Professional Documents
Culture Documents
وسطية القرآن الكريم في تعامله مع ظاهرة الطلاق
وسطية القرآن الكريم في تعامله مع ظاهرة الطلاق
وسطية القرآن الكريم في تعامله مع ظاهرة الطلاق
Volume (2), Issue (5): 30 Sep 2019 م2019 سبتمبر30 :)5( العدد،)2( املجلد
P: 123 - 140 140 - 123 :ص
ISSN: 2664- 4347
مدتها ،وفي النفقة بإعسار الزوج على اإلنفاق فوق ما تكلف نفسه ،فضال عن أن القرآن الكريم كان وسطيا يتعسف في العدة بإطالة ّ
ّ
حين ساوى بين طرفي الزوجية في طلب الطالق ،وحارب فيهما النشوز الذي يعكر صفو حياتها ويؤدي إلى الطالق ،بخطوات وقائية
ومراحل إصالحية تنأى بالجنسين عن سلطة الذكورة ولغة الصراع ،وترفع عن املرأة الهون واإلذالل ،وتحفظ عالقة التواصل بين اآلباء
واألبناء.
ّإن وسطية القرآن الكريم واعتدال اإلسالم في تعامله مع الطالق تنم على إعجازه الذي ال يغادر صغيرة أو كبيرة إال أحصاها ،فهو لم يحرمّ
الطالق حتى ال يكون متطرفا ،ولم يبحه إباحة مطلقة حتى ال يكون ظاملا ،كان بين بين حافظ على قدسية الزواج املشروط بالرضا
والسكينة ،وحافظ على قدسية العالقة اإلنسانية حال االنفصال بين الزوجين ،لقد كان رحيما باإلنسان وهو ّ
يسن له الزواج ،ورحيما
به أيضا وهو يرخص له الطالق ،وأرحم وهو يبغض هذا الطالق.
الكلمات املفتاحية :القرآن ،الطالق ،النشوز ،تقييد ،عرى الزوجية .التدريج.
مقدمة:
الحمد هلل ّ
رب العاملين ،والصالة والسالم على أشرف املرسلين ،محمد خير البشرية املبعوث رحمة وهدى
للعاملين.
إشكالية البحث:
تعاني املجتمعات اإلسالمية؛ من تفش ي مظاهر التشتت والتمزق االجتماعي؛ ولعل أشدها فداحة ما وصلت
ً
وشعارا للحرية الكاذبة، إليه األسرة وما آلت إليه املجتمعات التي ّتدعي أنها مسلمة ،وقد نصبت الطالق مفخرة،
وبجانب ذلك فهناك قصور وتساهل لدى معظم املجتمعات املسلمة حول أبغض الحالل إلى هللا؛ الطالق ،وأن هللا ما
ً ً
تكريما لإلنسان ورحمة به ،وتقديسا للعالقة الزوجية التي يجب أن تتأسس على مبدأ األمن والطمأنينة أبغضه إال
ً والرضا الذي يقيمه القرآن الكريم ً
عالجا ،ويحض عليه بلغة واضحة ال تحتاج تأويال.
تتحدد مشكلة هذا البحث في األسئلة اآلتية:
-1ما موقف اإلسالم من الطالق؟
-2كيف تعامل اإلسالم مع الطالق في إطار تقديسه للعالقة الزوجية؟
-3ما هي التزامات الزوجين إزاء األحكام التي أحاط بها القرآن الكريم دائرة الطالق؟ وفيم تكمن وسطية القرآن
الكريم وهو يقيد ويسعى للحد من ظاهرة الطالق؟
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى تحقيق اآلتي:
.1توضيح موقف اإلسالم من الطالق.
.2بيان كيف تعامل اإلسالم مع الطالق في إطار تقديسه للعالقة الزوجية.
.3تحديد التزامات الزوجين إزاء األحكام التي أحاط بها القرآن الكريم دائرة الطالق.
.4إظهار وسطية القرآن الكريم وهو يقيد ويسعى للحد من ظاهرة الطالق.
أهمية البحث:
تبرز أهمية البحث من أهمية موضوعه ،ومن قلة األبحاث التي تناولت املوضوع ،وبذلك فمن املؤمل أن
تفيد نتائج البحث على النحو اآلتي:
ً
-1قد تفيد في زيادة الوعي بأهم املوضوعات االجتماعية في اإلسالم ،وخصوصا مسألة الطالق ،كظاهرة عاملية،
وبيان أهمية الرجوع إلى قواعد الدين هللا اإلسالمي ،إذ هو الكتاب الجامع املانع ،الجامع ملعالم القوة
كرم بها وهي خالفةوالرحمة والهدى ،واملانع مما يحط من قيمة العالقة اإلنسانية ،ومن رسالة اإلنسان التي ّ
هللا في األرض.
كرم الرجل بالقوامة إال ليصون املرأة ويحفظها ّ
-2قد تفيد في بيان عظمة اإلسالم ،والتأكيد على أن اإلسالم ما ّ
من االنزالق في براثن الهوى.
-3من املؤمل أن يمثل البحث إضافة نوعية للمكتبة العربية؛ بما يفيد الباحثين في املوضوع وجميع املهتمين.
منهج الدراسة:
-1استعنت في دراستي بقواعد املنهج التحليلي النقدي الذي يعنى بالتركيب والتفكيك والتحليل.
-2التزمت في هذا املنهج بتعريف املصطلحات الفقهية اللغوية من مصادرها املعتمدة.
-3توثيق املصادر واملراجع في الحواش ي ،وفي فهرس البحث ،مبتدئة باسم املؤلف ثم اسم الكتاب حسب الحروف
الهجائية.
-4عزوت اآليات إلى مواقعها في السور بذكر اسم السورة ورقم اآلية.
ّ -5
خرجت األحاديث النبوية ،وعزوتها إلى مصادرها.
الدراسات السابقة:
تناول موضوع الطالق عدد كبير من الباحثين واملفسرين ،وأسهبوا فيه ّأيما إسهاب ،منهم:
-1الدكتور أحمد شاكر في كتابه "نظام الطالق".
