Professional Documents
Culture Documents
مقدمة
مقدمة
مقدمة
القرآن العظيم معجزة من وجوه متعددة من حيث فصاحته وبالغته ونظمه وتراكيبه وأساليبه
وما تضمنه من أخبار ماضية ومستقبلة وما اشتمل عليه من أحكام جلية .وقد تحدى ببالغة
ألفاظه فصاحة العرب كما تحداهم بما اشتمل عليه من معان صحيحة كاملة ،فالبالغة هي
االنتهاء والوصول .فهذا العلم يعتبر الوسيلة المناسبة لمعرفة اعجاز القرآن ،لذلك يؤدي
.ولذلك البد من اإللمام بقواعد علم البالغة التي تجعل اإلنسان فصيحا ومتكلما بلسان بليغ
.وتنقسم البالغة إلى ثالثة أقسام هي :علم المعاني ،علم البديع ،وعلم البيان
وأحد العلوم في البالغة هو علم البيان" ،وعلم البيان هو علم معرفة إيراد المعنى الواحد
في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الداللة عليها وبالنقصان ليحترز بالوقوف على ذلك
و االستعارة مصطلح شغل البحث فيه منذ القدم مجاال واسعا من الكتابات البالغية ة النقدية,
فقد منح أرسطو من كتابه "فن الشعر" باب البحث في االستعارة باعتبارها وجها بالغيا
شّك ل عالمة تميز إبداع الشعراء عن غيرهم من الّن اس وقد لفتت االستعارة منذ ذلك الحين
.االنتباه إليها
1
أحمد شمس الدين ،المعجم المفصل في علوم البالغة(البديع و البيان و المعاني)
وقد أجمع اللغويين قديما أن االسنعارة هي مأخوذة من العارية أي نقل الشيء من شخص
وقد قال ابن فتتة في هذا الشأن " فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة إذا كان
.وهذا التعريف ينطبق على المجاز كله والسيما المرسل الذي في عالقاته السببية والمجاورة
واالستعارة هي نوع ثاني من المجاز اللغوي كما ذهب إليه معظم اللغويين "،وال تستعير
أحد اللفظين لآلخر إال بواسطة التعارف المعنوي كما أن أحد الشخصين ال يستعير من
وفي الحقيقة االستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه (المشبه والمشبه به) يقهم من هذا أن التشبيه
البّد أن يذكر فيه الطرفين األساسيين وهما المشبه والمشبه به فإذا حذف أحد الركنين ال يعد
.ولالستعارة ثالثة ألركان رئيسية أال وهي مستعار منه ،مستعار له ،ومستعاٌر
وفي ظل ما سبق ذكره أردت أن أشير إلى مفهوم االستعارة عموما ،أما الخاص فهو
1
يحي بن حمزة "الطراز المتضمن ألسرار البالغة و علوم حقائق اإلعجاز"ص195
2
3
ال نجد للشك مجال في القول إن السكاكي عّد من بين اللغويين الذين حفلت مدوناتهم
.بالتطرق إلى موضوع االستعارة لما لهذا المصلح من لبس بينه وبين التشبيه
لذلك رّك ز اللغويين في تبين خصائص االستعارة ورصد خصائصها وتقسيماتها رصدا
دقيقا .فقد اعتنوا اعتناًء ا جليل بكل جوانبها ودليلنا على هذا ما جاء به السكاكي في كتابه
الغني عن لتعريف" مفتاح العلوم" الذي عّد مرجعا ومنواال لشّت ى العلوم البالغية منها
وحقيقة هذا ما حّث ني عن البحث في االستعارة عند السكاكي خصوصا وإلمامه بكل الجوانب
العميمة منها والسطحّية أيضا .ولكن قبل الغوص في البحث عن االستعارة عند السكاكي
تجدر بنا اإلشارة أوال رصد مفهوم االستعارة مت قبل السكاكي بدءا بالجاحظ وصوال
.للجرجاني
.Iالفصل األ ول
.1اإلستعارة عند الجاحظ:
إن المطلع على التراث البالغة العربي يجد ان اإلشارات األولى لمفهوم االستعارة كانت
:عند الجاحظ (ت 255ه) في أثناء شرحه لألبيات الشعرية التالية
يادار قد عيرها بالها كأنها بقلم محاها
أخربها عمران من بناها وكّر ُ ممساها على مغناها
وطفقت سحابة تخشاها تبكي على عراصها عيناها
وقد قال شارحا لهذه األبيات :قوله" أخربها عمران من بناها يقول :عّمرها بالخراب ،وأصل
العمران مأخوذ من الُع مر وهو البقاء ،فإذا الرجل في داره فقد عمره .فيقول إن مدة بقائه
