والسنة إن كنت من الموقنين.
الصالة لوقتها وفي المسجد مع الجماعة هي الضابط للمسلم ،إذ تنقله من الوقت
السائب ،المقيد بعالقات العمل والراحة والطعام واللهو ،إلى الوقت اإليماني ،المقيد
بداعي اهلل خمس مرات في اليوم ومرة في الجمعة .تنقله من المكان السائب المنطلق
في ساحة الغفالت ،إلى بيت اهلل يلبي النداء رم از للطاعة واالنقياد .تنقله من الوحدة
السائبة ،وضياع الرفقة الغافلة ،إلى صف المصلين المتراصين بين يد اهلل.
وينبغي الحرص على صالتي الصبح والعشاء في المسجد والجماعة .وينبغي أن
ال يعذر الوارد على تأخير الصالة عن وقتها وال على التراخي في حضور الجماعة
والمسجد .فما صالة الفذ عند العذر ،وما صالة المرأة في بيتها إال استثناء من القاعدة،
وهي صالة الجماعة.
روح الصالة الخشوع فيها .وهذا ال يأتي إال بصحبة الخاشعين ،وبالكلمة الطيبة
حين تخالط بشاشتها القلوب .فميزان إيمان كل وارد وكل مؤمن ومؤمنة بينه وبين نفسه
ما يجده من خشوع في صالته .ينظر هل زاد إيمانه أو نقص.
ويحمل كل امرئ نفسه على الحضور في كل صالته ما أمكن .فإنه ال يكتب له من
156
صالته إال ما حضر فيه بقلبه ونيته مع اهلل عز وجل .والغفالت من طبيعتنا .فأدنى ما
علينا ،وأقصى ما نستطيع ،أن نجتهد لنذكر اهلل كلما نسينا .ونستغفر اهلل ثالث مرات
دبر الصالة ليجبر غفالتنا ويغفر تقصيرنا.
يعلم المؤمن بما بلغه من صحيح األخبار أن اهلل تعالى قسم الصالة بينه وبين
عبده فهي مناجاة ،ويعلم أن اهلل يقبل عليه في الصالة .وأنه أقرب ما يكون من ربه
وهو ساجد ،وأن التقرب إلى اهلل عز وجل يكون بالفرض أوال ،فإذا تم الفرض أركانا
وخشوعا صح النفل .إذا علم هذا كان حرصه على النوافل أقوى من داعي االقتصار
على الفرائض.
يطلب إلى المؤمن أن يحافظ على السنن الرواتب ،والوتر من آخر الليل ،وال يترك
أن يق أر كل ليلة باآليتين من آخر البقرة للحديث الوارد في ذلك .وصالة الضحى .والكيس
من واظب على صالة االستخارة يوميا يتخذ به عند اهلل عز وجل وسيلة ليلهمه رشده
في كل أمر .وال بأس من المواظبة على صالة الحاجة إلبداء االفتقار إليه سبحانه
واالعتماد عليه.
القرآن شفاء لما في الصدور ،شفاء ورحمة للمؤمنين .على تالوته وحفظه ومدارسته
والعكوف عليه مدار طب القلوب إو�عدادها لتمتلئ إيمانا .هو النور.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ما اجتمع قوم في بيت من بيوت اهلل يتلون
كتاب اهلل ،ويتدارسونه فيما بينهم ،إال نزلت عليهم السكينة ،وغشيتهم الرحمة ،وذكرهم
اهلل فيمن عنده» .رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
157
وعد من اهلل ورسوله .فمن يسكن أنفسنا من اضطراب الحياة اليومية ،وموجان
الفتنة في العمل والشارع والبيت ،إال سكينة مجالس القرآن؟ تغشانا فيها الرحمة ويذكرنا
اهلل فيمن عنده!
كل مجالسنا وأحاديثنا تدور حول القرآن ومعانيه ،حول وعده ووعيده ،حول بشارته
ونذراته ،حول رحمة اهلل وحكمته ،حول ذكر اهلل نفسه بالعزة ،والعظمة ،واأللوهية
والربوبية ،وذكره أحبابه بخصال اإليمان ،والمصير إلى الجنان وذكره أعداءه بخصال
الكفر ،والنفاق ،والمصير إلى النار ،حول قصص من سبقنا لنتعظ ،حول أحكام اهلل
لنتقيد بها.
ال أقل من أن يتلو المؤمن جزءا (حزبين) كل يوم صباحا ومساء .وللتالوة آداب
انظرها في كتاب النووي« :التبيان في آداب القرآن».
والتجويد علم يأخذ منه المؤمنون حسب االستعداد ،والبد لكل من حد أدنى يصون
لسانه من إساءة األدب مع كالم اهلل عز وجل.
ويكون للمؤمن ورد للحفظ ،يبدؤه بالسور واآليات الفاضلة القصيرة ،مثل آيات
الكرسي ،وسور يس ،والسجدة ،والملك ،وسور المفصل .فما حفظ أكثر من تالوته
والقيام به لئال يتفلت.
ثم يعمد إلى الزهراوين البقرة وآل عمران ،ويعقد مع اهلل تعالى عقدا أن يحفظ القرآن
كله قبل موته ،ويستعينه على ذلك ،ويبذل كل الجهد .فإنه إن مات دون غايته وقد بذل
الجهد ،يبعثه اهلل إن شاء اهلل على نيته يوم يقال لقارئ القرآن :اق أر وارق .يوم التغابن
والحسرة إذ يق أر المجاهدون فيرقون أمام أعين من فاتهم الحفظ.
158
الشعبة السادسة عشرة :الذكر وأثره
يقول رسول اهلل صلى اهلل عليه فيما يرويه عن ربه عز وجل« :أنا مع عبدي إذا
هو ذكرني وتحركت بي شفتاه» رواه أبو داود والحاكم وابن حبان.
ويقول رواية عن اهلل تعالى« :أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه إذا ذكرني .فإن
ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي .إو�ن ذكرني في مأل ذكرته في مأل خير منهم إو�ن
تقرب إلي شب ار تقربت إليه ذراعاً ،إو�ن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعاً .إو�ن أتاني يمشي
أتيته هرولة» رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
جل اهلل! ما أعظم كرمه ورحمته بنا .يعرض علينا صحبته وأن يكون معنا ،وأن
نتقرب إليه ليتقرب إلينا ،وأن نسير إليه ليسارع إلينا.
جل اهلل! ما يعي هذا ويعمل عليه إال عبد نور اهلل بصيرته ،فعلم أن وعد اهلل حق،
وأحيى اهلل قلبه ،فخرج من بين أموات القلوب الغافلين عن اهلل .وما يحيي القلوب إال
ذكره سبحانه .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :مثل الذي يذكر ربه والذي ال يذكر
ربه مثل الحي والميت» رواه البخاري ومسلم ،غير أنه قال« :مثل البيت الذي يذكر
اهلل فيه.»...
آثار ذكر اهلل فيك إحياء قلبك .وآثاره في مجتمع الغفلة والفتنة أن يسري شفاء ذكر
اهلل في الجسم المريض .تذكر اهلل في مأل عندما تؤذن للصالة ،وعندما ترفع شعار
التوحيد بين المتنكرين لدينهم ،وعندما تدعو هذا وذاك وهذه الجماعة وتلك إلى اهلل.
تحاضر ،وتحاج ،وتخاصم في اهلل .كله ذكر.
والورد المواظب عليه بآداب الذكر ،ومنها الطهارة واستقبال القبلة والحضور القلبي،
منه تأتي القوة التي تحملك إلى محافل الدعوة إلى اهلل والجهاد في سبيله.
159
الشعبة السابعة عشرة :مجالس اإليمان
روى اإلمام أحمد بإسناد حسن عن أنس رضي اهلل عنه قال« :كان عبد اهلل بن
رواحة رضي اهلل عنه إذا لقي الرجل من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:
تعال نؤمن ساعة! فقال ذات يوم لرجل ،فغضب الرجل .فجاء إلى النبي صلى اهلل عليه
وسلم فقال :يارسول اهلل! أال ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة!
فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم :يرحم اهلل ابن رواحة ،إنه يحب المجالس التي تتباهى
بها المالئكة!».
وفي الباب األول من كتاب اإليمان للبخاري قوله« :وقال معاذ :اجلس بنا نؤمن
ساعة».
وعند اإلمام أحمد« :كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه :اجلس بنا نؤمن
ساعة .فيجلسان فيذكران اهلل تعالى ويحمدانه».
وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن النبي صلى اهلل عليه وسلم
قال« :ال يقعد قوم يذكرون اهلل عز وجل إال حفتهم المالئكة وغشيتهم الرحمة ونزلت
عليهم السكينة ،وذكرهم اهلل فيمن عنده».
أما جند اهلل المتجددون المجددون ففيما أوردناه من أحاديث برنامج لجلسات األسر
وجلسات الشورى حتى تكون كل مجالسهم مجالس قرآن وذكر إو�يمان ،سواء ما كان
160
منها منظما ،وما أتى بمناسبة اجتماعية .وال حاجة أن تكون التالوة جماعية وال الذكر.
فإن تالوة القرآن يجودها واحد تتيح لنا ثواب االستماع ،وقد أمرنا به كما أمرنا بالتالوة.
وهذا ال يتأتى ال تجويدا وال استماعا باالشتراك كما درج الناس .والذكر كذلك ال داعي
إلثارة الخصام حول معنى قوله صلى اهلل عليه وسلم« :يذكرون اهلل» هل يذكرون
جماعة أو فرادى .نحن في غنى عن تبذير الجهد في الخالفيات.
ولنحذر أن يمر مجلس من مجالسنا دون أن نذكر فيه اهلل فيكون علينا ندامة وترة
كما جاء في الحديث .ولتتخلله الموعظة ،ال سيما إذا كان مجلسا تنظيميا نتفرغ فيه
لدراسة حركتنا على األرض بين الناس ومشاكل الناس.
وللمجالس كفارة تحفظ وال تنسى ،وهي كما جاء في الحديث الصحيح« :سبحانك
اللهم وبحمدك أشهد أن ال إله إال أنت استغفرك وأتوب إليك» وزادت روايات حسنة
صحيحة «عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت».
نجد في كتاب «األذكار» لإلمام النووي ،وهو من أوسع الكتب في أذكار رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم زادا نافعا من األذكار المأثورة .فمع التركيز على كلمة التوحيد
أعلى شعب اإليمان نعطي للتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة وسواها من األذكار
الواردة حقها ،في أوقاتها ،وبأعدادها ،كما وردت في السنة.
ونحفظ جوامع الذكر النبوية ،ونحافظ على األذكار الواردة عقب الصلوات ،وفي
الصباح والمساء ،وعند الدخول والخروج ،وعلى األذكار الواردة في االستعاذة ،وعلى
األذكار غير المقيدة .يحفظ المؤمن منها ما تيسر تباعا .فقد جاءتنا من الحبيب صلى
اهلل عليه وسلم كلمات محفوظة لكل مناسبات الحياة ،ولكل منها فضيلة ،ومن كل منها
يسري إلينا مزيد من النور واإليمان.
161
الشعبة التاسعة عشرة :الدعاء وآدابه
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
قال« :من لم يسأل اهلل يغضب عليه».
1
وهذا ينظر إلى قول اهلل عز وجلُ { :ق ْل َما َي ْع َبأُ ِب ُك ْم َرِّبي لَ ْوَل ُد َع ُ
اؤ ُك ْم}.
فمقام العبد ومقام جماعة المؤمنين المستضعفين في األرض التذلل بين يدي اهلل
عز وجل ،إو�ظهار فقرنا إلى مدده وعونه وهدايته.
وللصالة أدعيتها السنية كما لكل الحاالت أدعيتها .كدعاء االستخارة والحاجة.
وللدعاء آداب منها أن ال يعجل ويقول :دعوت فلم يستجب لي ،ومنها أال يرفع
رأسه في دعاء الصالة ،ومنها أن يظهر غاية المسكنة ،وأن يتباكي تضرعا هلل تعالى،
ومنها الحضور القلبي لكي ال تصبح األدعية كلمات تالك ،ومنها أال يدعو على نفسه
وأهله وماله ،ومنها الدعاء في الجماعة تناوبا ،يدعو واحد ويؤمن الباقون.
ويختم المؤمنون مجالسهم بتالوة سورة العصر كما كان يفعل الصحابة رضي اهلل
عنهم وبعدها الدعاء بالتناوب.
ومن المؤكد أن ندعو اهلل تعالى بأسمائه الحسنى ،كما أمرنا في كتابه ،حين
ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا يقول :هل من سائل ،هل من تائب ،هل من
مستغفر .وأن نلتمس دعاء الصالحين ،ودعاء من يستجاب لهم كالمظلوم ،والمسافر،
والوالدين ،والصائم حتى يفطر ،واإلمام العادل.
ودعوة المؤمن ألخيه عن ظهر الغيب مستجابة .فال نغفل ذلك ،نقدم بين يدي اهلل
1الفرقان77 ،
162
عز وجل مصاعبنا ومشاكلنا بعد أن نتخذ أسباب حلها .فمن خاصم أخا له فليدع
أحدهما لآلخر عن ظهر غيب.
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أعلمنا باهلل ،يعرف الخير فيدعوه به ،والشر فيستعيذ
منه .فنتبع كلماته الشريفة في الدعاء ،كل دعاء بمناسبة ،ونحفظ من ذلك نستكثر .فقد
ورد عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األدعية الجامعة ،وأدعية المناسبات ،وأدعية
األوقات ،وأدعية أثناء العبادات ،وأخرى في األكل والشرب والعادات.
ونحفظ أدعية القرآن مع االنتباه إلى مناسبتها ،حتى نأخذها عن اهلل عز وجل،
نتضرع إليه كما تضرع إليه أحبته التي أوردها الحق سبحانه على لسانهم .فورودها تعليم
لنا أن نكون له سبحانه عبيدا كما كان أنبياؤه وأولياؤه.
الشعبة الحادية والعشرون :الصالة على النبي صلى اهلل عليه وسلم
روى مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم قال« :من صلى علي صالة واحدة صلى اهلل عليه بها عشرا».
فإن كان هذا فضل الصالة على الحبيب صلى اهلل عليه وسلم ،فكيف ال يستكثر
منها المؤمن .إو�نه لشح ما له مثيل أن يكتب المؤمن ذاك ار رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فيكتب بين قوسين صادا صماء ،ويحرم نفسه وقارئه من ذلك الفضل العظيم.
نكتفي بالصيغ الواردة في الصالة على النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وهي كثيرة.
163
والصالة اإلبراهيمية في التشهد وغيره هي العمدة .ال تذكر السيادة في الصالة لكن ال
مشاحة خارجها .ومن علمائنا من يحرصون على أن يذكر االسم الشريف في الصالة
اإلبراهيمية دون لفظ السيادة مطلقا .فال نتخاصم على ذلك ،وال بأس.
صالتنا على الرسول الكريم على اهلل عز وجل تبلغه ،ويبلغه سالمنا ،كما جاء في
الحديث .فلنتأدب مع إمام األنبياء وخيرة الخلق صلى اهلل عليه وسلم .وأول هذه اآلداب
تعظيمه في أنفسنا ،ومحبته الموصولة بمحبة اهلل ال تنفك .ومن اآلداب أن نهدي ثواب
صالتنا عليه لروحه الشريفة .ومنها أن نكثر من الصالة عليه يوم الجمعة.
ولنحذر أن نبعد عن رحمة اهلل إن ذكر عندنا اسمه الحبيب فبخلنا عن الصالة
عليه ،ومن هذا البخل الشنيع صاد بعضهم الصماء.
وال يفوتنا كما يفوت الكثيرين أن المقصود من الصالة عليه والتسليم واإلكثار منهما
هو صحبته ومحبته .فإننا إن أكثرنا ذكره كما أمرنا أصبحت صورته ومعناه في قلوبنا
بمثابة النور الذي نهتدي به إلى ذكر اهلل ومحبته .نتيجة الصالة على المحبوب المجتبى
صلى اهلل عليه وسلم وصلتنا الدائمة به .فالصالة صلة.
الصالة على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مفتاح الخير ،لذلك أوصى بعض
سلفنا الصالح أن يبتدئ المؤمن دعاءه ويختمه بالصالة على النبي صلى اهلل عليه
وسلم ،يقول« :فإن اهلل تعالى أكرم من أن يقبل الصالتين وال يقبل ما بينهما».
اإلسالم رحمة .وبابها للعصاة والغافلين ومن يعلم اهلل عز وجل ما في قلوبهم من
هذه الفئات المختلفة في مجتمعاتنا هو التوبة.
في انتظار أن يأتي الحكم اإلسالمي بالرحمة الموعودة تحت ظل الخالفة على منهاج
النبوة ،يتهيأ جند اهلل ،يتبوأون فسحات رحمة اهلل ،باإلقبال على موالهم تبارك وتعالى.
164
وأول اإلقبال توبة نصوح بشروطها ،وهي العقد مع اهلل أننا رجعنا إليه نادمين،
واإلقالع عما كنا فيه من الفواحش والعصيان وترك اإلصرار بعد رد المظالم إلى
أهلها.
تنحل عقد الوارد ،ويستوي عند المؤمن الشدة والرخاء رضى باهلل تعالى ،عندما
يستحضران أن اهلل تعالى يفرح بتوبة عبده.
يجدد المؤمن التوبة إلى اهلل على كل أحيانه .فقد قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم« :يا أيها الناس توبوا ،فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة» رواه مسلم والترمذي.
هذا الدعاء عهد عند اهلل ،روحه أن تكون موقنا به وحاض ار مع اهلل عند
التضرع به.
نحن في تعاملنا مع اهلل عز وجل ما بين خوف ورجاء .عمل قاربنا فيه نرجو عند اهلل
قبوله وثوابه .لكن يمنعنا من الغلو في الرجاء ،وهو غرور ينحدر بنا إلى التهاون في أمر
اهلل ،ما نعرفه من نفوسنا من تقصير .فنعمل بال ونى ولكن نصحب عملنا باالستغفار من
165
التقصير والهفوة والفلتة المالزمة للبشر.
المجتهدون في عبادة ربهم وذكره يتعاورهم الخوف والرجاء وذاك ما يليق بالعبودية.
ض ِ
اج ِع وب ُه ْم َع ِن ا ْل َم َ
قال اهلل تعالى يصف المؤمنين الخاشعين الذاكرين{ :تَتَ َجافَى ُج ُن ُ
اهم ي ِ
ون} 1.ال راحة دون محاب اهلل، نفقُ َ ط َمعاً َو ِم َّما َرَزْق َن ُ ْ ُ
ون َرَّب ُه ْم َخ ْوفاً َو َ
َي ْد ُع َ
وال بخل عن البذل في سبيله ،والقلب خاشع يخاف ويرجو.
تجيء المؤمن ساعات قبض وخوف ،فيعالج نفسه ويعالج إخوته بذكر سعة رحمة
اهلل تعالى ،وتجيئه ساعات بسط ورجاء وعالجها ذكر المشيئة اإللهية والخاتمة.
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كثير الخوف من اهلل عز وجل ،كثير البكاء
من خشيته ،كما كان الصحابة الكرام رضي اهلل عنهم .هذا ما يليق بالعبد وما يتقرب
به إلى اهلل سبحانه :التذلل واالنكسار.
عالم الجاهلية وعالم الفتنة وعالم الهذيان والهوس والغفلة ،عوالم منقطعة عن اهلل
سبحانه .المادية الوضعية فلسفة اإلنسان الذي أيس مما عدا ما يحسه ،ورضي أنه دابة
يقطع وجودها الموت ،ويهلكها الدهر.
حضارة الجاهلية التي تبطنت عقول بعض أبنائنا ،وغزت ثقافتنا وبيوتنا وحياتنا
العامة والخاصة ،حضارة تكفر باهلل وباليوم اآلخر والبعث والمعاد والجنة والنار.
وحضارة اإلسالم ليست كذلك .فالدنيا قنطرة ودار بالء وامتحان ،تتزين لتفتن
الناس .فيستمد المؤمنون القدرة على مقاومتها من إيمانهم بأن بعد الموت سؤاال وبعثا،
وحسابا وجزاء.
1السجدة16 ،
166
ففيما نربي ونكتب ونذكر ،يجب أن يكون ذكر الموت هادم اللذات كما وصفه
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جزءا ال يتج أز من حديثنا ،وهم اآلخرة غالبا على هم
دنيانا ،حتى إذا أصبح اهلل عز وجل هو همنا وقبلة همتنا كان رضانا به وعكوفنا على
بابه حاديا لنا على طريقنا إليه تبارك وتعالى ،عبر مشقات الدنيا ،وسكرات الموت،
ومثوى القبر ،وهول الحشر ،ودقة الحساب ،ومعبر الصراط ،ودار المقامة.
الخالفة على منهاج النبوة تريد منا حضو ار ثقيال قويا على األرض لنغالب األعداء،
وننتج ،ونصنع ،ونتسلح ،ونخوض األسواق العالمية ،ونزاحم العالمين باألكتاف.
فلكيال تغلبنا جاذبية األرض فنخلد إلى القيم المادية ،وتذوب حياتنا فيها ،نربي
أجياال مهاجرة إلى اهلل ،عابرة إليه ،الموت بين عينها ،تطلبه استشهادا في سبيل اهلل.
موقفان من الموت عند المؤمن :موقف تخشع وتدبر واستعداد ،وهذا عام مطلوب
من كل المسلمين .وموقف إيجابي هو موقف المتحفز للجهاد ،المشتاق إلى لقاء اهلل،
المستميت في سبيله عز وجل جهادا.
ويجمع الموقفين كون العبد عابر سبيل شاء أم أبى .فألن يكون من الشهداء
المقتحمين على الموت جهادا خير من أن ينتظرها قعودا متوجسا.
روى البخاري واللفظ له والترمذي بنحوه عن ابن عمر رضي اهلل عنهما قال« :أخذ
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بمنكبي فقال« :كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر
سبيل» .وكان ابن عمر يقول« :إذا أمسيت فال تنتظر الصباح ،إو�ذا أصبحت فال تنتظر
المساء ،وخذ من صحتك لمرضك ،ومن حياتك لموتك».
ولكي يكون ذكر هادم اللذات جزءا من حياتنا ،أمرنا الشارع أن نعود المريض،
وجعل لنا في ذلك أج ار جزيال ،وأمرنا بالدعاء له ومواساته وتصبيره .وزيارة المرضى من
أهم وسائل الدعوة ،ألن المريض في حالة ضعفه وابتعاده عن عاداته أقرب أن يسمع
ويتوب.
167
وللموت آداب وفضائل في تجهيز الميت ،وللصالة عليه ،وتشييع جنازته ،والدعاء
له ،وتعزية أهله ،وقد سبق في مقدمة الخصلة وجوب محاربة البدع في عبادة القبور.
168
الخصلة الثالثة:
الصدق
الصدق تربية
نريد تربية رجال ونساء ربانيين .وليست التربية الجهادية إنشاء جيل من األصحاب
المتبتلين ،بل إنشاء جند اهلل المقاتلين ،الطالبين وجه اهلل ،الراغبين في الشهادة في
سبيله.
الصحبة في اهلل إن كان ال يغذوها ذكر اهلل ال تلبث أن تصبح ألفة طبيعية تولد
عصبية مفرقة .والصحبة مع ذكر اهلل واالجتماع عليه بدون مشروع جهادي يتحدث
عنه ،وينفذ ،ويستعد لتنفيذه باختيار العناصر واختبارها ،صحبة وجماعة ال يعدو خيرها
دائرة أفراد منقطعين عن المجتمع كأنهم أعضاء مشلولة فيه.
169
التدافع بوسائل األرض الفكرية والعضلية والعلمية والمادية والتنظيمية ،لكنه يتفوق
عليه بنصر اهلل الموعود .وشروطه التوحيد هلل عز وجل ،واالجتماع عليه ،واإلقبال
على فضله ،وااللتزام بشرعه .فمتى فرط جند اهلل في هذه النقطة ،متى دخلتهم
العناصر المنافقة ،متى كان في تربيتهم وتنظيمهم ما ينافي الصدق ،نزلوا إلى مستوى
أعدائهم وخصومهم وتخلف عنهم نصر اهلل .وأصبح إسالمهم مجرد فكر وسياسة
إو�ديولوجية فارغة من ذكر اهلل واإلقبال عليه والسير إليه.
-2البقاء على العادات والذهنيات واألنانيات الموروثة .ال بد من تغيير شامل في
الفرد والعالقات داخل الجماعة .ال بد من هجرة إلى اهلل ورسوله بقطع حبال الجاهلية.
والهجرة المطلوبة في حق الفرد المؤمن والجماعة المجاهدة في عصرنا هجرة معنوية.
أول خطوة فيها هجرة ما حرم اهلل ،ثم قطع ما يربطنا بالماضي قبل التوبة ،والتعالي على
حاضر الفتنة ،وترقب نصر اهلل بالتخطيط للمستقبل واالستعداد له.
-3البقاء على اإلسالم الموروث عقيدة وعبادة وعالقات .فجند اهلل يجب أن يعطوا
لإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقدر خيره وشره حقه .ما يحدث من
خالف بين المسلمين في المذهب آفة من آفات اإلسالم الموروث .ويتفرع عنه آفات
أخرى تشل حركة المسلمين وتعوق المحاوالت لجمعهم .فبعض المؤمنين يفهم اإليمان
ومعرفة اهلل سلوكا كليا ،وبعضهم يعتبر كل ذلك علما وجدال .رحم اهلل اإلمام البنا قال
في أصوله« :معرفة اهلل تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد اإلسالم .وآيات
الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يلحق بذلك من المتشابه نؤمن بها كما جاءت من
غير تأويل وال تعطيل .وال نتعرض لما جاء فيها من خالف بين العلماء .ويسعنا ما
آم َّنا ِب ِه ون ِفي ا ْل ِع ْلِم َيقُولُ َ
ون َ
الر ِ
اس ُخ َوسع رسول اهلل صلى اهلل وسلم وأصحابهَ { :و َّ
1 ُك ٌّل ِّم ْن ِع ِ
ند َرِّب َنا}.
-4الرضى باألوهام والخرافات المتفشية في الشعب المسكين المحروم المجهل.
فإن كان الصدق مواجهة قوية للباطل الطاغوتي فإن تصحيح قواعد العقيدة في الصف
وحوله ،وفي القاعدة الشعبية ،شرط أساسي للمواجهة ،فإننا ال نستطيع مقاومة الباطل
وبيننا آثار من الباطل .يقول اإلمام البنا رحمه اهلل« :والتمائم والرقى والودع والرمل
170
والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب ،وكل ما كان من هذا الباب منكر يجب محاربته
(إال ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة)».
-5الرضى بأنصاف الحلول في أهدافنا وفي مؤهالت جند اهلل .فالمؤمن القوي
األمين كامل اإليمان ،المستكمل له باستمرار ،هو وحده القادر ،بعون اهلل ،وفي تالحم
مع الصف ،أن يحدث في المجتمع التغيير اإلسالمي .نموذج لهذا المؤمن عمار بن
ياسر رضي اهلل عنه الذي أوذي في اهلل فصبر ،وبرهن بصبره على صدق إيمانه .لزم
المصطفى صلى اهلل وسلم وخلفاءه ،وجاهد معهم حتى مات في سبيل اهلل .وصفه رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال« :عمار ملئ إيمانا إلى مشاشه» رواه البزار عن عائشة
أم المؤمنين رضي اهلل عنها .والمشاش مخ العظام.
أما شجب أنصاف الحلول بالنسبة لألهداف والوسائل والغاية اإلسالمية فنجده عند
اإلمام البنا رحمه اهلل في أصوله« :اإلسالم نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا.
فهو دولة ووطن وحكومة وأمة .وهو خلق وقوة ورحمة وعدالة .وهو ثقافة وقانون وعلم
وقضاء .وهو مادة وثروة وكسب .وهو جهاد ودعوة وجيش وفكرة ،كما هو عقيدة صادقة
وعبادة صحيحة سواء بسواء».
-6التجميع التكاثري دون اختيار العناصر واختبارها .يقول اإلمام البنا رحمه اهلل
ورضي عنه في خطبته في المؤتمر الخامس « :إو�ن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ،ولكن
قليلين من هؤالء يثبتون عند العمل .وكثير من هذا القليل يستطيعون أن يعملوا .ولكن
قليال منهم يقدرون على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل العنيف .وهؤالء المجاهدون،
وهم الصفوة القالئل من األنصار ،قد يخطئون الطريق وال يصيبون الهدف إن لم
تتداركهم عناية اهلل .وفي قصة طالوت بيان لما أقول .فأعدوا أنفسكم ،وأقبلوا عليها
بالتربية الصحيحة واالختيار الدقيق .وامتحنوها بالعمل ،العمل القوي البغيض لديها،
الشاق عليها ،وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها».
ال نعرف صدق الوارد وال استعداده إال إن برهن على ذلك بأعماله ،بمواقفه،
بصالحيته للطاعة والتنفيذ ،بقدرته على ضبط نفسه.
171
ويختبر الوارد باستمرار حتى نعرف نضجه وصدقه ،ثم يبقى االختبار ومطالبة كل
مؤمن بإعطائنا برهان صدقه على طول طريق الجهاد .فليس األمر امتحانا يؤدى مرة
واحدة ثم يركب العضو أنانيته ويستقر في علياء عضويته .األمر أعظم من هذا ،فمن
كان يرجو اهلل عز وجل فليوطن نفسه على اقتحام العقبة وليشمر لذلك ما دام حيا .فإذا
مات في سبيل اهلل فإلى رحمة اهلل ورضوانه .إو�ذا مات قلبه يودع من الصف.
ويراقب الوارد على مدرجة الخصال العشر وشعب اإليمان ،ويالحظ سلوكه ،ويقوم
من كان صالحا للتقويم .فإذا تبين أن فيه خصلة قادحة ،أو كان في مجموعه ثغرة ال
يمكن أن تسد بالتربية ،فال حاجة إلثقال كاهل التنظيم به .األمر جد فينبغي أن يكون
االمتحان صارما ومستمرا.
األعضاء في الجماعة حاملون ،فمن أتانا واردا تحمله الجماعة وتحتضنه في دفء
الصحبة .لكن الجماعة تنتظر منه أن يستجمع قواه باطراد يواكب يقظة همته ،وتمتن
ذمته ،وصدق عزيمته ،ليحمل مع الجماعة وتحت إمرتها أعباء الجهاد.
من الناس قوالون يدعون كفاءة ليست لديهم ،ومنهم من يزعم أنه فهم هدفك وأنه
معك ،ومنهم من يظهر رضاه بخطك ونظامك ،حتى إذا حلت ساعة التنفيذ وجاء البالء
هرب األدعياء .فاألولى للجماعة أال تربط عقدا إال مع من تأنس منهم أال يهربوا،
وأال يعصوا وأال يخذلوا .قال اهلل تعالى يصف القوالين من المنافقينََ { :يقُو ُل الَِّذ َ
ين
يها ا ْل ِقتَا ُل َرأ َْي َت ِ ِ
ورةٌ ُّم ْح َك َم ٌة َو ُذك َر ف َ
س َ ورةٌ فَِإ َذا أ ِ
ُنزلَ ْت ُ س َ آم ُنوا لَ ْوَل ُنِّزلَ ْت ُ
َ
ظر ا ْلم ْغ ِش ِّي علَ ْي ِه ِم َن ا ْلموتِ ض َينظُر َ ِ ِ
ين في ُقلُوِب ِهم َّم َر ٌ ِ
الَّذ َ
َْ َ ون إلَ ْي َك َن َ َ َ ُ
ص َدقُوا اللَّ َه لَ َك َ
ان وف فَِإ َذا َع َزَم ْال ْ
َم ُر َفلَ ْو َ اع ٌة َوقَ ْو ٌل َّم ْع ُر ٌ
ط َ فَأ َْولَى لَ ُه ْم َ
172
1
َخ ْيراً لَّ ُه ْم}.
الصادق مع اهلل من يموت مع الصادقين في سبيل اهلل لزوما لعهده وعقده .قال اهلل
الص ِاد ِق َ
ين}. آم ُنواْ اتَّقُواْ اللّ َه َو ُكوُنواْ َم َع َّ ُّها الَِّذ َ
ين َ تعالىَ { :يا أَي َ
2
ما يبدل الصادقون ،وما يتبدلون ،وال ينقضون عهد اهلل .إو�ذا لقوا فئة يثبتون
ويذكرون اهلل كثي ار ويفلحون.
ليكن البند الضمني في عقد اإلمارة التعاهد على الموت في سبيل اهلل .ليكن
آم ُنوا ِباللَّ ِه ين َ ون الَِّذ َ
منادي الصادقين على رؤوس الواردين{ :إِ َّن َما ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ
يل اللَّ ِه أ ُْولَ ِئ َك ُه ُم
س ِب ِ ِ ِ اه ُد وا ِبأ ِ
َم َوال ِه ْم َوأَنفُس ِه ْم في َ ْ
ور ِ
سوِله ثُ َّم لَ ْم َي ْرتَ ُ
ابوا َو َج َ ََ ُ
4
ون }. ِ
الصاد قُ َ
َّ
ال تصلح العناصر المتشككة والقابلة ليشككوها ،وال البخيلة بأموالها وأنفسها عن
اهلل لبناء.
نرقب الوارد والعضو لنعرف ونقوي صالح أمره على مستوى الخصال العشر :صدق
1حممد21-20 ،
2التوبة119 ،
3األحزاب24-23 ،
4احلجرات15 ،
173
صحبته لنا وانضمامه لجماعتنا ،صدقه مع اهلل ورسوله ،صدق ذمته وهمته وهجرته
ونصرته ،صدق بذله للمال والنفس والجهد ،صدق إقباله على العلم ،صدق عمله ينجزه
ويتقنه ،صدق سمته وتميزه ،صدق صبره وتحمله وضبطه لنفسه وشؤونه ،صدق توجهه
إلى األهداف الجماعية والغاية الفردية اإلحسانية ،صدق طلبه للموت في سبيل اهلل.
الصدق تنظيما
ومنذ هجوم االستعمار على دار اإلسالم ظهرت في المسلمين حركات مقاومة
تمثلت أقواها فيما سمي بحركات التحرير الوطني .كل هذه الحركات انطلقت من
المطالبة بالحق الوطني ،وحملت مع الشعارات الوطنية هتافات إسالمية بها استطاعت
أن تحرك الشعوب المسلمة وتدفعها لمساندة حركات وحروب التحرير الوطنية.
ومن أعماق األمة بعث اهلل على رأس هذا القرن دفعة بدأها سبحانه منذ ستين سنة
بتحرك أمثال الشيخ محمد إلياس والشيخ المودودي في الهند والشيخ البنا في مصر
والشيخ سعيد النورسي في تركيا رحمهم اهلل.
تمثل الحركة اإلسالمية اليوم قوة ال تفتأ تتجمع .ونريدها أن تكون شوكة تنصر
اإلسالم وال تنكسر أو تنثني دون هدفها ،وهو إقامة الخالفة اإلسالمية .نريدها حركة
صادقة.
أجيال ماتت وأخرى تجر على سطح المجتمعات المسلمة حياة ذليلة خاضعة
174
للطاغوت .أجيال من علمائنا انهزمت ،واستقالت وهربت من الميدان ،ونفضت يدها من
أمر المسلمين ،أو تماألت مع حكام الجبر .أجيال استغشت ثيابها لكيال ترى حاضرنا
الكئيب ،وصمت آذانها لكيال تسمع نداء الحق يحث الصادقين على الجهاد .حوقلة في
المساجد وفسولة وجزع.
ومن تحت هذه األجيال الغثائية يبعث اهلل جلت عظمته أجياال شابة تريد أن تعاهد
اهلل فتصدق ما عاهدته عليه.
الحماس واإلرادة:
هذه الصحوة اإلسالمية المباركة ظاهرة يراها العالم ويهتم بها العالم .أهي غبار
ثائر وزبد طائش؟ كال! ما هذا الذي يراه العالم ويهتم به إال الوجه الظاهر لحركة حية
في األعماق ،لقلوب تنبض باإليمان ،إلرادة فاعلة في التاريخ فعال مدهشا .وهي ال
تزال في أول انباعاثها.
إنه غرس غرسه اهلل عز وجل في أرض طال رقودها فهو مشتد ريان .سقاه بماء
اإليمان ربه عز وجل فهو ماض بحوله سبحانه وقوته في خروجه وتعاظمه حتى
استوائه.
قد يأتي الواردون بحماس متأجج مندفع ،لكن الحماس كشعلة تبن ال يعتمد عليه.
فالتربية شأنها أن تأخذ الواردين برفق حتى يبرد الحماس .ثم تأخذهم بالتجربة على
إنجاز المهمات ،والصبر في مجلس اإليمان ،والصدق في اللهجة ،والوفاء ،والهجرة،
والنصرة .حتى يتبين لنا الذين صدقوا ونعلم الكاذبين.
والتنظيم ال يقوم على الحماس المتأجج العابر .لكن يعتمد على اإلرادة العازمة.
حين تكون همة كل مؤمن أعلى من خدمة شهواته وأهدافه الشخصية ،وحين تكون
ذمته صادقة نأمن معها غائلته ،ونأمن معها أن يخذلنا أشد ما نحتاج إليه .بهذه اإلرادة
العازمة يمكن أن نصنع الصف الصادق .ويمكن أن نطمئن إلى أن الغرس اإللهي
يترعرع إلى االستواء ،وأن الصف المجاهد سائر في سبيل اهلل.
175
سو ُل اللَّ ِه
مثل هذا الزرع اإللهي المتأتي للرشاد في قوله تعالىُّ { :م َح َّم ٌد َّر ُ
ين مع ُه أ ِ
َشدَّاء َعلَى ا ْل ُكفَّ ِ ِ
ار ُر َح َماء َب ْي َن ُه ْم} إلى أن قال جلت قدرته: َوالَّذ َ َ َ
سوِق ِه
استََوى َعلَى ُ
ظ فَ ْ
استَ ْغلَ َ
آزَرهُ فَ ْ
ش ْطأَهُ فَ َ
َخ َر َج َ
يل َك َزْر ٍع أ ْ نج ِ َومثَلُ ُه ْم ِفي ِْ
ال ِ
{ َ
1
ار}. َّ اع ِل َي ِغي َ
ظ ِب ِه ُم ا ْل ُكف َ ب ُّ
الزَّر َ ُي ْع ِج ُ
نبات متدرج إلى القوة .زرع خرج جانبه ،ثم تقوت جذوره ،ثم استغلظت نبتته ،ثم
استوى قائما على سوقه .فهو يعجب الصديق ويغيظ العدو.
هكذا جند اهلل .جسم يتألف حتى يقوى ،ثم يزلزل الطاغوت العدو ،ويفرح يومئذ
المؤمنون بأن نصر اهلل بدأ.
ما حركتنا كحركات األحزاب ،تنطق كذبا ،وتبعث غبا ار حماسيا ،وتبني على
أرضية النفاق.
نصرة الشعب لنا وتحمسه للقضية اإلسالمية حقيقتان برهن عنهما إيران وسوريا.
ونعمل إن شاء اهلل لنحول هذا الحماس من حولنا إرادة عازمة مخططا طريقها.
الطليعة المجاهدة:
كلمة «طليعة» ضالة لنا نستردها .ال نستعملها تقليدا للثوريين بل نأخذها من سنة
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إمام المجاهدين .في البخاري «باب فضل الطليعة»،
ونعطي الكلمة معنى السبق والتقدم أمام الجند الستطالع الميدان واستجالء األخطار،
وفداء الجند.
األمة ال إرادة لها واضحة إنما هي آمال تراود ضميرها ،وهزات تهز عاطفتها لذكر
تاريخنا وديننا ،وما تنجزه الطالئع اإلسالمية المجاهدة في أفغانستان وسوريا إو�يران.
1الفتح29 ،
التنظيم القطري قبل الوصول إلى الحكم وبعده هو الطليعة الشجاعة التي ينبغي أن
تخطط للمستقبل ،حتى يصبح توتر األمة نحو المستقبل إرادة واعية ال حماسا حالما.
ينبغي أن تخطو على ميدان الجهاد خطوات ثابتة لتتبع األمة خطواتها .ينبغي أن
ترتفع إلى مسامع كل مسلم من شعوبنا دعوة الجهاد واضحة فتنفذ إلى العقول ،صادقة
فتتسرب إلى القلوب.
انكشف كذب المغربين الفاجرين وفقدوا ثقة األمة .وآن لألمة أن تعرف أن أبناءها
الذين يتمنون لقاء اهلل ال أن يكونوا أذنابا ألعدائنا هم المؤمنون الصادقون .آن لنا أن
نعرفها بمثال سلوكنا واستشهادنا واستبسالنا أن األمة لن تسمو إلى حقائق ما يتطلبه
منها الحاضر والمستقبل إال بالسير مع الطليعة الصادقة.
نحن طريقنا الطليعي هو األمر بالمعروف والنهي عن المنكر .وكل اضطهاد في
سبيل هذا الواجب ينال الطليعة أكبر دعاية لها وأصدقها.
قبل الوصول للحكم وبعده نحتاج أكثر ما نحتاج للثقة باهلل عز وجل ثم لثقة
بعضنا في بعض .والطليعة بحكم وظيفتها تمشي رائدة على أرض العدو .فهي معرضة
لإلفك والتشكيك .وقد يبلغ فساد البيئة وغرابة الصادقين بين أهل الكذب والرياء والنفاق
والتهريج أن يصور األعداء معروفنا منكرا.
فال بد للطليعة من الحيطة كيال يدخل عليها الشك .فالثقة التامة بالقيادة هي قوام
قوة جند اهلل .فبعد التحري لكيال يدخل الصف إال ذوو الذمم التي يعول عليها ،يجب أن
تتقدم الطليعة وهي واعية كل الوعي أن قيادتها عرضة لنيران العدو.
األمر بالمعروف داخل الصف ،والنهي عن المنكر داخله ،في مجالس الشورى
والنصيحة ،هما الضمانة ليبقى الصف في االتجاه الذي يرضاه اهلل سبحانه .فإن
جاءنا فاسق بنبأ إو�رجاف فال نسرع إلى تصديقه حتى نتبين .وقد نهينا أن نتخذ بطانة
من دوننا ،فال نحسب أن األعداء وال المتفرجين القاعدين يتورعون عن نقل األراجيف
177
إو�شعال الفتنة كما نتورع.
الحرب اإلعالمية تشن على طالئع المؤمنين كما تشن عليهم الحروب اإلبادية.
فلتعرف الطالئع خصمها وصديقها ،وتلتحم مع الصادقين{ .يا أيها الذين آمنوا اتقوا
اهلل وكونوا مع الصادقين}.
في الناس من حولنا فسولة وميل مرضي للقيل والقال .وأعداؤنا لهم مؤسسات
وأجهزة للحرب النفسية يبثون عنا الكذب واألراجيف ينازعوننا إمامة الشعب.
وصف الطليعة يجب أن يبقى متماسكا برباط اإليمان ،رباط الثقة باهلل ،وبإخوتنا،
وأولي األمر منا{ .أشداء على الكفار رحماء بينهم} .بيننا يهدي بعضنا إلى
بعض عيوبه بالنصيحة األخوية ،ويقوم خطأه بالتشاور الرفيق .ومن دوننا ال نتركهم
يفسدون ما بيننا.
وال نترك ثغرة في التربية والتنظيم ينفذ إلينا منها فساد الضمائر ،ورخاوة الذمم ،أو
يتسرب إلينا منها سم الدعايات ضدنا.
الهجرة والنصرة:
روى اإلمام مسلم عن معقل بن يسار أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:
«العبادة في الهرج كهجرة إلي».
الهرج القتل بغير حق ،والفتنة أشد من القتل .فمعنى الحديث الشريف أن الصادق
عندما يكذب الناس ،والمستميت على دينه عندما يفتن المؤمنون ويقتلون هو في درجة
المهاجرين.
نقل الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض أن العلماء اتفقوا على أن الهجرة من
مكة كانت واجبة على المسلمين قبل الفتح .وأن سكنى المدينة كانت واجبة عليهم لنصرة
178
النبي صلى اهلل عليه وسلم ومواساته بالنفس.
وهكذا يجب على المؤمنين ،من كان منهم صادقا ال تنكسر عزماته أمام التهديدات
والمخاوف ،أن ينضم إلى إخوته لينصرهم في جهادهم ويواسيهم بنفسه .كانت الهجرة
على عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم حركة من مكان إلى مكان ،ألزمتها ضرورة التجمع
لمواجهة العدو وحماية بيضة اإلسالم ،أي عاصمته ومقر إمارته .أما اآلن ودار اإلسالم
واسعة ،وأقطارها متفرقة ووسائل العصر وطبيعة المواجهة مختلفة ،فالهجرة والنصرة في
حق الصادقين ال تطلب نقلة من مكان إلى مكان بعينه .التجمع المطلوب واالستنفار
الواجب يتمان بربط المؤمنين في التنظيم القطري إو�حكام تحركه عبر المكان وفي كل
مكان .وخروج الوافد على الجماعة في سياحات الدعوة ومعسكرات الشباب يتيح له أن
يبتعد عن مألوفاته وينقطع عن بيئته المرفهة الغافلة .وبذلك يطوي المراحل في قطع
حبال الجاهلية واالرتباط المتين بالجماعة.
ومتى تم تحرير قطر كان واجبا على المؤمنين خارجه أن يخفوا لنصرة إخوتهم
إو�مدادهم بالكفاءات والخبرات والتأييد المادي والمعنوي.
وعلى كل قطر تحرر أن يخصص جهوده لدعم الحركات القطرية األخرى ونصرها.
وقد سبق عرض الهجرة والنصرة تربية في الحديث عن العضوية .ولنا عنهما
حديث بعد حين إن شاء اهلل.
شعب الخصلة
الشعبة الخامسة والعشرون :اإليمان باهلل وبغيبه
من اعتقد في نفسه أن ال إله إال اهلل وأن محمدا رسول اهلل ،ونطق بذلك لسانه،
179
وصدق برسل اهلل ،وكتب اهلل ،ومالئكة اهلل ،وقدر اهلل ،وباليوم اآلخر ،ثم عمل بمقتضى
الشهادة والتصديق فقد آمن .فما عدا تعريف اإليمان في حديث جبريل« :أن تؤمن باهلل
ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر وتؤمن بالقدر خيره وشره».
لكن اإليمان حق اإليمان ،وهو يزيد وينقص وله شعب منها األعلى واألدنى ،وله
كمال حين يكتمل ،وخروج حين يخرج فيكون كالظلة على رأس الزاني حين يزني مثال،
حالة شاملة لكيان المؤمن.
ليس اإليمان معنى مضافا إلى ذات اإلنسان ،بل هو معنى قائم بها .فكمال اإليمان
هو كمال المؤمن في معناه .وما يحصله المؤمن في «مجموعه» من التحلي بصفات
اإليمان ،والتخلق بشعبه ،هو مدى كماله الذاتي الذي يبعث على صورته إن ختم اهلل له
بالحسنى .وهو مقامه عند اهلل أبد اآلبدين .فإذا اكتمل اإليمان من كل جوانبه ،واستمد
آلخرةُ أَ ْكبر َدرج ٍ
ِ
ات قلب المؤمن من كل شعبه ،ارتفع به إلى اإلحسان .درجاتَ { .ولَ َ َ ُ َ َ
وأَ ْكبر تَ ْف ِ
ضيالً} 1.فطلب كمالك من اهلل عز وجل بوقوفك على باب الكريم الوهاب، َ َُ
وعملك الدائب على مقتضى الكتاب والسنة ،هو ما يطلبه إليك اإليمان .ليس االعتقاد
النفسي ،والنطق اللساني ،والتعبد المفروض عليك ،ترقيك عن درجة اإلسالم .ال ،حتى
يتجدد في القلب اإليمان ،حتى يحدث في القلب تحول ،حتى يجد القلب حالوة اإليمان،
حتى ينشرح الصدر بها .عند ذاك تزدهر ريحانة اإليمان ،وتصبح على مثال تلك
الشجرة الطيبة المضروب مثالها في القرآن.
العقيدة النفسية العقلية ،والنطق اللساني ،والعبادة بالجوارح إيمان عام جاء في
حديث جبريل ،وتخصصه األحاديث األخرى الكثيرة التي ذكرت حالوة اإليمان ،وشعبه،
وكماله ،واآليات التي ذكرت زيادته ،ونقصه ودخوله ،وكتابته في القلب.
هذا اإليمان المخصص هو اإليمان الحي الذي يحيي قلوب الرجال والنساء حتى
يصلحوا أن يخاطبوا بيا أيها الذين آمنوا ،ألن لهم إرادة طاعة اهلل ورسوله ،وألن لهم
القدرة على تنفيذ ما أمروا.
1اإلسراء21 ،
180
تدخل بشاشة اإليمان القلب ،ثم تغمره حالوة ،وتفيض فيه نورا .واألعمال القلبية
-وهي النيات -روح كل عمل حين تصدر عن الشوق إلى اهلل ،ومحبته ،والتعلق به
وبرسوله.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس:
«ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليمان :أن يكون اهلل ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وأن يحب المرء ال يحبه إال هلل .وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في
النار».
عبودية الخوف والرجاء شرع نحن مطالبون به .لكن عبودية المحبة -وهي درجة
فوق األولى -هي وحدها معيار انتقال المؤمن من مراتب اإلسالم إلى مراتب اإليمان
واإلحسان.
السالك إلى اهلل على مدارج الترقي يحب اهلل ورسوله مع الطاعة .ويحب المؤمنين
بفيض من المحبة اإللهية ،ويكره الكفر والعود فيه أشد الكراهة .أعمال قلبية.
من زعم أنه مؤمن وهو منكمش على شحه ،وأنانيته ،وسوء مخالقته ألهله
ولجيرانه وللمؤمنين ،فذاك دعي .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه
الشيخان وغيرهما عن أنس« :ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه» وقال
فيما رواه مسلم عن أبي هريرة« :والذي نفسي بيده ال تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ،وال
تؤمنوا حتى تحابوا! أال أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السالم بينكم».
اإلسالم األناني المنعزل ال تدخل في معادلته محبة المؤمنين ،ومعاملتهم بالبر،
والتعاون معهم .ومن ثم يتناقض مع محبة اهلل ورسوله ،إذ محبة اهلل ورسوله ومحبة
المؤمنين متالزمتان.
اإلسالم الفردي حالة تتالءم مع تشتت المسلمين ،وتنتج عنه ،وتغذيه .أما الجمع
الذي ننشده فيريد إيمانا جامعا بالمحبة بيننا كأمة ،وبيننا وبين اهلل ربنا .تحابنا فيما بيننا
شرط لرضاه عنا وحبه إيانا.
181
اإلسالم الفردي المنعزل األناني يولي فيه المسلمون بعضهم إلى بعض وجه
القساوة ،ومعاملة الحذر ،وسوء الظن .وفي اإليمان الجامع تقرب بالسالم ،والبشاشة،
والمخالقة التي تزرع الثقة وتمتن الرابطة ،وتهيئ القوة المجاهدة .قال رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة« :أكمل المؤمنين
إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم ألهله».
دعنا من اإلسالم المكفهر الذي يوجه أصابع االتهام للناس ،وينسى أن يطلب داء
نفسه ،ويتهم ذات نيته!
من الذكر األساسي لجند اهلل ذكر الموت ،ودراسة ما ورد عن الحبيب البشير النذير
من حديث عن أمارات الساعة ،وعن فضل المتمسك بدينه في الهرج ،وعن الدجال
الذي حذرنا منه المصطفى صلى اهلل عليه وسلم أشد التحذير ،وعن نزول عيسى عليه
السالم ،وعن النفخ في الصور ،وعن البعث ،وأهوال القيامة ،والحساب ،والميزان،
والصراط ،والحوض ،والشفاعة ،والجنة ،والنار.
ما نراه من أمارات الساعة كما حدث الحبيب صلى اهلل عليه وسلم كالتطاول في
البنيان ،والهرج ،وطغيان الحكام وكفرهم ،وفساد الذمم ،وما ورد في كتب الفتن ،يقوي
عزمنا على الجهاد إلنهاء الفساد .وقد قدمنا في أول هذه الفصول حديثتين عن موعود
اهلل لهذه األمة بخالفة على منهاج النبوة بعد كل هذا البالء ،وبانتصار اإلسالم حتى
يعم كل األرض.
فليعول أحدنا أن يتقرب إلى اهلل عز وجل ،وأن يستعد للقائه في اليوم اآلخر،
182
بجهاد لتحقيق هذا الموعود .وليكن ذكر الموت وما بعدها حافزا ،بعد محبة اهلل ورسوله،
لنستهين بما نلقاه من بالء في جهادنا ،وما ال بد منه من بذل أنفسنا وأموالنا استشهادا
في سبيل اهلل.
حديث مشهور رواه الشيخان وأصحاب السنن إال ابن ماجه عن عمر بن الخطاب
رضي اهلل عنه قال« :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول« :إنما األعمال
بالنيات ،إو�نما لكل امرئ ما نوى .فمن كانت هجرته إلى اهلل ورسوله فهجرته إلى اهلل
ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر
إليه».
عمر صاحب العزمات والغناء الكبير في اإلسالم يروي هذا الحديث العظيم الذي
جعله البخاري فاتحة كتابه ،كما درج سلفنا الصالح على تقديمه بين يدي كتبهم ،إشارة
إلى كون النية روح جسد األعمال.
فطليعة الجهاد المجدد قوامها الصادقون الذين أخلصوا اهلل ما وعدوه وجاهدوا في
اهلل حق جهاده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
وفي مرحلة ما من مراحل الجهاد قد يرد على العصبة الخيرة مثل مهاجر أم قيس
الذي روى العلماء أن الحديث يشير إليه .وهو رجل من الموالي منع في الجاهلية من
زواج هذه المرأة .فلما هاجرت وسوى اإلسالم بين األحرار والموالي تبعها إلى المدينة،
هجرة ناكح.
كذلك قد يرد الوصوليون والمنافقون .فلنحذر أن نغلب على أمرنا فنوسد األمر إلى
غير أهله.
ذلك أن اإلخالص هلل تعالى ال ينفك عن اإلخالص لجماعة المؤمنين .قال رسول اهلل
183
صلى اهلل عليه وسلم في حجة الوداع« :نضر اهلل امرءا سمع مقالتي فوعاها ،فرب حامل فقه
ليس بفقيه .ثالث ال يغل (ال يفسد قلب انطوى عليهن) عليهن قلب امرئ مؤمن :إخالص
العمل هلل ،والمناصحة ألئمة المسلمين ،ولزوم جماعتهم ،فإن دعاءهم محيط من ورائهم» رواه
البزار وابن حبان .قال المنذري :روي من طرق متعددة بعض أسانيدها صحيح.
هي وصية من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر المسلمين أن يبلغها الشاهد
منهم الغائب .فنسمع ونطيع .لكن أين األئمة الذين أمرنا أن نناصحهم؟ أين جماعة
المؤمنين؟
اإلخالص هلل أن نجمع ونربي وننظم ونقيم أمرنا على كتاب اهلل وسنة رسوله لتكون
لنا جماعة إو�مامة.
قوم ساكتون خرس عن كلمة الحق ،ناكثون لعهد أخذه اهلل عليهم أن يبينوا للناس
ويقفوا موقف الصدق .وقوم منافقون ،وقوم كاذبون ،وقوم متأولون ،مبررون زورهم أو
مكفرون غيرهم.
روى البخاري عن محمد بن زيد أن أناسا قالوا لجده عبد اهلل بن عمر« :إننا ندخل
على سلطاننا فنقول بخالف ما نتكلم إذا خرجنا من عنده» .فقال« :كنا نعد هذا نفاقا
على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم».
واآلن وقد أدى بنا ذاك النفاق في الكلمة والموقف إلى ما نرى ،حان لجند اهلل أن
يرجعوا إلى سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
184
الشعبة التاسعة والعشرون :النصيحة
يتجدد ديننا متى أصبح النصح هلل ولرسوله وللمسلمين ،خاصتهم وعامتهم ،سلوكا
في حياتنا ،ومنهاجا لعملنا .ومعنى النصح لغة الوضوح والجمع .أمة يحكمها من ليس
منها .يغشون ويضللون .أمة مشتتة ،يزيدها تمزيقا دعاة العصبيات واإلديولوجيات.
العدو الخارجي ال بأس له لوال وجود دخالئه وصنائعه بيننا .فالنصيحة فضح هذا
ومحاربته وجمع القوى الحية إلقامة الدين.
روى الشيخان وأصحاب السنن إال ابن ماجة عن تميم الداري أن رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم قال« :إن الدين النصيحة! إن الدين النصيحة! إن الدين النصيحة!»
قالوا :لمن يا رسول اهلل؟ قال« :هلل وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم».
فإذا رضينا أن يجحد وجود اهلل بيننا قوم مرتدون ،وأن يعطل كتاب اهلل حكام
جائرون ظالمون ،وأن يلعب بسنة رسوله سفهاء مبذرون ،وأن يغلبنا على العامة وعلى
إمامة الشعب المسلم أحزاب فاسقون ،فقد عطلنا النصيحة وهي الدين.
ال نأمن غوائل الفتنة وكيد المنافقين أن يغتاال الحركة اإلسالمية ،خاصة عندما
يصل جند اهلل إلى الحكم ،فيدخلوا في صراع مع واقع متشعب مشتبك بحياة المسلمين
الموروثة ،تنشب فيه الجاهلية أظفارها وتتربص به الدوائر.
ذكرنا حديث ابن عمر يشجب نفاق جلساء األمير .إو�ن آمال األمة لن تتحقق إال إذا
كان لكل عضو في جماعة اإليمان عهد مع اهلل وميثاق أن يستقيم على النصيحة ،ويخاف
عاقبة الغدر ،فيقدم رعاية هذا العهد على عقد اإلمارة ،وعلى االعتبارات الطارئة التي يبرر
الناس بها تنازالتهم عن الحق ،حتى يهووا في نار جهنم بعد أن تسببوا في فشل الجماعة.
185
اق الَِّذ َ
ين َخ َذ اللّ ُه ِميثَ َ
أخذ اهلل الميثاق على رجال الدعوة من العلماء َ { :إوِ� َذ أ َ
َخ ْذ َنا ِم َن اب لَتَُب ِّي ُن َّن ُه ِل َّلن ِ
اس َوالَ تَ ْكتُ ُموَن ُه} 1وقال عز من قائل َ { :إوِ� ْذ أ َ ِ
أُوتُواْ ا ْلكتَ َ
َخ ْذ َنا ِم ْن ُهم وسى َو ِع َ
يسى ْاب ِن َم ْرَي َم َوأ َ يم َو ُم َ
ِ
وح َ إوِ� ْب َراه َ ين ِميثَاقَ ُه ْم َو ِم َ
نك َو ِمن ُّن ٍ َّ
الن ِب ِّي َ
ع َذاباً أ َِليماً} 2.فجند ص ْد ِق ِهم وأَع َّد ِل ْل َك ِ
اف ِر َ
ين َ ْ َ َ
ين عن ِ َل َّ ِ ِ
الصادق َ َ سأ َ ِ ِ
ِّميثَاقاً َغليظاً ل َي ْ
اهلل الوارثون الصادقون مخاطبون بهذا القرآن زمان انفراد الدعوة وزمان قيام الدولة.
وهم محذرون من عاقبة الغدر ،خاصة منهم من ولي من أمر جماعة الدعوة أو
نظام الدولة مسؤولية.
روى اإلمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم قال« :لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة ،يرفع له بقدر غدره .وال غادر أعظم
غد ار من أمير جماعة».
أمام العصبة المجاهدة مهمات كالجبل ،االستعداد لها يتنافى مع الغفلة والسذاجة
التي يسميها العامة «طيبوبة القلب».
السذج بسطاء العقول خطر على الدعوة .ألن الواحد منهم يحسب أن الورع الفردي
كفيل وحده بتغيير الواقع ،أو تدفعه سذاجته إلفشاء أسرار المؤمنين ،أو يغتر بوعود
المنافقين.
الدعوة تريد من المؤمن أن يكون غ ار كريما ،ليس بالخب وال الخب يخدعه .الجهاد
186
إلقامة دولة اإلسالم حرب ،والحرب خدعة .والسذج البسطاء يسعهم فضاء رحمة اهلل،
بعيدا عن اإلعداد القوي الذي أمرنا به.
قال اهلل تعالى حكاية لدعوة إبراهيم عليه السالمََ{ :ل تُ ْخ ِزِني َي ْوَم ُي ْب َعثُ َ
ون َي ْوَم
1 ون إَِّل م ْن أَتَى اللَّ َه ِب َق ْل ٍب سِل ٍ
يم}. َل َينفَعُ َما ٌل َوَل َب ُن َ
َ َ
القلب السليم كما تبينه السنة المطهرة هو قلب المؤمن الذي يحسن الظن بربه،
يرجو رحمته ويخاف عذابه ،يحبه ويحب رسوله ،ال يتجسس على المسلمين ،وال يحسد،
وال يغتاب ،وال ينم .همه اهلل عز وجل ،وجهده منصرف لبناء جماعة الجهاد ودعمها.
حظ المرء من اهلل تعالى يتوقف على مدى استعداده القلبي لتلقي الرحمة والهدى.
هناك استعداد وهبي عام قدره اهلل وفطر عليه .وهناك استعداد كسبي .والكل من اهلل
الكريم الوهاب .ومن االستعداد الكسبي استشفاء القلب ،وتطهيره ،وتعريضه لنفحات
الرحمة اإللهية .القرآن الشفاء .والطمأنينة الذكر .اليقظة من الغفلة ،والتعلق الدائم باهلل
عز وجل ،وطرح ما سواه في المواضع التي وضع فيها الشرع كل شيء.
من كان همه اهلل ،وضابطه الشرع ،ومنهاجه االتباع ،ال يحسد وال يعادي المسلمين
وال يهجر ذوي صحبته وقرابته ،ويعفو عمن ظلمه ،ويصل من قطعه ،ويعطي من حرمه.
الدعوة بحاجة لقلوب عالية الهمة ،كما هي بحاجة لعقول راجحة النظر ،وشخصيات
قارة ال تنفعل انفعاال ،بل تستفتي الشرع وتتدبر ،حتى إذا عزمت مضت ال يثنيها شيء.
فهذا معنى سالمة القلب.
1الشعراء89-88-87 ،
187
الشعبة الثانية والثالثون :الهجرة
وتنتشر الدعوة سريعا بين الشباب المبارك على عتبة قرن التجديد هذا إن شاء اهلل.
فينتقل المسلم في صحبة الدعاة من حال الركود أو اإللحاد أو الالمباالة إلى االهتمام
باإلسالم ،والميل إلى المؤمنين ،حتى اإلقالع عن الماضي وموبقاته ،وقعوده وخموله،
إلى التوبة إلى اهلل ،والتحفز للجهاد في سبيله.
في حياة من يسمون اآلن إسالميين هجرة نقلت كل واحد منهم من جاهليته
إلسالمه .وهكذا يتجدد معنى الهجرة .وما يبقى لمن تمت هجرته إال أن ينظر في كتاب
اهلل وسيرة رسوله صلى اهلل عليه وسلم ليكتشف النموذج األول للمهاجرين ،ويتلقى األمر
الموجه إليهم ،والوعد الذي وعدوا به ،ويتقمص الشخصية ،ويقوم بالوظيفة التاريخية.
ار َوالَِّذ َ
ين اتََّب ُع ُ
وهم َنص ِ ون ِم َن ا ْلم َه ِ
اج ِر َ
ين َواأل َ ُ السا ِبقُ َ
ون األ ََّولُ َ قال اهلل تعالىَ { :و َّ
ان َّر ِ
ع ْن ُه} 1.فها قد ترك لنا سبحانه مكانا في رضاه، ضواْ َ ض َي اللّ ُه َع ْن ُه ْم َوَر ُ سٍ ِبِإ ْح َ
إو�مكانية تسلسل واستمرار على تلك الخطى المباركة ،بشرط اتباعهم بإحسان .ما أجيالنا
نبذ منبوذة في تاريخ.
يتجدد اإلسالم بتجدد اإليمان ،وتجدد الفئات المذكورة في القرآن ،وتجدد وظائفها.
وفي المواجهة يصطف جند اهلل من مهاجرين وأنصار ،يقاومون ويقاتلون حزب الشيطان
الكافرين من خارج ،وحزبه المدسوس فينا من المنافقين .ويتعرض حزب اهلل إلنكار
األعراب السادرين في غفالتهم ،وركودهم الناعس وسخريتهم.
1التوبة100 ،
188
ما كانت الهجرة حدثا تاريخيا فريدا انقضى ،بل هي معنى وسلوك واختيار .هجرة
األفراد اإليمانية الخلقية اإلرادية ،تتبعها هجرة كل منهم نحو إخوته ،وانضمامه إليهم،
وانتظامه معهم .ويتكون صف الجهاد إلعادة الخالفة على منهاج النبوةَ { .
َما َب َدأْ َنا
اعِل َ
ين}. يده و ْعداً علَ ْي َنا إِ َّنا ُك َّنا فَ ِ
َ
أ ََّو َل َخ ْل ٍ ِ
ق ُّنع ُ ُ َ
1
ما انقطعت الهجرة وما ينبغي لها .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه
مسلم وأبو داود «ال تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة وال تنقطع التوبة حتى تطلع
الشمس من مغربها».
وهكذا النصرة :وظيفة تتجدد .قال اهلل تعالى يصف األنصارَ { :والَِّذ َ
ين تََب َّو ُؤوا
ُّون م ْن َهاجر إِلَ ْي ِهم وَل ي ِج ُد َ ِ ِ ِ اليم َ ِ
ورِه ْم َح َ
اج ًة ص ُد ِ ون في ُ ْ َ َ ََ ان من قَ ْبل ِه ْم ُيحب َ َ َّار َو ِْ َالد َ
ش َّح َن ْف ِس ِه
وق ُ اص ٌة َو َمن ُي َ
ص َ ان ِب ِه ْم َخ َون َعلَى أَنفُ ِس ِه ْم َولَ ْو َك َِّم َّما أُوتُوا َوُي ْؤِث ُر َ
ون}.فَأ ُْولَ ِئ َك ُه ُم ا ْل ُم ْفِل ُح َ
2
استجاب األنصار لدعوة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وبايعوه إن هو هاجر
إليهم أن يؤووه ويحموه مما يحمون منه ذريتهم ونساءهم .و بذلك ابتدأ تاريخ الجهاد
المتكامل بعد أن كان في مكة جهاد الصبر ،وتحمل األذى ،وتحدي الباطل ،وما ينتج
عن التحدي من اضطهاد.
كذلك اليوم وغدا يستجيب إن شاء اهلل لدعوة التجديد في العالم قاعدة نصيرة في
األمة تتحلى باإليمان ،وتحب الدعاة المهاجرين إلى اهلل ورسوله ،وتؤوي ،وتؤثر على
نفسها ،وتدعم الحركة حتى النصر الموعود بإذن اهلل.
1األنبياء104 ،
2احلشر9 ،
189
والمؤمن يربى على شعب اإليمان كلها .فنطلب إليه أن يبرهن عن هجرته إلى اهلل
ورسوله بقطع حبل الجاهلية كلها ،ما استطاع منها في كل مرحلة معينة من مراحل
الجهاد .ونطلب إليه قبل ذلك أن يبرهن عن نصرته بالتعبير العملي عن فضائل
األنصار المذكورة في اآلية الكريمة.
ولكل درجة عهد وميثاق ،ثم بيعة إن شاء اهلل يوم يلتم شمل المسلمين على
الخالفة .ولألنصار الجدد حق على من سبقهم بإيمان وهجرة ،أن يصحبهم في اهلل،
ويؤاخيهم كما آخى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بين المهاجرين واألنصار .أخوة
تعاون مادي ومعنوي ،أخالقي تربوي ،ومعاشي يومي.
ولجند اهلل حق بعضهم على بعض ،أن يتواسوا بالمال والنفس كما تواسى سلفهم
الصالح ،ولهم حق التحاب في اهلل بعضهم على بعض.
ويتم تأليف العصبة المحمدية المجاهدة حين يعتبر كل منهم أن حبه إخوته عبادة،
وأن تناصحه معهم وتشاوره عبادة ،وأن طاعته ألولي األمر منا عبادة.
ماذا فعل المهاجرون األولون واألنصار؟ بم استحقوا أن يذكرهم اهلل في كتابه فتتلو
األجيال شكر اهلل عز وجل لجهادهم وعطائهم؟
بإيمان باهلل واثق ،وطاعة ألمره وأمر رسوله ال تتخلف ،ثم بشجاعة مكنتهم من
اقتحام العقبة ومواجهة الموت .شجاعة لالستعداد الفطري فيها نصيب ،لكن حافزها
وباعثها وقوتها اليقين أنها إحدى الحسنيين.
سأل اإلمام علي رضي اهلل عنه وهو يخطب« :من أشجع الناس؟ فقالوا :أنت!
قال أما إني ما بارزني أحد إال أنصفت منه! ولكنه أبو بكر! لقد رأيت رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه (على وزن يطؤه ،معنى يجؤه يطؤه ويضربه
190
برجله) وهذا يتلقاه .ويقولون له :أنت تجعل اآللهة واحدا؟! فواهلل ما دنا منا أحد إال
أبو بكر .يضرب هذا ويدفع هذا ،ويقول :ويلكم أتقتلون رجال أن يقول ربي اهلل؟ ثم
بكى علي ،ثم قال :أنشدكم اهلل أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر؟ فسكت القوم.
فقال علي :واهلل لساعة من أبي بكر خير منه! ذاك يكتم إيمانه وهذا يعلن إيمانه»
رواه البزار.
ننتقل من ميدان مصارعة الباطل إلى ميدان التلقي عن اهلل تعالى .فالثبات في
ذلك الميدان ثمن لولوج هذا الميدان .قال اهلل تعالى إلبراهيم بعد أن استعد ابراهيم عليه
الر ْؤَيا إِ َّنا َك َذِل َك َن ْج ِزي ص َّدق َ
ْت ُّ يم قَ ْد َ
اد ْي َناه أ ْ ِ ِ
َن َيا إ ْب َراه ُ السالم لتنفيذ ما أمرَ { :وَن َ ُ
ين} 1فجعل سبحانه تصديق الرؤيا من سمات اإلحسان. ا ْل ُم ْح ِس ِن َ
في كتب الحديث أبواب مخصصة لهدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في الرؤيا.
والرؤيا الصالحة ،رؤيا يراها المؤمن أو ترى له ،غير األحالم المشتركة بين البشر.
الرؤيا الصالحة جزء من النبوة .هي وحي من اهلل للعبد الصالح ،تشجعه على
سلوك الطريق إلى اهلل.
وللرؤيا آداب نبوية وحرمة خاصة .فينبغي مراعاة تلك اآلداب ،واالهتمام بها كما
كان يهتم بها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .فقد روى الشيخان والترمذي وأبو داود
عن سمرة بن جندب قال« :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا صلى الصبح أقبل
عليهم بوجهه فقال« :هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟» زاد أبو داود« :إنه لم يبق بعدي
191
من النبوة إال الرؤيا الصالحة».
الصادق في طلب اهلل تعالى ال يتعلق بالرؤيا المخبرة عن أحداث العالم .الذي يهمه
رؤيا تبشره بالسعادة األخروية ،وبقربه من ربه ،ورضاه عنه .وانظر في كتب الحديث
ما دون من مناقب الصحابة تجد أن منهم من احتفظت له ذاكرة األجيال باالعتراف
بالفضل العظيم لرؤيا رآها أو رؤيت له ،وعبرها له الحبيب المصطفى صلى اهلل عليه
وسلم .يقول المادي الكئيب :مجرد رؤيا! وما جدوى الرؤيا؟ أما نحن فعندما نق أر القرآن،
ونق أر سيرة المصطفى صلى اهلل عليه وسلم ،ونرى ما للرؤيا من أهمية في حياة األنبياء
والمؤمنين ،نعرف أن باب الغيب الذي بقي مفتوحا لنا إنما هو هذا الباب.
لكن الصادقين ال يرتبون على الرؤيا حكما جديدا ،وال يعطلون بها حكما معروفا
من أحكام الشريعة.
كثير من الرؤى تحتاج تعبيرا .والتعبير علم وحكمة يؤتيها اهلل من يشاء .فمن لنا
بتلك الحكمة!
لهذا فال نبني على الرؤيا عمال ،إنما هي مبشرات تسر وال تغر .وظيفتها أن تشجع
فينا خصال اإليمان ونية الجهاد ،ال أن تصبح مصدر األحكام.
192
الخصلة الرابعة
البذل
البذل تربية
كلمة بذل وردت في الحديث النبوي .معناها لغة إعطاء الشيء والجود به استهانة
به في مقابل الفضل المرجو .يقال ابتذل الشيء احتقره.
ويدخل في هذه الخصلة ما أمر اهلل به من اإلنفاق ،ويدخل فيها الجهاد بالمال وهو
مقدمة للجهاد بالنفس.
الفتوة:
وصف إبراهيم عليه وعلى نبينا وجميع األنبياء أفضل الصالة والسالم بأنه فتى
ووصف بها أصحاب الكهف .فهي كلمة تدل على الشجاعة في الحق ،شجاعة نبي اهلل
الذي كسر األصنام ،وشجاعة الفتية المؤمنين الذي قاطعوا الكفر وهاجروا إلى اهلل .كما
وصف بالفتوة في سائر اآليات أهل الخدمة ،وأشرفهم فتى موسى يوشع عليهما السالم.
نقصد بالفتوة كرم النفس الذي يدفع المؤمن لالستعالء على الطاغوت ،فيكسر
األصنام ،ويبذل روحه في سبيل اهلل .ونقصد بها إلى جانب هذا الرفق مع المؤمنين،
وخدمتهم ،وتوطئة الكنف لهم.
193
الفتيان هم الجامعون بين صفتي الشجاعة والتواضع{ .أ َِذلَّ ٍة َعلَى ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ
ين
ين} 1.فوجه البأس يتقدمون به للقتال عن الدعوة ،ووجه الخدمة باش َعَّزٍة علَى ا ْل َك ِ
اف ِر َ أِ
َ
للمستضعفين .يبذلون أنفسهم فداء لدين اهلل ألنها أرخص من أن يساوموا بها .ويبذلون
مالهم ووقتهم للمسلمين خدمة ومواساة.
الفتى الحق من يكسر األصنام يستهين بنفسه ثمنا إلبطال الباطل إو�حقاق الحق.
فهذه الفتوة الشجاعة لهدم الباطل .هذا نبي اهلل إبراهيم عليه السالم.
في مجتمعات منحلة ينادي المؤمنون غدا إلعادة بناء األمة .وليس تبنى على
الشح واألنانية واألثرة ،وهي من أمراضنا الفتنوية .إنما تبنى على خلق جميل ،نجد
نموذجه الكامل في المصطفى الحبيب صلى اهلل عليه وسلم.
قالت له أمنا خديجة رضي اهلل عنها حين رجع فزعا من الوحي ،وهي أعرف الناس
بسجاياه« :كال واهلل ال يخزيك اهلل أبدا! إنك لتصل الرحم ،وتحمل الكل (وهو من ال
دابة له ،فهو عاجز عن السفر) وتكسب المعدوم ،وتقري الضيف ،وتعين على نوائب
الحق (تساعد كل محتاج وكل من ط أر عليه طارئ)» رواه الشيخان وغيرهما .في رواية:
«وتصدق الحديث» وفي أخرى« :وتؤدي األمانة».
الفتى يحمل ،ويصل ،ويجمع ،ويفدي إخوته .ليس الفتى من هذه اإلبل المائة التي
ال تكاد تجد فيها راحلة .بل هو حامل ثقل الجماعة .ثم ال ُي ُّ
من على إخوته عطاءه فيفسد
ين آم ُنواْ الَ تُْب ِطلُواْ ص َدقَ ِ
ات ُكم ِبا ْل َم ِّن َواأل َذى}. عمله .قال اهلل تعالى{ :يا أَي َِّ
ُّها الذ َ َ
َ َ
2
َ
شم من خصلة البذل رائحة .وقولك في فمن كان يقدم إلخوته خدمات ثم يذكرها ما َّ
معرض الحديث بدون حاجة« :فعلت لفالن كذا» مما يبطل األعمال عند اهلل .روى
اإلمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي ذر عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه
1املائدة54 ،
2البقرة264 ،
194
قال« :ثالثة ال يكلمهم اهلل وال ينظر إليهم يوم القيامة وال يزكيهم ،ولهم عذاب أليم (قرأها
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ثالث مرات) .قال أبو ذر :خابوا وخسروا! من هم يا
رسول اهلل؟ قال« :المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف».
المسبل إ ازره هو الذي يطول ثوبه يستكبر على الناس ،وهذا ليس من صفات
المؤمن .وال من صفته أن يعطي ويذكر عطاءه أمام الناس للفخر .وال الذي يغش
فيكذب ويحلف ليبيع سلعته.
الفتى يخدم إخوته .وقد أتى اهلل النبوة عبده يوشع بعد أن شرفه بخدمة رسوله
موسى عليهما السالم .وذكر الواقدي أن وفد بني سعد ُهذيم بعد أن بايعوا رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،بعث إليهم رسول اهلل في رحالهم ،فجاؤوه ومعهم أصغرهم ،وكان
لم يحضر البيعة ألنهم خلفوه في الرحال .فتقدم الصغير ،فبايع رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم على اإلسالم .قال« :فقلنا يا رسول اهلل ،إنه أصغرنا إو�نه خادمنا .فقال:
«أصغر القوم خادمهم .بارك اهلل عليه» .قال :وكان واهلل خيرنا وأقرأنا للقرآن ،بدعاء
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم».
عن أنس رضي اهلل عنه قال :خرجت مع جرير بن عبد اهلل البجالي في سفر،
فكان يخدمني .فقلت له :ال تفعل! فقال :إني قد رأيت األنصار تصنع برسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم شيئا (أي تخدمه وتنصره) آليت أال أصحب أحدا منهم إال
خدمته .وهكذا جند اهلل في كل عصر يسارعون لخدمة اإلسالم وخدمة من يخدم
اإلسالم( ،الحديث رواه مسلم).
المال والشرف:
حب المال وحب المحمدة عند الناس عائقان نفسيان عن اقتحام العقبة إلى اهلل.
فالمتكبر ال ينظر اهلل إليه الستعالئه على الناس .والبخيل بعيد من اهلل بعيد من
الناس.
195
جند اهلل ال يراد لهم أن يكونوا طائفة متجبرة على األمة ،بل يرجى منهم أن يعيدوا
بناء الحضارة األخوية .فأول مالمح هذه الحضارة التساوي بين الناس ،فال يكون المال
دولة بين األغنياء ،وال يتخذ بعض الناس بعضهم أربابا من دون اهلل.
وسط الشعب مكان الفتية المؤمنين وفي خدمته .حرصهم على رضى اهلل عز وجل
يرفع هممهم عن رذيلتي الشح والتكبر ،وهما سمتان في النفوس الدنيئة.