-2روحية مصطفى أحمد في كتابها "اآلثار املترتبة على مخالفة قيود الطالق السني".
-3الدكتور عادل صدقي في كتابه "الطالق ليس هو الحل".
-4الدكتور عماد عمر خلف هللا أحمد في بحثه "ظاهرة الطالق –أسبابها وأثرها وعالجها –في ضوء الهدي النبوي
ّ
والسنة النبوية ،العدد الثاني ،سنة 2015م. " ،من مجلة مركز بحوث القرآن الكريم
طيبة عن أهمية اللجوء إلىكونت لدى العقل االبشري فكرة ّ وغيرها من الدراسات والبحوث العلمية التي ّ
نظام القرآن في عالجه لظاهرة الطالق التي تعدت حدود هللا.
خطة البحث:
بنيت دراستي املتواضعة على مبحثين ،تناولت في املبحث األول مفهوم الطالق بين اإلطالق والتقييد ،قسمته
على ثالثة مطالب ،بعد تمهيد خصصته للتعريف بالطالق لغة واصطالحا ،وحكمه ،وأنواعه ،تضمن املطلب األول
حصر أسباب الطالق ،واملطلب الثاني التدريج في الطالق "الطالق مرتان" وحكمة القرآن ،أما في املطلب الثالث
فوقفت على آيتي العدة والنفقة في الصلح ،كما طرقت في املبحث الثاني إلى إعجاز القرآن في عالج ظاهرة النشوز عند
الزوج والزوجة ،ألختم بنتائج ّتوجتها ببعض التوصيات.
وفي األخير أرجو أن يثمر عملي بما يفيد الفرد واملجتمع ،فالسعادة أن ترى الفرحة في عيون اآلخرين ،وتكون
أنت سبب هذه الفرحة .وباهلل التوفيق والسداد.
تمهيد:
()1
لقد اختلف الفقهاء في تعريف الطالق ،وإن كان يحمل لغة معنى "التخلية واإلرسال" .
ّ بأنه ّ ّ حيث ّ
"حل قيد النكاح"( ،)2وعرفته الحنفية بأنه "رفع قيد النكاح الثابت شرعا في املآل عرفه الحنابلة
واملآل بلفظ مخصوص"( ،)3أما املالكية فعرفوه بأنه "إزالة عصمة الزوجة بصريح لفظ ،أو كناية ظاهرة ،أو لفظ ما
حل عقدة النكاح بلفظ الطالق ونحوه"(.)5مع ّنية"( ،)4كما عرفته الشافعية بأنه " ّ
( )1ابن منظور ،أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ،لسان العرب ،ص138 .
( )2ابن قدامة موفق الدين ،املغني على الشرح الكبير ،ج 1ص.82 .
( )3الزعبلي ،فخر الدين عثمان بن علي الحنفي ،تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ،ح 3ص.20
( )4النفراوي ،الشيخ أحمد بن غنيمبن سالم بن مهنا ،الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني ،ج3ص57
( )5الشربيني بن زكريا أحمد بن محمد فارس ،معجم مقاييس اللغة ،ج3ص420 .
( )6سورة البقرة229 . :
( )7سورة البقرة230 . :
( )8سورة البقرة230 . :
( )9أحمد عبيد الكبيس ي ،ص .293
( )10الغزالي ،أبو حامد ،إحياء علوم الدين ،ص 87
-1االختيار الخاطئ للطرف اآلخر الذي يؤلف معه رباط الزوجية؛ فال املرأة تختار الرجل الصالح الذي ترض ى
َّ دينه وخلقه مصداقا لقول الرسول عليه الصالة والسالم :إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه ّ
فزوجوه إال
َ َ َ ْتف َعلوه َت ْ
فت َنة في األ ْرض وف َساد كبير"( ،)11وال الرجل يختار املرأة الصالحة لقول رسول هللا –صلى هللا عليه كن ْ
ْ "تن َكح املَ ْرأة ْ
وجمالها ولدينها فاظ َفر بذات الدين ألرَبع ملالها َ
ولح َسبها َ وسلم -عن أبي هريرة -رض ي هللا عليهْ : -
َ
ت َربت يداك"(.)12
ْ َ َ ْ َّ َ َ َ َّ ْ
هن بامل ْعروف"( ،)13وقوله تعالى: هن مث ُل الذي علي -2انتفاء مبدأ املعاشرة باملعروف بين الزوجين ،لقوله تعالى" :و ل
َ َ َ َ َ َْ َّ َ إن َك ْ وهن باملَ ْع ُروف َف ْ
تموهن ف َع َس ى أ ْن تك َر ُهوا ش ْيئا َو َي ْج َعل هللا ُفيه خ ْيرا كثيرا"(.)14 ره اشر َّ أيضا"َ :و َع ُ
رج َن بيوتهن َوال َي ْخ ْ
َّ رجوهن ْ
من َّ َّ ْ َ ْ
كم ال تخ مبينة ،والخيانة الزوجية ،لقوله تعالى"َ :و َّاتقوا هللا رب -3اإلتيان بفاحشة ّ
َ َ قل َّإن َما َح َّر َم َ ّبي َ
مب ّي َنة "( ،)15وقوله تعالى :أيضاْ " : َ َ ْ َْ ْ َ َ َ
احش َما ظ َه َر ْمن َها َو َما َبطن"(.)16 الف َو َ ر احشة َ إال أن يأتين بف
-4غياب شرط الرضا والباءة في الزواج لقول الرسول -صلى هللا عليه وسلم ،عن عبد هللا بن مسعود" :من
فإنه له
َّ ْ َّ َ
طع ف َع ْليه بالصوم
ْ ْ َ ْ َ ْ َ
للف َرج ،ومن لم يست صن َ أح َ صرَ ،و ْ للب َفإنه َأ َّغض َ الباءة ْفل َيت َز َّو ْجَّ ،
منكم َ ْ اس َت َ
طاع ْ
ْ َ َ َ َ َ ْ ْ َْ َ
فسكم من أن وجاء"( .)17والباءة هي القدرة النفسية واملادية على أداء واجب الزواج ،وقوله تعالى" :وخلق لكم
َأ ْز َواجا َلت ْسكنوا َإل ْي َها َو َج َع َل َب ْي َن ْ
كم َم َو َّدة َو َر ْح َمة"(.)18
َ َ َ َ
"الرجال ق َّوامون َعلى -5تقصير الزوج ،أو إهماله لقوامته على شؤون زوجته ،وصون كرامتها ،لقوله تعالى:
َْ َْ َ ْ َ الن َساء َبما َف َّ ّ
هم َعلى َب ْعض َو َبما أن َفقوا(.")19 ضل هللا بعض
العنة ،الخصاء" ( .)20ويذهب -6وجود عيب من العيوب النفسية (الجنون) ،أو العيوب الجسدية مثل الجبّ ،
ينفر الزوج لآلخر منه ،وال يحصل معه مقصود الزواج من الرحمة أن " كل عيب ّ قيم في قياسه إلى ّ ابن ّ
()21
واملودة يوجب الخيار"
ّ ً
تلك األسباب وغيرها يحصرها القرآن الكريم جميعا في سبب واحد وهو أن اإلنسان نس ي في دوامة الطالق
َ َ
أن ّيتقي هللا ،ويتمسك بكتاب هللا وسنته ،وال يتخذ آيات هللا هزؤا حتى ال يضيع ،لقوله تعالى"َ :و ال ت َّتخذوا َآيات هللا
بكل َش ْاع َلموا َأ َّن هللا َ ّ عظكم به َو َّاتقوا هللا َ َو ْ
ْ ْ
الكتاب َوالحك َمة َي من َ كم َ كم َو َما َأ ْن َز َل َع َل ْي ْنع َم َة هللا َع َل ْي ْ هزوا َو ْاذكروا ْ َ
()22
َعليم".