فيها أبلت منها ألن األيام مؤّث رة في األشياء بالنقص والبلى ،فلما بقي الخراب فيها وقام مقام
.الُعمران في غيرها سمي بالعمران ....قوله :ممساها ,يعني مساءها
ومغناها :موضعها الذي أقيم فيه .والمغاني :المنازل التي كانت بها أهولها .وطفقت يعني
.ظّلت .تبكي على عراصها عيناها ،عيناها هاهنا للّسحاب
وجعل المطر بكاء من الّس حاب على طريق االستعارة ،وتسمية الشيء باسم غيره إذا قام
" 1مقامه .ويقال" لكل جوبٍة منفتقٍة ليس فيها بناء عرصة
ونجد إشارة لالستعارة عند شرحه لمعنى البيت الثالث؛ وذلك في اسناد الفعل (بكى) إلى
(المطر) الذي يكون نتاجا للّس حاب ....فاالستعارة عند الجاحظ في هذا الموضوع أتت
بمعنى إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي مع استحضار معنى الكلمة التي أسندها إليها
الفعل ،األمر الذي يدفع المتلقي إلى البحث في معان جديدة ُتراد من التركيب اللغوي الذي
.ينحو منحى المجاز
فالمتأمل في تعريف الجاحظ لالستعارة يجده يشير إلى كل االستعراضات المجازية التي
تتضمن استبدال كلمة أو صورة مجازية بأخرى حرفية من أي سياق كان لوجودها عالقة أو
صلة فيهما او تسمية الشيء بغير اسمه لوجود هذه العالقة ففي قوله تعالى :إّن شّر الّد واب
عند هللا الُّصم الُبكم الذين ال يعقلون" يتحدث الجاحظ في هذه اآليات القرآنية ويبين وجه
الشبه فيها فيقول :ولو كانوا صّم ًا بكما وكانوا هم ال يعقلون لما عّيرهم بذلك ،كما لم يغّير
خلقه معتوها ،كيف لم يعقل ،ومن خلقه أعمى كيف لم يبصر ...ولكنه سمي البصير
"2المتعامي أعمى و السميع المتصامم أصم ,و العاقل المتجاهل جاهال
1
الجاحظ «البيان والتبيين"1/152,153
2
فاالستعارة عند الجاحظ من الوجهة األسلوبية البالغية ذات فاعلية أدبية عند منشئها عندما
يتخير تكوينه لتجربته عبر المجاز أي تدخل في االستعارة مجموعة من العناصر المتنوعة
غير المكتملة ،يقوم الذهن بعقد عالقات بينها الزمة الكتمالها وامكان نيابة بعضها عن
.بعض
إن استعمال الجاحظ لالستعارة يعتمد على كل من داللتها المعنوية وعالقتها االقترانية ،لذا
رّك ز على معرفة التعارض بين الحقيقة والمجاز حتى ال ُيبهم المعنى وتختفي الحقيقة،
"1وتحمل األلفاظ ماال طاقة لها به "وليس ينبغي للعاقل أن يسوم للغات ما ليس في طاقتها
وهو بهذا ال يشدد على االهتمام بالشحنة الداللية الناتجة من االستعارة فحسب بل يشدد
الجاحظ على االهتمام بالمعنى األول الحقيقي لإلحساس بالمعنى البليغ الناتج عن االستعارة
وربط هذا المعنى بمعنى أهله ومقصدهم منه فقل الجاحظ :ومن الكالم كالم يذهب السامع
منه إلى معاني أهله وغلى قصد صاحبه كقول هللا تعالى :وترى الّن اس سكارى و ما هم
"بسكارى
ولهم رزقهم فيها بكرة وعشية" فقال :ليس فيها بكرة وال عشية" 2ومن هذا المفهوم"
.تندرج االستعارة تحت مفهوم المجاز
ويشير الجاحظ إلى وجوب تفاهم مشترك بين السامع والمتكلم ألن عدم إدراك ما يريده
المتكلم يزيد االستعارة عندما تبلغ ما يسميه الجاحظ "اللغز في الجواب " ولذلك عندما
.يضيف المتكلم إلى كالمه المستعار فيه تضليل السامع وإيقاعه في اإلبهام
وبهذا تعد آراء الجاحظ في االستعارة البدايات األولى التي ساعدت على انطالق الدراسات
البالغية وتأثيرها في المبدع والمتلقي ونشر النص إلى أبعد ما يكون وصوال إلى المقاصد
.والغايات ،وهو بهذا يصور لنا مرحلة من مراحل تطور مفهوم البالغة في دور النشأة
1
"الجاحظ " البيان والتبيين
2
الجاحظ" البيان والتبيين" ص193
.2
ان االستعارة هي أداة جمالية و تعبيرية وجدت منذ أقدم ما وصلنا من أعمال في اللغة و
األدب ،بـدءا مـن اليونان و مرورا بالبالغيين العرب و وصوال إلى الدرس اللغوي و األدبي