هما سمتان تخربان الدين وتأكالنه .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه
اإلمام أحمد والترمذي عن كعب بن مالك« :ما ذئبان جائعان أرسال في غنم بأفسد لها
من حرص المرء على المال والشرف لدينه».
روى اإلمام أحمد ومسلم قصة أصحاب األخدود والساحر والراهب والغالم (انظرها
عند مسلم في كتاب الزهد).
مؤدى القصة أن الملك أراد أن يهيء غالما لخدمته في منصب الساحر (وكان
ساحره هرم وخاف عليه الموت) .فانبرى الراهب ودعا الغالم إلى اهلل ورباه على
اإلسالم .الدولة تريد إفساده والدعوة تنازعها .الملك يريد من الغالم أن يعبده ويكذب
على الشعب ليبرر طاغوته .ورجل الدعوة يوجه العبيد إلى اهلل.
فكان أن كشف الملك عالقة الغالم بالرجل الصالح .وفتنه ليرجع عن دينه وحاول
قتله.
هنا بذل الغالم نفسه ليموت هو ،وتحيى الدعوة فأوصى الملك ،وقد عجز عن قتله ألن
196
اهلل كان ينجيه من المكايد ،أن يجمع الناس ويقتله أمامهم .ففعل الملك ،ومات الغالم
ودخل الشعب كله في الدين لما رأى من موقف الفتى الشجاع.
قصة طرحها لنا المربي األعظم صلى اهلل عليه وسلم لنتأملها ونسترشد بها ،ال
أن نقرأها ونتسلى بقراءتها .كل شخص في القصة النبوية ،وهي حق ،يرمز إلى موقف
ووظيفة متكرر متجدد في الصراع األبدي بين الحق والباطل.
علماء السوء وحكام الجبر من جانب الباطل ،ورجال الدعوة وفتيان الجهاد من
جانب الحق.
ومتى كان لنا جيل ترخص عليه نفسه في سبيل اهلل ،ويعطي ماله في سبيله
سبحانه ال يحسب ،متى كان لنا جماعة وطد أعضاؤها عزمهم على السفر إلى اهلل
تعالى مهما كان ثمن الرحلة فما ظهور اإلسالم على الدين كله يومئذ ببعيد.
يجيء الوافد إلى جند اهلل ومعه مخلفات ماضيه .بعد اإليناس األول نفهمه أن
العمل الجهادي المنظم ال ينهض له إال الصادقون ،وكل صادق ال يعرف صدقه إال
إن برهن عليه عمليا.
فنطلب إليه أن يساهم في نفقات الجماعة بانتظام ،ونرفع نسبة عطائه من دخله
تدريجيا .فإن كان غنيا طلبنا إليه أن يدفع أموال الزكاة زيادة على النصيب الشهري
المعلوم .وطلبنا إليه أن يبذل في المهمات ،وأن يخفض من نفقات عيشه الرفيه تدريجيا،
ويحول إلى الجماعة.
الجماعة المجاهدة ال تعتمد في نفقاتها إال على مساهمات أعضائها ،ثم على
تبرعات الشعب .ومتى كانت للجماعة أموال أسست بها أصوال تجارية وصناعية
وفالحية وغيرها حتى تستقل ماديا.
197
وعلى كل عضو أن يفتح صندوقا للدعوة حيثما أمكن .والتنظيم المالي للجماعة
يأخذ بعين االعتبار حاجات األسرة والشعبة وكل المستويات األخرى فيعطيها التصرف
في نصيب مما يتجمع .وضبط الحسابات على كل المستويات من أهم االحتياطات.
فالدقة تمشي مع األمانة .والفوضى مظنة كل فساد.
وحين تجتمع الدعوة والدولة في يد جند اهلل ،تكون أموال األمة ماال هلل ينفق في
وجوهه .لكن البذل يبقى البرهان األول لصدق الصادقين .وقد رأينا في الحديث الصحيح
أن «الصدقة برهان».
البذل تنظيما
المال والجهد عصب الدعوة ،وبذلهما التزاما بعهد ،وتطوعا بالخيرات ،هو المصدر
األول والوسيلة األولى لتربية العصبة الخيرة .والمال والجهد مستقبل الدولة أيضا.
التطوع:
نهب أموال المسلمين وال يزال ينهبها حكام الجبر ،ومن يسير في ركابهم ،ويأكل
من مائدتهم من الصنائع .طبقة مستكبرة نهابة.
هذه الطبقة الطفيلية المتسلطة تستأثر بخيرات المسلمين ،وتكون وسائط للنهب
األجنبي والتسلط .تستهلك وال تنتج ،ال تحمل الكل ،بل هي أصل الكالالت وسببها.
جهود المسلمين تسخرها لمصالحها ومصالح حلفائها الجاهليين.
األمة تتهيأ الستقبال عهد جديد ،عهد اإلسالم ،والحكم اإلسالمي والخير اإلسالمي،
واألخوة اإلسالمية ،والعدل اإلسالمي.
زحف المسلمين إلى الحكم هدفه استعمال سلطة الدولة لفرض الحكم بما أنزل اهلل.
198
وما أنزل اهلل في حق المجتمع هو العدل ،إو�نصاف المظلوم والمحروم.
فالظلم االجتماعي مما يزع اهلل بالسلطان ،طاعة هلل عز وجل في أمره لنا بالعدل،
فرضا بسلطان الدولة.
وتبقى فجوة واسعة ،فجوة الفقر والجهل والمرض التي يخلفها الحكم الجائر .وقد
برهنت األحداث على أن حكام الجبر ،سواء رفعوا شعار الليبرالية وتحالفوا مع غرب
الجاهلية ،أو فرضوا نظام القمع االشتراكي واستندوا لشرقها ،فشلوا الفشل الذريع في
ميدان االقتصاد وتوزيع الخيرات ،كما فشلوا أمام العدو الصهيوني الغازي وعلى كل
الجبهات.
مضى إن شاء اهلل زمن كانت الدعوة فيه لعبة في يد السلطان .وآن أن تصبح
الدولة في يد الدعوة سيفا به تدفع كيد العدو وتكف يد المستغل ،وآلة تصنع الخير والقوة.
ما اإلسالم والدعوة إلى اهلل وعظ وتأمالت .وال هما بعد الصحوة المباركة تأمالت
في األصلح ،ومعارضة عاجزة لحكم األمر الواقع الجبري .جند اهلل ينزلون إلى الميدان
يهيئون قبل الوصول إلى الحكم الخبرات والكفاءات الالزمة لتغيير ما باألمة من أمراض
ولتدبير شؤونها.
وبعد الوصول تعبئ الدعوة الشعب إلى جانبها إلنجاز المهمات االقتصادية
والحضارية واالجتماعية ،وسد الفجوات المتخلفة عن قرون الفتنة.
199
إلى جانب ما تفرضه الدولة فرضا ،ما يبذله المؤمنون بذال .إلى جانب طاعة
السلطان ،التطوع بحافز القرآن.
والعملية ،ليصنعوا مستقبل جند اهلل ينبغي أن يجمعوا طاقات األمة المالية
اإلسالم ،يوم يتعين الحل اإلسالمي ،حين تلفظ األمة كذابيها و مبيريها.
واستعدادا لذلك يلم جند اهلل طاقاتهم وجهودهم المتطوعة ،ويضعونها في خدمة
المستضعفين ،في خدمة الشعب ،وهو مادتهم التي ال تنضب بعد تأييد اهلل وسندهم على
األرض بعد سند اهلل.
تكون للجماعة مشاريع ،سرية أو جهرية حسب طبيعة المواجهة ومرحلة الدعوة،
في حقل جهاد التعليم حيث يصحب تعليم الهجاء تعليم القرآن ،وفي حقل مبادئ الصحة
واإلسعاف ،حيث يتعلم المستضعفون أن الطهارة اإلسالمية والعفاف اإلسالمي صون
لإلنسان دنيا وأخرى ،وفي حقل رعاية اليتيم والملهوف والبائس يكتشف المستضعفون
أن اإلسالم أخوة وعطاء.
الجهل والفقر والمرض أوبئة اجتماعية ال تذهب بالصدقة وال بالتطوع المنظم
وحدهما .وال تذهب أيضا ،واألمة حيث هي من التخلف ،بجهود الدولة ولو صلحت
وأمسكها المؤمنون .ففي انتظار اجتماع الدولة والدعوة في يد المؤمنين ،يبرز التطوع
كوسيلة من وسائل تحبيب اإلسالم ،والتعريف به والدعوة إلى اهلل .ثم يستمر التطوع في
سائر المراحل ،يهيئ ثقة الناس بالمؤمنين ،ويحرك عواطفهم إليهم ،والتفافهم حولهم،
وزحفهم خلفهم .ثم يستمر التطوع بعد قيام الدولة اإلسالمية نشاطا أساسيا مكمال لجهود
الدولة ،تعبئة شعبية إلنجاز ما ال تقدر عليه الدولة .والمهمات جسام وطوال.
200
الشعب من قدرة على البذل ،بذل المال والجهد.
يشعر المؤمن حين نضعه عند وفوده في مشروع تطوعي أنه عضو منتج صالح،
فهذا يقوي عزمه لما يرى من نتائج جهده .وهذا هو الجانب العملي الضروري في التربية
بعد الجانب اآلخر جانب التربية الروحية اإليمانية التعليمية التأليفية .يجب أال يترك
المؤمنون يركدون في صحبتهم ،منكمشين على أنفسهم .بل يدفعون إلى الميدان دفعا
من أول خطوة ،على أن ال يصرفهم الجهد الميداني عن المهمة الشاملة ،مهمة تكوين
شخصيتهم اإليمانية .العمل التطوعي الميداني جزء ال يتج أز من التربية ،لكنه الجزء ال
الكل.
نكف عن التفكير في الدعوة كأنها عالقة أفراد بربهم ليس غير ،ونكف عن
اعتبارها معارضة أبدية للحكم يكفيها أن تصرخ منددة بالباطل ،ونكف عن التفكير
بالذهنية القاصرة ذهنية التابع المحجور الذي ينتظر أن يهيئ له غيره الخبز ،ويدبر
أمر معاشه.
الدعوة إلى اهلل أول كل شيء نداء بالرجعة إلى اهلل عز وجل ،والسلوك إليه
وتحقيق العبودية له .ثم هي معارضة للباطل حتى تنقض بناءه ،ثم هي المسؤولة يوما
ما عن مسك زمام األمور ،وتسيير عجلة اإلنتاج ،وتدبير مشاكل الدولة ،إو�حالل العدل
والرخاء واألخوة في األمة.
التطوع الميداني يهيئ فرصة للمؤمن ليعرف مشاكل أمته ،ويلتصق بواقعها
ويعاني آالمها ،ويتهيأ لحمل أعبائها.
هناك في الشعب المسلم بطالة متفشية من جراء فشل الجاثمين على صدورنا .هذه
201
البطالة يمكن أن تتحول طاقات للبناء لو جاء العدل ،ودخل وسط الشعب أمناء أقوياء
يدهم في يد المحروم ،ومجلسهم معه ،ووجههم باسم في وجهه ،وأخوتهم مبذولة له،
عطاء من مال ووقت وجهد واهتمام إو�كرام.
من يعلم الجيوش الج اررة من الشباب الذي لفظته مدارس الفتنة وغيره ممن لم تفتح
له قط بابها؟ من يعالج أمراض مجتمع الفتنة الحسية والمعنوية؟ من يسد خلل الفقر
والبؤس الذي منه تدخل للناس سائر الرذائل؟
جند اهلل ال يكونون جندا هلل إال إن غشوا كل ميادين الجهاد ،السياسي منها
واالقتصادي واالجتماعي .خارج الدولة إبان الزحف ،وتحت مظلتها ودعما لها يوم
يصبح أولو أمرنا منا ،كتاب اهلل كتابنا وسنة رسوله منهاجنا وبرنامجنا.
مشاريع التطوع ينبغي أن تنظم ،فيدرب المؤمنون قبل أن يقذفوا للميدان ،ويكون
على نشاطهم إشراف مسؤول ،ويكون لعمل كل مؤمن تقويم وتشجيع يدفعانه لمزيد من
الجهد.
ويدرب جند اهلل على تحمل المسؤوليات حتى يقدروا عليها .ففي غد اإلسالم نكون
في حاجة ماسة إلى الخبير والمعلم واألستاذ والحاكم والعامل الذين يتركون المدينة
ورفاهيتها ،ليخرجوا للبادية ،يقودون اإلصالح الزراعي أثناء ما يعلمون الناس دينهم.
نكون في حاجة لرجال ينهضون من وسط الميدان ،جنبا إلى جنب مع الشعب ،بجهاد
البناء في ثقة وحماس وود.
دعاة فعلة:
نحن غدا بحاجة لدعاة فعلة ،ال لخطباء ملتهبين من فوق رؤوس الشعب.
202
دعاة فعلة .قلب مع اهلل ،ولسان الهج بذكره والثناء عليه والدعاء إليه ،ويد تصنع
في الطين ،وفي البيئة الملوثة تصلحها ،في مخلفات الفساد تميط أذاها ،في المهمات
الشاقة الدائبة اليومية جهاد.
يستعمل الناس كلمة «تضحية» ونستبدلها نحن بكلمة بذل النبوية .الذي يعبر عن
عمله بكلمة تضحية ينظر إلى عمله يستكثره ،ويمن به ،ويعظمه ،لينال رضى الناس.
والتطوع في الخير الذي نعبر عنه بكلمة بذل فتوة ترى فضل اهلل على أهلها أن أهلهم
لخدمة دينه والموت في سبيله.
وال معنى لعبارة الحل اإلسالمي إال ببذل شامل .ببذل العصبة المؤمنة مالها ووقتها
وجهدها وعرقها ونفوسها في سبيل اهلل ،ثم يسري البذل في المجتمع ليذيب الفروق
الطبقية ،والظلم االجتماعي ،ويحول البطالة عمال ،والكسل نشاطا ،والتواكل همة،
والتبعية استقالال.
سيسألنا الناس ،يسألنا الشعب ،يوم نصل إلى الحكم :بماذا أتيتم؟ أية خدمة؟ أي
تغيير؟ في حياتنا اليومية؟ في آمالنا؟ في كرامتنا؟ ما هو بديلكم عن اإلدارة الرشوية؟
عن االقتصاد االستغاللي؟ عن البوادي السائبة؟ عن المدن الفاسدة؟ عن األسواق
الكاسدة؟ عن األيدي العاطلة؟ عن التعليم الفاشل؟ عن الصحة الخربة؟ عن الشباب
المخدر؟ عن األمية والجهل الفاشيين؟ عن الخبز الذي نبتاعه بكرامتنا واستقاللنا من
خارج؟ عن أموالنا التي يبذرها السفهاء؟ وتطول الئحة البؤس حتى كأنها بال نهاية.
شبكة أسئلة من ورائها غابات من المشاكل.
لو كانت الدعوة معارضة أبدية لكفى أن نربي خطباء يصدعون بكلمة الحق في
المحافل ،وكتابا يعلقون على فشل اآلخرين في الجرائد.
لو كان اإلسالم قضية ضائعة ،يبرر أهلها ضياعهم ويسلون أنفسهم بعرض
المبادئ السامية ،لكفانا أن نحسن أساليب الخطاب للبكاء على ما ضاع.
لو كان اإلسالم ماضيا ال يرجع لكفانا أن نختار من بيننا من يتقن ترجيع الحنين،
والبكاء على األطالل.
203
لكنها معارك :إيجاد شغل للعاطل وخبز للجائع ،وتغيير اجتماعي ،وتوزيع عادل،
إو�دارة مجدية ،وصناعة تقنية ،وقوة تدفع العدو ،واقتصاد يحررنا من التبعية.
إنتاج وتوزيع ومستوى معيشة .تدبير ما كان غيرنا يدبره من صغير األمر وكبيره.
مع هذا الفارق الضخم ،وهو أنهم كانوا في هوي إلى أسفل العقبة والهوي سهل على
الهمم الساقطة ،بينما نحن يجب أن نصعد العقبة ونقتحمها .مخلفات تركوها .فساد على
كل المستويات.
كيف تكنس القاذورات؟ كيف ينظف البيت؟ كيف يعاد ترتيبه؟ كيف توزع
وظائفه؟ كيف تستصلح العناصر البشرية ذات الغناء والخبرة في خدمة الفتح
اإلسالمي؟
ال بد أن يستثمر خيراتنا غيرنا لمدة ريثما نقدر نحن على االستقالل ،كيف عالقتنا
بمن يستثمر؟
مهمات كالجبال ،تحتاج لرجال سامقي الهمم ،متوفري الخبرة ،قادرين على العطاء
بال حساب.
بذل.
دعاة فعلة ،متواضعون ،على مستوى المهمات اليومية ،بالصبر الدؤوب .وعلى
مستوى المهمات المصيرية ،بنفس الهمة ،والفعل الخبير ،والدقة والتواضع.
دولتكم يا جند اهلل لن تكون أعظم من استعدادكم للبذل ،كما أن الزحف لبنائها
لن يكون إال سرابا إن لم يدفعكم لساحة الشهادة في سبيل اهلل حبكم هلل تبذلون فيه
1
ع َخ ْي ارً فَ ُه َو َخ ْيٌر لَّ ُه}. مهجكم ،طاعة له وتطوعا .قال اهلل عز وجل{ :فَ َمن تَ َ
ط َّو َ
خير له في اآلخرة وخير لألمة منذ الدنيا.
1البقرة184 ،
204
شعب الخصلة
الشعبة السادسة والثالثون :الزكاة والصدقة
من النفقة في سبيل اهلل واجب وهو الزكاة .وبعد الزكاة واجب ما دام في األمة
حاجة ،ما دام فيها الفقير والمسكين ،ما دامت األمة غارمة يستدين بعضها من مصارف
اليهود أموال بعضها التي أودعها سفهاء الجبر هناك.
الزكاة تؤخذ بسلطان الدولة .وتصرف لتسوية الفروق الشاسعة بين المالكين األغنياء
والمتسكعين المحرومين.
الزكاة نسبة من رأس المال معلوم قدرها في العين -أي النقد -وفي األنعام وعروض
التجارة .وشرطها الحول .وبشرط الحول يتصور متصور أن األموال يحتفظ بها راكدة
حتى يمر العام .والحال أن المسلمين بحاجة ماسة لترويج أموالهم أقصى ترويج لتنتج.
شرط الحول فقه بالنسبة للفرد الذي يحسب حسابه ليؤدي حق اهلل في ماله .أما
الفقه الضروري لألمة فهو فقه ترويج األموال ،وتحريكها ،واستثمارها ،مع اقتضاء حق
الزكاة فيها .وهذا يطلب اجتهادا في زكاة األموال المستثمرة في الصناعة بما يشجع
رصد األموال لتوفير وسائل اإلنتاج وبناه ،دون أن يسمح لها بالهروب من أداء ما عليها
من حق.
هذا يطلب اجتهادا لتفتيت الملكية بما يكفل سد الثغرات الطبقية دون هدمها (أي
الملكية).
األمة في أزمة ،في حالة استثنائية ،مهددة من خارج بغزو العدو المحتل أراضينا
ونفوسنا وعقولنا .أموال المسلمين في يد السفهاء يلعبون بها ،وقد جعلها اهلل قيما لألمة
يجب أن تقبض األمة بسلطان دولة اإلسالم على أيدي السفهاء ،وتعمل على إعادة
205
التوازن بين األغنياء والفقراء.
المستكبرون المتسلطون على قيمنا يهربون األموال ،ويكنزونها ،وينفقونها على الترف
واللهو.
فغداة قيام الدولة اإلسالمية ينبغي تخطيط اقتصاد الكفاية والقوة بما يشبه ما يسمى
بلسان العصر «اقتصاد حرب» .يجب تعبئة األموال ،فال يسمح لطبقة أن تحتكرها ،وال
أن تهربها أو تكنزها أو تنفقها على الترف بل يشجع االستثمار المنتج.
نحن بحاجة إلى اقتصاد جهاد بدل اقتصاد البذخ المترهل .الزكاة بوصفها أخذا من
رأس المال تعيد قسمة األموال من أصولها .وقاعدة أخرى نبوية هي قاعدة بذل الفضول،
تأخذ األموال من أطرافها لتوزيع الثروة توزيعا عادال.
روى األمام مسلم عن أبي سعيد الخدري قال« :بينما نحن في سفر إذا جاء رجل
على راحلة له .فجعل يصرف بصره يمينا وشماال .فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
«من كان معه فضل ظهر (أي دابة زائدة على حاجته) فليعد به (أي فليعطه) على من
ال ظهر له .ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من ال زاد له» فذكر من أصناف
المال ما ذكره .حتى رأينا أنه ال حق ألحد منا في فضل».
السفر كان سفر جهاد فوجب التوزيع العادل .وقد فهم الصحابي الجليل أن أمر
النبي صلى اهلل عليه وسلم بذل الفضول بتلك اللهجة وفي تلك الظروف نزع لحق
المالك ،وظن الصحابي ترجيحا من جانبه لكون األمر كان عزمة نبوية .فنحن أولى
بهذا الظن ومصير األمة في خطر.
الزكاة حق اهلل ،وبذل الفضول عزمة نبوية في ظروف خاصة .فهما نصيب الطاعة
206
في إقامة العدل االجتماعي.
وبعد الحق المفروض ،والعزمة الالحقة بالفرض ،يأتي التطوع من صدقة يحب اهلل
مؤتيها ويثيب عليها ،ومن كرم يتحلى به المؤمن.
الصدقة التطوعية واإلنفاق والكرم بذل تكملة فقط لواجب الزكاة وبذل الفضول.
فالمجتمع اإلسالمي صلبه العدل المفروض ،ولحمته التطوع بالخيرات .قاعدة العدل
الواجب عليها يقوم الهيكل االجتماعي ،ثم يكسى هذا الهيكل ،ويجمل ،وينتعش،
وتدب فيه الحياة األخوية ،بالعطاء المحب.
ال تستطيع الدولة بسلطانها أن تعوض الناس عن الحنو األخوي والتعاون بينهم،
حتى ولو توفر لها من األموال ما تسدد به نفقات ما يسمى بلغة العصر دولة الرخاء
العام.
مال وزع بالقسطاس ،هذا عدل .لكن اإلنسان ال يعيش سعيدا بمقياس ما لديه من
مال .ال تقدر الدولة أن تنكب على الحاالت الشخصية ،وال أن تعطي مع الحوالة بسمة
ومساعدة محبة رحيمة.
في اإلسالم حق الزكاة تستخلصه الدولة ،وفي اإلسالم حق أخوي فرضه اإليمان،
تقتضيه يد الحاجة من اإلحسان الذي أمر اهلل به.
1النساء36 ،
207
ال يحب اهلل المتكبر المستعلي على المسلمين ،الشحيح بماله ،إنما يحب من ينفق
ليسد الخلة ،ويلبي الحاجة ،ويأسو الجرح ،ويكفل اليتيم ،ويرحم المسكين ،ويحمل الكل،
ويعين على نوائب الحق.
ال تنفصل الدعوة ووازعها عن الدولة وسلطانها في حياة المسلمين حين يستقيم لهم
األمر .كالهما تكمل عمل صاحبتها .السياسة والخلق ،اإلدارة والتطوع ،العقل والقلب.
بر األقارب ابتداء بالوالدين واجب .ويعتبر اإلسالم منع ذوي الرحم من بر المسلم
من الفظائع .ويعتبر قطع ما أمر اهلل به أن يوصل من الموبقات .مال اليتيم له الحرمة
القصوى .األرملة ،والبنت ،والمعسر ،وذو الكربة ،والملهوف ،فرص ليتقرب المحسنون
ببرهم إلى اهلل .ثم هنالك العطاء على اإلسالم وتأليف القلوب عليه.
كان اإلمام عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه يرى بعد أن عز اإلسالم أن ال مجال
لتأليف الناس بالعطاء .وفي عصرنا يتشوف المستضعفون من الشعب أول ما يتشوفون
إلى عدل يقيم أودهم ،وينتشلهم من بؤس الجهل والفقر والمرض .ولن يستمع المحرومون
المستضعفون لكلمة اإلسالم إن كان اإلسالم ال يعطي خب از وشغال ومستشفى ومدرسة
وكرامة.
208
الشعبة التاسعة والثالثون :إطعام الطعام
أولى الضروريات بالنسبة للفرد غذاؤه اليومي .وأولى الضروريات بالنسبة لألمة
أن تنتج غذاءها في دارها فال تحتاج أن يساومها بالشعير والقمح غذاء الشعب وال
بالمنتجات الرافهة من ينتجون حين نكتفي باالستهالك ،ومن يملكون الخبرة والقدرة على
العمل إو�رادة العمل وتنظيمه حين ال نملك وال نقدر وال نريد.
تبذر أموال األمة على شهوات طبقة المترفين المستكبرين والشعب المسلم في بؤس
ويبنى عندنا اقتصاد هامشي ،فالحة وصناعة وتجارة إلرضاء الشهوات على حساب
هذا البؤس.
يعاد عند قيام الدولة اإلسالمية بناء الهياكل االقتصادية لضمان الضروريات
قبل الحاجيات حسب تعبير فقهائنا .ثم ينظر بعد هذين في التكميليات ،يبنى اقتصاد
ينتج للشعب ويخدم الشعب ،يعطي األمة استقاللها ،ويهدف القوة ال التكاثر عند
طبقة مترفة.
يبقى إطعام الطعام على صعيد الحياة اليومية بين المؤمنين سنة نبوية ونستبدل
بالموائد العادية في حياة الغافلين والراتعين ،الحافلة باألطايب من كسب يعلمه اهلل،
سفرة األخوة على القناعة واالكتفاء .فإن االشتراك في الطعام ،وباآلداب النبوية ،مما
يؤلف اهلل به القلوب.
وليكن إطعام الطعام وسائر أنواع البذل المذكورة في هذه الخصلة ،عطاء من
الدعوة ووسيلة إلبالغ رسالتها .ليكن أول ما يراه المستضعفون من الجماعة َّبرها الواصل
واهتمامها الفاعل.
209
نق أر في سيرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وسيرة أصحابه البررة ،في حياته وبعد
وفاته ،أمثلة ناصعة لإليثار وقسمة المال .كانت أموال المسلمين تقسم عليهم من بيت
مالهم باألمانة العادلة .ثم يشيع المال الخاص من األيدي الرحيمة التي ال تمسك وال
تعرف إمساكا على البائس الفقير.
هذه قصة واحدة من قسمتهم رضي اهلل عنهم .روى ابن سعد عن أم درة قالت:
«أتيت عائشة بمائة ألف .ففرقتها وهي يومئذ صائمة .فقلت لها :أما استطعت فيما
أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت :لو كنت أذكرتني لفعلت»!
في عصر األنانيات ما أحوجنا أن نتخلق بأخالق من ينسى فطوره ويعطي بال
حساب!
210
الخصلة الخامسة
العلم
العلم تربية
علم الفقيه منا ينفع إن برز من قلب خاشع ،وتمثل وعظا صادقا تتفتح له قلوب
المؤمنين ،أو تمثل فتوى على بينة ،التزم بها هذا أو ذاك ممن يراقب اهلل من المسلمين
ويرجو اليوم اآلخر.
إو�نما ينفع علم الفقيه األمة يوم يتكامل نظرة شاملة عن الكون وخالقه ،واإلنسان
ومصيره ،والتاريخ وسنة اهلل فيه ،واإلسالم وحركته في الزمان والمكان ،وواقع المسلمين
وأسباب تخلفهم ،وضرورة تجديد دين األمة ومنهاجه ،والعقبات الخارجية والداخلية،
النفسية واالقتصادية واالجتماعية أمام هذا التجديد ،والزحف الذي يوصل جند اهلل
إلى الغلبة والنصرة وتنظيم الدولة اإلسالمية وتوحيد المسلمين ،وتأهيل األمة لقيادة
العالم وحمل الرسالة.
نحتاج لتصور إسالمي لكل هذا ،تصور تكون روحه وباعثه ودليله العبودية هلل
تعالى ،ويكون مدده ومادته ما يستنبطه العقل المؤمن المتخصص من كتاب اهلل وسنة
211
رسوله وناموسه في الكون.
ونواميس اهلل في الكون قدر على مقتضاه يسوس اهلل عز وجل مملكته ،فبإتقان
علوم تلك النواميس نكون قد أعددنا القوة التي أمرنا بإعدادها ،فاستحققنا الخالفة في
األرض.
ما منا إال من يقول في معرض التحدث والتساؤل عن العمل اإلسالمي ومنهاجه،
ينطق بهذه العبارة الصارمة« :كتاب اهلل وسنة رسوله».
ال مراء أن المحفوظ من حفظه اهلل من الشك في هذا .بيد أن الكتاب والسنة أصالن
سماويان .فهما في منتهى الكمال إذا اعتبرناهما مجردين .فإذا نزلنا إلى الميدان،
وشهدنا الناس في قابليات الفهم ،إو�رادة الجهاد ،واإلخالص فيه ،وجدنا أن تصور كل
للكتاب والسنة يخالف تصور اآلخرين .فكلما قيل جوابا عن تساؤلنا على عتبة العمل:
«الكتاب والسنة» ،قلنا« :الكتاب والسنة نقل» فبأي عقل وبأية إرادة نحن مقبلون
على تطبيقهما؟.
علم هو بالجهل أشبه إن عمدنا إلى الكتاب والسنة نستنطقهما بذهنية لم تستكمل
وسائل العلم ،فهي تنظر إلى ذلك الماضي النير بحنين ومحبة ،حتى إذا دعيت لمواجهة
الحاضر وتخطيط مستقبل اإلسالم ،انكفأت عن كآبة الحاضر وشره ،وانغلق فهم التاريخ
عليها ،فلعنت ،واستعاذت باهلل ،وبررت بلعناتها االنزواء.
وعلم هو عين االنسالخ من آيات اهلل حين يرضي عالم السوء الناس بما يسخط
اهلل ،يريد ما عند الناس فتزل به القدم ،فال ينتبه إال وقد أصبح لعبة للشيطان.
212
العلم النافع:
ليس العلم النافع ما تكدست فيه النقول ،وقل الفهم ،وانتكست اإلرادة .قال مالك
رحمه اهلل« :ليس العلم بكثرة الرواية .إنما العلم نور يضعه اهلل في القلب» .نور! وروى
اإلمام أحمد عن أبي جحيفة قال« :سألنا عليا رضي اهلل عنه هل عندكم (يعني آل
البيت) من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شيء بعد القرآن؟ قال ال والذي فلق الحبة
وب أر النسمة! إال فهم يؤتيه اهلل عز وجل رجال في القرآن» الحديث .فهم!
العلم فهم العقل الخاضع لجالل اهلل ،ونور في قلب من أيده باإلرادة الجهادية.
-1في مسيرة جند اهلل فقه وفير نزل إلينا من تاريخنا العلمي الحافل .يجب أال
يكون الخالف على اجتهاد سلفنا شغلنا ،لكن االستفادة من مناهجهم في االجتهاد،
نتمرس لنتجاوزها ونستقي من المعين الذي استقوا منه .فإلى تلك الرجولة ينبغي أن
نهدف ال إلى الحومان حول ما قالت أجيال من سبقونا باإليمان رحمهم اهلل.
ما كلنا يستطيع النظر في كتاب اهلل وسنة رسوله ،فال أقل من أن نغلق أبواب
الخالف العقيم .قال اإلمام البنا رحمه اهلل في أصوله« :وكل واحد يؤخذ من كالمه
ويترك إال المعصوم صلى اهلل عليه وسلم .وكل ما جاء عن السلف رضوان اهلل عليهم
موافقا للكتاب والسنة قبلناه ،إو�ال فكتاب اهلل وسنة رسوله أولى باالتباع .ولكننا ال نعرض
لألشخاص فيما اختلف فيه بطعن أو تجريح ،ونكلهم إلى نياتهم ،وقد أفضوا إلى ما
قدموا» وقال« :لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة األحكام الفرعية أن يتبع إماما
من أئمة الدين .ويحسن به مع هذا االتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلة إمامه،
وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صدق من أرشده وكفاءته ،وأن
يستكمل نقصه العلمي ،إن كان من أهل العلم ،حتى يبلغ درجة النظر».
-2ما نزل إلينا من اجتهاد حافل ال يكاد يتجاوز الفقه العبادي الفردي والمعامالت
االجتماعية .عكف فقهاؤنا رحمهم اهلل على ذلك بعد أن عزلهم السلطان عن الحياة
العامة ،وأفردهم للفتوى في شؤون الناس اليومية.
213
جل ما عندنا من فقه سلفنا الصالح فقه فروع ال نستغني عنه.
لكن الذي نحن بحاجة إليه هو الفقه الكلي الذي يشمل كل العبادات الفردية
والمعامالت الجزئية ،في نسق واحد يؤدي وظيفة إحياء األمة إو�عادتها إلى حضن
الشريعة وصراط اهلل.
تقلصت الشريعة تحت الحكم العاض والجبري حتى أصبح اليوم مجالها ال يتعدى
ما سموه باألحوال الشخصية من زواج وطالق وميراث ،أو ما بقي في المسجد من وعظ
وتذكير ،وفي ذمم األفراد من صالة وزكاة وحج.
العلم الكلي النافع الذي نحتاج إليه هو ذاك الذي يخط لنا ويعلمنا كيف ننفذ حكم
اهلل في إقامة الدولة وتسييرها ،في تنظيم المجتمع إو�قامة العدل فيه ،في تربية وتنظيم
جماعة المؤمنين ،في إدارة شؤون المسلمين إنتاجا وتوزيعا ومعالجة للمعايش ،في إدارة
االقتصاد ووظائفه ،في جعل أمور األمة شورى بين رجالها من أهل الحل والعقد ،في
تنظيم االجتهاد الستنباط أحكام اهلل من كتابه وسنة نبيه لهذا العصر ولهذه الشعوب
الموزعة في األرض ،وبهذه الوسائل المتاحة ،ولهذا الهدف الذي أصبح قبلة لإلرادات
الجهادية المتجددة.
-3واجب على كل مؤمن أن يأخذ من العلم بقدر ما يقيم به فرضه وسنته .ويتوسع
في فقه الشريعة ما أمكنه.
وبعد فرض العين هذا الذي يكون الحد األدنى المشترك بين جند اهلل ،ويدرس جماعة
وبالتدريج ،يتعين على ذوي الكفاءات واالستعداد التفرغ لكسب العلوم التخصصية.
والقيام بها في حق الكفء فرض ثابت .فهذه العلوم التخصصية ،ما كان منها تعمقا
في علم الحق ،وما كان منها مهارة وخبرة عمليين في شؤون الصناعة والتكنولوجيا ،أو
نظريا من علوم العصر ،ضرورية لحياة األمة ،مفروض عليها أن تتخذها.
فمن العلوم العينية كتاب اهلل عز وجل تالوة حفظا وفهما ،وسنة رسوله صلى اهلل
عليه وسلم دراسة واتباعا ،إو�تقان لغة القرآن لمحاربة الهيمنة الثقافية األجنبية واحتاللها
214
عقول أبنائنا وميادين حياتنا .في أول عهد الوارد علينا نوجهه لكتب الفقه المبسطة
حتى يأخذ منها نصيبه .وفي نفس الوقت نحضره ونحضر معه حلقات في المسجد
لدرس القرآن والحديث والسيرة ،وتنظم هذه الدروس بحيث يستفيد منها العامة على
مستواهم ،ويجد فيها جند اهلل مزيدا من العلم كل على درجته .القرآن بتفسير أو
تفسيرين ،ويتوسع العالم .البخاري ومسلم مباشرة بالشروح المعتبرة .وأثناء ذلك يتعلم
جيل التجديد لغة القرآن ولغة السنة .فاللغة العربية ،تلك الصافية المتينة ال لغة
الجرائد ،هي اآللة والوسيلة لفهم ما أنزل علينا بلسان عربي مبين .فال بيان إال بها،
أي ال وضوح.
ومن علوم الكفاية اللغات األجنبية ،والعلوم التجريبية التقنية ،وعلوم التنظيم
واإلدارة ،وعلوم السياسة واالجتماع .ونجرد كل هذه العلوم مما علق بها من مباشرة
الجاهليين لها .وما تنطوي عليه مما يسمونه بعلوم اإلنسان ،واإلديولوجيات من فلسفة
كافرة ،وتصور مادي نطلع عليهما لندحضهما في نقاشنا للمغرورين المضللين من
أبنائنا.
وفي مرحلة تابعة نطوع كل هذه العلوم ونحذقها ،لتنهضم في جهازنا العلمي،
وتنصهر في بوتقتنا ،وتخدم أهدافنا.
هما ذهنيتان عندنا عقيمتان .الذهنية الرعوية ،ذهنية شعب درج على الخنوع
للحاكم .ثم الذهنية اللفظية التقليدية التي تمأل أركانها ألفاظ غير محدودة المعاني ،ال
تصورات واضحة وأفكار هادفة.
المنهاج النبوي يجمع لنا بين نور القلب الذي يصدق بالحق ويخضع له ،وبين فهم
العقل المنضبط بالعلمية ،والتجربة ،والدقة في الحكم .بهذا العقل فقط يمكن أن نبني،
215
وبذلك القلب فقط يكون البناء إسالميا على هدى من اهلل.
العلم تنظيما
وحدة التصور:
أول العلم التوحيد ،يتلوه عبادة اهلل سبحانه .وحدة العقيدة تلزم وحدة المعبود .وهذه
تلزم وحدة السلوك اإليماني ،ووحدة الوالية ،ووحدة الغاية والهدف.
عقيدتنا الموحدة تقتضي منا أن نسعى لتوحيد األمة ابتداء من توحيد الجماعات
القطرية .إذا كان أمر اهلل لنا واحدا ،ومسؤوليتنا عن تنفيذه واحدة ،إو�رادتنا تنفيذه
صادقة ،فمآلنا أن نتوحد لنكون تلك األمة المنعوتة بالخير ،الشاهدة على الناس
بالقسط .الذي يعوق التوحيد هو:
-1ما ط أر على الكتاب والسنة وتفرع عنهما من شروح واجتهادات القرون .فروع
االجتهاد الفقهي العبادي وهو أكثره ،ومذاهب أصول الدين وأصول الفقه ،تمثل كتلة أمام
ناظرنا تحجب عنا األصول .فلكل مذهب وفئة مخلفاتها من االجتهاد.
-2اختالف المؤمنين المعاصرين في درجة الفهم والقدرة على النظر .فلكل جماعة
من المسلمين المجاهدين نظرتها لإلسالم ومقاصده ،والجهاد ووسائله ،والزحف ومراحله.
1حممد19 ،
216
-3ما يغشى هذه اإلرادات البشرية من فتور يدعو لمسالمة الواقع ،أو حماس
مندفع يريد القفز إلى المستقبل قبل أن يوطد أقدامه في الحاضر ،أو نفور وتنافس بين
األشخاص ،أو حب للظهور والرئاسة وغلبة الخصم في الحجة.
هذه العوامل الثالثة مجتمعة متشابكة ،يغذي بعضها بعضا ويعوضه .فاستصالح
اجتهاد فقهائنا األقدمين في الفروع ،وتوحيده ،إو�دماجه في اجتهاد مجدد كلي ،ضرورة
وواجب كفائي به نتجاوز الخالف في النقل.
وقابلية التعلم باالنفتاح العقلي والثقة بمن لهم القدرة على النظر ضرورة وواجب
في حق جند اهلل.
جند اهلل ينبغي أن يكون لهم نفس الفهم لمهماتهم ،وهذا يقتضي أن يرجع الواحد
إلى إخوته للتشاور في األمور العارضة ،في إطار مخطط للعمل ،يعرف كل خطوطه
العريضة ووسائله وأهدافه .وقد َّ
بينا طريقة الحسم فيما فيه الشورى.
إذا شرعنا في عمل جماعي قبل أن نتفق على تصورنا للعمل من كل جوانبه،
فأدنى خالف يوقفنا ،وسنختلف على كل شيء ،ومن ثم سنعجز عن االستمرار ،ونقف،
ونفشل ،ونرتد إلى فرديتنا وغثائيتنا األولى .نعوذ باهلل من النكسات!
ذهنيات:
استعرضنا الذهنية التبسيطية المركبة على نفسية راضية عن ذاتها تشير إلى الغير
بأصابع االتهام ،وتعيث فسادا بأفكار صبيانية ساذجة.
217
هذه الذهنية المبسطة واثقة عادة من نفسها ،تنسب الخطأ لكل ما خالف نظرتها
الضيقة ،وتنخدع ،وتتعصب.
فحين نحتاج لعقول نيرة شجاعة تكشف غامض الحاضر وترتاد إمكانات المستقبل
وتشق الطريق للعمل ،تعترضنا هذه الذهنية المالزمة لتلك النفسية فنسقط في الجدل
العقيم ،القاتل لإلرادة ،المثبط للعزائم.
استعرضنا الذهنية الذرية التي ال تنظر إلى ما في أمور الشريعة والحياة من
ارتباط ،ال تستطيع تصور اإلشكالية المركبة من تداخل السياسة ،واالقتصاد ،والتربية،
واالجتماع ،والوضع الداخلي والخارجي ،والظرف المكاني والزماني ،وتطور األحداث،
ووجود التناحر على الهيمنة وتنازع البقاء بين أقوياء األرض ،وضرورة وحدة المسلمين،
واالستناد لكتلة المستضعفين في األرض ،وعزائم الشريعة في كل هذا ورخصها،
ومقاصدها ووسائلها ،وقواعدها في حالة الرخاء وحالة االضطرار .إلى آخر ما هنالك.
هذه الذهنية عاجزة عن تصور عمل إسالمي في نسق منتظم على منهاج يرتب
الوسائل لتبلغ األهداف ،ويرتب المراحل واألولويات ،ويترك في حسابه مكانا للمرونة
عند الطارئ المفاجئ والضرورة الغالبة.
قبل قيام الدولة اإلسالمية نحتاج لعقول استوعبت المنهاج لتضع الخطة في
عمومها ،وتهيء في إبانه برنامج الحكم الصالح للتطبيق ،المؤسس بنيانه على تقوى من
اهلل .دراسات ،وملفات ،وبنى االقتصاد ،ومؤسسات الحكم تعاد صياغتها ،إو�حصاءات
وتدبير معاش الشعب.
218
وبعد قيام الدولة اإلسالمية يجد جند اهلل أن لهم رجاال بالحجم الكافي والنوعية
الممتازة ،ألخذ الزمام ،إو�حالل شريعة اهلل في كل المجاالت محل القوانين الوضعية،
ولتسيير دواليب الحكم في حركة متناسقة ،منسجمة ،مجدية ،ناجحة.
الذهنية التي تتصور الدعوة معارضة أبدية ونقدا واتهاما تقف عند حدودها .ال
تستطيع أن تعيش إال وسط الفتنة التي من كشف عيوبها وآثامها تتغذى.
فإذا اقترحت على إخواننا ممن لهم هذا التصور أن يتخيلوا ما أمام اإلسالميين
من أهوال االضطهاد ،وصعوبات الزحف ،وأوحال وآثام غرق فيها المسلمون وال بد من
تشمير السواعد الطاهرة لرحضها وتطهيرها وكنسها ،فزع واستعاذ باهلل .ثم خنس إلى ما
به يأنس من تزكية النفس واتهام المسلمين.
الحكم يلوث .وال بد لجند اهلل يوما أن يدخلوا في صرب (كلمة فصيحة) الفساد
ليرحضوه .وال بد أن يتدرجوا في نفي مخلفات الفساد ،وهذا يعني أنك يا حبيبي يا من
تتصور الجهاد فسحة إو�قامة الدولة اإلسالمية نفحة قدسية مالئكية ،ستتحمل إن شاء
اهلل ريح النتانة ورشاشها على ثيابك البيضاء وأنت تنقل العفونات وتضمد الجراحات.
االجتهاد الجماعي:
لكي يكون لجند اهلل تصور واحد للخط العام ،واجتهاد واحد لما يطرأ ،وشورى لها
حد تنتهي إليه قبل أن تصبح جدال ،ال بد أن ينبري لالجتهاد جماعة من المؤمنين.
إن مشاكل العصر ،وتشعب مهماتنا ،ومخلفات النقل ،واختالف اإلرادة والعقل ،ال
ينهض لها مجتهد واحد وال أفراد مجتهدون .ال بد من اجتهاد جماعي .ال بد من مجلس
لالجتهاد .ويبقى لألمير الكلمة األخيرة فيما شجر من خالف بين المجتهدين ،ليرجح
حيث عجزوا عن توحيد النظرة .فإن الرسول صلى اهلل عليه وسلم جعل االجتهاد للحاكم.
واألمير هو الحاكم األول ،إو�نما يجتهد من دونه بتكليفه ،ونيابة عنه ،وسدا لواجهة هذا
الفرض الكفائي –فرض االجتهاد -الذي ال يقدر عليه األفراد مع جسامة المهمات،
وغموض المسالك ،وثقل التحمالت .روى اإلمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن أن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران إو�ذا
219
حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد».
مقدمة سنن اإلمام الدارمي تصور لنا أن االجتهاد عند السلف الصالح كان فطريا.
فلما تجدد في األمة فجور تجددت لها أحكام كما قال اإلمام عمر بن عبد العزيز.
وأثل لنا سلفنا الصالح من علماء األمة أصوال في االجتهاد ،فبنوا على الكتاب والسنة
واإلجماع ،واختلفوا في القياس والمصالح المرسلة وعلّية األحكام.
ما كلف اهلل عز وجل نبيه صلى اهلل عليه وسلم أن يطبق كل الشريعة دفعة واحدة
وهو المؤيد المعصوم .إنما نزلت الشريعة تباعا ،فانتقل الناس من جاهلية إلسالم .كذلك
الرجعة من فتنة إلسالم .ال بد فيها من تدرج .تدرج للضرورة ال إنكا ار أن هذا حرام وهذا
مكروه ،وهذا مندوب.
سألت أخا ذات يوم« :ما تفعل بهذه األبناك الربوية وهذا الفساد في األمة لو
أصبحت غدا صاحب األمر؟».
1األنعام119 ،
220
قال األخ الصالح« :أوقف كل شيء وأدعو اهلل أن يفتح!» قلت« :إذن ال تدوم
دولتك أكثر من ثالثة أيام! ،ثم إنك تكفر بسنن اهلل عز وجل الذي جعل من نواميس
الكون التدرج ال الطفرة ،وأوجب عليك اتخاذ األسباب األرضية في جهادك ،ال طلب
الكرامة والمعجزة فيما يخرق نواميسه».
روى اإلمام أحمد أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :فما رأى المسلمون
حسنا فهو عند اهلل حسن» .وعند ابن ماجه قوله صلى اهلل عليه وسلم« :إن أمتي لن
تجتمع على ضاللة .فإذا رأيتم اختالفا فعليكم بالسواد األعظم» صححه السيوطي .وفي
الحديث مبدأ األخذ برأي غالبية المجتمعين.
فذكر جماعة في الحديثين فمتى اجتمعت عصبة من العلماء على اجتهاد كان
أقرب أن يكون اجتهادهم شرع اهلل .بسلطانين اثنين :أولهما سلطان أنهم حكام اجتهدوا،
وبسلطان كون اجتهادهم جماعيا.
نعم األمثل أن يجتمع أفذاذ علماء األمة كلها من كل األقطار لهذا االجتهاد .لكن
االضطهاد ،واالحتواء ،والتخويف ،وتسرب علماء السوء إلى المحافل المختلطة يعوق
دون ذلك .فما كان اجتهادا رسميا في الفروع اجتمع عليه علماء المسلمين ،ورضيه
الحكام ألنه ال يصدم مشروعهم التسلطي ،قبلناه .ثم يستقل كل قطر باجتهاده الخاص
حتى يأذن اهلل بكسر السدود وتوحيد األمة.
االجتهاد الجماعي عند سلفنا الصالح نجد أمثلة له عند اإلمام الدارمي في سننه.
روي عن ميمون بن مهران قال« :كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في
كتاب اهلل ،فإن وجد ما يقضي بينهم قضى به ،إو�ن لم يكن في الكتاب ،وعلم من رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال :أتاني
كذا وكذا ،فهل علمتم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما
اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيه قضاء .فيقول أبو
221
بكر :الحمد هلل الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا .فإن أعياه أن يجد فيه سنة من
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم .فإذا اجتمع
رأيهم على أمر قضاه».
اإلمام الصديق رضي اهلل عنه ال يأنف أن يسأل .أمانة وقوة .فالخائن ال يتورع عن
الزعم الظني ،والضعيف ،لجهله وطلبه حفظ حرمته ولو بالباطل ،ال يعترف بالصواب
إن جاء من غيره .ثم يسأل اإلمام الصديق رؤوس الناس وخيارهم .ال يوسد األمر إلى
غير أهله .فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضاه .قياس إو�جماع.
وروى اإلمام الدارمي عن المسيب بن رافع « :كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها
من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أثر اجتمعوا لها وأجمعوا .فالحق فيما أروا! فالحق
فيما أروا!».
وروي عن حميد قال« :قيل لعمر بن عبد العزيز :لو جمعت الناس على
شيء! فقال :ما يسرني أنهم لم يختلفوا .قال :ثم كتب إلى اآلفاق ،أو إلى األمصار،
ليقضي كل قوم بما اجتمع عليه فقهاءهم».
ترك الخليفة الراشد أمر االجتهاد لكل مصر ،ولم ير في الخالف بأس .كذلك نحن
في أقطار التجزئة ما دمنا في مراحل الزحف قبل الوحدة.
شعب الخصلة
الشعبة الحادية واألربعون :طلب العلم وبذله
مصير اإلنسان بعد الموت متوقف على استجابته لداعي اهلل أو إعراضه .فعلم
الحق ضروري له ليعلم كيف يصل إلى السعادة األبدية عند اهلل.
ومصير المجتمع اإلسالمي وسط التدافع التاريخي متوقف على قدرته أن يخترع
222
الوسائل الكفيلة بتوفير معاشه ووسائل الدفاع عن نفسه.
عندما ينتبه جند اهلل إلى خطورة التحديات التي تواجه جهادهم يجدونها دائرة حول
ثالث ثغرات في الكيان المسلم المبعثر المنحط حضاريا ،المهزوم عسكريا:
-1الثغرة األولى :غياب القوة االجتماعية الوحيدة القادرة على إنقاذ األمة عن
ساحة الحكم .أال وهي القوة اإلسالمية الفتية التي انتظمت في بعض األقطار ،وهي
في طريقها إلى االنتظام بإذن اهلل في أقطار أخرى .وعندما يكلل اهلل زحف المؤمنين
فيصلون إلى الحكم تسد الثغرة األولى بوجود اإلرادة المؤمنة في مكان القيادة .هذه
اإلرادة المستنيرة بعلم الحق من كتاب اهلل وسنة رسوله .وعندئذ يستبدل شيئا فشيئا بقانون
الوضع شرع اهلل ،وفكر التقليد للجاهلية بعلم اإليمان ،والفلسفات واإلديولوجيات األرضية
بعلم الحق الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه.
-3الثغرة الثالثة :غياب التماسك بين أجزاء األمة التي تذهب طاقاتها ومواردها
وحريتها في الحروب بين هذه األقطار الفتنوية .منافسات واضطراب وعدم استقرار.
وهذه الثغرة ال يسدها إال العلم باهلل الذي يأتي نتيجة عن تربية إيمانية تصوغ من
المؤمنين المشتتين جسما عضويا واحدا .نتماسك عند رجوعنا إلى علم الحق ال األنظمة
الفكرية الجاهلية.
العلوم التي يتعين على األمة أن تطلبها ،وتبذلها ألجيالها وتنشرها فيهم ،هي تلك
التي يحركها روح العلم باهلل وبسنة رسوله .فالخير كله في الفقه في الدين ،وما يأتي بعد
الفقه في الدين فهو وسيلة لخدمة مقاصد الدين.
إنما الدين النصيحة ،والنصيحة بذل للعلم .فتحدي اإلنتاج والتوزيع ،وتحدي
القوة العسكرية والتكنولوجية ،وتحدي الوحدة والتماسك واالستقرار ،لن يجاب عنها إال
223
بوضوح النصيحة هلل ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم إو�مامهم .لن يجاب
عنها إال بالعبودية هلل .ال خير إال في عالم ومتعلم يعمالن بعملهما ،فهما فقط يمكن
أن يقيما الدين بإقامة النصيحة على كل مراتبها .فإن لم يكن للمسلمين إمام فالعالم
والمتعلم –أي رجل الدعوة– هم األرجى أن يعلموا األمة كيف تتحرك لتقيم منها إماما.
ليس فقه العبادات وحده هو فقه الدين ،لكنه من أهم جوانبه إن تفرع عنه علم يغير
المجتمع .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي
عن ابن عباس« :فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد».
إسالم قاعد في المسجد محوقل خير منه ألف مرة إسالم مجاهد .ففقه هذا اإلسالم
هو الفقه ،والعبادة صلبه وروحه.
تدهورت مدارسنا تدهو ار شنيعا .مناهج تعليمنا وضعها االستعمار ،فهي ال تزال
امتدادا له .بل أشد االستعمار وأنكره فينا هو االستعمار الثقافي.
رحلت بعد االستقالل الصوري أعداد كانت جراثيم مجسدة على أرضنا ،وحلت
محلهم أعداد من الخبراء واألساتذة والعسكريين والمستشارين لحكام الجبر ،هم أنكى
فينا ،الستيالئهم المبرمج على عقولنا ،وألسنتنا ،ومراكز التوجيه في أجهزتنا .فهذه
الجراثيم المعنوية أنكى فينا.
التعليم عندنا حكر على األغنياء والمحظوظين لدى األوساط المستعمرة ،العاتية فينا
بمدارسها ،ومراكزها الثقافية ،ومكتباتها ،وكتبها ،وجرائدها ،ومجالتها ،ومنحها الدراسية،
224
وندواتها المميعة ألخالقنا ،الطامسة لديننا.
بآداب إسالمية نعيد إن شاء اهلل للعلم حرمته ،وللمدرسة والجامعة وظيفتهما،
ولعملية التربية والتعليم هيبتهما ،ولعالقات التعليم بين عالم ومتعلم سلوك اإليمان
والثقة والمحبة والصحبة .نطرد فسقة القراء من منابر التضليل ،وشياطين الجاهلية
من مراكز التأثير .ومن اإلعالم نطرد صوت الميوعة واالنحالل والكذب ،ليسمع
صوت الرجولة والجهاد.
نترك إن شاء اهلل الجدل ،ونتيح الفرصة لمن له قابلية التعلم ،ونشجعه لتستفيد األمة
من كفاءته .تعليم للشعب المستضعف ال للنخبة المترفة.
في مساجدنا إن شاء اهلل تحيى مجالس اإليمان والعلم والحكم .وفي بيوتنا وشوارعنا
ترفع كلمة الحق أن ال إله إال اهلل فقد جاء الحق وزهق الباطل.
المؤمنون فرادى يتسابقون إلى هذا الخير .والحكومة اإلسالمية تجمع الجهد ،وتقنن
هذا الشرع النبوي ،فتجعل القرآن الكريم أول ما يدخل جوف الصبي .إن دخل جوفه
225
النور فأحرى به أن ينشأ مهتديا .هذه األمراض النفسية التي تصيب األطفال والشباب
والكهول ناشئة عن أوبئة النزغ الشيطاني .والقرآن ،وهو شفاء لما في الصدور وهدى
ورحمة ،درع تقي المؤمنين من ذلك النزغ ،وبلسم يداوي جراح الفتنة السابقة ،ويهيء
المحل ،وهو قلب الصبي وعقله ،لتلقي بذرة اإليمان والرجولة.
هذه الميوعات في برامج التعليم وكتبه وأساليبه ومضمونه يجب أن تطرح ليخلفها
القرآن ،لفظه ومعانيه ،وعظه وقصصه ،أحكامه وشرائعه ،عوالمه الدنيوية واألخروية،
األرضية والسماوية.
من محضن الصبيان ،إلى مدارس الفتيان ،إلى جامعات الرجال ،يكون حفظ
القرآن ،والعمل بالقرآن ،وتعليم القرآن ،واالحتفال بالقرآن ،صلب التربية والتعليم.
وبأمر اهلل في القرآن ،وقد وعاه الفتى من صباه ،تنبعث رغبة األمة في اكتساب
وامتالك علوم الكون واالستقالل بها .وأين متعلمونا –حتى من نجا منهم من عملية
التمييع والعرقلة واستقطاب الجاهلية ألذكيائنا -في تفاهتهم من رجال المسلمين
وعلمائهم الذين كان أصل تكوينهم ومحوره القرآن ،وكان منهم أفذاذ في علوم الكون
أثلوا المجد العلمي لإلنسانية؟
إن كان المسجد مركز إشعاع التعليم ،والقرآن غذاء الصبي األول ،وزاده كل حياته
فستنبعث فينا أجيال مصونة إن شاء اهلل ،لن تستفزها المحرضات ،ولن يغريها الكسب.
بل تكتشف في سن مبكرة أن ال عيش إال عيش اآلخرة ،وأن الجهاد في سبيل اهلل
هو الخطة المثلى ،والهدف والمشروع ،الصالح للنفوس الكريمة .والقرآن الكريم تتشربه
الشخصية الغضة الفطرية هو وحده يعطي النفوس كرامتها ،ويهديها فطرتها.
جند اهلل يسمعون كالم اهلل فينفذون أمره ،ويحفظونه ليناجوا به موالهم ،يتلذذون
تالوته يذكرون حبيبهم ،يأنسون به في الليل والنهار ،يحدو أشواقهم إلى اهلل ،يقص
عليهم نبأ الموكب النوارني موكب الذين أنعم اهلل عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين ،يحثهم على صحبة المؤمنين على درب الجهاد.
226
الشعبة الرابعة واألربعون :الحديث الشريف واتباع السنة
السنة النبوية عندما نتخذها دليال ،ونموذجا للسلوك ،ومرجعا الستنباط فقه الحركة
والجهاد ،كفيلة أن ترفعنا إلى حيث نستطيع اإلجابة عن كل التحديات.
والعلم حق العلم بعد كتاب اهلل هو السنة المطهرة .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فيما رواه أبو داود وابن ماجه عن عبد اهلل بن عمر« :العلم ثالثة :آية محكمة،
أو سنة قائمة ،أو فريضة عادلة».
جاءنا من قصص من كان قبلنا آيات تتلى .فكان جيل القرآن ،جيل الصحابة
في صحبة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،يسمعون كالم اهلل يذكر لهم نماذج الجهاد
يستحثهم للنهوض .ونحن إن شاء اهلل نولي وجهنا القلبي والفكري نحو ذلك النموذج
النبوي ،فنق أر في السيرة المطهرة آيات الرجولة واإليمان والجهاد التي تعادل بل تفوق
جهاد ورجولة إو�يمان من كان قبلنا.
تدرس السيرة النبوية في حلق المسجد وأسر الجماعة تدريسا يتوخى ضرب المثل،
إو�براز الحكمة ،وفقه الحركة ،كما يتوخى إيقاظ العاطفة وتوجيه اإلرادة.
وعند قيام الدولة اإلسالمية إن شاء اهلل تطهر كتب الدراسة من أساطير الجاهلية
ونماذجها وأسمائها ،لتتغذى الشخصية اإلسالمية منذ نعومة األظفار بالمثال العالي
لحزب اهلل كما وصفه القرآن ،وجسدته العصبة المحمدية في إيمانها وأخالقها وسلوكها
وجهادها.
الدعوة إلى اهلل نداء من قلب مؤمن ،وعقل عالم ،إلى سمع الناس وعاطفتهم.
227
اللسان أداة هذا النداء ،واللغة وسيلته ،والفصاحة المقنعة المخلصة أسلوبه.
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خطيبا عظيما ،وكان يرشد أصحابه إلى
أساليب الخطابة اإلسالمية ،ويصحح أخطاءهم .وكان له خطيب يجيب الوفود .فكانت
مساجالت خطابية حفظتها السيرة بين ممثلي القبائل وخطيب رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم.
وكان لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خطبة كل جمعة وخطب في المناسبات.
فيدرب جند اهلل على الخطابة بأصولها .ويوم تفتح للمؤمنين أجهزة الدولة يقدمون
خطباءهم ليوجهوا الشعب ،ويرشدوه ،ويوقظوه ،ويبعثوه للجهاد ،ويحتفظوا بخطب الجمعة
وخطب المناسبات على حماسه حتى يصهر من هذا الحماس إرادة جهادية ثابتة في
السير.
دعني من الخطب الركيكة لفظا ،الباردة شكال ،الفارغة مضمونا ،التي ألفناها في
مجتمع الفتنة!.
روى ابن سعد والبيهقي ومسلم بنحوه عن جابر قال« :كان رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم إذا خطب الناس احمرت عيناه ،ورفع صوته ،واشتد غضبه ،كأنه منذر
جيش :صبحكم مساكم ! (أي كأنه ينذر الناس أن جيش العدو قد هجم) ثم يقول :
أحسن الهدي هدي محمد ،وشر األمور محدثاتها ،وكل بدعة ضاللة ،من مات وترك
ماال فألهله .ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي!».
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة (أي يلقيها عليهم
228
بين الحين واآلخر وال يواليها).
والموعظة تذكير باهلل ،وباليوم اآلخر ،وبما فرض اهلل على المؤمنين والمسلمين.
والموعظة إذكاء للهمم ،وتوجيه نحو السلوك اإليماني الحكيم.
فإذا تحولت الموعظة إلى تنويم للهمم ،وتبرير لألمر الواقع ،فقد نضبت شعبة مهمة
من شعب اإليمان .وهذا ما نراه في المساجد على عهد الفتنة ،حيث تتحول الموعظة إلى
مجالس للخالف وتكفير المسلمين ،أو إلى مهرجانات لمدح الحكام وتصويب أعمالهم.
على جند اهلل قبل القومة وأثناء الزحف أن يستشعروا خوف اهلل ،ويلبسوا لباس
التقوى ،لتكون موعظتهم بعد قيام الدولة اإلسالمية موعظة مؤثرة يتوجه بها رجال
الدعوة ،لينوروا النفوس والعقول ،إلى جانب رجال الدولة القائمين بوازع السلطان على
إعادة ترتيب شؤوننا التي خربتها ذمم ال ترقب في المسلمين وجه اهلل ،وال تأتمر بأمره
وال ترعى حرمه.
229
الخصلة السادسة
العمل
العمل تربية
نرى كيف بعث اهلل عز وجل في هذه األجيال الصاعدة حب اهلل ورسوله ،والشوق
إلى اإلسالم وحياة اإلسالم ،استجابة للدعاة .ونرى أن اهلل عز وجل يثبط جهود حكام
الفتنة وسدنتها فيفشلون على كل الواجهات .ونرى كيف تلتقي الدعوة اإلسالمية المجسدة
في هذا الشباب المتوثب للطهارة والجهاد بالسخط الشعبي على سدنة الفتنة ،ومتى بلغت
الصحوة اإلسالمية درجة اليقظة والتجند الواسع ،وبلغت السخطة الشعبية عرامتها ،فقد
توفر الشرطان الضروريان للقومة اإلسالمية.
مهمتنا في انتظار نضج العامل الذاتي (أقصد رشاد وقوة جند اهلل المنظم) واكتمال
االستعداد لقبول الحل اإلسالمي لدى األمة أن نربي الجيل القادر على تغيير المنكر،
وندخل ميدان العمل لنجلي للناس بمواقفنا الواضحة ،وخطتنا للعمل ،ومثال سلوكنا ،ماذا
تعني الحياة اإلسالمية بالنسبة لمستقبل األمة ومستقبل كل فرد وكل فئة.
في الميدان أحزاب سياسية تتصارع ،ومصالح يتنازع عليها ،وسلطان جبري يحاول
230
الحفاظ على توازنه وتوازن هذه القوى االجتماعية والسياسية المستعدة لتبني شعارات
اإلسالم لتضرب جند اهلل.
الركب يتحرك إلى خير إن شاء اهلل لكن العمل الميداني إن لم يدخل في خطة
محكمة لها وجهة مدروسة ،وغاية معروفة ،وأهداف مرحلية ،وقسمة للمهام بين فئات
جند اهلل ،لن يؤدي لتأليف قوة التغيير المرجوة إو�ن انتهى إلى تكوين تكتل ذي حجم.
القاعدة الجامعة في عملنا أن يكون صالحا يرضاه اهلل سبحانه .وليكون كذلك أن
يكون عملنا تحقيقا إليماننا .ففي القرآن خطاب لنا نحن جند اهلل بيا أيها الذين آمنوا .فإذا
ورد ذكر جند اهلل (وهم الذين آمنوا) في معرض المدح والتزكية والتبشير اقترن اسمهم
بوصف صالح األعمال فقال القرآن{ :الذين آمنوا وعملوا الصالحات}.
يتربى الذين آمنوا على اإليمان ،ويدخلون في الوالية اإليمانية ،فيستحقون أن
يخاطبوا بالقرآن .حتى إذا فعلوا ما أمروا به على وجه الصالح والصواب بشروا وزكوا
ومدحوا.
في الميدان إقبال شديد على اإلسالم من قبل هذه األجيال الصاعدة العائدة إلى
231
ربها ،التي تكون بتكاثرها المبارك إن شاء اهلل مشكلة للحكام والسياسيين .فبالمؤازرة مع
العمل الميداني التربوي نتنظم لنكون القوة الفعالة في التغيير ،ولن نكون كذلك إال إن
كانت كل خطوة ميدانية تسير بنا على درب العمل الجهادي الكلي .لن نكون كذلك إال
إن تحولت كل شعبة من شعب اإليمان عمال في سلوكنا أفرادا وجماعة ،يكون نموذجا
مصغ ار لحياة األمة تحت ظل اإلسالم .سلوكنا العملي يقول للناس بلسان الحال ماذا
يعني الحل اإلسالمي بالنسبة لمستقبل األمة ومستقبل كل فرد وفئة .وبلسان المقال
والدعوة واإلعالم بكل وسائله نقول تصورنا لكل نواحي التغيير الذي نريده .ونهيئ هذا
التغيير على مستوى األرقام واإلحصاء ،والزمان والمكان ،والموارد واإلمكانيات استعدادا
ليوم القومة وما بعدها ،استعدادا لجهاد البناء.
يجب على الذين آمنوا أن يعملوا الصالحات الكفيلة بفالحهم فرادى في األخرى،
وفالح األمة في مصيرها التاريخي.
أجيال مفتونة فاتنة ال تزال تمسك بسيف القمع وتبذر وتفسد .واهلل ال يصلح
عمل المفسدين .وقد بدأت تتحلل قواعدهم وتتخلخل ،ويفقدون توازنهم الفكري
ومواقفهم .ال أدل على ذلك من تسارعهم لرفع الشعارات اإلسالمية ليموهوا بها .وجند
اهلل يزحف .فعليه أن يحتل المواقع الميدانية بربح الرجال إلى صفه وبالتغلغل في
الشعب .لكن عليه أيضا أن يوضح للناس أبعاد التغيير اإلسالمي .يجب أن يتوحد
تصورنا للعمل الصالح الذي أمرنا به في شموليته ،فنقدم للناس عنه صورة ونخطط له.
إو�نما يكون جندا منتص ار جند له قيادة تعرف السير وبواعثه ،والطريق ومداها وهدفها،
ومراحلها وأخطارها.
232
بالظن فيبني عليه بناء ال يلبث أن ينهار.
ومن الناس من يسطر الخطة لينجزها ،بينما تجد من يعد إنجا از مجموعة من
األعمال المبعثرة ،يحسب أن حجمها وما تحدثه من ضوضاء هو العمل .وتجد آخرين
يحسبون أن العلم المرقوم على األوراق كاف لتنتقل تلك المبادئ النيرة إلى واقع ينزل
من السماء ويتلقاه الناس بتلهف.
إنما -وهي حرف حصر -يكون عمال صالحا ما كان على الصراط المستقيم.
والصراط المستقيم في كتاب اهلل تعالى مسطور ،وفي سنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم
متمثل.كله صدق عازم ،وجهد شاق ،وبذل للمال والنفس في سبيل اهلل.
من الضروريات معرفة ما أمرنا اهلل به ،ومعرفة كيف أنجز رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم وصحبه ما أمروا به ،ومعرفة طبيعة زماننا ومكاننا ،وتكتالت أعداءنا،
وأسلحتهم ،وأحالفهم ،وتحركاتهم ،ومعرفة ما لدينا من قوة رجال وقوة وسائل ،ومعرفة
الفرص المتاحة لنا ،وبركة الساعة وهي فضل اهلل بهذه اليقظة في مطلع هذا القرن.
وبعد المعرفة اإلنجاز.
ما كان محمد صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه رجال تأمل بل كانوا رجال عمل
صالح .في عشر سنوات غ از رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بضعا وعشرين غزوة.
وبعث من السرايا ما يبلغ مع غزواته األربعين أو الخمسين على خالف في كل ذلك.
عمل دائب ،جهاد مستمر .جند اهلل يؤمر ويأتمر ،يقتل ويقتل ،يرحل أكثر مما يستقر،
يبذل أكثر مما يغنم.
-1الوضوح في كل الخطوات :فال نعمل في إطار مغلق على أنفسنا مهما كانت دواعي
233
التستر .وال نعمل في إطار مغلق عن الشعب ،فإن الدعاية الداخلية والخارجية ضدنا
تلفق علينا األباطيل .يجب أن نعرف أننا مع اهلل ورسوله وبالتالي مع المستضعفين،
نريد عدال للناس كافة ،وتقسيم أرزاق ،وتقسيم أموال ،بعد إنتاج أرزاق وأموال.
-2اإلحسان :أي الدقة واإلتقان فيما ننجزه من عمل .الدقة في أوصافه اإلحسانية
من حيث اإليمان .ومعيار هذا موافقته ألمر اهلل ورسوله .ثم الدقة في مواصفاته
العملية ليكون مالئما للهدف المرجو منه دنيا وآخرة .يحب اهلل اإلحسان ،اإلحسان
بمعيار الصواب الديني ومعيار الصالحية التقنية .فإن اكتفينا بصالح النيات ولم نعط
ألعمالنا ما يؤهلها لسد ثغرات العجز التكنولوجي ،واإلداري ،والتنظيمي ،والسياسي،
واالقتصادي ،فيليق بنا أن ننزوي في ركن هادئ من أركان التاريخ .ولئن كان االنزواء
ممكنا في حق األفراد ،فإن األمة تحت شقي الرحى ،فإما تحيى بعز اإلسالم إو�ما يدكها
العدو دكا ال سمح اهلل ! وعلى إحسان المؤمن العامل الصالحات لكل مهماته ،إو�حسان
جند اهلل في كل الميادين ،يتوقف مصير األمة هنا ومصير المؤمن والمؤمنة عند اهلل.
-3المسؤولية :غيرنا يعتمد على الكذب على اهلل والناس ،يكذب على الشعب
يقدم له الوعود الخالبة ،ويكذب ال يصدق في إنجاز ما تكفل به إن كان رئيسا ،أو
ما أمر به إن كان مرؤوسا .ونحن مسؤولون أمام اهلل عز وجل ،نعرف ذلك ونؤمن به
ونعمل على ضوئه .إن كان غيرنا ينفعل مع األحداث ،فيكون تصرفه رد فعل زمني،
فنحن مسؤولون أن نصمد إلى الهدف الذي من أجل تحقيقه نتحرك .لكي يصبح
مشروعنا في التغيير عمال ناجحا يجب أن نصارح الشعب بحقائق الظلم الطبقي،
وحقائق التخلف الحضاري واالقتصادي ،وحقائق التبعية لشرق الجاهلية وغربها .ثم ال
يكفي أن نفضح المسؤولين عن الفتنة ونشير بأصابع االتهام لماضي الفساد وحاضره.
بل علينا أن نصارح أنفسنا ونصارح الشعب بالثمن الواجب دفعه إلصالح ما أفسدوه.
فإنه إن هونا على الشعب ما ينتظره من صبر وبذل (تضحيات) ،ووقفنا بلوائح وعودنا
إلى جانب عارضي الزور من األحزاب السياسية ،نكون تجار كالم.
234
إنما يكون تصرفنا مسؤوال إن فضلنا الصدق على الكذب ،والوضوح على
الغموض ،والتخطيط على االرتجال ،وقلنا ألنفسنا وللناس أن بناء اإلسالم جزاؤه الجنة
بعد الموت ،وأن جهاد بناء اإلسالم ال بد فيه من عدل في قسمة التضحيات إلى جانب
العدل في قسمة األرزاق.
قالت األحزاب السياسية وتقول للشعب :تريد ثراء ورفاهية؟ تعالى صوت
واهتف بمجدي أعطك!
نحن نقول لألمة :تريدين يا أمة رسول اهلل عز الدنيا وكرامة اآلخرة؟ هلمي األموال
واألنفس في سبيل اهلل!
إنما تعفنت أوضاع الفتنة ،وتتعفن إلى أن تنهار ،ألن سدنتها يعملون الكتساب
األمجاد الشخصية والثروات والجاه والمتاع .عباد هلل غافلون أو ملحدون ال يرجون لقاء
اهلل .همم خسيسة تراقب الناس وتكذب على الناس.
ونحن يطلب إلينا إيماننا أن نتعامل مع اهلل ،وأن نحاسب أنفسنا أمام اهلل .ومتى
أسندنا ظهرنا إليه ،وهو العزيز الحكيم ،فهو معنا بلطفه وتأييده ،وجالئل األعمال التي
تنتظرنا تهون .ولن نخشى باتخاذنا الموقف المسؤول أمام الشعب من إغالق أبواب
العمل أمامنا .فإن في هذه األمة المباركة من كنوز الشهامة والرجولة والقدرة على البذل
في سبيل اهلل ما نرجو أن يحقق اهلل به رجاءنا.
العمل تنظيما
الطاقات المهدرة:
يجب أال يتحرك الركب في ميدان العمل قبل أن يتأكد من أن المنهاج محكم،
وأنه ال خلل يخاف في الصف نتيجة لنقص في التربية ،أو لتفكك في التنظيم ،أو لغموض
235
في الرؤية ،أو لعجز عن اإلنجاز واإلتقان وتحمل المسؤولية.
تكون كارثة ال قدر اهلل إن تجمع المؤمنون ردا لفعل هذا الواقع المرفوض ،ولم
يكن لهم مشروع من ذات إيمانهم وشريعة ربهم .يمكن تصحيح األخطاء العرضية التي
ال يخلو منها عمل البشر إن كانت األصول محفوظة ،والمنهاج نبويا ،دون أن تكون
الكبوة سقطة نهائية .لكن إن بنينا على قواعد هشة من الحماس والغضب ضد الظلم
المجردين عن الحافز اإليماني الذاتي فالجهود تذهب هدرا ،ويطول بعدها شقاء األمة
بسوء تدبيرنا ،تجتر م اررة خيبة أملها المعقود على اإلسالم.
في األمة كنوز من الرجولة واالستعداد للبذل في سبيل اهلل .طاقات علينا أن نتعلم
كيف نعبئها للعمل الدائب الصابر من وراء الحماس والهيجان .خصومنا وأعداؤنا
يعتمدون على التهييج والتزييف ،وقد انكشف كذبهم ،وسبيلنا الكتساب األنصار وبناء
القوة الفاعلة ينبغي أن يكون عكس أساليبهم ،فنخبر الواردين أن الذي ننتظره منهم
عمل إرادي ينصب في اتجاه تاريخنا اإلسالمي الجهادي.
الخطأ في التصور المنهاجي للعمل اإلسالمي يوقف تحركنا في أول منعرج تمحص
فيه قدرتنا على الرؤية الواضحة التخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ،وبالشكل
المناسب .والخطأ في تعميق الرابطة اإليمانية بين جند اهلل ،وفي شحد اإلرادات بالشورى
والمسؤولية وطاعة التنفيذ ،يعرض عملنا للفشل عند أول مهمة تريد رجولة الموقف بدل
الخطب الحماسية ،والخبرة التقنية واإلدارية بدل العواطف المجنحة ،والتعاون المنظم
المنسق المضبوط بدل القفزات العشوائية والمبادرات الفردية.
تضيع جهودنا لكل خطإ أساسي في النظرة ،وتقويم الماضي والحاضر والمستقبل،
ومهماتنا ،ومراحل إنجازها ،وظروف تطورها ،كما تضيع لكل خطإ أساسي في إعداد
القوة التربوية والتنظيمية والتنفيذية.
األعمال عند اهلل عز وجل بالنيات ،يثيب في اآلخرة من حسنت نيته مهما كان
خطؤه .لكنه عز وجل سن ناموسا في هذه الدنيا يقضي أن من لم يتخذ أسباب القوة
يصرع في الحلبة مهما كانت نيته.
236
األمة تنتظر ما يأتيها من خير عن طريق اإلسالم بعد أن جربت أساليب التغريب،
والظلم الطبقي ،والهزائم العسكرية ،والتبعية للجاهلية .فيجب أن نرسم لألمة خطا عاليا
للجهاد ،بحافز عال وعلم ناصع لما ينتظرنا من جهاد.
العمال تحت الفتنة ينتظرون أن يوفر اإلسالم لهم أجو ار عالية ،وأثمان ثابتة،
وشروطا للعمل رفيقة.
العاطلون تحت الفتنة يريدون من اإلسالم عمال .الجائعون يريدون خبزا .المحرومون
يريدون إنصافا .الشباب يريدون تعليما ومستقبال .الضاحون (وهم من ال سكن لهم)
يريدون بيوتا .الفالحون يريدون أرضا .الكل يطالب.
على جند اهلل يوم يصلون إلى الحكم أن يعيدوا بناء الهياكل السياسية واالجتماعية
واالقتصادية ليتأتى لهم حل المشاكل الضخمة المتخلفة عن قرون الفتنة ،وسنوات
االستعمار ،وسنوات االستقالل الصوري ،وهو أشد علينا من استعمار العدو المكشوف
المعروف باألمس .في العالم أزمة عامة ،وشره من جانب الجاهلية ،وتكالب على
اإلسالم.
ولن يستطيع جند اهلل القيام بتلك المهام إال بنصر اهلل وتأييده .ومن تأييده أن نفهم
األمة ،قبل دخولنا معركة البناء ،أن ماضي الفتنة وحاضرها ،وأزمة العالم ،وما في
طريقنا من عقبات ،ال يمكن تغييرها والتغلب عليها بعقلية المطالبة ،عقلية الذي يبقى
في الظل ويعيب على من يلهث ويلفظ أنفاسه تعبا تحت الوهج .من تأييد اهلل أن تفهم
األمة أن اإلسالم جهاد عام وتعبئة لكل الطاقات ،وبعد الفهم تنزل األمة لميدان العمل،
مشمرة عن سواعد التطوع ،بنية التقرب إلى اهلل ،وبقيادة وتنظيم رجال يعيشون مع األمة،
وسطها ومن أجلها.