( )11الراوي أبو حاتم املزني ،املحدث الترمذي ،املصدر سنن الترمذي ،الجزء أو الصفحة1085 :
( )12صحيح البخاري ،كتاب النكاح ،باب األكفاء في الدين ،الجزء رقم3 .
( )13سورة البقرة228 :
( )14سورة النساء19 :
( )15سورة األحزاب1 :
( )16سورة األعراف.33 :
( )17رواه البخاري ،الراوي عبد هللا بن مسعود ،أفق ،4704 :العزو)5065( :
( )18سورة الروم21 . :
( )19سورة النساء34 :
ّ ّ
( )20عبد الرحمن الجزيري ،الفقه على املذاهب األربعة ،ص* .246الجب :هو قطع الذكر ،وما بقي منه ال يكفي الجماع .العنة :هي عجز
سل الخصيتين ،والذكر.الرجل عن الجماع ألسباب نفسية أو مرضة .الخصاء :هو ّ
( )21أحمد عبيد الكبيس ي ،األحوال الشخصية في الفقه والقضاء ،ص.293
( )22سورة البقرة231 . :
فالقرآن الكريم جاء؛ لينظم ظاهرة الطالق بعدما كانت مجرد كلمة يتفوه بها الرجل ،أو ورقة يعبث بها متى
عز ّ
وجل: وكيفما شاء ،ويحيطها بأحكام مزج فيها التشريع بالتربية األخالقية واألحكام العملية باآلداب النفسية؛ لقوله ّ
أن وجود املرأة مكمل لوجوديسرا"( ،)24ويؤكد ّمن ْأمره ْهللا َي ْج َع ْل َله ْ
يسرا"(َ " ،)23ومن َي َّتق َ يج َعل هللا َب ْع َد ْ
عسر ْ "س ْ
َ
ً الرجل ،وال ّ
يقل شأنا وفاعلية من دور الرجل " إن هللا سبحانه وتعالى :لم يشأ أن يحرم املرأة على زوجها هفوة حتى ال
تأكل الحسرة قلبه ،أو تطيح الندامة بفؤاده ،فقد يكون الطالق قد وقع منه في غمرة من الغضب بال تقدير لعواقبه
وانتباه إلى سوء منقلبه ،أو تكون املرأة قد ركبها شيطان عقلها واستولى عليها زيف هواها ّ
فسولت لها الوساوس إساءة
عشرة زوجها ليقوم بتطليقها ،ثم رجعت إلى عقلها وفاءت إلى صوابها"(.)25
وهذا ما تبين من خالل قوله تعالى( :فإن طلقها) وهو شرط جازم يعقبه جواب شرط متصل بفاء الجزاء (فال
تحل له) التي تدل على ال حلية الزوجة بعد الطالق البائن لزوجها األول إال بعد بضعة وقت (من بعد) حين يتم
طالقها من الزوج اآلخر لتتحقق املراجعة الزوجية برضا الزوجة ،وشرط إقامة حدود هللا وتقدير مسؤولية الزواج.