الحديث و المعاصر ،و قـ د تجـاذب هـذا المصطلح مجموعة من األنساق المفهومية ،فكل
حقل يتعامل مع االستعارة من حيث أنها أداة للمعنى وفق تصـوراته و أساليبه في الفهم و
التفسير ،و قد يظن القارئ العادي أن حدود االستعارة تتسم بالبساطة من حيث الفهم ،و لكن
الواقـع يثبت عكس ذلك ،فقد أنجزت البحوث العديدة حول كلمة بسيطة التركيب تسمى
استعارة ،و قد حاولنا في هذه الورقة أن نبصر القارئ و لو بالجزء اليسير حول هذا
الموضوع .الكلمات المفاتيح :االستعارة ،وحدة التسمية ،اختالف المفاهيم .א / 20
214 2014ال يمكن أن يخلو أي خطاب أدبي شعريا كان أم نثريا من االستعارة ،و التي
تعد أرقى انجاز يقـوم بـه منـتج الخطاب و لما تقع كلمة استعارة على ذهن كل مبتدئ له
ا بسيطا لهذا المصطلح ،و ثقافة محدودة في اللغة و األدب ،يأخذ في حسبانه مفهوما وحد
لكن الواقع يثبت عكس ذلك ،فاالستعارة و منذ البحوث اليونانية القديمة و مرورا
بمجهـودات العرب القدامى ،و وصوال إلى علماء اللسان و األدب في العصر الحديث و
المعاصر ،قد دخلت في تجاذبات و أخذ ورد حول هذا المفهوم ،كونها أداة تتسم بالتعقيد،
فظاهر االستعارة هي فهم بسيط ،و لكنه في حقيقة األمر يختلف من حيـث اآللية المفهومية
من حقل إلى آخر ،و لهذا جاء بحثنا إلماطة اللثام حول االستعارة ،و لو بالجزء اليسير
لموضوع ضخم ال يتسع المقام للخوض فيه ،و لكننا نضع هذاه الورقة اهعّل تبصر القارئ
و تعطيه فهما جديدا لهذا المصـطلح ،فكـان بذلك عنوان البحث " االستعارة وحدة في
التسمية و اختالف في الحدود و المفاهيم " ،بما توفر من مصادر و مراجع و آراء و أفكار
:أثر مفتاح العلوم في تطوير الدرس البالغي العربي
لقد أعجب العلماء بطريقة السكاكي التقريرية في كتابه “مفتاح العلوم” ،وما وضعه للبالغة
من أقسام وحدود ،إذ جاء الخطيب القزويني ولخص “مفتاح العلوم” ،ثم ألف شرحا لهذا
التلخيص سماه “اإليضاح في علوم البالغة” ،وقبل ذلك كان بدر الدين بن مالك (ت686هـ)
قد لخص المفتاح في “المصباح في علوم المعاني والبديع” ،ولكن القزويني ذاع صيته بسبب
مناقشاته وإضافاته الجديدة لـ”مفتاح العلوم” ،ولذلك أقبل العلماء على تلخيصه درسا وحفظا
وتلخيصا ونظما[ ،]33وممن قام باختصاره بهاء الدين السبكي (ت773هـ) في “عروس
األفراح في شرح تلخيص المفتاح” وسعد الدين التفتازاني (ت792هـ) الذي وضع له
شرحين“ ،الشرح الكبير” ،و”الشرح الصغير” ،ومن الشراح نجد أبا يعقوب المغربي (ت
1110هـ) صاحب “مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح”[ ،]34وممن نظمه شعرا جالل
الدين السيوطي (ت911هـ) في “عقود الجمان في المعاني والبيان” ،وعبد الرحمن
”.األخضري (ت983هـ) في “الجوهر المكنون في صدف الثالثة فنون
ومن خالل هذا العرض التاريخي تّم التعرف على الكثير من علماء البالغة في مرحلتها
الرابعة ،والتي ُو سمت بالجمود ،والتي شكلت آخر حلقة من حلقات تكوين علم البالغة
،العربي
خاتمة يكاد يتفق النقاد على أن السّك اكي اتجه نحو الضبط والتقنين واتخاذ القاعدة معيارا
نقديا عبر سبيل السعي إلى التمييز بين الفصاحة والبالغة والمعاني والبيان والبديع تمييزا
جامعا مانعا .فهو يشبه إذن تلك القواعد الفقهية أو القانونية التي نحتاج على إثرها للحكم
القاطع ،والفيصل بين الخصوم .نعم ،إن السّك اكي هو من بّو ب وقسم ،وجمع ،ومنع ،وحَّد ؛
وهذا ما يؤّك د قولنا إنه دخل على البالغة بعقلية المنطقي الرياضي ،وأنظمة البحث عن
الصحة والخطأ ،دخل بهذه اآللية للوصول إلى مملكة سيسّميها علم البالغة ؛ وسعى جاهدا
إلى أعلى مراتب البالغة من وجهة نظر العرب وهو القرآن؛ ليطبق قوانينه عليه ،وكأن
.لسان حاله يقول :ها هو القرآن يثبت قوانين دولتنا ،فلتأخذ الشرعية المؤبدة