إذا فهمت األمة واجبها ،وقبلت االضطالع به ،ووجدت قيادة منها إلنجازه،
فسيكون الشباب أنفسهم هم الحل ألزمة تكاثر السكان ،وتفشي الجهل ،ونقص
المتطوعين .الشباب المؤمن هم الحل ألزمة الشباب إن أصبح كل منهم يحمل بدل
أن يبقى محموال .العمال المؤمنون عندما يدفعهم اإليمان لإلنتاج واإلتقان واإلخالص
237
هم القوة التي ستنتصف بحماية الشرع من استغالل رب العمل .الفالحون المحرومون
والعاطلون سيجدون في الحل اإلسالمي واجب كل مسلم أن ينتج لينفع نفسه وأمته ،ومع
ذلك الواجب حق كل فالح في األرض التي يحييها ،وحق كل عامل في حظه الوافي
من نتاج عمله.
ما عندنا من موارد طبيعية ،وقدرات تقنية ،ليس إال طاقات ميتة ،وستبقى ميتة
إن لم نعد تربية وتوجيه إو�حياء الطاقات األخالقية اإليمانية عند الرجال والنساء ،إو�ن
لم نعد تجميع وتنظيم القوى االجتماعية التي شلها الظلم ،وغنطستها الثقافة والحضارة
الجاهليتان ،وبددها سوء اإلدارة وفسادها ،وطغت عليها األنانيات الطبقية والفردية ،حتى
أصبحنا أمة كالغثاء ،مبعثرة ال تتماسك أمام رياح التاريخ العاتية.
ما العمل؟
إن مهندسا وبناء يحدثان نفسيهما بعمل جليل وال يطرحان على نفسيهما هذا السؤال
قبل أن يجدا نفسيهما أمام المادة المبعثرة ،واألرض الملغومة ،والسيول الجارفة ،لرجالن
أحمقان.
في زحفنا إلى النصر إن شاء اهلل ،وقبل أن تفجأنا األحداث مثلما فجأت العالم
بقومة إخوتنا بإيران ،نشرع في جهاد البناء من داخل الصف على الخطوط التالية :
-1إعادة الثقة لنفس األمة :موضوع التغيير ،وهو جسم األمة كلها وجسوم
الشعوب القطرية ،نطلق عليه اسم «المجتمع المفتون» وهو اسم عام .علينا أن نحصي،
ونضبط المعلومات واألرقام ،وتطور األحداث والعالقات.
هذا يساعدنا على فهم الواقع ،وفهم الواقع يمكننا من تخطيط المستقبل ،ووضع خطة
238
التغيير ،وهذان إن وضحناهما ألنفسنا ولألمة ورسمنا لها وألنفسنا خطوات العمل يساعداننا
على أن نثق بأنفسنا ،وتثق األمة بكفاءتنا ،لتحمل المسؤولية.
معرفة موضوع التغيير ،وحجمه ،وكمه ،وكيفه ،وتطوره ،وقوى الصراع فيه ومن
حوله ،مقدمة وباب ليدخل جند اهلل بإرادته اإليمانية على المستقبل من باب العلم .وحول
هذا الداخل بثبات من يعرف مواقع خطاه ،وهو مستعد لبذل النفس والمال والجهد ،تلتف
األمة وتستعيد ثقتها في القيادة وفي نفسها.
هذا الشرط النفسي ضروي .وبدونه تكون محاولة بطح الواقع على مشرحة تغيير
الهياكل صناعة في حرفة تحنيط الجثث.
شعب يتفرج على حكام يمارسون بهلوانية الغوغائية ،والدوران على محطات
التهريج ،شعب مقهور شامت متربص.
نريد أن يكون الشعب معنا يشارك ،يناقش ،ينتقد ،يتعلم ،يعلم ،يجاهد إلى جانبنا.
وال يفعل ذلك إال إذا وثق بأننا منه ومع المستضعفين بال قيد وال شرط ،إال قيد الشريعة
وشرط اإليمان.
-2الصرامة والمستقبل :ال يكفي أن نعلم األمة ،قبل الحكم اإلسالمي وأثناءه،
أن ما بها من ويالت ليس اإلسالم مسؤوال عنه ،إنما يسأل عنه من عطلوا حكم اهلل
ولعبوا بشعارات اإلسالم .تأمل األمة فينا أن نبذل بؤسها رخاء ،والظلم الذي يمارس
عليها عدال ،والذلة المضروبة عليها بهزيمة المغربين أمام النموذج الجاهلي وهزيمة
غيرهم بالهروب من ساحة الجهاد عزا .تأمل ذلك وأكثر ،فال ينبغي أن نصور الطريق
سهال ناعما ،وال أن نبرر صعوبات الطريق بطرح المسؤولية على من قبلنا .إنما ينبغي
أن نضرب المثل بالتشمير ،يواجه الشعب معنا صرامة شروط المستقبل التي تتراءى
مكفهرة في أفق األزمة العالمية العامة ،وأفق تدهور اقتصاد عالم المستضعفين ،وأفق
التضخم السكاني والنقدي ،وأفق التبعية الغذائية ،وأفق الصراع بين القوى الجاهلية
على مواردنا الطبيعية ومواقعنا االستراتيجية ،وأفق تطاول الرأسمالية العالمية أكثر
من أي وقت مضى ،وأفق السباق إلى التسلح ،وأفق لعبة استقطاب أنظمة الحكم
239
المتخلفة ،إو�فقادها توازنها واستقرارها.
أمل األمة مطالبة فسيحة على قدر ما هي فيه من ضيق .فال يكاد الشعب يرى
وقد اعتاد الوعود الكاذبة ،فيما يمكن أن يعترض المؤمنين من صعوبات غداة اإلسالم
إال نوعا مما ألفه من حكام الجبر .لذلك نتعلم نحن ونعلم الشعب الحدود بين ما ينبغي
وما يمكن ،بين ما تصبو إليه العواطف وما تتيحه الوسائل المتوفرة.
إذا وضعنا أنفسنا مع الشعب ،فسيضع الشعب نفسه وطاقاته معنا .إن كانت
في قلب الشعب نواة صالحة فسيلتف حولها الشعب ويتعبأ .إو�ن كان النداء إسالميا،
والسلوك في الطبيعة سلوكا إيمانيا ،فسترى إن شاء اهلل الشعب بما فيه من مهاجرين
ذوي السابقة ،وأنصار ذوي الغناء ،ومؤمنين ذوي الحظ من اهلل ،وأعراب سمعوا
النداء ،فانعطفوا إليه ،فتحمسوا ،فتبعوا الصف على مثال ما ذكر اهلل في سورة
اب أَن َعر ِ ان ِل ْ ِ ِ ِ التوبة .قال عز من قائلَ { :ما َك َ
َهل ا ْل َمدي َنة َو َم ْن َح ْولَ ُهم ِّم َن األ ْ َ
ِ ِِ ِ ِ يتَ َخلَّفُواْ عن َّرس ِ ِ
ول اللّه َوالَ َي ْر َغ ُبواْ ِبأَنفُس ِه ْم َعن َّن ْفسه َذل َك ِبأ ََّن ُه ْم الَ ُيص ُ
يب ُه ْم ُ َ َ
َّ ِ ِ ِ
س ِبيل اللّه َوالَ َي َ ِ ِ
ون َم ْوطئاً َيغيظُ ا ْل ُكف َار ط ُؤ َ ص ٌة في َ ب َوالَ َم ْخ َم َ صٌ ظ َمأٌ َوالَ َن َ َ
َج َرضيعُ أ ْ ون ِم ْن ع ُد ٍّو َّن ْيالً إِالَّ ُك ِتب لَهم ِب ِه عم ٌل ص ِالح إِ َّن اللّ َه الَ ي ِ َوالَ َي َنالُ َ
ُ ََ َ ٌ َ ُ َ
ون َو ِادياً إِالَّ ُك ِت َب لَ ُه ْم
ط ُع َ يرةً َوالَ َك ِب َ
يرةً َوالَ َي ْق َ صغ َ
ون َنفَقَ ًة ِ
َ نفقُ َين والَ ي ِ ِِ
ا ْل ُم ْحسن َ َ ُ
ون}. س َن َما َكا ُنواْ َي ْع َملُ َ َح َ ِل َي ْج ِزَي ُه ُم اللّ ُه أ ْ
1
بهذه الذهنية ذهنية الواجب ،وهذه اإلرادة إرادة الجهاد ،يسأل جند اهلل أنفسهم ماذا
قدمنا من خدمة ،ماذا صبرنا ،ماذا ظمئنا ليروى الناس ،وماذا جعنا ليشبع الناس،
وماذا نصبنا ليرتاح الناس ،وماذا أرغمنا أنف األعداء ،ليأمن الناس ،وماذا أنفقنا
ليستكفي الناس ،وماذا قطعنا من أودية الفتنة عبو ار للمجتمع اإلسالمي والخالفة
اإلسالمية؟
عندما يكون سلوكنا هكذا ،ونتصدر األمة ،ونحمل همها ،ستتبعنا األمة .إو�ن ال
فال.
1التوبة121-120 ،
240
-3صفحة تطوى :من هذه العبارات المجازية الدارجة في كالم الناس ما هو من
قبيل السحر والكذب .يقولون« :طوينا الماضي» وكأنه صفحة بين أصبعين .فإذا كان
وهم العامة وحماس الجماهير ينفتحان ليندس منهما إو�ليهما كذب الوعود الخالبة بعد
كل انقالب و»ثورة» و»تصحيح» في بالدنا البائسة المضطربة ،فإن القومة اإلسالمية
يجب أن تقدم للعامة وللجماهير ،وتترسخ في عقولنا ،على أنها فاتحة عهد طويل من
البذل (التضحيات) والعمل الدائب.
من ماضينا الفتنوي مخلفات ثقال ،جروح مثخنة في نفوس األمة وعقولها
وأحوالها .وفي حاضرنا الجبري تعتيم بالحفالت والمؤتمرات المسمات إسالمية على
بؤسنا ،وتخلفنا ،وقزامتنا ،وأمراضنا ،وهزائمنا .وفاضلو األمة منهم محوقلون عاجزون،
وآخرون يتسلون بتقديم مساعدات من فضول وقتهم ومالهم ،يوهمون ضمائرهم بذلك
أنهم أدوا حق اهلل عليهم .واقع يجب تغييره يوم تنتقل الدعوة من كونها رفضا للفتنة
والجبر والجاهلية إلى قضية إيجابية ال نفر من البذل من أجل إنجاحها ،وال من الموت
في سبيل تحقيقها.
تغيير الفتنة باإلسالم حكما ،وتنظيم مجتمع ،واقتصاد ،ووحدة ،وقوة ،مهمة كبيرة.
واهلل أكبر نداء الجهاد هو مفتاح الموقف .إن كان اهلل معنا فسنكون أكبر من تلك
المهمة .فهو وحده عز وجل قادر أن يطوي حوبتنا وآالمنا ،إنه يطوي السماء كطي
السجل للكتاب سبحانه.
يكون اهلل معنا إن أطعناه ،ويكون نداء الجهاد عنوان حق وشعار صدق إن قاتلنا
-وأقصد الجهاد بكل أبعاده وصوره بما فيه المقاتلة بالسالح إن جهر العدو بكفره
وقاتلناه بالسالح -في سبيله مع المستضعفين كما أمرنا .قال جل ذكرهَ { :
َما لَ ُك ْم
ان الَِّذ َ
ين ساء َوا ْل ِوْل َد ِ ال َو ِّ
الن َ ين ِم َن ِّ
الر َج ِ ض َع ِف َ
ستَ ْ ون ِفي س ِب ِ ِ
يل اللّه َوا ْل ُم ْ َ الَ تُقَ ِاتلُ َ
اج َعل لَّ َنا ِمن لَّ ُد َ
نك َوِل ّياً َخ ِر ْج َنا ِم ْن َه ِـذ ِه ا ْلقَ ْرَي ِة الظَّ ِالِم أ ْ
َهلُ َها َو ْ ون َرَّب َنا أ ْ
َيقُولُ َ
1
صي ارً}. نك َن ِ
اج َعل لَّ َنا ِمن لَّ ُد َ َو ْ
1النساء75 ،
241
استعادة الثقة إلى نفوس الشعب بنا ،ومعايشته ومقاسمته همومه وآالمه ،خطوتان
لتعبئة الشعب حولنا ،وحشده لتبني قضيتنا .ثم استثمار كل هذا للعملية األساسية في
البناء ،أال وهي تربية الشعب حتى يعنى بشأنه ،حتى يرشد ،حتى يتأهل لمسك زمام
أمره والمشاركة إلى جنبنا في الجهاد.
مهمة تغيير ما بنا ال حل لها إن لم نغير ما بأنفسنا .قال اهلل تعالى{ :إِ َّن
اللّ َه الَ ُي َغ ِّي ُر َما ِبقَ ْوٍم َحتَّى ُي َغ ِّي ُرواْ َما ِبأَ ْنفُ ِس ِه ْم} 1.فكما خذلنا حين تنكبنا شريعته
ينصرنا إن رجعنا إليه .والرجوع إلى اهلل إنما يكون عن دعوة داع وتربية مرب .إو�رجاع
األمة بكاملها إلى اهلل تعالى قضيتنا .فقبل أن نصل إلى الحكم تبذل الدعوة جهدها
لتغيير وجهة سفينتنا الموحولة في المياه الفتنوية العكرة .وعندما يلتقي وازع القرآن
بوازع السلطان يتاح لألمة أن تعيد ترتيب السفينة وأجهزتها من داخل ،وأن توجهها
االتجاه الصحيح وأن ترحض المياه العكرة ،وتنزح األوحال.
السفينة من داخلها خراب :خراب ضمائر ،أجهزة مرصودة لخدمة مصالح المستكبرين
الذين احتوشوا المال ،وتسلطوا على الحكم ،وانتهكوا األعراض ،وأباحوا ما حرم اهلل،
ومالؤوا أعداء اإلسالم على األمة ،وتفاوضوا معه لبيع حرية األمة وخيراتها وأرضها
وكرامتها.
الوجهة يجب أن تقلب رأسا على عقب :من محالفة الجاهلية واإلعجاب بها
وتقليدها والتذلل لها إلى اهلل ورسوله والمؤمنين .من ماركس وروسيا ،من الليبرالية
وأمريكا ،إلى اهلل ورسوله والمؤمنين .من والية الطاغوت إلى والية اهلل ورسوله
والمؤمنين.
أوحال الفتنة المتراكمة في طريقنا ،والمترسبة في نفوسنا ،خلفها فينا ومن حولنا
قرون تعود الشعب فيها أن يعتبر نفسه رعية كالغنم يجز صوفها ،تظلم وتهان ،تسخر،
تسكت ،تتجرع الم اررة بابتسام ،تركع أمام الطاغوت ،ال تنبس بكلمة أمام المستكبرين ،ال
تأمن على حياتها ،تجهل وال تعلم ،تفتقر وال تواسى ،تمرض وال تعالج.
1الرعد11 ،
242
في رفق اإلسالم سعة ،وفي باب التوبة انفتاح ليرجع أعداء الشعب المسؤولون
أمس الفتنة عن توحيل الشعب وظلمه إلى اهلل في غد اإلسالم .جسم األمة مريض ،لكن
آثرنا أن نعبر إلى ما نريد بقصة سفينة يعاد ترتيبها ،وتصحح وجهتها ،وترحض مياهها،
لكي ال نتحدث عن العملية الجراحية ،وعن العنف الذي ال تنفك عنه ثورة الثائرين،
وتريد قومتنا أن تتجنبه.
استعادة الثقة ،والنزول إلى الشعب ،وتربية الشعب .مع المستضعفين قتاال في
سبيل اهلل نريد بناء الدولة اإلسالمية ،والخالفة الموحدة ،والمجتمع اإلسالمي ،والحضارة
األخوية الالئقة بخير أمة أخرجت للناس.
على هذا الفهم ،وبهذه النية ،ولهذا المشروع ،نربي أنفسنا ،ونربي الشعب .ننظم
أنفسنا ونعبئ الشعب حتى يعنى الشعب بمشاكله الجزئية على كل المستويات ،وحتى
يشارك في الجهاد العام.
بدل أن يسير المؤمنون بعد القومة على خطى من سبق بفتنة ،ال نكل إلى األجهزة
اإلدارية الصماء التي عششت فيها عادات المحسوبية ،والرشوة ،وبيع الخدمات،
واحتقار المسلمين ،مهمة بناء األمة قبل أن نغير هياكل اإلدارة ومنهاجها ومن أبى
الصالح من رجالها.
في كل قرية ومجلس بلدي ومدينة وجهة واقليم ،ننادي المؤمنين رجال الدعوة
والدولة ومعهم الشعب الواثق الباذل المعبأ ،ليتخذوا المبادرات ،وينفذوا ،ويراقبوا.
ال نجعلها ديمقراطية «إسالمية» ،وال اشتراكية «إسالمية» ،وال ما شابه هذا الخلط.
وال نقلد ،بل نخترع لزماننا ،وبوسائلنا ،ولغايتنا وأهدافنا ،الصورة المناسبة لنظام الحكم
243
اإلسالمي الخالد.
ال نجعلها رأسمالية نلبسها إسما إسالميا ،وال نغتر بأن التأميم العام والبيروقراطية
هي الحل .بل نبحث في سعة إسالمنا الصيغة الكفيلة بإنشاء اقتصاد نتحكم فيه،
ونسخره إلقامة التكافل األخوي بيننا ،والكفاية ،واألمن ،والقوة .هذه أهداف واجبة ،وما
ال يتم الواجب إال به فهو واجب ،بما في ذلك نزع ملكية األثرين ،بعد إعادة مظالم
الفتنة برد الحقوق إلى أهلها.
ال نجعله تعليما لخدمة الفئة المترفة وتخدير الشعب بتعليم صوري إو�عالم مسل
مفسد ،بل نقيم القرآن في قلوبنا وضمائرنا نو ار يبدد حلك الفتنة .إو�نها لساحة وحلة قاتمة
ساحة التعليم التي احتلتها جيوش المرتزقة من دعاة اإللحاد والفكر الجاهلي!
ولن يأتي الحكم بما أنزل اهلل مع طلوع الفجر يوم القومة اإلسالمية! يمضي
زمان للكنس ،واستصالح العناصر التائبة ،ومواجهة اضطرابات ال بد منها عند كل
تحول .ثم زمان لصياغة منهاج للحكم والبناء اإلسالميين ،بالجدية والصرامة األخالقية
والفكرية الالزمين .ثم ترجمة اإلرادة اإلسالمية إلى مشروعات مخططة متناسقة .ثم
تدوين وتقنين األحكام الشرعية الكفيلة بتحقيق مقاصد تلك المشروعات .ثم النزول من
القرار السياسي واالجتهاد والتنظيم التقنينيين إلى توزيع المهام على اإلدارة وأهل الخبرة
التكنولوجية في ميادين التنفيذ.
وكل هذا ال يمكن وضعه إو�حياؤه ولو كنا في ذرى اإليمان والقدرة على اإلنجاز،
بين عشية وضحاها .ال سيما واألرض محتلة بما سبق ،السيما والعملية الجراحية التي
تبتر من جسم األمة بقتل الرجال حسا أو معنى ال تناسب اإلسالم .ال سيما إو�عادة تركيب
الهياكل مع تعقيد العصر تطلب زمانا ،والمؤمنون يومئذ في ضغط المشاكل اليومية،
تطلب رجاال ،وأين الكفاءات والرجال؟ ال سيما والحرب على اإلسالم قائمة من خارج،
والدس عليه لن يفتر من داخل .ال سيما والضغط السكاني يتزايد .ال سيما والعصر
عصر سرعة وتحول وأزمات .واهلل أكبر!
244
اإلصرار على السير لن يعوزنا إن شاء اهلل فزودنا التقوىَ { .وتََزَّوُدواْ فَِإ َّن َخ ْي َر
1
الز ِاد التَّ ْق َوى}.
َّ
اهلل أكبر! و{إِ َّن اللّ َه الَ ُي َغ ِّي ُر َما ِبقَ ْوٍم َحتَّى ُي َغ ِّي ُرواْ َما ِبأَ ْنفُ ِس ِه ْم َ إوِ� َذا أ ََر َ
اد اللّ ُه
ال} 3.شاهت الوجوه! وانكسرت سوءاً فَالَ مرَّد لَ ُه َوما لَ ُهم ِّمن ُدوِن ِه ِمن َو ٍ ِبقَ ْوٍم ُ
َ ََ
التضامنات ضد اإلسالم! ومضى عهد الجبر إن شاء اهلل! وتطوى الصفحة بإذن اهلل.
فعال ال تعبير مجاز.
شعب الخصلة
الشعبة السابعة واألربعون :التكسب
مما نرثه عن الفتنة ،وهو من أشد األوبئة االجتماعية فتكا ،أنفة الناس عن األعمال
اليدوية والكسب الكاد .وبناء اإلسالم يريد قلوبا حية باإليمان ،وعقوال راسخة في العلم،
وسواعد خبيرة صانعة .يخلف لنا الماضي الفتنوي شخصيات مزيفة ،أنتجها الترف
الطبقي ،والتعليم النظري المستعلي على المهمات المباشرة العملية.
فتحت ظل اإلسالم يكرم العامل ،وتكرم األطر المسماة وسطى ،وتشجع المهارات
المهنية واليدوية .ويكون العمل والكسب القيمة األولى في االقتصاد ،يحرر العمل من
طغيان رأس المال.
1البقرة197 ،
2آل عمران120 ،
3الرعد11 ،
245
نقابات العمال والحرفيين والفالحين والشغالين ينبغي أن يدخلها اإلسالم .أعني
إسالم األخوة ونبذ الطبقية ،والوقوف مع المستضعفين ،إو�نصافهم من األغنياء .فما
يريد اهلل عز وجل أن يكون المال دولة بين األغنياء ،السيما إذا كان األغنياء كسالى
ال يحسنون استثمار أموالهم فيما ينفع األمة.
يجب أن يتحول هذا الحديث النبوي إلى وسام يعلق على صدر العاملين والمحترفين،
ليصبح الفالحون والشغالون في طليعة المكرمين تحت دولة اإلسالم .تكريما تشريفيا
إو�نصافيا .نقسم لهم من الرزق على قدر جاللة هذا الوسام .روى الطبراني والبيهقي عن
ابن عمر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إن اهلل يحب العبد المحترف» .هذا
يعطيهم في أعيننا الصدارة ،ال نقلد اليساريين .هذا يعطي الصدارة في مجتمعنا للمسلم
المحترف ،إن كان عبدا هلل ،مؤمنا به سائ ار مع ركب المؤمنين ،ال كل كادح مكابد.
العمال تحت اإلسالم –وكل مجاهد في خير األمة عامل -جنبا إلى جنب مع
التاجر المبرور .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فيما رواه اإلمام أحمد والبزار عن
رافع بن خديج ،وقد سئل :أي الكسب أطيب؟ قال« :عمل الرجل بيده ،وكل بيع مبرور».
ال يكون في اإلسالم طبقة ضد طبقة ،أقصد إسالم التجديد ال إسالم الفتنة.
فرجل الصناعة والتجارة وأصحاب المشاريع بررة إن وفوا بحق اهلل وأنصفوا العامل
والصانع .ال بد للدولة اإلسالمية أن تغير الهياكل الموروثة بما يتالءم مع البر
االجتماعي ،وبعد تغيير الهياكل وأثناءه ينبري عامل الدعوة والتربية ليبث في النفوس
س اإليمان ،وفي العزائم اإلرادة ،لتطبيق لوازم البر كما أمر اهلل تعالى حيث قالَْ { :ي َ
آم َن ِباللّ ِه َوا ْل َي ْوِم ِ ِ
ق َوا ْل َم ْغ ِرب َولَـك َّن ا ْل ِبَّر َم ْن َ وه ُك ْم ِقَب َل ا ْل َم ْ
ش ِر ِ ا ْل ِبَّر أَن تَُولُّواْ ُو ُج َ
ِ اب َو َّ آلئ َك ِة َوا ْل ِكتَ ِ
اآلخ ِر وا ْلم ِ
ِ
امى ال َعلَى ُح ِّبه َذ ِوي ا ْلقُْرَبى َوا ْل َيتَ َ ين َوآتَى ا ْل َم َ الن ِب ِّي َ َ َ
الزَكاةَ الصالةَ َوآتَى َّ ام َّ ين َوِفي ِّ ِ
الرقَاب َوأَقَ َ آئِل َ
الس ِ
يل َو َّ الس ِب ِ
ين َو ْاب َن َّ وا ْلمس ِ
اك َ َ َ َ
ين ا ْل َبأ ِ
ْس َّراء َو ِح َْساء والضَّ الصا ِب ِر َ ِ
ين في ا ْل َبأ َ اه ُدواْ َو َّ ون ِب َع ْه ِد ِه ْم إِ َذا َع َ َوا ْل ُموفُ َ
246
ص َدقُوا َوأُولَ ِـئ َك ُه ُم ا ْل ُمتَّقُ َ
ون}. أُولَ ِـئ َك الَِّذ َ
ين َ
1
كل طفيلي ال ينفع ماله المسلمين فليس من البر في شيء .وكل كانز كذلك!
وكل مستغن ال يؤتي بعد الصالة والزكاة ماله إيثا ار على نفسه ذوي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل فليس من البر في شيء .ال سيما واألمة كاأليتام في مأدبة اللئام
والفقر فاحش ،والحاجة ضاغطة!
ال تعايش تحت اإلسالم بين الفقر المدقع والغنى الفاحش .وما تقريب الشقة باألمر
الهين .واهلل أكبر!
التحول من النظام الرأسمالي أو االشتراكي الذي نجده أمامنا إلى النظام اإلسالمي
يأتي نتيجة لمعاناة طويلة إلخراج اقتصادنا من قبضة رأس المال المحلي والعالمي
المبني على الربا وأكل أموال الناس بالباطل.
وسنجد أنفسنا مضطرين اضط ار ار حيويا ،ما دامت أموال المسلمين في الدول
القطرية الغنية في أيدي السفهاء يبذرونها ،لالستدانة من األموال العالمية .كما سنجد
أنفسنا في فترة االنتقال مضطرين للتدرج في إحالل المضاربة اإلسالمية محل االقتراض
الربوي ،والمصرف اإلسالمي محل البنك الربوي.
1البقرة177 ،
247
إِ لَ ْي ِه } 1ففترة االنتقال بمثابة زمن الغبش قبل طلوع الشمس ،يختلط فيه الظالم
بالضياء ،ويختلط فيها حالل نطلبه بحرام نحن مضطرون ألكله كما يأكل
الجائع اليائس الميتة ولحم الخنزير.
سنضطر لنتعامل مع األبناك العالمية وهي في قبضة اليهود .وقد مات النبي صلى
عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في عشرين أو ثالثين صاعا من شعير أو طعام
كما روى ذلك اإلمام أحمد والبخاري وغيرهما.
هذه الطبقة ستهرب األموال وتقاوم العدل اإلسالمي .فما ظلمته في ماضيها القاتم
من حقوق األمة حرام نستخلصه منها بترغيب الدعوة وسلطان الدولة معا .هذه عقبة
مالية كأداء تضاف إلى العقبات النفسية والتقنية واإلدارية .فيكون المجموع جبال من
المشاكل ال يمكن نسفه بمجرد إصدار فتوى أن هذا حالل وهذا حرام .ال بد من إرساء
قواعد الدولة اإلسالمية على أرض اإلرادة الصامدة لجند اهلل ،ثم ننصب آليات التقنين
الشرعي ،وآليات السلطة اإلدارية واالقتصادية اإلسالمية ،حتى نتمكن إن شاء اهلل من
أمرنا ،ونتحرك في وجهة البناء اإلسالمي بحركيتنا إلى غايتنا وأهدافنا ،بوسائل ملوثة
في بدء الطريق ،ثم نصفيها ونطهرها إلى أن نشهد أن ال إله إال اهلل وأن محمدا رسول
اهلل.
حكام الباطل ينفقون أموال المسلمين بالباطل ،يسرقون ويرتشون ،يدفعون للمهرج
والمغنية الفاسقين أضعاف ما يعطون للمعلم .مسارح وسينمات لعرض البالء .ميزانية
ضخمة لتلفزيون العهارة .وكل هذا يؤثل ثروات ،ويوسع شبكة الفساد ،ويخلف في
النفوس عادات ،وعلى أرض الواقع كتال بشرية تقاوم اإلصالح ،وقوى اقتصادية لها وزن
الكابوس على صدر الشعب .وكل هذا الفساد المجسد المحارب للخير بالظفر والناب
1األنعام119 ،
248
يرثه المسلمون غداة القومة.
عاطلون من أين يطعمهم الحكم اإلسالمي غداة اإلسالم وقد خرب من قبلنا يومئذ
اقتصادنا؟ تصنيع وتنمية إو�صالح زراعي ضرورية لنقف على أرجلنا ،فمن أين المال
وأنى لنا الصفاء الرقراق في الوسائل ،يا من تحلم أن السماء تمطر ذهبا؟
الغبش بين عهد الحرام الفتنوي والحالل اإلسالمي في فترة االنتقال ليس من قبيل
منطقة الشبهات التي بين الحالل البين والحرام البين .في حق الفرد يتعين ورع ترك ما
يريبه إلى ما ال يريبه ،ورع اتقاء الشبهات .لكن اقتصاد أمة آلة تطحن ،وعجالت تدور
بسرعة ،وال يمكن وقفها لننطلق من الصفر.
اط ِل َوتُ ْدلُواْ ِب َها إِلَى ا ْل ُح َّك ِام ِلتَأْ ُكلُواْ فَ ِريقاً ِّم ْن
{والَ تَأْ ُكلُواْ أَموالَ ُكم ب ْي َن ُكم ِبا ْلب ِ
َ َ َْ
ون}. اإل ثِْم َوأَنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ
اس ِب ِالن ِ أ َْم َو ِال َّ
1
هذا أمر اهلل تعالى للمؤمنين ،فزمان الفتنة كان تطبيق األمر متعلقا بذمم األفراد،
بورع األفراد .أما عند القومة وبعدها ،فالمخاطبون هم جند اهلل المسؤولون عن تسيير
السفينة الموحولة من مستنقع الباطل إلى حيث الصفاء والصدق واإلخاء .والمخاضة من
هناك إلى هنا كدرة .فريق من أموال المسلمين ،بل كل أموال المسلمين كانت في أيدي
1البقرة188 ،
249
حكام يأكلون باإلثم ويسرفون ،فما استنقذناه من تلك األموال واسترجعناه سيبقى زمانا
يحمل وصمة ذلك العهد الكريه ،ويريح ريحه النتن ،قبل أن تزكيه األيدي المتوضئة.
ما يظن الذي ينتظر طي الصفحة بين عشية وضحاها إال كما يظن المتحدي الساخر
الذي ألقى الرجل في النهر وقال له :إياك أن تبتل بالماء!
أول السبعة الذين يظلهم اهلل تحت ظله يوم ال ظل إال ظله إمام عادل .وفي حديث
لمسلم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :أهل الجنة ثالثة :ذو سلطان مقسط
موفق ،ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى مسلم ،وعفيف متعفف ذو عيال».
وروى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
قال« :يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة ،وحد يقام في األرض بحقه أزكى
فيها من مطر أربعين صباحا».
إذا جاء الحق زهق الباطل ،إذا أقيمت حدود اهلل بحقها ،وكان القائمون عليها
مقسطين موفقين حلت بركة السماء على المسلمين.
هما عدالن متالزمان :عدل الحكم وعدل القسمة ،وفي الشريعة السمحة سعة
إلنصاف المستضعفين ،إو�قامة توازن إسالمي في االقتصاد إن كان الحاكم مقسطا
وموفقا .فجند اهلل يوم يلون السلطان موفقون إن شاء اهلل بتأييد من عند موالهم ،وعليهم
بذل الجهد ليؤسسوا مراقبة صارمة تمكن من تطبيق حكم اهلل.
250
ما نراه في أنظمتنا من ركود وموت اقتصاديين ،أو ازدهار مزيف كازدهار
خضراء الدمن ،وما نراه من ازدياد فقر المستضعفين وازدياد ثراء المترفين ،إنما أتى
من كون جهاز الحكم في أيديهم والقضاء تحت الفتنة تابع للجير ال هلل ،فتعطل مصالح
المستضعفين ،وتسن قوانين اقتصادية ال ترعى مصلحة البالد والشعب ،ويحكم لمن له
مال يرشو به ،وجاه ترجى عائدته.
العدل االجتماعي تحت اإلسالم يأتي مع الشريعة اإللهية إن أعيد تركيب أجهزة
الدولة ،ومنها القضاء واإلدارة ،بما يتعين من امتحان الرجال ومراقبتهم الصارمة ،حتى
يتصدر أمور المسلمين مؤمنون يخشون اهلل ويرجون حظهم في ظل اهلل وجنته وبركته
س َي َرى اللّ ُه وال يرون في المراقبة الصارمة إال تطبيقا لقوله عز وجلَ { :وُق ِل ْ
اع َملُواْ فَ َ
ون}.سولُ ُه َوا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ
َع َملَ ُك ْم َوَر ُ
1
العدل أن ينصب ميزان القرآن بالقسط ،فيوفى المحتاج والفقير حقهما ،وتهذب
فضول أموال الغني .وعدل الشريعة بعدل القاضي والحاكم ،إن كان الحاكم والقاضي
أخوين للمسكين والمحتاج ال حليفين للمستكبر واإلقطاعي.
1التوبة105 ،
251
الشعبة الخمسون :إماطة األذى عن الطريق
هذه هي الشعبة الثالثة التي وردت في الحديث النبوي عن شعب اإليمان.
تلك الحركة البسيطة التي يقوم بها الفرد حين يسلك الطريق ،فيجد شوكة أو حج ار
أو أذى فيزيلها بنية تجنيب المسلمين المارين إذايتها ،مما يقرب إلى اهلل عز وجل .هنا
يجل العمل على بساطته بجالل النية.
عندما تسري في األمة روح االهتمام بالمسلمين ،فتطرد روح األنانية ،يتوسع مفهوم
إماطة األذى عن الطريق ،ليكون منهاج تعاون بين المسلمين ،عد الحركات الجزئية
الفردية ،ومد اإلخالص في النية والجهد.
في مجتمعاتنا الفتنوية ،مجتمعات الكراهية ،تسود الفردية األثرة ،يسود حساب
المصلحة ،يسود الرياء ،يسود سوء الظن ،تسود الالمباالة .وفي المجتمع اإلسالمي
األخوي ينبغي أن تسود أضدادها ،يوم تسود الثقة ،ويعرف الشعب أن حكامه منه،
يحملون همه.
في مجتمع الكراهية يتأفف الموظف أجير الدولة ،كما يتأفف العامل ،والصانع،
والكبير ،والصغير ،والرجل ،والمرأة ،الكل يحس أنه وقع عليه األذى وقل النصير .ظلم
أسود يحط على الناس بكلكله .فمتى جاء العدل بشرائطه نشط المسلمون إن شاء اهلل،
وجاءت رحمة األخوة الرابطة ،وانبرى كل يسر على المعسر ،ويقضى الحاجة ،ويمهد
الصعوبات ،ويساعد في المهمات ،وينحني على فراش المريض ،ويأسو آالم العيش،
يصلح وال يفسد ،يهتم بأمر المسلمين اهتمامه بأمره وأكثر ،نيته المخلصة ومراقبته هلل
تمنعانه عن تبذير أموال المسلمين ،وتخريب الممتلكات العامة ،وخيانة األمانة .كل ذلك
يعلم أن إماطة األذى عن طريق إخوته صدقة ،وأن أجره على اهلل ،أول ما يأتيه منه هنا
عربون على صورة مجتمع األخوة ،وما عند اهلل خير وأبقى.
252
الشعبة الحادية والخمسون :التواصي بالحق والصبر
هل من سبيل إلى فطام الناس عن الباطل وحملهم على الحق بوازع القرآن وحده؟
وكيف يفطم الناس ،ومن يفطمهم بتعاون وازع القرآن والسلطان معا؟
يتيح فشل الحكام الجبريين ،وظلمهم ،واستياء األمة المستفحل منهم ،فرصة نادرة
ليبرز أهل الحق إلى الساحة ،فهل يعجز جند اهلل كما عجز من سبقهم ،أم يثبتون على
محك التجربة قدرتهم على إحقاق الحق بعد إبطال الباطل؟
الجواب عن هذه األسئلة بتطبيق الشرط الثالث للنجاح وتجنب الخسر كما جاء
في سورة العصر التي كان الصحابة يختمون بها مجالسهم ليتذكر كل منهم واجبه،
وهو شرط التواصي بالحق والتواصي بالصبر .الواعظون بالقرآن وأصحاب السلطان
قلة عددية ،وسيبقون قلة حتى عندما تكون الدعوة منظمة ،وجند اهلل مجندا ،والدولة
متماسكة صارمة ،سليمة في أجهزتها ،كفئة برجالها .فال تستطيع الدعوة وال الدولة أن
تحض ار في كل مكان ،وتراقبا كل حركة ،وتفرضا السلوك المرغوب في كل المجاالت.
إو�نما تستقيم أمور األمة على ما يراد لها إذا شاركت األمة في تحريك حياتها ومراقبة
شؤونها ،الرجال والنساء ،الكبير والصغير ،األمير والمأمور ،كل يقمع السلوك المكروه
المنكر ،ويقوم ويسند جانب الحق.
األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان اإليمان .وهو فرض عين على
مسلم ومسلمة ،حتى ولو أدى بهما ذلك للهلكة .يقول أبو بكر بن العربي في «أحكام
اس}
1 الن ِس ِط ِم َن َّ ين يأْمر َ ِ
ون ِبا ْلق ْ
القرآن» عند قول اهلل عز وجل{ :وي ْقتُلُ َ ِّ ِ
ون الذ َ َ ُ ُ ََ
«قال بعض علمائنا :هذا دليل على وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر إو�ن أدى
إلى قتل اآلمر به» .وقال« :المسلم البالغ القادر يلزمه تغيير المنكر .واآليات في ذلك
كثيرة ،واألخبار متظاهرة .وهي فائدة الرسالة وخالفة النبوة» .وقال« :وليس من شرطه
أن يكون عدال عند أهل السنة .وقالت المبتدعة :ال يغير منكر إال عدل .وهذا ساقط.
253
فإن العدالة محصورة في قليل من الخلق .والنهي عن المنكر عام في جميع
الناس» .ما نرجوه من تعبئة عامة في الشعب بقيادة العدول جند اهلل ،وما نريده من يقظة
عامة يشارك الشعب بمقتضاها في إبطال الباطل إو�حقاق الحق والصبر على المشقات
والتضحيات ،يجب أن يكون سمة جند اهلل فيما بينهم قبل الوصول إلى الحكم وبعده.
ألفت األمة جو الركود والكسل الفكري والعملي ،فال تستقل بفكر وال بمبادرة ،وال تحدث
نفسها باالنتصار للحق والمشاركة في البناء .ال بد من تغيير الذهنية الرعوية التي توهم
الناس بما ألفوه من قمع مزمن أن ال عالج لما هم فيه .ال بد من إعادة الصحة إلى النفوس
والعقول المصابة بداء القعود ،إو�عادة ترتيبها ثم تعبئتها للمشاركة في الجهاد.
إلى جانب نظام الحسبة التابع للدولة ،إو�لى جانب وظائف الدعوة ،يجب أن يشارك
الشعب المسلم في مراقبة اإلدارة واألخالق العامة ،وتقويم ما اعوج ،إو�صالح ما فسد.
وال يعني هذا أن تكون الفوضى ،خاصة إذا شارك عامة الناس ،وهم غير العدول
في تعبير علمائنا ،وهم الجماهير في لسان العصر .كلمة تعبئة تعني تصفيف الصفوف
استعدادا للمعركة .فقبل القومة يتعين على جند اهلل أن يتعلموا التشاور في األمر قبل
العزم ،ثم الصبر على التعاون والتواصي بالحق أثناء تنفيذ مهمات التربية والتنظيم
والزحف .وبعد القومة في مراحل البناء يعبئ جند اهلل أمداد الشعب لتعمل بنظام
وخطة .فإن االرتجال في الفكر والعمل ،والغليان بعد الفتور ،وما يتبع ذلك من تسلسل
االضطراب ،أمراض ساخنة يقابلها األمراض الباردة كاحتكار الفكر والمبادرة ،ومنع نقد
الحكام ،وتنشئة الناس على تأليه السلطان.
ما نقلناه عن اإلمام ابن العربي من وجوب اشتراك العامة في النهي عن المنكر
يلتقي بكلمة لإلمام علي رضي اهلل عنه .نوردها لنسكت من يزعمون بالكذب أنهم مع
الجماهير إذ نقولها بصدق .كتب اإلمام علي إلى محمد بن أبي بكر عامله على مصر:
«فإن سخط العامة يذهب برضى الخاصة ،إو�ن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة،
وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ،وأقل معونة في البالء ،وأكره
لإلنصاف ،وأسأل بإلحاف ،وأقل شك ار عند اإلعطاء ،وأبطأ عذ ار عند المنع ،وأضعف
صب ار عند ملمات الدهر من أهل الخاصة ،أرأيت الوعي الطبقي كما يقولون! ( إو�نما
254
عماد الدين ،وجماع المسلمين ،والعدة لألعداء ،هم العامة من األمة ،فليكن صغوك
(أي سماعك) لهم ،وميلك معهم».
مرضا الهيجان والخمول يماشيان جو الغموض والكذب وكبت حرية الناس .فإذا
صدق الحاكم والعالم ،إذا صدق األمة رجال الدعوة ورجال الدولة ،وصارحوها بأمورها،
فتحوا أبواب المشاركة .فنرجو أن يعقب األجيال الخاملة المنهزمة المظلومة أجيال حية
مثل الجيل الذي خاطبهم أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه.
قال الصديق بعد مبايعته ،يخطب في جند اهلل« :أيها الناس! (أرأيت كيف خاطب
عامة الناس ،كيف كان جماهيريا كما يقولون!) إني قد وليت عليكم ولست بخيركم( .فإن
أحسنت فأعينوني .إو�ن أسأت فقوموني .الصدق أمانة .والكذب خيانة) ،والضعيف
فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له إن شاء اهلل والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ
الحق منه إن شاء اهلل( ،ال يدع قوم الجهاد في سبيل اهلل إال ضربهم اهلل بالذل ،وال
تشيع الفاحشة في قوم قط إال عمهم اهلل بالبالء) .أطيعوني ما أطعت اهلل ورسوله .فإذا
عصيت اهلل ورسوله فال طاعة لي عليكم .قوموا إلى صالتكم يرحمكم اهلل».
نكتب إن شاء اهلل في نظام الدولة اإلسالمية في فصول أخرى .لكن نركز من هاهنا
على أن نجاح العمل اإلسالمي في المراحل كلها ،ال سيما في مرحلة البناء بعد القومة،
رهن بقيام األمة عامة من مواقع الذل التي ضربها اهلل بها لما تركت الجهاد ،إو�نكارها،
ومقاومتها للفاحشة أن تشيع ،وهو بالء من اهلل .الصدق أمانة ،والكذب خيانة ،كما قال
الصديق الحبيب .فإن لم نصدق األمة في الحديث ،ولم نصدق معها على الميدان في
الصبر ومقاسمة الهموم والجهود والبذل ،لم يكن جند اهلل قادرين على إحياء عامة األمة
لتشارك ،وتهتم ،وتفهم ،وتشمر ،وتنفذ .سنكون بدون وضوح النيات ،وصدق العزائم،
ومشاركة الشعب ،عاجزين عن أي تغيير ،ونسقط في ورطة التجارب المتسلسلة الفاشلة.
شعارات غيرنا التهييجية :ديمقراطية ،جماهيرية ،نقد ،نقد ذاتي ،حرية ...ألفاظ
جديدة تتقعقع في أسماع الناس وال نرى لها مثاال مجسدا يشبه ولو من بعيد البعيد
الذي كان قائما يوم خطب الصديق ،والذي سيقوم إن شاء اهلل على منهاج النبوة إن
وفينا حقه.
255
الشعبة الثانية والخمسون :تأييد اهلل عباده المجاهدين
با لغيب
نق أر في سنة الرسول صلى اهلل عليه وسلم أخبا ار عن المعجزات ،فهل كانت
المعجزات آيات كونية أقنعت العقول بصدق الرسالة فقط ،أم كانت من العوامل التي
أيدت اإليمان في القلوب؟ هل هي ظواهر انتهت بموت المصطفى المؤيد صلى اهلل
عليه وسلم ،أم هي لوازم الجهاد الصادقين ،وشعبة من شعب اإليمان ،ماضية إلى يوم
القيامة تتجدد كلما تجددت شروط ظهورها؟
ال نطيل الكالم في أن الكرامة ثابتة ألولياء اهلل ،إنما نريد أن نعرف أن الكرامة
الثابتة للولي الفرد تثبت أيضا للجماعة المجاهدة .فإن غالب معجزات رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم وقعت في الغزوات ،والمؤمنون في جهاد وصبر ومعاناة .فكانت
المعجزات خطابا إلهيا لتلك القلوب المتوكلة على ربها أنها على الحق.
وكلما برز المؤمنون إلى ساحة الجهاد ،ولجأوا إلى اهلل تعالى ،واضطروا إليه،
جاء النصر الغيبي .واق أر ما كتبه اإلخوان المسلمون من كرامة اهلل لهم وهم في السجن
والعذاب .وتابع خبر الكرامات الباهرة التي أيد اهلل تبارك وتعالى بها جهاد المؤمنين في
أفغانستان ضد الروس.
عند اإلمام مسلم ،في كتاب الزهد والرقائق عند ذكر معجزة الشجرتين اللتين
تحولتا من مكانهما لتست ار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،أن أبا اليسر راوي الحديث
قال« :سرنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وكان قوت كل رجل منا ،في كل يوم،
تمرة .فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه .وكنا نختبط بقسينا ونأكل (أي نسقط أوراق
الشجر) .حتى قرحت أشداقنا».
عند هذه الشدة وأمثالها يظهر التأييد الغيبي ،قال جابر رضي اهلل عنه في سياق
الحديث عن غزوة بواط هذه التي تحدث عنها أيضا أبو اليسر« :فأتينا العسكر ،فقال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :يا جابر ،ناد بوضوء» فقلت :أال وضوء؟ أال وضوء؟
256
أال وضوء؟ قال :قلت يا رسول اهلل! ما وجدت في الركب من قطرة».
عندما تقرحت األشداق ،وظمأت األنفس المجاهدة ،ظهرت المعجزات ،ونبع الماء
من بين األصابع الشريفة حتى روي جند اهلل.
روى مسلم في هذه الغزوة قال« :وشكا الناس إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
الجوع فقال« :عسى اهلل أن يطعمكم» فأتينا سيف البحر .فزخر البحر زخرة .فألقى دابة.
فأورينا على شقها النار .فأطبخنا واشتوينا وأكلنا حتى شبعنا».
معجزات جاءت في الشدة ليؤيد اهلل جهاد المؤمنين ،ويربط على قلوبهم ،ليعلموا
أن لهم ربا ينصرهم لما نصروه .وكذلك نحن عندما نعدد المهمات الشاقة أمامنا ،ال
نفزع لضخامتها .فعون اهلل مضمون إن شاء اهلل ووفينا ما عاهدنا اهلل عليه .واهلل أكبر!
كما نحتاج إلى تأييد اهلل العام لنا في جهادنا نحتاج إلى تأييد خاص في ميدان
األرزاق .كان الصحابة رضي اهلل عنهم يشاهدون المالئكة تقاتل معهم فيزدادون قوة،
ونحن قتالنا ال ينحصر في ميادين الجالد لنخرج أعداء اهلل الصهاينة وغيرهم من بالد
اإلسالم ،بل يتوسع في ميادين التعليم والتصنيع والتنمية .نحن بحاجة إلى معجزة
اقتصادية .وستكون لنا تلك الكرامة إن شاء اهلل ووفقنا إلعداد القوة ما استطعنا ،ال
نعطل األسباب.
روى البزار حديث الخالفة على منهاج النبوة الذي ذكرناه أول هذه الفصول مع
زيادة مبشرة نرجو اهلل عز وجل أن يجعلنا أهال لها .فقد نقل اإلمام الشاطبي أن البزار
روى بسند حسن صحيح أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إن أول دينكم نبوة
ورحمة .وتكون فيكم ما شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها اهلل جل جالله .ثم يكون ملكا
عاضا ،فيكون فيكم ما شاء اهلل أن يكون ،ثم يرفعه اهلل جل جالله .ثم يكون ملكا
جبرية ،فتكون ما شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها اهلل جل جالله .ثم تكون خالفة على
257
منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ،ويلقى اإلسالم بجرانه في األرض (ينتشر
ويتمكن) ،يرضى عنها ساكن السماء وساكن األرض .ال تدع السماء من قطر إال
صبته مد اررا ،وال تدع األرض من نباتها وبركتها شيئا إال أخرجته».
آم ُنواْ
َه َل ا ْلقَُرى َ وشرط هذه الكرامة اإليمان والتقوى .قال اهلل عز وجلَ{ :لَ ْو أ َّ
َن أ ْ
السم ِ
اء َواأل َْر ِ ٍ
ض}. َواتَّقَواْ لَفَتَ ْح َنا َعلَ ْي ِهم َب َرَكات ِّم َن َّ َ
1
انظر كيف حلت نقمة اهلل المجسدة في أموال البترول على حكام الجبر ،يمألون
أبناك اليهود بها ،يغذون ثعابين الصهيونية .وكيف عم الرخاء الزائف شعوبنا المضللة
التي تحولت إلى مجتمع مستهلك رخو .يضيف الجبريون إلى هزائمهم العسكرية جريمة
إفساد األمة بإلهائها عن الحق ،إو�غراق أسواقها ببضائع اللهو والفساد والعبث .غثاء!
إو�نما تأتي البركة من السماء واألرض يوم تنبري األمة بقيادة طليعتها من جند اهلل
للجهاد في سبيل اهلل ،تنكر العبث واالسترخاء ،وتغير منكر التبعية للجاهلية ،ومنكر
االستبداد الجبري ومنكر المناهج الضالة ،تعمل بسنة النبي على منهاج النبوة ،حكما
واجتماعا ،واقتصادا وثقافة ،وتعليما وصناعة ،وفالحة وسلوكا عاما.
إنما تحل البركة على المؤمنين المتقين ،وبساحة القوم المنذرين سوء العاقبة ،الذين
أهانوا األمة وقتلوا فيها الرجولة.
1األعراف96 ،
258
الخصلة السابعة
السمت الحسن
عن عبد اهلل بن سرجس رضي اهلل عنه أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال:
«السمت الحسن والتؤدة واالقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة» رواه
الترمذي وقال :حديث حسن غريب ،رواه اإلمام أحمد ومالك وأبو داود بنحوه .وروى
الضياء عن أنس هذا اللفظ« :السمت الحسن جزء من خمسة وسبعين جزءا من النبوة»
وصححه السيوطي.
فهذه الخصلة واللتان تليانها منشقات من هذا الحديث .السمت معناه لغة القصد
والطريق القويم والهيئة الحسنة.
نقل ابن القيم في «زاد المعاد» في حديث طويل صححه عن عبد اهلل بن اإلمام
أحمد وغيره أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بايع لقيطا بن عامر على «إقام الصالة
إو�يتاء الزكاة وزيال الشرك ،وأن ال يشرك باهلل شيئا».
259
شرط رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على ذلك األعرابي زيال الشرك عند انتقاله
من جاهلية إلسالم .والمسلمون عند تجديدهم اإليمان مطالبون بزيال الفتنة والتميز عنها
أفرادا وجماعة ،سلوكا وأخالقا ،سياسة واقتصادا ونظاما.
كل منا له ماض نشأ فيه بين أحضان بيئة ملوثة ،وكل منا يعاني في حاضره من
أوضار الفتنة ،إن لم يخض فيها مكرها أصابه من غبارها.
ليس هذا هو الزيال المرجو .فإن أسلوب تكفير المسلمين كان أول مروق عن اإلسالم
بين من سماهم المسلمون خوارج .أولئك خرجوا عن المسلمين وكان للمسلمين إمام منهم،
وخوارجنا من كل األصناف يكفرون العامة والحكام ،والصالح والطالح ،ويجمعون كل
أولئك في قرن مع دعاة اإلسالم وبناته.
يق أر بعض الشباب الغض كتب بعض علمائنا من أمثال المودودي وسيد قطب
رحمهما اهلل ،فيجدون كلمة «الجاهلية» تطلق على مجتمعات الفتنة التي نعيش فيها،
فال يأخذون من المعنيين اإلثنين لهذه الكلمة إال ما يسبق إلى أوهامهم ،فيعتقدون أن
علماءنا كفروا األمة .فمن ذاك الباب يدخل عليهم التطرف .وقد قال رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ألبي ذر لما شتم رجال وعيره بلون أمه« :إنك امرؤ فيك جاهلية» .فما
قصد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن أبا ذر كفر ،إنما قصد أن ما في طبعه من
شذوذ وما على لسانه من حدة صفتان أحرى بهما أن يتنزه عنهما المؤمن.
ونحن نفضل استعمال كلمة «فتنة» لوصف مجتمعاتنا ،فهي كلمة نبوية ،وفي
كتب الحديث فصول خصصت لذكر ما حدث به الرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم
عن نشوء فتن واضطرابات في األمة ،ما ذكر أنها تخرج األمة عن إسالمها .إنما هي
أمراض ،بعضها أخطر من بعض ،والزيال الواجب لها ليس في االنسحاب واالستعداد
260
لنسفها ،لكن في معالجة الفتنة لنقضي على الفتنة ال على الناس.
بعض الشباب يقرأون كتبا حرفية هجومية على المسلمين .وقد يكون منهم من
هو في أحضان التربية الجهادية ،حتى إذا ق أر في كتيبات تدعو لها بعض الجهات،
وتشجعها ،وتجند لكتابتها إو�ذاعتها بعض فقهاء الوقت ومحدثيه ،أن الشرك والبدعة
السائدين في المسلمين أولى بالقتال من فتن الحكم الجبري وأصوله ،انقلب يقاتل أباه
وأمه والمسلمين .يبسط لسانه ويده ،ويشير بأصبع االتهام والريبة للمسلمين يتحول معول
تخريب في عملية تآمرية عميدها الشيطان ،ووزراؤه فيها أعداء اإلسالم.
دعاة ال قضاة:
يرحم اهلل األستاذ حسنا الهضيبي ،فقد قاسى من تطرف بعض الشباب الذي ق أر
فلم يهضم ،وعرضت عليه التربية فلم يصدق ،ومارس العمل المنظم فوجد االلتزام
المسؤول ثقيال والنقد الهدام مريحا .وكتب األستاذ رحمه اهلل كتابه بهذا العنوان «دعاة
ال قضاة» يشكو بين السطور .فذاك درس لنا من أهم الدروس.
إن منصة القاضي والمتهم للناس رئاسة قلما يتمنع عليها الضعفاء .ال سيما إن
نزغ الشيطان في نفوسهم أنهم وحدهم بخير ،وأن الناس سواهم هلكى .فعند ذاك تتحول
كل حركة من غيرهم شركا وبدعة ،ويصبحون هم الخصم والحكم .وتغتر الدهماء من
العامة بكل عليم اللسان وتتألف كتائب الهدم .روى اإلمام أحمد ومسلم وغيرهما عن
أبي هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال « :إذا قال الرجل :هلك الناس فهو
أهلكهم».
إن واجبنا أن نجلوا للناس بمثال سلوكنا وبتعليمنا وفكرنا وخطتنا أن هذا اإلسالم
رحمة ،وأن ما فيه أمتنا أفرادا وجماعة بالء ال يمس جوهر عقيدتها رغم ردة أفراد
وانحراف فئات وبدعة العامة.
261
أمتنا في صراع حياة أو موت مع الجاهلية التي تغزونا من خارج بتعاون مع
ممثليها وأبنائها الروحيين من بني جلدتنا من الملحدين والمنافقين والماديين.
األمة المسلمة مجموعة بشرية تتألف من أفراد يتفاوتون إيمانا .يتراوحون من النفاق
إلى اإلسالم الموروث إلى اإليمان المتطلع إلى الصالح واإلحسان ،والمهمة أن تتألف
من هذه األفراد كتلة متماسكة مسؤولة عن إقامة دين اهلل في األرض .ما المهمة ،وال
يكفي أن نحارب شرك األفراد وبدع المبتدعين .وما بذهنيه التكفير يمكن أن نربي جيال
نموذجا يمثل اإلسالم في عقيدته وأخالقه ،في عبادته وجهاده.
بين المسلمين والجاهليين صراع وجود ،صراع حضارة ،صراع نماذج .نحن ننظر
إلى نموذجنا الخالد في حياة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه وجهادهم نريد
أن نجدده .والجاهليون يقنعون أبناءنا ،حين ألجأتنا ظروف االستعمار ،واغترار بعضنا
بثقافتهم ،واضط اررنا الستيراد أساتذة منهم ،أو بعث أبنائنا إلى أرضهم ،أن تراثنا تخلف،
وأن فكرنا جهل ،وأن ديننا إفك .والمكفرون يدعون أنهم حماة الشريعة والسنة ،يحاربون
المؤمنين ويوالون الطاغوت .فعندهم ،نعوذ باهلل ،أن حكام البعث الملحدون أهون خط ار
على اإلسالم من عجوز تعبد األضرحة ،أو عالم من صالحي األمة يخالفهم في المذهب
الفقهي.
ولنحن أحوج إلى من يمد الجسور بين المسلمين في هذا العهد المبارك الذي يمد
فيه عقالء إخوتنا الشيعة بعد قومة إيران المباركة إن شاء اهلل يد األخوة إلى سواد األمة.
في األمة خرافات وبدع وأمراض وشرك ال بد من تطهيرها .وجند اهلل حين يتألف،
وحين يزحف ،وحين يتولى الحكم ،مسؤول أن يعطي المثال ،ويفرض النموذج السلوكي،
ويربي عليه .والتطهير والتربية عمليتان تطلبان الوقت ،وتطلبان الرفق .إن كنا نظن
أن تفصيل األمة بسيف قاطع ،يميز في الحين األجزاء الصالحة والفاسدة بعضها عن
بعض هو العالج ،فما نحن هناك.
262
التمييز الطبقي أساس فلسفي وعملي لثورة الجاهليين يمكنهم بواسطة «دكتاتورية
البرولتاريا» من تصفية طبقة إو�حالل طبقة أخرى محلها.
أما قومة اإلسالم فال يكفي فيها القضاء على الفارق الطبقي ،إنما يتعين أن ينبعث
المستضعفون من تحت الفتنة ،كما انبعث المستضعفون مع الرسل عليهم السالم من
تحت الجاهلية ،ليثبتوا بصمودهم في وجه المستكبرين ،وسطهم مزاحمة ومدافعة وجهادا،
حتى يملكوا النصر إو�مامة األمة .باألسلوب النبوي والمنهاج النبوي .ثم يبسط المؤمنون
نفوذهم المعنوي على مراحل الدعوة ،ونفوذهم السلطوي بعد قيام الدولة اإلسالمية،
فيؤثروا في البيئة الفتنوية على كل مستوياتها ،بالتدرج والسير الرتيب .إن كان العدل
اإلسالمي –عدل القضاء وعدل األرزاق -هو أول المهمات وأظهرها لعين المراقب ،فإن
التغيير الجذري لألمة هو هدف القومة.
في مظهر المؤمنين ومخبرهم ينبغي أن يقع تحول .في اللباس ولهجة الخطاب.
زيالنا عن عادات الكفار في العاديات والفكر واألسلوب معا .ال نلبس لباسهم إال لضرورة
التدرج في طرح التقليد .بعضنا يتسامح في هذا وأمثاله من حلق اللحية أو نصفها،
ومن األكل بالشوكات وما شابه من جزئيات المظهر والسلوك .إن مسخ التقليد درجات
بعضها أخسر من بعض .فال نعمد إلى الجزئيات من ذلك نتخذها ميادين لمعارك
جانبية .لكننا بعد التخلص من أسباب المسخ في الجذور ال بد أن نستأصل فروعه
وكل مظاهره ،سيما ما خالف منها السنة .ما زيال فكرهم بأولى من زيال عاداتهم ،إو�نما
السمت الحسن أن نقصد بهمتنا إو�يماننا وأعمالنا الصالحة مقصد رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،ونظهر بمظهره ،ونقلده في جليل األمر وعاديه.
هذا االتباع لسنة المصطفى صلى اهلل عليه وسلم في سلوكه الخاص والعام ،باستثناء
خصوصياته صلى اهلل عليه وسلم في حياته اليومية والرسالية ،في سلمه وحربه ،في حله
263
وترحاله ،في تقلله وبساطته ،هو الضامن الوحيد لقلع جذور الفتنة من بيننا.
وليس الحرص الشديد على هذه المتابعة النورانية هو التنطع ،إنما التنطع أن يعمد
بعض الناس إلى جزئيات من الشريعة يؤولها بفهمه ،ويسخر فهمه لتغليب شهوته في
الظهور ،ليفتن المسلمين والمؤمنين.
روى أبو داود والطبراني أن رسول اهلل صلى اهلل وسلم قال« :من تشبه بقوم فهو
منهم» .فال يتم الزيال بمفارقة الشرك والنفاق حتى نزايل النموذج الكافر فال نتشبه به
في فكره وال خلقه وال عاداته .ذلك أن العزة هلل جميعا ،فمن طلب العزة في غير جانبه،
والتمس باقتفاء سبيل الكافرين عضدا ،فقد ذل لغير من أمر بالذلة لهم .قال اهلل تعالى:
َعَّزٍة علَى ا ْل َك ِ
ين أ ِ
ُّه ْم َوُي ِحبُّوَن ُه أ َِذلَّ ٍة َعلَى ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ ِ {فَسو َ ِ
اف ِر َ
ين َ ف َيأْتي اللّ ُه ِبقَ ْوٍم ُيحب ُ َْ
ِ
ون لَ ْو َم َة آلئٍم}. ِ
يل اللّه َوالَ َي َخافُ َ س ِب ِ ِ يج ِ
ون في َ اه ُد َ َُ
1
عباد اهلل حقا ال يستعبدهم استعالء الجاهليين فيقلدوهم .وقد ابتليت األمة بهذا
االستعمار الذي تطور من احتالل فعلي إلى احتالل عم فكرنا وعقيدتنا وأساليب
حياتنا .وال بد من طرد النموذج الجاهلي مع استخالص ما هو قسمة مشتركة بين
البشرية كالعلوم الكونية والصناعية التقنية .نقدر على ذلك فقط إن رضينا باهلل ربا،
وباإلسالم دينا ،وبمحمد صلى اهلل عليه وسلم نبيا ورسوال .عندئذ يهون في أعيننا ما
1املائدة54 ،
264
نراه من تفوق مادي لحضارة الجاهلية ويظهر لنا جليا ما وراء تفوقهم الحضاري المادي
من بؤس اإلنسان البعيد عن اهلل المتنكر لدين اهلل ومن حقارته في ميزان الحق.
ما الحياة الدنيا إال متاع الغرور ،بهذه النظرة إلى الدنيا يميز المؤمنون ما هو عابر
مما هو خير وأبقى .ثم يق أر المؤمنون قول اهلل عز وجل{ :الَِّذي َخلَ َ
ق ا ْل َم ْو َت َوا ْل َح َياةَ
ع َمالً} 1.وما في معناها من اآليات ،فيدركوا عظم ما ترك لهم س ُن َ ِل َي ْبلُ َو ُك ْم أ َُّي ُك ْم أ ْ
َح َ
من حرية ومسؤولية لينافسوا الكفار ،ويجاهدوهم ،ويغالبوهم بوسائل الدنيا المسخرة لنا
جميعا .وفرق بين تقليد الغالب لسلطان غلبته ،وبين استخالص ما معه من سالح لقهره
واالستعالء عليه.
فاجأ الغرب الجاهلي مجتمعاتنا الراقدة على موروث فتنوي بقوته العسكرية ،وقوته
التنظيمية والصناعية ،وبهرجة حضارته .فخيل ألجيالنا التي عاشت االستعمار وما
بعده أن ما عند الغالب الغازي هو الحق ،وأن الحياة تطور وتقدم ،وأن ما مضى من
تاريخنا وتاريخ البشرية مراحل طفولية ،كل ما فيهما من قيم يليق أن يطرح لنتبنى الفلسفة
التقدمية والقيم المادية التي تمأل سمع الدنيا وبصرها.
مالت القلوب لتعظيم الكافرين ،وتسرب إلى العقول واحتلها فكرهم ،إو�لى مجاالت
حياتنا السياسية واالجتماعية والثقافية واالقتصادية والقانونية واليومية معاييرهم وتقويمهم.
وعلى سطح حياتنا ،طافية على لسان حكام الجبر ،شعارات اإلسالم ،منافقة تكتب
في الدساتير الوضعية ،وتعلن في المواسم .ولوال أن سواد األمة بقي في ق اررة نفسه
يؤمن باهلل ورسوله ودينه حقا لكان النفاق عم .ولوال هذه األجيال الصاعدة المبشرة
بتجديد الدين ،الراجعة من مسار «التقدمية» ،تلك التقدمية التي تعني ضياع شخصيتنا،
وتفضي إلى ذوباننا في الجاهلية ،لكان النموذج الجاهلي منتصرا.
نعم إنه نفاق أجيال ،ومواالة الكفار باإلعجاب بحضارتهم ،والميل إليهم .وما
1امللك2 ،
265
يصيبنا وسط الذين ظلموا من عذاب إنما هو من انهزامهم أمام الكفر ،ثم انخداعهم
َن لَ ُه ْم َع َذاباً أَِليماً الَِّذ َ
ين اف ِق َ
ين ِبأ َّ ش ِر ا ْلم َن ِ
به ،ثم ميلهم إليه .قال اهلل عز وجلَ { :ب ِّ ُ
العَّزةَ ِللّ ِه
ند ُهم ا ْل ِعَّزةَ فَِإ َّن ِ
ون ع َ ُ
ين أَي ْبتَ ُغ َ ِ ِ ين أ َْوِل َياء ِمن ُد ِ
ون ا ْل ُم ْؤ ِمن َ َ
ون ا ْل َك ِ
اف ِر َ َيتَّ ِخ ُذ َ
1
َج ِميعاً}.
وقد مضى إن شاء اهلل عهد كان ذراري المسلمين فيه يعتز بعضهم بتقليد الغربي،
والرطانة بلغته ،والظهور إلى جنبه كالند ،ومشاركته في فكره «التقدمي» ،واالنتصار
والترويج له بيننا.
أقول مضى بلفظ الماضي استبشارا .إو�ال فالنموذج الجاهلي ضارب أطنابه ال
يزال بين الفئة المغربة من ذ اررينا .ولئن كان من «موضات» الجاهلية الحديث عن
ذاتية وأصالة القوميات ،واأللوان واللغات ،فما هي إال نكبة من نكبات التغريب .ألن
تلك العبارات إنما تعني إنكار الدين والرجوع إلى وثنية العصبية للعرق واللون واللغة
والقومية.
يريد بعض ذ اررينا المغربين التميز بقوميتهم وقبيلتهم وعجمتهم ،وال يشعرون أن
هذا التميز التعصبي ال يخرجهم عن دائرة الحضارة والثقافة الغربيين .وبالعكس يفصل
بينهم وبين إخوانهم المسلمين الموحدين باإليمان عاليا فوق هذه القاذورات العصبية.
...فأعضوه...
إن تجديد الدين يبعث اهلل له على رأس كل مائة سنة رجاال ليسددوا سير األمة على
الصراط السوي ،صراط اهلل الذي له ما في السماوات وما في األرض ،وصراط الذين
أنعم اهلل عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .وقد كان في سير القطار
اإلسالمي ميالن وانحراف على مدى قرون الفتنة .لكن هذا القطار زاغ تماما عن سكته،
وانحرف بنصف دائرة عن وجهته ،بدفع الصدمة االحتاللية وجر االستعمار المتطور
1النساء139-138 ،
266
المتشكل ،وقيادة حكام الجبر المغربين من بني جلدتنا.
فمهمة التجديد في مطلع هذا القرن المبارك الموعود أن نعيد القطار إلى سكته
ووجهته ،ال أن نتقدم على درب التقليد والتبعية والتخاذل أمام الحضارة الدوابية اآلخذة
في األفول على مستوى اإلنسان ،إو�ن كانت ال يزال لها وميض من صناعتها المتفوقة
وقدرتها على التنظيم وأسلحتها الجهنمية.
ال تقدم لنا يرجى من تخلفنا الحضاري ،وال نهضة لنا من كبوتنا التاريخية ،ما
دمنا نسير قطار األمة على سكة الجاهلية ،وبوقودها الفكري ،وسياستها المتوجهة إلى
استعباد عقولنا ونفوسنا وطاقاتنا وأرضنا لها .إنما نتقدم ونتعلم ونتحرر إن خرجنا من
جاذبيتهم ،وولينا ظهرنا لنموذجهم واتجاههم.
267
قضاء مرتش .فوضى قانونية .قمع بوليسي .والقائمة طويلة.
إن حياة الناس وسط الفتنة ،أوقاتهم اليومية واألسبوعية والموسمية ،عالقاتهم،
عاداتهم ،نظامهم في العمل والبيت والشارع ،ثقافتهم ،مدارسهم ،جرائدهم ،كتبهم،
إعالمهم ،يسودها النموذج الجاهلي الفاسد .حركتهم تسير على سكة غير سكتنا.
العاطفة والفكر والجسم مرهونة مشدودة مستعبدة بسلوك منكر أصبح معروفا .فرضته
العادة .فرضه سلطان الغلبة على ميدان المعركة الحضارية .صرعنا! هزمنا!
فال بد أن يزحف جند اهلل إلى مواقع العدو ويملؤوا حياة األمة في كل الميادين
بالسلوك اإليماني ،ال بد أن يغيروا السكة واالتجاه .وتبشر فتوة هذا الشباب الطاهر
الصاعد والحمد هلل بقومة تقيمنا من صرعتنا التاريخية .وتعود إن شاء اهلل الهزيمة
على الجاهلية التي نراها منذ قومة إيران والجهاد الفذ المنتصر بإذن اهلل في أفغانستان
في موقف الحيرة والدفاع والكيد الثعلبي الخسيس ،وقد كانت علينا قبل ذلك أسدا
كاسرا.
هذا الزحف الجهادي الذي به نسترجع كرامتنا وحريتنا من أسر النموذج الجاهلي
لن يقوده دعاة السمت السيء سمت القومية والقبلية والتفرد باالنتماء واللهجة والتربة
والجهة.
كل فلول األحزاب السياسية والحركات القومية واألصالية مفتوحة لهم األذرع
ليسيروا في خط اإلسالم ،بعلم اإلسالم وحافز اإليمان ،مع الشعب المسلم والطليعة
المجاهدة .نستقبلهم بالترحاب من باب التوبة.
ونريد أن يعرف الكل أن هذا التميز القومي الذي قلدنا فيه الجاهلية ،وهذا التميز
الفلكلوري الذي تقلصت إليه القومية في دول الجاهلية ،ال مكان لهما في اإلسالم،
إسالم الوحدة الذي ال يعترف بفروق الجنس واللغة واالنتماء الوطني المحلي والترابي،
وال بالحدود الفتنوية التي قسمت دار اإلسالم إلى ما نرى من شظايا .ال يعترف ،بل
يقاتل أشد القتال.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه أبو داود« :ليس منا من دعا إلى
عصبية .وليس منا من قاتل على عصبية .وليس منا من مات على عصبية» .وروى
ابن كثير أن جاب ار بن عبد اهلل قال« :كنا في غزاة ،فكسع رجل من المهاجرين رجال من
األنصار .فقال األنصاري :يا لألنصار! فقال المهاجر :يا للمهاجرين! فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم :دعوها! إنها منتنة!».
وروى البخاري في األدب واإلمام أحمد وغيرهما أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
قال« :من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه وال تكنوا» .أي قولوا له لتجزروه
عن العصبية هذه القولة البليغة التي تصيب األعرابي في صميم شعوره وتؤلمه.
ويقول الخليفة الراشد عمر رضي اهلل عنه مؤكدا الحديث الشريف« :من اعتز بالقبائل
فأعضوه ،أو أمصوه!» أي قولوا له :يا عاض كذا! أو يا ماص كذا!
وروى البخاري في صلح الحديبية أن عروة بن مسعود لما كان يخاطب رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان فيما قال له« :هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله
قبلك؟ إو�ن تكن األخرى (أي إن انهزمتم) فإني واهلل ال أرى وجوها ،إو�ني ألرى أشوابا
(أي أخالطا) من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك» فذكر العربي المشرك ما يعرفه من
عصبية الجاهلية ،ووصف أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأنهم أخالط من
قبائل شتى ،وذكر ما ألفه من أن الجنود المنتصرة إنما هي جنود تربطها العصبية القبلية
والحمية الجاهلية .لذلك انبرى له أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه فقال له« :يا ماص
بظر الالت! أنحن نفر عنه؟» فعيره بتلك الكلمة الجارحة ،ولم يذكر أباه وال أمه بل ذكر
معبودته الالت .وذلك أنكى فيه.
كذلك نحن في تحركنا المبارك بإذن اهلل ،نتميز عن األحزاب السياسية ،والحركات
القومية ،والجهوية القبلية ،وسائر االنتماءات المفرقة ،ونزايلها .إو�ن اضطررنا إلى
الدخول في مرحلة ما في تنافس ديمقراطي تحت مظلتهم ،فإنما نفعل ليفتضح أمام
الشعب تهافتهم وأنانيتهم واستكبارهم .ليعلم المسلمون بالتجربة أن حزب اهلل وحده القادر
بتأييد اهلل على َس ْوق الخير لألمة ،وعلى تحريرها من التيار الذي يجرفها إلى المصير
المكروه.
269
ثم ال نفتأ ندعو المغربين من ذ اررينا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم ،أن نتوب جميعا
إلى اهلل ،ونتوحد على نصرة دينه وقضيته ،وهي قضية األمة المباركة التي تعاني نكسة
تاريخية ،وقضية المستضعفين في األرض جميعا ،وقضية اإلنسان الذي خلقه اهلل ليكرم
فأهانته حضارة المادية ،واستبعدته وأبعدته عن اهلل.
يليق بجند اهلل أن يكتبوا في الفتات أمام أبوابهم للواردين« :أيها الداخل الوافد،
كن عمر بن الخطاب وقد أنت المسيرة».
هؤالء الشباب والكهول التابعون لنموذج الغرب والشرق الجاهليين ،أسرى ثقافته
ونمط حياته ،رهائن الغزو الفكري والحضاري ،ما هم إال وقود بشري يحترق في أفران
القاطرة التي تجر قطارنا بسرعة انتحارية إلى الهاوية التي تسير إليها الجاهلية.
يحسبون أنهم يقودون السياسة واالقتصاد والفكر في بالدنا ،وما هم إال إمعات
مسكينة.
يحسبون أنهم مهندسو القاطرة وقادتها وموجهوها .إو�نما هم وقودها يحترقون في
الدنيا في لهيب اإلديولوجية الثورية المحمومة ،أو في جحيم المتاع الدوابي ،أو في نار
الحركة المجنونة لجمع المال والجاه وخدمة أسيادهم ممن يبتغون عندهم العزة.
نقول للوقود البشري في أتون الجاهلية :هلم إلينا ،فباإلسالم فقط يمكن أن نصنع
قاطرة توصلنا إلى اهلل في الدار اآلخرة ،إو�لى الكرامة والعزة والحرية والتقدم الحضاري
في الدنيا .باإليمان فقط يمكن أن نحول وجهة قطارنا ،ونقطع حبال الجاهلية،
اف ِق َ
ين َل ين ولَ ِك َّن ا ْلم َن ِ
ُ
ِ وننطلق إلى مستقبل العزة{ .وِللَّ ِه ا ْل ِعَّزةُ وِلر ِ
سوِله َوِل ْل ُم ْؤ ِمن َ َ
َ َ ُ َ
1
ون}.
َي ْعلَ ُم َ
قد يتعين هدم الباطل قلعة قلعة ،وفك القاطرة مسما ار مسمارا .وقد يتم الهدم
والفك دفعة واحدة ،ألن البناء متهر والمسامير صدئة ،ما يمسك كل ذلك إال الجاهلية
التي تسند أنظمتنا التابعة .لكن إعادة البناء تطلب أن نجمع كل جهودنا ،وأبناؤنا يوم
1املنافقون8 ،
270
يرجعون من امبريالية أمريكا ،وفلسفة ماركس ،وثورية لينين ،إلى اهلل ورسوله وهم الطاقة
التي نرجو اهلل أن يسخرها لتبني وتقود.
وعلماؤنا يوم يرجعون إلى اهلل ورسوله ،يأتمرون بآيات الجهاد ،ويكفون عن تبرير
األمر الواقع ،هم المحضن الذي ننتظر أن تأوي إلى دفء إيمانه الفلول الوافدة إلى
اإلسالم.
شعب الخصلة
روى اإلمام مسلم والترمذي عن أبي مالك األشعري قال :قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم« :الطهور شطر اإليمان .والحمد هلل تمأل الميزان .وسبحان اهلل والحمد هلل
تمآلن -أو تمأل -ما بين السماء واألرض .والصالة نور .والصدقة برهان .والصبر
ضياء .والقرآن حجة لك أو عليك .كل الناس يغدو :فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها».
طهارة الظاهر تزكية للجسم ليقف أمام اهلل عز وجل وقفة المصلي المتلقي فيض
اإليمان .فهي تطهير الوعاء من ظاهره ،لذلك كانت نصف اإليمان .والنصف اآلخر
تطهير الوعاء من داخله ،وهو القلب ،بذكر اهلل ،والصالة ،والصدقة ،والصبر ،وسائر
القربات وال طهارة ترجى للقلب دون الطهارة الشرعية من الخبث والحدث بشرائطها.
المؤمن الفرد والمجتمع اإلسالمي المتجدد ينبغي أن تشيع فيه معاني الطهر
والنظافة ظاه ار وباطنا .فالنظافة في العاديات طهارة يثاب عليها إن كانت النية إماطة
األذى عن المسلمين .نهى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن البول في الماء الراكد،
وعن الالعنين (أي المتسببين في اللعنة) وهما التخلي (أي التبرز) في طريق المسلمين
وظلهم .فها هو أصل إيماني لمحاربة تلوث البيئة وهي آفة من آفات العصر .في بيئات
الجاهليين تلوث مزدوج ،تلوث األخالق والفكر والنفس ،مع تلوث البيئة الطبيعية بآثار
271
الصناعات والتعمير .ونحن إذ نشكو من التلوث األول مثل ما بهم ،نحتاج إلى صناعة
وتعمير نظيفين.
على قدر اعتناء جند اهلل بالمخبر إذ يجاهدون لتطهير األمة من الظلم وهو كفر،
ومن الحكم بالباطل ،ومن البدع والفسق واإللحاد وسائر الرجس ،يجب أن يعتنوا بمظهر
الجسوم وسائر مرافق الحياة ،ويطهروا مجتمعاتنا من كل الخبائث.