َ َ َ َ َ
اللهَ ،و َ
تلك حدود الله َيب ّي َنها لق ْوم َي ْعلمون"(.)30 إن َظ َّنا َأ ْن َ
يقيما حدود هما َأ ْن َي َت َر َ
اج َعا ْ َ َ َ َ ََْ َ
لقوله تعالى " :فال جناح علي
()31
املطلب الثالث :العدة والنفقة آيتان للصلح
ً مرتان" ّ إذا كان "الطالق ّ
يحد من الفرقة بين الزوجين ،ويفتح مجاال لتهدئة النفوس ،وردع وساوسها،
العدة مرحلة أخرى تتقابل فيها كفتا الرجعة والبينونة ،وفسحة تتوسط فإن ّوتذكيرها بميثاق الزواج الغليظّ ،
معادلة االتصال واالنفصال ،وتصل بينهما ،ومرفأ تستقر فيه األنفس وتصطلح ،بواسطة حكم تراعى فيه الحكمة
والرشاد التخاذ القرار الحصيف "فمتى كانا عدلين متجردين عن الهوى فإن رأيهما في إبقاء عالقة الزوجية أو فصمها
()32 ً
واجب التنفيذ ،فقد استكشفا الحقيقة واختبر األمر ،فحكمها غالبا هو الصواب"
مصداقا لقوله ّ
عز ّ ً ّ
وجل: وال يتأسس هذا الصلح إال على قبول ورضا الزوجين بمراجعة العشرة الزوجية،
بإح َسان"(.)33 فإم َساك َبم ْعروف َأ ْو َت ْسريح ْ َّ
"الط َالق َم َّرَتان ْ
فعبارة (إمساك بمعروف) الواردة في اآلية القرآنية كما يفسر الرازي تدل على وقوع الرجعة بالجماع؛ ألن
ّ
اإلمساك على النكاح إنما هو الجماع وتوابعه من اللمس والقبلة ونحوهما ،والدليل عليه أن من يحرم عليه جماعها
فدل ذلك على أن اإلمساك على النكاح مختص بالجماع فيكون الجماع تحريما مؤبدا ال يصلح له عقد النكاح عليهاّ ،
ً
ممسكا لها ،وكذلك اللمس والقبلة للشهوة والنظر على الفرج بشهوة"(.)34
أما (تسريح بإحسان) فهو إطالق سراح زوجته مع ضمان حقوقها املشروعة لقاء ما حصل عليه من متعة
َّ هن ْ أج َل َّ َ َ َّ ْ ْ ّ
الن َس َاء َف َب َل ْغ َن َ ً
سكوهن فام وتعويضا لكل ضرر ألحقه بزوجته ماديا كان أو معنويا ،قال هللا تعالى" :وإذا طلقتم
َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ََ َ
لك فق ْد ظل َم ن ْف َسه"(.)35 ضر ًارا َلت ْع َتدوا ومن يفعل ذ َّ
سكوهن َ َ َبم ْعروف َأو َْس ّر َّ
حوهن َبم ْعروف وال ْتم
تلك هي القاعدة التي تبنى عليها الحياة الزوجية في القرآن الكريم "فإن محيت آية املعروف ّ
فدبت النفرة،
ّ
وساءت العشرة واتسع الصدع ،وامتنع التوفيق سواء أكان سبيل ذلك الزوج ،أم الزوجة ،أوهما معا فما خير تلك
الحياة ،وما فضل البقاء عليها؟ وقد جعل هللا الزواج مبعث الود والرحمة ،ال سبيل التعس ،وبؤس الحياة .لذلك
أبيح الطالق"(.)36
َّ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ ْ ْ
فسهن ثالثة قروء. ص َن بأن وقد قدرت مدة تربص املرأة (العدة) من خالل سياق اآلية القرآنية "واملطلقات يترب
َ َ َّ َ ْ َ َّ ْ َّ ْ َ ََ َ َ َ َ ّ َ َّ ْ ْ
َ ّ َ ّ َّ ()37
تهن أحق بردهن" بثالثة أقراء بعول َّ والي ْوم اآلخر وبالله َ كن يؤمن أن َيك ْتم َن ما خل َق الله في أرحامهن إن وال يحل لهن
أو ثالث حيض إن كانت من ذوات الحيض ،واستبراء الرحم لذوات الحمل.
واختلف في املراد بالقروء هنا " ،فقال عمر وجماعة كثيرة ،املراد بالقرء في اآلية الحيض ،وقالت عائشة،
ْ
وجماعة من الصحابة ،والتابعين ومن بعدهم املراد هو األطهار وهو قول مالك ،واختلف املتأولون في قوله تعالىَ " :ما
َْ َ ََ
مهن" فقال ابن عمر ومجاهد ،وغيرهما هو الحيض والحبل فيها ،ومعنى النهي عن الكتمان ،النهي عن حا َّ خل َق هللا في أر
وإثباتا"( .)38في حين تقدر مدة تربص ً حقها في االرتجاع ،فأمرن بالصدق نفيا اإلضرار بالزوج في إلزامه النفقة ،وإذهاب ّ
األمة كما أخرج األئمة األربعة من خالل عموم اآلية السابقة "بقرأين ألنها على النصف من الحرة والقرء ال يتبعض
فكمل لها القرآن"(.)39
ولعل طول مدة التربص املحددة بثالثة قروء أو حيض يدل على "طول زمن املهلة واالختيار"( ،)40حتى تفرغ
يعتد فيه طرفا الزوجية؛ ألن ما شاب الحياة الزوجية العقول وتفكر القلوب وتدبر األبصار ،في حوار داخلي وخارجي ّ
من صراع وعاصفة يحتاج إلى جو من الهدوء والسكينة ملراجعة الوضع واختيار أحد الحلين؛ ّإما اإلمساك واملراجعة
القائمة على الرضا والصلح (املعروف) ،أو التسريح الذي يتبعه اإلحسان وتعويض الضرر ماديا ومعنويا لقاء ما حصل
إن لك ْ دهن في َذ َ تهن َأ َح ّق َبر َّ وبعول َّ َ
وتقديرا ملا بذلته املرأة طيلة الحياة الزوجية ،لقوله تعالى" : ً عليه الزوج من متعة،
َ َ َ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ
(.)41
هن َد َر َجة َوهللا َعزيز َحكيم " للر َجال َعل ْي َّهن بامل ْعروف َو ّ مثل الذي َعل ْي َّ أ َرادوا إصالحا ولهن
تحل الزوجة فيه لزوجها بعد انقضاء العدة إال بعقد جديد ،وبعد نكاحها وإال يكون الطالق البائن الذي ال ّ
()42 َ َ
من َب ْعد َح َّتى ت ْنكح ََز ْوجا غ ْي َره". حل َله ْ قها َف َال َت ُ"فإن َط َّل َ من رجل آخر وطالقهما منه ،قال تعالىْ :
وإذا كان ضرر املرأة واقعا بالطالق فهو في تطليقها حال الحيض أشد وقعا؛ ذلك ألن في هذه الحالة تكون
()43
الزوجة "راغبة تائقة إذا كان أصل املحبة ثابتا" .
ً
فضال عن أن وقوع الطالق في هذه الحال باعث على طول العدة ،وبالتالي نفور الزوجة وتضررها .فالطالق
زمن طهر الزوجة بعد الجماع هو قرينة يقين من نوع العدة (القرء أو الحمل).