من القربات إلى اهلل إسباغ الوضوء بعد إتقان طهارة الخبث ،وصالة ركعتين بعده،
وغسل الجمعة ،وخصال الفطرة وهي قص الشارب ،إو�عفاء اللحية (وال حاجة للجدل في
كيفية القص واإلعفاء ،وال حاجة لتعزيز من يحلق لحيته بنية التستر عن المجرمين في
المجتمعات التي تضطهد اإلسالم) ،واستنشاق الماء ،وانتقاصه (أي االستنجاء) ،وقص
األظفار ،وحلق العانة ،ونتف اإلبط (في فترات متقاربة) ،والسواك الدائم ،والختان .ومن
سنن اإلسالم النظافة بكل معانيها والتطيب سيما يوم الجمعة والعناية بالشعر بال مبالغة
والخضاب بالحناء والكتم.
وللحمام آداب وحدود .طلب المؤمنات أال يغشينه إال اضط ار ار عند بعض الفقهاء
كما شد عليهن أال يتطيبن للخروج .والتبرج وأسبابه من وشم ووصل وما شابه من
أصباغ آفة عظمى ،وتلوث جاهر ،على جند اهلل أن يطهروا منه البيئة مع سائر الخبث.
أول ما يميز المؤمن من الكافر على مستوى الشعور بذاته وجسمه هو أن للمؤمن
عورة ،بمعنى أن لجسمه كرامة ،وليست للكافر عند نفسه وال عند اهلل ،فهو نجس كله
وعلى المؤمنين مراعاة الستر بدقة ،خاصة المؤمنات أثناء خروجهن من اإلباحية
إلى االلتزام بشرع اهلل تعالى .ال بد من الرياضات البدنية للشباب الطاهر .وشرطاها
اإلسالميان من حيث المظهر أال تكشف فيها عورة وال يضرب فيها وجه.
272
أمر اهلل المؤمنات أن يدنين عليهن من جالبيبهن ،ونهاهن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم عن اللباس الواصف لما تحته ،ومن الواصف عند الرجال هذه البنطلونات
التي عم بها البالء .هي أنسب للتشمير والكد .لكنها تصف وتعرقل حركات الصالة.
وما لدينا من سراويل فضفاضة تصلح للتشمير إن هذبت ،دون أن يشينها المحظور
الشرعي الذي يشين البنطلون.
نهي المؤمنون والمؤمنات عن لباس الخيالء والتكبر ،وعن جر الثوب تكبرا .وعن
لباس الحرير والذهب للرجال .ونهي نهيا مشددا عن تشبه النساء بالرجال والعكس.
من حديث لمسلم والترمذي« :إن اهلل جميل يحب الجمال» فعلى المؤمنين والمؤمنات
أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد ،وأن يكونوا شامة بين الناس .فإن المظهر الجميل
النظيف من مكمالت الدعوة .وال نتشبه بالقوم الكافرين ،بل نرفع شعارات اإلسالم ابتداء
من ظاهرنا .فقد روى أبو داود والحاكم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :من
تشبه بقوم فهو منهم» .والتشبه في اللباس أول الهزيمة الحضارية .فليكن تغيير زي
الفتنة بالزي اإلسالمي أول انتصار على موضاتهم ،وتكلفهم ،وتبرجهم ،وتفاهاتهم ،مثل
رباط الرقبة وما شابه.
وأخرى مهمة وهي البساطة في اللباس .فليس التجمل أن ينفق المؤمن والمؤمنة
األموال على لباسهم .ولنا في رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أسوة ،وقد كان يلبس ما
تيسر ،ويرتدي اإلنبجانية وهي أغلظ وأخشن ما عندهم يومئذ.
ينبغي االقتصاد وتوفير المال للجهاد .وعلى المؤمنات أن يطرحن حلي الذهب
والفضة ،ويحاربن في صفوف النساء عادة تكديس األحمرين (الذهب والحرير) وعادة
التنافس في ذلك .فقد روى ابن حبان وغيره أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:
«أ ُِريت أني دخلت الجنة ،فإذا أعالي أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المؤمنين.
إو�ذا ليس فيها أحد أقل من األغنياء والنساء .فقيل لي :أما األغنياء فإنهم على الباب
273
يحاسبون ويمحصون .وأما النساء فألهاهن األحمران :الذهب والحرير».
إذا ألهى المرأة التبرج وأسبابه ،ضغطت على الزوج أن يبيع ذمته ليشتري مثل ما
عند الجارة ،وفشا الفساد .والتنافس االجتماعي في هذا وأمثاله من أهم أبواب الرذيلة
والرشوة والخراب .ليوفر المؤمنون والمؤمنات لكسوة الشعب العاطل في المدن والبوادي
وطعامه.
روى الطبراني برجال الصحيح أن ابن عمر رضي اهلل عنهما سأله رجل« :ما ألبس
من الثياب؟ قال ماال يزدريك فيه السفهاء ،وال يعيبك به الحكماء».
كان لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ثوب يلقى به الوفود .وكان يتجمل لها
ويستعد .لكنه ال يقبل أن يستعلي أحد على المسلمين بالباطل .فقد جاءه وفد النصارى
من نجران ،فوضعوا ثياب السفر ،ولبسوا حلال يجرونها من الحبرة (وهي ثياب فاخرة)،
وخواتيم الذهب .فلم يرد عليهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم السالم نها ار طويال ،ولم
يكلمهم ،حتى طرحوا ذلك اللباس وتلك الخواتم.
نتميز بالزي والعمامة واللحية ،من قدر منا على ذلك ولم يكن اإلسالم مضطهدا،
1رواه مسلم يف باب الزكاة ،ورواه اإلمام أمحد وغريه عن أيب هريرة رضي اهلل عنه عن النيب
صلى اهلل عليه وسلم.
274
فليس هذا ثوب الشهرة الذي نهينا عنه .إنما ثوب الشهرة ثوب االستكبار .أما إظهار
المرء إسالمه في زمان الغربة فجهاد .حتى إذا أذن اهلل تعالى بالنصر لفظنا تلك األزياء
المتفرنجة المتبرجة بوازع السلطان إن لم يفد وازع القرآن وحده.
ومن طيب المؤمن وحسن سمته الوجه الباسم المقبل على مخاطبه ،والوجه الطلق
الباش تلقى به أخاك صدقة ،آصرة مهمة من أواصر الصحبة والجماعة واألخوة.
البشر واالستبشار والكلمة الطيبة .الكالم الواضح الهادئ الوقور .اإلقبال على
السائل وحسن االستماع .االنبساط للناس .التبشير ال التنفير.
هذه اآلداب نزرعها ونتعلمها ونعلمها جند اهلل .فإن الدعوة أول شيء وجه باش
وكلمة طيبة ،وشخص نظيف ،جذاب بلطفه ،وبيان فكرته.
الحياء شعبة اإليمان التي تركها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تتراوح بين أعلى
الشعب وأدناها .فهي واسعة عامة .هي الروح السارية في القربات العبادية ،والعالقات
البشرية ،واألواصر اإليمانية .حياء من اهلل ومن الناس ،ووجدان سام يرفع المؤمن على
الدنايا والنقائص.
يقول المصطفى صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه اإلمام أحمد بسند صحيح والترمذي
وابن حبان« :الحياء من اإليمان ،واإليمان في الجنة .والبذاء (الكالم الفاحش والهيئة
المزرية) من الجفاء ،والجفاء في النار» .الحياء هنا الموجب لإليمان والجنة جاء مرادفا
لالنبساط للناس والتأدب معهم .ما كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فحاشا وال لعانا،
وال ينبغي أن يكون في المؤمن شيء من ذلك.
وفي مجتمعاتنا ،مجتمعات الكراهية ،جفاء كثير ،وغلظة واستكبار .الموظف ال يعتبر
الواقف أمامه من عامة المسلمين إال خشاشا من خشاش األرض ،والحاكم الصغير يركع
275
أمام رؤسائه ،ليصب بعدها نقمة كرامته المهانة على الموظف .وهكذا يتسلسل الجفاء.
وفي مجتمع األخوة تحت ظل اإلسالم يجب أن يعاد لألمة كرامتها مع إعادة العدل
واإليمان المعبر عن نفسه حياء عاما ،أي لطفا للمستضعفين ،وتكب ار على الجبارين ،حتى
يفيئوا إلى ظل األخوة والمساواة.
نحن سواسية أمام اهلل عز وجل ،فال نحصل على الحياء حق الحياء إال بالوحدة
على أسس التقوى ،ونبذ التفاخر والتظالم ،وأسبابهما من زينة الحياة الدنيا.
روى الطبراني والترمذي بنحوه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال على المنبر
والناس حوله« :أيها الناس! استحيوا من اهلل حق الحياء! فقال رجل :يا رسول! إنا
لنستحيي من اهلل تعالى! فقال :من كان منكم مستحييا فال يبيتن ليلة إال وأجله بين
عينيه ،وليحفظ البطن وما وعى ،والرأس وما حوى ،وليذكر الموت والبلى ،وليترك
زينة الدنيا».
أرأيت عموم الحياء بين اهلل والناس ،وبين الناس بعضهم مع بعض .إنه إقالع
عن الدنيا وزينتها ،وأسباب التفاخر والتدابر ،وجفاء العالقات .المؤمن الحيي أجله
بين عينيه ،فهو مهتم أال يأكل أموال الناس بالباطل (البطن وما وعى) ،مهتم بفكره
أال يتيه وبحواسه وشهواته أال تزيغ به (الرأس وما حوى) ،مهتم بمصيره في الدار
اآلخرة فهو يتزود زاد التقوى من دنياه.
من آداب اإليمان وحيائه رحمة الكبير بالصغير ،وتوقير الصغير للكبير.
ولعلو مرتبة هذه الشعبة كان لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منها النصيب األوفر
ألصحابه.
روى الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد قال« :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها» زاد في رواية « إو�ذا كره شيئا عرف ذلك
في وجهه».
276
نموذج عال لرقة الشمائل ،ولين الجانب ،ولطف المعشر ،وشفافية الوجدان .هذا
هو الوجه الموالي للمؤمنين ومن يرجى أن يلبي الدعوة .هو وجه الرحمة العامة التي
كانت بين المؤمنين تفيض عليهم من تلك الروح المطهرة .ولوال تلك الرقة والرحمة ما
استطاعوا أن يشتدوا على الكفار اشتدادا ال يتنكر للعاطفة اإلنسانية على المغلوب
والتائب والمظلوم .لوالها لكانوا إذن جبابرة جفاة.
وجند اهلل يجب أن يعطوا أحسنهم سمتا ،وألطفهم معش ار وحياء ،مهمة االتصال في
المهمات والظروف الحساسة .لكن عليهم جميعا أن يتخلقوا باآلداب اإلسالمية العامة
ويحرصوا عليها ،فهي التعبير العملي اليومي عن السمت النبوي ،وهم دعاة ينبغي أن
يدخلوا على مجتمعات الفتنة والجفاء والكراهية ،ونواديها ،ومجالسها ،وفي اللقاءات
االجتماعية والفردية ،وفي بيت المؤمن والمؤمنة مع األبوين واألقارب والجيران ،وفي
المدارس ،والمعاهد ،والكليات ،واإلدارات ،والشارع ،كما تدخل النسمة اللطيفة الطيبة
المنعشة في الجو العطن الراكد الثقيل العفن.
إن النفوذ السياسي الضروري لنا إنما يتكون من مجموع النفوذ اإليماني األخالقي
الفكري األدبي الذي يتاح لنا وسط الشعب .يجب أن نحرز على النصر األخالقي
األدبي إعدادا للنصر التام ما نراه من التفاف المستفيدين حول األنظمة الفاسدة ،واتباع
العامة وخضوعهم ،واستقالة من يرجى في ظروف أخرى خيرهم عن واجبهم ،إنما هو
ضعف أمام السلطان القائم .أما قلوب الشعب فمعنا ،ويجب أن نعاشر الشعب بصدق
حاملي الرسالة ،وأدب يعلمنا إياه اإلسالم ،لنتخذه عنوانا عما في قلوبنا من رحمة
للعالمين ،وراثة نبوية.
277
تنشأ بيننا ،مما تنتجه مدارس الفتنة إو�عالمها وشارعها وأوبئتها ،أجيال عنيفة تحمل
الحقد وتغذي نيات البطش .البؤس الذي زرعه حكام الجبر في الشعب ،واالزدراء،
والظلم ،تثمر جحافل من الشباب العاطل ،المتوحش ،المخدر .شباب اغتصبت منه
إنسانيته ،لم يرب على مروءة وال خلق وال دين .وشائج العشرة بين أفراده وعصاباته
تتكون من عالقات العنف ،والبذاءة في السلوك والقول ،وفي االستبداد من جانب
األقوياء ،يقابلها من جانب األصغر سنا واألضعفين االستكانة للقوة العضلية ،والسفاهة
الخلقية والقولية ،وعدم االعتراف إال بقانون العنف .وتتسلسل هذه العالقات بين األجيال
صورة لما هو عليه األمر في المجتمع الكبير المفتون.
ويجيء أدب المعاشرة اإلسالمية .فهل يكون جند اهلل نعاجا وسط الذئاب؟ أم يمكن
للقومة اإلسالمية أن تتم بغير غضب جماهيري مدمر؟
ليس األمر في األدب اإلسالمي مشكال في أصوله وأهدافه ،إنما المشكل في
كيفية إحالل معانيه وعاداته وسلوكه محل العنف والكراهية والجفاء .الحل اإلسالمي
يريد عالجا شموليا متزامنا لكل آفات الفتنة ومخلفاتها ،وتوجيها هادما للباطل بناء
للحق لطاقات الرفض والغضب .سوء أدب الناس وجفاءهم وكراهيتهم لبعضهم ظواهر
ألمراض نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية .فال يمكن أن نأتي بآداب المعاشرة
اإلسالمية طالء وصبغة من خارج ،نبسطها على واجهة الواقع المتفسخ النتن من داخل.
ال! حتى يكون األدب كالطيب ،تولد من ريحانة طيبة المنبت ،صحيحة النشأة.
العالج الشمولي الجذري للفتنة ينبغي أن يستهدف أوال –وال نمل نكررها– العدل
في األرزاق .الناس بال بيوت صحيحة تؤويهم ،وحياة زوجية آمنة على رزقها ،أرانب
متكاثرة ،وأفاعي عنيفة سامة .أطفالنا وشبابنا قطيع مهمل ،ضاقت مدارس الفتنة
عنه ،أو لفظته وفشلت في تربيته وتعليمه ،أو طردته .إنسانية طرحناها مع قطعان
القطط فتوحشت .مستضعفون ضحية كانوا يكونون زهرة األمة لو وجدوا عناية وكرامة
يستحقها شباب كل أمة تريد الحياة والعزة .المدارس والمعاهد والكليات معتقالت في
النهار تعج بالنشء المهمل في البيت لشغل األبوين-إن لم يكن األبناء يتامى النكبات
ولقطاء اإلجرام -بمصائب العيش ،المهمل أمام النماذج السامة المعروضة في وسائل
اإلعالم والشارع ،المهمل في المدرسة لتردي وضعية المدير واألستاذ والمعلم المادية
278
والمعنوية والخلقية.
طلب وقار اإلسالم ،وحشمة اإلسالم ،وحياء اإلسالم ،وأدب اإلسالم ،من شعوب
تغلي فيها الفتنة غليانا ،حلم ناعم غائب عن الواقع.
كيف نطبق آداب االستئذان ،وحرمة الناس في بيوتهم ،وبعضنا يسكن قصو ار
ويملك عمارات ،وبعضنا أكداس في أعشاش البادية وهوامش البؤس في المدينة؟
كيف نطبق آداب االتصال بالناس ،وآداب الزيارة ،وحرمة اختالء الرجال بالنساء،
وقد ساد التحرر من كل خلق ،وسادت العادة الجاهلية ،واختلط الحابل بالنابل في
البيوت ،قصورها وأعشاشها ،على السواء ،وفي الشوارع والحافالت ،وفي اإلدارات ،وفشا
الزنا واالستهتار بكل مروءة؟
كيف نفشي السالم لتسود بيننا المحبة وقد أصبحت كلمة السالم عليكم عنوانا
على التخلف عند قوم استعجمت ألسنتهم وأدمغتهم وقست قلوبهم؟
إفشاء السالم الذي أمرنا به ال ينتهي عند طرح الكلمة المباركة ،بل يستدعي
إحالل السالم محل الحرب بين الطبقات ،بين سكان المدن وسكان البادية ،بين العاطل
ومن له قدرة على استثمار المال وتشغيل المسلمين ،بين الطبقة الحاكمة المستكبرة
المحتلة لمناصب الجاه والمال وبين األجيال المتكاثرة الصاعدة المحرومة ،بين الرجال
المستكبرين لسوء تربيتهم على النساء ،النساء المتقوقعات في تفاهات التنافس على
األحمرين والكيد الضعيف .بين من ال يجد قوت نفسه وصبيته وبين من يكدس األرصدة
في بنوك الجاهلية يستعد للهرب كما يفعل اللص .بين اإلقطاعي صاحب الرصيد الضخم
في البنوك وبين المشدود إلى األرض والمشرد فيها مع رصيده من األمراض الفتاكة والفقر
المدقع والجهل القاتل .الحديث عن األدب بال عدل كمن يعرض جمال غروب الشمس
على محتضر بالسرطان .رحم اهلل عالم األمة اإلمام عليا إذ يقول« :كاد الفقر أن يكون
كفرا».
ما دام جند اهلل في مراحل الدعوة فهم نسمة لطيفة تدخل على جو الكراهية تنعش
279
ما استطاعت من آمال ،وتهذب ما استطاعت من أخالق وعالقات .وحين يؤول إليهم
األمر إن شاء اهلل –وال نشك لحظة في موعود اهلل ورسوله– يفرضون بسلطان النموذج
المتفوق ،والمثال القائم ،آداب اإلسالم كما يفرضون بسلطان الدولة العدل والبذل األخوي.
وسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ماضية في مرحلتين ،يجب على جند اهلل
أن يتحلوا بها في تفاصيلها ودقائقها .فإن وحدة السلوك إنما تتم بتماسك الجماعة
النورانية ظاه ار وباطنا.
ويتعلمون ،بمزج األدب مع الناس باألدب والحضور مع اهلل سبحانه ،أن ال
تجذبهم سطوح العالقات البشرية إلى المجامالت والنفاق .فيذكرون اهلل في كل مجلس
لكيال يكون عليهم ترة (أي نقمة يوم القيامة) ،ويختمونه بدعاء كفارة المجلس .ويلتزمون
الوقار واحترام المواعد بكل دقة ،دون تنطع وال عبوس وال انقباض وال تكلف وال تزمت،
برأنا اهلل منها ،فإن في ديننا فسحة! والمالطفة والمداعبة البريئة من سنة نبينا صلى
اهلل عليه وسلم .إو�نشاد الشعر اإلسالمي المحمس للجهاد سنة نبوية والنشيد من هذا
النوع في مثل المناسبات االجتماعية ،حيث نجالس عامة الناس ،مما ينوع المجلس،
ويحارب عادات الجاهلية من الزمر والغناء الشيطانيين.
من اآلداب المؤكدة المحافظة على عالقات الصحبة والجماعة البناءة بأداء الحقوق
الخمسة ألهلها :رد السالم ،وعيادة المريض ،واتباع الجنائز ،إو�جابة الدعوة ،وتشميت
العاطس .وحقوق أخر :نصيحة المستنصح ،وقرض المستقرض ،إو�عانة الناس على البر.
ويحافظ المؤمن والمؤمنة في المجلس ومع كل الناس على الهيئة الحسنة في الجلسة،
وما يحدث من طارئ كالتثاؤب والجشاء.
تلين القول إال لمن غلظ عليك بالباطل ،وتشكر المحسن ،وتعتذر عن أقل إخالل.
280
تكرم اليد اليمنى وتستعملها فيما أمرت به .فإن من عالمات الغفلة أن يستهين المرء
بهذا وأمثاله.
للحضر آداب وللسفر مثلها .وللرجال آداب وللنساء مثلها ،ولليقظة آداب وللنوم
مثلها.
واتصال المؤمنين بالمؤمنات لواجب الدعوة والتعليم والتربية والتوجيه يجب أن
تراعى فيه اآلداب الشرعية بدقة وصرامة.
زفرة تضيق بها صدورنا وشكوى وحزن نبثهما إلى اهلل ربنا ،مما تعانيه المسلمات
في مجتمعات الكراهية والعنف .يا من تصرخون على المسكينات في شوارع الفتنة
وسوق العهارة! ما هن إال الضحيات أسفل السلم في أنظمة قائمة كلها على عالقات
العنف .ترمى فتياتنا إلى الشارع لطلب اللقمة ،فال يجدن إال غصة الخبز بإدام الدموع.
من آواهن؟ من كساهن؟ من أطعمهن؟ من فعل بهن هذا ثم رأى فظاعة ما يحز في
أنفسنا حز المدى فله أن يصرخ عليهن وحدهن.
فيا أيها المسكين -مسكين العلم -الذي تهدد الساقطات بويالت جهنم وتستعدي
عليهن جالوزة الفتنة! هال نظرت أصل البالء في تهتك المتبرجات المغربات المترفات
وما في ركابهن من أفالم الخالعة والفاحشة! هال لمت المستكبرين الذين قتلوا مروءة
األمة باستنزاف أموالها واستحياء نسائها؟
ذاك الذي يفعل كل هذا يحق له أن يصرخ ويطبق شرع اهلل في حد الزانية.
أما والحكم بالظلم والكفر والفسق سار من قمة رأس المجتمع إلى أخمص قدمه ،فما
الصراخ إال تلهية وبخور يعتم ما هنالك وراء شاشة الشارع.
281
أمام المؤمنات من كتائب جند اهلل مهمة ضخمة إلنقاذ المرأة من حمأة الرذيلة،
وأمام دولة اإلسالم مهمة التمهيد للعدل ونصرة الحق لذلك.
إن للناس مواسم في زمانهم وأفراحا يدخلون بها على أنفسهم المسرة ،ويجددون
الصلة ،ويلهون عن آالم الحياة.
في التجمعات المنظمة يتولد جو مناسب لإليحاء الجماعي والتأثير النفسي .فإن
كان التجمع شيطانيا كانت معاني اإلغراء واإلغواء ونهب اللذات طابعه .إو�ن كان
سياسيا حماسيا تأتى معه إقناع جماعي بسلوك مؤثر في األحداث .إو�ن كان ثقافيا
أمكن معه بث األفكار وتعميمها والدعاية لها.
وتجمعات اإلسالم نوارنية جهادية تربوية علمية ،تهيء جوا مناسبا لتسري في
جماعة المسلمين معاني اإليمان ،وتتثبت فيها خطى السائر إلى اهلل ،بمشهد إخوته
السائرين معه على الطريق المحتفلين معه باهلل ورسوله ودينه.
كم من ناشئ وكهل رجل وامرأة ،يكون حضوره لتجمع إسالمي نقطة تحول في
حياته ،تحول من عدم مباالة إلى طرح ضرورة االختيار ،من غفلة لذكر ،من ضياع
لهدى.
ليكون التجمع تجمعا إسالميا يجب أن يقطع دابر كل المظاهرات والحفالت والمواسم
التي أهل لغير اهلل بها ،يجب تركيز اجتماعاتنا حول المسجد والمصلى ،حول الجمعة
والعيدين وصالة الجماعة وصالة الخسوفين .وما كان من تجمعات نضطر لعقدها خارج
282
المسجد يجب أن تتجللها حرمة المسجد ومعانيه.
تجمعاتنا يجب أن تفخم فيها الكلمة ،ويعظم فيها اسم اهلل ،ويذكر فيها دينه،
وتستنهض فيها الهمم ،ويعلم فيها الجهاد واليقظة.
اغتسال الجمعة ولباسها تعظيم وتفخيم ،التبكير إليها ،المشي إلى المساجد إو�كثار
الخطى في الغلس ،الجلوس حيث انتهى بك المجلس ال تتخطى رقاب الناس ،اإلنصات
لإلمام ،تحري ساعة االستجابة.
تجمعاتنا –ال سيما في الجمعة والعيدين– ينبغي أن يظهر فيها اعت اززنا بإسالمنا،
وسمته ،وزينته ،وكثرته ،وقوته ،وهيبته .لهذا أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
كما جاء في حديث للشيخين وغيرهما أن نخرج لصالة العيدين حتى النساء الحيض
والعواتق وذوات الخدور .قالت أم عطية« :يا رسول الهء! إحدانا ال يكون لها جلباب
(فال تستطيع الخروج) .قال صلى اهلل عليه وسلم« :لتلبسها أختها من جلبابها» .في
هذا يجب التنافس.
نساؤنا وأبناؤنا وبناتنا يخرجون معنا لنحتفل بمواسم الخير في المصليات ،نعظم
ونفخم ،ونفرح ونظهر زينتنا .وكما يحشد حكام الجبر أجهزتهم لتنظيم مواسم البدعة
والشيطان ،نجند نحن إن شاء اهلل كل قوى ووسائل الدعوة والدولة ،لنعرض على
بعضنا وحدتنا وتعلقنا باهلل عز وجل وبحرمه ،ونعرض عليه سبحانه أننا امتثلنا ألمره
ما استطعنا ،نسأله بذلك أن يدفع عنا ،ويرحم حوبتنا ،ويرفع عزنا .ثم نخرج للجهاد ،كلنا
عزم وقوة.
التجمل للعيدين سنة ،واللهو المباح الخفيف الذي ال يتنافى مع ذكر اهلل سنة،
واألضحية سنة .وكان اإلمام عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما أكثر الناس لحما في
بيته في كل أيام السنة ،لكنه رضي اهلل عنه كان ال يذبح يوم عيد األضحى لما رأى
الناس يتنافسون في ذلك ،فخشي إن هو تابعهم أن يزداد التنافس ،ويتكلف الفقير .أو
يظن أنها فريضة.
283
إو�نها لكارثة أن تتحول قربة من القرب عادة بتنافس أهل البيوت عليها .وهنا ال بد
من جهاد لفصل ما بين السنة والعادة ،في هذا وأمثاله.
محضن الرجال ،ومدرسة العلماء ،ومحراب المتبتلين ،ودائرة قيادة الجهاد ،ومجلس
الشورى واإليمان المسجد .ومنذ برهن المسجد عن حيويته حين صدر عنه وخرج منه
المؤمنون المجاهدون في إيران ،وزلزلوا دعائم الطاغوت واالستكبار ،اشتدت الوطأة
على عمار المساجد .وط أر على دول الجبر اهتمام ملح بالمساجد والصالة وخطبة
الجمعة .ونشأت عند رواد الفتنة حساسية إسالمية ،يبادرون إلى الحج والصالة على
التلفزيون والتأكيد على إسالمهم.
إسالم رسمي احتل المساجد وأممها ،وعمرها بالخطب الرسمية ،والوعظ الرسمي
الناعس ،ض ار ار وكف ار وتفريقا بين المؤمنين.
نركز معركتنا في الطلب بحقنا في مساجد اهلل .ال حق ألحد أن يمنعنا من ذكر اهلل
فيها .ال حق لهم أن يخربوا روح المسجد ورسالة المسجد مع تزويقه وتأثيثه.
إنهم يتخذون عمارة جدران المساجد وسيلة للدعاية أنهم متقون .ويتخذون من بين
أثاثها خطباء ووعاظا وقراء إمعات محترفين .فاسترجاع حقنا في عمارة المسجد من
أولويات معاركنا.
وأثناء هذا وبعده تعاد للمسجد الحياة اإليمانية ،والسنة والعلم .ويعاد له مكانه
كالمركز األول في حياة المجتمع اإليمانية والسياسية والتوجيهية.
ال نستطيع في هذا العصر ،عصر االكتظاظ السكاني ،والمزاحمة اإلعالمية في
الفضاء ،وعلى األمواج ،وعبر القارات ،وعن طريق الكواكب الصناعية أن نوقف عجلة
السرعة ودوالب الحركة لندعو الناس جميعا إلى هدوء المسجد وروحانيته .فنحمل عبر
284
األثير وشاشة اإلعالم ،إلى الناس في بيوتهم دعوة اإلسالم ،وبشرى التجديد .لكن يبقى
المسجد هو المركز الحي.
يحيى المسجد بحلقات العلم ومجالس اإليمان يلتقي فيه الدعاة بالشعب ،ويلتئم فيه
الشمل ،وتنطلق منه اليقظة ،ويعقد فيه لواء الجهاد بأنواعه.
وتعاد عمارة المسجد إلى بساطة البناء ،مع جمال الهيئة ،ودون هذه الزخرفة
المنتفشة المبذرة .وحول المسجد ،متصلة به حسا ومعنى ،تقام مرافق الدعوة من مكتبة،
وحجر للضيف ،وقاعات للرياضة والنظافة واالستحمام .يعاد للمسجد دفء الحياة،
وح اررة الحركة ،من برودة الهجران ،وجمود العادة.
يعمر المسجد بالتالوة والعلم ،ويطهر لذكر اهلل ،ويجمر ويعتنى به ،وينزه عن اللغو
واللغط ،ويحتفل لدخوله بالزينة السنية ،والنظافة والطهارة وطيب الريح .يمشى إليه في
ظلم الليل وضحوة النهار .يعمره الرجال والنساء ،والشباب ،ويكون دخول الطفل إليه
أول ما يعقل مناسبة يحتفل بها ويشوق إليها.
تراعى آداب المسجد وسنن الصالة فيه .فيختار المؤذن ندي الصوت ،واإلمام
العالم المتقي ،وتسوى الصفوف وترص.
نحن بحاجة إلى تعميم المساجد على كل بقعة في أرضنا .فإن من المسلمين في
الحواضر والمدن من لم يتلقوا وال أجدادهم من التربية اإلسالمية إال رذاذا .وقد يكون
آباؤهم وأمهاتهم من هذه األجيال المسخ المتنكرة للدين .فيكون تعميم المساجد أسبق من
تعميم المدارس ،بل موازيا له .وجهاد التعليم والتربية الموجهين للكبار والصغار أعم من
المدارس المخصصة للناشئة .فيكون تكامل بين رسالة المسجد ورسالة المدرسة وتعاون.
285
وعندما تلتقي الدعوة والدولة تكون المساجد العنصر الجامع في شبكة مؤسسات
الدعوة .ويكون نقباء الجماعة أئمة المساجد وخطباءها ومربي الشعب من المساجد
يبثون سراياهم ،وفيها يجمعون كل أمر رشيد .إن شاء اهلل تعالى.
286
الخصلة الثامنة
التؤدة
التؤدة تربية
كان مجلس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مجلس علم وحلم .ومربو الشعب ال
يقدرون على مجالسة الشعب وتعليمه وتوجيهه إن لم يتمكنوا في خصلة التؤدة .وهي
من خصال النبوة كما سبق ذكر ذلك في الحديث الشريف.
التؤدة لغة الرزانة ،والتريث ،وما في معناهما من أخالق الحلم ،والصبر ،والتحمل،
واألناة ،وضبط النفس ،وطول النفس ،وأهلية تحمل المسؤوليات ،واالستمرار في الجهاد.
ذهنية القطيع:
نادى فيهم حاسة الخضوع للقوة (ملك مصر) ،ونادى حاسة إكبار الغني المستكبر
1الزخرف54 ،
2الزخرف52-51 ،
287
(وهذه األنهار ،ونهر النيل هو ثروة مصر) ،ونادى فيهم إجالل صاحب السلطان فصيح
اللسان ،بتحقير نبي اهلل ،ووصفه بالمهانة في نسبه ،والعي في لسانه (أم أنا خير من
هذا الذي هو مهين وال يكاد يبين).
ضيِ
ضلُّ َ ِ ِ
وك َعن وقال اهلل تعالى لنبيه الكريم ولنا َ { :إوِ�ن تُط ْع أَ ْكثََر َمن في األ َْر ِ ُ
َّ يل اللّ ِه إِن َيتَِّبع َ َّ َّ
س ِب ِ
ون}.
ص َ ون إِال الظ َّن َ إوِ� ْن ُه ْم إِال َي ْخ ُر ُ
1
ُ َ
وهنا خفة الفكر ،وتحوله ،وسطحيته باتباع الظن والخرص.
كان قوم فرعون قطيعا بشريا يسيره المستكبرون األقوياء األغنياء الفصحاء بالكذب
والظن والدعاية الرسمية .وأكثر أهل األرض كذلك ليست لهم عقيدة تشدهم إلى الحق،
وال علم يقيهم موارد الهلكة ،وال هدى وال كتاب منير .والمسلمون اليوم في عامتهم
تسودهم الذهنية الرعوية ذهنية القطيع.
فمن يحاول تغيير المجتمعات المفتونة ال بد له أن يتقدم إلى الميدان وله من
القدرة على مواجهة الواقع المكروه ،ومن قوة ضبط النفس ،وقوة الصبر والتحمل ،وقوة
الصمود والثبات على خط الجهاد مهما كانت القوى المعادية متألبة .إنما يستطيع
أن يربي جيل اإلنقاذ رجال ال تستخفهم نداءات الباطل ،وال يلعب بهم الهوى ،وال
يتحركون على الظن والهواجس.
نريد لجند اهلل أن يتقدموا صفا واحدا منضبطين صابرين ،وأن يكون كل منهم قد
تحلى بخصلة التؤدة ودرب عليها حتى تمكن .نريد أن يقف كل منهم حيث هو ،وحيثما
تنقل ،موقف الداعية الذي ال يثنيه عن غايته وأهدافه تنكر الناس لدعوته إو�ذايتهم له.
1األنعام116 ،
288
ذلك هو الموحد المتوكل على ربه ،الواثق به كما كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
روى البيهقي عن جامع بن شداد قال« :حدثني رجل يقال له طارق بن عبد اهلل
قال :إني لقائم بسوق المجاز إذ أقبل رجل عليه جبة له ،وهو يقول :يا أيها الناس! قولوا
ال إله إال اهلل تفلحوا! ورجل يتبعه يرميه بالحجارة ويقول :يا أيها الناس! ال تصدقوه فإنه
كذاب! فقلت من هذا؟ فقالوا :هذا رجل من بني هاشم يزعم أنه رسول اهلل .قال :قلت:
من هذا الذي يفعل به هذا؟ قالوا :هذا عمه عبد العزى (أبو لهب).
كان اإلسالم يومئذ في بدايته غريبا ،وهو اليوم غريب كما بدأ .رحم اهلل الشيخ
محمدا عبده حيث زاد ما معناه :وكما ظهر من غربته األولى يظهر من غربته اآلن.
الناس اليوم أشد إنكا ار على من يدعوهم لتحكيم شريعة اهلل في جميع شؤونهم .خيل
إليهم النداء الفرعوني أنما هم عليه حكام الجبر هو اإلسالم ،فكل من يدعو لتجديد
الدين يصفونه بالمهانة ،والعي ،والتخلف الفكري ،إلى جانب األذى واالضطهاد
والفتك .تقود الفرعونية الجديدة الحملة على اإلسالم ،ويحدو النداء الفرعوني ذهنية
القطيع يستخف الناس.
ومن أنكى األذى يلحق الدعاة أذى إخوانهم ممن يكفرون ويضللون ذات اليمين
وذات الشمال ،فيؤيدون بذلك الحمالت الفرعونية .رجال مسلمون غالبهم يريد الخير
وتستخفهم رعونات دعوى الصالح من دون الناس ،تظهر في رؤوسهم ،فال يضبطون
أهواءهم ،فيطلقون شرتهم على جند اهلل .وهي قطيعية من صنف آخر ،مألوف في تاريخ
الخوارج والتطرف والتزمت بالعصبية والجهل.
يقول اإلمام البنا رحمه اهلل في أصوله« :وكل بدعة في الدين ال أصل لها
استحسنها الناس بأهوائهم ،سواء بالزيادة فيه أو النقصان منه ،ضاللة تجب محاربتها
والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي ال تؤدي إلى ما هو شر منها».
فمن األذى المتألب على جند اهلل أذى من يخرب األصل ليبنى في زعمه الفرع،
ومن يتسبب في اإلخالل بالفريضة ليقيم في زعمه السنة ،ومن يحارب البدعة في زعمه
289
بوسائل تؤدي إلى شر منها .خفة تحتاج منا لصبر طويل.
ال إله إال اهلل األصل فلو قلناها بحقها ألفلحنا .والمؤمن عضو الجماعة ونقيبها
ومرشدها من يتحمل مسؤوليات الدعوة ،فال يندفع مع متحمسة الدعوة ليشعل الفتنة مع
دعاة اإللحاد ،وال مع مشاغبي الحزبية ،وال مع مكفري المسلمين .يقول اإلمام البنا رضي
اهلل عنه في أصوله« :ال نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض،
برأي أو معصية إال إن أقر بكلمة الكفر ،أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة ،أو كذب
صحيح القرآن ،أو فسره على وجه ال تحتمله أساليب اللغة العربية بحال ،أو عمل عمال
ال يحتمل تأويال غير الكفر».
ما ضل قوم...
المسيرة طويلة ،والعقبة كأداء ،واالقتحام يطلب قوة اإليمان ،وشدة المراس ،والثبات
على الصراط المستقيم.
هناك عوامل ثالثة رئيسية تتضافر على زعزعة السير والتشكيك والتثبيط.
-1ميراث الفتنة وخالفات األجيال .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في
حديث حسن رواه اإلمام أحمد والترمذي والحاكم« :ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه
إال أوتوا الجدل» .يا ليت لنا إيمانا فطريا نقول ال إله إال اهلل فترفعنا إلى أعلى شعبة
ونفلح .لكن هناك هذه المخلفات من الخالفات .ومعالجتها تريد صب ار وسعة صدر
وارتفاع أفق.
-2طبيعة الشباب وهم صفوة جند اهلل وعماد المستقبل .قد تخيب آمال بعض
الشباب الطاهر الكتشاف حدود مرب قليل البضاعة من العلم ،أو لالطالع على نقص
في األخالق واإليمان فيمن كانوا يعظمونهم من الدعاة ،أو لمجرد ملل يعتريهم ،أو فترة
من الشرة األولى والحماس المشتعل عند البدايات .قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
فيما رواه الترمذي بسند صحيح« :إن لكل شيء شرة (الشرة الحماس واالندفاع)،
290
ولكل شرة فترة .فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه ،إو�ن أشير إليه باألصابع فال
تعدوه» .أي إن استمر بعد الحماس األول بخطى ثابتة فارجوا فالحه .أما إن كان يطلب
الظهور والرئاسة فال تعدوه من الرجال .فترة العنفوان مهب للرياح واألهوية من داخل
وخارج .وتنبغي العناية باألشبال ،وحوطهم من اآلفات ،حتى يشتد عودهم ،وتكتمل
رجولتهم .وما ريح الخالفات في التربية والتنظيم وتعدد الحركات إال واحد من عوامل
االستخفاف.
3-طبيعة العمل اإلسالمي وسط الفتنة .إنها نادرة تلك الشخصيات القوية التي
تثبت في الميدان ،وتتألف ،وتكون جماعة صامدة تجذب بتآلفها العناصر األقل قدرة
وتثبت العزائم بمثال ثباتها .ال سيما واألذى من كل جانب موجه إلى من يريد أن يغير
منكر الظلم ،ويفطم الناس عن مألوفهم ،ويناديهم لتحمل المسؤوليات ،إو�نجاز المهمات،
بدل النداء المستخف الذي يغنيهم نشيد االستقرار ،ليناموا ويخضعوا ،ويعدهم الغرور
ويمنيهم.
فليكن هدف تربيتنا إخراج رجال ونساء يضربون لغيرهم المثل بالثبات على
الخطوب.
إننا نعيش في آخر عهد الضالالت الفتنوية إن شاء اهلل تعالى .لكننا ال نزال في
خضمها .وأكثر ما يستفحل لهب الشمعة قبيل انطفائها ،وأكثر ما تشتد الجاهلية على
اإلسالم قبيل بزوغ شمس الهداية والنصر .الجدل ،وعوامل االستخفاف ،والضربات
المتتالية من العدو واألخ .فصبر جميل واهلل المستعان.
التؤدة تنظيما
تمني المؤمنين
جلس عمر رضي اهلل عنه مع أصحابه فقالوا :ليتمن كل منا أمنية .فتمنى القوم
على قدر همتهم واهتماماتهم ،أما عمر فتمنى لو كان له ملء البيت الذي كانوا فيه من
291
رجال أمثال أبي عبيدة .وما تسع حجرة ال شك متواضعة من أعداد الرجال؟!
ذلك أن عمر يعرف قدر الرجال وندرة الصنف العالي منهم ،وكان همه بناء أمة
فشعر ،وهو المسؤول األول ،بقيمة فحول مثل أبي عبيدة رضي اهلل عنهم أجمعين.
إن جند اهلل جماعة ،وكل واحد منهم ،ال سيما إن كانت فئات متعددة ومتنافسة
على العناصر تتسابق إلى تكثير السواد ،تدفعه الرغبة في حشد األعداد وملء الصف،
إلى إضافة كل غث وسمين إلى قائمة األسماء.
وهي من أخطر المزالق أن تتضخم األعداد على حساب النوعية .ما دام المؤمنون
مضطهدين ،ففي األذى والخطر المحدق ما يرغب الناس عن مشاركة المؤمنين
جهادهم .أما يوم تنكشف الحوبة ،وينتصر جند اهلل ،فتكثر العروض ،وتتزاحم الناس
على العضوية .وقد رأينا أحزابا سياسية خربتها الوصولية تخريبا ،زاد نكاده المنصب
في نكادها األصلي.
ومع وجود االضطهاد تجد من الناس من يتحمل كل أذى مقابل أن يظهر ،ويرأس،
ويشار إليه باألصابع.
من أخطر اآلفات التربوية والتنظيمية شرة الوارد المندفع ،ونشوة الحركي الذي يبدد
جهده في فورات ثم يخمد.
نذكر موجزة بعض صفات الجواد الذي يعدو بكل قوة وسرعة إن كانت الحلبة
مفتوحة ،لكنه ال يأنف من حمل األثقال ،وجو العربة في األوحال واألحجار.
-1التدرج في الخطوات :فال ننتظر من الثمرات ،وال نقبل منها ،دعوى أن
تصبر زبيبا قبل أن تتحصرم .وال ننتظر من التنظيم أن يحمل عبء الدولة قبل أن
تشتد أركانه ،ويحصل على التجربة الكافية ،ويعد األطر الالزمة ،والبرامج المدروسة.
فمما يستخف التنظيمات الثورية شعورها بحجم عددي ،يخيل إليها معه أنها قادرة على
خرق السدود وتشييد األحالم .فتدخل في مغامرة تغرقها وتغرق الشعب معها.
292
كان اإلمام البنا رحمه اهلل يفصل ثالثة مراحل للدعوة :مرحلة الدعاية والتعريف،
ثم مرحلة التربية واختيار الرجال وتنظيمهم ،ثم مرحلة التنفيذ .هذا جيد .ومعه أن
المراحل متداخلة ضرورة ومتالحقة ،ال نفهم هذا التفصيل على أن العمل يقف حتى
ننتهي من التعريف.
-2التدرج في التربية :التربية معالجة لمادة إنسانية ،وشخصية لها ماض ،وبيئة
اجتماعية ،واستعدادات .هذه المعالجة تريد من النقيب المربي حلما كثيرا ،وصب ار
ومداراة ،وتنويعا في أساليب التأثير ،ومخالطة المؤمنين في بيوتهم وأعمالهم ،وفي
الرحالت والسياحات .وكما تتأخر الشجرة الكريمة الثمار في اإلنتاج (األعشاب الضارة
تتكاثر بسرعة وشجرة الزيتون ال تثمر إال بعد سنوات وعناية خاصة) ،نصبر على ذوي
االستعداد الطيب السنين حتى ينضجوا ،وشر هذا النبات اإلنساني ما امتاز بالشرة
والحماس والحركة الفارغين من اللب ،وهو الصبر مع المؤمنين ،والثبات على الحق.
قال اهلل تعالىَ { :و َج َع ْل َنا ِم ْن ُه ْم أ َِئ َّم ًة َي ْه ُد َ
ون ِبأ َْم ِرَنا لَ َّما َ
ص َب ُروا} 1.إشارة إلى أن
الخصلة العظمى التي أهلت رسل اهلل لإلمامة هي الصبر .ثم قال جل من قائل:
آي ِات َنا ُيوِق ُن َ
ون} 2.فَقُرن بالصبر الثبات على الحق. { َو َكا ُنوا ِب َ
-3متابعة األعمال والق اررات :هناك خيار بين المبادرات الحماسية التي تريد أن
تطوي المراحل وتقفز فوق الواقع وبين العمل المتدرج الصبور .خيار بين الحل العنيف
عندما يتوهم المتحمسون العجلون أن تغيير الواقع ممكن بفرض إرادة متسلطة من
خارج ،وبين الحل المتئد الذي يعمد إلى النفوس فيعالجها بالتبشير والتخويف ،بوازع
القرآن ،ووازع السلطان ،حتى تقتنع وتشارك .خيار بين اللمسات العجلى هنا وهناك،
وبين العمل المنهاجي المستوعب لكل جوانب المشكالت.
يجب أن يتدرب جند اهلل على تحمل المسؤولية ،بحيث ال يروغ أحدهم عن مهمته،
وال يمل قبل إتمامها ،وال يواجه ما صعب منها بالغضب واتهام الغير ،وال يظن أنه يحقق عمال
1السجدة24 ،
2نفس السورة ونفس اآلية.
293
نافعا خارج التعاون مع فريق عمله ومع الشعب ،وال يميل إلى الحلول السهلة والجانبية
والجزئية .وكل هذا يقتضي ،قبل قيام الدولة وبعده ،وفي كل أعمال الدعوة واإلدارة
والجهاد ،متابعة ومراقبة ومحاسبة .وكل قرار اتخذ ،أو عمل خطط ،يعين المسؤولون
عنه ،وتحدد مواصفات اإلنجاز وحدوده في الزمان والمكان والمقدار والكيف .فما نجاح
أي مشروع أو خطة إال بحصيلة من اإلنجازات المسؤولة.
إقامة الصالة اإلقامة المطلوبة عبء ثقيل ومسؤولية كبيرة .هذا الصبر على
الصالة يجب أن يصبح خلقا ويتفرع عنه الصبر فيما يتبع الصالة من البر قال اهلل
ق َوا ْل َم ْغ ِر ِب َولَ ِـك َّن ا ْل ِبَّر َم ْن وه ُك ْم ِقَب َل ا ْل َم ْ
ش ِر ِ س ا ْل ِبَّر أَن تَُولُّواْ ُو ُج َ تعالى{ :لَّ ْي َ
ال َعلَى ُح ِّب ِه َذ ِوي ين َوآتَى ا ْل َم َ اب َو َّ
الن ِب ِّي َ آلئ َك ِة َوا ْل ِكتَ ِ
اآلخ ِر وا ْلم ِ
َ َ
آم َن ِباللّ ِه وا ْليوِم ِ
َ َْ َ
الصال َة ام قَ
أو ِ
اب قالر ي ِ
ف و ِ ِ ِ ِ ِ
ِّ َ َ َ َ َّ ا ْل ُْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َّ َ َ
ين ل آئ الس و يل ب الس ن ابو ين اك س م ل ا
و ى ام ت ي ل ا
و ى بر ق
َّراء َو ِح َ
ين ْساء والضَّ ين في ا ْل َبأ َ
الصا ِب ِر َ ِ اه ُدواْ َو َّ ون ِب َع ْه ِد ِه ْم إِ َذا َع َ
الزَكاةَ َوا ْل ُموفُ َ َوآتَى َّ
ون}. ص َدقُوا َوأُولَ ِـئ َك ُه ُم ا ْل ُمتَّقُ َ ين َ ْس أُولَ ِـئ َك الَِّذ َا ْل َبأ ِ
2
جند اهلل مدعوون للجهاد والدخول في معارك مع واقع موبوء مدلهم مظلم .والصبر
هو النور كما جاء في حديث مسلم.
لو كان الجهاد مجالس أخوية ،وزيارات ومحبة ،وورعا فرديا ،لما احتجنا إلى تنظيم
كتائب .لكن األمر بذل للنفس والنفيس ،إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى
والمساكين .األمر وفاء بعهد ثقيل مع اهلل عز وجل أن تموت لتحيى األمة ،أن تسهر
وتتعب لتستريح األمة ،أن تظمأ وتضحى وتجوع لتروي أمة محمد صلى اهلل عليه وسلم
1البقرة46-45 ،
2البقرة177 ،
294
وتسكن وتشبع .األمر بأساء وضراء وبأس ودم وموت .فمن أراد وجه اهلل ال بد له أن
يوطد النفس على ما تكره في هذه الدنيا.
يمتحن جند اهلل فرادى وجماعة ليعرف بالتجربة وبرهان الصدق من يستطيع أن
يحمل ثقل األمة وأعباء الجهاد ويستمر حتى النهاية .فإن العناصر المراوغة ،والملولة،
والعاجزة عن التعاون مع الناس في إنجاز المهام الدقيقة ،والمعقدة ،والطويلة ،تدخل
الفشل على الصف كله .وكما يعجم العود لتعلم صالبته قبل أن يتخذ قوسا ،كما تحلل
قطعة الفوالذ ليعلم انسجامها وتماسك عنصرها قبل أن تصنع جزءا من آلة قوية دقيقة،
يختبر الواردون في الميدان.
وتكون مسيرة الجهاد امتحانا دائما لقابلية الصبر والوفاء بشروط البر .فالمطلوب
من المجاهد أن يخصص كل ماله وجهده ونفسه ووقته هلل عز وجل ،في تعاون كامل
مع إخوته ،وتحت إمرة التنظيم ،وتحت التهديد من خارج ،وتحت وطأة النازغ النفسي
والشيطاني.
األمير والمأمور سواء في االمتحان .الكل ينزل للميدان ،في المساجد والقرى،
والمستشفيات واألسواق ،والشوارع والمدارس ،مع الشعب .مع ذوي العاهات المحرومين
المهجورين مع تجريدات وجهاد التعليم ،مع العجزة والمرضى ،مع ضحايا البؤس حيث
كانوا .الصبر على إصالح ما أفسدته الفتنة هو البر ،مع الصبر على الصالة.
وعلى جند اهلل أن يتهيأوا لالمتحان الذي سيلجونه يوم تقوم الدولة اإلسالمية،
إنه امتحان ضبط األمور ،وتسيير األجهزة ،وتوفير اإلنتاج ،إو�حسان توزيع الثروات،
والتعامل مع واقع متحرك معاد لإلسالم.
فإذا كانت الجماعة مركبة من عناصر تميل للراحة ،وتستعجل النتائج ،وتتجنب
التعب ،وتخاف من الموت ،وتعجز عن اإلنجاز الدقيق الطويل النفس ،فالفشل محقق.
-5ضبط النفس عند المشورة :من الناس من ال قابلية في فطرته للصبر والدؤوب
على العمل والتعاون مع الغير .ومنهم من يحتاج أن يتدرب على كل ذلك ويفيد فيه التدريب.
295
من أهم ما يحتاجه جند اهلل من أخالق الخير وشعب اإليمان الصبر مع المؤمنين،
وااللتحام في الصف ،والصبر على النصيحة والكلمة الصادقة .الوارد أول عهده
بالدعوة ،ال سيما إن تقدمت به السن وتحجرت في نفسه العادة ،ال يعرف غالبا الصبر
مع الجماعة ،والتعاون معها ،وال يتحمل أن ينتقد فكره وسلوكه ،وال يملك ضبط نفسه
ليسمع رأي غيره ،ويشارك في مشورة منظمة.
ومجالس المشورة مناسبات المتحان الصبر والتدريب عليه .والمشورة اشتراك في
النقاش والدراسة واالستنتاج واالقتراح واتخاذ القرار .ليست إمالء من جانب واحد .بركة
الشورى إنما تأتي من هذه المشاركة بتأييد من اهلل عز وجل للعمل الجماعي .فال بد أن
يتعلم المؤمنون الصبر مع إخوتهم ،والصبر على النصيحة ،والرأي المخالف ،والتوجيه
الصادق .ويمكن استعمال ذوي الطبع المتفجر والفردي وعديمي االستقرار في هوامش
التنظيم إن كانت لهم مزايا تنفيذية؟ وال يعول على تنظيم تقوده طباع متسلطة فردية.
ال يعني الصبر مع الجماعة والصبر على النصيحة ونظام المشورة ،التبعية البليدة،
فقد وصفنا ذهنية القطيع وآفاتها وضرورة قلعها .وينتظر من جند اهلل أن تكون لهم فرادى
وجماعة من قوة الشخصية ومضاء العزيمة ونفاذ الرأي ما به يحققون ذلك .وال تتنافى
قوة الشخصية الفردية مع الصبر في الصف وال مع الطاعة .إنما تتضاعف قوة التنفيذ
إن اجتمعت قوة الشخصية مع الروح الجماعية والطاعة ألولي األمر.
-6الثبات في الميدان ،تحمل ومدافعة :لنتصور تيار الفتنة نه ار جارفا إلى الهاوية،
ومهمتنا تطهير النهر وتغيير وجهته إلى فسحات الخير.
فال يكون تحملنا ألذى األعداء قبوال للتيار ووجهته ،بل نسج في اتجاه معاكس له
وال نسترخي بدعوى الصبر على القضاء والقدر .نؤمن بالقدر ونرضى به ،وال نرضى
بالمقدور فهو سيء ،وما أصابنا من سيئة فمن أنفسنا.
إذا سكتونا ال نسكت ،إو�ذا قمعونا ال نتلبث في تأمل الجراح ،إو�ذا هددونا ننذر ،إو�ذا
296
دفعونا ندفع .هذا في غير الظروف القاهرة التي تدعو الحكمة فيها للتخفي.
إن دفعنا واحتجاجنا وتشهيرنا بمن يضطهدوننا جزء مهم من الجهاد ونشر الدعوة.
عند اإلمام البخاري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يصلي في حجر الكعبة
إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه ،فخنقه خنقا شديدا .فأقبل أبو بكر
حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم وقال« :أتقتلون رجال أن يقول
ربي اهلل؟»اآلية.
وروى الدارقطني وابن بكار عن عثمان رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم «كان يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر ،وفي الحجر عقبة بن أبي معيط
وأبو جهل وأمية بن خلف .فمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأسمعوه بعض ما يكره
ثالث مرات .فلما كان في الشوط الرابع ناهضوه .وأراد أبو جهل أن يأخذ بمجامع ثوبه،
فدفعته ودفع أبو بكر أمية بن خلف ودفع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عقبة».
ما كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،رغم الصبر على األذى ورغم التدرج ورغم
الصالة عند الكعبة وفيها ثالثمائة وستون صنما لم يمسها المسلمون قبل الفتح بأذى،
ساكتا .وال كان أصحابه القادرين على الدفع واالحتجاج سكوتا خانعين.
هذا أبو بكر رضي اهلل عنه يجهر باحتجاجه« :أتقتلون رجال أن يقول ربي اهلل؟».
كان المسلمون يومها مستضعفين قليلين ،وكان الشرك في عنفوانه .ومع ذلك جهر
1البقرة251 ،
297
جند اهلل بكلمة الحق ،وواجهوا التهديد واألذى بالدفع واالحتجاج واإلنذار في أحرج
المواقف وأشدها.
روى أبو يعلى وابن حبان عن عمرو بن العاص قال« :ما رأيت أرادوا قتل رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم إال يوما .أغروا به وهم في ظل الكعبة جلوس ،وهو يصلي
عند المقام .فقام إليه عقبة ،فجعل رداءه في عنقه ،ثم جذبه حتى وجب لركبته (سقط
على ركبته) .وتصايح الناس ،وأقبل أبو بكر يشتد (يجري) حتى أخذ بضبع رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم من ورائه (أعانه على القيام) وهو يقول« :أتقتلون رجال أن
يقول ربي اهلل؟» ثم انصرفوا عنه .فلما قضى صالته مر بهم فقال« :والذي نفسي
بيده ما أرسلت إليكم إال بالذبح! فقال له أبو جهل :يا محمد! ما كنت جهوال! فقال:
أنت منهم!» ومثل هذه الرواية عند ابن إسحاق .هذا اإلنذار الواضح ،والتحدي القوي،
أسوة لنا كما هو أسوة لنا تحدي إبراهيم والذين معه .قال اهلل عز وجل { :قَ ْد َكا َن ْت
ين َم َع ُه إِ ْذ قَالُوا ِلقَ ْو ِم ِه ْم إِ َّنا ُب َراء ِمن ُك ْم َو ِم َّما يم َوالَِّذ َ ِ ِ ِ
س َن ٌة في إ ْب َراه َ ُس َوةٌ َح َلَ ُك ْم أ ْ
ضاء أ ََبداً َحتَّى ون اللَّ ِه َكفَ ْرَنا ِب ُك ْم َوَب َدا َب ْي َن َنا َوَب ْي َن ُك ُم ا ْل َع َد َاوةُ َوا ْل َب ْغ َ
ون ِمن ُد ِ تَ ْع ُب ُد َ
1
تُ ْؤ ِم ُنوا ِباللَّ ِه َو ْح َدهُ}.
ما سكتوا بأبي وأمي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحبه!
ما تخفوا وما فضلوا الطريق السهل والمهادنة والمراوغة .بل دفعوا الثمن ،واعتمدوا
على اهلل الذي وعد رسوله النصر .ما خرج أولئك األسود من أجحار الثعالب وجمعيات
المهادنة!
-7فطام أمة :قد تنهار قواعد أنظمة الفتنة دفعة واحدة ،وقد يتعين هدمها
قلعة قلعة .لكن البناء ال يتم إال بإعداد الخطة إو�نجازها في كلياتها وتفاصيلها،
بروح المسؤولية ،بإعادة تربية أجيال أنشئت على الطاعة العمياء والالمباالة والتبعية
الرعوية.
1املمتحنة4 ،
298
ما دام جند اهلل في مرحلة الدعوة يتاح لهم أن يتميزوا وأن يشكلوا جسما خارج
المجتمع .ال سيما إن كانوا مضطهدين وأغلقت دونهم أبواب العمل .يمكنهم أن يحافظوا
على طهارة الصف ،فال يقبلوا إال من تمت هجرته وتطهر فكره وعقيدته وأخالقه من
رواسب الفتنة .لكن عندما تفتح لهم األبواب ،ويتعين أن يدخلوا في المجتمع ليؤثروا،
ويغيروا ،ويحولوا ،يتعرضون لعدوى الوسط ،وتسرب الفتنة إلى داخل الصف ،مجسدة
في العناصر الوصولية ،أو الرخص التي يترخصها الملتمسون لالستراحة بعد عناء
السفر.
لسنا بحمد اهلل الهادي من أهل التزمت والتشدد ،بل نعمل بوصية رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم أن نوغل في هذا الدين برفق .بيد أننا نخشى أن يدفع تعب الطريق
وضرورة التدرج جند اهلل إلى االسترخاء أمام مهمات البناء.
الجند الذين يلتفتون إلى أنفسهم بالرثاء وطلب الرخصة ال يقدرون على كسب
المعارك .والجند الذين لم ينفطموا عن مغريات المجتمع ال يستطيعون أن يفطموا هذا
المجتمع عما ألفه من لهو وعبث ،وكسل إو�همال للمسؤولية ،وتفكير رديء ،وأخالق
منحلة.
نرى في تاريخ البشر أن موجات الثورة واإلصالح سرعان ما تنكسر على صخرة
الطبيعة البشرية .فبعد ذهاب وجوه وأفكار ونمط عيش ،يحتل األرض والسلطان وجوه
أخرى ال تلبث أن تتلون بالبيئة الموروثة .وكأن هذه النفس البشرية حرباء لونها لون ما
تقع عليه .والمطلوب من جند اهلل أن يحلوا المعروف محل المنكر بعد أن يكنسوا المنكر
دون هوادة وال ردة .ولئن كان التدرج الزما ،فالصبر على تيار الردة ألزم منه .فكل تقدم
يحرزه جند اهلل في طرد الفتنة من مواقعها يجب أن يوطدوا وجودهم فيه وال يتراجعوا
عنه .بهذا المنهاج يكون التقدم مطردا والقواعد صلبة.
ال نستطيع من أول يوم وسنة ومدة أن نحذف المنكر حذفا بجرة قلم وغضبة
مضرية ،وال أن نحل المعروف محله بحماس وقرار سريع .لكن كل نصر أحرزناه نثبته
ونبني عليه .كل حد من حدود اهلل طبقناه نقف عنده وال نرجع .ونكون نحن في أنفسنا
عبر كل المراحل أهل العزائم إو�ن اضطررنا إلى الترخيص للناس .أم الصبيان آخر من
299
يأكل ،ورب البيت أول من يهب ويتصدى للمكاره.
إذا كان ال بد من تدرج في الفطام عن الفتنة والتعويد على طعام اإليمان فليكن
لكن النكسة تقتل.
شعب الخصلة
الشعبة الحادية والستون :الصوم
رابع أركان اإلسالم ،والضابط المتمم لضوابط الشهادتين والصالة والزكاة .فتوحيد
اهلل عز وجل ،واإلقرار له بالعبودية ،خروج عن سلطان الهوى المتأله ،الصالة تحقيق
لهذه العبودية بالخضوع لكيفياتها وأوقاتها ،والزكاة تحرر من غريزة التملك ،والصيام
امتالك للشهوة .فمن كملت له السيطرة على نفسه بحبسها في إطار اإلسالم ،وصبرها
على تكاليف اإليمان ،فقد تأهل للجهاد .والحج خامس أركان اإلسالم وهو أحد وجوه
الجهاد.
للصوم زيادة على أثره التربوي فضل في رفع الروحانية وتصفيتها ،فهو إمساك
الجسم والنفس عن مبتغاهما .وتزكية نية القربة إلى اهلل ،فتكتسب الروحانية شفافية .إن
هذه النفوس أقرب ما تكون لاللتئام والتحاب والتعاون إن تهذبت من كدورات الشهوات،
وسمت عن الماديات .في رمضان تسود روحانية خاصة لوال تحويل الناس لياليه
مناسبات للتخمة والعبث .فعلى جند اهلل أن يحافظوا للشهر المبارك بوظيفته ،ويستمروا
السنة كلها إن استطاعوا على ذلك المستوى من الشفافية ،مستعينين بصوم اإلثنين
والخميس ،واأليام البيض ،ويوم عرفة لغير الحاج ،ويوم عاشوراء ،والستة من الشوال،
ويكثروا الصيام في شعبان والمحرم .وعليهم أن يغنموا يوما في األسبوع في األسر
لإلفطار المشترك رجاء أن يجمع اهلل شملهم عنده في مقعد الصدق ،يفرحون عنده كما
يفرحون بالفطر جماعة .فإن «للصائم فرحتان :إذا أفطر فرح بفطره ،إو�ذا لقي ربه فرح
بصومه» كما جاء في الصحيح.
300
وليراقب المؤمنون أنفسهم ،فمن لم تظهر نتائج الصيام في سلوكه ،فليعلم أنه إنما
جاع وعطش ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه البخاري وأصحاب السنن
عن أبي هريرة« :من لم يدع قول الزور والعمل به فال حاجة هلل في أن يدع طعامه
وشرابه».
روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وقال وسلم قال« :إن
اهلل عز وجل يغار ،وغيرته أن يأتي المؤمن ما حرم اهلل» .قال المؤمن ،ولم يقل المسلم.
فالمؤمن بإتيانه ما حرم اهلل جحد نعمة اإليمان فاستحق أن يغار اهلل من سلوكه.
رحمة اهلل واسعة للمؤمن والمسلم ،إن فعال فاحشة وسوءا بجهالة ثم تابا
وأصلحا .بل يرقى المؤمن إلى درجة التقوى إن ذكره ذنبه بربه ،فتاب وأناب.
س ُه ْم َذ َك ُرواْ اللّ َه ين إِ َذا فَعلُواْ فَ ِ
قال اهلل الغفور الودودَ { :والَِّذ َ
ظلَ ُمواْ أَ ْنفُ َ
ش ًة أ َْو َ
اح َ َ
صُّرواْ َعلَى َما فَ َعلُواْ َو ُه ْم فَاستَ ْغفَرواْ ِل ُذ ُنوِب ِهم ومن ي ْغ ِفر ُّ
الذ ُنوب إِالَّ اللّ ُه ولَم ي ِ
َ ْ ُ َ ْ ََ َ ُ ْ ُ
1
ون}. َي ْعلَ ُم َ
الهفوة والفلتة إن أعقبت ندامة وتوبة تذكير من اهلل ،يخلف للعبد منة من مننه
سبحانه ،وهي المغفرة .لكن اإلصرار والجرأة على اهلل مما يطرد العبد من باب اهلل .نعوذ
باهلل.
هذا في حق الذمم الفردية .ويستعان على حفظ حدود اهلل بالوعظ والتذكير
والتخويف من عذاب اهلل وغضبه .ويرقى المؤمن في معاني عالقته مع اهلل عز وجل،
بل اهلل يرقيه ،إلى أن يصبح الحياء من اهلل هو وازعه ،والحفاظ أن يلقى اهلل وثوبه ملوث
حافزه ألن يتورع ويصلح.
301
أما في حق األمة ،فإقامة حدود اهلل تعني االنتقال من حالة الفتنة والحكم الطاغوتي
إلى حالة المجتمع اإلسالمي الخاضع لجالل اهلل وأحكامه .وهي نقلة بعيدة عسير
إقالعها وانطالقها وسيرها .فالقوانين الوضعية هي أساس الحكم تحت السلطان الجبري،
ويصحبها تحكيم نزوات الحكام ،وآراء من ال يعترفون هلل عز وجل بربوبية ،وتقنين يرعى
مصالح طبقة مترفة ومصالح مواليها من الكفار.
تركوا ألحكام الدين بقعة متقلصة سموها «األحوال الشخصية» وسط قارات
القانون التجاري والجنائي واالقتصادي واإلداري واالجتماعي .وبقي في الشعب شعور
ما باالحترام ألحكام اهلل في العالقات الشخصية من زواج وطالق وميراث ،مع كثير
من العادات واألعراف وفساد الزور والرشوة .كل ذلك مختلط كما يليق باإلهمال
الذي أهملوا الدين والتربية وتقويم االنحراف وقمع الجناة .أما خارج نطاق «األحوال
الشخصية» .فقد ألفت الناس االنحالل والتحرر األخالقي من كل وازع غير الخوف
من عقاب اإلدارة ،وهو عقاب يتفاداه من يدفع ويتشفع.
قضت على روح األمة تشريعات الرأسمالية واالشتراكية وتوجيهاتهما .وعلى الدولة
اإلسالمية أن تعيد إلى األمة صرامة التشريع والتوجيه اإلسالميين .حدود اهلل التي
خرقوها وطرحوها أرضا يجب أن تقام سدا في وجه الفساد ،إو�طا ار لعملية إحياء األمة
في جميع مرافقها.
لكي يبارك اهلل عمل المؤمنين ،يجب أن تعني حدود اهلل في الحياة العامة العدل
في القضاء وفي القسمة .ال خمر وال زنا وال قمار ،هذا نعم الشعار! لكن كيف السبيل
إلى ذلك مع البطالة ،وسوء التربية ،وفشو الخالعة ،بما ترسب من دعايات ،ونماذج
الشر ،وعادات الجاهلية؟ ال ربا وال ظلم وال احتكار ،نعم الشعار! لكن كيف السبيل
والنظامان السائدان فينا وفي العالم قائمان على كل ذلك؟
لن يرتفع واقع الحكم بغير ما أنزل اهلل بمجرد إعالننا أن هذا وهذا حرام ،ولن
يعافى مريضنا من أدوائه بوصف الحالل الطيب الشافي .إذا أردنا أن ننتقل من مرض
الرأسمالية والشيوعية والجاهلية المركب إلى عافية اإلسالم دون القضاء على البنية
الضعيفة لمجتمعاتنا واقتصادنا ،ودون التمادي في حمأة الفتنة ،ودون القفز الحماسي
302
العشوائي يلزم:
-1االجتهاد :لتغيير بنى المجتمع كله ونقله من سلطان القانون الوضعي إلى
سلطان الشريعة الغراء .اجتهاد مخطط ،مبرمج ،جماعي ،يغطي حاجات التقنين،
أي صياغة أحكام الشرع صياغة قابلة للتطبيق العيني ،ويغطي حاجات التنظيم،
أي تحكيم الشريعة المقننة في جزئيات الواقع وفروعه .وال يكفي وال يفيد أن يجتهد
الفقيه المطلع على األحكام ،العارف بأصول الشريعة ،بل ال بد أن يشرك في اجتهاده
رجل االقتصاد الذي يحدد األهداف ،ويعرف بضرورات العصر ،وصرامة المنافسة
االقتصادية في العالم ،واألحجام ،واآلليات األساسية المطلوبة لإلنتاج ،وحاجة األمة
للمال ،ومصادر التمويل المتاحة ،واضطرار األمة لالقتراض من الخارج ،وشروط توفير
األموال واستثمارها .وال بد أن يشرك معه رجل الدعوة ،إن لم تجتمع في الدعاة أنفسهم
كفاءات الفقه وشروط االجتهاد ،ليذكره بأهداف العدل ،وقسمة المال ،ومحاربة الطبقية.
وال بد أن يشرك معه رجل اإلدارة والحكم ليطلعه على الواقع ،وعلى إمكانيات التطبيق،
وفراغات التشريع التي يدخل منها التزوير ،والخيانة ،والسرقة ،وعلى دروس التجربة،
وتقنيات الصياغة ،والتخصيص والضبط.
اجتهاد جماعي هادف ،يأخذ بعين االعتبار مقاصد الشريعة ،وعلة التشريع اإللهي
النبوي ،وضرورات العصر إو�مكانياته .والعجلة أثناء ذلك تدور بسرعة ،والضرورات تلح
من كل جانب .فهذا باب عظيم من جهاد التغيير.
-2التدرج :ويأخذ هذا الجهاد سنوات وسنوات .كيف يمكن أن تتحول األوضاع
المتراكبة المتداخلة من فتنة إلسالم والباطل ضارب أطنابه في قواعد المجتمع ،ضارب
جذوره في النفوس ،والمعامالت ،والمصالح ،والعالقات ،واألذهان ،والعادات؟
ال يمكن إيقاف العجلة ريثما يعاد ترتيب اآللة االجتماعية االقتصادية اإلدارية
والنظام القانوني في دولة ما جزء ال يتج أز من نظامها الكلي .فال بد إذا من وضع سلم
أسبقيات ،وتفريع القوانين الشرعية من أصول شرعية هي اليوم في ضمائرنا مطلب
ملح ،ويجب أن يمكن لها في أرض الواقع لتحتل المراكز غدا ،بعد معركة الزحف،
وخالل صراع الحق الهاجم مع فلول الباطل الذي لن يجلو عن مواقعه بيسر.
303
تدرج من األصول للفروع ،ومن األهم للمهم .تدرج في الزمان ،وتوقيت ،وأسبقيات،
وضرورات تطرأ .وتشبه عملية التحول والتغيير القانونية كل عمليات التحويل اإلسالمي
في أنها ال تتم في الفراغ والهدوء ،بل تشق طريقها ،وتفرض نفسها ،وسط غمار عام
من العواطف المتأججة الناصرة والمعارضة ،ومن اآلراء المختلفة أو المتآلفة ،ومن
المصالح المرجوة والمهددة .ال تزعم لي أن إرادتك وفي يدك السيف ستنفذ ،إذا كان
تنفيذها متوقفا على إرادة شعب طالما ركد ،إو�رادة إدارة طالما فسدت ،إو�رادة عدو يملك
أن يجوعك ويملي عليك شروطه لطول ما مكنه حكام الجبر من مقوماتنا ،وألقو إليه
بزمامنا.
ال أغبى وال أكذب وال أكثر تعرضا أن يخذله قدر اهلل عز وجل من حكام ورثوا
ميراثا فاسدا ثقيال عميقا ،فوعدوا الشعب بالنعيم واالستقرار والقوة بمجرد أن يتولوا الحكم
ويغيروا القوانين .يعدون حصادا وفي ار بال حرث.
وما ينبغي لحزب اهلل أن يجاري األحزاب السياسية في عادتها التهريجية ،عادة نبذ
الوعود الخالبة (الخالبة بكسر الخاء حرام في اإلسالم وهي الغش والتدليس والغبن)،
ورفع الشعارات المدوية .إنما نصدق األمة ونخبرها بصدق أن ثمن إقامة اإلسالم صبر
طويل ،وعمل دائب ،ومشاركة في الهم ،وضم الصفوف ،وربط البطون ،واالنفطام المرير
عن األنانيات والذهنيات والعادات .لن نخدر األمة إن شاء اهلل بالخطب الغوغائية ،بل
نوجه إليها نداء الجهاد ونندبها إلى ساحة البذل والصبر.
ال نقصد بالتدرج الذي يهون في عينك المهمات ،ويدحرجك شيئا فشيئا إلى
النعاس واإلهمال ،وقبول الفشل ،واالعتراف بالعجز .نقصد تدرج الجهاد اليقظ الدائم
المهتم.
304
التركة المخلفة تركة إفالس مهما كان النظام السابق للحكم اإلسالمي ،رأسماليا
جبريا كنظام الشاه أو جبريا رأسماليا اشتراكيا يمينيا يساريا (من يمين الجاهلية ويسارها)
كبعض ما تراه من هذه األنظمة المتعاقبة علينا.
يلزمنا رجال مؤمنون لتصفية اإلفالس االجتماعي االقتصادي الخلقي العام .ويلزمنا
أنظمة قضائية إو�دارية وسلطوية ال تكون مرصودة إلصالح حال المستكبرين ،وال شرطة
لقمع المسلمين ،وال مكتبية تضيع في مساربها قضية العدل النافذ.
أجرى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي اهلل عنه عملية سماها التاريخ
ردا للمظالم .وكانت عبارة عن رد ما اغتصب من أموال في عهد الملكية العاضة قبله.
ولعله ما يحسن بنا أن نطمح ألكثر من ذلك وال أن نرضى بأقل منه .وكما بدأ اإلمام
عمر بن عبد العزيز بنفسه وأهله ،يجب أن تكون حالة جند اهلل المالية والسلوكية شفافة
في عين الشعب .كيف ال وقد قتل الظلمة قبلنا الثقة لطول ما كذبوا!
-5أجهزة اسالمية :يجب أن يوكل أمر تنفيذ شرع اهلل إلى أجهزة تختلف بنية
وأسلوبا عن األجهزة الموروثة .فمن ناحية البنية يقسم القضاء إلى:
أ -المظالم :وهو نظام إسالمي يعطي لقاضي المظالم صالحيات واسعة في الفصل
في القضايا المترتبة عن الخصومات بين عامة الشعب وأجهزة الحكم واإلدارة ،والنظر في
305
الحق العام ،والتقنين ،ومراقبة الحكام .صالحيات واسعة ،وتنفيذ سريع كما هو الشأن
في القضاء اإلسالمي بأنواعه ،وهو قضاء ال يعتمد على المسطرة التي يعتبرها القضاء
الوضعي ضمانة كافية لإلنصاف ،بقدر ما يعتمد على ذمة القاضي والمتخاصمين.
قضاء المظالم هذا يعم مجاالت القضاء اإلداري ،والنيابة العامة ،والغرفة الدستوررية،
كما يعرف ذلك اصطالح العصر .إن إعادة هيكلة القضاء اإلسالمي مهمة إدارية تغير
وجه التنظيم ،إو�ن تخصيص صنف الرجال المؤمنين الصالحين مهمة تربوية تعطي
الهياكل اإلسالمية مضمونا إسالميا ،وما يمكن تطبيق الشريعة اإلسالمية والنظام على
ما هو عليه تحت الفتنة ،وال برجال تصورهم لإلسالم والتزامهم بحكم اهلل وصدقهم مع
اهلل على مستوى ما نعهده في عموم موظفي الفتنة.
ب-الحسبة :وهي نظام إسالمي للقضاء السريع ،من شأنه تقويم األحوال قبل
أن تعرج ،وضرب الحديد قبل أن يبرد .صالحية الحسبة مراقبة السلوك العام ،بما في
ذلك المساجد والمدارس والشارع .ومراقبة األسواق والمعامالت .إنها صالحيات األمر
بالمعروف والنهي عن المنكر كما أمر اهلل .فالحسبة هي صلب هذا الواجب الديني،
يساعدها على القيام به الشعب بكامله .يقابل نظام الحسبة جزئيا في أنظمة العصر
نظام الشرطة القضائية ،وشرطة األخالق ،والشرطة األمنية ،واالقتصادية ،ومحاكم
محاربة الرشوة .صالحيات الحسبة ضبط المخالفات ،إو�صدار األحكام ،وتنفيذها اآلني.
إنها صالحيات يمكن أن تفتح باب اإلرهاب السلطوي إن كان القائمون عليها ممن
ال يعيشون في أعماقهم حقائق اإليمان .فال توكل إال لألقوياء األمناء ممن ال يطغيه
السلطان.
ج -القضاء العام :من تجاري وجنائي وغيره .فالقضاء اإلسالمي في خصومات
الناس ،وجناياتهم ،وأنكحتهم ،وطالقهم ،لم يكن يعرف تخصيص قاض لهذا الصنف
من الخصومات وآخر لغيره .ويمكن التخصيص إذ ال مانع شرعيا منه .لكن مسطرة
استئناف األحكام ،إو�جراء المداوالت ،والمرافعات ،وكيفية االستعانة بوسائل اإلثبات
غير الشرعية ،وبالمحامين ،ونتائج المختبرات ،أمور طارئة علينا يجب النظر فيها.
فاألساس النبوي للمرافعات «أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» .تعطي
هذه القاعدة للتحري الظاهر ،واإلثبات المنطقي ،حقهما .وتترك لذمة المؤمن ،وخوفه
من اهلل ومن عقاب اآلخرة ،الشطر اآلخر من القضية .وهذا ال يعرفه القضاء الوضعي
306
المؤسس كبقية أنظمة الجاهلية على الفلسفة المادية التي ال تحسب إال حساب المنطق
الصوري ،والمنفعة الدنيوية ،وتنكر اآلخرة .وكل القانون الوضعي ومسطرته مبنيان
على ذلك.
-6إيقاظ الشعب :وتربيته ليشارك في تنفيذ الشريعة .فمهما كان قاضي المظالم
نزيها شجاعا في الحق ،ال يمكنه إنصاف المظلوم إن بقي موقف المظلومين موقف الرعية
المستخذية ،ال تشكو ،وال تجسر على الشكوى ،وال تضغط من كل الجوانب ،وال تهب
هبة المسؤولية في وجه الظلم .والحسبة بدون المشاركة العامة مراقبة سطحية معزولة عن
خبايا األمور .والقضاء العام القائم على عدالة الشاهد واعتراف الناس بالحقوق إو�سراعهم
لنجدة المظلوم يبقى في هواء الظن ودورية األوراق بدون تلك المشاركة.
ليكون قضاؤنا حيا ينبغي أن تنضج في النفوس معاني اإليمان ،وتنبثق فيها حياة
اإليمان .وليكون عدل القاضي اإلسالمي راحة من الظلم المألوف ،يجب أن يعرف
كل ذي حق حقه ،ويحرص عليه ،ويعينه الرأي العام على طلبه واستخالصه .في
بيئة خامدة ال يفيد تحريك ظواهر األشياء .وفي مجتمع طالما قبل استعالء المستكبر،
ولصوصية الحاكم ،وغش التعامل ،والزور والرشوة ،ال يفيد القانون الشرعي ،والنظام
اإلسالمي ،والقاضي الفقيه العدل ،حتى تسري في كل طبقات األمة روح جديدة ،إو�رادة
جديدة ،وذهنية جديدة ،وموقف سياسي وعملي تجاه المسؤوليات العامة والخاصة.
-7التميز عن الجاهلية واالعتزاز بشرع اهلل .الحملة على اإلسالم بوصفه تعصبا
وتواكال وعنفا مزمنة .وكلما نبض في اإلسالم نابض ،كهذه القومة المباركة إن شاء
اهلل في إيران ،استعرت الحملة ،ونعت اإلسالم الذي يقطع يد السارق ويرجم الزاني
بالوحشية .إو�نه ليربطنا بالواقع الدولي روابط قانونية عالمية في حقل حقوق اإلنسان،
والشرطة الدولية ،والتجارة ،والتعاون ،والسياسة ،والتمويل ،واالقتصاد ،وما إلى ذلك.
أكثر من في األرض يحكمون بقوانين وضعية ،ويحكمون المنطق األرضي في فهم
شريعة اإلسالم ،ثم ال يكتفون بالنقد بل يضغطون بكل وسائلهم ،وهي كثيرة فعالة،
ليسود نموذجهم وقانونهم .وعلينا أال نخشى الناس في اهلل ،وأال نتنازل عن قالمة ظفر
من شرع اهلل تحت اإلرهاب الحسي والمعنوي الموجه لإلسالم ،وعندما تتحرر أقطار
اإلسالم ،وتقيم شرع اهلل داخلها ،يجب أن تجاهد في المحافل الدولية ،والمفاوضات،
307
وبكل الوسائل ،ليسود شرع اهلل على شرائع الناس.
نعم ،الحق الذي أنزل على محمد صلى اهلل عليه سلم هو قطع يد السارق ،وجلد
الشارب والزاني ،ورجم الزاني والزانية المحصنين ،وكل ما أوحى اهلل عز وجل به إلى
نبيه من األحكام .وقضاؤنا قضاء أصيل له أصوله وطرق تنفيذه .وهو قضاء صارم
وسريع ال يقبل تباطؤ المسطرة النابليونية .قضاء متميز ،ال يعتمد لحن المحامي بحجة،
بل ينهى عنه .وال يقبل الشفاعة في حدود اهلل كما يقبل قانونهم نقض األحكام إو�بطال
رئيس الدولة لها .قضاء يضمن الحرية الفردية ،دون أن يمس بحق الجماعة .يضمن
األمن المعاشي والسياسي والتعليمي والصحي والسكنى بقوة السلطان .يضمن التقدم
االجتماعي والتعاملي ويقر العدل بين الناس بشموليته (مظالم +حسبة +قضاء عام)
كما يضمنها ويقرها بسرعة تنفيذه وصرامته.
وما تميز شريعة اإلسالم ،وضمانها للحرية واألمن والتقدم وخير الدنيا واآلخرة،
إال من مصدرها اإللهي .ما حدود اهلل التي يحكم القضاء بمقتضاها في ظواهر الحياة
الدنيا إال جزء متكامل مع حدود اهلل التي يجب أن تحكم القلوب والعقول ،والنيات
والتعامل مع اهلل عز وجل ،ويرعاها المؤمن والمؤمنة ،استعدادا للقاء اهلل ،وابتغاء
مرضاته وجنته في الدار واآلخرة .وال ينفك حكم الشريعة ظاه ار وباطنا عن أي
جزئية من الحياة الفردية واالجتماعية .ميدان تطبيقها في التربية والتنظيم ،في الحكم
والقضاء ،في التعليم والصحة ،في الجيش والشرطة ،في اإلدارة واالقتصاد .أرض اهلل
مسرحها ،ودار اإلسالم معقلها الذي اقتحم ،فواجبنا الدفاع عنه ،وحصنها الذي هدم
فواجبنا إعادة بنائه.
لن نتحدث هنا عن فصل السلط وضرورة استقالل القضاء .ولنا إن شاء اهلل نظرة
في الموضوع في غير هذه الفصول .ثم نترك فقهنا الدستوري يخطو نحو المالءمة مع
خطوات القومة .نتركه يتطور بتطور مسؤولياتنا في الحكم ،ويرشد على محك التجربة.
فإن صور القومة ،ومراحل االنتقال إلى الحكم اإلسالمي ،قد تختلف من قطر لقطر.
فالمجال واسع ،والتنظير المسبق في هذا المجال ال يكفي.
308
الشعبة الثالثة والستون :حقن الدماء والعفو عن المسلمين
مزالق ثالثة يجب أن يتفادى جند اهلل الهوي فيها:
-1في مرحلة إعداد القوة نتجنب أساليب االغتيال السياسي لسببين :أولهما أننا
أمرنا أال نقتل المسلمين زمان الفتن .والثاني ،وهو سياسي ،أن القضايا الغريبة عن
الشعب ،العاجزة عن االنتصار باإلقناع والتمكن في المجتمع ،هي وحدها التي تلجأ إلى
أساليب اإلرهاب واالغتيال .ال يعني هذا أن نستكين إذا هوجمنا ،بل ندفع عن أنفسنا،
ونفرض هيبتنا في الساحة.
-2أثناء القومة ننزل مع الشعب إلى الشارع ،نقوض الباطل إن لم تفتح لنا أبواب
المنافسة السياسية لنصل إلى الحكم عن طريق ممارسة الشعب حقه في اختيار حكامه.
وقد أعطت قومة المسلمين في إيران النموذج ،حيث واجه الشعب األعزل قوى الطاغوت
ومدافعه ودباباته بالصدور العارية ،حتى انتصر الحق وزهق الباطل .لكن إذا اجتمعت
شروط مثل التي يعيشها المؤمنون في سوريا ،بحيث أعلن الحكام كفرهم األصلي،
وحاربوا المسلمين ،فحمل السالح واجب.
-3بعد القومة وأثناء التصفية ورد المظالم ،ال يفتح جند اهلل باب إراقة الدماء،
بل يعالجون ماضي الفتنة بما ينبغي من العفو الشامل ،اقتداء برسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم حين فتح مكة وسرح أهلها حين قال« :اذهبوا فأنتم الطلقاء!» .فستر بذلك
العفو الكريم كل األذى والمكر والويالت التي ذاقها النبي صلى اهلل عليه وسلم وذاقها
أصحابه على يد كفار قريش أثناء مقام المسلمين في مكة ،وكل الحروب والدماء بعد
ذلك .ناهيك بعفوه صلى اهلل عليه وسلم عن قاتل حمزة سيد الشهداء .يجب اإلسالم
ما قبله إال مظالم يمكن ردها من األموال المبتزة ،واألراضي المغصوبة ،والمناصب
المحتلة بالمحسوبية ،والقضايا المحكومة بالرشوة .وليس من العنف وال منافيا للعفو أن
يطرد من الساحة العامة سدنة الفساد من سياسيين ،وموظفين ،ومهرجين .وباب التوبة
مفتوح على كل حال.
309
ضابط الكف عن االغتيال ،وتجنب سفك الدماء أثناء القومة وبعدها ،لما أمر اهلل
ورسوله بحقن دماء المسلمين .وقد بدأنا نرى والحمد هلل أن من كانوا باألمس يجهرون
باستخفافهم بالدين ،أخذوا يؤكدون أنهم مسلمون ،وينفون بقوة أنهم يمتون إلى اإللحاد
بصلة .يا مرحبا! ولئن كان الخالف على فهم اإلسالم واالشتراكية هو العائق قبل اآلن
عن لقاء المسلمين وتعاونهم ،فما يستحقه منا كل من يرضى باهلل ربا وباإلسالم دينا
وبمحمد صلى اهلل عليه وسلم نبيا ورسوال هو الجلوس للتفاهم وليس العنف .اآلن ينتصر
اإلسالم .فوجه اإلسالم جذاب ،ومرحبا بكل تائب!
ديننا يأمر بحقن الدماء ،ويجعل سفكها بغير حق من الموبقات ،ويتوعد بالخلود
في النار من قتل مؤمنا متعمدا ،ويغلظ النكير على قتل المعاهد ،وعلى االنتحار ،وعلى
المشاركة في قتل المسلمين والرضى به ،وعلى المشاركة في الظلم والتعذيب ،وعلى جلد
المسلمين ،وعلى قتل من قال ال إله إال اهلل .ويأمر ديننا بالشدة على من يوقد نعرات
العصبية ،ويسعى في األرض فسادا ،ويأمر بتوفير كرامة السجين وعدم إذايته ،وينهى
عن ضرب الوجه في الحدود احتراما إلنسانية المحدود .ويأمر بستر عورات المسلمين
وعثراتهم ،وبدرء الحدود بالشبهات حقنا للدماء .ويحبب إلينا أن نعفو عمن ظلمنا.
كل هذه األوامر يجب أن تكون أخالقا فردية وشعو ار وعقيدة .كما يجب أن تترجم
قانونا يطبق تحت ظل اإلسالم.
الكف عن دماء المسلمين بكل وسيلة أثناء الفتن دين ندين هلل به .روى ابن سعد
عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال« :دخلت على عثمان يوم الدار (يوم حاصره البغاة
ليقتلوه) .فقلت :يا أمير المؤمنين :طاب المضرب! (لغة في الضرب) .فقال :يا أبا
هريرة! أيسرك أن تقتل الناس جميعا إو�ياي؟! قلت :ال! قال :فواهلل إنك إن قتلت رجال
واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا! فرجعت ولم أقاتل».
هذا كله خوفا من الوعيد الشديد الوارد في الحديث الصحيح الذي رواه األئمة أحمد
والبخاري ومسلم وغيرهما عن أبي بكرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إذا التقى
310
المسلمان بسيفيهما ،فقتل أحدهما صاحبه ،فالقاتل والمقتول في النار! قيل يا رسول اهلل!
هذا القاتل ،فما بال المقتول؟ قال :إنه كان حريصا على قتل صاحبه».
يجب أن يكون الورع في الدماء خصلة جماعية يوم يكون الحكم هلل ولرسوله
وللمؤمنين .وهو هلل وحده قضاء وقدرا .نسأله أن يجنبنا المزالق.
يطرح السؤال بإلحاح :هل يكون عملنا س ار أو جهرا؟ خاصة تحت وطأة
االضطهاد وفي اإلسالم فسحة لتشكيل أسلوب العمل تتراوح بين الرخصة لمن أكره
وقلبه مطمئن باإليمان أن يقول كلمة يتقي بها بطش العدو ،وبين الموقف النبوي
موقف المدافعة ،والصبر على األذى ،واإلنذار الشديد .ولكل جماعة قطرية أن تقدر
األسلوب المطلوب في الظرف المناسب للمرحلة وطبيعة العمل.
وفي كل الحاالت ال بد أن يكون لجند اهلل أسرار تصان صيانة تامة .وتحت
الحكم اإلسالمي يؤخذ عهد خاص على من يتولى األمور العامة أن يصون أسرار
المسلمين ،فنحن في مواجهة ،وأرضنا محتلة ،والعدو متسرب إلى مجتمعاتنا تسربا
منكرا.
يربى جند اهلل ،ويربى الشعب ،على النفور من النميمة ،والغيبة ،والبهتان،
والزور ،نفورهم من أكل الميتة .ويربون على صيانة أعراض المسلمين ،وعلى
الدفاع عنها ،وعلى نبذ عادات السباب واللعن والفحش ،وعلى التعفف عن
استعمال الكلمات الجارحة حتى في حق الحيوان ،وعلى عدم التناجي بين اثنين
دون الجليس .وعلى حفظ أسرار من استشارك أو اطلعت على عورة له ال تمس
مصلحة المسلمين .وينهى الشرع الشريف عن التجسس على المسلمين .خاصة
بعد قيام الدولة اإلسالمية ،ليعرف المسلمون ما يحاك ضدهم .وقد كان لرسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم عيون على العدو ،وأسلوب لطيف في كشف أمورهم ،وتعمية
أمور المسلمين عنهم.
311
الشعبة الخامسة والستون :الصمت والتفكر
روى الشيخان والنسائي عن أبي موسى قال :يا رسول اهلل! أي المسلمين أفضل؟
قال« :من سلم المسلمون من لسانه ويده».
امتالك المؤمن لسانه من أهم الدالئل على ضبطه نفسه .فال تجد الثرثار إال عنص ار
منحال ،عاج از عن الصبر في المهمات .وفضيلة الصمت ال تنفك عن فضيلة التفكر.
الثرثرة سطحية والصمت عمق .اإلسراع إلى الكالم خفة ،والتفكر وتقليب الرأي رزانة.
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم طويل الصمت ،وأمر به .وحذر المسلمين من
حصائد األلسنة التي تكب الناس على مناخرهم في النار .وهذا يضع لنا أدبا للحد من
لغط المجالس ،والتنازع على الظهور في ميدان الخطب والصخب .زلة اللسان خطيئة،
والصمت أول العبادة كما جاء في الحديث ،ال سيما إن كان مع الصمت ذكر اهلل،
وتدبير الرأي في أمور المسلمين إو�نضاجه.
عادة الصمت والتفكر تتيح للمؤمن أن يشارك مشاركة نافعة في مجالس الشورى،
يسمع وال يستأثر بالكلمة والرأي ،وتتيح له بعث حياة القلب بمناجاة اهلل عز وجل في
باطنه ،ومحاسبة نفسه ،وتوجيه نظرها إلى اآلخرة.
روى اإلمام مالك وابن سعد وغيرهما عن أنس رضي اهلل عنه قال :سمعت عمر
بن الخطاب رضي اهلل عنه يوما ،وخرجت معه حتى دخل حائطا ،فسمعته يقول ،وبيني
وبينه الجدار وهو في جوف الحائط« :أمير المؤمنين! واهلل لتتقين اهلل ،أو ليعذبنك
اهلل!».
312
من الصبر».
وأول الصبر القدرة على كظم الغيظ ،وطرد الشيطان حين ينفخ في مناخير المرء
يستحثه على الغضب للنفس .أما الغضب هلل فهو المطلوب .ثم الصبر على الباليا
واألقدار ،والرضى التام بها مع اتخاذ األسباب ،وتجنب التعرض لآلفات والتهاون في
الحذر ،ثم الصبر على موت األوالد واألقارب واإلخوة .والمؤمن يسأل اهلل العافية على
كل حال ،لكنه ال يطلب الهينة اللينة :االستخذاء والكسل.
وفي رواية لمسلم« :إن الرفق ال يكون في شيء إال زانه .وال ينزع من شيء إال
شانه» وفي رواية أخرى له« :إن اهلل رفيق يحب الرفق ،ويعطي على الرفق ما ال
يعطي على العنف» .وفي الحديث األخير تقابل بين الرفق والعنف.
أمرنا في الدين بالتيسير والتبشير ،فهذا رفق يقابله عنف فقيه يكفر المسلمين،
وداع ال يفتح أبواب التوبة ،ومشتاق لحكم اإلسالم يتصوره ويصوره وجها حانقا ،وسيفا
مصلتا ،وقلوبا ال ترحم.
يكون من صلب التربية والتعليم النظر في أمثلة حلم رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،وأناته ،وصبره ،وتحمله ،وشفقته على الخلق ،ليكون ذلك لنا نموذجا يحتذى.
فإننا لن نسع الناس ،ولن ينفتح لنا الناس ،إن تقدمنا إليهم بالوجه العابس والتشديد
والتعسير .وفي السيرة المطهرة أمثلة رفيعة لرفق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في
تعليم الناس دينهم ،وتدرجه بهم ،وحلمه على ذوي الطباع الخشنة وقليلي الفقه .إن
حلمه صلى اهلل عليه وسلم ورفقه حتى بالمنافقين يعطينا نموذج السلوك في فترة االنتقال
313
حين يتعين علينا أن نحبب اإلسالم ألقوام ألفوا التحرر من كل ضابط خلقي.
نزلت الشريعة اإلسالمية بتدرج ،وخرج المسلمون من جاهلية إلسالم بتدرج ،وتميزوا
عن المجتمع الجاهلي بتدرج ،وبعد الهجرة أقاموا مجتمعا ودولة إسالميين بتدرج ،وحتى
قطع حبال الجاهلية حصل بتدرج .انظر كيف احتفظ المسلمون ،ومنهم عمر ،بأزواجهم
المشركات حتى صلح الحديبية حين نزل قول اهلل تعالى{ :وال تمسكوا بعصم
الكوافر}.
شريعة اهلل نزلت ،ديننا كمل ،نعمة اهلل علينا تمت والحمد هلل ،فال نقول ،مثل ما
يقوله بعض أدعياء اإلسالم من أننا في المرحلة المكية ال يجب علينا صالة وال صيام.
ال ولسنا والحمد هلل ممن يترخص في فرض وال سنة وال فضيلة من فضائل اإلسالم
وفرائضه وسننه .إنما نقصد أن سيادة السلوك اإليماني على المجتمع في كل مستوياته
لن يتم ضربة الزب .ليس التحويل اإلسالمي مسرحا يرفع معه ديكور ليوضع ديكور،
ويخرج المجرمون ليدخل األتقياء البررة.
كان محمد صلى اهلل عليه وسلم رسوال مؤيدا معصوما ،وكانت مزايلة الجاهلية وهي
ظالم بين ،والخروج إلى اإلسالم وهو نور ساطع ،بنزول الوحي وحضور المصطفى
القائم بالقسط ،أم ار فاصال له حدود واضحة .أما التجديد من فتنة وهي غبش معتم
غامض ،إلى إسالم يختلف الناس في فهمه ،ويتفاوتون في إدراك ما يعنيه بالنسبة للفرد
والمجتمع والسياسة واالقتصاد والحياة اليومية ،فأمر شاق يطلب رفقا وتدرجا ،إن آثرنا
البناء على الكسر والسير الثابت على القفز ال سيما وقد انقطع الوحي ،وانتفت العصمة،
وعظم الخطب من كل جانب.
على أن جند اهلل ينبغي أن يمثلوا الكتاب والسنة ،إن لم يكن سلوكا مكتمال فتطلعا.
ينبغي أن يذكروا األمة بحياة الصحابة ،إن لم يكن كليا فمحاذاة.
كان لكل قرية مترفوها الفاسقون دعاة الباطل .أما اليوم وقد أصبح العالم بمثابة
قرية واحدة ،فقد توحدت طبقة المستكبرين ،ووحدت خطتها لحرب دعوات تحرير
اإلنسان وتكريمه ،إو�نصاف المحروم ،ونصرة المظلوم.
والتحليل الماركسي المبني على جدلية الصراع الطبقي ،المتحرك في نظرهم حسب
تطور نظام اإلنتاج ،ال يعطي النظرة الشمولية لقضية االستكبار في األرض ،ألنه ال
يأخذ بعين االعتبار إال الجانب المادي لحياة المجتمعات البشرية ،وال يهتدي لعامل
األخالق والدين ولقاء المصالح الطبقية المادية بكل ما ينسي اإلنسان كرامته الفطرية،
وحقه اإللهي في الحرية والعدل واألمن ،ويحرمه منها.
ال حاجة لنا في نبش اإلديولوجيات وقد ماتت وأقبرت وفات عصرها .لكن نلح
إلحاحا أن يكون من ضمن تربية جند اهلل توسيع النظرة إلى حركة العالم التاريخية،
وبعث الهمة إلى رفع اإلسالم في مستواه الحق ،هو مستوى الرسالة الشاملة الخالدة
لإلنسان من ربه عز وجل بواسطة رسوله صلى اهلل عليه وسلم .ليفهم جند اهلل أنهم
محررو اإلنسانية المستضعفة من االستكبار وأعوانه ومصائبه ،سواء منها االقتصادية
والسياسية والثقافية والتكفيرية ،والتفقير وسيلة ونتيجة للتكفير.
فمع اإلسالم التواضع والعدل ،ومع الكفر االستكبار والظلم ،باإلسالم وحده يمكن
القضاء على األنانية المستكبرة التي صنعت النظام الرأسمالي الكئيب .باإليمان باهلل
وتزكية النفس بذكر اهلل يمكن أن تحارب األنانية وتتهذب وتستسلم لحكم اهلل ،ال بالنظام
االشتراكي الشيوعي الذي يحلم بذهاب األنانية المستكبرة المستأثرة المستغلة من اإلنسان
نتيجة تغيير الهياكل ،إو�خضاع االقتصاد لتوجيه الدولة.
لنكون على مستوى اإلسالم يجب أن يتحلى جند اهلل بفضيلة التواضع .قد يجد
الوارد مشقة كبيرة للنزول من علياء ماضيه المزيفة إلى أرض األخوة اإليمانية .وقد
315
يجد جند اهلل جماعة صعوبة لالندماج في الشعب المستضعف ،المحروم ،الساكن في
األعشاش ،والفقر ،والجهل ،والمرض ،هناك وهنا يتعين الرفق ريثما يصل جند اهلل إلى
الحكم فيعملوا على تذويب الفوارق ،ليرتفع الشعب إلى درجة كريمة وينزل المستكبرون
من بهرج الترف والتبذير ،واحتقار المسلمين والتسلط عليهم.
يحارب في صف جند اهلل خلق الكبر والعجب ،وبقايا االعتزاز بغير اإلسالم .على
أن التصنع ،أي افتعال خلق التواضع ،نفاق إن لم يدخل في محاولة صادقة لتهذيب
النفس الغليظة .وبذكر اهلل تطمئن هذه القلوب .ومعنى الطمأنينة النزول من الكبرياء
فاألرض المطمئنة لغة هي األرض المستوية السهلة.
فكل من تشم منه رائحة االستكبار بوجه من الوجوه فليس بعد منا .نجعل ذلك
ناقضا ألهلية العضوية في الجماعة .وبعد القومة نجعله ناقضا ألهلية تولي أمور
المسلمين.
ليس من التكبر واالستكبار احتفاظ الوارد ببيت وفراش وحاجيات .إو�ن كان كثير
من المسلمين ال يتوفر على مثل ذلك ،فال ننتظر أن يقوم ضحايا التفقير والتجهيل
والمرض بمثل ما يندب إليه جند اهلل من مهمات .وال بد للجندي من غذاء وكساء وسكن
وسالح ووسائل.
نعم ،التبذير واالستمرار في عادات الترف ،أو ظهور ذلك على الوارد ،أمارات
النفاق .نطلب إلى الوارد أن يلزم حد الحاجيات ،ويبذل ،وينزل من عاداته وأنانيته.
بتكريم ال بإهانة .بترغيب ال بقسر .بتذكير بأن وجه اهلل ال ينال إال بالصبر مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .وهم عامة المؤمنين في مجالسهم ،وحياتهم
اليومية ،وسرايا جهادهم وسياحتهم ،في قراهم ومدنهم ،في مساجدهم وبيوتهم.
رفع مستوى معيشة المسلمين يجب أن يقترن بدمج الطبقات االجتماعية المخلفة عن
الفتنة ،بتذويب الشحوم المرضية ليصرف على عالج المرضى المجهلين المفقرين.
316
الخصلة التاسعة:
االقتصاد
االقتصاد تربية
من شعبة التواضع ،ورفع مستوى معيشة الشعب ،وتذويب الفوارق ومحاربة
عواملها ،ندخل إلى خصلة االقتصاد.
قال الراغب األصفهاني« :القصد استقامة الطريق ،يقال قصدت قصده أي نحوت
نحوه ،ومنه االقتصاد» وقال« :وأقصد السهم أصاب».
االقتصاد الوارد في الحديث النبوي وفي القرآن يعني التوسط المحمود بين طرفي
اإلفراط والتفريط ،كالتوسط في قوله تعالى{ :وال تجعل يدك مغلولة إلى عنقك وال
تبسطها كل البسط} 1.بيد أن هذا التوسط المحمود ال يعني قبول أنصاف الحلول
في الجهاد لبلوغ القصد وهو رضى اهلل والشهادة في سبيله ،وال يعني االلتواء ،بل يعني
التماس الهدف والغاية من أقرب طريق وبالوسائل األقرب مباشرة.
قعود ومثالية:
استعرضنا في الخصلة الثامنة (التؤدة) شعب اإليمان الحاثة على ضبط النفس
والتريث والصبر .وينبغي أال تتحول فضائل الرزانة في العمل ،والتأني في التدبير ،إلى
قعود واستكانة ،وتبرير للجمود بأنه تريث وحكمة .فهذه الخصلة التاسعة تقيم الوزن ،وتلفت
إلى القصد ليعلم المؤمن وجماعة المؤمنين بالتذكير باهلل وفريضة الجهاد في سبيله أن
1اإلسراء29 ،
317
المؤمن وجماعة المؤمنين ركب قاصدون إلى غاية ،ما تنبغي لهم الراحة الموهنة ،وما
خلقوا لها.
روى اإلمام مسلم عن أبي هريرة قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :خير
أمتي القرن الذيي بعثتت فيهم ،ثم الذين يلونهم» واهلل أعلم أذكر الثالث أم ال .قال« :ثم
يخلف قوم يحبون السمانة ،يشهدون قبل أن يستشهدوا».
سمانة تثقل وتقعد عن الجهاد ،وخفة وطيش ومسارعة للكالم! توسع في المأكل
والمشرب تعوق عن السير إلى اهلل بالسير إلى الجهاد وتحمل األعباء .وخفة المتسرع
ليشهد قبل أن يدعى لذلك ال يستقيم معها سير وال يبلغ بها قصد.
318
في مجتمعاتنا المفتونة تتزاحم المغريات والمثبطات .الحضارة المادية صنعت
صنيعها ،وغزت العقول والنفوس واألسواق ،وقتلت روح األخوة ،وفصلت األمة طبقات.
إسراف وتبذير من جانب ،وفقر وجهل ومرض من جانب آخر .فكيف تستطيع أمة
قواعدها الشعبية مجمدة بمثبطات الجهل والفقر والمرض ،أن تحدد هدفا عاما ،أو
تستطيع التحرك نحو تحقيقه؟ أم كيف تستطيع ذلك والمحرومون يسري بينهم روح
الحقد الطبقي ،ينفخه اليساريون (من يسار الجاهلية)؟ ولوال مقاومة العقيدة اإلسالمية
في الشعب لدعوة اإللحاد الكامنة تحت المطالبات اليسارية لعمت المطالبة بالعدل على
أسلوب الصراع الطبقي ،ولغطت اإليمان وأغرقته.
فطن دعاة اليسار إلى خطأهم حين كانوا يعلنون عن نواياهم في إقامة الدولة
العلمانية ،فنراهم اليوم يدعون بحماس وقوة إلى «اإلسالم الثوري» ليربحوا الرأي العام.
ال يكفي أن نؤكد أن اإلسالم هو العدل ،وهو الحضارة ،بل ال بد أن نشرح أن
بين الطرفين الذميمين في حياتنا ،طرفي الفقر والترف ،تتمثل الجادة ،يتمثل الصراط
المستقيم اجتماعيا واقتصاديا ،المؤدي باألمة إلى أهدافها ،وبالفرد إلى غايته .وال بد
أن نخطط للقضاء على ما يخالف االقتصاد ،بالمعنى القرآني ،بإقامة اقتصاد ،بمعنى
العصر ،عادل قوي.
نجد في األثر المنسوب إلى اإلمام علي كرم اهلل وجهه« :كاد الفقر أن يكون كفرا».
وقد رواه في الحلية مرفوعا.
أما الطرف الثاني فنجده في حديث الشيخين أن رسول اهلل صلى عليه وسلم حين
قدم أبو عبيدة بمال من البحرين قال ألصحابه« :فأبشروا وأملوا ما يسركم! فواهلل ما الفقر
319
أخشى عليكم! ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان
قبلكم ،فتنافسوها (أي فتتنافسوها) كما تنافسوها (فعل ماض) ،وتهلككم كما أهلكتهم».
الهلكة هي ما نحن فيه من انبساط الدنيا واستئثار سفهاء األمة بأرزاقها ،ونشوء
طبقة من السفهاء عبر األقطار الفتنوية ،تلعب بالمال والسلطان ،وسواد األمة في الفقر
الكافر.
نرجع إلى الراغب األصفهاني ،قال رحمه اهلل « :واالقتصاد على ضربين()...
حتى قال :يكنى به عما يتردد بين محمود ومذموم ،كالواقع بين العدل والجور».
ال نريد أن نقلد المنطق الجدلي من حيث تبناه اليسار الجاهلي .وال نريد أن نخوض
في الفكر السطحي الذي يقسم اإلسالميين إلى يسار ويمين .وال نريد أن نعتمد على
علمائنا كالراغب لنؤسس جدلية إسالمية.
لكن اإللحاح على أن التناقض بين الفقر والترف ،بين المترفين والرعية المحرومة،
بين المإل المتجبر والدعاة المضطهدين ،بين المستكبرين والمستضعفين واقع ثابت في
عالم اهلل ،وفي كتاب اهلل الموحى به ،وفي حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي
ال ينطق عن الهوى.
وما دمنا ال نفهم هذا بالوضوح الكافي ،وال نلح عليه في خطابنا اإللحاح الكافي،
ونتعفف عنه مخافة أن يتهمونا باليسارية وتقليد الجدلية ،أو نضمر (هذه أدهى وأمر)
مهادنة الرأسمالية واالستغالل واإلثراء الحرام ،فإن اإلسالم الذي ندعو إليه سيبقى
غامضا في أعين الشعب .وبذلك يغلبنا في الساحة من يخاطب الناس بلغة الخبز،
واألجر ،واإلنصاف ،حين نخطب نحن باإليمان المجرد الذي يصوره أعداؤنا غيبية
ومثالية ،وتعصبا دينيا ،وخنوعا تحت األقدار ،وحرمانا للمرأة ،وخدمة للطاغوت.
الفقر أخو الكفر ،والبطون الجائعة ،واألجسام المريضة ،والعقول الخاوية ،لن تسمع أي
نداء قبال من نداء العدل.
320
«ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما
أهلكتهم».
ثم بسطت الدنيا ،وتوسعت دار اإلسالم ،ونزل على األمة بالء الملك العاض ثم
الجبري ،وبالء العصبيات ،وبالء الطبقية .فانعزل العباد والصالحون عن المجتمع،
فرادى وفئات ،كل يلتمس الطريق إلى اهلل خارج دوائر الفتنة.
وهي طريق تهوي إليها أفئدة المثاليين من هذه األجيال الشابة المؤمنة التي بارك
اهلل زماننا بها .شباب يكفرون المسلمين ،ظاهرة تجسد روغان الضعفاء نفسيا عن خوض
غمار الفتنة إلنقاذ األمة ،السطحيين معرفة العاجزين عن فهم ما يراد من المؤمن
القوي من جهاد داخل األسوار ،العنيفين طبعا ،المائلين لتطرف يجمع بين الهروب عن
مواجهة الواقع ،وبين الجرأة على تكفير المسلمين والفتك بهم .انتقال بين طرفي النقيض
ال يمكن معه االقتصاد المطلوب.
إنها عاطفية عقيمة تزين لبعضنا أن يسلي نفسه باجترار البالء النازل باألمة في
عزلة من يتمنى أن تكنس قاذورات البيت دون أن يستعد لخدمة الكنس التي تعرضك
أن يصيبك من غبارها ونجاساتها.
إنه واقع كثيف ثخين .الطريق وسطه شقا واقتحاما .وطبيعة المعركة أنها صراع بين
متناقضات .وأهمها تناقض الفقر والترف ،تناقض الظلم المهين.
321
االقتصاد تنظيما
القاعدة المادية:
إن العوامل االقتصادية التي يؤكد على أهميتها في تاريخ البشر أصحاب التحليل
المادي ذات مكانة خطيرة فعال .ومن يدعو إليمان مجرد ،وجهاد ال يجعل من مقدماته
وشروطه إعداد القوة المادية ،إنما يسئ إلى الدعوة ،ثم لن ينال من أمره غاية إلعراضه
ط ْعتُم ِّمن قَُّوٍة ِ
عن نواميس اهلل في الكون .قال اهلل تعالىَ { :وأَع ُّدواْ لَ ُهم َّما ْ
استَ َ
اط ا ْل َخ ْي ِل} 1،هاتان الكلمتان «رباط الخيل» تضعاننا أمام المشكل المادي و ِمن ِّرب ِ
َ َ
االقتصادي .الكلمتان تفيدان إنتاج الخيل ورباطها :زراعة ،علف ،تربية مواش ،سالح،
تنظيم لكل ذلك.
قال اهلل عز وجل يخاطب اإلنسان{ :فَ َل اقْتَ َح َم ا ْل َعقَ َب َة َو َما أ َْد َر َ
اك َما ا ْل َعقَ َب ُة
2
س ِكيناً َذا َمتَْرَب ٍة}. ِ ٍ فَ ُّك رقَب ٍة أَو إِ ْطعام ِفي يوٍم ِذي م ٍ ِ
س َغ َبة َيتيماً َذا َم ْق َرَبة أ َْو م ْ َ ْ َْ َ َ ْ ٌَ
جوع وطعام ،ونداء لإلنسان أن يرتقي من حضيض أنانيته بالعطاء ورحمة المقهور.
وهو ضمنيا واستنباطا نداء لألمة المسلمة أن تقتحم عقبة االقتصاد ليؤتى حقه كل
ذي حق ،وليسود الرخاء فتسود معه األخوة واإليمان .ولئن كان الفقر شقيق الكفر
وبئس ضجيع الفرد .فإنه لكذلك في حق أمة تئن تحت وطأة الحاجة المادية ،والتخلف
الحضاري ،والضعف الناتج عنهما.
1األنفال60 ،
2البلد16-11 ،
322
كيف نشق طريقنا:
مسيرتنا االقتصادية واتخاذنا الوسائل المادية لجهاد الدعوة في مرحلة التربية
والتنظيم والزحف .ثم لجهاد البناء والقوة في مرحلة الحكم ،ال تنفك عن مسيرتنا
العامة .بل هذه ال معنى لها وال إمكان بدون تلك ،كما أن اإلنسان ال وجود له
وال يتصور إال بوجود جسمه .وعلى قوة جسمه تتوقف قدرته على التحرك والتأثير
والسعي واالنتصار.
لن نستطيع قبل قيام الدولة اإلسالمية أن نغير من أشكال ومبادئ وأهداف
االقتصاد الفتنوي .فنحاول أن نجمع من أموال المؤمنين مادة الجهاد ،ونستثمر ،ونجتهد
أن نبقى مستقلين ،ال نمد اليد لمتصدق ليس منا ،فنفقد حريتنا ونحيد عن وجهتنا.
ونركز إعدادا لقوة الغد على تهييء برامجنا لتطوير االقتصاد اإلسالمي ،ومحاربة
التخلف ،وحل معضالت التنمية .البرامج تعني رصد األحداث ،ومعرفة دخائل االقتصاد
العالمي ،وحركيته ،وأزمته ،وآليات االستغالل الجهنمي الذي تذهب أموالنا وخيراتنا
ومروءتنا ضحيته .ثم إعداد البديل على صورة تخطيط مدروس ،إو�عداد جند اهلل في
االقتصاد من خبرائنا ،وعلمائنا ،إو�حصائيينا المقتنعين بالخطة اإلسالمية ،الراغبين في
اعتمادها ،القادرين على إنجاح التجربة.
تأخر المسلمون عن الركب الحضاري ماديا وعلميا وخلقيا .ولئن كانت بشائر
التجدد اإلسالمي تؤذن بتقدمها اآلتي بإذن اهلل ،المعاصر لتدهور الحضارة الغبية
المتآكلة من أخالقها وثقتها بنفسها ،وهما مقدمتان لالنهيار ،فإن المستقبل على ما يبدو
للناظر مليء بالتحديات الخطيرة.
كيف نشق طريقنا مع المشاكل السياسية التي اتخذت صبغة عالمية بصراع
العمالقين الجاهليين؟ مشاكل الفقر والجهل والمرض أيضا عالمية ،لنا منها النصيب
األوفر مع شعوب العالم المستضعف .الصراع العالمي يدور حول األرض ذات القيمة
االستراتيجية ،ودار اإلسالم ،بتوسطها وحزامها حول الكرة ،ذات أهمية قصوى ،ويدور
323
حول خيرات األرض ،وخيراتنا إو�مكانياتنا -خاصة النفط وأمواله -محط األطماع،
ومعدن الفتنة ،ووسيلة البقاء إن أحسنا استعماله ،وقدرنا على استعماله ،في القتال
المصيري بين قوى العالم.
عالمية المشاكل ترفع فهمنا ،ويجب أن ترفع ،إلى مستوى إدراك أن الصراع
كوني بين الحق والباطل ،بين مستكبري العالم ومستضعفيه .يتزاحم الجاهليون في
مخاطبتهم ودنا أن يوهموا صف المستضعفين أن األمر صراع بين شرق الجاهلية
وغربها ،دفاعا عن الحرية من هذا الجانب ،ودفاعا عن المحرومين من ذاك ،يوهمون
أن العالم شرق ضد غرب ،وشمال يريد الحوار مع جنوب .وفي أسواق السياسة،
واالقتصاد ،والسالم ،والدبلوماسية ،والحرب ،واالنقالبات ،واألحالف ،واالضطرابات،
تطحن رحى الجاهلية الشعوب المستضعفة شيئا فشيئا .تدفع الجاهلية المستكبرة
الشعوب المستضعفة إلى اإلفالس المالي ،والعجز االقتصادي ،فندفع نحن ثمن إفالسهم
الحضاري ،وفساد آلتهم الجهنمية التي تتصرف سيدة في قيم األرض المادية والمعنوية.
ندفعه من أرضنا التي احتلت في فلسطين وأفغانستان وغيرهما .ندفعه من أموالنا
في ديون المراباة اليهودية ،ندفعه من سيادتنا ودمنا لنحصل طعام قوتنا وبضائع تهتك
سفهائنا ،وعلى سالح نستعمله في حرب بعضنا نيابة عن السيد الجاهلي .ندفعه من
أبنائنا الذين أغراهم النموذج الجاهلي ،وصرع عقولهم ونفوسهم الغزو الحضاري ،فهم
في الداخل عقيمون ال ينتجون ،وخيرتهم من علمائنا واختصاصينا وعباقرتنا يلجأون إلى
دار الكفر فيما يسمى «هجرة األدمغة» لما لم يجدوا في بالدهم اعترافا بالكفاءة وقدرة
على استعمالها.
في مستوى عالمية الصراع نحن ،وينبغي أن نخطط أوسع من القطرية الموروثة،
فإننا في حدود أقطار الفتنة لن نستطيع شق الطريق إلى البقاء ،وفي ميدان االقتصاد
وتهييء المستقبل اإلسالمي ال مناص لنا من التعامل مع الدول العربية واإلسالمية مهما
كان نظامها الحالي .فأموال المسلمين حق مشاع لهم جميعا عبر أقطار التجزئة التي ال
يعترف اإلسالم بها .واستخالص هذه األموال من األيدي العابثة ،واألبناك الصهيونية،
الستثمارها فيما ينفع المسلمين واجب وضرورة ،ريثما تتحرر دار اإلسالم ،وتستطيع
الضرب على يد السفهاء الذين يلعبون باألموال التي جعلها اهلل لنا قيما.
324
مسؤولياتنا
تتضخم األزمة العالمية وتتفاقم األحوال في بالد المسلمين .بعضها يرفل في
الحرير ،بل يرقص ويفجر على وثيرة لندن ،وبعضها ينخر فيه البؤس األسود.
تتضخم أعداد المواليد المباركة إن شاء اهلل في بالدنا ،فتنشأ أعدادا مهجورة ال
تقدر أنظمة الجبر على إطعامها ،وتعليمها ،وتربيتها ،وتشغيلها ،فتسبب ضغطا يسرع
باألنظمة الفاشلة إلى الهاوية .نحن المسؤولون عنها غدا تحت ظل الدولة اإلسالمية،
وفي سياق واقع عالمي ثلث سكانه يعانون جوعا ،ويحتكر الغرب مادة إطعامهم ،ويساوم
بالطعام ،ويرهب بالحصار الغذائي ليكسب مغانم سياسية واقتصادية.
مسؤوليتنا أن نستعمل استعماال رشيدا العامل البشري المتوفر كما ،والعامل المالي
السيء التوزيع ،المتسرب إلى أبناك صهيون يغذي اقتصادهم ،وعامل المادة الخام
المتنوعة تنوعا ال بأس به في ديارنا ،وعامل األرض الصالحة للفالحة وهي كثيرة والحمد
هلل .باركنا اهلل.
مسؤوليتنا أن ندخل روحا جديدة في هذه األجيال التي تكون تحت الفساد الجبري
عبئا ال يطاق ،ألنها تمثل في نفسيتها ،وذهنيتها ،وموقفها أمام الحياة ،الفشل واالنهزام
ومسخ الشخصية .ما أصاب النفسية اإلنسانية من خراب معنوي شامل بتخريب الجاهلية
يتجسد في أجيالنا الضحية .أجيال تولد كاألرانب في حظائر البؤس االجتماعي،
وتعطاها أسماء وأرقام في مدارس التجهيل وشوارع الفتنة ،وتعرض للقنبلة اإلعالمية،
واإلغراء االنحاللي ،ثم تدفع إلى الشارع .ال تخطيط يهيئ اإلنسان لمهمات الخبرة،
وال تربية تنشئه على معاني اإليمان ،وال تنظيما اقتصاديا يضعه على عتبة المسؤولية
اإلنتاجية والكرامة االجتماعية.
أن ينقدهم اإلسالم فينقدوا األمة .نصر اهلل اإلسالم ،وحفظ القرآن ،وقطع دابر
المجرمين.
325
أن ينصفهم اإلسالم فينتصفوا من عدو األمة.
أن يجندهم اإلسالم فيجاهدوا في سبيل اهلل.
مسؤوليتنا عن األرض أن نوليها العناية األولى لنحدث إصالحا فالحيا يكفل لنا
االستقالل الغذائي ،وهو الشرط الضروري لبقائنا وحريتنا.
مسؤوليتنا أن نجند الشباب لمعركة العلم ،وأن نسترجع أدمغتنا من بالد الجاهلية،
ونحبك شبكة علمية نجمع فيها الخبرات المتاحة ،لنبدأ عملية تأثيل التكنولوجيا في
بالدنا ،وتوطينها ،وتغذيتها ،إو�شاعتها ،وتصنيعها.
ال للقفز من فوق مراحل التنمية والتصنيع التي مرت بها شعوب أوروبا ،وال الثورية
االشتراكية المتخبطة ،قادران على انتزاعنا من دائرة التخلف المغلقة .إنما نستطيع
الخالص واالنطالق يوم نحكم شريعة اهلل في كل أمرنا ،فيكون القانون اإللهي المتحكم
في الصالة والسلوك اإليماني هو نفسه الموجه لالقتصاد وآليات التوزيع ،وتبقى تقنيات
اإلنتاج ،نستمد حكمتها من عالم اهلل الذي له ما في السماوات وما في األرض.
326
لن ننتزع من حلقة التخلف المفرغة ،ودوامته التي تطيش بنا فتلتقمنا األطماع
العالمية ،إال بالتكتل اإلسالمي المهيئ بعد التحرر والمهيئ للتحرر ،وحدة إسالمية
تؤهلنا لقيادة المستضعفين ،وتقديم البديل عن الحضارة اآلفلة المعانية آلالم االحتضار
العنيف :حضارة االستكبار الغربي.
لن نخرج من تلك الدوامة لنصعد إلى سماء الكفاية والقوة ،إال حين تسري فينا روح
اإليمان والبذل ،روح التضحية والتشمير والجهاد .مستقبلنا مؤكد االنتصار تحت لواء
الجهاد ،فالنصر موعود اهلل لمن آمن وعمل صالحا.
قواعد إسالمية
لم يواجه جيل من أجيال المسلمين تحديات في حجم وضرورة ما نواجه .احتالل
األرض كان هينا حين كانت األسلحة متقاربة ،ووسائل اإلنتاج متشابهة ،والعامل
الحاسم هو قوة الحافز والعدد والتنظيم .أما اآلن فأرضنا محتلة ،وال سالح معنا مما
ننتج ونملك التصرف فيه ،وال اقتصاد ،وال حافز وال قدرة على التنظيم .أعداد غثائية وال
حافز وال قدرة وال قيادة .أعداد وال سالح ،أعداد تهزمهم بقيادة الجبر شرذمة صهيون.
في عقر دارنا التحدي وعلى رأس أمرنا .ومن حولنا وفي نفوسناَِ { :ل َك ِبأ َّ
َن اللّ َه
َن اللّ َه ِ لَ ْم َي ُك ُم َغ ِّي ارً ِّن ْع َم ًة أَ ْن َع َم َها َعلَى قَ ْوٍم َحتَّى ُي َغ ِّي ُرواْ َما ِبأَنفُ ِس ِه ْم َوأ َّ
سميعٌ َ
يم}. ِ
َعل ٌ
1
تحدي األمن الغذائي ،تحدي كفاية السالح ،تحدي الكفاءة االقتصادية ،تحدي
النفط (هو شريان الحياة في االقتصاد العالمي وهو لنا نهر تتسرب منه مروءتنا وقيمنا،
ووثاق يربطنا برباط العبودية لمستكبري العالم ومرابيه).
ٌ
تحدي الفرقة والعداوة بين حكام الجبر .لعبة العالم تتقدم ،ونحن الحجرة النكراء في
الرقعة.
1ااألنفال53 ،
327
نحن الريشة السفيهة في مهب رياح التاريخ.
صدقت يا سيدي يا أبا القاسم! غثاء كغثاء السيل .أعداد تخاف الموت وتحرص
على الحياة أي حياة.
وتغيير ما بأنفسنا تربية وتنظيما وزحفا هو وسيلة التغيير من غثاء لقوة .ومن جملة
التربية والتنظيم والزحف التربية االقتصادية ،والتنظيم االقتصادي ،والزحف االقتصادي.
وعلى قواعد اإلسالم نبني هنا كما بنينا من قبل إن شاء اهلل.
أصول
تربية المؤمن السائر إلى اهلل تعتبر أصوال ثالثة في عالقته بالمال ومتاع الدنيا:
-2أن يتسبب لكسب معاشه ومعاش عائلته حيث أقامه اهلل ،ويجد لينفع بنشاطه
االقتصادي أمته.
-3أن يكسب من حل وينفق في حل ،ال يحتكر وال يبذر وال يكنز.
هذه األصول الثالثة هي نفسها التي تعتبر في اقتصاد إسالمي يكون لألمة
َم َوالَ ُك ُم قيمة ،ويكون لها به قيام ،تحقيقا لقول الها عز وجلَ { :والَ تُ ْؤتُواْ ُّ
السفَ َهاء أ ْ
الَّ ِتي َج َع َل اللّ ُه لَ ُك ْم ِق َياماً} 1.في قراءة ورش»قيما» وفي قراءة حفص «قياما».
بهم مزدوج:
مشاكل الملكية واإلنتاج والتوزيع تطرح في اإلسالم ٍّ
هم بلوغ الفرد إلى كماله اإلنساني الروحي في نهاية رحلته في هذه الدار .وال بد
أّ -
له في هذه الرحلة من زاد مادي ،وسعي لكسبه ،وتصرف حكيم في إنفاقه ،لكيال يصبح
1النساء5 ،
328
هم الزاد عائقا عن التقدم في الطريق إلى اهلل.
ب -هم قيام األمة ،واستقاللها االقتصادي ،وأمنها قوتها.
حيازة المال
فساد الفرد وفساد المجتمع ينشآن عن طغيان األنانية الفردية وجشعها .ومن
وراء الفلسفة اللبرالية واإلديولوجية االشتراكية -وهما يعالجان المشكل االقتصادي في
غياب تام عن عقدة العقد وهي الجشع الفردي– تستقر المباءة النفسية التي تنبثق عنها
ولم ،وتكاثر ،وتفاخر،
األمراض االجتماعية االقتصادية السياسية ،من ظلم ،واحتكارّ ،
واستغالل ،وتبذير ،وطبقية ،واستعباد لإلنسان بجعله قنا للمالكين ،وعبدا لآللة ،وعجلة
في ناعورة اإلنتاج ،وعنص ار مكمال آللية االستهالك.
الرأسمالية وصفت بكل النعوت الرديئة التي تستحق ،وبقيت تهمة أخرى ال يستطيع
تبصرها وتوجيهها إليها إال اإلسالم ،من منظور ما فعلته وتفعله باإلنسان ،من تحويله
إلى وسيلة وهو درة الكون ،ومن تحريفه عن غايته الروحية األخروية إلى أهداف
االمتالك الدنيوي والمتعة ،ومن تضليله عن صراط اهلل إو�غراقه في المادية.
إذا كانت حيازة وسائل اإلنتاج واالستبداد بها من طرف طبقة ،هما وسيلتا الرأسمالية
الستغالل العامل ،ونهب الثروات االجتماعية ،واستقطابها ،فإن نفس االستغالل والنهب
يتحقق لبيروقراطية االشتراكيات .هنا وهناك ،على خالف االستغالل والنهب يتحقق
لبروقراطية االشتراكيات .هنا وهناك على اختالف الفلسفات ،تمتد من أعماق النفس
البشرية توجهات لالمتالك واالحتكار واالستغالل.
ما العالج في نقل الملكية من األفراد للدولة ما دام المتحكم في أجهزة الدولة هو
المتحكم في الملكية العامة .وما دام الظلم والعدوان نابعين من أعماق النفس البشرية
329
التي ال يكفي تغيير البنيات السياسية االقتصادية لتطهيرها وضبطها.
النظام االقتصادي الذي يستطيع أن يفك العقدة التملكية النفسية في اإلنسان هو
وحده يمكن أن يتجاوز الرأسمالية وأدواءها ،واالشتراكيات ،وهي الوجه اآلخر للرأسمالية.
وليس إال اإلسالم.
حيازة المال في اإلسالم تصرف مؤقت .بهذا يخاطب اهلل اإلنسان ،وعلى مقتضاه
يجب أن تعمل شريعة اهلل في التطبيقات االقتصادية لألمة.
ِ
المستخلف (بكسر الالم) للمستخلَف (بفتحها) أن ثم تشرح آيات أخرى تكليف
يراعي في تصرفه أحكاما ثابتة ،وفي هذه اآليات تنسب األموال إلينا .قال اهلل عز وجل:
وهايرتُ ُك ْم َوأ َْم َوا ٌل اقْتََرفْتُ ُم َ ِ { ُق ْل إِن َك َ
اج ُك ْم َو َعش َ
آؤ ُك ْم َ إوِ� ْخ َوا ُن ُك ْم َوأ َْزَو ُ
اؤ ُك ْم َوأ َْب َن ُ
آب ُ
ان َ
سوِل ِه َو ِج َه ٍاد ِ
ب إِلَ ْي ُكم ِّم َن اللّه َوَر ُ َح َّ
ض ْوَن َها أ َ اك ُن تَْر َ اد َها ومس ِ
سَ ََ َ َوِت َج َارةٌ تَ ْخ َ
ش ْو َن َك َ
ين} اس ِق َِفي س ِب ِيل ِه فَتَربَّصواْ حتَّى يأ ِْتي اللّ ُه ِبأَم ِرِه واللّ ُه الَ يه ِدي ا ْلقَوم ا ْلفَ ِ
َْ َْ َ ُ َ َ َ
3
ْ َ َ
فنسب اقتراف األموال (أي حيازتها) إلينا ،وساق ذكرها في وصف ظروفنا االجتماعية،
والبيتية ،لينبهنا إلى ضرورة محبة اهلل تعالى أكثر من محبة غيره ،ومن جملة ذلك الغير
المال المكتسب.
متى استقر هذا في نفسية الفرد ،وأصبح له عقيدة ،وتعلقت همته باهلل فملك الدنيا
ولم تملكه ،استطاع اقتحام عقبة المال.
1احلديد7 ،
2النور33 ،
3التوبة24 ،
330
ومتى تمكن اإليمان بأن األمر امتحان ،وأصبح السلوك االجتماعي تجاه الملكية
والتصرف االقتصادي فيها خاضعا للشريعة اإلسالمية التي تساعد بوازع السلطان
َم َوالُ ُك ْم َوأ َْوَل ُد ُك ْم ِفتْ َن ٌة} 1أمكن تجاوز الرأسمالية وأوبئتها،
الحقيقة القرآنية {إِ َّن َما أ ْ
واالشتراكية ووعودها الكاذبة.
يتناول االستخالف العام أحواال عامة كسفه المالك ،بالمعنى الموسع للكلمة ،وموت
المالك ال وارث له ،كما يتناول مواد معينة كالماء والكإل والنار ،كما يتناول حقوقا
مفروضة كالزكاة والركاز ،كما يتناول األرض المفتوحة عنوة ،لينقل الملكية من حيازة
األفراد إلى حيازة الجماعة.
فبهذا يفتح باب تحديد الملكية مراعاة للفائدة العامة ،ومقتضيات تنظيم اإلنتاج،
وباب تأميم المصالح الكبرى ،وباب التضامن والتكافل ،وباب اإلصالح الزراعي
مفتوحة.
الذي يثبت لألفراد حق الملكية ويحددها بضوابط شرعية .بحيث يحل اهلل البيع
ويحرم الربا ،ويأذن في اإلرث ويحدده ،ويندبنا للكسب الحالل ،والكد على العيال،
1التغابن15 ،
2النساء5 ،
331
ونفع الناس .ويحرم علينا ثمن الخمر ،وتجارتها ،والقمار ،وأكل أموال الناس بالباطل،
والربا.
ال مجال للمقارنة بين النظام اإلسالمي الشمولي ،واالقتصاد جزء منه ،وبين سائر
األنظمة البشرية .فعندهم تحكم الفلسفة واألفكار البشرية بال حدود ،فتكون النتيجة
التردي في متاهات الجاهلية .وعندنا بحكم شرع اهلل .ولكل تصرفاتنا حدود معروفة،
وأحكام منزلة .فهذا ضمان صيانتنا .أقول عندنا وأقصد مستقبل الخالفة على المنهاج
النبوي المقبلة بإذن اهلل.
إذا كان تدخل الدولة لتوجيه االقتصاد وتنظيم الملكية مزية مثلما تدعو
االشتراكيات ،فإن اإلسالم بأحكامه المفصلة في فقهنا الماضي ال بد أن تتوسع في
فقه مستقبل ال يحتاج إلى حافز من وراء ذاته .أحكام اإلسالم في األموال صالحة
لقيادة االقتصاد وتطويره ،لكي يشتق قوانينه لتوجيه االقتصاد وتنظيم الملكية واإلنتاج
والتوزيع.
إذا كانت الرأسمالية الجاهلية تمتاز بقانونها الغابي ،قانون االقتصاد المسمى حرا،
فإن فضائل االقتصاد اإلسالمي واضحة في المبادئ .وما نراه من ترد في أوضاعنا
العامة واالقتصادية إنما مرده إلى أننا تحكمنا قوانين الرأسمالية وال يحكمنا اإلسالم.
هناك في اقتصاد االشتراكيات ،وهنا حيث تسود الرأسمالية ،وفي كل بقاع األرض
حيث تتصارع المصالح ،ال تجد رحمة وال تجد إنسانية .نفس الجشع البشري ونفس
استكبار وأثرة األقوياء األغنياء الحاكمين.
إن دين اإلسالم دين اهلل .يخول المستضعفين الحافز النفسي ،والقوة االجتماعية
السياسية لمناهضة المستكبرين المستبدين بملكية األموال واألرض والوسائل ،وإلقامة
العدل في األرض .وما نراه من استشهاد المستكبرين بالقرآن ليبرروا الظلم والتسلط
والترف ،ما هو إال تدجيل باسم الدين.
332
اإلنتاج
روى اإلمام أحمد عن أنس أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إن قامت
على أحدكم القيامة وفي يده فسلة فليغرسها» .الفسلة أو الفسيلة هي الغرسة من النخل.
الحديث يحث على التسبب فيما ينفع الناس حتى ال يشغلنا عنه شاغل مهما عظم.
واألحاديث النبوية في باب الحث على العمل اليدوي ،واالحتراف ،والتجارة المبرورة،
آم ُنواْ ُّها الَِّذ َ
ين َ والزراعة ،كثيرة .وكلها تفصل أمر اهلل لنا سبحانه إذ يقولَ { :يا أَي َ
ض} 1،وأمره عز وجل لنا س ْبتُ ْم َو ِم َّما أ ْ
َخ َر ْج َنا لَ ُكم ِّم َن األ َْر ِ َنفقُواْ ِمن َ ِ
أِ
ط ِّي َبات َما َك َ
بعمارة األرض بما يخدم مقاصد اإلسالم ،حين سرد لنا القرى الكافرة التي عمرت األرض
عمران طغيان وزينة وتكاثر ،فأعمتهم وفرة ما لديهم من جنات وعيون وزروع ومقام
كريم ونعمة عن طاعة اهلل ،إو�قامة العدل ،وتصديق النبيين ،إو�نصاف المستضعفين.
مشاكل اإلنتاج ،وهو قوام العمران الذي أمرنا به إذ هو قاعدته المادية ،في بالد التخلف
االقتصادي تكشف عن الضرورات الملحة التالية:
-1أال يكون احترام الملكية الخاصة ،وهي األصل في االقتصاد اإلسالمي ،مانعا
من تعبئة كل طاقات األمة إلنتاج الكفاية والقوة .بحيث ال يسمح للمالكين التصرف
السفيه الذي ينافي المصلحة العامة ،وال يسمح بكنز األموال ،وال بتعطيلها .وال يسمح
للمالكين بالعيش الطفيلي على مردود أموال منحاة عن الدورة االقتصادية لألمة.
-2تحرير القوة العاملة من قبضة رأس المال ،واعتبار العمل القيمة األسبق في
االقتصاد.
1البقرة267 ،
333
-5تأميم القرض والمصارف ،وتحويلهما إلى مؤسسات ال ربوية تنشط عملية
اإلنتاج.
-7وضع خطة تنموية بواسطتها تتدخل الدولة في توجيه عملية اإلنتاج ،وتشجيعه،
وتنظيمه ،دون أن يصبح التدخل عرقلة للمبادرات النافعة ،وال تعقيدا مكتبيا.
-8إتاحة فرص الشغل لكل قادر على العمل ،باعتماد التقنيات واألساليب التي
تشغل الناس أكثر مما تشغل اآلالت الميكانيكية .هذا في حدود ضرورات التصنيع .فإنه
ال يمكن اإلنتاج الثقيل ،والفني ،والسالحي ،إال بصناعة تقنية ممكننة .وعلينا السعي
لمسابقة ومنافسة الدول المصنعة التي تعيش ثورة اإللكترون ،التي تطور الصناعة،
وأطر االقتصاد ،وظروف المنافسة العالمية ،بما يتالءم والنظام «األوطوماطي»
والبرمجة اإلعالمية .نحن مسبوقون سبقا فظيعا في مجاالت التكنولوجيا والخبرات
االقتصادية ،نحن المسلمين في مؤخرة ركب الدول المستضعفة .وال نعني بكوننا
مسبوقين أن ننهج سبيل الحضارة المادية التي تقود العالم واإلنسانية لإلفالس .نعني
ونريد أن ترتفع همتنا بعد التصنيع ،مع تجنب أخطاء غيرنا ،أن نخترع نمطا إنسانيا
لإلنتاج واالستهالك ،يحقق لنا القوة والكفاية ،دون أن يحول اإلنسان دابة اقتصادية،
ودون أن يبذر خيرات األرض ،ويفسد الماء واألرض والسماء.
-10تهييء سوق واسعة لمنتجات المسلمين .وذلك بإحداث قوة شرائية لدى الفئات
الفقيرة ،وردع األغنياء المترفين عن إنفاق أموال المسلمين في شراء بضائع غيرنا.
-11إصالح زراعي يطبق القاعدة اإلسالمية « :من أحيا أرضا مواتا فهي له».
وبالنظر إلى المقاصد اإلسالمية يمكن اعتبار المتهاونين في حراثة األرض ،والمتغيبين
عنها ،والرافضين لتوجيه الدولة اإلسالمية ،معطلين لألرض ،يستحقون أن تنزع منهم.
334
وبهذا االعتبار نلتمس أحكاما واستدالالت إلعادة توزيع األرض ،بجمع الملكيات الصغيرة،
وتفتيت الكبيرة ،بما يناسب تنشيط اإلنتاج ،ويرفع إنتاجية العمل.
وال بد أن نتعلم ونتتلمذ .وفي مرحلة الحقة ،حين تشتد قواعدنا إن شاء اهلل ،ونستقل
بالعلم والخبرة ،ال بد أن نقيم اقتصادا منسجما كما وكيفا مع مقاصد الشريعة ،هادفا
لخدمة أهداف الشريعة ،صالحا لتقديم الزاد المادي النظيف الطيب للمؤمن المقبل على
الرس ُل ُكلُوا ِم َن الطَّ ِّيب ِ
ات َ ُّها ُّ ُربه ،يخاطبه ربه بما خاطب به رسله الكرامَ { :يا أَي َ
آم ُنواْ ُكلُواْ ِمن
ين َُّها الَِّذ َ
صالحاً} وبما خاطب به جملة المؤمنينَ { ،يا أَي َ
1 اعملُوا ِ
َ َو ْ َ
ون}. ش ُك ُرواْ ِللّ ِه إِن ُكنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْع ُب ُد َ ط ِّيب ِ
ات َما َرَزْق َنا ُك ْم َوا ْ ََ
2
التوزيع
مشاكل التوزيع العادل ال يمكن حلها بمجرد إجراءات سلطوية .ال بد من هذه
1املؤمنون51 ،
2البقرة172 ،
335
اإلجراءات ،والشريعة اإلسالمية القائمة على التوحيد والعدل كفيلة بإعطائها الفعالية
الكبرى .لكن تربية المؤمن المنتج ،النافع ،الذي يبذل وال يظلم ،الذي ال يلهيه التكاثر
المادي عن ذكر اهلل ،وال يدفعه الحرص والجشع إلى االحتكار ،واللم ،والمنع ،والسرقة،
والغش ،والرشوة ،والربا ،هي وحدها الضامنة للقضاء على جذور الظلم .ال يمكن أن
يقوم اقتصاد إسالمي في مجتمع غير إسالمي .ال يمكن أن تنفك عملية اإلنتاج والتوزيع
عن العملية الشمولية ،عملية تجديد الدين واإليمان.
في مراحل الدعوة ،وتهييء القومة ،والدولة اإلسالمية ،يكون من صلب تربية جند
اهلل ،ومن صميم الدعوة ،اإللحاح بقوة على جانب العدل في اإلسالم .ذلك أن شمولية
اإلسالم كما يفهمه الدعاة ليست مما يعلمه العامة بالضرورة وال مما يسلمه أعداؤنا.
وأن جانب العدل االجتماعي الذي يجعله اليسار الحزبي مناط حركتهم ال يعلم العامة
أنه جزء ال يتج أز من الدعوة ،و ال يسلم أعداؤنا بذلك ،نظ ار لطول ما انتهبت األموال،
واحتوشتها طبقات المستكبرين باسم اإلسالم تحت الحكم الفتنوي منذ انتهاء عهد الخالفة
األولى وقيام الملك العاض ثم الجبري .فال بد من اإللحاح على أن العدل إو�نصاف
المحرومين وحماية المستضعفين أهداف لنا غالية.
نحن صائرون بحمد اهلل ومشيئته إلى الخالفة الثانية الموعودة ،إو�لى بنائها سائرون.
وبالعدل والميزان الشرعي استقرارها .بالتوزيع العادل لألرزاق نمكن إن شاء اهلل القاعدة
المادية االجتماعية لها .وعلى نجاحنا في توطيد الدعائم االقتصادية ،والقضاء على
الطبقية ودواعيها وأمراضها ،يتوقف استمرار الخالفة وبقاؤها.
نضع هنا مالحظات نتبين من خاللها شروط العدل االجتماعي إو�طاره ،داخل
بالد اإلسالم وخارجها ،قبل أن نتعرض لإلجراءات الشرعية التي تحقق الكفاية والعدل
واالقتصاد الصحي القوي.
المالحظة األولى
ال يمكن توزيع الثروة دون إنتاجها أوال .هذه بديهية من الضروريات .نشير إليها
336
نقدا للذهنية التبسيطية التي ال تتناول موضوع العدل االجتماعي من منطلق المسؤولية.
ما دمنا دعوة معارضة للحكم الجبري ،يمكننا أن ننتقد هذا الحكم الذي ال يوفر األرزاق.
وال يحسن توزيعها .لكننا يوم نصبح بإذن اهلل وفي يدنا زمام الدولة ،نقف وجها لوجه
أمام مسؤوليات اإلنتاج والتوزيع في ظروف تكون يومئذ على أسوء األحوال بعد فشل
التجارب التي تخرب كياننا.
ضرورة إنتاج ثروات قابلة للتوزيع يحتم علينا التعامل مع البر والفاجر ،واالقتراض
من األسواق العالمية ،وخوض معارك الحرب العالمية االقتصادية ،والتكتل مع العرب
والمسلمين ،وسائر المستضعفين في األرض ،لحماية مواردنا الطبيعية ،ومدافعة الهيمنة
التي تفرضها على االقتصاد العالمي الرأسمالية الكبرى المحتكرة للطعام تستعمله سالحا،
المحتكرة ألسواق التمويل.
إذا وضعنا هذه الضرورات في إطار األزمة العالمية التي تستفحل وال يرى لها غاية
وال حل ،ظهر لنا أن عملية اإلنتاج السابقة طبعا وشرعا لعملية التوزيع العادل قضية
عسيرة .ويعني هذا أن ال نكذب على األمة كما يفعل غيرنا ،فنعدها بالرفاهية العاجلة.
إو�نما ننجح بمقدار ما نقنع الناس بمشاركتنا في البذل والصبر ،والتشمير لكسب ثروة
تنقذنا من العوز ،والتبعية ،والتخلف االقتصادي.
إنما ننجح في إقامة الدولة اإلسالمية ،واستقرارها ،واستمرارها ،بمقدار نجاحنا في
تعبئة الجهود لحيازة النصر في معركة اإلنتاج .مادة هذه التعبئة وجانبها الملموس هو
الجهاد االقتصادي ،جهاد البناء اليومي ،جهاد اإلنتاج.
إن تجار السياسة يركزون على التوزيع ،ويخاطبون الشعب بالوعود الخالبة .ونحن
يجب أن نخاطب األمة بلغة الجهاد .ولن يسمع الشعب بعد فشل خطاب الكذب إال لغة
الجهاد التي ال تعمي الحقائق ،لكن تكشف صعوبات الواقع ،وتحدد األهداف ،وتخط
المسيرة الشاقة لبلوغها.
نعم ال سبيل إلسماع كلمة الحق ولغة الجهاد ما دامت الماليين المملينة من دوالرات
النفط تستعمل إلالنة مروءة األمة ،وتمييع أفكارها وأخالقها ،وقتل شهامتها ،إو�ذابة كيانها
337
في المتعة ،والشهوات ،والتفرج اإلعالمي على أخلع خالعات العالم.
وال سبيل للتشمير الجهادي ودماء األمة تسيل في الحروب الطائفية القومية وأموالها
تسيل إلى صناديق الصهيونية العالمية في المصارف ،وأدمغتها تسيل إلى معاهد البحث
والعلم والصناعة في بالد الجاهلية تغذيها.
وهنا يلتحم جهاد البناء المطلوب ،بجهاد التوحيد المرجو ،بجهاد التحرير الضروري،
بجهاد التربية والتنظيم األساسي .تلتقي الضرورات على مطلب شمولي هو التغيير
الجذري ألسس الفتنة ودعائمها ،وكل جوانبها.
المالحظة الثانية
في بالد اإلسالم توزيع سيئ للثروات .داخل كل قطر طبقات تؤول في الجملة إلى
وجود طبقة مترفة ،تحتكر صفوة األموال ،ووسائل اإلنتاج ،ومقاليد السلطة مستعلية
على طبقة في أسفل السلم االجتماعي ،بئيسة ،محرومة ،مجهلة ،مريضة.
هذا واقع وليس من بنات فكر اإلديولوجيات اليسارية التي تحتاج لتكسب نظرياتها
ارتقاء أن تتتلمذ للقرآن.
338
فينبغي لحزب اهلل أن يصطف إلى جانب المستضعفين داخل األقطار اإلسالمية
وخارجها .وينبغي أن نوجه دعوتنا لمستضعفي األرض ليدخلوا في دين اهلل أفواجا بعد
أن نبرهن لهم بتضامننا وبرنا وعطائنا أن دين اهلل هو العدل ،وأن أعداء اإلسالم هم
نفس أعداء الشعوب المغلوبة على أمرها.
المالحظة الثالثة
النموذج الجاهلي لالستهالك نموذج قائم على التظالم الطبقي من وجه ،وعلى
اإلسراف والتبذير من وجه آخر.
نهضت الفلسفات االشتراكية لنقد الرأسمالية من كونها نظاما ال ينتهي إال للظلم
الطبقي .وفشلت االشتراكيات في إقامة نظام اقتصادي ال يحمل جراثيم الطبقية في
طياته .وعلى المسلمين أن يبرهنوا عمليا بوازعي القرآن والسلطان أن النظام اإلسالمي
قادر أن يقضي على الطبقية.
واآلن تنهض فلسفات ال تزال في المهد لتنتقد الحضارة المادية بشقيها الرأسمالي
واالشتراكي من كونها تبدد طاقات الكرة األرضية ،وتبذر خيراتها ،وتفسد البر والبحر
والجو وحياة اإلنسان .تفسدها جميعا بدخان المعامل ،ورواسب المنتوجات الكيماوية،
وباإلشعاع واألسلحة الذرية .وعلى المسلمين أن يخترعوا نمطا للعيش على الكرة
األرضية ال يسمح بتبديد الطاقة ،وال بتبذير األموال إو�تالف الطبيعة .عليهم أن يطلقوا
نموذج الجاهلية تطليقا.
339
الشرع واالقتصاد
االقتصاد اإلسالمي يجب أن يوضع في سياق إسالمي شامل .فإن جاز لنا
بحكم االضطرار أن نستعير تقنيات غيرنا وأساليبهم في اإلنتاج ريثما نطور أساليب
وتكنولوجيات من عندنا مناسبة لمقاصدنا ،فال يجوز أن نقلد غيرنا في أصول التوزيع
والقسمة.
-1احترام الملكية الفردية ،بشرط أال يظهر سفه على المالك يدفعه ليبدد األموال
التي استخلفه اهلل فيها وجعلها لألمة قيما وقياما .وكل ملكية خاصة تعارض مصلحة
المسلمين العامة فال حرمة لها .ويرحم اهلل عمر فقد ترك لنا سنة ،وهي سنة رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم الذي أمرنا أن نعض بالنواجد على سنة خلفائه الراشدين .رأى
عمر التفاوت الطارئ على المسلمين في زمانه ،فخاف أن يتفاقم ،فقال قبل موته« :لئن
عشت إلى قابل آلخذن من أموال أغنيائكم وألردنها على فقرائكم» .وما خصص رحمه
اهلل ماال دون مال .ففي عزمته هذه رضي اهلل عنه باب مفتوح لنا نحو عدل اجتماعي
شامل .باب لنزع الملكية الظالمة إو�عادة تنظيمها.
-2احترام اإلرث وفرائضه كما حددها كتاب اهلل وسنة رسوله واجتهاد األئمة.
واإلرث من أهم وسائل توزيع الملكية ومنع تركزها .نجد في كتاب اهلل تعالى منفذا لتوزيع
األموال الموروثة في الوصية المشروعة بالثلث المندوب إليها في آيات اإلنفاق ،وفي
ضر ا ْل ِقسم َة أُولُواْ ا ْلقُربى وا ْليتَامى وا ْلمس ِ
وهم
ين فَ ْارُزقُ ُ
اك ُ َْ َ َ َ َ َ َ َْ ْ قوله عز وجل َ { :إوِ� َذا َح َ َ
ِّم ْن ُه} 1.فالوصية للوالدين واألقربين وكافة فقراء المسلمين تترك للمتطوع بماله من بعده
ابتغاء مرضات اهلل .أما رزق من حضر القسمة من األصناف الثالثة فأمر موجه لألمة.
ولإلمام أن يجتهد مع علماء المسلمين لالستدالل باآلية على وجوب هذا الرزق ،خاصة
في الثروات الواسعة التي تفيض عن حاجات الورثة ،بكيفية ال يضر رزق األصناف
المذكورة منها بوظائف االدخار واالستثمار واإلنتاج .فإن توزيع الثروات على المحتاجين
المضطرين ،وتخصيص ما يصلهم من خير للنفقات االستهالكية ،قد يعوق االستثمار
1النساء8 ،
340
الضروري إلنتاج ثروات مستقبلة تسد حاجات األمة الدائمة.
-3تنظيم جميع الزكوات وتوزيعها ،بأن تكلف الدولة جها از من العاملين عليها
مستقال ،يقوم بجبايتها ،إو�نفاقها في مصارفها المذكورة في القرآن .وتلحق بالزكوات
الصدقات التطوعية ،ليمول نظام أمن اجتماعي يضمن حاجات الفقراء والمساكين
والعاملين على الزكاة ،وليمول نظام لتشجيع الدعوة وتأليف الجماعة بتأليف القلوب.
ويمكن أن يدفع سهم المؤلفة قلوبهم لجماعة المسلمين المنظمة تضعه مواضعه .ومن
أموال الزكاة يخصص سهم الرقاب لينفق في مناط حكمه وهو فك أسرى المسلمين.
ويا ما أكثرهم في أنحاء العالم ،إنهم األقليات المضطهدة في أنحاء العالم .وال يجوز
أن يعطل وال أن يلغى حكم من أحكام اهلل ،كفك الرقاب بمجرد أن هذه الفترة التاريخية
يسود فيها القانون الوضعي الذي ال يعرف إال المعاهدات الدولية لمعاملة أسرى الحرب.
ويوم يصبح شرع اهلل هو السائد ،تعود المياه إلى مجاريها ،ويعامل األسرى بما أمر اهلل
به من إيواء لهم ،إو�حسان وتعليم ثم تحرير .وليس المقصود من نظام الرق في اإلسالم
التسلط على الناس واستعبادهم .إنما المقصود أخذ األسير بقهر الغلبة إو�دخاله في صفنا
بالتعليم ،والمعاملة الرفيقة ،حتى يحب اإلسالم ويندمج فينا ،ثم نحرره ،ونبعثه لينشر
الدعوة في بلده .وألهمية هذا المقصد الدعوي السامي من نظام الرق اإلسالمي فرض
اهلل من أموال الزكاة سهما لتحرير الرقاب ،وفرض كفارات ،وندب للتطوع.
ويخصص من مال الزكاة سهم للغارمين ،يمكن أن يوسع مناط الحكم في مصرفه
ليسد ما ال بد أن يقع من خلل أثناء الفترة االنتقالية في نظام المصاريف اإلسالمية التي
ال تتعامل بالربا ،ويمكن أن تتعرض لخسارات لقلة التجربة .وما دامت هذه المصارف
ملكا عاما لألمة فديونها تدفع من سهم الغارمين ألن األمة تصبح كلها مدينة مستحقة.
من الممكن االستدالل باستحقاق الغارمين ،وتعميم مفهوم الغرم ،وتعلقه بذمة األمة في
هذه العصور التي تبني اقتصادها على أسس جماعية تتدخل فيها الدولة تدخال شديدا،
أن يخصص من هذا السهم لدفع جزء من ديون الدولة اإلسالمية.
ويخصص سهم في «سبيل اهلل» للدعوة والجهاد بكل أنواعه كما نفصلها إن شاء
اهلل في الخصلة العاشرة.
341
ونحتاج إلى اجتهاد مجدد في ميدان صرف الزكاة لتحقيق مناط األحكام فيها .وقد
تبدلت أنماط العيش ،وعالقات الناس ،وتزحلقت المفاهيم غير ما كانت عليه في القرون
الفائتة التي ال يفيدنا كثي ار اجتهاد علمائها.
فما كان من أصول ثابتة بالقرآن كاألصناف الثمانية الذين توزع عليهم الزكاة ما لنا
حق إال في تحديد من يستحق ،وتصنيف األصناف .وما كان من أصول نبوية مثل قسم
زكوات كل جهة في محتاجي تلك الجهة ،فال تنقل الزكوات إلى جهة غيرها حتى يحصل
االكتفاء المحلي ،نفرع عنها اجتهاداتنا ،لنعرف حد االكتفاء المطلوب ،في إطار توزيع
عادل بين كل المسلمين ،عبر الجهات واألقطار .إنه استفحلت الفوارق بين المسلمين
استفحاال شنيعا ،وغاب عنا أن دار اإلسالم بلد كل المسلمين ،وثروة أرض اإلسالم ملك
لكل المسلمين .مكنت التجزئة القطرية ،وهي أمر واقع ال يعترف به في دين اهلل ،في
أذهاننا أن مسلمي بنغالديش الفقراء قومية ودولة ال صلة لها بمسلمي الخليج اإلسالمي
األغنياء وقوميتهم ودولهم إال هذه الوشيجة األدبية المعنوية التي تسمى إسالما بالمعنى
الجزئي الضئيل ،المبعد عن السياسة واالجتماع واالقتصاد والجهاد والوحدة ،لإلسالم.
كال! إو�ن أموال النفط وسائر الثروات الطبيعية في بالد المسلمين ملك عام لألمة
ملك لها أصوال وزكاة .ملك لها أرضا ومعادن ومياه ونفطا وكأل .والمطلب العادل
لفقراء المسلمين ومساكينهم وعامليهم العاطلين عن جمع الزكاة وصرفها ،العاطلين
عن كل عمل ،هو القسمة العادلة لخيرات اهلل وطيبات رزقه .هذه القسمة مطلب عادل
لقلوب المسلمين التي لم تؤلف على اإلسالم ألن المسلمين تردوا إلى البؤس والطبقية
فهي تهفو إلى اإلثراء خارج شرع اهلل .مطلب عادل للرقاب المسلمة المستعبدة في
سوق النخاسة الداخلية والخارجية ،سوق االستبداد الداخلي والتبعية للجاهلية .مطلب
عادل لهذه األمة التي يعيش سوادها األعظم في الجوع والفقر والمرض والجهل،
ويعيش مترفوها هنا وهناك على مستوى البذخ الجاهلي ،بل هم يقودون الترف العالمي،
ويمولونه ،ويضربون المثل للتبذير والسفه والفسق .رقاب في ذل الحاجة موهوقة ،ورقاب
باعت نفسها للشيطان ،ولشبكة األبناك والمواخير ،وسلع الترف الجاهلية الصهيونية.