" إذا طلقت حال الحيض لم تستقبل العدة ،حيث إن الحيضة التي طلقت فيها ال تحسب من العدة ،وإذا
طاهرا بعد الجماع لم تكن العدة التي تستقبلها معلومة حيث إنه ال يعلم هل حملت من هذا الجماع ،فتعتد ً طلقت
بالحمل ،أو لم تحمل فتعتد بالقرء ،فلما لم يحصل اليقين من نوع العدة حرم عليه الطالق حتى يتبين األمر ومعنى في
َ
ذلك هو تضررها بطول مدة التربص ،فإن زمن الحيض والنفاس لو طلقت فيه ال يحسب من العدة( )44قال تعالى" :يا
َّ
رج َن إال بيوتهن َوال َي ْخ ْ
َّ من رجوهن َّْ ْ َ
العدة َو َّاتقوا الل َه َرَّبكم ْال َتخ
واحصوا َّ تهن ْ لعد َّقوهن َّالن َساء ََف َط ّل َّ
ّ ّ َ َ َ َ َّ
الن ّبي إذا طل ْقتم أيها
َ ْ َ َ َ َْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ
مبينة وتلك حدود الله ومن َيت َعد َّحدود هللا فقد ْظلم َنف َسه ال تدري ل َع َّل هللا ْ َ ْ َ َ ْ َ ّ َأ ْن َيأتين بفاحشة َ
َ َ َ ْ
يحدث بعد ذلك أمرا
ثم يطلق بعد العدة مضارة للزوجة ،وأن يراجعها قرب انقضاء األجل ّ "( ،)45فالخطاب هنا فيه نهي الرجل أن يطيل ّ
ّ
اجعوهن ّ
امسكوهن) ر أجلهن" قاربن؛ ألنه بعد بلوغ األجل ال خيار له في اإلمساك ،ومعنى( ّ ذلك ،فمعنى "وبلغن
()46 ّ ّ
و(بمعروف) قيل هو اإلشهاد ،و( ال تمسكوهن ) أي ال تراجعوهن( ضرار )" .
ًً ً ّ
بائنا يقع بالدخول وغيره ،ويحفظ حقوق املرأة عند اكتمال إن الطالق في القرآن الكريم سواء كان ُرجعيا أم
النس َاء وإذا َط َّل ْقتم َّ َ
عدتها في املسكن واملبيت ما لم تأت بفاحشة ،وذلك ابتغاء الصلح بين الطرفين لقوله تعالى" :
َّ َ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ََ
حوهن َبم ْعروف وال ْتمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم
َ سكوهن َبم ْعروف َأ ْو َس ّر َّ َّ َ ََ ْ َ َ َ َ ّ َ
هن ف ْام فبلغن أجل
َ
ن ْف َسه"(.)47
ففي إحسان الزوج إلى من كانت زوجته عن طريق اإلنفاق عليها بإتيان أجورها وكسوتها بالرضا واملعروف
تدل على حرص القرآن الكريم على إثمار التواصل بين الزوجين حال فصلهما لعرى الزوجية ،وزرع الطمأنينة حكمة ّ
والسكن الذي غاب في رباط الزوجية من جديد حتى تصفى القلوب ،ويأنس األبناء ،وتقوم دعامة الكون في املودة
مم َا َآتاه ُ
هللا فق ّ قدر َع َل ْيه ر ْز ُقه َف ْل ْين ْ
من َس َعته َو َم ْن َ فق ذو َس َعة ْ لين ْ والتعارف الذي خلق اإلنسان ألجله ،قال تعالىْ " :
هن كس َو ُت َّ
هن َو ْ يس َرا"( ،)48وقال أيضا"َ :و َع َلى املَ ْولود َله ر ْز ُق َّ عسر ْ هللا َب ْع َد ْ إال َما َأ َت َاها َس َي ْج َع ُل ُ
َ ْ ً َّ َ َّ ُ
ال يكلف هللا ُنفسا
َّ َ
عوهن َعلى وجلَ " :و َم ّت عز ّ لدها َو َال َم ْو ُلود َبو َلده"( ،)49كما قال ّ َّ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ َ
بامل ْعروف ال تكلف ن ْفس إال وسعها ال تضار والدة بو
َ َّ َ َ
َ ()50
املحسنين"َ اعا باملَ ْعروف َح ّقا َع َلى ْ املُوسع َق ْدره َو َع َلى ْ
املقتر َق ْدره َم َت َ
هذا عن املطلقة ،أما املرأة املتوفى عنها زوجها (األرملة) فتقدير عدتها أربعة أشهر وعشر مصداقا لقوله تعالى:
فيما هن َف َال َجناح ََع َل ْيكم َ وع ْشرا فإذا َب َل ْغن ََأ َج َل َّ
فسهن َأ ْرَب َع َة َأ ْشهر َ
َّ َ ّ َ َ َ َّ ْ َن ْ َ َ َ َ َ ْ َو َ َ َ َّ ْ َ ْ
ص َن بأن " والذين يتوفو منكم ْويذرون أز اجا يترب
ْ َ َ ْ َ َن َ َّ َ َْ َ ْ
فسهن بامل ْعروف والله بما تعملو خبير" .
()51
ف َعل َن في أن
تنم على إعجاز القرآن الكريم ووسطيته في تعامله مع الزوجين، ففي عدة املرأة املتوفى عنها زوجها حكمة ّ
وحفظ مودة املرأة لزوجها ،وتقدير مسؤولية الزواج إن هي تصرفت في حياتها وتزوجت مرة ثانية ،وفي كال الحالتين
ألن في تربصها تجمع عواطفها؛ لتتأكد من استعدادها ألداء واجب الزواج وقائمة السكن تحفظ قدسية الزواج؛ ّ
واملودة.
بالعدة والنفقة؛ فلم يرسل الطالق مرةّ ّ ّ
ومنه ،نجد أن القرآن الكريم تدرج وتوسط في األحكام املتعلقة
يضر بالطرفين ،كما لم يطلق مقدار النفقة فجعله على قدر سعة واحدة ،ولم يطل الفسحة بين التطليقتين حتى ال ّ
تفرق الزوج ،حتى يستطيع أن يؤدي واجب قوامته ،ويضمن راحة واستقرار أبنائه وإحساسهم بالدفء العائلي وإن ّ
الزوجان.