رقاب يا من يحرر!
المطلب العام العادل لألمة جمعاء ولكل مسلم ومسلمة أن تصبح أموال المسلمين في يد
342
المسلمين تصرف لمصلحة المسلمين .ولكي يتحقق هذا ال بد من جهاد .ال بد للمستضعفين
المؤمنين أن يفيقوا من األحالم المعسولة ويبرزوا للساحة ،ليمسكوا حقهم الذي تحتوشه
دونهم أنظمة الجبر ،تحميها دبابات روسيا ،وطائرات أمريكا ،ومخابرات صهيون...
أموالنا تنفق على اللهو والقمار والزنى ومحاربة اهلل ورسوله واإلفساد في األرض
والمجاهدون في سبيل اهلل في أفغانستان وفلسطين والفلبين إو�رتريا وسائر بقاع
األرض يواجهون العدو الجاهلي والصهيوني ،حليف مترفينا األشقياء ،باأليدي
العزالء ،والسالح الكليل.
سبيالن! سبيل اهلل سبيل بذل المال واألنفس ابتغاء مرضات اهلل ،وسبيل الشيطان
ينفق فيه على التهتك ،والجرأة على اهلل ،ومحاربة دين اهلل ،وتوهين قيم المسلمين،
واللعب بكيانهم ومستقبلهم ،إو�نه لبالء من اهلل وتمحيص.
-4التقلل ومحاربة التبذير .أصبحنا شعوبا مستهلكة بحساب اإلجمال ،إو�ن كانت
األغلبية العددية من المسلمين تعيش في ما يسميه لسان العصر بالفقر المطلق .ناهيك
ببنغالديش! بحساب اإلجمال نعيش فوق مستوانا بكثير .نستهلك طعاما ال ننتجه ،ويباع
لنا بالثمن الغالي من النقد ومن استقالل إرادتنا .بناياتنا الرسمية ،وأجهزتنا الخاصة
المنزلية ،والعامة من سيارات الدولة الفخمة ،وأثاثها الرفيه ،ونفقاتها ،تقدم للرائي واجهة
متألقة ببهرجها ،تخفي ما وراء الترف البادي في الرسميات والخصوصيات الغنية من
بؤس الشعوب.
تطاول في البنيان والمتاع .طاقات تذهب سدى .أخالق تنحل ،وعزائم تنهار.
بطون سمينة ،وأخرى إلى جانبها جائعة غرثى .نفقات على المعصية واإلثم ،وحقوق
اهلل ضائعة.
1الفرقان67 ،
343
فمهمة الدولة اإلسالمية المجددة أن تعادل توزيع الثروات بين المسلمين لتصل إلى
االعتدال الذي به يكون القوام بين اإلسراف المذموم وبين التقتير الذي ما أمرنا اهلل به
بغير ضرورة.
إذا كان اهلل عز وجل ال يحب المسرفين فرادى فلن يحب دولة تزعم أنها إسالمية ثم
ال تسلك سبيل عباد الرحمن ،وال تهيء لهم المجال االقتصادي الكفيل بالمسلك المعتدل
بين السرف والتقتير.
نقصد بالتقلل أن ننبذ عادات االستهالك الجاهلية ،وننبذ النموذج الجاهلي المبني
على الطموح المادي التمتعي ،الهادف إلى نمو اقتصادي متصاعد بال حدود .وهذا
معناه تبذير خيرات األرض ،إو�فسادها ،والسعي في خرابها .وكل ذلك منهي عنه
شرعا.
عقالء القوم يحنون إلى اقتصاد على قدر اإلنسان بعد أن أدركوا خطورة إفساد
التربة والماء والجو ،وبعد أن أصبحوا يعانون من المنافسة االقتصادية ،بل الحرب
االقتصادية بين الدول المصنعة بعضها في وجه بعض ،وبينها وبين الدول في طريق
التصنيع .أدركوا بعد فشل النموذج االشتراكي في تالفي أخطاء الرأسمالية ،وبعد
اضطرارهم إلى الحماية الجمركية ،ومع ما يقاسون من التضخم المالي ،والبطالة
واضطراب النظام النقدي العالمي ،أن النظام الرأسمالي وصل إلى غايته .فهم يبحثون
عن بديل.
وعلينا نحن المسلمين أن نستوحي شرع اهلل ،ونستلهم حكمته ،ونستمطر بركته،
ونشمر لجهاد العلم ،والتكنولوجيا ،واإلنتاج ،والتدبير ،بعد جهاد القومة ،ومع جهاد
البناء ،لنعمر األرض العمارة الصالحة.
ِ ُّ ِ
يها فَ َح َّ
ق سقُواْ ف َ َم ْرَنا ُمتَْرِف َ
يها فَفَ َ قال اهلل تعالى َ { :إوِ� َذا أ ََرْد َنا أَن ن ْهل َك قَ ْرَي ًة أ َ
اها تَ ْد ِمي ارً} 1وقد بلغ ترف الحضارة الجاهلية المادية وأذنابها َعلَ ْي َها ا ْلقَ ْو ُل فَ َد َّم ْرَن َ
1اإلسراء16 ،
344
فينا أقصى دركات الفسق ،وأعتى طغيان الظلم .فآن أن يستبدلهم اهلل عز وجل بعباده
الصالحين.
-5إن اهلل تعالى شرع للمسلم أن يشبع حاجاته في المأكل الكافي ،والملبس
النظيف الواقي ،والمسكن المؤوي .كل ذلك في غير كلفة وال تزيد على الحاجة.
شرع اهلل للمسلم أن يتمتع بنعم اهلل وزينته التي أخرج لعباده .لكنه حرم عليه أن
يبيت شبعان وجاره جائع .فمن شكر نعم اهلل وطيباته أن يقسم الخير الفائض على
المحتاجين .ومن كفرها صرفها في الترف المطغي وفي المحرمات.
وعلى الدولة اإلسالمية ،زيادة على تربية الدعوة ،أن تحمل الناس على القسمة
العادلة المتزنة ،بحيث ال يرصد النظام االقتصادي لخدمة طبقة من دون الناس ،وال
شباع عادات االستهالك قبل حاجات المحتاجين.
يقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا
فقد برئت منهم ذمة اهلل» رواه اإلمام أحمد.
فإذا نقلنا الحديث الشريف من الحاالت الفردية ،التي تتعلق فيها مسؤولية المعصية
بأهل العرصة ،إلى الحالة العامة والتكوين العام لمجتمعاتنا وأنظمة عالقاتنا داخل
األقطار الفتنوية وفيما بينها ،فإن ذمة الدولة اإلسالمية ال تب أر من المعصية الشديدة إن
لم توفر الظروف التي ال تسمح أن يبيت هذا متخما وهذا جائعا.
أ -الضروريات ،وهي الحد األدنى الذي ال يمكن العيش المادي إال به من طعام
وكسوة ومسكن.
345
والتقلل المطلوب ألمة مقبلة على الجهاد من أجل االستقالل والوحدة والكفاية والقوة
يلزم أن يتجسد في مجتمع يكفل الضروريات لكل المسلمين ،ويجعل وسائل إرضاء
حاجيات العيش الكريم مكافأة للجهد والنشاط واإلنتاج .لكن من الضروري ضبط الجهاز
االقتصادي لكيال تستمر عادات الترف ،ثم لكي يتمتع المسلمون كلهم باألمن المعاشي
على مستوى كريم ال مقتر قاس ،وال مترهل متنعم.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه اإلمام أحمد وأبو نعيم« :إياي والتنعم،
فإن عباد اهلل ليسوا متنعمين» وقد رأينا كيف وصف القرآن المجيد عباد الرحمن بالتوسط
بين طرفي اإلسراف والتقتير ،فالتقى في خطابنا كتاب اهلل بسنة رسوله يفسر بعضهما
بعضا .والحمد هلل رب العالمين.
شعب الخصلة
الشعبة التاسعة والستون :حفظ المال
يشكك أعداء اإلسالم والمضللون وأنصار اإلديولوجيات في كفاءة اإلسالم وقدرة
شريعته على إقامة توازن اجتماعي اقتصادي وحفظ هذا التوازن .وحجتهم في هجومهم
هذا هي ما نق أر في تاريخ المسلمين من تظالم إو�قطاعية (أستعمل مثل هذه األلفاظ
بداللتها الوقتية العامة) وطبقية .فاإلسالم عندهم مجموع األحداث التاريخية في أجيال
المسلمين وبالدهم .وينبغي أال نلتمس العذر لعوامل الظلم وفاعليه في تاريخنا ،فهو
موقف جدير بالضعيف المدافع عما ال يقبل الدفاع.
اإلسالم عندنا دين اهلل الخالد .مثل أعلى نطمح للقرب من تحقيقه كل القرب
الممكن .وقد تجسد في تاريخنا النموذج األقرب للكمال في مجتمع الصحابة رضي اهلل
عنهم مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومع خلفائه الراشدين من بعده .التاريخ بدءا من
السيرة المطهرة حافل بذكر ذلك العدل الناصع .وما ط أر من تظالم إنما هو ترد تاريخي
مرده إلى ابتعاد المسلمين عن النموذج ،وتحريفهم للنص الشرعي ،من جراء فساد نيات
346
الحكام ،ومن جراء المرونة المرضية لبعض أعوانهم من المترجمين عن الشريعة.
الخالفة المرجوة الموعودة على المنهاج النبوي أمامها تحد ضخم أن تغير واقع
الظلم إو�ضاعة األموال ،وفساد البنى االقتصادية واالجتماعية ،وتبعية األمة ،وتسرب
طاقاتها البشرية والمالية والمادية إلى أعدائها.
ال يمنحنا اإلسالم قوة االحتجاج والصراخ على الظلم فقط ،إنما يمنحنا تربية تنشأ
على حب العدل واعتقاد أنه من صميم الدين ،ويمنحنا تشريعا إلهيا من خصائصه
إن طبق التطبيق الكامل أن يضمن استقامة االقتصاد والمجتمع على دعائم اإلنصاف
والتكامل ،واألمن والقوة.
روى الشيخان أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :من ظلم قيد شبر من
األرض طوقه من سبع أرضين».
واألحاديث في حرمة مال المسلم كثيرة ،تشكل إطا ار لصون المصالح المعقولة
للملكية الخاصة ما دامت هذه المصالح ال تتناقض مع المصالح العامة .يقول المصطفى
الحبيب صلى اهلل عليه وسلم في حديث رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة
رضي اهلل عنه« :ال يحل لمسلم أن يأخذ عصا بغير طيب نفس منه» قال« :لشدة ما
حرم اهلل من مال المسلم على المسلم».
على أن استحقاق الملكية الخاصة للحرمة ينتفي عندما تتحول الملكية الخاصة إلى
وسيلة الحتواش األموال واستقطابها حتى تصبح دولة بين األغنياء .وذلك ما نهى اهلل
عز وجل عنه في كتابه ،فال مكان للنظام الرأسمالي في اإلسالم ،هذا النظام الذي يعيش
بروح التكاثر الربوي ،ويتنفس هواء حرية المنافسة التي بمقتضاها تخنق حقوق العمال،
ويتوسع باستئثار طبقة المترفين بينما تضيق المعايش على عامة الشعب.
آم ُنواْ اتَّقُواْ اللّ َه َوَذ ُرواْ َما َب ِق َي ِم َن ُّها الَِّذ َ
ين َ عن الربا يقول اهلل تعالىَ { :يا أَي َ
1
سوِل ِه}. ِ الرَبا إِن ُكنتُم ُّم ْؤ ِم ِن َ
ين فَِإن لَّ ْم تَ ْف َعلُواْ فَأْ َذ ُنواْ ِب َح ْر ٍب ِّم َن اللّه َوَر ُ ِّ
1البقرة279-278 ،
347
ويقول الحبيب المصطفى صلى اهلل عليه وسلم في حديث أخرجه البزار بسند
صحيح« :الربا بضع وسبعون بابا .والشرك مثل ذلك».
وال شك أن اقتصاديات أمتنا تحت الفتنة قد أنشب فيها الترابي الداخلي والخارجي
أظفار النهب من كل حدب وصوب ،ودخل عليها فساده من كل األبواب البضعة
والسبعين .فحفظ مال المسلمين فرادى وحفظ أموالهم أمة يوجب أن تستخلص هذه
األموال من بين مخالب السيطرة الرأسمالية العالمية والمحلية .ويجب أن تتولى الدولة
اإلسالمية وحدها من دون الخواص إدارة األموال في مصارف تضع االئتمان المالي في
خدمة الكفاءات والنشاطات التي تبني كيان األمة ،تنتج الحاجيات لعامة المسلمين ال
وسائل الترف ،تهدف الخدمة العامة ال الربح الفردي ،تملك بكفاءتها اإلدارية والمهنية
والتكنولوجية وبإنتاجيتها إن تحرر سوق المسلمين من نفوذ الرأسمالية العالمية ،وأن
تنافس سلع الجاهليين في األسواق العالمية .وال بد في المراحل التحريرية التجديدية من
تضامن اقتصادي بين الدول المسلم شعوبها على ما يكون من أنظمة حكم.
والقضاء على احتكار الرأسمالية العالمية وهيمنة الشركات المتعددة الجنسية يوجب
قطع الصالة بين الرأسماليين المحليين ومن هم له زبناء وخدمة من القوى االقتصادية
الخارجية غير المسلمة.
وعندما يسود بين أفراد األمة السلوك االقتصادي (بالمعنى اإلسالمي للكلمة) على
مستوى الحاجة واالكتفاء ،ويقوم رأس المال اإلسالمي بوظائفه االجتماعية وهي تحقيق
العدل وتهيئ الشغل لكل عاطل ،يمكن إنصاف كل ذي حق بإعطائه حقه كامال،
ويمكن استثمار مال المسلمين فيما يبني األمة ويوحدها ويعزها.
إننا معشر األمة المحمدية أمرنا بأداء الحقوق ،ونهينا عن إضاعة المال .أمرنا
باإلنفاق في سبيل اهلل ،وحبب إلينا الشارع التنافس والتسارع في الخيرات .نهينا عن
تبذير األموال إو�يتائها سفهاء .زجرنا عن التكاثر والتطاول في زينة الدنيا .أمرنا أن
نكتسب الحالل ،وننميه ،ونحافظ عليه ،لنصرفه في مصارفه الشرعية ،لنؤتي الزكاة
ونتصدق ونبذل الفضول ،وكلها قربات يرضاها اهلل لنا.
348
بهذا يتميز اقتصاد المسلمين عن اقتصاديات غيرهم .يتميز بأن ما ييسر اهلل من
رزق يأتينا ،بعد الجد والعمل والتدبير ،منة من اهلل تذكرنا فضله .ثم إن هذا الرزق
الحسي المادي أداة ووسيلة نحن مخاطبون أن نستعملها لنبلغ غايتنا ،وهي رضى اهلل
عنا عن طريق توزيعه بيننا التوزيع الشرعي العادل ،وعن طريق تعبئة وسائلنا المادية
لنتخذ أسباب الكفاية والقوة ،والمنعة والقدرة على حمل رسالتنا إلى العالم ،وتبليغها،
والدفاع عنها.
يجب أن يجتث الظلم الطبقي مع الظلم بكل معانيه من أصله .وعلينا أن نق أر كتاب
اهلل عز وجل ونجدد إيماننا لتكون القراءة صادقة تدفعنا للتنفيذ .وأمر اهلل في قرآنه وسنة
نبيه في ميدان االقتصاد يتلخص في كلمة واحدة :العدل.
ولنحن أولى أن نتصدر مطالبة المستضعفين ألنا أمرنا بذلك .ولنحن أولى أن
نجعل العدل برنامجا لنا ونحن نؤمن مع اإلمام علي كرم اهلل وجهه أن «كاد الفقر أن
يكون كفرا».
نحن أولى أن نعدل في حكمنا ،ونجهر بنيتنا أن نعدل أثناء زحفنا ،ألننا نؤمن باهلل
ورسوله ،وما أمر اهلل بواجب مثلما أمر بالعدل .وعلى العدل قامت السماوات واألرض.
وعليه ال على غيره تقوم الخالفة اإلسالمية الموعودة إن شاء اهلل تعالى.
349
بكل وضوح ،وبكل ثقة :إنه ال معنى للقومة اإلسالمية ،بل ال معنى لإلسالم وهو
دين العدل ومقاومة االستكبار ونصرة المستضعفين ،إن لم يحل عقدة البشرية المزمنة:
الظلم.
الزهد فضيلة فردية إيمانية ،لكنها تتضارب مع فضيلة أعلى منها وهي الجهاد
بالمال في سبيل اهلل.
فالزاهد ،إن فهمنا الزهد انزواء وهروبا وفق ار مرادا مقصودا لذاته ،مؤمن ضعيف،
عاجز عن نفع ذوي الحقوق عليه من عائل وجار وأمة .وجند اهلل المنتظرون بحاجة
ماسة أثناء الزحف وخالله وقبله وبعده لالستقالل المالي .فالمال عصب الجهاد في
كل عصر ومصر .وجماعة من المتزهدين الدارويش لن تغني شيئا وال في تحريك أذن
واقع منيخ بكلكه على المسلمين ،جالب عليهم بخيله ورجله ،بعتوه العسكري وهمينته
االقتصادية ،بأنظمته التابعة للجاهلية ،الجاثمة على صدورنا.
تجتمع فضيلتا اإلنفاق في سبيل اهلل والزهد في الدنيا في شخص المؤمن ،في
أشخاص المؤمنين ،الدائبين على الكسب ،وحفظ المال ،واستثماره ،ليدفعوه في وجوهه
الشرعية –خاصة الجهاد– بنفس سخية .يد تكسب بتعب وحساب وحرص ،ويد تنفق في
سبيل اهلل بغير حساب .إن انفردت يد االنفاق بالعمل فمن أين تنفق؟ إو�ن انكمشت يد
350
الزهادة في خمول الكسل وذل التسول فأين المؤمن القوي؟
بين كفة االستهالك بالنسبة للمستكبرين وما في الكفة األخرى ،كفة المستضعفين
الشائلة ،من جوع وبؤس ،ال بد للمسلمين من توازن.
التقشف كلمة جافة جافية ،ثم ال تؤدي معنى خلقيا إيمانيا .وهي من قاموس الحكام
عندما يريدون أن يعطوا لبؤس الشعوب اسما ،ولسياستهم المالية رسما.
إو�ال فإن المبذرين إخوان الشياطين .وما اقتصاد الغرب والشرق الجاهليين إال
اقتصاد شيطاني ألنه قائم على نية التبذير ،منجز بتكنولوجية تبذير ،وبنظام ونمط
صناعي التبذير روحهما.
مع فارق أن تبذير الرأسمالية واقتصادها السوقي معلن معترف به ،أهلك واستهلك
المواد األولية المدخرة في األرض ،وأفسد الهواء والماء ،وسمم جو الكرة األرضية
ورحابها ،بينما تبذير االقتصاد الشيوعي ،تبذير البروقراطية التي ال تبالي ما أتلفت
من مال ورجال .ال تحتاج أن تحسب كما يحسب اآلخرون مردودية العمل ومردودية
عوامل اإلنتاج ،إو�نتاجية العمليات االقتصادية .التبذير البروقراطي يحتشم ويتخفى وراء
العقالنية المعلنة في الطروس ،طروس اإلديولوجية ال ملفات اإلنجاز.
كل أولئك إخوان الشياطين .ألنهم مبذرون ،إلى جانب حيثيات أخرى أهمها ظلم
351
اإلنسان ،واالعتداء على كرامته ،وصده عن سبيل اهلل .ونحن المسلمين نتحمل تبعات
ذلك كله ،ونرزح تحت تبذيرهم الذي ال يترك لنا فتاتا ،وظلمهم وصدهم حتى ال نجد
متنفسا.
والتفت يا جند اهلل حولك تجد الشيطان اتخذ له إخوانا كث اًر بين ظهرانينا .مبذرو
أموال المسلمين ،سفهاؤنا الذين سكتنا حين ابتزوا أموالنا ،غلمتنا الذين باعوا أرضنا
وخيراتنا ألمريكا وألعداء اإلسالم وليهود صهيون ،هم صنيعة الجاهلية الشيطانية
بيننا.
فلكيال نرتد غدا بعد التحرير إن شاء اهلل إلى ما نحن عليه اليوم ،يجب أن توضع
أمانة أموالنا في أيد ال تخون ،وأن تسند إدارتها لرجال ال تلهيهم تجارة وال بيع عن
ذكر اهلل إو�قام الصالة إو�يتاء الزكاة .هم وحدهم أهل أن يستصغروا الدنيا كلها بجانب
اآلخرة ،وأن يستهينوا بالمصاعب في طريق إحياء اقتصاد األمة التماسا للجزاء األوفى
عند اهلل .هم وحدهم يستطيعون أن يجهزوا األمة بجهاز اقتصادي يكفل لها الحياة
العزيزة القوية.
وانظر يا جند اهلل كيف احتلت مراتع االستهالك والمتاع طبقتا المترفين المستكبرين
بديار الجاهلية شرقا وغربا .هناك طبقة الماركسين اللينيين في قصورهم ونفوذهم
واستحواذهم على شعوب دربوها على خدمتهم كما تدرب الحيوانات .وهناك في الغرب
الغربي المترفون المعلنون ،يلعبون القمار ويقمرون سفهاءنا المبذرين قم ار منك ار في
الكازنوهات ،فساد ،تبذير .واهلل ال يحب المفسدين وال إخوان الشياطين.
إن اجتمع المال والسلطان في يد رجل ال يزهد في الدنيا ألنه ال يؤمن باآلخرة ،فإن
آمن فباللسان فذلك خرابه وخراب األمة .إو�ن وسد أمر تدبير معاش األمة لفئة ال تحمل
هم األمة ألنها ال تعرف هم لقاء اهلل فهو خراب األمة.
زهد وتقلل .ال يأتي هذا إن كانت ترعى ذئاب عاوية ،وثعالب متلونة ،في أموال
األمة ،تحملها على التقشف لتختلي هي باالفتراس ،وانتجاع اللذات ،والفتك في
مواخير أوروبا هناك وهنا.
352
حذار يا جند اهلل أن يتسلل بعد التحرير إلى سدة الحكم والتوجيه ذئاب وثعالب ،إو�ن
كانت تلبس قبل توفر فرص النهب والفتك مسوح الزهد والمسكنة.
يقول الحبيب المصطفى صلى اهلل عليه وسلم من حديث رواه البزار بسند حسن:
«ما ذئبان ضاريان في حظيرة ،يأكالن ويفسدان ،بأضر فيها من حب الشرف وحب
المال في دين المرء المسلم!».
هم لهم
-4الضطرار الذئاب والثعالب إلى حام يحمي مناصبهم ،فهم له أولياء ،ال َّ
إال نفوسهم أن تستعلي وتستمر وتزداد انتفاخا .ولألمة تقدم إنجازات للفخفخة والترف،
يتمتع بها -وبئس المتاع – الصنائع واألحباب واألذناب ،بينما يموت الشعب جهال
ويراد به.
ومرضا ،وجوعا وغيابا عما ُيكاد ُ
353
-5جماع األمر كله .وملخص النقط األربع ،تهافت طبقة مستكبرة على المال
والسلطان ،واستبدادها بهما على ظهر األمة ،وبمساعدة الجاهلية.
-6فطلبتنا غداة القومة اإلسالمية رجال يخافون اهلل ليقودوا سفينة األمة إلى
النجاة .دواء اقتصاد المسلمين لن يتم بوصفات اقتصادية وسياسية صرفة ،بهيكلة
جديدة ،بتغيير أحالف ،بطرد شرذمة السفهاء ،بفك التآمر مع أعدائنا.
والعالج الحاسم هو اإليمان باهلل ربا وترقب لقائه ،ومراقبة اطالعه على حركاتنا،
ثم تنفيذ أوامره بدقة بإخالص ،بزهد في الفانية الدنيا.
دين وأخالق.
إيمان وصدق.
حاجتنا األولى الملحة واألخيرة :رجال يصدقون ما عاهدوا اهلل عليه ،ال تغريهم
المغريات.
حاجتنا إلى رجال محصنين باإليمان ،مسلحين بالعلم ،يستبدلهم اهلل بسفهائنا.
السفيه لغة الخفيف ،وشرعا القاصر العاجز عن تدبير المال وضبطه.
المؤمن ال تستهويه األهواء ،ال تستخفه ،ال تغره ،لثباته على الصراط المستقيم،
لرزانته.
المؤمن باهلل واليوم اآلخر ال تغره الحياة الدنيا .فإن اهلل أمره وأوصاه .قال عز من
354
الد ْن َيا َوَل َي ُغَّرَّن ُكم اس إِ َّن َو ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ
ق فَ َل تَ ُغَّرَّن ُك ُم ا ْل َح َياةُ ُّ ُّها َّ
الن ُ قائل{ :يا أَي َ
َّ ِ
ور} 1.آية من سورة فاطر .ومثلها في سورة لقمان. ِبالله ا ْل َغ ُر ُ
فامتثال هذا األمر ،وتطبيق هذه الوصية ،شعبة مهمة من شعب اإليمان .إو�ن
أخوف ما يخاف على جند اهلل حين تبسط لهم الدنيا السلطان والمال وما يواكبهما من
مغريات ،أن تتبدد هممهم ،ويرتد طرفهم من المطمح األعلى ،دوام الشوق إلى اهلل،
والصبر على مشاق الطريق إليه ،إلى السفاسف والتردي في التكاثر والتنافس.
خطب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في سنته األخيرة بعد أن صلى على شهداء
أحد ،فقال كالمودع لألحياء واألموات« :إني بين أيديكم فرط (الذي يتقدم المسافرين
فيهيئ لهم المنزل) .وأنا عليكم شهيد .إو�ن موعدكم الحوض .إو�ني ألنظر إليه من مقامي
هذا .إو�ني لست أخشى عليكم أن تشركوا .ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها» رواه
البخاري عن عقبة بن عامر رضي اهلل عنه.
وروى الشيخان عن أبي سعيد أنه صلى اهلل عليه وسلم جلس على المنبر وجلسوا
حوله فقال« :إن مما أخاف عليكم ما يفتح اهلل عليكم من زهرة الدنيا وزينتها».
وفي الباب وصايا نبوية كثيرة .ال يخاف على جند اهلل حين البالء بالمحن مثلما
يخشى عليهم من البالء بالسراء والنعماء والتمكن من مقاليد السلطان والمال .لهذا
تتكرر وصايا المربي اإللهي صلى اهلل عليه وسلم .فبعد ثالث وعشرين سنة من الفطام
عن الدنيا جاء نصر اهلل ،ودخل الناس في دين اهلل أفواجا .وبعز اإلسالم يتمكن جند
اهلل في األرض ،فينصح الناصح الرباني صلى اهلل عليه وسلم ويحذر ،وهو ينظر بنور
اهلل ،من تغرير الحياة الدنيا بأهلها ،ومن همزات الغرور الشيطان الرجيم الذي يتخذ
السلطان والمال طعما ليسول للنفس البشرية االنطالق خارج قيود الشرع .ال ييأس
الغرور من النفوس البشرية ولو تزكت وتربت ،ولو كانت في صحبة الرسول الكريم
على اهلل ،تلقت نور الهداية.
1فاطر5 ،
355
وقد انفتحت الدنيا على المسلمين ،وهجم الغرور ،وأجلب على المسلمين بعد رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقام الصحابة األجلة وصمدوا .ثم فسد الحكم بتحوله من
معاني الخالفة الراشدة إلى واقع الملك العاض .وتكاثر سواد األمة ،فغلب عدد األعراب
(بالمعنى القرآني الذي ال يميز الناس بلغاتهم وأجناسهم بل بدرجة إيمانهم) على نوعية
اإليمان ،وغلب سلوك االغترار على سلوك الخوف .غلبت الدنيا في ضمائر الناس
على اآلخرة.
قال سعيد بن جبير التابعي الجليل ،وهو ضحية الفتنة ،قتله الحجاج ،في تفسير
آية فاطر« :الغرة في الحياة الدنيا أن يغتر بها ،وتشغله عن اآلخرة أن يمهد لها ويعمل
لها .كقول العبد إذا أفضى إلى اآلخرة :يا ليتني قدمت لحياتي! والغرة باهلل أن يكون
العبد في معصية اهلل ،ويتمنى على اهلل المغفرة».
الغرة في الحياة الدنيا والغرة باهلل منفذان منهما يدخل على الفرد عدوه األول
الشيطان .وعلى األمة يدخل من ذينك المنفذين فساد الرشوة ،والظلم ،والمحسوبية ،وهتك
الحرمات ،واالستخفاف بالمسؤولية .من هاتين الثغرتين يهجم العدو على الفرد فيخرب
دينه ،وعلى األمة ،عبر الضمائر الخربة ،فيشتت شملها.
هم الحركات السياسية في هذا العالم المعاصر الذي تغلبت فيه الحضارة
إن كل ِّ
356
والثقافة الجاهليتان التحليل السياسي المبني على وزن القوى الخارجية –أعني الخارجية
عن النفس البشرية– في تفاعلها .والنصيب من االهتمام الذي يعطيه علم السياسة
لتحركات النفس البشرية يقف عند رصد التحركات الجماهيرية العفوية والمنظمة،
المتظاهرة بسالم أو الصاخبة المخربة .ال ترى عين المالحظ السياسي إال فوران
الغضب البشري .أما ما عند اإلنسان المؤمن من إمكانيات إيمانية ترفع عاطفته من
حضيض التفاعل المحسوب (السياسي) إلى مجاالت الصدق ،وترفع غضبه من مستوى
النقمة على الناس إلى قمة الغضب هلل ،وترفع تضامنه من األحالف األرضية إلى
نصرة المستضعفين فال خبر للتحليل السياسي بها ،لذلك ال يفهم الجاهليون ما يجري
في أفغانستان وال في إيران من حياة متجددة لإليمان تتمثل في نهضة شعب طلق الدنيا
وغرتها ينشد اآلخرة .نبذ الحياة وزينتها بطلب الشهادة في سبيل اهلل.
ال ي ُك ْن محور تربيتنا الجوالن الفكري السياسي في التحليالت ،مع إعطاء هذه ما
تستحقه .بل يكون المحور هو الطريق العابر من الدنيا إلى اآلخرة ،وخط الطموح الذي
يطوي الدنيا طيا ،ويركز همة المؤمن على أرض اآلخرة ،رافعة طرفها لسماء المجد
األبدي ،سماء الشوق إلى اهلل عز وجل.
1التوبة38 ،
357
الغرور إليه؟ هل تداعب فؤادك األماني الخادعة اللذيذة ،أم ينفر كيانك كله مما ال
يرضي اهلل تعالى؟ هل أنت ذاكر ربك عاكف على بابه ،أم أنت غافل مغرور؟.
متى فرغت من ترويض نفسك على المكروه طبعا ،المحبوب شرعا ،من األفكار
والسلوك ،والعواطف والحركة ،فقد قاربت أن تفلت من فلك الحياة الدنيا ومصائد
الشيطان.
متى وطدت النفس على اقتحام العقبة ،وظننت ظنا قويا أن الموت في سبيل اهلل
أحب إليك من الحياة على هون السعي البائس وراء معيشة الخزي ،فقد قربت أن تكون
من جند اهلل.
الغرة بالدنيا والغرة باهلل في رفقة الشيطان والهوى هما رأس الموبقات النفسية
والموبقات االجتماعية والسياسية واالقتصادية .تحليلنا اإلسالمي يضع العوامل
الخارجية مواضعها على نسق ما يعرفه البشر جميعا من قوانين التصرف البشري،
على صعيد السياسة واالجتماع واالقتصاد ،والسلم والحرب ،والخير والشر .لكن تحليلنا
يزيد على ذلك ويمتاز بهذا النداء السماوي لإلنسان أن يرفع بصره أعلى من األفق
األرضي ،أبعد من المسيرة في الدنيا ،وراء الموت.
تحليلنا يزيد ويمتاز على التحليل البشري المشترك بإيقاظ همة اإلنسان المؤمن إلى
حقائق وجوده وحقائق مصيره بعد رحلة العمر.
فليحذر جند اهلل أن يسقطوا في مهواة الفراغ من الذكر ،وكارثة اإلعراض عن
اآلخرة ،وفخ الغرور بالدنيا ،ومصيبة الغرة باهلل.
هواء في هواء!
-1التحليل السياسي لفهم الواقع ،ومسار األمور ،وما في العصر من قلقلة عامة
ومكايد لإلسالم ،وما يبيته لنا األعداء في الداخل والخارج ،ضرورة.
358
-2فقه الشريعة لمعرفة األحكام التي نكره الواقع يوم النصر على الخضوع
ضرورة.
-4لكن كل ذلك هواء في هواء ،ونفخ في الرماد ،إن كان جند اهلل جندا مزورا.
إن لم يكن كل جندي في الصف قد باع نفسه وماله هلل عز وجل نية وعقدا ،فهو يجاهد
ليموت في سبيل اهلل أو يؤدي أمانته التي نهض ألدائها .خواء أجوف إن لم يكن كل
جندي من جند اهلل قد وضع قدميه جميعا في اآلخرة نية ،ورفع همته فوق سفساف
المغريات.
مقدمة الجهاد وشرطه ،قوامه وروحه ،تربية رجال ونساء في الطليعة والقيادة كفوا
عن اعتبار الدنيا ،وهاجروا إلى اهلل عز وجل هجرة كلية ،ال يلتفتون.
359
الخصلة العاشرة
الجهاد
نصيبك من الدنيا:
تق أر يا ولي اهلل في هذا المنهاج صفحات عن االقتصاد ،وأحب أال تنسى أن من
التماس القصد وأن قصدك اهلل تعالى.
ُ معاني االقتصاد
هذا قارون غني مترف يدعوه قومه لإليمان وبذل بعض ماله هلل .لكنهم ال يريدون
إزعاجه عن الدنيا ،وهو ابن من أبنائها ،إزعاجا يكره إليه اإليمان والبذل في سبيل اهلل،
فلوحوا له بنصيبه من الدنيا.
ولكل مسلم حق في الدنيا :ما به يصلح شأنه ،وما به يؤدي الحقوق المشروعة،
وما به يمهد آلخرته ،فإن الدنيا مطية المؤمن إلى اآلخرة كما جاء في األثر.
أما جند اهلل فنصيبهم من الدنيا ،بعد الكفاية الكريمة على مستوى االقتصاد بكل
1القصص77 ،
360
معاني الكلمة ،أن يحيوا كل يوم من أيام حياتهم جادين في السعي ابتغاء وجه اهلل والدار
اآلخرة ،في جهاد يتوتر فيه كيانهم ،قلبا وفك ار وحركة ،نحو اهلل عز وجل .نعوذ باهلل من
الجهة التي تتوهم في كلمة «نحو» .إو�نما الجهة في حقنا .نصيب جند اهلل أن يحيوا كل
لحظة بكامل الحضور مع اهلل –الكمال الممكن للطبيعة البشرية المفطورة على الغفلة–
وبكامل العناية بالزمان وأهميته ،والمكان وقاعدته ،والواقع وضغوطه.
أن نبتغي فيما آتانا اهلل من عمر وأرض ووسائل وجه اهلل والدار اآلخرة يعني أن
نجمع ،في غير تناقض وال تزاحم ،بين االشتغال باهلل تعالى ومرضاته ،وبين االشتغال
النشيط في بذل الجهد ،في تنسيق الجهود ،في جمعها ،في تعبئتها ،في توجيهها ،في
الجهاد على كل المستويات والواجهات .وهذا يتنافى تماما مع االنزواء بحجة اإلعراض
عن الدنيا .ينافي الهروب من المعركة والرخاوة في الكسل .ينافي الرهبانية والتبخر في
عالم األماني .في األثر« :رهبانية أمتي الجهاد».
وغاية التنظيم أن يعبأ جند اهلل ليكون قوة مجاهدة .وغاية التربية والتنظيم نصر
دين اهلل.
فكيف نستصحب تلك الخصال التسعة السابقة للجهاد لتكون كالروافد الدائمة
المغذية لنهر اإليمان؟
361
كيف تتجمع شعب اإليمان لتكون طاقة واحدة تحفز المؤمن للجهاد ،وتمكن جند
اهلل من الفاعلية المتعلقة باألسباب إو�عداد القوة ،كما تؤهلهم للتوفيق المكفول الموعود
به من اهلل عز وجل؟
كيف تتجسد فضائل اإليمان ،الحسية منها والمعنوية ،الظاهرة والباطنة ،في مواقف
جهادية مؤثرة في الواقع ،مغيرة للتاريخ؟
ال نريد مراجعة الخصال التسع لنبصر كيف تؤيد إحداها األخريات ،وكيف تهيئ
السابقة منها الالحقة ،وكيف تبدأ رحلة الوارد على الجماعة من المودة واللقاء الرحيم ثم
تصعد على مراقي الذكر ثم الصدق ثم العلم ثم العمل ثم السمت ثم التؤدة ثم االقتصاد
إلى ذرى الجهاد.
إنما نريد أن نؤكد بمثال من وحي النبوءة أن إحكام الخطى األولى شرط لالستقامة
على الطريق ،وأن النتائج ال تكون أفضل من المقدمات ،وأن المنهاج التربوي التنظيمي
الجهادي كل متماسك ،وأن «من صحت بدايته أشرقت نهايته» فردا وجماعة كما يقول
بعض علمائنا.
روى الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي سعيد رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم قال« :يأتي على الناس زمان يغزو فئام (جماعة) من الناس .فيقال
لهم :فيكم من رأى رسول اهلل صلى عليه وسلم؟ فيقولون :نعم! فيفتح لهم .ثم يغزو
فئام من الناس ،فيقال لهم :فيكم من رأى من صحب رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم؟ فيقولون :نعم! فيفتح لهم .ثم يغزو فئام من الناس ،فيقال لهم :هل فيكم من
رأى من صحب من صحب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ فيقولون :نعم! فيفتح
لهم».
وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن ابن مسعود رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم قال« :خير أمتي القرن الذين يلوني ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم .ثم يجيء
362
قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ،ويمينه شهادته».
في الحديث األول يقترن الفتح ببركة صحبة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
وتتوارثه األجيال ببركة رؤية من رأى من رأى وصحب .إنه تسلسل صحبة عبر
األجيال ،تسلسل تخلق باالتباع ،يتسلسل معه موعود اهلل لمن سار على المنهاج النبوي
الذي أوله الصحبة ،صحبة مؤمنين لهم اتصال باهلل عز وجل عبودية ،وبرسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم اتباعا ومحبة وأخذا عن السلف الصالح ،بالتربية المتسلسلة.
وفي الحديث الثاني انقطاع عن الخيرية في جيل ذهب منه الصدق ،وهو الشرط
األساسي في التربية ،لما أصبح قوم من المسلمين يكذبون في الشهادة ويحلفون على
الزور.
انقطاع الخير بانعدام الصدق ،واستمرار الفتح بتسلسل سند الصحبة واالتباع على
المنهاج النبوي.
إن بحثنا عن المنهاج النبوي يستجيب لحاجة في نفس المؤمن الذي يريد أن يتقرب
إلى اهلل تعالى بما يرضى اهلل تعالى.
ولحاجة في نفس هذه األجيال المؤمنة المتوثبة للجهاد ،المترقبة للفتح ،المنتظرة
موعود اهلل تعالى.
فإن وفقنا اهلل عز وجل ليتحول المنهاج طريقا مسلوكا مجسما في تربية وتنظيم،
وحافظنا على شروط التربية والتنظيم ،ومنها خصلتا الصحبة في اهلل والصدق مع اهلل
كان الفتح الفردي ،فتح معرفة اهلل تعالى في حق المؤمن السالك ،وكان الفتح لألمة،
فتح النصر الذي وعدت به العصبة المؤمنة المجاهدة.
إو�ن أخللنا واختل بين أيدينا نظام المنهاج ،ال سمح اهلل ،كان االنقطاع ،وكانت
القطيعة.
واألمران متالزمان :فالح المؤمن في طريقه إلى اهلل تعالى ،وفالح جند اهلل في
363
إحراز النصر إو�قامة دين اهلل في األرض.
هل فينا اليوم وهل يكون فينا غدا من رأى من رأى ...من صحب رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم بعد أربعة عشر قرنا وعشرات األجيال؟ هل فينا من له سند صحبة
متصلة إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بتعيين الرجال؟
ال إنكار أن من المحدثين علماء األمة المحافظين على دينها وسنة نبيها من ال
يزالون يحرصون على تلقي الحديث بالسند المتصل واإلجازة المعروفة في مناهجنا
اإلسالمية .وهذا خير وبركة ،فإن ثبت اتصال سند الرواية فقد ثبت معه الرؤية
المتسلسلة .إو�ن كانت رؤية كل جيل لمن سبقه رؤية محبة وتعظيم واتباع كما كانت
رؤية الصحابة للمتبوع األعظم صلى اهلل عليه وسلم فتلك البركة العظيمة.
ال إنكار أيضا أن سند الصالحين من هذه األمة ،المتصل بالصحبة والتربية
والتسليك إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ثابت متسلسل .وما هذه الفروع التي
أثمرت األولياء والمجاهدين طيلة هذه القرون إال أغصان من تلك الدوحة الشماء من
أهل اهلل تعالى.
ودعني من الخصام المزمن بين رجال السندين ،سند الرواية وسند التربية ،فال
حاجة لجند اهلل أن يضيعوا العمر في النزاع في شؤون األمة التي قد خلت ،لها ما
كسبت ولنا ما نكسب.
فإن كان سند الحديث يسلسل إلينا أوامر ووصايا نبوية ويحفظ الدين من الزيادات
البدعية واألباطيل ،فإن سند التربية والتسليك يهيئ تربة القلوب التي تسمع فتعي،
فتنهض للتنفيذ.
وجزى اهلل عنا وعن المسلمين واحدا من علمائنا األجالء حين يكتب لهذه
األجيال عن« :تربيتنا الروحية» .1وجزى اهلل غيره من علمائنا ومصلحينا وأئمتنا،
وعلى رأسهم في هذا الزمان اإلمام البنا ،إذ يؤكد كل جيل منهم أن ما سمي بالحقيقة
الصوفية هو لب التربية وزناد اإليمان ،ومعقل األخالق.
إو�ن كانت رؤية تعلم وتلق للعلم ،بصدق العلماء ،وأمانتهم ،واتباعهم ،أعطتنا هذه
الرؤية أجياال من المهاجرين إلى اهلل ،المناصرين لسنة رسول اهلل .وهم أساسا أهل
الحديث.
فإن كانت رؤية محبة ،وتشرب قلبي ،وصحبة تربية ،واتباع ،وارتفاع همة لمعرفة
اهلل تعالى ،والعبودية الخالصة له ،أعطتنا هذه الصحبة أجياال من المهاجرين إلى اهلل
ورسوله ،الحريصين على تطبيق أمر اهلل وسنة رسوله.
وما صمد تحت فتنة القرون حتى أوصلوا إلينا اإليمان غضا في القلوب ،في قنوات
حية ،يصب بعضها في بعض على مر األجيال ،إال من سموهم الصوفية.
وما حمل إلينا العلم مصونا ناصعا إال رجال السند خدمة كتاب اهلل وسنة رسوله.
فمن قصر باعه عن جمع الطائفتين في عين التعظيم والمحبة فمن أين له
االستطالة على المؤمنين لقصوره؟
ومن ضاق عطنه عن تعلم علم هؤالء ،والتخلق بأخالق هؤالء ،فال ينسب الضيق
الذي في نفسه إلى غيره.
ومن كذب أن هلل أولياء يصطفيهم في كل عصر ،ويهبهم من فضله ،ويفتح لهم،
ويزكيهم ،ويقربهم ،فحظه من ذلك التكذيب الحرمان.
ومن لم يساور نفسه الشوق إلى اهلل ،ولم يهتد ليقف على باب اهلل ،يقرع بذلة
العبد ،يستمطر الرحمة ،ويستفتح ليقربه اهلل ،ويجعله من أوليائه ،فليبك على نفسه.
واهلل!
365
ومن عميت عليه الطرق فغاص في أرض الغفالت من عامة المسلمين ،أو
استغرق كل همته في «الثقافة اإلسالمية» والتعليق على أخبار العالم من المؤمنين
المجاهدين دون أن يكون ذكر اهلل ،والتزلف إليه ،والتعبد والعكوف على بابه ،والحضور
الدائم بين يديه شغل ليله ونهاره ،فيخاف على قلبيهما{ .فَِإ َّن َها َل تَ ْع َمى ْال َْب َ
ص ُار
1
ور}. وب الَِّتي ِفي ُّ
الص ُد ِ ِ
َولَكن تَ ْع َمى ا ْل ُقلُ ُ
والعالم العامل يحافظ على عقائد األمة ،وينشر العلم ،ويقاتل عن دين اهلل ،فيثيبه
اهلل الكريم على قدر صدقه.
وحامل العلم من هذه القيعان التي وصفها الحديث إنما هو وعاء نكل أمره إلى اهلل
حين يزكي الظلمة والجبارين والمستكبرين.
فإن كان صوفي الزاوية يتلقى التربية بالسند وينشد فتح البصيرة وكمال ذاته.
إو�ن كان العالم العامل يتلقى العلم ينشد كمال علمه إو�يمانه.
فنحن نبحث عن المنهاج النبوي المتصل سندا علما وعمال ،تربية وتوفيقا ،نبحث
عن المنهاج النبوي الكفيل بالفتحين ،فتح بصيرة المؤمن السالك ،وفتح النصر .سلوكان
متالزمان كما كان سلوك الصحابة األبرار.
1احلج46 ،
366
الوالء َومعاني الوالء في قوله صلى اهلل عليه وسلم« :القرن الذين يلونه» متعددة تشمل
المحبة ،واالتباع ،والنصرة ،والتتابع.
فهل يمكن وصل السلسة ،هل يمكن ربط ما من شأنه أن ينقطع إذا اختل الشرط؟
حديث الخالفة على منهاج النبوة يسد الخلل ،ويصل آخر األمة باألول .نورده للمرة
الثالثة ألن عليه تحوم أفكارنا.
روى اإلمام أحمد بالسند الصحيح أن رسول اهلل عليه وسلم قال« :تكون النبوة
فيكم ما شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها اهلل إذا شاء أن يرفعها .ثم تكون ملكا عاضا،
فتكون ما شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها .ثم تكون ملكا جبريا
فتكون ما شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها .ثم تكون الخالفة على
منهاج النبوة».
أرأيت أن ذلك االنقطاع في الوالء حين يجيء قوم «تسبق شهادتهم يمينهم» ال
يستمر! أرأيت أن بعد دولة المنافقين حاملي شعارات الزور خالفة على منهاج النبوة!
فالحمد هلل الذي يعيد لنا أمرنا كما بدأ .والحمد هلل الذي نرجوه سبحانه أن يفتح لنا
كما فتح ألوليائه.
هدف التربية اإليمانية أن تخرج رجاال مجاهدين ونساء يشمرون عن أذيال الفضول،
والمغريات وغرور الدنيا ،والشيطان ،والهوى ،ويكشفون عن ساق الجد ،ويغشون حلبة
األهوال ،ويرقون مراقي الكمال.
المجاهد جهاد الدعوة ،وزحف القومة ،وتدبير الدولة ،من استكمل أسباب القوة في
367
دينه ،واألمانة على مهمته .قال حجة اإلسالم الغزالي في «اإلحياء»« :وأعني بالقوي
الذي ال تميله الدنيا ،وال يستفزه الطمع ،وال تأخذه في اهلل لومة الئم .وهم الذين سقط
الخلق من أعينهم (يعني أنهم اليخافون الخلق وال يراءون) ،وزهدوا في الدنيا ،وتبرموا
بها ،وبمخالطة الخلق (يعني المخالطة الملهية عن اهلل) ،وقهروا أنفسهم ،وملكوها،
وقمعوا الشيطان فأيس منهم .فهؤالء ال يحركهم إال الحق ،وال يسكنهم إال الحق».
من وصفهم هكذا ،من يملكون أنفسهم وال تملكهم ،يستطيعون وحدهم أن يتجردوا
نفسيا عن واقع الفتنة ،وأن يؤلفوا كيانا جماعيا مؤمنا يؤثر في الواقع المكروه وال يتأثرون
ون لَوم َة ِ
آلئٍم}. ِ ِ اه ُد َ ِ
به{ .يج ِ
س ِبيل اللّه َوالَ َي َخافُ َ ْ َ
ون في َ َُ
1
وقبل تغيير المجتمع تغيير ما بأنفس الطليعة المجاهدة .ردع النفس المؤتمرة بأمر
هواها حتى تقبل حكم اهلل ،وتطيع شريعة اهلل ،وتقلع عن السفساف لتتابع الروح في
أشواقها إلى اهلل ،وتطلعها لقرباه.
جهاد أكبر.
ثم الجهاد األصغر ،جهاد ما هو خارج الذات المؤمنة من منكر أصبح حقيقة منك ار
عندها ال تحبه بل تكرهه ،ال تساكنه في سلوكها بل تقمعه ،ثم تالحقه خارجها ال بقانون
الغضب الطبعي لكن غيرة على دين اهلل.
إنه ال يتأتى أن يكون الناس سواسية في قابلياتهم لتملك النفس ،وارتفاع المطمح،
ونزاهة الوازع .في جماهير الناس قابليات للحقد والغضب الطبيعيين أكثر مما فيها من
استعداد للتخلق بتلك األخالق السامية التي أحرزها من جاهدوا أنفسهم حتى أعطت
المقادة من أمثال الغزالي.
وما من محيص أن يمتزج في القومة اإلسالمية حوافز الغضب على الظلم مع حوافز
1املائدة54 ،
368
الغضب هلل .إو�نما تكون قومة ال ثورة إن كان قادة الحركة ممن يقاربون القوة واألمانة،
بمعنى قوة اإليمان وامتالك النفس أن ال تجمح بنا فنفقد المبادرة اإلرادية الموزونة بكتاب
اهلل وسنته ،ليبرز التصرف الغضبي المحطم .وصدق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
وهو الصادق األمين في وصف القوي أشد ما يكون امتحان قوته .قال النبي صلى اهلل
عليه وسلم« :ليس الشديد بالصرعة .إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب» .رواه
اإلمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة.
الثورة والقومة:
يتحدث المسلمون في كتب تاريخهم عن نوعين من التحركات:
-1الثوار هم الخارجون على السلطان بغير حق .وكلمة ثورة ،ولها اليوم في
اآلذان وقع التعظيم وهيبة القداسة ،تصور غليان الغضب والعنف المحطم والهيجان.
-2القائمون وهم المناب ُذون للحكم الجائر من أهل العدل والحق .وال يزال تاريخ
اإلسالم حافال بالقائمين من آل البيت ،يهلل علماء األمة ويكبرون لظهورهم ،آخرهم
حتى اآلن اإلمام الخميني .ونرجو أن يتيح اهلل لألمة قيادات من أمثالهم حتى ظهور
اإلمام المهدي رضي اهلل عنه ،وهو منهم .ومع القائمين كان يقاتل العلماء ،وعلى رأسهم
اإلمام أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم اهلل .وما محنة اإلمام أحمد بالتي تنسى وال
بالتي تقف معانيها عند الدفاع عن العقيدة دون إدانة الجور العام الذي يبيح للحاكم أن
يفرض عقيدة محرفة كعقيدة خلق القرآن.
اإلمام الحسين بن علي عليهما السالم كان أول القائمين ،ثم زيد ،ومحمد النفس
الزكية ،إو�براهيم ،وما ال يكاد يحصى من أئمة آل البيت.
في إيران يسمي إخوتنا الشيعة أنصار آل البيت عليهم السالم قومتهم ثورة .لسان
العصر وهيبة الكلمة .وما غضبة اإلمام الخميني ورجال الدعوة إال امتداد للنبضات
التاريخية المتجددة مع كل قائم بالحق .ال نشك أن آيات اهلل في إيران غضبوا هلل .لكن
يمتزج هذا الغضب السامي في صفوف الشعب مع الغضب اآلخر ،الغضب ضد الظلم.
369
واالمتزاج بين العاطفتين طبيعي ومشروع .فإن اهلل جلت عظمته يسائلنا آمرا:
ساء َوا ْل ِوْل َد ِ
ان الن َ ين ِم َن ِّ
الر َج ِ
ال َو ِّ ض َع ِف َ ستَ ْ ون ِفي س ِب ِ ِ
يل اللّه َوا ْل ُم ْ َ { َو َما لَ ُك ْم الَ تُقَ ِاتلُ َ
َخ ِر ْج َنا ِم ْن َه ِـذ ِه ا ْلقَ ْرَي ِة الظَّ ِالِم أ ْ
َهلُ َها}. ون َرَّب َنا أ ْ
ين َيقُولُ َ الَِّذ َ
1
قتال في سبيل اهلل .عاطفة سامية ،همة متجردة هلل .حافز سام هو المناسب ألمثال
اإلمام علي كرم اهلل وجهه وبارك جنده ،وهو الذي وجد نفسه في مصاف القتال وجها
لوجه مع عدو في الجاهلية ،فيمسك ولي اهلل سيفه مليا ،ثم يثني على المشرك فيقتله،
فلما سأله جاره في الصف عن وقفته أجاب أنه تريث حتى يصحح النية كيال تكون
ضربته انتقاما من عدو شخصي.
وفي اآليات األخرى من سورة الممتحنة يشير اهلل تعالى إلى مستويين اثنين في
الشعور بالعداء .فالمشركون أعداء اهلل ،تجب عداوتهم من هذه الحيثية .وهم أيضا
أعداؤنا ،من حيثية أدنى هي أنهم كفروا بما جاءنا من الحق .وهم أعداؤنا بعد ذلك
وأدنى من ذلك ،ألنهم أخرجونا وأخرجوا الرسول.
فالعداء في اهلل المجرد من مقام اإلحسان .والعداء في اهلل من أجل أنهم كفروا من
1النساء75 ،
2املمتحنة1 ،
مقام اإليمان .وتنبه لمزجة الغضب األرضي اللطيفة في قوله{ :بما جاءكم من الحق}
ولم يقل بما جاء من الحق .والعداء ألنهم أخرجونا وأخرجوا الرسول حربا إليماننا يتضمن
نصيبا أكبر من المواجهة األرضية ،وهو مستوى عامة الشعب المسلم المستضعف الذي
يعتز بذاتيته اإلسالمية وينتظر من الطليعة المجاهدة أن تقدح زناد القومة فيه.
اإلمام حسين بن علي عليهما السالم هو النموذج لوال أن «الجماهير» خانته .وفي
خيانتهم درس .وما ربط إخوتنا الشيعة لقومتهم باإلمام حسين ،واستشهاد اإلمام حسين،
إال الزبدة الصالحة التي تمخضت عنها قرون الفتنة ،ثمرة نضجت طويال في ضمائر
أنصار آل البيت.
اإلمام حسين بن علي عليهما السالم إمام األمة كلها ،وقومته نموذج لها جميعا.
ولئن جنى الروافض الخبثاء في إزرائهم باإلمامين أبي بكر وعمر ،فما ذنب األمة أن
تجتر تلك المحن الغابرة ،وتفوت على نفسها فرص التقارب والوحدة والقوة؟
هناك غضبة مضرية قومية .ينفخ فيها شياطين النصارى ،وشياطين النصيرية،
وشياطين البعث ،وشياطين النفاق ،يريدون أن يفقد العرب هويتهم اإلسالمية ليتاح
لألقليات المرتدة عن دينها أن تقود العرب ،ال قدر اهلل ،ليركعوا أمام الغرب الجاهلي.
وهناك غضبة يسارية قومية اشتراكية شيوعية شعوبية تريد أن تربط العرب بذنابي الشرق
الجاهلي.
يجب أن ال تكون القومة رد فعل غير منضبط .لكن االعتبارات التفصيلية لغضب
371
المستضعفين يجب أن تحتل مكانها في فكرنا وشعاراتنا وتخطيطنا لتعبئة األمة.
لغة الخبز اليومي واألجور ،والصحة ،والسكن ،والمدرسة ،والكرامة ،تفصل كل
هذا لرجل الشعب ،المستضعف القاعدي تفسر له ِل َـم يجب أن يغضب ،وكيف ،ومتى،
ومع من.
تكون الحركة ثورة طائشة تهدم ،ال قومة هلل تبني ،إن غلب الغضب على الحكام
الظلمة وأعوانهم الغضب اآلخر السامي.
ال بد من رد الظالم السابقة يوم القومة ،في حدود اهلل وبشرع اهلل.
لكن الفوضى وانفالت الغرائز خطر يهدد الحركة إن قاد الصف غير األقوياء
األمناء.
قومة محكمة ،محكومة ،مملوكة ،مواجهة وجهة الحق ال وجهة الغضب واالنتقام.
هذا يريد جهادا أكبر سابقا ومواكبا والحقا :جهاد النفس وتربيتها.
وهنا تتم الدائرة التي تبتدئ بالتربية تهيئ التنظيم ،ثم التنظيم يهيئ الزحف ،ثم
الزحف والقومة ينظران إلى التربية ،يلتمسان منها أن تهذب الغرائز ،وترفع القلوب إلى
اهلل ،والعقول إلى العلم بشرع اهلل ،والجهود لتنصب في جهاد يرضاه اهلل.
استعرض أمامك ثورات البشر القريبة منا ،واستعرض وجوه القيادات ،تجد كالم
القيادات وشعاراتها تعبي ار عن الغضب البحت الهائج ،وتجد تنظيم لينين وتروتسكي
وماو وهوكي أوعية لجمع هذا الهياج حتى ينفجر في وجه العدو ،وتجد الثورات بعد
372
استيالئها على الحكم ترفع إلى سدة السلطان الغرائز الدنيا على صورة الحوافز
الهياجية :مكر تروتسكي ،دهاء لينين ،وحشية ستالين ،ضرب ماو منافسيه بسذاجة
الشباب إلخ.
واستعرض بعد أن غثيت نفسك الطاهرة يا ولي اهلل من تلك النماذج الجاهلية
األسوة الحسنة في إبراهيم عليه الصالة والسالم والذين معه ،وفي محمد صلى اهلل
عليه وسلم ومن معه .استعرض الرجال الذين هاجروا ونصروا وجاهدوا .باهلل ،وفي
اهلل ،وهلل.
إن وسائل العصر الفكرية العلمية ،والتدبيرية والتنظيمية ،والحركية ،قد تغطي
بصائر غيرنا عن مشاهدة نموذجنا الخالد محمد صلى اهلل عليه وسلم .ونحن نرجو اهلل
عزت قدرته أن يتسعملنا على سنن القائمين بالقسط من عباده .وهم الذين نزل عليهم من
آن تَرِتيالً ...إِ َّن َن ِ
اش َئ َة اللَّْي ِل ِ َّ
ُّها ا ْل ُمَّزِّم ُل قُم الل ْي َلَ ...وَرتِّ ِل ا ْلقُْر َ ْ
أول ما نزلَ { :يا أَي َ
ِ ِ ِ ِه َي أَ َ
اص ِب ْر َعلَى َما اس َم َرِّب َك َوتََبتَّ ْل إِلَ ْيه تَ ْبتيالًَ ...و ْ
...وا ْذ ُك ِر ْ
ش ُّد َو ْطءاً َوأَق َْوُم قيالً َ
1
اه ُج ْرُه ْم َه ْج ارً َج ِميالً}.
ون َو َْيقُولُ َ
جهاد أكبر ،قمع النفس ،تقويمها ،صبر ،ذكر ،تالوة ،قيام ،هجر جميل يهيئ هجرة
عازمة ،تتلوها تعبئة ،يتلوها جهاد في اهلل بأعلى ما يكون من الحوافز.
وصحب الجهاد األكبر الجهاد األصغر طيلة العشر الباقيات .فقد كانت الغزوات
والسرايا على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بمعدل واحدة كل شهرين ونيف .ال
يرجعون من غزوة وسرية إال ليستعدوا لمثلها ويتزودوا.
السير الطويل ،الظمأ في صحراء الجزيرة ،قلة الزاد والظهر ،كيد األعداء المحيط
حضور رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وشهادته المربية ومثاله .ثم مصاف القتال،
والوحي ينزل من السماء بالوعد والوعيد ،والنذارة والبشارة ،واألمر والنهي فكانت
القلوب والعقول مشدودة إلى أعلى .وبتلك الشدة غلب المؤمنون المجاهدون معاني
األرض وغرائز الدون.
وقال الحبيب المصطفى القائد المربي صلى اهلل عليه وسلم مرجعه من إحدى
الغزوات ليؤكد أن السيرة مستمرة« :رجعنا من الجهاد األصغر إلى الجهاد األكبر» رواه
البيهقي بسند ضعفوه .والمعنى صحيح.
في تربيتنا وتنظيمنا وزحفنا نمسك عواطف المسلمين وأفكارهم من فروع أسباب
الغضب على الجور ،األسباب األرضية السياسية االجتماعية االقتصادية .ثم نربط
النقمة الطبيعية على الظلم بالدين .فهي من الدين ،األمر بالمعروف من الدين ،والنهي
عن المنكر ،ونصر المظلوم ،والقتال من أجل المستضعفين.
ثم نصعد العواطف واألفكار من حالة الخمول الجاثم على األمة هذه القرون إلى
حالة اليقظة ،إلى حالة الغضب ،إلى حالة توجيه الغضب الطبيعي لينضبط بضوابط
الغضب هلل.
وعلى هوامش األمة –وقد تكون الهوامش أول األمر واسعة– ال بد من وجود
مسلمين أشتات وألوان .في سورة التوبة ذكر لألعراب ،وهو مفهوم قرآني أساسي لتصنيف
374
المجتمع اإلسالمي .ومن األعراب منافقون ،ومن األعراب من يؤمن باهلل واليوم اآلخر،
ومنهم من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بالمؤمنين الدوائر ،ومنهم ،ومنهم.
وكل مجتمع إسالمي قائم ال بد أن تكون في هوامشه أعرابية قاعدية على أصناف
ما وصف اهلل عز وجل من صفات أعراب العهد النبوي ،فالحكمة أن يرتب جند اهلل
عالقاتهم قبل الحكم وبعده مع هذه المعطيات االجتماعية ،وأن يحسنوا تعبئة الجهود،
وأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم ،وأن يسعوا بعد تولي الحكم إلى إيقاف األعرابية
عند حدها ،وتصفية األمة من عناصر المفسدين في األرض ،بالعدل والرفق.
ينبغي للقومة عرامة وقوة ،هي الدافعة من أسفل الغضب الشعبي .وينبغي لها قبل
ذلك وأهم منه أن يكون االتجاه سليما ،وأن تبقى المقادة في األيدي القوية األمينة لسبق
محاوالت االنحراف والتحريف وقمعها .إلسكات حداة االنتقام ،ولرفع أذان «اهلل أكبر».
الجهاد تحت راية اهلل أكبر ،االجتماع عليها خلف جند اهلل ،يلزم هذا الجند أن تكون
قلوبهم منجمعة على اهلل ولي المؤمنين.
تتوزع األهواء ،والنعرات ،وحب الرئاسة ،والصراع على السلطة ،وسائر مغريات
الدنيا والغرور ،وسائر نزعات البشر ،عقول الناس العاديين ونفوسهم.
ومهما كانت مروءة األفذاذ من بني اإلنسان على اختالف أديانهم ومذاهبهم ،مروءة
أبطال التاريخ والثوار ،على الظلم ،فإنها ال تبلغ السمو الذي نقرأه في صفحات تاريخنا
الماضي والحاضر منذ جهاد اإلخوان المسلمين ،ورواد التجديد في إيران ،وجهاد إخوتنا
في أفغانستان وفي كل مكان.
إن كان تجديد اإلسالم يعني شيئا فمعناه هنا أن نرفع من إيمان المجاهدين بالتربية
إلى مقارنة النموذج النبوي ،نموذج األحبة ،محمد صلى اهلل عليه وسلم وصحبه.
375
َن َغ ْي َر يعاتب اهلل عز وجل المجموع في قوله عز وجل من قائلَ { :وتََود َ
ُّون أ َّ
الش ْو َك ِة تَ ُك ُ
ون لَ ُك ْم}. َذ ِ
ات َّ
1
فلعل نفسا واحدة من تلك النفوس الشريفة ساورها لحظة حساب السهولة ،ورجاء
النصر القريب لو لقي المسلمون عير أبي سفيان بدل جيش قريش.
ولعل بتلك المساورة ،في تلك اللحظة ،جاءنا الخطاب اإللهي لكي ال ننسى أن
شعار «اهلل أكبر» ينتظر البذل بال حساب ،ينتظر من المجاهد أن يموت في أي لحظة.
وفي كل مجموعة نفوس قد تضعف فتكون دون ما يعلن عنه الشعار .من هنا
واجبنا أن نرفع الهمم حتى يكون الموت في سبيل اهلل هو غاية أمانينا حقا .حتى
يتمنى كل منا أن يقتل في سبيل اهلل ،ثم يبعث ثم يقتل ،ثم يبعث ثم يقتل ،كما تمنى
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
في مستوى التمثل باألئمة نرفع همة كل منا ليموت في سبيل اهلل كما مات حمزة
ومصعب والحسين رضي اهلل عنهم.
قال اهلل تعالى حكاية عن موسى عليه السالم ،وهو من أولي العزم من الرسل:
2
ت ِمن ُك ْم لَ َّما ِخ ْفتُ ُك ْم}
{فَفََرْر ُ
1األنفال7 ،
2الشعراء21 ،
376
ونحن األمة المحمدية أمرنا أن نهجم على الموت ،قال اهلل عز وجل لنا { :فَ ِفُّروا
ِ َّ ِ
إِلَى الله إِ ِّني لَ ُكم ِّم ْن ُه َنذ ٌ
ير ُّم ِب ٌ
ين}.
1
المراحل بالنسبة لطالب الحق ،السالك طريق االستقامة ،المقتحم العقبة إلى اهلل
كما يلي:
-3ثم بذل الثمن المعلوم ،المال والنفس ،الموت في سبيل اهلل ،الفرار إلى اهلل.
صناعة الموت:
إن توفر اإلرادة السياسية ،وتجسدها في كتلة منظمة ،بقيادة مطاعة قوية ،إو�حكام
نظام ،ثم قناعة رجالها بالقضية التي من أجلها تشكلت ،هي العوامل األساسية إلحداث
تغيير في المجتمعات.
هذا كالم عن عموم التحركات البشرية ،في نطاق التدافع األرضي ،ومواجهة
العواطف والوسائل بعضها بعضا.
وتمتاز التحركات اإلسالمية ،ونموذجها جهاد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
وجهاد أصحابه معه ومن بعده ،بارتفاع العامل المعنوي في الجهاد ،وهو الهجوم على
الموت بناء على اليقين اإليماني أنها إحدى الحسنيين :الشهادة أو النصر.
1الذاريات50 ،
377
وكان مما يعتد به أول شيء أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم معنوية
المجاهدين .عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه لما بعثوا إليه يطلبون مددا في إحدى
المعارك أجاب« :إن أهم أمركم عندي الصالة!» ،فكان نصحه إياهم بالعناية بالصالة
هو نفس المدد ،ألن إقبالهم على الصالة يزيد إيمانهم ،إو�يمانهم يؤهلهم لنصر اهلل إياهم.
ثم خالد يكتب إلى رستم« :جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» ،إشارة إلى ما
كان يتمتع به جند اهلل من معرفة كاملة ،واستعدادا نفسي وعملي للشهادة في سبيل اهلل،
وهي أقصر طريق إلى الدرجات العليا ،إلى الحياة الحقيقية.
واق أر آيات الجهاد في القرآن ،وكتاب الجهاد في أسفار الحديث ،تجد أن المؤمنين
مخاطبون بإلحاح أن يتجردوا من الحياة الدنيا نفسيا ،ويوطدوا نياتهم على الموت في
سبيل اهلل ،لينالوا حياة الرضى عند اهلل األبدية.
كان اإلمام البنا رحمه اهلل يتحدث عن «صناعة الموت» إلى إخوانه ،يستحث فيهم
تلك الجذوة الجهادية التي تتحول إن تأججت في قلوب جند اهلل نو ار يضيء لهم الطريق
إلى العز في الدنيا واآلخرة ،وتتحول بذلك نا ار على العدو.
إنها مسألة حياة أو موت .ما دام المسلمون يفضلون حياة الخنوع والمذلة ،هذه
الحياة الدنيا بكل معاني الدون ،فهم كم ميؤوس من خيره .ولن يغير اهلل ما بنا قبل أن
نغير ما بأنفسنا ،وأهم ما بأنفسنا من ويل الحرص على الحياة الدنيا وكراهية الموت.
قال اهلل تعالى يؤنب بني إسرائيل ويبكتهم ليعلمنا بضرب المثل أن نتجنب
َخرةُ ِع َ ِ ِ ِ ِ
ص ًة ِّمنند اللّه َخال َ النماذج الهابطةُ { :ق ْل إ ن َكا َن ْت لَ ُك ُم الد ُ
َّار ا آل َ
َّ اد ِق َ
ين َولَن َيتَ َمن ْوهُ أ ََبد اً ِب َما قَد َ
َّم ْت اس فَتَم َّنواْ ا ْلمو َت إِ ن ُكنتُم ص ِ
ْ َ الن ِ َ ُ َ ْ ون َُّد ِ
مين }.
ال َأ َْي ِد ي ِهم واللّ ُه عِليم ِبالظَّ ِ
َ ٌ
1
ْ َ
كانوا يزعمون أنهم أبناء اهلل وأحباؤه ،وأنهم أصحاب الجنة بعد الموت .فيعجزهم اهلل
عز وجل بهذا التحدي الحاسم أن يتمنوا الموت لينتقلوا من هذه الدار الشاقة إلى اآلخرة.
لكنهم ال يؤمنون بالمعاد وال بأنهم سيجزون خي ار بعد الموت ،وهم األخسرون أعماال هنا.
1البقرة95-94 ،
378
ويخبرنا اهلل سبحانه وتعالى أنهم لن يتمنوا الموت أبدا لعلمهم بسوء أعمالهم.
انتبه إلى ورود كلمة حياة نكرة .إو�لى كلمة الحرص .فهم حريصون على هذه الحياة
الخسيسة الماكرة التي تميز اليهود عبر التاريخ ،والواحد منهم حريص على حياة أي
حياة .وأفضل الدعاء عندهم لبعضهم أن يطول عمره.
هذا زجر بسرد المثال السيء لنا لكيال نحرص على هذه الدنيا ،ال سيما إذا كان
الرضى بها والحفاظ عليها يعني الذل والبؤس للمسلم وأمته.
«صناعة الموت» إذا ضرورة تربوية تنظيمية ،حب الشهادة في سبيل اهلل ،وجعل
الموت في سبيل اهلل أعز ما يطلب في ثقافتنا ،في تعليمنا ،في تربيتنا ،في إعالمنا ،في
الهواء الذي نتنفسه ،والغذاء الذي نطعمه ،هو الروح الذي ينتظر أن يسري في األمة
لتنهض من كبوتها التاريخية ،ولتستحق الحياة ،ولتستعصي على األعادي ،ولتنتصر،
ولتنال موعود اهلل بالخالفة في األرض.
إن لم نرب نفوسنا على الجهاد والسخاء بالمال والنفس ،وبذل المال والنفس ،فال
حياة.
إن لم يكن كل فرد من جند اهلل مستعدا للموت ،أهون ما يكون عليه ذلك ،بل أحب
ما يكون إليه ،ما دام واثقا أنه في سبيل اهلل ،فال حياة لألمة.
ال يعني هذا أن ندفع بأموالنا وأنفسنا هكذا يسيرة على األعداء .ال نستهين
بأموالنا ومهجنا دون أن نصرفها حيث يكون الصرف أنفع لألمة .من إتقان صناعة
الموت أن يعرف المؤمن ِل َم يموت لتصلح نيته ،ومتى يموت ليكون موته لحظة لنصر
قضية من قضايا أمته ،وكيف يموت ليكون موته ربحا لنا وخسارة على عدونا ،ومع
1البقرة96 ،
379
من يموت ليندمج جهاده في جهاد جند اهلل ،وليساهم موته في دفع عجلة الجهاد إلى
األمام.
هذا هو المرض الذي بنفوسنا ،ال نرجو تغيير ما بنا حتى نغيره :الوهن .وما الحيلة
لنزعه؟ ما العالج؟ ما الوسيلة؟
هذه المئات الماليين أخذت تستيقظ والحمد هلل .وفي إيران رفض للغثائية ومعانيها
وشفاء من مرض الوهن ،بفضل محبة الحسين عليه السالم ،وبفضل تقمص حال
الحسين عليه السالم ،وبفضل ذكرى الحسين واستشهاد الحسين ،وبقائها حية في
النفوس ،ثم تذكيتها ،إو�ثارتها ،ورفع شعارها.
وهذا جهاد أبطالنا المجاهدين في أفغانستان يذكرنا وفاؤهم بالعهد ،إو�قدامهم على
الموت ،ونصر اهلل إياهم بخرق العادة ،بذلك العهد األول.
فهل يتم لنا أمر في األقطار اإلسالمية كلها كما تم لنا في أفغانستان إو�يران،
(نرجو اهلل أن يحفظنا فيهما) ،بدون الروح الجديدة المجددة ،روح الشهادة في سبيل
اهلل؟
كال ثم كال!
إذا أعدنا في نفس المؤمن والمؤمنة الحالة الصحية وهي حب الشهادة واحتقار الحياة
380
الدنيا التي يحرص عليها غيرنا فأبشر بالنصر! إو�ال فأبشر بطول سالمة يا مربع!
إذا ألفنا جند اهلل من كتائب تريد أن تموت في سبيل اهلل ،وتعرف ِل َم تموت ،ومتى
وأين وكيف ومع من ،فذاك زحف لن ُيغلب بإذن اهلل .إو�ن نلفق أشتاتا من الناس،
يحرص كل منهم على اإلبقاء على نفسه بدل ،أن يستبقوا إلى مغفرة اهلل ورضوانه ،إلى
الثغرة األشد خط ار على الجبهة ،إلى المهمة األشق ،إلى حيث تتصارع المنايا ،فلن
يكون جهادا .بل تكون مأساة مكررة لحشود عبد الناصر الغثائية ،وتنظيمات األحزاب
زمن الوهن.
أال بلغ من وراءك يا أخي ،بلغي من ورائك يا أختي ،أن الحياة الدنيا لعب ولهو،
وأن الجد والغناء في الحياة األخرى .بلغا أن الحياة الدنيا متاع الغرور وأن حياة الشهيد
عند ربه ،وفرحه بلقائه ،واستبشاره بما لقي حين يلتفت إلينا من ورائه يتمنى لنا اللحاق
به ،هي الحقائق الثابتة التي عليها مدار حياة األمة .اإليمان به فيصل ما بين الحق
الديني والباطل .والعمل على مقتضاها هو الفيصل ما بين الموت التاريخي لألمة
والحياة الجديدة التي نرجوها لها.
أبواب الجهاد:
أسرد إن شاء اهلل هنا أحد عشر باباً من أبواب الجهاد ،بعضها تربوي يهم المؤمن
في نفسه وفي عالقته باهلل وبأمته وبالناس جميعا ،وبعضها يهم الجماعة الطليعية في
تأهبها وزحفها ،وبعضها يهم جند اهلل قبل الوصول إلى الحكم ،وأثناء الزحف ،وبعد
تولي مقاليد السلطان.
وال بد لنا من ولوج كل أبواب الجهاد ،ما سردت هنا وما تفتحه الحركة ،لنكون
على مستوى مهمتنا .إن قصرنا في جهة ،ولم نبلغ الغاية في المدى واالتساع والعمق
في كلها ،قصرت بنا األيام ،وبقينا كاأليتام في مأدبة اللئام.
لنشاهد المادة المعنوية والوسائلية لجند اهلل األمناء األقوياء كيف تتصرف جهادا
فاعال على الساحة .بل لنشاهد بفكرنا هنا سعة المهمات وطول النفس الذي تريده لكيال
381
ننتظر أن وقفة ساعة أو سقوط آالف شهداء في المعركة يكفي لتحقيق النصر.
كل ما قلناه تحت عنوان «صناعة الموت» ما هو إال تسطير تحت واجب «الجهاد
األصغر» إلبراز أهميته .يبقى الجهاد األكبر جهاد النفس المفردة في ذاتها ،وجهادها
لتستقيم في عبوديتها هلل ،وجهادها لتتخلق ،وتبذل ،وتتعلم ،وتعمل ،وتجاهد ،يبقى جهاد
جند اهلل الطويل الشاق عبر عقبات التنظيم ،والزحف ،وتنفيذ المخطط ،إو�بطال الباطل
إو�حقاق الحق ،وبناء األمة.
يبقى الجهاد األكبر ،والجهاد األصغر لحظته الحاسمة ومنتهى توتره .حديث «رجعنا
من الجهاد األصغر إلى الجهاد األكبر» رواه البيهقي وفي سنده ضعف .نورده جريا على
قاعدة أئمة الحديث من أن يستشهد بالضعيف في فضائل األعمال ،ويؤيد معناه ما ورد
في الحث على صبر النفس وكفها ونهيها وتزكيتها .وهذا كثير في القرآن والحديث.
-1جهاد النفس:
كتبنا فيما سبق ما شاء اهلل عن جهاد النفس .وطابع هذه الفصول ،إن الحظت،
تربوي ال تحليلي .ذلك أن التربية اإلسالمية ،الدائرة حول محور جهاد النفس ،إو�قامتها
في االتجاه السليم صعدا في عقبة اإليمان ،هي قوام الجهاد ،وقاعدته ،وأساسه.
ما تغنينا التجميعات الغثائية إن لم يكن لنا بإيمان جند اهلل ،وتماسكهم ،وصدقهم،
قوة ذاتية ،تولد األعمال الجليلة ،وتنبثق عن إرادتها صورة تاريخ جديد ألمتنا؟
لنتذكر أن الداء هو الوهن ،وأن العالج إرادة الشهادة في سبيل اهلل ،وما يتفرع عنها
من قدرة إو�رادة لتنفيذ المهمات الجهادية.
إو�ن تتبعنا القوة الذاتية للجماعة واإلرادة المغيرة نجدها تنبع من قلب الفرد العضو
وفكره ،وحركته ،وسائر طاقاته .إو�نما يحقق النظام ،ووحدة القيادة ،وضبط المسؤوليات
تلك القوة الذاتية الكامنة في األفراد ،ويبرزها على شكل إنجازات عينية .فإن كان كل
جندي وعضو في الجماعة ذا نفس خاملة ،وفكر مظلم ،وطاقات هزيلة فإن المجموع مهما
كما جدي ار باإلهمال.
نظمناه سيبقى ًّ
382
الواجهة األولى في الجهاد هي واجهة التربية .نعني تربية اإليمان بمفهومه اقتحاما
آخر ،ودائما. للعقبة وبكل شعبه .التربية أوال ووسطا ِ
وآخرا ،وال َ
ال نفرغ من تقويم أنفسنا .ومتى ظننا أننا أتممنا تهذيبها فذلك نزغ الغرور ،وغرة
باهلل ،وطيش في ميزان الرجولة.