( )52اإليالء :في اللغة الحلف ،وفي الشرع الحلف الواقع من الزوج أن يطأ زوجته وهو محرم ،ألنه يمين على ترك واجب .من "نيل
األوطار" ،كتاب اإليالء ،ملحمد بن علي الشوكاني ،ط.1993 ،1
( )53محمد بن علي بن محمد الشوكاني ،نيل األوطار ،ص.51
( )54سورة البقرة.226 :
( )55بدران أبو العينين بدران ،الزواج والطالق في اإلسالم ،ص.416
( )56سيد قطب ،في ظالل القرآن ،ص.357
( )57سورة البقرة.26 :
( )58سيد قطب ،مس ص .358
وإذا كان اإليالء حلفا يقع على املرأة املطلقة طالقا رجعيا ،كما يقع على املرأة غير املطلقة باتفاق العلماء
فمس الرجل لزوجته أيام التربص يبطل ّ عدا املعتدة من طالق بائن ،فإنه ال تكفي عدة أربعة أشهر لنفاذ اإليالء،
اإليالء ،ويوجب على الزوج كفارة اليمين( )59فقد جاء "إن لألزواج الذين يحلفون على ترك قربان زوجاتهم أن ينتظروا
أربعة أشهر فإن فاءوا وعادوا إلى االتصال بزوجاتهم قبل مض ي املدة فعودهم هذا يكون توبة منهم عن الذنب الذي
اقترفوه في حق زوجاتهم ،فاهلل يغفر لهم بالكفارة عنه ،أما أصر األزواج على تنفيذ يمينهم واستمروا على هجر
زوجاتهم فلم يقربوهن حتى مضت املدة املذكورة (أربعة أشهر) فإن ذلك يكون منهم إصرار على الطالق فيكون
إيالؤهم طالقا"(.)60
لتعتد الزوجة املولى منها كما ذهب الجمهور" كسائر املطلقات ألنها مطلقة"(.)61
ومنه لم يطلق القرآن الكريم حبل اإليالء للزوج ،بل بين له حكما مغايرا ملا كان في الجاهلية من تحريم
الزوج زوجته عليه تحريما مؤبدا يؤذيها به يضرها ،وقيده بضرورة ملحة تستدعي حل الرباط الشرعي وتستحيل معها
الحياة الزوجية وأوضح أن حكم من لم يرجع عن يمينه ويعود إلى زوجته اإلثم في اآلخرة والحكم بالطالق أو
االنفصال في الدنيا.
كما يقع نشوز الزوج عن طريق الظهار الذي أنكره اإلسالم واعتبره يمينا مكفرة رحمة من هللا تعالى ، :بعد
الالئي َت َّظ َاه َ
رون ْمن ْهم َّأم َه ْ َ َ َ َ َ ََْ َ ْ َ
اتكم"(.)62 ما كان طالقا في الجاهلية مصداقا لقوله تعالى" :وما جعل أزواجكم
ّ وقد ّ
عرف ابن عرفة رحمه هللا الظهار بأ نه "تشبيه زوج زوجته ذي أمة حل وطؤه إياها بمحرم منه أو بظهر
أجنبية في تمتعه بهما والجزء كالكل واملعلق كالحاصل"(.)63
والظهار واقع على الزوجة املدخول بها أو غير املدخول بها ،وال تحل الزوجة املظاهر منها لزوجها حتى يؤدي
كفارة حددها القرآن الكريم بتحرير رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين ،أو إطعام ستين مسكينا كغاية امتد إليها
إن َ
هللا اوركما َّتح َ جها َوت ْش َتكي َإلى هللا َو ُ
هللا َي ْس َمع َ ْ َ َ َ ْ َ ّ َ ُ
ادل َك في َز ْو َ تحريم القول .قال هللا تعالى " :قد سمع الله َقول التي تج
َسميع َبصير"(.)64
حيث روى أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها ،فأتت النبي صلى هللا عليه وسلم فسألته كذلك فقال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :قد حرمت عليه ،فرفعت رأسها إلي السماء ،فقالت إلى هللا أشكو حاجتي إليه،
وعائشة تغسل شق رأسه األيمن ،ثم تحولت إلى الشق اآلخر ،وقد نزل عليه الوحي ،فذهبت أن تعيد ،فقال :يا
عائشة ،اسكتي ،فإنه قد نزل الوحي ،فلما نزل القرآن ،قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لزوجها :اعتق رقبة ،قال،
ال أحد .قال صم شهرين متتابعين ،قال :إن لم آكل في اليوم ثالث مرات خفت أن يعشو بصري ،قال :فأطعم ستين
مسكينا ،قال :فأعني ،فأعانه (بش يء)(.)65
إن هن َّأم َه ُات ْهم ْائهم َما َّ
نس ْ ْمن َ منكم ْ رون ْالذين َي َظ َاه َ
َ و اختلف الفقهاء في معنى العود الوارد في قوله تعالى" :
َ
الق ْول َو ُزورا وإن هللا لغفور َرحيم ،والذين يظاهرون َمن نس ْ َ َ َن ُ ْ ً َ َ َ َ َّ ْ َّ َ
ائهم َّ
ثم َ ْ َ َ َ َ َ َّ هاتهم إال الالئي َول ْد َن ْهم َو َّإن ُه ْم ل َيقولو منكرا من أم
( )59كفارة اليمين :إذا فاء الزوج أي رجع عما حلف على ترك وطء زوجته ،سواء كان فيؤه قبل األربعة أشهر أم بعدها؛ ّ
ألن اإليالء يمين.