تربية ،استقامة ،تواص بالحق والصبر ،دائما ال نمل .والتقصير البشري ال سبيل
لتالفيه إال بإجماع اإلرادات الصالحة على قبول هذا المبدأ:
ثم يشاهد تقصيره ،ويقبل النصح ،ويتعاون ،ويلين ألخوته ،ويحب ،ويتشاور،
ويطيع.
َعَّزٍة علَى ا ْل َك ِ
اف ِر َ
ين}. ين أ ِ
{أ َِذلَّ ٍة َعلَى ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ
َ
3
نفوس بلغ منها التهذيب مبلغا جيدا تلك التي تقدر على نبذ أنانيتها ،وتهاجر إلى
اهلل ورسوله من قعودها ،وتتألف قلبا وقالبا على موجبات التنظيم وواجباته.
1هود112 ،
2رواه الرتمذي
3املائدة54 ،
383
أرأيت أن التربية مقدمة الزمة للجهاد!
وأنها شرط الزم لمحبة اهلل عبده!
وأنها بذلك تحقق الغاية الفردية والجماعية معا!
غير كل هذه الجزئيات ،مما ال بد منه ،ومما يتوسع فيه الناس حتى يصبح هو
التربية في نظرهم.
الغاية أن يعرف العبد ربه ،بأن يتقرب إليه حتى يحبه سبحانه ،ويكرمه بما يكرم
به أولياءه.
وكل القربات من أقوال ،وأفعال ،وأحوال ،وأخالق ،في جوف هذه الغاية ،وفي
طريقها ،ومن شروطها.
وكل ما يسميه لسان االصطالح تربية دون أن يحقق هذه الغاية فليس التربية التي
نقصدها.
1املائدة54 ،
384
لنعرف هذا ،ولنعرف أن المسلمين والناس أجمعين متفاوتون استعدادا للسمو
اإليماني وقابليات الكمال وهي «قدم صدق» حسب التعبير القرآني .أي ما سبق في
علم اهلل لكل فرد فرد من أسباب السعادة.
ثم لننتبه إلى أن مظنة كل خلل في أبواب الجهاد األخرى هو الخلل في التربية.
فمتى وقف بنا الحال فيما نتحرك ونروم ،فلنعلم أن حالنا مع اهلل في تدن وفتور .ومتى
عم فينا الفشل فلنعلم أننا اتكلنا على حيلتنا فوكلنا اهلل إلى أنفسنا .ومتى ظهر فينا
التنافس على الرئاسات والمناصب ،متى أصبحنا أعزة على بعضنا أذلة على خصومنا
وأعدائنا قلبنا اآلية ،فلنعلم أن اهلل ال يحبنا.
وفي كل ذلك نجدد التوبة ،ونصحح النيات ،ونذكر اهلل كيال ينسينا أنفسنا .فإننا
إن نسيناها ولم نتعهدها بالتزكية ،وننورها بالعبادات ،ونروضها بالعمل الصالح ،هلكنا
أفرادا وتنظيما وأمة .ورجعنا إلى حالة الغثائية ومرض الوهن.
-2جهاد المال:
على نغمات أغاني الخلعاء والخليعات نحضر مهرجان الغثائية بقيادة السفهاء.
وعلى هتاف «اهلل أكبر» ،حين يصبح اهلل غايتنا ،والموت في سبيل اهلل أعز
أمانينا ،نستجمع دراهم المؤمنين في ساعة العسرة ،وأموال المسلمين بعد الفتح إن شاء
اهلل ،لننفق في سبيل اهلل.
من كان حب اهلل يسكن قلبه حقا فإن هذا الحب الشريف ال يتساكن مع الحب الخسيس.
385
اج ُك ْم
آؤ ُك ْم َ إوِ� ْخ َوا ُن ُك ْم َوأ َْز َو ُ
اؤ ُك ْم َوأ َْب َن ُ
آب ُ
ان َ قال اهلل تعالىُ { :ق ْل إِن َك َ
ض ْوَن َهااك ُن تَْر َ اد َها ومس ِ وها َوِت َج َارةٌ تَ ْخ َ ِ
سَ ََ َ ش ْو َن َك َ َم َوا ٌل اقْتََرفْتُ ُم َ
يرتُ ُك ْم َوأ ْ
َو َعش َ
ِ ِِ ٍ ِ ب إِلَ ْي ُكم ِّم َن اللّ ِه ور ِ
َم ِرِه
َّصواْ َحتَّى َيأْت َي اللّ ُه ِبأ ْ س ِبيله فَتََرب ُ سوِله َو ِج َهاد في َ ََ ُ َح َّ
أَ
ين}. اس ِق َ
واللّ ُه الَ يه ِدي ا ْلقَوم ا ْلفَ ِ
َْ َْ
1
َ
وها} .فإن فعل «اقترف» وانتبه إلى قوله عز من قائلَ { :وأ ْ
َم َوا ٌل اقْتََرفْتُ ُم َ
يستعمل غالبا في كسب اإلثم .ذكرت الكلمة في القرآن خمس مرات :واحدة في اقتراف
الحسنة وثالث في السيئات ،وهذه الحقة بهن .إن كان حب المال وادخاره وكنزه واحتكاره
يشغل عن حب اهلل ،وكان المال يصرف في مصارف غير الجهاد في سبيل اهلل ،فهو
اس ِقين}.
اقتراف إو�ثم .لذلك جاء في آخر {واللّ ُه الَ يه ِدي ا ْلقَوم ا ْلفَ ِ
َْ َْ َ
إن المال عصب كل تحرك بشري ،والمال الطيب ينفق في سبيل اهلل ،تقدمه
الذمم الحية قربانا هلل ،هو عصب الجهاد .لذلك اقترنا في القرآن ،ولذلك يسبق ذكر
الجهاد بالمال ذكر الجهاد بالنفس .المال عصب الجهاد وشرطه .فالمؤمن يبرهن
على صدق نيته في إنجاح القضية المقدسة ببذله ماله .فال نعرف صدقه إال من
خالل بذله ماله وجهده .وما في القلوب يعلمه اهلل .ما نعلم ،وال سبيل لنا ،أن هذا أو
ذاك من المؤمنين يحب اهلل ورسوله أكثر من األب واالبن واألخ والزوج والعشيرة إلى
سائر ما ذكرته اآلية إال بقرائن األحوال .وأهمها البذل .أهمها ما يأتي من عطاء مال
وجهد من جهة المؤمن.
إن مادة الجهاد -أي المصدر الذي منه تستمد قوتها –إرادة رجال مؤمنين ،ثم
وسائل لبلوغ غاية الرجال وأهدافهم .وأهم الوسائل وميسرها المال.
حتى الوقت الذي نحتاج أن نخصصه للجهاد ،والمكان الذي تتم فيه أعمال الجهاد،
وراحة بال المجاهد-وهي ضرورية– من الهموم المادية ،ييسرها المال .المتفرغ كل وقته
1التوبة24 ،
386
للعمل الجهادي بحاجة لمال يسد به نفقات عائلته .المراكز ،واألجهزة ،والموظفون،
والكتب ،والنشرات ،والتنقل ،والسالح في حالة القومة المسلحة ،كلها تحتاج لمال.
أما مدلولها الجماعي التنظيمي فهو توفير المال الالزم لكل أنواع الجهاد.
ما بين التأمالت الهوائية ،واألحالم العذبة وبين اقتحام مجال الواقع ،والتوغل فيه
وتغييره ،أن يوجد عامالن حاسمان:
-2ثم وسائل مادية تجسد اإلرادة ،والقوة المعنوية ،في مشروع يتحرك .روح وجسد.
والروح المحلقة في سماء التأمالت ال مكان لها بين الحقائق الصلبة على األرض
إن لم تلبس درعا يقيها غوائل البيئة األرضية ،ولم تتسلح بالوسائل األرضية.
جسم بال روح كائن قد يتحرك تحركا اصطناعيا .قد يهيئ المال مجموعة من
المأجورين في خدمة طاغوت أرضي .وقد يكون الطمع في المال والمنصب والمتاع
محركا لمجموعات حزبية نجدها في طريقنا.
نعم القولة والشعار .لكن إيمانا بدون وسائل أحرى أن يبقى معنى لطيفا يصلح
للتأمل ال لمعاناة صخور الواقع .أحرى أن يبقى أخرس حين يتكلم الناس ،غائبا حين
يحضرون ،جاهال حين يتعلمون ،قاعدا حين يتنقلون ويتحركون ،محايدا حين يؤلبون
1احلشر9 ،
387
عليه الرأي العام ويجمعون الجموع ،أعزل حين يعتقلون أفتك السالح.
نعم! لنا إن شاء اهلل إيمان هو في ميزان المعنويات كل شيء إزاء تفاهاتهم
اإلديولوجية وبواعثهم األرضية.
لكنا معشر المسلمين أمرنا أن نعد ما استطعنا من قوة .حتى تكون وسائلنا -ما
أمكن -كفاء لوسائلهم .فإن لم تبلغ فال أقل من إيجاد الضروري .وما بسهم مريش
نستطيع قتال حامل الرشاش ،وال بالكلمة المحاصرة نستطيع مقاومة اإلعالم المضاد.
يؤخذ الوافد على الجماعة أوائل عهده بنا بدفع قسط من ماله معلوم ،مع ترقب
النتائج التربوية لذلك ،وهي ترفيع الشعور بالمساهمة في المجهود الجماعي ،والتقدم
بحاسة التملك وخوف الفقر نحو النضج اإليماني ،نضج من يعلم ،ثم يحس ،ثم يتيقن
ويعطي البرهان ،أن المال مال اهلل ،وأننا مستخلفون فيه ،وأن المال الحسن هو المال
الذي يقربنا إلى اهلل ،وأن الدنيا مطية المؤمن إلى اآلخرة .هذا مع الحرص الشرعي على
الجد في التكسب ،وتنمية المال الحالل ،لتتوسع األصول التي منها ننفق.
وبعد التحرير وقيام الدولة اإلسالمية تجهز الدعوة مما قلنا ،ثم من أموال الوقف.
-3جهاد التعليم:
لما انكمشت الدعوة إزاء توسع الدولة وأجهزتها اختفى شيئا فشيئا عند المسلمين
روح التبليغ والتعليم .انكمشت الدعوة ،وقل التطوع منذ القرون األولى التي كان طلب
العلم وبذله يعد فريضة الزمة .وإلمساك حكام العض والجبر على عنق األمة لم يبق
للدعاة عبر التاريخ إال االنضواء تحت لواء الحاكم ،والعيش على مائدته ،أو االنزواء
بعيدا مع توجس ما يأتي من شر من الطائفة المستكبرين.
388
كان أخشى ما يخشاه حكام االستكبار –وال يزالون خاصة بعد قومة اإلمام الخميني–
جماعة دعوة تعلم األمة وتقوي صفوفها.
على هامش الحياة العامة عاش معلمو الناس الخير .وكان األجدر –لو استقام
الوضع– أن يكونوا هم نخاع األمة ،وتعطاهم الفرصة والوسائل إلخصاب األمة من
قحط النفوس والعقول ،إو�ثرائها من عوز اإليمان والرجولة ،وتنويرها من ظالم الجهل
والجاهلية.
إن طليعة األمة –جند اهلل المجاهدون -هم معلمو األمة غد النصر إن شاء اهلل.
هم المبعوثون ليعلموا كما بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم معلما .هو بعث برسالة
وهم ورثتها القائمون عليها ،وبعثهم ميراث من ميراثه صلى اهلل عليه وسلم.
وواجبهم أن ُيكونوا من بينهم –من ذوي االستعداد -علماء ممتازين في العلم اإللهي
علم اإليمان والشريعة .وأن يكونوا علماء تخلّق وسلوك وترويض .من اهلل عز وجل
المواهب الخاصة ،مواهب القلوب المهيأة أزال للنور ،ومواهب العقول المهيأة لتكون
أوعية للعلم .ال يستطيع أحد أن يعيد قسمة ما فرغ اهلل تعالى من قسمته .لكن «جماعة
المسلمين» ،قطرية متعددة ثم عالمية متوحدة ،تستطيع أن تتيح للقلوب تربية لتصلح
للنور ،وللعقول معاهد لتبلغ أقصى ما خلقت له يجب عليها ذلك.
ثم قبل القومة وأثناءها وبعدها ،من ورائنا هذه األجيال المتالحقة المباركة ،مهمتنا
أن نعلمها .أن نعلمها اإلسالم واإليمان ،والمحبة ،والعمل الصالح ،واألخوة.
يجب أن نصلح جندا منظما منبثا في المدن والقرى ،في المساجد والمدارس ،في
البيوت والطرق ،في المعامل والمستراحات .يعلم ،يبلغ ،يحبب اإلسالم واإليمان.
والحمد هلل الذي جعل لنا في هذا الزمان جماعة الدعوة والتبليغ ذات االنتشار
العالمي ،والفيض اإليماني ،والسعي الذي ال يمل ،والجهاد إلبالغ الكلمة الطيبة والنبأ
العظيم لإلنسان الجاهل بدينه وهويته .هم مثال يحتذى في هذا الباب.
389
كما غثائنا .والغثاء ما يحمله السيل من
أصبحت شعوبنا المسلمة موطنا ومولدا ّ
التبن البالي ويجرفه.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كما روى اإلمام أحمد« :إن اإليمان يخلق (أي
يبلى) في القلب كما يخلق الثوب .فجددوا إيمانكم».
إن فكر أبناء الدنيا من حكام الجبر في تعليم الشعب ،فإنما يفكرون في «محو
األمية» وللعملية هدف اقتصادي ،هو أن المتعلم ينتج أكثر مما ينتج الجاهل.
وهم ال يقدرون حتى على هذا القدر من التعليم ،مع أن هدفه من أمس ما نحتاج
إليه.
فليكن إذن «محو األمية» بالمفهوم االقتصادي واحدا من أهدافنا حين نتحدث عن
جهاد التعليم.
إنما نميز بين التنوير الذي نريده لظلمتنا العامة القاتمة ،الذي يحققه جهاد التعليم،
وبين التنوير االقتصادي الجزئي الذي عجز عنه ويعجز حكام الجبر.
فكل خير مادي ومعنوي ،كل تحسين للحياة اليومية ،والعالقات االجتماعية،
والمستوى الثقافي ،خير نرجوه ونسعى إليه ،ونتجند لبلوغه.
ما دامت أجهزة الدولة في يد غيرنا ،وأبناؤنا وبناتنا في أيدي المتسلطين ،يتحكمون
في مصائرهم وعقولهم ،فمهمتنا عويصة .ما دامت المساجد نطرد منها ليحتلها صنائعهم
ومداحوهم ،فمهمتنا عويصة.
390
ومتى أذن اهلل لنا أن نمسك الزمام تكون مهمتنا أعوص.
تطهير األجهزة ،ومنابر الرأي ،والمدارس ،والجامعات ،من صنائع الفكر الجاهلي
ودعاة اإللحاد.
تحويل الرأي العام ،وتبليغ كلمة الحق ،وتوطيد المفاهيم اإلسالمية ،وتحقيق هذه
المبادئ في برامج صالحة للتنفيذ وتنفذ بالفعل.
ومن األجيال المتكاثرة ،المباركة إن شاء اهلل ،المتزاحمة على األرض ،ومقاعد
المدارس ،وصحون الطعام ،تبرز إن شاء اهلل هذه الهمم.
ما يكون في يد غيرنا خط ار داهما وعائقا مانعا -كتكاثر السكان – يكون لنا إن
شاء اهلل َّ
وسدد وهدى ،رافدا وعونا.
حقيقة التمكين في األرض أن تكون الدولة والسلطان بيد رجال الدعوة الساهرين
على الدين ،القائمين بالقسط .األمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة التمكين
تصرف متكامل شامل بيدي القرآن والسلطان ،بالترغيب والترهيب ،بالتطوع والطاعة.
1احلج41 ،
391
لماذا نسعى إلقامة الدولة اإلسالمية؟ أهي غاية أم وسيلة؟ من الناس من يكتب أن
غاية اإلسالم إقامة الدولة .فيجعل الدين كله وسيلة .والقرآن يقول غير ذلك.
اآلية تحدد واجب المؤمنين يوم يورثهم اهلل األرض ويستخلفهم فيها .معناه أن قيام
دولة اإلسالم وسيلة إلقامة الدين.
وفي انتظار ذلك اليوم ،يوم تقوم دولة اإلسالم لتقوم بواجبها وهو إقامة الدين واألمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،إو�عدادا له ،نجد التعليم النبوي في حديث« :من رأى منكم
منك ار فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اإليمان»
رواه اإلمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
في اآلية الكريمة وردت كلمتا المعروف والمنكر معرفتين بالم العهد .فالمفروض
أن المؤمنين الممكنين في األرض يعرفون ما هو المعروف وما هو المنكر ،فال يبقى
لهم إال التنفيذ.
وبين اآلية وهي تخاطب الجماعة ،والحديث وهو يخاطب بكلمة «من» األفراد أساسا،
توزيع لواجب األمر والنهي ،وتمييز لنوع العمل المطلوب .فإن المعروف والمنكر المعرفين
بأل في اآلية يفيدان ،زيادة على أنهما معهودان معلومان ،العموم .الممكنون في األرض
يجب أن يقيموا الدين كل الدين ،أن يأمروا بالمعروف كل المعروف ،أن ينهوا عن المنكر
كل المنكر.
والكلمة في الحديث وردت منكرة ،فهي تبعض المنكر ،وتشير إلى الحاالت العينية.
فعلى مستوى الدعوة والسلطان حين يجتمعان واجب إعزاز كلمة اهلل إو�عطاء
الهيمنة التامة لشرعه.
وعلى مستوى األفراد واجب متابعة األمور عن كثب ،يوما بيوم ،وخطوة خطوة ،في
392
كل مكان ،وعلى كل األحوال ،لتكون يقظة المسلمين العامة ،ومراقبتهم الحاضرة ،هي
القوة التنفيذية في مجال التفصيل ،تحت هيبة الدعوة وسلطان الدولة.
إن واجب جهاد األمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختلف معناه يوم تقوم الدولة
اإلسالمية عن معناه العامي الذي ألفناه تحت الحكم الجبري ،وأعطته قرون فساد الحكم
في ضمير المسلمين ركودا من ركودها ،وخموال من خمولها ،وتقلصا إلى نشاط هامشي،
متروكة فيه المبادرة لبعض ذوي الغيرة ،في بعض المواقف ،في بعض األحيان.
إن معناه والدولة اإلسالمية قائمة سهر أولي األمر على الشؤون العامة ،إو�فساح
المجال للمسلمين والمسلمات ،بل تربيتهم ليساهموا في السهر العام بمشاركتهم اليقظة.
بعضنا ،تحت وطأة الجبر ،يحرف واجب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
يصرف حدته بادعائه ،وحمل شعاره ،في تخريب الدعوة.
بعضنا ينسى الناس بتعاميه عن المنكر األكبر ،وهو شيطنة الحكام ،واجبهم
األول ،ويتجند ويجند معه ِ
أخفَّاء من الناس ليهاجم المصلين ،يبدع هذا ،ويكفر ذاك،
ويبطل صالة الشيوخ العاكفين في محرابهم.
بعضنا ينشط إن سمحت له األنظمة الشيطانية أن يكر على بعض الحانات ،في
بعض األوقات ،أو أن يكتب ليندد بالمناكر الجزئية التي تعج بها البالد ،ويرزح تحت
ويلها العباد.
ال نبدد جهودنا في مالحقة ظواهر المرض ،يأكل طاقاتنا السخط ،ويفتت عزائمنا
في آهات التسلية النظر إلى تعدد المناكر ،وفشوها ،وفداحتها ،وعدواها ،وعجزنا عن
تكميم األفواه الفاجرة ،وزجر الزناة والسكارى ،إو�غالق الحانات والسنمات ،وكسر
التلفاز حامل العهارة ورائدها في القصور والدور واألكواخ حمال يسوي بين كل طبقات
األمة في حضيض األخالق وعفن المنكر.
ال تُفن عمرك في التأسف على الثمار السامة ،بل اقطع شجرتها َي ْفن معها السم.
393
ال يمكن أن ننتظر من األفراد ،وال الجمعيات ،أن تقوم بواجبها في األمر والنهي،
وال أن يكون لذلك معنى ،ما دام روح المنكر وجسده ،وينبوعه ،ولحمته وسداه بيننا ،أال
وهو الحكم الفاجر الكافر.
إن أضعف اإليمان التغيير بالقلب .ويقوى اإليمان ويأتي التغيير الحقيقي إن نحن
تعلمنا كيف نجمع سخط المسلمين على المناكر الجزئية لنصنع منه سخطا عاصفا
يمحق دابر الفساد ويأتيه من قواعده.
إو�ن أقوى اإليمان بالمقابل هو تغيير المنكر باليد واللسان .ويضعف نتاج هذا
اإليمان ،بل يأتي بالنتائج العكسية ،إن هو انصرف لالحتجاج ،والتذمر ،واللعن ،وشتم
الواقع ومالحقة الزجاجات تكسر ،والمجرمين الصغار ،والفجار العابثين ،حتى يصبح
ذلك متنفسا للضمير اإلسالمي المعذب ،وحتى يصبح آخر األمر الفتك بعاهر في
الشارع ،واقتحام حانة ،أهدافا في حد ذاتها.
عم تتولد المناكر؟ أين عشها؟ كيف تفرخ؟ كيف تنمو؟ من حاميها ومخططها؟
َّ
اتبع الجذور تجد المنكر ينبت في أرض الجاهلية هناك ،ويفرع في أرضنا بواسطة
شتالت بشرية عقلها هناك ،وقلبها وهواها ووالؤها .فلماذا تصرف الجهد أسى على ثمار
الفروع؟
اجتث الشجرة من أصلها .أَغلق الباب الذي منه تهب رياح الكفر والفساد!
إن صوت اإلسالم يسمع اليوم في العالم أكثر من أي وقت مضى منذ انهيار
«الخالفة» العثمانية المسلمة .فأي خطاب يوجهه جند اهلل لألمة وللناس قاطبة؟
فتحت القومة اإلسالمية في إيران باب المجد للكلمة اإلسالمية إذ بزت بشمولها
وعمقها كل حركة في تاريخ الثورات ،وأسكتت فصاحتها كل خطيب ثوري بصمود
شعب بأكمله أمام الدبابات قبل التحرير ،وأمام كيد الجاهلية ومؤامراتها ،وأمام حرب
394
«صدام» يد الجاهلية على اإلسالم ،وأمام األعباء الجهادية على كل الواجهات إلصالح
ما كان أفسده الحكم الجبري ،إو�عادة بناء الهياكل التي تهدمت على رأس صنائع الجاهلية.
وجدد لنا جهاد أبطالنا في أفغانستان ذك ار في العالمين ،أتم اهلل لنا النصر المبين،
له الحمد وبه نستعين.
حرب شديدة إلقناع المسلمين في العالم أن الخميني شيطان متعطش للدماء وأن
علماء المسلمين همج سفاكون ،وأن أسد الجهاد ضد الروس شرذمة متمردون.
وحرب يشنها اإلعالم اليساري في بالدنا ليقنع النشء أن اإلسالم رأسمالية وظلم
طبقي ورجعية.
نقاومها بجهاد إثبات الحق إو�قامة الحجة .وال بد لنا من مال ووسائل.
خطابنا اإلسالمي-أي طرحنا لقضايا اإلنسان كما طرحها الكتاب والسنة وسيرة
السلف الصالح -دون المستوى المطلوب بكثير.
شي ٍء} ِ ِ ِ ِ
يقول اهلل تعالىَّ { :ما فََّر ْط َنا في الكتَاب من َ ْ
1
فالعي في الخطاب ،والعجز عن إثبات الحق في العقول ،وعن تبليغه لألسماع ،ناتج
عن قصورنا.
ولطالما كمم العلماء عن الكالم ،وسلسلوا في عجلة الحكام ،ونبذوا في زاوية اإلهمال
1األنعام38 ،
395
طيلة هذه القرون فاليوم واألنوار الكاشفة من كل مكان مسلطة على «الصحوة اإلسالمية»،
وعلى طليعتها بأفغانستان إو�يران .اليوم ومكر الكلمة يواكب مؤامرات اإلبادة إلخماد جذوة
اإلسالم ،إو�سكات صوته ،ومسخ رسالته في فهم الناس ،اليوم ونحن أمام المواجهة ،ماذا
نريد؟ ما هو اإلسالم؟ ما حلوله لمشاكل اإلنسان؟
منا معشر المتحدثين عن اإلسالم ،والمهتمين له ،والعاملين عليه ،من يتصور
العلم الالزم ،والمنهاج المطلوب ،على شكل دراسات جامعية ،موثقة ،غزيرة المصادر،
متفرعة المباحث ،مستقية من مشارب التراث اإلسالمي الضخم.
كم وكتب.
وكأنما مشكلنا مشكل ٍّ
منا من يتطرف فيدعو لالجتهاد المطلق ينسى أن ما أصَّله علماؤنا من فقه الفروع،
وما استقرت عليه المذاهب الفقهية من مناهج ،كسب خالد لألمة ،ال حاجة بها أن تفني
جهودها لتعيد االستنباط الفقهي ،ملغية علم من تقدم.
يقول المقلد« :ما أصح علم من تقدم!» و»ما ترك األول لآلخر؟».
ويقول المتعالم« :ال شيء إال الكتاب والسنة!».
ينسى األول أن الزمان غير الزمان ،والناس غير الناس ،فقه من تقدم في الميادين
الفرعية نستصلحه .أما ترويض الواقع المنكر ،وتغييره ،ومعالجته حتى يستقيم على
القواعد الشرعية ،فهذه عملية ما كان لمن قبلنا بها خبر ،وال عندهم لها تصور.
وينسى الثاني أنه حين يقول« :ال شيء إال الكتاب والسنة» أن قائلها مقحم في
الحكم ،فهو يقول ضمنيا« :ال شيء إال الكتاب والسنة باجتهادي أنا ،وفهمي أنا».
396
وهكذا يتج أز طرحنا لقضايا اإلنسان ويتشتت.
إننا بحاجة ُلنفهم العالم اإلسالم ،بحاجة إلى لغة ،إلى خطاب.
ألعدائنا حجة ثقيلة ضدنا حين يختصرون اتهامهم في جملة« :اإلسالم رجعية!»
حجتهم من قبيل المغالطة لكنها ثقيلة الوقع على األسماع ،والتأثير على العقول،
حين يربطون اإلسالم -الرسالة -بواقع الحكم الجبري ،وتردي المجتمعات المسلمة،
وتخلف فكرها واقتصادها ،وقوتها العسكرية والصناعية ،وفشو الظلم الطبقي واستبداد
المستكبرين.
وال يجد المعجب المطلق المقلد المطلق ،لمن تقدم ،من حجة تقارع حجتهم إال
باإلطناب في مدح اإلسالم.
وال يجد المتعالم حجة إال بزيادة تشدد في الفروع ،واعتداء بالقول ،والتشهير على
مسلم يصلي بالسدل ،وعجوز تتمسح باألضرحة.
بحاجة نحن لخطاب يبلغ األسماع ،ويخرق أسوار الحصار اإلعالمي ضد اإلسالم،
ويقارع كتائب الغزو الفكري .والمنفذ التاريخي فتح والحمد هلل بالصحوة اإلسالمية،
وهتافات النصر في إيران أن «اهلل أكبر» .والحجة جهادنا المظفر إن شاء اهلل في
أفغانستان.
ال أقصد بالطبع أن نصوغ إعالما مضادا .رد فعل للهجمة .إعادة صدى لصوت
اآلخر مع تغيير نبراته.
أقصد نظرة اجتهادية إسالمية شاملة شمولية تبين للمثقف والعامل والفالح ،والرجل
والمرأة ،والصديق والعدو ،كيف يصبح القرآن ،وهو طلبة المسلمين المستضعفين ،قانونا
عمليا يوجه الحياة اليومية ،ويقسم األرزاق ،وينظم االقتصاد ،ويصنع البالد ،ويسلح
العباد ،وينصر دين اهلل في األرض.
397
أقصد علما إو�عالما وتطبيقا إلسالم العدل ،إلسالم الكرامة ،إلسالم الخبز اليومي
وأسباب الكسب الشريف ،والتحرر من التبعية ،وهزم جيوش االحتالل ،إو�عادة فلسطين،
وأفغانستان وبالد اإلسالم.
وكل يخاطب على قدر عقله ،في األثر« :خاطبوا الناس على قدر عقولهم.
أتريدون أن يكفر اهلل ورسوله؟».
فالمخاطب بمقامات اإلحسان والعرفان والتقرب من اهلل هم كافة المؤمنين .وال يفهم
هذا الخطاب وال يستجيب له إال من خصهم اهلل برحمته.
أما المخاطب بالعدل ،بالكرامة ،بالخبز ،بالصحة ،بالمدرسة ،بالهم اليومي ،فهم
عامة بني اإلنسان .والمسلمون أحوج بني اإلنسان ،وأضعف المستضعفين في األرض
على هذا العهد ،نسأل اهلل أن يبدلنا بذلنا عزا ،وبضعفنا قوة ،وبحاجتنا وفقرنا غنى
وسعة.
وبين الخطاب باإلحسان والعرفان ،والخطاب بالعدل ،مساحة خصبة ،يتموج فيها
الخطاب القرآني ليناجي الروح في أشواقها ،والنفس في أغوارها ،والعقل في تجريده،
والجسم في حاجاته.
وألننا ال نحسن أن نخاطب بمعاني القرآن جيلنا وزماننا يبقى القرآن آيات تتلى
تعبدا ،وتبقى السنة النبوية زينة ثقافية ،وكن از يليق به أن توصد عنه ميادين الواقع .وهذا
ما يريده من مصلحتهم أن ينام المسلمون .أن يعودوا للرقاد .وهيهات!
خطاب اهلل تعالى في القرآن ،وتعليم اهلل إيانا كيف نحاج ونخاطب يتراوح بين
الترغيب والزجر ،بين اللين والقوة.
1
{يا يحيى خذ الكتاب بقوة}.
ش ْي ٍء ظ ًة وتَ ْف ِ
صيالً لِّ ُك ِّل َ اح ِمن ُك ِّل َ ٍ
ش ْيء َّم ْو ِع َ َ { َو َكتَ ْب َنا لَ ُه (موسى) ِفي األَ ْل َو ِ
1مرمي12 ،
398
1
ْها ِبقُ َّوٍة}.
فَ ُخذ َ
ول ولموسى قال اهلل تعالى وألخيه { :ا ْذ َه َبا إِ لَى ِف ْر َع ْو َن إِ َّن ُه َ
ط َغى فَقُ َ
2
لَ ُه قَ ْوالً لَّ ِّيناً}.
إن التعامل مع الكافر الصريح كفرعون واضح سبيله .ولين الكلمة من رجل أو
رجلين أعزلين هو الدين.
1األعراف145 ،
2طه44 ،
3النساء63 ،
399
ما لهجة الخطاب لعامة المسلمين؟ لمن ندعوهم أن ينصروا الدعوة؟ لمن نعلمهم
دينهم؟ لمن هم ضحية البوار والظلم؟
1
س ِديداً}.
آم ُنوا اتَّقُوا اللَّ َه َوقُولُوا قَ ْوالً َ ُّها الَِّذ َ
ين َ قال اهلل تعالىَ { :يا أَي َ
كلمة عامة :السداد :وهو استقامة الكلمة ،وبلوغها هدف البيان والتفهيم والتسديد
إلى العمل.
إن الخطاب القرآني الموجه إلى الفطرة البشرية هو الخطاب الشامل ،هو لغة
الجهاد .إن أسلوبه الجامع المانع اإللهي المتموج المتالئي بين اإلنذار والبشارة ،بين
الترغيب والترهيب ،بين االستنهاض والزجر ،بين التحريض العاطفي والتنوير العقلي،
لهو وحده القادر على تبليغ دعوة اإلسالم واإليمان والجهاد إلى أعماق القلوب .وهو
وحده الكفيل أن يجعل لخطابنا الهيبة والنور والفاعلية التي تحول الكالم عمال ،والفكر
إنجا از والشريعة اإللهية قانونا يحكم في األرض ،يعلو وال يعلى عليه.
ابتليت أمتنا بالفكر المترجم بالفكر الفلسفي اإلديولوجي .فتق أر وتسمع خطابا بألفاظ
عربية ،لكن بمعان تلعنها لغة القرآن.
ال حاجة بنا إلى حكاية لغة اإلديولوجيات والفلسفة لكي يفهمنا ممسوخو الفكر.
لما جاء عتبة بن ربيعة ،وكان أعلم قريش بالسحر والكهانة والشعر إلى رسوله اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،وخاطبه خطابا بليغا يشتم الحبيب ،ويهدده ويغريه للرجوع عن دعوته
بالمال والرئاسة ،لم يكن من المصطفى صلى اهلل عليه وسلم إال أن أجابه بالقرآن.
توعد المشرك وقدم وجهة نظر قومه .فلما سكت قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم« :فرغت؟».
1األحزاب70 ،
400
كلمة واحدة تفصل بين الحق والباطل .كلمة هادئة ال يستفزها الكالم الساخر
الشاتم.
إو�ن نحن قصرنا خطابنا وردنا على من نحاجه في حيز التحركات الدنيوية ،ولم
نذكر اآلخرة ،ولم نصور لخصمنا ولمن ندعوه الموت وما بعدها ،واآلخرة وحسابها،
والموقف وأهواله ،والجنة والنار ،ال يكون خطابنا إسالميا ألنه ال يكون بذلك قرآنيا.
اق أر سورة فصلت التي خاصم بها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
إن خطاب أعداء اإلسالم وخصومه خال من ذكر اهلل عز وجل ،مادي بحث.
خطابهم يدور حول الكتل البشرية ،والتاريخ ،وداء الطبقية ،والصراع بين الدول ،وأمراض
االقتصاد ،والهيمنة المشتركة بين العمالقين (في وقتنا) على الكرة األرضية ،وحالة
االستهالك في هذا البلد وذاك ،والسالح ،والحرب والسلم ،واألحالف .هذا إلى جانب
الخطاب عن الثقافة ،واللهو واللعب ،والغانيات والعبث.
خطابنا ال بد أن يعطي لكل سؤال مادي تطرحه حالة العالم جوابا مستمدا من شرع
اهلل وهدي نبيه .ولن يكون الجواب عن أسئلة أهل األرض إسالميا إال إذا ربط بين الدنيا
واآلخرة ،بين حاجات الجسم في رحلته ،بين الوالدة والموت وبين حاجات اإلنسان (وما
اإلنسان إال النفس الساكنة في الجسم ،المرتحلة عنه بالموت) أن تزكو نفسه بالطاعات
والعبادات ،لتكون دار الخلود بالنسبة إليه دار نعيم ال دار شقاء.
يشيد أعداء اإلسالم بشمولية فكرهم في زعمهم ،يظنون أنهم بلغوا قمة الذكاء
والوعي التاريخي والسياسي حين يطرحون مشكل اإلنسان ،وسير التاريخ ،وعالج
401
أمراض المجتمعات البشرية بواسطة الصراع الطبقي ،ومراقبة التطور التاريخي وتطبيق
االشتراكية.
حقيقة الموت طويت في خطابهم .اإلنسان الفرد ذاب في المجموع .في الصراع
الطبقي ال وزن للفرد وهمومه ،وشقائه وسعادته في الدنيا التي ال يؤمنون بغيرها فأحرى
في اآلخرة التي ال يرجونها.
شمولية الفكر الجدلي المزعومة ما هي إال إدراك سطحي جدا ما دامت ال تتعرض
للمصير الجماعي التاريخي إال لتطوي وتذيب وتنسى مصير اإلنسان بعد الموت .هذه
الشمولية المزعومة يكفينا في فضحها تقويم نتائجها األرضية من خالل ما يكشفه نزالء
جهنم الشيوعية من وجود «كوالك» وهو عبارة عن سجون اإلبادة والتعذيب ،ومن وجود
«نؤمنكالتورا» وهي عبارة عن طبقة الحكام المهيمنين على كل شيء.
يبقى لنا بعد افتضاح اإلديولوجية بضآلة نتائجها ،بل بوحشية نتائجها الفظيعة،
أن نقدم -على مستوى الخطاب والجدال والتفهيم– اإلسالم في إيجابيته .نتحدث عن
اإلنسان في شموليته .عن مصير المجتمعات التاريخي ،وعن مصير اإلنسان الفرد
المدعو إلى اهلل .مصيران مشتبكان متعانقان .ونربط مصير المجاهد بمدى سعيه
لتحقيق مصير العزة ألمته .فإن اهلل تعالى إنما وعد الشهيد بالحياة الخالدة في النعيم
ألنه يسعى بجهاده وبذل حياته في إحياء أمته.
شمولية الخطاب القرآني تدمغ الفكر الجدلي عندما نقدم تصورنا لمفهومي االستكبار
واالستضعاف ،وعندما نعبئ جهودنا ،أثناء الزحف وبعد قيام الدولة اإلسالمية ،لننصر
المستضعفين في األرض على المستكبرين.
المفهومان القرآنيان أوسع وأكرم وأكثر اهتماما باإلنسان ونشله من الظلم .ويزيدان
بعد ذلك أنهما يعطيان البعد النفسي ،بل السبب النفسي ،للصراع بين المستكبرين
والمستضعفين ،كما يعطيان البعد االجتماعي (الترف) ،والبعد السياسي (المأل) ،ثم
يعرض لنا القرآن المستكبرين جملة ،ومن رضي من المستضعفين بالظلم ،خنع ولم
يجاهد ،وبقي على دين المستكبرين .يعرض لنا حجاجهم .أين؟ في النار.
402
استَ ْك َب ُروا إِ َّنا
ين ْ ُّعفَاء ِللَِّذ َ ِفي َّ
الن ِ
ار فَ َيقُو ُل الض َ قال اهلل تعالى َ { :إوِ� ْذ َيتَ َحاج َ
ُّون
استَ ْك َب ُروا إِ َّنا ُك ٌّل
ين ْ ال الَِّذ َ الن ِ
ار قَ َ َن ِ
صيباً ِّم َن َّ ون َع َّناُك َّنا لَ ُك ْم تََبعاً فَ َه ْل أَنتُم ُّم ْغ ُن َ
اد}. ِفيها إِ َّن اللَّ َه قَ ْد ح َكم ب ْي َن ا ْل ِعب ِ
َ َ َ َ
1
َ
تأكلنا الشيوعية إن لم نعلنها داوية ،ولم نحققها كاملة ،أن اإلسالم دين العدل
وحامي المستضعفين.
ويجرف إيماننا جرفا إن لم نجعله جهادا في سبيل اهلل قبل أن يكون جهادا في
سبيل المستضعفين .أعني أن ال نفصل بين حق اهلل علينا أن نعبده ونكون خلفاءه في
األرض ،وبين ما يفرضه علينا االستخالف من إنصاف المظلوم ،ونصرة المستضعف،
وبث اإليمان .إو�ننا لنق أر فيما يكتبه بعضهم أن الصالة وسائر العبادات إنما هي تدريب
للعبادة الكبرى وهي إقامة الدولة اإلسالمية .هذا هو اإلسالم السياسي الذي يسوي دين
اهلل باألرض.
تنبأت اإلديولوجية االشتراكية بسقوط الرأسمالية منذ أمد ،وال تزال تتنبأ .وفي خضم
األزمة االقتصادية الحالية العامة تبدو حظوظ البقاء بالنسبة للمذهبين الجاهليين،
ولحضارتهما الملغومة بالكفر العام ،وبالسالح النووي ،وتنازع النفوذ في العالم ،على
حد سواء.
إن كانت الرأسمالية أعتى وأقدر على التطور مع األحداث فإن الشيوعية أعنف
وأشرس.
اإلسالم ال بد أن يبرز ويتولى القيادة .وعد اهلل ،وكان وعد اهلل مفعوال.
لكن إن كان جهاد الحجة مؤكدا لدحض اإلديولوجيـات والفكر الجدلي فإن آكد منه
1غافر48-47 ،
403
التهيؤ لنزال الرأسمالية -وهي العدو األول -في معاقلها .في االقتصاد يهيمن عليه اليهود،
في اإلعالم ،في الحرب ،في تحرير األرض ،في ميدان المال -مالنا الذي يدفعه سفهاؤنا
اليوم للتَّرابي العالمي ،-في ميدان العلم والتكنولوجيا ،في ميدان التنظيم والسياسة واإلدارة
والتصنيع.
ال بد من تعبئة شاملة ،فإن إبطال الباطل إو�حقاق الحق ال يكفي فيه جهاد الحجة،
إنما يكون هذا قد أدى مقصوده إن كان حاف از للتحرك ،والزحف ،والنزال ،والصمود حتى
النصر ،وبعده إلى يوم القيامة.
في فترة من فترات «الصحوة اإلسالمية» ،في أوائلها ،يكون الخطاب اإلسالمي،
والتحرك اإلسالمي ،تعبي ار عن الرفض والمعارضة للظلم االستكباري والتعسف الجبري.
وفي يوم ما -كما حدث في إيران -يصل المؤمنون إلى سدة الحكم ،ويحتاجون
أن يكون الشعب بأجمعه إلى جانبهم ،متجاوبا ،منفذا ،مستميتا ،ليصد العادين ،ويمنع
النكسة ،ويبنى الخير.
فلنبدأ تعبئتنا قبل أن تدق ساعة انهيار الباطل لئال تفاجئنا األحداث.
إن مشاكل األمة متشعبة ،ومهمات البناء ثقيلة ،وال ينهض لها إال األمة كلها حين
تستيقظ وتشارك ،حين تحيى من موت االستسالم ،حين تمسك أمرها بيدها ،وهم جند
اهلل المقاتلون في سبيل اهلل والمستضعفين.
مشكالت سياسية :وجود أنظمة إن قوضت وقصمها اهلل لظلمها فسيبقى بعدها
مخلفاتها من أحزاب متعددة أو حزب واحد ،من طبقة مترفة مجرمة تحن إلى الماضي
وتكيد إلرجاعه ،من تكتالت يسارية ويمينية –من يسار الجاهلية ويمينها ،-من تجمعات
قبلية عشائرية ،أو ثقافية سياسية ،أو مصلحية ،تناوئ اإلسالم ،وتكيد للقومة .وفي إيران
أنصع مثال لكل هذا ،وأرجى مثال حتى اآلن لتعبئة األمة وراء علمائها.
404
ثم مشكالت اجتماعية :تزايد عدد السكان ،الهجرة من البوادي للحواضر ،سوء
توزيع الملكية الزراعية ،فساد العالقات بفساد القضاء واإلدارة والذمم الفردية ،فساد
العادات والذهنيات ،وسيطرة التنافس على الدنيا ،واألنانية.
ثم مشكالت مرتبطة بالفساد السياسي واالجتماعي :اقتصاد نصب ليخدم مصلحة
المترفين ،ثروات حرام نشأت عن االبتزاز والرشوة واستغالل النفوذ والسرقة من األموال
العامة .نفوس ألفت الكسل ،وعقول ركدت على الجهل ،وتخدر حسها بفعل اإلعالم.
انتشار الزنا والخمر والميسر وسائر الموبقات.
ومهمات تنظيم جند اهلل قبلها تحت ضغط هذا الواقع القاتم الثقيل المعادي لنا مثل
الجبال.
بعد القومة نجد أنفسنا إن شاء اهلل أمام واجب تحرير األمة من كابوس االستكبار
خارجيا كان أو داخليا .ونجد أنفسنا وجها لوجه مع واجب التنمية االقتصادية ،إو�عادة
توزيع الثروات ،ومع التخطيط الالزم ،وواجب التنفيذ لمخططات التعليم والتقويم ،إو�عداد
األطر ،وتنسيق الجهود.
إن هذه المهمات الضخمة ال سبيل إلى إنجازها بمجرد تقنينات الدولة ،إو�مالء إرادة
الحاكم على أمة مستسلمة لكيد أعداء اإلسالم.
405
«أنت على ثغرة من ثغور المسلمين ،فال يوتين المسلمون من قبلك!».
هذا الجند المنتشر في الثغور ،المعبأ للعمل ،المشمر لمواصلة الجهاد ،لن يتكون
بالتشريع بعد القومة ،وال بالخطب والتهييج ،وال بمطارق الشعارات في أجهزة اإلعالم
وعلى الالفتات.
هذا الجند يجب أن نسعى لبذر غرسه في األرض من قبل .يجب أن نسقيه على
قنوات التربية بماء اإليمان ،حتى يشب ويستغلظ ويستوي.
يجب أن يبث جند اهلل نور اإليمان في القلوب ،ونور العلم في األذهان ،وقوة اإلرادة
في العزائم ،وشدة المراس وطول النفس في النفوس .يجب أن يدربوا المهارات ،ويروضوا
الجسوم ،ويقووا العضالت ،لحمل سالح المقاومة ،ومعول الهدم ،وآلة اإلنتاج والبناء.
جند اهلل في الميدان عمال ورشة ،وحرس قومة .وال أضمن لنجاح القومة من
انتصارها في معارك البناء .إو�ال فكيد المغربين ينتصر إن واتاه فشلنا في التعبئة
والبناء.
يختلف جهاد اإلسالم وتعبئته عن تعبئة غيرنا و»نضالهم» بأننا ننوي بالجهاد
والتعب في سبيل اهلل التقرب إلى اهلل .ننوي بالتجافي عن الدنيا واحتقار راحتها وبذل
مالنا ونفسنا وجهودنا في سبيل اهلل أن يرحمنا اهلل عز وجل ،فيمتعنا بنعيم اآلخرة،
ويعطينا بدل حياتنا هذه التي نعطيها حياة النعيم األبدي .ننوي باجتهادنا في األعمال
الصالحة أن يكافئنا اهلل تعالى باألجر العظيم الكريم الذي وعدنا.
ما تحركنا على األرض كتحرك غيرنا .لذا كان جهاد المؤمنين األولين عاصفة قضت
على االستكبار ،ورحمة للخلق المستضعفين ،وقوة مقاومة ومناعة وعز.
406
في غزوة الخندق هجم العدو بحشوده ،وكان البد من تعبئة المسلمين جميعهم
لحفر الخندق .شارك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأعطى المثال من نفسه .ونهض
المسلمون كلهم خفافا إلنجاز هذه الخدمة الملحة المستعجلة .وسرت فيهم حماسة
استعلت فأصبحت عزمة ماضية.
الهبة شعور جديد بذاتية جهادية ،ذاتية جماعة ملتحمة التحاما وصحب هذه َّ
عضويا حول الرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .ذاتية روحها البيعة له صلى اهلل عليه
وسلم ،ورائدها التشوف لجزاء اآلخرة وخيرها.
اق أر هذا الشعور وااللتحام والتشوف في الحديث التالي :روى البخاري عن البراء
بن عازب رضي اهلل عنه قال« :لما كان يوم األحزاب وخندق رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه ،وكان
كثير الشعر» .وروى البخاري عن أنس رضي اهلل عنه أن األنصار والمهاجرين كانوا
يرتجزون وهم يحفرون الخندق وينقلون التراب على متونهم.
فيجيبهم النبي صلى اهلل عليه وسلم« :اللهم إنه ال خير إال خير اآلخرة ،فبارك في
األنصار والمهاجره».
الرسول القائد ينقل التراب! ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل.
التعبئة اإلسالمية لن تكون كذلك إن أمليت من أعلى ،إن لم يستو جند اهلل قيادة
وصفا مع الشعب في القسمة؛ قسمة األرزاق وقسمة األتعاب.
هؤالء هم جند اهلل يحفرون وينقلون في نشاط .وكيف ال ومعهم الحبيب نموذج
النشاط واالجتهاد!
هؤالء هم يدرجون على األرض في فرح وهمة ،وقلوبهم نشوى بمعاني البيعة التي
ون اللَّ َه}. تربطهم بالسماء{ .إِ َّن الَِّذ َ
ين ُي َبا ِي ُعوَن َك إِ َّن َما ُي َبا ِي ُع َ
1
1الفتح10 ،
407
وهذا هو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وجسده الشريف يغطيه الغبار –والغبرة
في سبيل اهلل من أوسمة الجهاد -وهو يربي وسط هذا االنشغال ،ووسط هذه الزحمة
والهول .يرفع العواطف واألفكار لتستهين بالدنيا وما فيها وتتعلق باهلل عز وجل
وباآلخرة.
فحين يقول غيرنا« :تعبئة من أجل التنمية واإلنتاج» ،نقول نحن« :تعبئة تنمية
إو�نتاج وتعليم وتحرير من أجل نيل رضى اهلل».
لسوق الفالحين
حين يتحدث غيرنا عن أهداف الخطة االقتصادية ،ويلتمس وسيلة َ
والعمال في مسيرة اإلنتاج االشتراكي الشيوعي المبنية على المكتبية و»االنضباط
الثوري» الذي يستعبد العامل والفالح ،نهب نحن إن شاء اهلل استجابة لداعي اهلل
تعالى الذي استعمرنا في األرض ،واستخلفنا فيها ووعدنا بالجهاد للعمارة والخالفة
جزاء الجنة ورضاه.
وعندما يستفحل وباء الرأسمالية ويطوق عنق العامل والفالح والشعوب المستضعفة
بطوق هيمنته ليمص الدماء ،نقوم نحن إن شاء اهلل القومة الكبرى ،ومن ضمنها القومة
االقتصادية.
-7الجهاد السياسي:
أمة منكم .أمة خاصة من األمة العامة .جماعة ملتئمة متضامنة ملتحمة ،كما تدل
على ذلك كلمة «أمة».
إن المسلمين من لدن فساد الحكم وانتقاله من نبوة وخالفة راشدة إلى ملك عاض ثم
جبري ألفوا على مر القرون الوضع الشاذ الذي يكون فيه الحكام المغتصبون كل شيء.
408
عاشت األمة هذه القرون في «غياب مذهل» لألمة الخاصة ،وهي «جماعة
المسلمين» التي أمر اهلل أن تكون منا.
تألفت على مر تاريخنا جماعات تطالب بالحكم ،منها ما كان عملها شرعيا سماه
علماؤنا قومة (القائم من آل البيت) ،ومنها ما كان عصبية إو�رادة تسلط على الحكم
إلبدال طاغوت بطاغوت سماه علماؤنا ثورة.
لكن جمهور األمة وقاعدتها عاشت على ذهنية خاملة .على ذهنية أنها رعية ترعى
دون حق لها في االعتراض ،وأن الحكم المنتصب شرعي مهما كانت جرائمه.
هذه الذهنية اآلن ال تزال سائدة ،إو�ن كانت الصحوة اإلسالمية المباركة تزيل عن
األعين شيئا فشيئا هذه األوهام المزمنة.
وقد انجلت ضبابة الثورية اليسارية والحمد هلل في إيران ،وضرب إخوتنا الشيعة
أروع مثال لما يحدثه الغضب هلل وللمستضعفين .وما غضبة المجاهدين في أفغانستان
وحركتهم بالتي تجد لها مثاال في أي تاريخ.
بعض المسلمين ،بل كثير منهم ،يقولون« :مالنا وللسياسة!» وكان التصور الغربي
للدين بأنه شأن خاص بين العبد وربه (رولجيون) قد استقر في هذه الرؤوس المسكينة
حتى أصبح دينهم الشامل لكل شؤون الحياة والممات ،والدنيا واآلخرة ،والسماء واألرض،
409
والزمان والمكان والكون ،غريبا عنهم.
يجب أن ينصب جهادنا السياسي قبل القومة على تعليم األمة أن اهلل أمر أن تكون
منا أمة (أي جماعة) خاصة منظمة ،تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .وأن االنتماء
لهذه الجماعة قربة عظيمة وشرف عند اهلل كبير .وأن هذه األمة الخاصة واجبها األول
أن تنكر المنكر األول وهو الحكم بغير ما أنزل اهلل .وأن تأمر بالمعروف األكبر ،وهو
إقامة دين اهلل ،إو�رجاع الخالفة على منهاج النبوة.
يجب أن نعلم األمة قبل القومة أن واجب المسلمين ،واجب األمة الخاصة بقيادة
علماء األمة المجاهدين ،أن يعارضوا الحاكم .روى أبو يعلى في مسنده والطبراني بسند
حسن أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :ستكون أئمة من بعدي يقولون فال يرد
عليهم قولهم .يتقاحمون في النار كما تقاحم القردة».
فالرد عليهم حق األمة .فإن تجاوزوا القول المنكر إلى الفعل المنكر فاالعتراض عليهم
واجب .فإن تجاوزوا اقتراف المنكرات هنا وهناك ،والمرة بعد األخرى ،إلى استباحة محارم
اهلل ،إو�لى الحكم المنهجي بغير ما أنزل اهلل ،إو�لى الكفر البواح ،فطردهم واجب مقدس.
وبعد القومة ال بد أن تتألف األمة الخاصة ،أي «الجماعة» ،من كتيبتين رئيسيتين،
تؤديان مهمة التجديد والسعي للخالفة الراشدة:
-1دعوة تتمثل في مؤسسات ورجال مهمتهم تربية األمة ومراقبة التطبيق .ولها
الهيمنة على مصير األمور وعلى الرجال.
-2دولة تتمثل في مؤسسات ورجال وأجهزة إو�دارات تسير الشؤون المادية والنظامية
واالقتصادية .وهي تحت مراقبة وتوجيه الدعوة ورجالها.
وتجتمع مقاليد الدعوة والدولة معا في يد اإلمام القطري قبل التحرير العام،
والخليفة بعده ،ينسق ،ويأمر ،وينهى ،وينظر إلى األسبقيات ،وينصب ،ويعزل،
ويستشير ،ويتخذ القرار.
410
نرجئ الحديث عن هذا إلى فصول أخرى إن شاء عن تصورنا للنظام اإلسالمي
في الحكم.
لكن نسبق هذه الكلمة لنشير إلى غياب الدعوة التي كانت تنطق بلسان آحاد
الناس أمام الخليفة الراشد أبي بكر الصديق« :واهلل لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه
بسيوفنا!».
غابت الدعوة المعارضة الرادة اآلمرة بالمعروف الناهية عن المنكر .وحل محلها
مؤسسات اإلسالم الرسمي ورجاله.
وهذه هي الصحوة وموقفها ،يريد جند اهلل أن يستعيدوا السيادة أليدي المؤمنين،
فتعارضهم األنظمة الفاسدة برجال اإلسالم الرسمي ومؤسساته ،وشعاراته ،ومؤتمراته.
إلى جانب مقاومتها إياهم بالتصفية الجسدية ،والسجن ،والتشريد ،واإلرهاب البوليسي،
واالحتواء باإلغراء والتمييع ،وتشجيع عوامل الفرقة.
فما هي الصيغة أو الصيغ التي ينبغي لجند اهلل أن يتبنوها للتقدم بحركتهم؟ ما
هو الخط السياسي أو المسالك السياسية التي من شأنها أن تتقدم بنا إلى أن نصل إلى
الحكم ،إو�لى أن نبني الخالفة على منهاج النبوة؟
كان سلفنا الصالح يسمون «سياسة شرعية» اجتهادهم في تنظيم الحكم .ويكون هذا
االجتهاد سياسة شرعية إن لم يصدم في نقطة من نقطه ،أو رأي أو استنباط ،مبادئ
الشريعة ،ولم يتجاوز حدودها ،ولم يتقحم عليها.
فمن حقنا إذن وواجبنا أن نجتهد في معارج الزحف وأخطاره ،لنسلك القافلة .ومن
حقنا وواجبنا أن ننوع أساليبنا ،ونراعي الظرف ،والعصر ،والمصر ،ومن حقنا أن نتخذ
الوسيلة الشرعية للهدف الشرعي دون أن نتبلد أمام حيل خصومنا وأعدائنا .نتصرف
على أساس أنها حرب ،وأن الحرب خدعة كما جاء في الحديث.
411
-8جهاد التنفيذ:
إنه ال كالم قبل أن يتكون الجسم المتواد المتراحم ،المتضامن تضامنا عضويا،
المنظم على المحبة في اهلل والشورى والطاعة .ال كالم! أعني ال تأثير في الواقع يرجى.
والكالم قبل وجود الرجال يعبر الكالم عن إرادتهم العازمة ونية جهادهم نوع من إنارة
الطريق عن بعد عسى يجتمع إليها السالكون .وهي طريق الجهاد والموت في سبيل اهلل
لنصر دين اهلل واالنتصار للمستضعفين.
كان الشيخ حسن البنا رحمه اهلل يرى ثالث مراحل للعمل .اإلعالم ،ثم اإلعداد،
ثم التنفيذ.
أقصد بالتنفيذ نهوض الجماعة القطرية لتعلن نفسها أو تسر وجودها ،ثم لتزحف
إلى الحكم ،وتستولي عليه ،وتعيد ترتيب البيت وتوجيه المسار ،وتعرف المعروف وتأمر
به بعد أن تنكر المنكر وتطيح به.
تبدو لنا ثالثة خطوط سياسية ،ال نحصر فيها إمكانات العمل التنفيذي ،إنما
نتخذها وجهات لتأمالتنا.
إن خرق جدران الحصار ،اإلرهابي منه والقانوني ،تحت أنظمة تعلن أنها ديمقراطية،
وأن نظامها مبني على الحريات العامة ،ال يتأتى لنا ونحن في فترة اإلعداد إال بالدخول
في المعمعة التعددية واالنتخابية.
هذا مذهب أستاذ الفكر اإلسالمي الشيخ المودودي رحمه اهلل ووسع له في رحمته.
وانظر في مؤلفاته أصول اجتهاده هذا.
412
المعركة االنتخابية وطالبوا بحقهم في تكوين حزب.
كان رد الحكم الجبري أن كل التوانسة مسلمون ،وأن السماح بتكوين حزب إسالمي
يعني القدح في إسالمية الدولة .مغالطة! يقصد الحكام أن يشعلوا غيرة الشعب وكافة
التنظيمات الحزبية ضد المؤمنين باتهام جند اهلل بالتزمت وتكفير من عداهم.
ومزية أخرى للدخول في االنتخاب ،وولوج ذلك الباب ،هي مزاحمة غيرنا على
كسب الرأي العام ،واالستفادة من التسهيالت الرسمية في التحرك .هي مزية التضييق
على اإلسالم الرسمي إو�سالم األحزاب السياسية التي أصبحت ترفع شعارات اإلسالم
أعلى فأعلى منذ تيقن العالم ،وببرهان إيران وأفغانستان ،أن القومة اإلسالمية هي حقيقة
المستقبل ،وعربونها الصحوة اإلسالمية الصاعدة.
الجواب نقرأه في سيرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقد قبل صلح الحديبية مع
قريش بعد أن عقد معاهدة مع اليهود أوائل مقدمه إلى المدينة.
نقرأه في توجيه القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السالم إذ قال للعزيز:
ِ ِ اجع ْل ِني علَى َخ َز ِ
آئ ِن األ َْر ِ ِ ِّ
يم}.
ض إني َحفيظٌ َعل ٌ َ { َْ
1
فهذا رسول معصوم يتسلل إلى مواطن النفوذ ومنصة السلطة ليبلغ أمانته.
نورد هذا لبعض إخوتنا ممن ينسون في ظروف خاصة ،وهم بعيدون عن الميدان
ومقارع الحدثان ،أن التسرب عبر أشواك الواقع ،وأسالك الحصار ،وتموجات الباطل ،ال
يعني االستسالم لكيد االحتواء المنظم.
1يوسف55 ،
413
ال يعني االستسالم لالحتواء إذا كانت الجماعة على بينة وبصيرة وبقيادة ربانية.
ومن يق أر جهاد الشيخ اإلمام حسن البنا في مراحله وبالتفصيل يكتشف نموذجا حيا
لمكايدة الحكم واألحزاب ومراوغتها .فقد كان رحمه اهلل يظهر الميل ذات الحكم وذات
األحزاب والمعارضة بحسب الظرف والمرحلة .وبمرونته رحمه اهلل استطاع أن يقود السفينة
زمانا.
نعم ظروفنا غير ظروفه .وال يلزمنا ما فعلته األمم من قبلنا .لكن الذكي الموفق من
ينظر في سير الموفقين ومنهم البنا ،رحم اهلل الجميع.
ب -السؤال الثاني هو :ما مصير األحزاب المتعددة بعد القومة؟
إن العقيلة النافذة والتدبير البعيد الغور يقتضيان منا أن نعمل على قول اهلل عز
1
عن َب ِّي َن ٍة}. ٍ ِ
وجل { :لِّ َي ْهل َك َم ْن َهلَ َك َعن َب ِّي َنة َوَي ْح َيى َم ْن َح َّي َ
إننا إن أوقفنا بعد القومة كل األحزاب من غيرنا ال نربي بذلك الشعب ،بل نعطي
للخصوم فرصة ذهبية ليمكروا في الخفاء ،ويترقبوا وقتا يبرزون فيه معارضة من تحت.
الوسيلة إلطفاء الفتيل ،وسحب المبادرة منهم ،هي أن نفسح المجال لكل مخالف
ونسمح له أن يقترح اقتراحاته حتى يفتضح .وأظن أن ماضي األحزاب في بالدنا وحده
كاف ليفضحها ويعيبها في عين الشعب عيبا ال تالفي له يوم يكتشف تحت مجهر
القومة خستها وجرائمها.
نترك كل زاعم يفضح نفسه بنفسه ،وسيكون كل شعار غير إسالمي بعد القومة
شعا ار تمجه األسماع ،وتنصرف عنه العقول والقلوب.
1األنفال42 ،
414
دع أوزارهم الماضية ،وضيق أفقهم ،تقاس باستقامتنا ،وسعة صدرنا ،فيحكم الشعب
بنفسه بعد أن نزيل عنه غشاوة الكذب والتمويه والدعاية الرسمية والحزبية.
ج -السؤال الثالث :هل تتعدد األحزاب اإلسالمية قبل القومة وبعدها؟ هل يجوز
ذلك شرعا؟
في بعض األقطار المسلمون جماعات متعددة فعال .بعضها يسعى للجمع،
وبعضها قبل مبدأ تعدد األحزاب السياسية.
في كتاب اهلل عز وجل وحدة حزب اهلل .وفي سيرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
ان ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ
ين ط ِائفَتَ ِ
وحدة المؤمنين المخاطبين بالقرآن .قال اهلل عز وجل َ { :إوِ�ن َ
َص ِل ُحوا َب ْي َن ُه َما} 1سماهما طائفتين وأمر باإلصالح .وأمر بعد ذلك بقتال اقْتَتَلُوا فَأ ْ
الطائفة الباغية ،أي الخارجة عن الجماعة ،حتى تفيء إلى أمر اهلل.
الحث على لزوم الجماعة من آكد وصايا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .ورد كثير
من األحاديث في الباب صنفها علماؤنا وأئمتنا في ذكر الفتن.
أحاديث كثيرة عند البخاري واإلمام أحمد وأبي داود وغيرهم يأمر فيها الحبيب بلزوم
الجماعة ،ويهدد الخارج عنها.
وقبول هذه التعددية العدائية التي تكيد فيها الجماعة اإلسالمية الجماعة اإلسالمية
وتدس عليها وتنافسها بالبهتان والتزوير على أصوات االنتخاب ،كما تفعل األحزاب
العلمانية ،قبول لشر مبين وحكم بغير ما أنزل اهلل.
نعم كان التصنيف على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم داخل الجماعة كما
يلي :مهاجرون -أنصار -أعراب.
1احلجرات9 ،
415
فكانت «جماعة المسلمين» المسؤولة المنزل عليها القرآن باألمر والنهي ،وطلب
التنفيذ ،وتحميل المسؤولية ،هم المهاجرون واألنصار .يسميهم القرآن باسم واحد حين
ينوه بهم{ :يا أيها الذين آمنوا}.
كذلك في مراحل التجديد إو�عادة بناء األمة ال بد أن يكون مطمح المؤمنين العاملين
لإلسالم المخاطبين بالقرآن تقريب الشقة بين الجماعات المتعددة حتى يستقر األمر على
صيغة تنظيمية يمكن في إطارها التعاون على البر والتقوى إو�عطاء الوالية المفروضة
شرعا بين المؤمنين حقها.
وقد يكون في هذه الصيغة النهائية تعددية تنظيمية يتنوع بينها الرأي ويثمر
االجتهاد وتكتسب المناصحة بين المؤمنين المستقلين في االجتهاد والحركة شفافية
وجدية ويقظة ال تتأتى مع وحدة التنظيم وغلظ الكتلة الواحدة.
على أن يفسح المجال بعد قيام الدولة اإلسالمية لكل جماعة كي تساهم في جو
من التنافس والمسارعة إلى الخير في األمر العام ،دونما إضرار باألخوة الجامعة وال
هتك للحرم المرعية وال إخالل بواجب الطاعة ألولي األمر الذين أبرزتهم الشورى العامة.
هذا واجب شرعي يأثم من يحدث نفسه بغيره .ويستحق النبذ خارج جماعة المسلمين
(ولو كانت هذه الجماعة على صيغة تعددية تنوعية) من دعا إلى عصبية أو ما يشبه
عصبية.
لما قال الصحابي الجليل الحباب بن المنذر يوم السقيفة :منا (يعني األنصار)
أمير ،ومنكم (يعني المهاجرين) أمير رفض طلبه .ولئن كانت ثم بقية من الشعور
باالنتماء إلى القبيلة فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما ترك فرصة ليشجب العصبية
وينعتها بأقبح النعوت إال فعل.
يكفي وصف اهلل العصبية والنعرة القومية بأنها جاهلية ،قال عز من قائل{ :إِ ْذ
416
س ِكي َنتَ ُه َعلَى
َنز َل اللَّ ُه َ
اهِلي ِ
َّة فَأ َ ين َكفَروا ِفي ُقلُوِب ِهم ا ْلح ِم َّي َة ح ِم َّي َة ا ْلج ِ
َ َ ُ َ
َِّ
َج َع َل الذ َ ُ
ان اللَّ ُه ق ِب َها َوأ ْ ِ سوِل ِه َو َعلَى ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ
َهلَ َها َو َك َ ين َوأَْل َزَم ُه ْم َكل َم َة التَّ ْق َوى َو َكا ُنوا أ َ
َح َّ َر ُ
شي ٍء َع ِليماً}. ِ ِّ
ب ُكل َ ْ
1
إن كانت مراحل البناء تقتضي البدء بتأليف الجماعات اإلسالمية القطرية تأليفا،
إن اقتضت الحكمة أن تتخلله تعددية تنويعية ،فال ينبغي شرعا وال سياسة أن تنغلق
هذه الجماعات وتتحجر في كيانات متعادية بل يقتضيها جميعا واجب الوالية العامة
أن تتعاون على البر والتقوى ،وعلى األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وعلى جمع
الكلمة ،وعلى طرح الح اززات الشخصية ،وعلى دعم الدولة اإلسالمية ،وشد أركانها،
والنصيحة لها بعد قيامها ،ليكون تعدد الرأي اجتهادا خالصا هلل عز وجل تمسكه التقوى
على التفلت إلى المنازعات العصبية المشتتة .فإنما هي أمة واحدة .من ابتغى لها
القطيعة قطعه اهلل عز وجل.
ومن واجب التربية أن تبث هذا الشعور ،شعور االنتماء لألمة الواحدة .من واجبها
أن توقظ هذه اإلرادة ،إرادة توحيد األمة من فرقتها .ينبغي لها أن تربط بين الوالء هلل
2
ون إِ ْخ َوةٌ}.
الواحد وبين الوالية لألمة الواحدة .قال اهلل عز وجل{ :إِ َّن َما ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ
4
ض}. أ َْوِل َياء َب ْع ٍ
القرآن ال يتحدث إال عن وحدة األمة .فهي واجب مقدس .ال يتحدث إال عن األمة
الواحدة.
-2الخط السياسي الثاني الذي يبدو لنا في الساحة هو الخط الشديد ،خط التميز
والقوة ،والتمرد ،والرفض.
1الفتح26 ،
2احلجرات10 ،
3األنبياء92 ،
4التوبة71 ،
417
في بالد المسلمين شباب متوثب يحيي إيمانه بعرامة وقوة .وينظر إلى الجاهلية
من حوله فيبغضها أشد البغض .ويق أر المودودي وقطبا رحمهما اهلل فيجد عندهما ذك ار
للجاهلية وتحريضا ضدها .فيحسب الشباب أنهم وحدهم المسلمون ،وأن الجاهلية تبدأ
من األم التي ال تصلي ،والعم الذي يشرب ،واألخت المتبرجة.
ويتصور الشباب العالم من حولهم بما فيه البيت والشارع ،والمجتمع التقليدي،
والحكام ،كتلة ظالم يجب أن يفر منها ،وعدوا ال انتظار لمنازلته.
اق أر كتاب البهنساوي «الحكم وقضية تكفير المسلم» لتعرف كيف ولد فكر «التكفير
والهجرة» ،وكيف نظر الشباب إلى األجيال الرائدة في الدعوة نظرة ريبة.
كل عرامة شابة تستهين بحكمة أولي األحالم من الدعاة ،ال سيما إن توسع عددها
وكثر استف از از الحكم الجبري لشعور المسلمين.
ال نرى للتنظيم العنيف المعتمد على االغتيال السياسي مبر ار وال مستقبال .إن هي
إال هزات هذا الكائن المترعرع في حضن تاريخ التجديد ،يبحث عن متنفس ،وعن وسيلة
تعبير عن حيويته .فال ذنب للشباب إن لم يجدوا غير متنفس السخط الضاري ،وغير
التعبير بالعضالت.
-3الخط الثالث كما نراه هو في الواقع نضج الخط األول وبلوغه الكمال .هو
خط التنفيذ بالقوة بعد أن يتم اإلعداد ،ما يعيب حركات الشباب الغاضبة غير تعجلهم
النتائج.
هذا اإلمام الخميني قاد عملية التنفيذ في إبانها .فكانت قوة جند اهلل قد استكملت
اإلعداد ،وكان لها من الحجم والتغلغل في الشعب ما ضمن لها ،بعد توفيق اهلل
تعالى ،النصر.
منذ سنة 1906ميالدية استطاع علماء المسلمين في إيران فرض دستور يحد
من تسلط الملكية .كان وراءهم تاريخ مجيد من مقاومة العلماء للحكام .فكان الدستور
418
تتويجا مرحليا لذلك التاريخ.
وخطوة ثانية حين تحالف آية اهلل الكاشاني مع مصدق في القضية الوطنية قضية
تحرير البالد من احتكارات النفط األجنبية.
فلما فشل مصدق وخر بناؤه أمام كيد أمريكا ومؤامراتها ،تيقن الشعب بفئاته
أن اإلسالم وحده يملك العمق في الشعب الكفيل ببعث الثورة وتوجيهها ،وتسليحها،
وقيادتها للنصر.
وهكذا كان .وما عبقرية اإلمام الخميني إال العامل القيادي الذي حقق عطاء الطاقات
اإليمانية ،ورفعها إلى ذروة الفاعلية .واهلل عز وجل من وراء الكل محيط.
كان للعلماء هناك حرمة تقليدية ،وكان لهم استقالل مالي ،وكان لهم وجود فعلي
كثيف في المساجد والحسينيات (وهي المساجد الصغيرة في األحياء والقرى) وكان لهم
أهم شيء حرمة وتعظيم في الشعب.
ثم إن توفيق اهلل إلخوتنا الشيعة أن ربطوا غضب الشعب بمثال حي هو مثال اإلمام
الحسين عليه السالم الذي غضب على حكم يزيد الفاسد ،وعرفوا كيف يعرضون قضية
اإلسالم اآلن على شاشة الحساسية الشيعية لمأساة كربالء.
وكان من توفيق اهلل -خاصة بعد القومة -أن قبض العلماء على مسار الحركة
من عروتها الوثيقة ،أال وهي انحيازهم إلى جانب المستضعفين .وهذا ما أمر اهلل به وما
فعله رسوله صلى اهلل عليه وسلم.
ما أحوج الدعاة أن تكون لهم حرمة وتعظيم في عين الشعب! خاصة وعلماء
419
القصور خدام الخونة أفسدوا علينا ديننا.
ما أحوجهم إلى ربط الجهاد في سبيل اهلل بالجهاد في سبيل المستضعفين ،قوال
وسلوكا ،وارتباطا أخويا صادقاً!
-9جهاد الكفر:
من كالم اإلمام علي عليه السالم« :كاد الفقر أن يكون كفرا» .ورواه في الحلية
مرفوعا ،وفي مسند أحمد بن منيع ،بسند ضعيف.
وروى اإلمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال« :من
احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من اهلل تعالى وبرئ اهلل تعالى منه .وأيما أهل
عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة اهلل تعالى».
رسخ في أذهان عامة المسلمين ،لطول ما أُسيء تعليمهم ولعب بعقولهم ،أن على
الرعية أن ترضى ببؤسها ،وال ترفع الرأس لترد على الحاكم .زاد هذه الذهنية رسوخا
في أرض الخمول العام شراسة الظلمة المتعاقبين على الحكم إبان الملك العاض ثم
الجبري .وبلغ تبلد العامة حد الموت السياسي الذي نعرفه ونشكو منه :الدعوات الرسمية
والمتدروشة إلى الزهادة والقناعة وغض البصر عما يبتزه منك األقوياء.
إن كان الزهد والقناعة والسماحة فضائل فردية فإنها ،إن حرفت على المستوى
االجتماعي السياسي االقتصادي لتبرر نهب المستكبرين وظلمهم ،رذائل يجب أن تحارب.
وينشأ جيل بيننا يفتح عينه على العالم ،ويتلقى بالترحيب اإلديولوجيات التحريرية
420
في زعمها التي تصور له أن اإلسالم رجعية.
يرحب بها ألنها تفضح أمامه واقع الظلم الطبقي في تاريخ الملك العاض والجبري،
وتجد أمثلة قائمة اليوم متنوعة لتدعم دعواها.
وال يملك الشباب المغربون أن يميزوا بين اإلسالم الحق والواجهات التحريفية.
يربطون الظلم الطبقي باإلسالم ربط المسبب بالسبب ألنهم ال يعلمون عن اإلسالم الحق
شيئا لصمت العلماء .وال يعرفون مناط الفساد وهو التسلط العاض والجبري.
كاد الفقر أن يكون كف ار بالنسبة للفرد الذي يبيت في عرصة جائعا بين قوم
شبعانين .ويقترب الفقر الناتج عن الظلم الطبقي من الكفر بالنسبة للمجتمع الذي تنخر
فيه الطبقية حتى يكونا ضجيعين ونجيين وتوأمين.
إننا ال نقول بما فيه الكفاية للبائسين والمحرومين ،وال نبين وال نركز ،أن اإلسالم عدل
ومساواة .وأن اإلسالم على لسان كل رسول وفي جهاده هو االنتصار للمستضعفين على
المستكبرين.
ولعل بعضنا ال يطرح على عقله بالوضوح الكافي خطورة الطبقية .ولعله ال يفهم
لها معنى .ولعله يظنها اختراعا ماركسيا .ولعله ال يدرك أن األرض تفسد لوال دفع اهلل
الناس بعضهم ببعض.
421
الرأسمالية العالمية تفقر بالد المسلمين بنهب خيراتها ،واستقطاب أموالها .تبيع
السفهاء منا آالت اللهو ،ووسائل المتعة ،والمصانع التي يتطاول بها حكام الجبر من
أجل الفخفخة.
وتفقر أنظمة الجبر أدمغتنا بإعالمها الملون المبهرج ،الساري المتحكم في كل
مجاالت حياتنا .فإذا أدمغتنا المغزوة ،المفقرة ال تستطيع الكشف عن أسباب نشوء طبقية
يتجاور فيها البذخ الفاجر مع البؤس األسود .الخمور المعتقة معروضة على السفهاء،
ُ
والقمح األمريكي يمن به شيطان الجاهلية علينا معشر المحاويج في بالد المسلمين
الخصبة التي ال تطعم سكانها.
هناك فقر وهناك كفر .وابحث عن الكفر كلما رأيت فقرا .وانتظر الفقر كلما رأيت
كفرا.
يميت هذه المعاني السامية حين يمسخ شخصيتنا ،ويميع أخالقنا ،ويغرق أسواقنا
البضائعية والفكرية بسلعه االستهالكية وقيمه البهائمية .تستكبر فينا طبقة حليفة
للشيطان ،ترفع شعارات اإلسالم.
وتكفر بذلك اإلسالم وبكل إسالم طبقة مستضعفة تئن تحت كابوس الظلم .تقارن
بين بؤسها الفاضح وبين تبذير المبذرين.
هل احتجت أخي يوما إلى طبيب عمومي؟ هل زرت المستشفيات؟ هل رأيت
كيف تسخر أجهزة األمة لخدمة طبقة محظوظة؟
هل تعلمت في مدرسة رسمية؟ هل قارنت بين مستواها وزبائنها وبين زبائن
422
ومتسويات المدارس الخاصة؟
هل فكرت في األغلبية من الشعب التي ال تجد فرصة لتعرض أوبئتها على
الطبيب .وال أن ترسل أبناءها للمدرسة؟
هل عجت يوما على مدن القصدير ،ومعاطن البؤس في المدن والقرى ،لتعتبر
ماذا يعني كون الفقر يكاد يكون كفرا؟ هل مررت أو أطللت على قصور المترفين ،وهل
سمعت ما يجري فيها وفي كازنوهات العالم حيث يقول الشيطان العربي للنادل والغانية:
«زه!» ويعطيه مليون دوالر؟
هل تأملت مشكلة كساء األطفال العشرة بالنسبة لمعيل عاطل؟ ومشكلة الخبز
ومشكلة المرض؟
عندما يعرض بعضنا اإلسالم في مالئكية متعففة نظيفة سماوية ،يحسن اليساريون
أن ينزلوا -ولو دعائيا -إلى حيث المسكين والمحروم والبائس .ينزلون إليه ليصفوا ما
هو فيه من بالء كنتيجة لإلسالم الحاكم.
وينتهي األمر بأن يكفر المستضعفون باإلسالم ،ويلتفوا حول دعاة الكفر.
هنا في حمأة التعفن االجتماعي الناشئ عن االستكبار يجب أن يشمر جند اهلل عن
ساق الجهاد ليعبئوا غضب الشعب في االتجاه الصحيح .من هذا المستنقع الحياتي،
يجب أن ننشل المستضعفين .يجب أن نشرح لهم من أرداهم فيه ،ولم ،وكيف .يجب
أن نعلمهم تاريخ االستكبار كما ورد في القرآن ،ونعلمهم حاضره كما نعيشه ،ونعلمهم
قادته وأذنابه ومؤامراته.
423
مع الشعب المستضعف نكون .وفي سبيل اهلل نقاتل ،وفي سبيل المستضعفين.
نقولها قبل القومة ونحققها أثناءها ،ونطرد الكفر مع الفقر بعدها بإنصاف المظلوم
وغسل أقذار البؤس عن وجه األمة .إن شاء اهلل العلي القدير.
إن بيوت الماركسيين عورة .بناء من ورق كل هذا الهراء حول المنجزات االجتماعية
في بالد االشتراكية .أصبحت عورة منذ تسرب من وراء الستار الحديدي شهادة رجال
منهم ،من عقالئهم ومن قدماء المحظوظين في نظامهم .وعلينا أن نحارب الكفر بترجمة
كتب أمثال سولجنتيسين الذي فضح النظام الستاليني القائم على اإلماتة والتعذيب.
وكتاب أخير أخرجه فوسلونسكي ،وكان من علية القوم ،بعد هروبه من «جنة» ماركس
عنوانه «نؤمنكلوترا» .كاف وحده لدحض مزاعم اإلديولوجية أنها تحرر اإلنسان.
لن يبرئنا من وبال االستكبار الرأسمالي استكبار جاهلي غيره .ال سيما إن كان
استكبار النؤمنكلتورا .ويفهمني من ق أر الكتاب .أنصح الماركسيين بقراءته ،فهو متعة
فكرية ممتازة .لكن اإليديولوجية إن ماتت في أوربا ولفظت أنفاسها فال يزال لها بقية أمل
أن تبقى معششة في أذهان بعض مثقفينا المتخلفين فكريا.
معركة الحق ضد الباطل ،بعد القومة ،إنما يفصل فيها بنجاحنا إن شاء اهلل في
طرد الفقر ومعه الكفر .كل كفر .كفر الرأسمالية التي تعتمد االبتزاز الرأسمالي ،وكفر
اإلديولوجية التي تخفي وراء الشعارات فداحة «الكوالك» ،وهو التعذيب والتمويت،
وفداحة «النؤمنكلتورا» وهي الطبقية الجديدة ،طبقية الحكام المستأثرين بالسلطان،
والمال واللذة ،والبالد والعباد.
ألبانيا بلد إسالمي .كان منذ أربعين سنة استولى عليه الشيوعيون وداموا.
واستماتوا .وبنوا نموذجا ناجحا على المستوى االقتصادي االجتماعي السياسي ،بدليل
424
بقائهم في الحكم واستمرار نظامهم.
كانت ألبانيا قبل الحرب العالمية الكبرى وطنا للمسلمين .وكان مجتمعا تقليديا
يتعايش فيه المترفون والمستضعفون .أولئك على رؤوس هؤالء.
وكشفت الحرب عن طاقات كانت مخفية .تسلح الفالحون الفقراء ألنهم أقدر على
حمل السالح من المترفين المترهلين.
وبعد الحرب ما يزال حكام ألبانيا يتحدون العالم كله ،يتقلبون في أحالفهم بين
يوغوسالفيا وروسيا والصين وفتنام.
مستقلون في فكرهم .مكتفون اقتصاديا وصناعيا .وهذا عجب ،كيف يعيش ثالثة
ماليين في اقتصاد شبه مغلق .وال يعرف التضخم المالي .وال البطالة!
ال أغتر بنموذج ألبانيا .لكن أريد أن أضع األصبع على سر بقاء نظام شيوعي
على رأس شعب مسلم.
وال أغتر بحاضر ألبانيا وال بمستقبلها .فالسجون مألى .ما هو إال جحيم آخر في
جهنم الشيوعية .ألبانيا سجن نموذجي ،المسلمون فيه أسرى وعبيد.
425
يلح اإلعالم هناك والمدرسة على المقارنة بين ما كان من ظلم قبل الشيوعية وما
حققته الشيوعية.
ومع عامل اإلرهاب الجهنمي ترتدع العواطف الدينية ،ويرتفع شعار الخبز للجميع
على شعار الحرية الدينية.
عجل اهلل تعالى بتحرير هذه األمة الشقية في دنياها بحكامها من كل صنف!
آمين!
اإلنسان الشقي تحت الحضارة والقيم الجاهلية الدوابية ينتظر النور الذي يقشع
غياهب نفسه ،والعلم الذي يتجاوز ظواهر الكون إلى معرفة الحق ،والعدل الذي ينصف
محرومي العالم من ظالميهم ،ونظام الحكم الذي يحقق توازن المجتمع البشري ورخاءه.
ينتظر اإلنسان حضارة أخوية بدل حضارة العنف والظلم والحرب ،وترف المترفين الذي
يلعنه بؤس البائسين.
وفشلت التجربة الرأسمالية الصناعية حيث أصبحت بيئتها التقنية الحديدية سجنا
ذهبيا بثرائه ،عفنا موبوءا بويالته لمن هم داخل .وبأسا ونقمة على العالم المستضعف.
ويترقب اإلنسان بزوغ شمس اإلسالم متمثلة في نموذج حضاري ناجح ،في مجتمع
العدل واألخوة ،في نظام حكم متوازن مستقر رحيم.
426
قلوب المسلمين تهفو جميعا وتحن .والجاهلية تخشى اإلسالم كما يخشى المجرم
فارس النجدة.
وتكيد الجاهلية كيدها األكبر ،وتعرقل ،وتتآمر لتطفئ نور اهلل .ومع الجاهلية -في
ركابها وذنبا لها -يعاني إخوتنا الناجحون إن شاء اهلل في إيران ،ونعاني نحن غدا
حمانا اهلل ،خداع المنافقين ومبارزتهم لدولة اإلسالم بالعداء.
ولئن بلغ هؤالء -القدر اهلل -هدفهم في إفشال التجربة اإلسالمية فسيكون طعم
الفشل بعدها م ار في حلق المسلمين زمانا بعيدا.
نرجو اهلل تعالى أن يحقق لنا النصر -نصر إقامة نماذج صالحة فالحة -تباعا
حتى يتم تحرير أرض اإلسالم ،وتقوم شمس الخالفة التي تجلو األبصار.
-1العقبة األولى نفسية ذهنية اجتماعية سياسية .وهي كون شعوبنا لما تصل
إلى درجة تدرك معها أن مصيرها رهن برجوعها لدينها وحاكمية ربها .وأن العدل الذي
تنشده ،والكرامة التي تطلبها ،لن تكون لها إال تحت لواء اإلسالم.
ذهنية رعوية نسيت تماما لطول ما أنسيت ودربت على الخنوع والصمت واالستسالم
أن أمر المسلمين جعله اهلل شورى بين المسلمين ،وجعله حكام العض والجبر كسروية
وقيصرية ونابوليونية وستالينية.
في إيران بحمد اهلل وتوفيقه صعد اإلدراك وتعمق وعم .ونرجو اهلل أن يوفقنا هنالك
وهنا وفي بالد اإلسالم ليكون حكمنا شورى بيننا .وليبقى شورى على تعاقب األجيال.
نعوذ باهلل من النكسة التي حدثت فيما مضى في بالد المسلمين .هي أن الرجل الصالح
المصلح الذي يقود قومة ويؤسس نظاما صالحا ال يلبث أن تتحول بعده ملكية وراثية.
نعوذ باهلل أن يموت أمل التجديد والخالفة على منهاج النبوة بنكسة تتويج األبناء تحت
هيبة اآلباء .هذا ما اغتال كل ميالد للحكم الصالح في بالدنا.
427
وال عالج ،بعد االستعادة باهلل ولي الصالحين إال أن نكسب األمة منعة ضد األهواء
العاضة والجبرية .فإنما تغتر األمة إن غرر بها .إو�نما تأكل الديدان وتنخر في الجسوم
الميتة.
نسعى قبل القومة وبعدها إليقاظ الشعب إو�شراكه في أمره حتى يحيى حياة الكرامة
والمسؤولية ،وحتى يصبح رفض التعسف واالستبداد واالستكبار ملكة لديه وحتى يصبح
القيام الجماعي الصلب ضد كل انحراف عن الشورى في الحكم ،والعدل في القسمة،
والمسؤولية في التطبيق ،حركة طبيعية عند كل رجل وامرأة.
ولترحيل الذهنية الرعوية البليدة ،وتوطين عقلية إو�رادة السلوك الشوري ال بد من
تربية .وتدريب .إو�شراك الشعب في تحمل المسؤوليات.
أساليب حكام الجبر تتراوح بين اليد الحديدية ،والخداع باسم الديمقراطية ،والتهريج
والتهييج في مثل المؤتمرات الشعبية المجنون منظروها.
إلى أن تتبخر األهوية الفاسدة ،ويذهب الزبد المتخمر المغطي على العقول
واإلرادات جفاء.
هذا الشرط هو أساس كل تغيير .قال اهلل تعالى { :إِ َّن اللّ َه الَ ُي َغ ِّي ُر َما
1
ِبقَ ْوٍم َحتَّى ُي َغ ِّي ُرواْ َما ِبأَ ْنفُ ِس ِه ْم }.
-2لكن عملية إصالح العقول والنفوس ما تعطيها خاليا الفساد القاطنة بأرضنا
فرصة.
خاليا في أعالي جسم األمة من مترفي المال والجاه األمريكيين ،ومن مترفي الفكر
فاسدي العقيدة من الماركسيين.
ولعلها تترصد بالتجربة اإلسالمية -كما نشاهد اآلن في إيران -مصاعب الطريق،
1الرعد11 ،
428
وهفوات الخطوات األولى ،مناسبات لتشكك ،وتسخر ،وتتآمر ،وتخرب.
نفضل أن تموت جراثيم الترف واإللحاد موتتها الطبيعية .أن ينكشف زيفها للخاص
والعام حتى تنبذ بما هي نجاسة متبقية من ماضي دخول الجاهلية إلينا.
لكن إن تجند المنافقون ومكروا وحملوا السالح ،فحكم اهلل فيمن حاربه وحارب
سولَ ُه
ون اللّ َه َوَر ُ ارُب َ ين ُي َح ِ رسوله وحارب خالفته في قوله تعالى{ :إِ َّن َما َج َزاء الَِّذ َ
صلَّ ُبواْ أ َْو تُقَطَّ َع أ َْي ِدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُ ُهم ِّم ْن
ساداً أَن ُيقَتَّلُواْ أ َْو ُي َ س َع ْو َن ِفي األ َْر ِ
ض فَ َ َوَي ْ
ِ ِ ي ِفي ُّ ِ الف أَو ينفَواْ ِم َن األَر ِ ِ ِخ ٍ
ابالد ْن َيا َولَ ُه ْم في اآلخ َرِة َع َذ ٌ ض َذل َك لَ ُه ْم خ ْز ٌ ْ ْ ُ ْ
يم}. ِ
َعظ ٌ
1
يعرض على غيرنا قبل القومة النزال -وال يقبلون -في ساحة الحجاج واالنتخاب.
ويعرض عليهم بعدها -ويقبلون كيدا -أن يستمروا في عرض بضاعتهم حتى يبين
لألمة عوارها ويبدو كسادها.
من صالحنا أن نفعل .لكن إن أبدوا صفحة وجوههم ،ال سيما إن حملوا السالح
فالنبتة الفاسدة ال صالح للزرع إال باجتثاتها.
في اإلسالم سماحة ال نهاية لها .لكن ما دون إبداء العداء السافر لإلسالم .روى
المؤرخون أن اإلمام عليا كرم اهلل وجهه لما خرج عليه الخوارج ،وأنكروا إمامته وكفروه
ومن معه ،بعث إليهم عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما يناظرهم .فرجع بعضهم
وتصلب آخرون في حرابتهم .فأرسل إليهم عليه السالم يقول« :كونوا حيث شئتم
1املائدة33 ،
429
وبيننا وبينكم أال تسفكوا دما حراما .وال تقطعوا سبيال ،وال تظلموا أحدا .فإن فعلتم
نبذت إليكم الحرب» (أي أعلنتها عليكم).
قال عبد اهلل بن شداد« :فواهلل ما قاتلهم حتى قطعوا السبيل ،وسفكوا الدم الحرام»،
وقال لهم اإلمام علي رضي اهلل عنه مرة أخرى« :ال نبدأكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا».
إن ما تسميه الثورات «تطبيعا» ،واللفظ مترجم يعني إسكات المعارضين بالتعذيب
والتمويت ما هو اللفظ وال المعنى عندنا .كما أن كلمة «ثورة» نفسها إو�ن استعملها
بعضنا ،ال تدل على معاني «القومة» ،وما تهدي إليه القومة من التزام تام بالشرع ،ومن
تعفف كامل عن سفك الدماء.
لكن ما الحيلة إن تجاوز خصوم اإلسالم وأعداؤه حدود المعارضة الناقدة بالحق ال
بالكذب ،وبدأوا بالفساد ،وسفكوا الدم الحرام؟
نرث إن شاء اهلل تعالى اقتصاديات موجهة لقضاء مصالح االستكبار العالمي
والمحلي .نرث عادات استهالكية جاهلية .نرث القسمة الضيزى المفروضة على
المستضعفين .نرث الفقر وحليفه الكفر .نرث مدن القصدير .نرث البطالة .نرث خزانة
الدولة الفارغة .نرث الخراب االقتصادي.
هنا أعود أللبانيا الشيوعية لضرب المثل .هي الدولة الوحيدة في العالم التي ال
تقترض من الخارج.
ألنها سلكت مسلك االقتصاد الموجه ،وقلصت النفقات ،وسدت الباب على المسارب
430
المالية والتجارية التي يرد معها إليها التضخم.
ألنها صممت على االكتفاء الذاتي .وألنها لم تخف .وهي في حجم المنديل ،أن
تغلق أبوابها في وجه العالم.
تقشف ،وتعبئة عامة ،وتخويف دائم من العدو المحتمل ،ورفع راية القومية
األلبانية ،والشرف األلباني ،والنموذج األلباني ،قومية وتقدمية على رغم أنف
اإلديولوجية.
مرة أخرى نضرب المثل والنغتر .نقرن الحق الذي نرجوه بالباطل القائم في بالد
المسلمين في ألبانيا لما عرف الشيوعيون هناك مقاومة الفرق الطبقي ،وحاربوا اإلسالم
من خالل طردهم للفقر الطبقي.
نورد هذا المثال ،ونمثل ألنفسنا بغيرنا من باب قوله عز وجل { :إِن
اولُ َها َب ْي َن َّ
الن ِ
اس}. َّام ُن َد ِ ِ
س ا ْلقَ ْوَم قَ ْر ٌح ِّم ْثلُ ُه َوت ْل َك األي ُ
س ُك ْم قَ ْر ٌح فَقَ ْد َم َّ
سَْي ْم َ
1
فهم ناس قامت لهم دولة لما صمموا على التقلل والمساواة في التقلل ،والعدل على
الكفاية ،والشجاعة في مقاطعة العالم كله.
لعل حجم دولنا الموروثة غدا إن شاء اهلل ،ولعل احتالل االستكبار لها ،ولعل
اشتباك مصالحها بمصالحه ،وتداخل المعامالت المالية والتجارية ال يسمح بحل العقدة
وشيكا وسريعا.
431
لكن الشعب إن تجند كله ،أعني الشعب المسلم المستضعف ،إو�ن تحمل كله،
وبذل كله (يقولون ضحى) ،ونهض كله ،وصمم وجاهد ،فلن نعدم إن شاء اهلل مخرجا.
تعيش طبقة الحكام والمتعلمين والموظفين بيننا زمن الجبر على مستوى االستهالك
الجاهلي .مدننا ،ووسائل مواصالتنا ،وطعام المترفين ،ولهوهم ،وشرابهم ،قائمة على
التبذير المنهجي وسوء القسمة يتبع.
يوم نقرر أنه ال يضيرنا أن نكف عن استيراد السيارات الخاصة لنصنع دراجات
ولو من الدرجة العاشرة في البداية ،سنكون خطونا إلى األمام خطوة.
يوم نقرر مقاطعة بضائع الترف المستوردة ونقدر على إنتاج بضائع الحاجة
والكفاية والكرامة والقوة فيما بيننا ،نكون حقيقين بنصر اهلل الذي يخص بنصره المتوكلين
عليه سبحانه.
ويوم يخرج من مدارسنا شباب صلب الجسم ،ثابت العزيمة ،صادق اإليمان،
مستنير الفكر ،قادر على التعلم والعمل ،نكون على وشك تطويع التكنولوجيا العصرية
لنصنع القوة ،لنبز ونعز.
ويوم نقرر غلق األبواب على الغزو االقتصادي الجاهلي في زماننا هذا زمن
الحرب االقتصادية الشاملة ،والحماية الجمركية ،واألزمة النقدية ،واالحتكار المتعدد
الجنسية ،نكون قد خطونا خطوات إلدماج اقتصاد أقطارنا إو�عداد الوحدة اإلسالمية.
-11جهاد التوحيد:
يكون تتويج النجاح إن شاء اهلل بعد تخطي العقبات السياسية ،والعراقيل التآمرية
والعسكرية ،والمصاعب االقتصادية ،يوم تنضج األمة ،وتتأهل بإيمانها وعملها الصالح
للخالفة في األرض ،فتتوحد وتعود ذلك الجسد الواحد العضوي ،المتضامن القوي،
وجودا في العالم ،عزيمة في مصارع التاريخ ،قد ار من قدر اهلل.
432
يتوج جهاد جند اهلل تخرج األمة كلها من استعباد مترفيها لمستضعفيها ،يوم نعود
شهداء على الناس كافة ،يستطيع من ندعوهم لإلسالم أن يقارنوا فساد أنظمة الحكم
الجاهلية بصالح نظامنا ،واستقرار شؤوننا بتهافت غيرنا ،ونصاعة صراطنا واستقامته
بقتامة سبل غيرنا واعوجاجها.
والطريق إلى توحيد األمة عقبة لن نقتحمها باألماني العذاب .ها نحن أوالء سجناء
في خصوصيات األقطار التي جزئت إليها دار اإلسالم ،في كل قطر دولة ،وعلى كل
دولة طاغوت.
وداخل السجن القطري يصادف جند اهلل ألوانا من العنت ،فال يجد متنفسا إال
خنقوه ،وال يبدأ مشروعا إال حاولوا إحباطه ،وال يبرز رجال صادقون إال عذبوا وشردوا
وقتلوا تقتيال.
القمع المدروس ،المسلح بخبراء الجاهلية المزود باستخباراتها ،ال يترك وجها من
وجوه الحرب إال أتاه ،ليمنع اتصال جند اهلل بعضهم ببعض ،وتعارفهم ،وتوحدهم .تجد
في القطر الواحد اتجاهات متعددة ،ناتجة عن اختالف اجتهاد المؤمنين ،أو متخلفة
من ماض مذهبي .وفي هذه العوامل الخالفية ينفخ أعداؤنا ليمنعوا تحابنا فتفاهمنا
فتالحمنا.
شتات في األقطار تتوزع فيه األمة أشالء .وشتات في صفوف القطر الواحد بين
المؤمنين.
هل يمكن أن نحقق وحدة الحركة اإلسالمية عبر كل عوامل التشتتيت دفعة واحدة؟
433
وعلينا أن ننسق لنكون في مستوى المواجهة.
لكن محاولة تخطي القطرية تنظيما يعرضنا لضربات العدو ،بحيث يسهل عليه
كشفنا ابتداء من أي حلقة تقع في يده.
ثم إن لنا في لم شتات الخالفات داخل القطر الواحد ما يزهدنا في إضافة خالفات
جديدة ناتجة عن وجود حركات عالمية متعددة.
ثم إن واجهة الطاغوت الرخوة هي حاجته أن يتبجح أمام الشعب بحرية المواطنين،
وأمام العالم بحرية الرأي وحقوق اإلنسان .فمن هنا ندخل .وحرية المواطنين والرأي
وحقوق اإلنسان معطيات تربط المسلمين بتيار السياسة العالمية ،فنجد فيها فجوة.
بعض طواغيتنا ،بل كلهم ،إنما يكذبون على الشعب وعلى الرأي العام العالمي بتلك
الشعارات من حرية وديمقراطية وتعددية .منهم من ترك حتى تغطية الكذب ،وبارز اهلل
والدين بالحزب الواحد المستبد السفاك .منهم من بلغ حضيض الفساد والظلم ،ومنهم من
يرتدي مسوح اإلسالم ويراوغ مراوغة الثعالب .منهم حليف غرب الجاهلية ومنهم حليف
شرقها .منهم من حان اجتثاته ومنهم من يكاد.
أقول التنظيم وأخصص ،ألن الدعوة اإلسالمية عالمية بطبعها ،وألن التربية الخاصة
بجند اهلل المحررين تتقارب كثي ار وتغتني بكل فيض كما اغتنت وستغتني أكثر بحول
اهلل بروحانية الشهادة في سبيل اهلل التي ضرب لها المثل الرائع ويضرب إخوتنا الشيعة
وفقهم اهلل ونصرهم.
إن تنوع الفاعل والمفعول به ،تنوع الظرف المكاني والزماني ،وضرورة التخصيص
434
في المسؤوليات ،والتوقيت في اتخاذ المبادرات ،والتفاعل من قريب مع األحداث العالمية
المنظورة من الواقع المحلي ،ال تسمح كلها بوحدة القيادة التي ال تستطيع النظر إال من
مكان واحد ،وبعقل واحد ،تزدحم عليها المهمات ،فكيف تضع سلم األسبقيات ،وكيف
تعطي كل ملحة من الطوارئ حقها دون تضييع سواها؟
ال يستطيع أن يقود وينظم إال من هم وسط المعترك ،وال يفعلون ذلك إال باستقالل.
وباالستقالل الذي ال يضر معه تحركهم إخوانهم خارج القطر يمكن أن يهتدوا لموضع
التنسيق ،ويدبروا كيف يعينون ويستعينون.
وكلما تحرر قطر وأمسك بالزمام أهل اهلل المجاهدون ،وجب على ذوي الكفاءات
أن يهاجروا إليه بما فيه كفايته .ووجب على القطر المتحرر أن يرتب جانبا هاما من
وسائله واهتماماته لينجد الكتائب القطرية األخرى حتى تتحرر.
وفي مراحل التحرير يسعى كل قطر تحرر ليعانق سابقيه .وبالدمج االقتصادي
تبدأ المعانقة ،ثم بالتفاهم وتوحيد موازين الفكر واالجتهاد ،إلى أن يتم البناء األخوي
العضوي{ .وأن هذه أمتكم أمة واحدة ،وأنا ربكم فاعبدون} 1.فال إله إال
اهلل الكلمة الطيبة ،الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ،تؤتي أكلها في
قلوب المؤمنين إيمانا ،وتؤتي أكلها بإذن ربها حاكمية وشورى ،عدال وانتصا ار هلل
والمستضعفين ،وحدة لألمة التي هي خير أمة أخرجت للناس.
خطر كامن يتربص بنا بعد التحرير القطري .هو أن نتردى في قومية أو وطنية
محلية تتردى برداء اإلسالم .هناك خطر االنتماءات العرقية والتاريخية اإلقليمية وما في
ركابها من عوامل التقسيم والتقزيم .فإن نحن اضطررنا للجهاد من داخل السجن القطري
1األنبياء92 ،
435
فال نقبل أن تتوزعنا بعد التحرير دواعي الهوية القزمة التي تمكننا من رئاسات قزمة.
إن حاضر العالم يشهد التكتالت البشرية الضخمة ،واألمم األوربية سائرة للتكتل،
والجاهلية أمام مستقبلنا كتل .فلنرفع من شعور كل مسلم حتى يحس أنه ينتمي لخير
أمة ،أمة وطنها دار اإلسالم ومجال رسالتها العالم.
لنكسب األمة بالتربية مناعة ضد التردي القطري التقسيمي ،كما نكسبها منعة ضد
الحكم االستبدادي ،وضد االستكبار ،وضد التبذير والظلم.
إننا نعاني ونحن تحت حكم الجبر من السجن القطري وهو شاهد على الضآلة
التاريخية التي نزلنا إليها ،شاهد على هامشيتنا في مأدبة اللئام ،الذين يأكلون خيرات
بالدنا ،ويقتلون كرامة أمتنا ،ويحجبون عنا دين ربنا.
وأفظع من سجن القطرية وأدهى طوق القومية .إو�نما بدأ التشتت القطري الذي
نعيش في شظاياه يوم استيقظت القومية ،فهي أم التشتت .وأبوه االستعمار والحكام
المغربون كافلوه.
قام في تركيا العثمانية ،وكانت «الخالفة» العثمانية موحدة دار اإلسالم على كل
حال ،تالمذة الجاهلية فدعوا للقومية الطورانية ليخلصوا «الرجل المريض» (هكذا كانت
أوربا تسمي المملكة العثمانية في هرمها).
ورد العرب تحية الشيطان والفرقة بمثلها ،فهب النصارى العرب ينادون بالقومية
العربية .وال يزالون رواد هذا الدرب الجهنمي ،وحداة مسيرته ،وسدنة معابده الوثنية.
وقد تسلسل رد الفعل .فها نحن أوالء اليوم ما بين مسلمين غشيتهم العروبة ،وترك
ألفوا الطورانية حتى صاحت به الهبة اإلسالمية ،وأفغان نصر اهلل جهادهم ،وهنود،
وبربر ،وصومال ،وسودان ،وأندونيسيون ،وسائر الفتات .ويحاول نصارى حزب البعث
ومالحدته أن يعمقوا الهوة بين المسلمين منذ أعلنوا الحرب على إيران اإلسالم.
يريدونها حربا بين عرب وعجم ،وما هي إال حرب بين كفر إو�سالم.
436
إن توحد المسلمين تحت راية القومية ما هو إال سيادة النصارى ،والنموذج قائم حين
الكتابة في العراق حيث يقود الحرب على اإلسالم مؤسس «البعث العربي» وشركاؤه.
نرجو اهلل تعالى أن يدركنا نصره قبل أن تتحجر الهويات القطرية ،وقبل أن يتمكن
الطوق القومي من أعناقنا ،لنكسر األغالل ،ونحطم السجون.
المستقبل صارم كما تبدو عالئم ذلك .والمسلمون ،وهم في غثائية الخصوصيات
األنانية ،وفي تشتت الدويالت الجبرية ،وفي التبعية والهزال ،قاسوا الويالت ،وعجزوا
عن الوقوف في وجه أحقر عدو اليهود ،قارن ذلك بجهاد أفغانستان ،إو�يران ،وقد أمده
اإليمان بحياته ،تر المستقبل يطرق األبواب .مستقبل اإلسالم الواحد العزيز باهلل الواحد.
ال إله إال اهلل ،وحده ال شريك له ،الملك وله الحمد ،وهو على كل شيء قدير ،محمد
رسول اهلل صادق الوعد األمين.
ال يهولننا ما نراه من استفحال قوى الشر وتعاظم االستكبار الجاهلي ،فإن نصر
اهلل قريب من المحسنين .إو�ن اهلل وعد في كتابه أن يستخلف المستضعفين إن هم آمنوا
وعملوا الصالحات.
ال نغفل لحظة أنه تعالى وعز وجل هو محرك الكون ،المهيمن عليه ،رب كل شيء
ومليكه.
ال ننس وعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعودة الخالفة على منهاج النبوة.
ووعد اهلل ورسوله حق.
يكفي أن نغير ما بأنفسنا التغيير المطلوب ليغير اهلل ما بنا .ويتم ذلك يوم يكون
كل مؤمن من جند اهلل مربى منظما معبأ ،والشعب معنا ،واهلل موالنا ،يطلب كل
مؤمن من اهلل إحدى الحسنيين ،ويجود بماله ونفسه ،جهادا في سبيل اهلل بال تردد.
437
شعب الخصلة
ض ِفي ِه َّن ا ْل َح َّج فَالَ ات فَ َمن فََر َ وم ٌ ش ُهٌر َّم ْعلُ َقال اهلل تعالى { :ا ْل َح ُّج أَ ْ
ضتُم {إِ َذا أَفَ ْ ال ِفي ا ْل َح ِّج} إلى أن قال عز من قائلَ : وق َوالَ ِج َد َ س َ َرفَ َث َوالَ فُ ُ
ش َع ِر ا ْل َح َرِام َوا ْذ ُك ُروهُ َك َما َه َدا ُك ْم َ إوِ�ن ُكنتُم ات فَا ْذ ُك ُرواْ اللّ َه ِع َ
ند ا ْل َم ْ ِّم ْن عرفَ ٍ
ََ
استَ ْغ ِف ُرواْ اللّ َه
اس َو ْ اض َّ
الن ُ ث أَفَ َ يضواْ ِم ْن َح ْي ُ ين ثَُّم أ َِف ُ ِّمن قَ ْبِل ِه لَ ِم َن الضَّآلِّ َ
ِ ِ يم فَِإ َذا قَ َ ِ
آباء ُك ْم أ َْوض ْيتُم َّم َناس َك ُك ْم فَا ْذ ُك ُرواْ اللّ َه َكذ ْك ِرُك ْم َ ور َّرح ٌ إِ َّن اللّ َه َغفُ ٌ
اتود ٍش َّد ِذ ْك ارً } .إلى أن قال عز وجل من قائلَ { :وا ْذ ُك ُرواْ اللّ َه ِفي أ ََّي ٍام َّم ْع ُد َ أَ َ
َخ َر فَال إِثْ َم َعلَ ْي ِه ِل َم ِن اتَّقَى َواتَّقُواْ فَ َمن تَ َع َّج َل ِفي َي ْو َم ْي ِن فَالَ إِثْم َعلَ ْي ِه َو َمن تَأ َّ
َ
1
ون}. ش ُر َ اعلَ ُموا أ ََّن ُك ْم إِلَ ْي ِه تُ ْح َ
اللّ َه َو ْ
فالحج اختيار وتقوية وتدريب لقدرة المؤمن على ضبط شهواته وجوارحه ،أشد ما
يكون الجسم تحمال لمشقات التنقل ،وأشد ما تكون النفس حرجا من الغربة والزحمة.
إنها مدرسة الصبر .منهاج تربية إخراج للمرء من عاداته وأنانيته إو�لفه ورخاوته إلى
438
التقيد بالشرع في الحركة والكلمة والخطرة ،إلى التواضع والتخلق والتحمل.
الجسم في امتحان وشدة .فتضطرب النفس حين يضيق عليها في رفاهية مركبها.
نقلة وانقالب في العادات لتنقلع النفس عن أرض كسلها وعبثها وارتفاقها .وذكر اهلل هو
الهدف والزاد.
خمس مرات يتكرر األمر بذكر اهلل واستغفاره في هذا السياق من سورة البقرة.
وينتهي بالتوجيه إلى التقوى ومراقبة اهلل الذي إليه نحشر.
إنه استنهاض للنفوس أن ترتفع عن صغائر األمور وسفسافها إلى التجرد عن
الماديات ،بالتقلل منها ،والصبر على دواعي الغضب ونوازع الشهوة.
الوقوف بعرفة ،في بقعة واحدة ،في يوم واحد ،في اتجاه إيماني واحد.
جعل اهلل الحج فريضة ليشهد المسلمون -أي ليحضروا -منافع لهم.
الن ِ
اس َذ ن ِفي َّ { أ ِّ
قال اهلل سبحانه وتعالى يخاطب إبراهيم عليه السالمَ :
ش َه ُد واق ِل َي ْ
ين ِمن ُك ِّل فَ ٍّج َع ِمي ٍ ام ٍر َيأ ِْت َ
ض ِ ِبا ْل َح ِّج َيأْتُ َ
وك ِر َجا الً َو َعلَى ُك ِّل َ
ات َعلَى َما َر َزقَ ُهم ِّمن َّام َّمعلُوم ٍ
افع لَهم و َي ْذ ُكروا اسم اللَّ ِه ِفي أَي ٍ ِ
ْ َ َْ َم َن َ ُ ْ َ ُ
1
ام }. َب ِهيم ِة ْالَ ْنع ِ
َ َ
يذكر المفسرون أن المقصود بالمنافع منافع الدنيا واآلخرة .وأي منفعة أعظم
للمسلمين من جمع شملهم ليتأتى لكل منهم ذكر اهلل ومعرفته ،ليتأتى لألمة أن تسمع
رسالة ربها للعالم ،وتكون بوحدتها من القوة بحيث يحترم صوتها ويقدر؟
يتخذ جند اهلل الحج ،وهو الفريضة الركن ،مناسبة لتنظيم رحلتهم .والرحلة والمناسك
1احلج28-27 ،
439
مناسبة لتحصيل منافع التعارف والصحبة ،والتدريب على الصبر .ثم لنشر الدعوة،
إو�فشاء روح التجديد في الشعوب اإلسالمية الممثلة في الموسم بمستضعفيها.
وكما يستعمل اإلسالم الرسمي الجبري ممثليه في توطيد الدعاية للحكام الجبريين
كذلك نبث نحن روح التجديد بوسائلنا.
إلى أن يأذن اهلل بتحرير الحرمين فيعود إلى الحج معناه الذي كان له في حجة
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وفي حجات خلفائه الراشدين.
أخرج اإلمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم قال له« :أال أخبرك برأس األمر وعموده وذروة سنامه؟» قال« :فقلت :بلى يا
رسول اهلل؟» قال الحبيب صلى اهلل عليه وسلم« :رأس األمر وعموده الصالة ،وذروة
سنامه الجهاد».
وعند البخاري عن أبي ذر رضي اهلل عنه قال« :قلت :يا رسول اهلل ،أي األعمال
أفضل؟ قال :اإليمان باهلل ،والجهاد في سبيل اهلل».
الصالة بداية األمر ورأسه ،تصعد بالرباط بين العبد وربه من مجرد أداء مراسيم
العبودية إلى بذل المال والحياة في سبيل اهلل.
اإليمان باهلل أفضل األعمال إن أدى إلى الجهاد والموت في سبيل اهلل .إو�نها لعبادة
أعظم العبادة .لذلك ال يقبل جهاد إال بنية صالحة .بل ال يعد جهادا في سبيل اهلل ما كان
غضبة دنيوية ،أو نعرة قبلية ،أو رياء وحمية .ولذلك كان الدعاء في الصف مستجابا.
وكان الفرار من الزحف من الكبائر .وكان الرباط في سبيل اهلل من أعظم القربات .وكان
السهر والحراسة في سبيل اهلل ضمانا من النار.
440
وألنها عبادة جماعية تريد التآزر والتناصر ُشرعت اإلمارة والطاعة ،واالشتراك في
النفقة ،وخالفة المجاهدين في أهليهم ،وأمر المتعلمون لفنون الحرب من رماية وغيرها
أن يدربوا إخوانهم.
أعلى ما علمنا الناصح األمين صلى اهلل عليه وسلم أن نطلب الشهادة في سبيل
اهلل ،وال يعني هذا أن نستهدف لنكون الضحية ،وأن ندفع نفوسنا رخيصة .معناه أن يبلغ
إيماننا بموعود اهلل درجة تقطع ما بيننا وما بين الدنيا من حنين وقعود ،لنقبل على اهلل
والدار اآلخرة ،ونستعد للقاء اهلل في كل لحظة.
روى الشيخان والترمذي عن أنس رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
قال« :ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا إو�ن له ما على األرض من شيء:
(معناه أنه ال يريد الرجوع إليها ولو أعطي كل ما فيها من مال ومتاع) إال الشهيد .فإنه
يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فإنه يتمنى أن يقتل عشر مرات ،لما يرى من الكرامة» .في
رواية« :لما يرى من فضل الشهادة».
ما يكون ألمة محمد صلى اهلل عليه وسلم أن تسلك طريق الشهادة اختراعا
وابتداعا .إن الموت في اهلل ،كالحياة في ظل شرع اهلل ،أمر خطير .فال نجاة إال في
اتباع المصطفى الرسول صلى اهلل عليه وسلم في الحرص على تصحيح النية واالتجاه،
وفي االعتماد على اهلل تعالى قبل االعتماد على العدد والعدد .ثم في تطبيق أحكام
القتال والسلم لكيال يكون قتال جاهليا ،ثم في استيحاء الرجولة والشهامة والشجاعة التي
برزت في صفوف المهاجرين واألنصار ،وفي شخص الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الذي قال عنه اإلمام علي كرم اهلل وجهه« :كنا إذا اشتد الكرب نتقي برسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم».
441
ما كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واعظ منبر وكفى ،وال أمي اًر في السلم
وحده ،وال قعيدا بطينا .إنما كان المجاهد الكامل .قاد الصفوف ،ولبس الالمة والمغفر،
وظاهر بين درعين (أي لبس درعا فوق درع) ،وحمل آلة الحرب ،وقاتل ،وجرح ،وسقط
في الحفرة ،وكسرت رباعيته صلى اهلل عليه وسلم .ودخلت حلقتا المغفر في وجنته
الشريفة.
إنه صلى اهلل عليه وسلم المثل الكامل .فلكيال نكون صو ار ناقصة ،لكي نكمل
إيماننا ،ليس أمامنا إال طريق واحد :أن نتوج إيماننا بالجهاد ،أن نبدأ بأعلى شعبه ال
إله إال اهلل ،ثم نجمع فيض سائر الروافد اإليمانية البضعة والسبعين ،إلى أن يكتمل نهر
اإليمان ،فتكون خير خاتمة له أن يصب في الشهادة في سبيل اهلل.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي
هريرة رضي اهلل عنه« :من مات ولم يغز وم يحدث به نفسه مات على شعبة من
نفاق».
قال ابن المبارك :فنرى أن ذلك كان على عهد رسول اهلل صلى عليه وسلم .نرى
نحن ويرحم اهلل أخانا اإلمام ابن المبارك أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة ،وأن القعود
عنه اليوم كالقعود عنه في كل زمان خذالن لإلسالم ونفاق.
وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم قال« :من لقي اهلل تعالى بغير أثر من جهاد لقي اهلل وفي إيمانه ثلمة».
وروى أبو داود عن أبي أمامة الباهلي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :من
لم يغز ولم يجهز غازيا أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه اهلل بقارعة».
442
اهلل تعالى نهضة هذه األمة المباركة في هذا القرن المبارك.
ماذا يعني قيام الخالفة بعد نحو أربع عشر قرنا من الحكم العاض والجبري؟ يعني:
-1في ميدان الحكم الداخلي استبدال الحكم المستبد بالشورى ،وفي ميدان السياسة
الدولية بروز قوة مستقلة عن الجاهلية ،مصيرها بيدها .تقرر ما ينفعها وينفع الناس.
وتستطيع تنفيذا ما تقرر.
أن يكون أمرنا شورى بيننا ،هذا يأمر به اهلل تعالى .لكن تأباه العادات التي فشت
كالمخدر في مجتمعاتنا .تأباه فئات الظلمة والمستكبرين بيننا ،ألن نظام الحكم اإلسالمي
يفطمها عما ألفت من الفساد في البالد والعباد .تأباه الجاهلية ونظامها المسيطر على
العالم ،وتفرض بالدعم المادي والمعنوي ،بالمال والسالح والخبرة ،دمى المسخ وطواغيت
الجبر من بني جلدتنا.
أن يكون أمرنا شورى بيننا هذا هو األصل لو بقينا على السالمة .لكن إسالمنا
الموروث عقيدة وفهما وواقعا إسالم فتنة ،يختلط فيه الحق بالباطل ،فهو فهما وعقيدة
وواقعا كما وصفه الحديث الشريف« :خير وفيه دخن» .والدخن دخان .ونار الفتنة
متأججة .وال جماعة لنا منظمة تحمل أهلية تلقي الخطاب القرآني ومسؤولية الحكم بما
أنزل اهلل.
والحال أن أمرهم ،وأمرنا بالتبعية ،ليس في أيدينا ،بل في أيدي قوى الجاهلية التي
تتوزع العالم وتتحكم فيه.
إذا كانت الخالفة تاج التجديد ،وهدف المنهاج النبوي ،فمن يتوج؟ ومن يسلك؟ ومن
يبلغ الهدف؟
443
هيئوا «جماعة المسلمين» القطرية ثم العالمية ،وزودوها بالقوة الذاتية ،والبصيرة
والتنظيم ،واسلكوا .إو�ال فالخالفة أحالم لذيذة.
عبادة اهلل إو�خراج اإلنسان من عبودية الناس إلى عبوديته .الزكاة بمعناها الواسع
وبما تؤدي إليه وهو العدل .تعريف المعروف ،واألمر به ،وفرضه ،إو�نكار المنكر،
والنهي عنه ،ومنعه.
وهذا يتصدى له ويمنعه الجاهليون .وعلى جند اهلل أن يعدوا القوة كما أمروا
-ال سيما قوة اإليمان -ثم اهلل غالب على أمره.
معنى قيام الخالفة اإلسالمية على الرقعة الوسطى من األرض محيطة بها ،ومعها
مال ورجال ومواد أولية؛ حرمان الجاهلية من إقطاعاتها في العالم ،أعني إقطاع هؤالء
وهؤالء االقتصادي والعسكري والسياسي.
1احلج41 ،
444
معنى قيام الخالفة اإلسالمية على رقعة األرض األهم ،وهو حزامها ،إبطال
مخططات الهيمنة الجغرافية السياسية.
-3يعني قيام الخالفة اإلسالمية واستقاللها بالقرار ،وقدرتها على التنفيذ التحرر
االقتصادي ،ومن ثم العسكري والسياسي لثلثي سكان العالم ،وهم المستضعفون.
وننظر إلى حالنا اآلن وأمريكا تملك القمح ،تملك السالح والمال ،فتتجلى لنا
مظاهر عبوديتنا للجاهلية .تقول الجاهلية بلسان الحال والمقال والدبلوماسية ،وبكل لغة:
«إذا أردتم خب از فكونوا لطيفين معنا».
1هود61 ،
445
ال نحسب الخالفة بناء سياسيا على سطح واقع سياسي واقتصادي واجتماعي
وعلمي وعسكري إو�داري وتنظيمي هزيل.
إنما الخالفة سبك هذه المجتمعات المسلمة سبكا جديدا في كل المجاالت ،إو�عادة
صياغتها على نموذج الكتاب والسنة .إنما هي مصارعة العدو الداخلي والخارجي .ولن
يتركك العدو تزعجه من مواطن راحته وسلطانه ،ولن يترك لك مهلة لتسبك وتصوغ
كما تشاء.
واالنتقال من الملك الجبري إلى الخالفة إنما محكه العدل في القسمة .محكه
إنصاف المستضعفين .محكه جمع المال العام بحق ،وصرفه بحق .وأين هذا من
الفساد العام للمتسلطين المستكبرين في األرض؟ أين هذا من جشعهم؟ أين هذا من
أموال المسلمين التي يبذرها جبابرتنا تبذي ار فظيعا يتعذب به ضمير كل حر ،ويندى
له جبين المروءة؟
روى ابن سعد عن سلمان أن عمر رضي اهلل عنه سأله« :أملك أنا أم خليفة؟»
فقال سلمان« :إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما ،أو أقل أو أكثر ،ثم وضعته
في غير حقه فأنت ملك غير خليفة؟» .فاستعبر عمر (أي بكى).
درهم واحد ميزان .ما أدق! وموعظة وتخويف على درهم تبكي أمير المؤمنين .ما
أرق!
446
أين التربية التي ترقق القلوب وتشحذ العزائم؟
أين التنظيم الذي يخول لكل مؤمن أن يدقق الحساب على الحاكم؟
ذاك فلكه الذي يدور حوله هوى المتسلطين ونظام استكبارهم .وهذه فلكها ال إله إال
اهلل إيمانا به ،وطاعة له ،يشتق منها طاعة رسوله وأولي األمر منا.
ذاك نفوذه يعتمد على تخويف نفوس المغلوب المراوغ ،وهذه يعتمد نفوذها على ذمم
صادقة عاهدت اهلل على الوفاء لمن وفى هلل.
روى مسلم والحاكم بنحوه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :من خلع يدا
من طاعة لقي اهلل يوم القيامة وال حجة له ،ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية».
منذ عهد الصحابة رضي اهلل عنهم والمسلمون يتعاورهم همان :هم الوفاء ببيعة
وهمية لفساد شرطها لكن ملحة على الضمائر المؤمنة ،وهم الشك في صحة تلك البيعة
لما يرون من فساد الحكام.
ويستعمل ملوك العض والجبر مثل الوعيد هذا الحديث لمن لم يف ومات على غير
بيعة ليوطدوا لملكهم قواعد دينية.
447
واألحاديث النبوية في الموضوع كثيرة ،والمخرج منها إلى وضوح الفهم ضروري،
ليفسخ المسلمون األوهام ،ويعقدوا عقد اإلمارة القطرية ،ثم عقد الخالفة بعد التحرير إن
شاء اهلل تعالى.
الحديث التالي يضع المشكل تحت نور الحق الكشاف .روى األئمة أحمد ومسلم
والنسائي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :من خرج من الطاعة وفارق الجماعة
فمات ،مات ميتة جاهلية .ومن قاتل تحت راية عمية ،يغضب لعصبة ،أو يدعو إلى
عصبة ،أو ينصر عصبة ،فقتل فقتلة جاهلية .ومن خرج على أمتي يضرب برها
وفاجرها ،وال يتحاشى من مؤمنها ،وال يفي لذي عهد عهده ،فليس مني ولست منه».
الراية العمية .قال النووي« :هي بضم العين وكسرها لغتان مشهورتان .والميم
مكسورة مشددة والياء مشددة أيضا ،قالوا :هي األمر األعمى ال يستبين وجهة .وكذا قاله
اإلمام أحمد والجمهور .قال إسحاق بن راهويه :هذا كتقاتل القوم للعصبية».
نور الحق ساطع في مسألة وجوب مناهضة كل خائن لم يف بعهده .وما ترسب
في أذهان األمة من تقديس البيعات ذات االلتزام من جهة واحدة هو من التعمية
العمية .ذلك العقد العاض الذي بمقتضاه يفرض على المحكومين الصمت والرضى
وعبادة الطاغوت ليتركوا للحاكم مجاال للخيانة ،ما هو إال تعمية وتضليل .وحتى من
عاهد من ملوك العض والجبر بشيء فإنما يعاهد عهدا باللسان ال يلبث أن يخونه
ويفجر ويكفر.
من فارق الجماعة فمات ،مات ميتة جاهلية .لكن أين الجماعة؟ أهي قطيع الرعية
األخرس عن الحق؟
ومن قاتل تحت راية عمية أو نصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية .الحكم الوراثي راية
عمية ألن والية العهد فيه إنما تمليها العصبية للنسب .التكتالت الحزبية كما يعرفها
العصر التي تنصب منها حاكما رايات عمية ،ألنها قائمة على عصبية المصلحة أو
اإلديولوجية .الحزب الواحد المبني على غير التقوى وأخوة اإليمان وحاكمية اهلل وشورى
448
أمر المسلمين راية عمية ،هي أشد عماية ألنها الصيغة األشد قتامة للعصبية الجاهلية.
مضت قرون كانت «الرعية» الساكتة المسكتة أثناءها في قبضة حكام العض
والجبر واالنتقال من الحكم الجاهلي إلى حكم اإلسالم والخالفة ال يتأتى إال إن غير
المسلمين ما بأنفسهم ،وأمسكوا أمورهم بأيديهم ،وساوروا الحكام ليحملوهم على الجادة.
أبو بكر رضي اهلل عنه يقول أول خطبة له« :إن استقمت فأعينوني ،إو�ن زغت
فأقيموني ،إو�ن أطعت اهلل فأطيعوني ،إو�ن عصيت اهلل فاعصوني» .رواه الطبراني.
وروى أبو هالل العسكري أن عمر بن الخطاب لما عزل سعدا بن أبي وقاص عن
الكوفة استجابة ألهلها ،قال لهم« :إني عزلت عنكم سعدا فأخبروني :إذا كان اإلمام
عليكم يمنعكم حقوقكم ،ويسيء صحبتكم ،ما تصنعون؟ قالوا :إن رأينا خي ار حمدنا اهلل،
إو�ن رأينا ش ار صبرنا .فقال عمر :ال! واهلل ال تكونوا شهداء في األرض حتى تأخذوهم
في الحق كأخذهم إياكم فيه ،وتضربوهم على الحق كضربهم إياكم عليه ،إو�ال فال».
أحاديث صحيحة وردت عن المصطفى الرؤوف الرحيم صلى اهلل عليه وسلم
يوصي أمته بالصبر على الحكام ما لم يكن الكفر البواح.
وفي األحاديث تنوع يتخذه علماء القصور أحبولة لتبرير الشر ،وتبرير السكوت
عنه ،وتبرير التعايش معه.
هي وصايا عامة وتشريع لكل العصور .وعند النزول من هموم العلم إلى خصوص
العمل ،من سماء الزمان والمكان بغير حدود إلى العصر والمصر والتطبيق تسنح
الفرصة لحاملي الرايات العمية كي يختاروا النصوص على هواهم ،ويسكتوا عما
يحرجهم منها.
وألصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كانوا أعلم بمناط أمره صلى اهلل عليه
وسلم ونهيه ،والخليفتان من بعده أبو بكر وعمر على األخص .روى اإلمام أحمد
449
والترمذي وابن ماجه بسند صحيح عن حذيفة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:
«اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر».
وسمعنا خطبة الصديق وحوار الفاروق مع قوم كانت ذهنية «الرعية» الساكتة
يداعبهم خمولها.
قال عمر« :ال واهلل! ال تكونوا شهداء في األرض حتى تأخذوهم في الحق».
شهداء في األرض :حاضرون بيقظتكم واتباعكم أمركم الذي جعله اهلل بينكم شورى
من قريب ،حتى إذا اقتضى الحال أن تضربوهم.
وألهمية ضرب الحاكم ،والقيام في وجهه إن جار ،شرع لنا أن نواجهه .قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه الحاكم وصححه ،وتابعه الذهبي« :سيد الشهداء حمزة
بن عبد المطلب ،ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» .قام .والقومة النموذجية
قومة اإلمام الحسين رضي اهلل عنه.
فلما فترت وماتت في األمة روح االهتمام بأمورها وتقلص فهمها لحقها في صورة
مبايعة من جانب واحد ،بدون قيد وال شرط على الحاكم ،كان هذا «الغياب المذهل»
كما يقول أحد المجاهدين في عصرنا.
فتبليغ الرسالة للناس كافة هو الغاية التي من أجلها بعث اهلل رسله للخلق ،وحملها
وراثة .الدفاع عنها وتبليغها لألمة وللناس كافة غايةُ جند اهلل الموعودين باالستخالف
في األرض.
في مراحل القومة يحمل الدعوة جند اهلل ،وال تنتهي مهمتهم الدعوية بقيام الدولة
1سبأ28 ،
450
القطرية ،إنما تبتدئ مرحلة أوسع.
جند اهلل هم األمة في وسط األمة المأمور في القرآن بتكوينها .وقد حدد اهلل عز
ون إِلَى ا ْل َخ ْي ِر وجل لها أهدافها حيث قال عز من قائلَ { :وْلتَ ُكن ِّمن ُك ْم أ َّ
ُم ٌة َي ْد ُع َ
ون{َ }104والَ تَ ُكوُنواْ وف َوَي ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُمن َك ِر َوأ ُْولَ ِـئ َك ُه ُم ا ْل ُم ْفِل ُح َ
ون ِبا ْلمعر ِ
ْم ُر َ َ ْ ُ َوَيأ ُ
ات}. اختَلَفُواْ ِمن َب ْع ِد َما َج ُ
اءه ُم ا ْل َب ِّي َن ُ َكالَِّذ َ
ين تَفََّرقُواْ َو ْ
1
هم «جماعة المسلمين» .عليهم يدور واجب األمر والنهي والجمع ،جمع شمل
األمة ،فقبل قيام الدولة اإلسالمية وبعده ،هم الورثة المسؤولون عن الرسالة النبوية
وحفظها وتبليغها.
يستحقون هذه الوراثة ويمكن اهلل لهم في األرض إن هم طابقوا ،وطابقت أعمالهم،
الوصف الذي وصف اهلل به نبيه صلى اهلل عليه وسلم في هذا البالغ َ وطابق إيمانهم،
اك الن ِب ُّي إِ َّنا أ َْر َ
س ْل َن َ ُّها َّ
اإللهيَ { :يا أَي َ
ش ِ
اهداً َ
« -1الشهادة» :الحضور المسؤول .فجند اهلل ال نصيب لهم من كمال السنة
الغراء إن لم يغشوا المجتمع كما غشيه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،إو�ن لم يفرضوا
وجودهم ،ويتغلغلوا في األمة بالصبر والمثابرة ،والحركة النشيطة ،واإللحاح ،كما فعل.
األمة كم مهمل في تاريخ العالم ألن رجال الدعوة غابوا عن الساحة قرونا طويلة ،إما
451
في الدروشة أو الزهادة أو الحوقلة .وشهادة جند اهلل يجب أن تعم حتى يتمثلوا حضو ار
قويا مؤث ار في الواقع المحلي ثم العالمي .قال عمر ألهل الكوفة« :ال واهلل! ال تكونوا
شهداء في األرض حتى تأخذوهم في الحق.»...
شهداء في األرض .قوة سياسية في مراحل القومة ،ثم قوة مهيمنة على الدولة.
فيما حولنا من أنظمة نرى الحزب الحاكم تنبثق عنه الحكومة ،وهو يوجهها .وفي
بالد الشيوعية يكون الحزب الواحد هو الحكومة والدولة وكل شيء.
أتذوب لتبقى الدولة؟ أم كيف تؤدي واجبها في األمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وتوجيه السفينة وهي محتفظة بوحدتها واستقاللها عن الحكومة؟
الحكومة اإلسالمية إلهية التشريع لكنها بشرية التطبيق .وكل حكومة بشرية تتعرض
لألخطاء والزيغ .فال بد أن تبقى الدعوة مهيمنة لتقوم وتصلح .ال بد أن تكون هي
الحاضرة الشاهدة.
يجب إعادة األمور إلى نصابها ليسير الكائن على رجليه ال على رأسه .فقد كانت
الدولة نظاما منبثقا عن الدعوة ،فلما فسد الحكم أصبحت الدولة هي كل شيء ،والدعوة
ورجالها تابعا ثانويا ال إرادة له أو ال تكاد ،وال قدرة له على تغيير الواقع.
في الوضع اإلسالمي تكون الدعوة هي التي تتخذ الق اررات المصيرية والعامة،
452
وتكون الحكومة جهاز التنفيذ.
عندما يكون الجسم ضعيفا واآللة ضخمة ثقيلة ،تعود اآللة على صاحبها فتجره إلى
مصرعه.
ومهمات الدعوة ثقيلة وضخمة أثناء القومة ،لكنها تزداد ثقال أثناء بناء الدولة
وتسيير شؤون الحكم.
فال تستولي المهمات التنفيذية على الدعوة حتى يغيب عنها هدفها األول ،فإن
استنفذت مشاكل الحكم طاقات الدعوة ،وألزمتها أن تقبل الحلول الوسطى ،فقد تودع
منها.
« -2البشارة والنذارة» :الترغيب والترهيب .تعاون بين الدعوة وهي بشارة ،ووجه
باش ،ودعوة إلى الخير ،وأمر بالمعروف ،وبين الدولة ولها الحق وعليها الواجب أن
تقبض على المنكر من عنقه إن هو لم ينته بوازع القرآن.
رحم اهلل اإلمام عثمان بن عفان ورضي اهلل عنه قال« :يزع اهلل بالسلطان ما ال
يزع بالقرآن».
قالها بعد أن رأى تردي التربية القرآنية ،وظهور خلف (بسكون الالم) قلما يفهمون
غير لغة السلطان.
كيف والخوف من القهر البشري هو وازع عامة الناس ،ال الخوف من اهلل تعالى؟
453
وبعد القومة ،عند البناء إو�قامة حكم اهلل في األرض ،نحتاج لتدرج في االنتقال من
غلبة وازع السلطان إلى توازن بين عمل اليد اليمنى يد الدعوة واليد اليسرى التي يجب
أن تبقى حديدية.
هذا سؤال من أهم ما سيطرح على المسلمين وهم في سدة الحكم إن شاء اهلل تعالى.
« -3الدعوة إلى اهلل بإذنه» :بالنسبة لرسل اهلل عليهم الصالة والسالم هي بعثة
ووحي .وبالنسبة للعلماء باهلل جند اهلل هو اإللهام والتوفيق.
قلما ينظرون هل هم يرعون اهلل تعالى ليرعاهم ،هل يطيعونه حق الطاعة ليوفقهم،
هل طهروا قلوبهم وعقولهم بذكره والقيام على بابه بالدعاء والتضرع ليلهمهم؟
س ُبلَ َنا َ إوِ� َّن اللَّ َه لَ َم َع ِ ِ قال اهلل تعالىَ { :والَِّذ َ
اه ُدوا في َنا لَ َن ْهد َي َّن ُه ْم ُ
ين َج َ
ا ْل ُم ْح ِس ِن َ
ين}.
1
2
ع ِزيز}. نص ُرهُ إِ َّن اللَّ َه لَقَ ِو ٌّ
ي َ نص َر َّن اللَّ ُه َمن َي ُ
وقال عز من قائلَ { :ولَ َي ُ
1العنكبوت69 ،
2احلج40 ،
454
ما وعد بالنصر من يعتمد على حيلته وينسى أنها قضية اهلل ال قضيته .إنما وعد
من يبذل كل الجهد في التدبير ،إو�عداد القوة ،واإلقدام على التنفيذ ،ويدخل من باب
التضرع إلى اهلل العزيز ،يسأله المدد والقوة والنصر.
تنسينا أنفسنا األمارة بالسوء أن التوفيق من اهلل عز وجل ،وأن هدايته إو�لهامه
ونصره هي زادنا األول واألخير.
في حق األنبياء والرسل كل هذه المعاني وهب وقدم صدق سبقت لهم بالحسنى.
وفي حقنا اجتهاد وجهاد في ذات اهلل .وقدم الصدق والسابقة بالحسنى هي على
كل حال الموئل والمعاد.
اإلنابة إلى اهلل ،إو�سالم األمر إليه ،والتعويل عليه ،مع إثبات األسباب ،إو�عداد
القوة ،وأخذ الحذر واألسلحة والوسائل على مستوى العصر والمستقبل؛ تلك هي المعادلة
التي تجمع لنا بين لب األمر وهو اإليمان باهلل ،وبين الجسم وهو التنظيم والحركة.
قيادة تنطق باإلسالم والقلب فارغ من حب اهلل والتوكل عليه تقود القافلة للتيه.
هذيان على
ٌ التحليل السياسي والفقه الفكري دون ذكر اهلل ،والخشوع الدائم بين يديه،
مستوى هذيان العالم .الحركة دون معرفة النفس وأمراضها وعالجها هوس.
455
تدعو إلى اهلل في زعمك وأنت ال تعرف اهلل؟!
ال تعرف اهلل وأنت تظن أن تشملك عنايته بالذين دعوا إليه بإذنه؟!
من ليس على بصيرة ،من هو عامه في أوهامه ،سادر في غفالته ،محجوب
عن اهلل تعالى ،كيف يزعم أنه يدعو إلى اهلل؟ كيف واهلل تعالى وصف دعاة
الصدق والحق بالبصيرة حين خاطب حبيبه ومصطفاه صلى اهلل عليه وسلم:
يرٍة أَ َناْ َو َم ِن ا تََّب َع ِني }؟ 1وما ِ ِ ِ ِ ِِ
{ ُق ْل َهـذه َ
س ِبيلي أ َْد ُعو إ لَى اللّه َعلَى َبص َ
البصيرة والحجاب؟ ألفاظ! ابك على نفسك!
اق أر كتاب «الفتح الرباني» للشيخ عبد القادر الجيالني لتفهم ما أقول .فقد نصح
رحمه اهلل ،وبالغ في النصح ،وجهد في إيقاظ الهمم النائمة .اقرأه لعلك تفهم معنى الدعوة
إلى اهلل بإذنه.
« -4السراج المنير» :بالنسبة لخليل اهلل وحبيبه محمد صلى اهلل عليه وسلم كمال
ال يقدره الغافلون عن اهلل قدره.
استيقظ واعلم أن المنهاج النبوي هو ذاك الصراط الذي تضع فيه قدميك على قدمي
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .هو الصراط المستقيم الذي يلحقك بالذين أنعم اهلل عليهم،
1يوسف108 ،
2النساء69 ،
456
وقص عليك في كتابه نعمته عليهم ،وتفضيله إياهم ،ونصره دعوتهم .ثم حسن لك رفقتهم.
ال تحسب أن المنهاج النبوي الذي تحدثت لك عنه كل هذه الصفحات الطوال يكون
منهاجا نبويا إن هو لم يجمعك على اهلل تعالى ،ولم يستحثك لإلقبال عليه عز وجل،
ولم يوقظ همتك إليه.
ال تحسب أن مقاومة الظلم والكفر ،إو�قامة الدولة اإلسالمية ،تفيدك أنت شخصيا
في الدار اآلخرة وعند اهلل تعالى إن لم يكن حبه وطاعته وخدمة دعوته ونصرة قضيته
هي فكرك ومعناك ،هي غذاءك وشرابك ،هي جسمك وروحك ،هي حياتك وموتك .وما
األموات من انتقلوا للدار اآلخرة .فتلك النقلة حق .وبعد ذلك الموت نشر وبعث وحساب
وجنة ونار.
إنما الميت ميت القلب ،ال يرجى له حياة هنا وال هناك نعوذ باهلل .قال اهلل
َعمى فَهو ِفي ِ
اآلخ َرِة أ ْ ِِ تعالى{ :ومن َك َ ِ
َض ُّل َ
س ِبيالً}. َع َمى َوأ َ ان في َهـذه أ ْ َ
2
َُ ََ
عمى البصيرة نعوذ باهلل .وما أدراك ما حياة القلب ،وما البصيرة ،إن لم تذكر
ربك! «مثل الذي يذكر ربه والذي ال يذكر اهلل ،مثل الحي والميت» حديث رواه
البخاري ومسلم بنحوه.
إنما الميت الغافل عن اهلل المعرض عن ذكره ،المنكر أن اهلل وحده يعز ويذل،
يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.
1الزمر22 ،
2اإلسراء72 ،
457
إنما الميت من يأتيه حينه عند حضور ملك الموت ،فينظر إلى حياته يجدها بلقعا
من الخير ،ما عرف لما خلق ،وما سعى ليتقرب إلى اهلل بالفرض والنفل ،ولو صلى
وصام وقال :إني مسلم.
ابك على نفسك وابحث عن داع إلى اهلل على بصيرة يأخذك بيدك ،يسلكك ،يدلك
على اهلل ويعلمك كيف تحبس نفسك على مكارهها ،كيف تقتحم العقبة إلى اهلل تعالى،
كيف تصل إليه ،كيف تعرفه .قال اهلل تعالى يحكي وصية لقمان البنهَ { :واتَِّب ْع َ
س ِب َ
يل
اب إِلَ َّ
ي}. َم ْن أََن َ
1
إنما الميت من ق أر القرآن وما أفاق من الغفالت .من عبر حياته الدنيا ولم يقف
لحظة ليسأل عن الخالق .من ق أر في الكتاب والسنة الداللة التامة على اهلل ولم يسمع
ولم يتفكر ولم يعقل ،ولم يرد وجه اهلل ،ولم يصبر مع الذين يريدون وجهه ،ولم يشتق
لربه ،ولم يحب لقاءه.
فاته أن يسأل فيعطى .وأفضل ما تسأل فضل اهلل ،ثم رضى اهلل ،ثم وجه اهلل .فاته
أن يكون مع المحسنين.
مع.
وال تنس أن المعية مع الذين أنعم اهلل عليهم ،معية هنا وهناك ،هي معنى الصحبة.
وقد جعلنا الصحبة شطر الخصلة األولى والجماعة شطرها اآلخر.
1لقمان15 ،
458
فاعرف لم تتحرك الجماعات وأين تتجه ،وتأكد أن تحافظ أينما كنت لتكون الوجهة
اهلل ،والموعد اهلل ،ولتبقى الوجهة اهلل ،والموعد اهلل.
459
خاتمــة
أدعوك اللهم بما أمرتنا من جوامع الدعاء:
بسم اهلل الرحمن الرحيم الحمد هلل رب العالمين .الرحمن الرحيم .ملك يوم الدين.
إياك نعبد إو�ياك نستعين .اهدنا الصراط المستقيم .صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم وال الضالين .آمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي اآلخرة حسنة وقنا عذاب النار.
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله
ال نفرق بين أحد من رسله .وقالوا سمعنا وأطعنا .غفرانك ربنا .إو�ليك المصير .ال يكلف
اهلل نفسا إال وسعها .لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
ربنا ال تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .ربنا وال تحمل علينا إص ار كما حملته على
الذين من قبلنا .ربنا وال تحملنا ما ال طاقة لنا به .واعف عنا .واغفر لنا .وارحمنا .أنت
موالنا فانصرنا على القوم الكافرين .آمين.
******************
وأدعوك اللهم بما دعاك به محمد عبدك ونبيك ورسولك صلى اهلل عليه وسلم وبارك
وعلى آله وأزواجه وصحبه وذريته الطيبين الطاهرين:
اللهم إنك سألتنا من أنفسنا ال نملكه إال بك .اللهم فأعطنا منها ما يرضيك
1
عنا.
اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم ،والمأثم والمغرم .ومن فتنة القبر وعذاب
القبر .ومن فتنة النار وعذاب النار .ومن شر فتنة الغنى وأعوذ بك من شر فتنة الفقر.
وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال .اللهم اغسل عني خطاياي بالماء والثلج والبرد .ونق
قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب األبيض من الدنس .وباعد بيني وبين خطاياي كما
2
باعدت بين المشرق والمغرب.
اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ،والجبن والبخل ،والهرم وعذاب القبر
وفتنة الدجال .اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها .أنت وليها
وموالها .اللهم إني أعوذ بك من علم ال ينفع .ومن قلب ال يخشع .ومن نفس ال
3
تشبع .ومن دعوة ال يستجاب لها.
اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ،وبمعافاتك من عقوبتك .وأعوذ بك منك ال
4
أحصي ثناء عليك .أنت كما أثنيت على نفسك.
******************
اللهم وأدعوك بلسان االستغفار من ذنبي واإلقرار .أبوء لك بنعمتك علي وأبوء
بذنبي فاغفر لي ال يغفر الذنوب إال أنت.
وأدعوك موالي بلسان الشكر على ما هديت وأوليت ،ووهبت وأسديت .لك الحمد
والثناء الحسن .ال أحصي ثناء عليك .أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم ناديت عبادك أن يقتحموا العقبة إليك ،وأن يجعلوا كل معولهم عليك .وناديتنا
أن نكون من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة .وأمرتنا أن نكون مع
الصادقين .فارزقنا صحبة ومعية الذين أنعمت عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء
والصالحين .وحسن أولئك رفيقا .ارزقنا صحبة المحبة واالتباع لرسولك محمد صلى اهلل
عليه وسلم ،وصحبة الرفقة والخلة لورثته .فقد أخبرنا أن المرء على دين خليله وأمرنا
أن ننظر ونبحث عمن نخالل .اجعلنا اللهم معهم في الدنيا جهادا ،وفي الجنة والنظر
إلى وجهك الكريم معادا.
اللهم ردنا إليك ،وأوقفنا بين يديك وقفة األحباب .وافتح لنا الباب.
ألهمنا ذكرك وشكرك .طهر قلوبنا من الشرك والغل والشك .نورنا بنور معرفتك.
ارزقنا الصدق واإلخالص ،صدق الذمة والهمة والهجرة إليك.
خذنا من نفوسنا وشحها حتى نبذل أموالنا ومهجنا في سبيلك.
علمنا من لدنك علما ،ومن علينا بلذيذ مناجاتك.
استعملنا فيما يرضيك ويعز هذه األمة.
ألق علينا محبة منك .وجللنا بهيبة أوليائك بين خلقك ،وذلة المؤمنين على المؤمنين
في صف جندك.
اللهم أحينا بك حياة طيبة ،واختم لنا بالسعادة التي ختمت بها ألوليائك .واجعل
خير أيامنا وأسعدها يوم لقائك .وأمتنا في ساحة الجهاد على السنة والجماعة والشوق
462
إلى لقائك يا ذا الجالل واإلكرام.
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
رب ارحم أمة محمد عبدك ونبيك صلى اهلل عليه وسلم ،الطف بها.اغفر لها
انصرها .ارزقها .أعزها .استخلفها.
ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبقونا باإليمان وال تجعل في قلوبنا غال للذين آمنوا
ربنا إنك رؤوف رحيم.
ويرحم اهلل من وجد في مقالتي خطأ فأقامه ،أو زلة فسترها ،أو سهوا فذكر به ،أو
تك ار ار مقصودا فصبر عليه.
ورحم اهلل عبدا وأمة دعا لي بخير دعوة أجد بركتها بعد الموت حين ال ينفع مال وال
بنون إال من أتى اهلل بقلب سليم .ويجدها لما يدعو الملك بالمثل لمن دعا بالغيب ألخيه.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم
وعلى سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على
سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون .وسالم على المرسلين .والحمد هلل رب العالمين.
463
فهرس الكتاب
لصفحة الموضوع
1 تمهيد
3 مقدمات
منهاج النبوة3 ...............................................................
من األماني المعسولة إلى الجهاد5 ...........................................
سابقوا إلى مغفرة من ربكم7 ..................................................
القومة اإلسالمية9 ...........................................................
الفصل األول
12 اقتحام العقبة إلى اهلل
عقبات13 .....................................................................
مهمات جند اهلل16 .............................................................
-1تأليف جماعة المسلمين القطرية وتربية رجالها وتنظيمهم17 ..................
-2إقامة الدولة اإلسالمية القطرية18 ...........................................
-3توحيد األقطار اإلسالمية18 ................................................
-4الخالفة الوارثة19 ..........................................................
كيف يؤدي جند اهلل مهماتهم؟20 ................................................
-1المحجة الآلحبة21 .........................................................
-2الخط السياسي الواضح22 ..................................................
-3الثمن :ثمن رضى اهلل24 ...................................................
-4المرونة27 .................................................................
الفصل الثاني
29 تجديد الدين واإليمان
التجديد30 ....................................................................
اإلسالم واإليمان واإلحسان32 ..................................................
شعب اإليمان35 ...............................................................
الفصل الثالث
38 التربية
المجموع39 ...................................................................
األعرابية39 ...................................................................
مراتب جند اهلل40 ..............................................................
المرء وغناؤه في اإلسالم41 .......................................................
464
42 المؤمن الشاهد بالقسط.....................................................
42 تربية مستقبلية.............................................................
43 األسر.....................................................................
44 الحلق في المساجد.........................................................
44 األسابيع الثقافية...........................................................
44 المعسكرات والرباطات.....................................................
45 تربية الشباب..............................................................
45 تربية المؤمنات............................................................
45 البرامج والكتب واألوقات...................................................
49 فقه الواقع واالختصاص......................................................
49 عمل اليوم والليلة............................................................
51 توازن التربية.................................................................
51 شروط التربية................................................................
51 -الشرط األول :الصحبة والجماعة..........................................
52 -الشرط الثاني :الذكر......................................................
53 -الشرط الثالث :الصدق....................................................
الفصل الرابع
54 التنظيم
والية المؤمنين55 ...............................................................
اإلمارة57 .......................................................................
نظام اإلماري58 ................................................................
قيادات التنظيم59 ...............................................................
مالحظات63 ...................................................................
مسؤوليات القيادات التنظيمية63 .................................................
أجهزة التنظيم71 ................................................................
نقيب مجلس التنفيذ72 ...........................................................
األجهزة73 ......................................................................
النواظم الثالث77 ...............................................................
-الناظمة األولى :الحب في اهلل81 ............................................
-الناظمة الثانية :النصيحة والشورى89 ........................................
-الناظمة الثالثة :الطاعة89.....................................................
أمراض التنظيم102...............................................................
465
-الخالف102 ..........................................................
-ال إله إال اهلل104 .....................................................
-عصيان أولي األمر :أخطر األمراض105 ..............................
-األمراض الفرعية108 ..................................................
-العناصر المريضة110 ................................................
-القائد الجبار110 ......................................................
-العقوبات111 .........................................................
الفصل الخامس
113 الخصال العشر وشعب اإليمان
السلوك إلى اهلل114 ......................................................
شعب اإليمان115 .......................................................
وحدة السلوك118 .........................................................
الخصال العشر118 ......................................................
الخصلة األولى
122 الصحبة والجماعة
الصحبة والجماعة تربية122 ..............................................
الصحبة والمصحوب122 .................................................
عقد األخوة126 ...........................................................
دعاء الرابطة127 .........................................................
الجهاد إال بجماعة منظمة128 ............................................
الصحبة والجماعة تنظيما129 .............................................
اإلمام المصحوب131 ....................................................
فإن اتبعتني132 ..........................................................
اإلخاء بين المؤمنين133 ..................................................
التماس الصحبة والخير135 ...............................................
صحبة الشعب136 .......................................................
شعب الخصلة137 .......................................................
محبة اهلل ورسوله -الحب في اهلل عز وجل -صحبة المؤمنين إو�كرامهم -التأسي
برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في خلقه -التأسي برسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم في بيته -اإلحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق -الزواج بآدابه
اإلسالمية وحقوقه -القوامة والحافظية -إكرام الجار والضيف -رعاية حقوق
المسلمين واإلصالح بين الناس -البر وحسن الخلق.
466
الخصلة الثانية
146 الذكر
الذكر تربية146 .........................................................
كتاب اهلل وهذيان العالم146 ..............................................
أصول147 ...............................................................
طلب الكمال148 .........................................................
األوراد149 ...............................................................
الذكر تنظيما150 ........................................................
الوالية هلل151 ............................................................
عزاء الجاهلية152 ........................................................
شعب الخصلة154 .......................................................
ال إله إال اهلل -الصالة -النوافل -تالوة القرآن -الذكر وأثره -مجالس
اإليمان -التأسي بأذكاره صلى اهلل عليه وسلم -الدعاء وآدابه -التأسي
بدعواته صلى اهلل عليه وسلم -الصالة على النبي صلى اهلل عليه وسلم
التوبة واالستغفار -الخوف والرجاء -ذكر الموت.
الخصلة الثالثة
169 الصدق
الصدق تربية169 ........................................................
الصدق تنظيما174 .......................................................
الحماس واإلرادة175 .....................................................
الطليعة المجاهدة176 .....................................................
الهجرة والنصرة178 .......................................................
شعب الخصلة179 ......................................................
اإليمان باهلل وبغيبه -اإليمان باليوم اآلخر -النية واإلخالص -الصدق
النصيحة -األمانة والوفاء بالعهد -سالمة القلب -الهجرة -النصرة
الشجاعة -تصديق الرؤيا الصالحة وتعبيرها.
الخصلة الرابعة
193 البذل
البذل تربية193 ...........................................................
الفتوة193 ................................................................
المال والشرف195 .......................................................
باسم اهلل رب الغالم196 ..................................................
النفقة في سبيل اهلل197 ...................................................
467
البذل تنظيما198 .........................................................
التطوع198 ...............................................................
دعاة فعلة202 ...........................................................
شعب الخصلة205 .......................................................
الزكاة والصدقة -الكرم والنفقة في سبيل اهلل -إيتاء ذوي القربى
واليتامى والمساكين -إطعام الطعام -قسمة المال.
الخصلة الخامسة
العلم
223
العلم تربية211 ..........................................................
نعوذ باهلل من علم ال ينفع211 ............................................
النقل والعقل واإلرادة211 ..................................................
العلم النافع212 ..........................................................
العلم تنظيما213 ........................................................
وحدة التصور216 .......................................................
ذهنيات217 .............................................................
االجتهاد الجماعي219 ...................................................
شعب الخصلة222 ......................................................
طلب العلم وبذله -التعليم والتعلم وآدابهما -القرآن تعلمه وتعليمه -الحديث
الشريف واتباع السنة -التعليم بالخطابة -التعليم بالمواعظ.
الخصلة السادسة
230 العمل
العمل تربية230 ..........................................................
من الفتنة إلى اإليمان230 ...............................................
القدرة على إنجاز المهمات232 ............................................
العمل تنظيما235 ........................................................
الطاقات المهدرة235 ......................................................
ما العمل؟238............................................................
شعب الخصلة245 .......................................................
التكسب -طلب الحالل -العدل -إماطة األذى عن الطريق -التواصي بالحق
والصبر -تأييد اهلل عباده المجاهدين بالغيب -البركة في أرزاقهم.
468
الخصلة السابعة
259 السمت الحسن
السمت الحسن تربية259 .................................................
الزيال259 ............................................................... ّ
دعاة ال قضاة261 ........................................................
السمت الحسن تنظيما264 ................................................
بشر المنافقين264 ........................................................
فأعضوه266 .............................................................
شعب الخصلة271 .......................................................
الطهارة والنظافة -آداب اللباس -السمت الحسن والبشر -الحياء -آداب
المعاشرة -الجمعة والعيدان -عمارة المسجد.
الخصلة الثامنة
287 التؤدة
التؤدة تربية287 ..........................................................
ذهنية القطيع287 .........................................................
قولوا ال إله ال اهلل تفلحوا288 ..............................................
ما ضل قوم290 .........................................................
التؤدة تنظيما291 ........................................................
تمني المؤمنين291 .....................................................
شعب الخصلة300 .......................................................
الصوم -القيام في حدود اهلل -حقن الدماء والعفو عن المسلمين -حفظ اللسان
واألسرار -الصمت والتفكر -الصبر تحمل األذى -الرفق واألناة والحلم ورحمة
الخلق -التواضع.
الخصلة التاسعة
317 االقتصاد
االقتصاد تربية317 ......................................................
قعود ومثالية317 .........................................................
بين الفقر والترف318 .....................................................
السير إلى اهلل321 ........................................................
االقتصاد تنظيما322 .....................................................
القاعدة المادية322 ......................................................
كيف نشق طريقنا323 ....................................................
مسؤولياتنا325 ..........................................................
469
قواعد إسالمية327 .......................................................
أصول328 ...............................................................
حيازة المال329 ..........................................................
هناك استخالف عام331 ..................................................
وهناك استخالف خاص331 ..............................................
اإلنتاج333 ...............................................................
التوزيع335 ...............................................................
الشرع واالقتصاد340 .....................................................
شعب الخصلة346 .......................................................
حفظ المال -الزهد والتقلل -الخوف من غرور الدنيا -هواء في هواء.
الخصلة العاشرة
360 الجهاد
نصيبك من الدنيا360 .....................................................
الجهاد تربية وزحفا361 ...................................................
عود على بدء361 ........................................................
الجهادان األكبر واألصغر367 ............................................
الثورة والقومة369 .........................................................
الجهاد تنظيما وزحفا374 ..................................................
اهلل أكبر374 .............................................................
صناعة الموت377 .......................................................
أبواب الجهاد381 .........................................................
-1جهاد النفس382......................................................
-2جهاد المال385 ......................................................
-3جهاد التعليم388 .....................................................
-4جهاد األمر بالمعروف والنهي عن المنكر391 .........................
-5جهاد الكلمة والحجة394 ..............................................
-6جهاد التعبئة والبناء404 ..............................................
-7الجهاد السياسي408 ................................................
-8جهاد التنفيذ412......................................................
-9جهاد الكفر420 ......................................................
-10جهاد النموذج الناجح424 ..........................................
-11جهاد التوحيد432 ...................................................
شعب الخصلة438 .......................................................
470
الحج والعمرة -الجهاد في سبيل اهلل -التأسي برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
في الجهاد -الخالفة واإلمارة -المبايعة والطاعة -الدعوة إلى اهلل عز وجل
خاتمة460 ...............................................................
فهرس الكتاب464 ........................................................
471