( )60أبو العينين بدران ،الزواج والطالق في اإلسالم ،ص.417
( )61أحمد محمد عساف ،األحكام الفقهية في املذاهب األربعة ،ص.397
( )62سورة األحزاب.04 :
( )63جبير محمود الفضيالت ،أحكام الظهار ،ص .8
( )64سورة املجادلة.01 :
( )65الجصاص ،م س ،ص ،513مصدر الحديث الشريف :دخيرة الحفاظ ،املحدث :ابن القيسراني ،الصفحة والرقم.2/638 :
وأخيرا مرحلة الضرب إذا خاب رجاء الزوج في الصلح على أن يكون الضرب غير مبرح وال شائنا وذلك تأديبا ً
للزوجة الناشز ،وصونا لكرامتها من الهون والظلم " والتأديب هنا ال يعد انتقاصا من حق املرأة بل حفاظا عليها في
أسرتها وحتى ال تكون أبسط األسباب سببا في الفراق استجابة لطلب املرأة التي قد يصدر كالمها في حاالت انفعالية،
بينما الرجل الذي أنفق وعليه الجهاز وكل املسائل من مهر وسواه سيتريث حكما على األقل من الناحية املصلحية
(.)72
"
فمشروعية ضرب النساء كما يرى صاحب تفسير املنار " ليست باألمر املستنكر في العقل أو الفطرة فيحتاج
إلى التأويل ،فهو أمر يحتاج إليه في حال فساد البيئة وغلبة األخالق الفاسدة ،وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع املرأة
عن نشوزها يتوقف عليه "(.)73
َّ َ
سكوهن َ
ضرارا وهذا الجتناب قدر املمكن ما ينتج عن الطالق من ضرر وضرار مصداقا لقوله تعالى"َ :وال ْتم
الكتابْمن َ الله َو َما َأ ْنزل َع َل ْيكم َ
َْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ََ َ
لك فق ْد ظلم َن ْف َسه َوال ت َّتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة لتعتدوا ومن يفعل ذ
َ َ َ َّ َ َ َّ
والحك َمة َيعظكم ْبه واتقوا الله َواعلموا أن هللا ّ
ْ َ ْ
بكل ش ْيء عليم " .وقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم -في صحيح ()74
النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة هللا واستحللتم فروجهن بكلمة هللا ولكم عليهن أال يوطئن هللا في َّ اتقوا َ مسلمُ " : -
ً فعلن ذلك ْ ْ
()75 غير ّ
مبرح ". ضربا َ فاضربوهن تكر ُهونه ،فإن
فرشكم أحدا َ
هذه األمور الثالثة املتمثلة في املوعظة والهجران والضرب ينبغي أن يتدرج فيها ،قال هللا تعالى"َ :فإن َْأ َط ْع َن ْ
كم
هن َسبيال"( ،)76أي " فأزيلوا عنهم التعرض باألذى والتوبيخ والتجني وتوبوا عليهن واجعلوا ما كان منهن َف َال َت ْب ُغ ْوا َع ْلي َ
كأن لم يكن بعد رجوعهن إلى الطاعة واالنقياد وترك النشوز"(.)77
أن تدريجية القرآن الكريم في التعامل مع املرأة تستوفي مرحلة أخرى للصلح عن طريق بعث حكم فضال عن ّ
ْ َْ ْ ْ َ
صال َحا) ،إال إذا وقع الخوف من أن ال يقيما رشيد من أهل الزوجين على أساس التراض ي بين الزوجين (إن يريدا إ
حدود هللا ويطيعاه إن استمرت الحياة الزوجية بينهما ،فاستخفاف املرأة بحق زوجها وعدم طاعتها له تجاوز لحدود
هللا ،روى البخاري عن ابن عباس ،أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى هللا عليه وسلم فقالتَ " :يا َرسو َل هللا
َ ّ َْ ُ َْ َ َ ْ َ َ ُُ َ َ َ َ
اإلسالم" ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ثابت ْبن ق ْيس َما أ ْع َتب َعل ْيه ْفي خلق وال دين ،ولكني أكره الكفر على
ْ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ً
الحديقة ََوطل ْق َها تطليقة"(.)78 "اقبل
ويحل محل الخلع ما يسمى في الشريعة (املبارأة)( )79وهو تنازل الزوجة عن صداقها مقابل طالقها إذا
شر ُ َ َ
وه ُّن عا ُ الحظت في زوجها إهمال واجباته الزوجية واإلضرار بها؛ ألن الزواج عشرة باملعروف ،قال تعالى" :و
َ
بامل ْع ُروف" ،لذا من حق الزوجة "أن تفتدي نفسها بما تبذله لزوجها ،وقد عرف الفقهاء املباراة بأنها فراق الرجل
زوجته ببدل يحصل عليه .ثم قال ابن تيمية " :وهللا سبحانه لم يعين للفدية لفظ معين وطالق الفداء طالق مقيد
()80
وال يدخل تحت أحكام الطالق املطلق ،كما ال يدخل تحتها ثبوت الرجعة واالعتداد بثالثة قروء بالنسبة الثابتة".
وعليه ،فالنشوز يعني االرتفاع على فطرة الزوجة وطبيعة تعاملها ،ألنها "ترفعت على زوجها ،وحاولت أن
تكون فوق رئيسها بل ترفعت أيضا عن طبيعتها وما يقتضيه نظام الفطرة في التعامل ،فتكون كالناشز من األرض
الذي خرج عن االستواء"(.)81
ويعني أيضا أن القرآن الكريم ساوى بين املرأة والرجل في حق االنفصال ،فجعل للرجل الطالق للخالص،
ً
وأعطى للمرأة رخصة الخلع للراحة درءا للمقت والضرر "فإذا كان الطالق حق الرجل للخالص من هذا الوضع
فالخلع حق املرأة للراحة منه وليس ألحد أن يكره املرأة ،على البقاء في بيت مقتت صاحبه وأحست الضرر
بجواره"(.)82
نص القرآن الكريم على إبقاء الحياة الزوجية ،وتقييد فرص االفتراق من الطرفين (الزوج والزوجة) وهكذا ّ
إال إذا استحال الصلح واتسعت الجفوة ،وحصل الخلع الذي يكفي عدة حيضة واحدة للمختلعة كما حددتها
الشريعة اإلسالمية لبراءة رحمها من الحمل (االستبراء) على أساس عدم وجود رجعة بين الزوجين.
ولو أن الزوجة في األصل مطالبة بطاعة زوجها ،ولحرص اإلسالم على أن يكون الزواج مبنيا على املودة
والتراض ي وااللتئام ،فإن هللا سبحانه وتعالى " :ملا شاء أن يسند النشوز إلى النساء إسنادا يدل على أن من شأنه أال
يقع ،ففي هذا التعبير تنبيه لطيف إلى مكانة املرأة وما هو أولى في شأنها وإلى ما يجب على الرجل من السياسة لها
وحسن التلطف في معاملتها "(.)83
خاتمة الدراسة:
من النتائج التي توصلت إليها:
-1لقد احتاج اإلنسان منذ البدء إلى إقامة عالقة إنسانية مستقرة ،وكان يحن ّفي فوض ى النكاحات الباطلة،
والعالقات غير الشرعية إلى األمن والسكينة ،فجاء اإلسالم لينقذه من هذه البدع والضالالت ،ويبصره بطريق
النجاة.
ّ ّ ّ
سن هللا تعالى :لإلنسان الزواج ليؤمن به حياته ويوسعها ،ويحصن فرجه ويخلصه من العقاب. ّ -2
ّ
متصدع. -3إذا انتفى شرطا السكينة والتكاثر من الزواج ما فائدة أن نبني أجياال على أساس
ّ -4ما فائدة أن نبعد في تفكيرنا بالطالق ّ
حل تعدد الزوجات ،فلعله أهون من االنفصال.
ومعجزا ،وحكمته وإعجازه في مجموع األحكام التي ً ً
حكيما -5لقد كان القرآن الكريم وهو يتعامل مع الطالق
لحد من الطالق ،وتضييق دائرته ،وحصر أسبابه فيما يوقع الضرر ويمنع حصول شرط األلفة أصدرها ل ّ
ّ
واملودة.
-6كان القرآن الكريم وسطيا وحكيما أيضا في عالجه لظاهرة النشوز عند الزوجين بخطوات عالجية وقائية،
ومراحل غايتها الصلح بين الطرفين.
ّ
مرتان) ،وفسحة العدة ،ووجوب النفقة آيات إعجاز هللا تعالى :في عالجه للطالق، -7تحديد عدد الطلقات (الطالق ّ
وتنصيب العالقة اإلنسانية فوق أي اعتبار.
إن األصل في أحكام الطالق تعظيم الزواج وتقديسه ،فإن التزم الزوجان وحافظا على هذه القدسية ال يمكن ّ -8
أن تؤول حياتهما إلى ثالثية الطالق والعدة والنفقةّ ،
ألن هللا تعالى :شاء أن تتكاثر املعمورة ال أن تتنافر.
-9وسطية القرآن الكريم واعتداله تدعو إلى التأمل والتدبر في إبداع الخالق الالمتناهي ،ورحمته التي وسعت كل
ش يء.
-10لقد أخذت املرأة في تعامل القرآن الكريم مع ظاهرة الطالق حظها الوافر ،ومكانها املرموق ،فهي مكملة ملفعول
ّ ّ
الرجل في بناء الحضارة ،وتشييد اإلنسان الذي علم األسماء كلها حتى ال يتيه في ظلمات الشيطان .ترى املرأة
أداة فاعلة وكرامة ًمحفوظة ًوجسد األمة ،فالعمل مشترك بين الجنسين الذين خلقهما هللا تعالى :ليتكاثرا
ويتوادا ويسكن الواحد اآلخر ،ال ليتصارعا في حلبة من هو األفضل ،ذلك األفضل الذي تحتاجه كل أمة تسعى
لصنع جيل رشيد يحافظ على قدسية الزواج ومفتاح الجنة والوقاية من النار.
التوصيات واملقترحات:
ال بد على طرفي العالقة الزوجية وهما يختاران الطالق أن يسعيا إلى الصلح ،فالصلح قائم بين الطرفين ال من -1
ّ
طرف واحد ولو إلى حين ،وكل إنسان خطاء.
واجب كل زوج أن يصلح زوجته ويصبر على إصالحها من أجل أن ينال الجنة ،جنة هللا تعالى :في تكوين عائلة -2
فاضلة ،وولد صالح يدعو له .فهل يوجد منا من ال يختار دخول الجنة التي خلق ابن آدم ألجلها.
إن السعادة الحقة حاصلة في الزواج الصحيح ،الفي الصراع واألنانية ،وقائمة فينا ونحن نفتش عنها ،فإذا أردت -3
أن تتزوج فاختر الصالح ،وإن كتب عليك مالم تحب فعس ى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
ّ
إن أخطأت اختيار امرأتك فأحسن اختيار أبنائك بتربيتهم ،وفتش عن إصالح ما تراه خطأ في زوجك ،ألن في كل -4
أجرا عظيما ،فما الحياة الدنيا إال متاع غرور.نفس نسمة خير ،ابحث عنها ،وسر منها لتنال فيها ً
ّ
ويجمد ابتعد قدر اإلمكان عن الطالق املبغوض عند هللا العلي العظيم ،ألنه يشتت األجساد وينهك النفوس -5
العقول ،وال تترك لباب بيتك الروحي فراغا يلج منه الشيطان ،وإن دخله فتغلب عليه بقوامتك ،وتغلبي عليه
أيتها املرأة بحكمتك وحيائك .ألنك أمام كتاب القرآن الكريم املعجزة اإللهية التي إن تمسكت بها لن تضل أبدا،
أحل الطالق وهو يبغضه ،وجعل له أحكاما وقيودا رحمة لإلنسان ،وحفاظا على حريته الحقيقية التي كتاب ّ
تكمن في تشييد حصن زوجي قائم على السكن والرحمة ،وتعظيما ملكانة ابن آدم الذي ّ
كرمه هللا بخالفته.
مدبر الكون والقادر عليه ،سبحانه في فلتحافظ أيها الزوج على هذه األمانة بتأديتها أحسن أداء ،وطاعة هللا ّ -6
حكمه وملكوته ،وعجبا من إنسان يهلك نفسه ويأبى رحمة هللا.