Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 203

‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪2‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪3‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫تنبيه ‪ :‬التفريغ لم يراجعه الشيخ حفظه اهلل‬

‫‪4‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫وأتم علينا اإلنعام‪ ،‬وأشهد أن ال‬


‫الحمد هلل الملك القدوس السالم‪ ،‬أكرمنا بدين اإلسالم‪ ،‬وأكمل لنا الدين َّ‬
‫إله إال اهلل وحده المعبود الحق على الدوام‪ ،‬وعد الموحدين بالجنة دار السالم‪ ،‬وتوعَّد العصاة بجهنم دار‬

‫االنتقام‪ ،‬وأشهد أ ّن محمدً ا عبده ورسوله المبعوث رحمة لألنام‪ ،‬ختم اهلل به األنبياء فكان مسك الختام‪ ،‬من التزم‬

‫سنته اهتدى واستقام‪ ،‬ومن أحدث يف أمره ما ليس منه فهو َر ٌّد مع اآلثام‪ .‬صلى اهلل عليه وسلم أكمل صالة وأتم‬

‫سالم‪ ،‬ورضي اهلل عن آله الطيِّبين األعالم وصحابته الخيار الكرام‪.‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫فمعاشر الفضالء؛ نجتمع يف مسجد رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬نتدارس العلم والخير‪ ،‬ونحن نرجو‬

‫اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يرزقنا بذلك فق ًها ناف ًعا‪ ،‬وأن يكتب لنا أجر حبس أنفسنا على التع ُّلم‪ ،‬فإ ّن النبي صلى اهلل عليه‬

‫خيرا أو يتع َّلمه كان كالمجاهد‬


‫بشر ببشارة عظيمة؛ فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من دخل مسجدنا هذا ُيع ِّلم ً‬
‫وسلم ّ‬

‫خيرا أو يع ِّلمه كان له كأجر‬


‫يف سبيل اهلل»‪ ،‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من غدا إلى المسجد ال يريد إال أن يتع َّلم ً‬
‫حاج تا ًّما حجته»‪.‬‬
‫ٍّ‬

‫ونحن ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬يف هذا اليوم وما بعده من األيام سنقرأ يف أحاديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬نسمع‬
‫كالم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيما صح عنه‪ ،‬وذلك من خالل القراءة يف ٍ‬
‫أمر من األهمية بمكان؛ أال وهو‪:‬‬

‫"كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح اإلمام مسلم ‪-‬رحمه اهلل عز وجل‪."-‬‬

‫تحذيرا شديدً ا‪ ،‬وب ّين أسباب‬


‫ً‬ ‫ّ‬
‫وحذر منها‬ ‫والمعلوم ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم ب ّين الفتن‪،‬‬

‫عظيما‪ ،‬واهتم الصحابة ‪-‬رضوان اهلل عليهم‪ -‬هبذا األمر‪ ،‬فكانوا يسألون‬
‫ً‬ ‫الخروج منها‪ ،‬فاهتم بباب الفتن اهتما ًما‬

‫عن الفتن‪ ،‬كانوا يسألون الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف حياته عنها‪ ،‬ثم بعد أن مات ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬

‫كانوا يسألون األعلم هبا؛ كما سيردنا ‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪ -‬فيما أورده اإلمام مسلم رحمه اهلل‪.‬‬

‫وهذا يدل على أ ّن المسلم ينبغي عليه أن يهتم بأمر الفتن‪ ،‬ال ليقع فيها وال ليكون من َوقودها؛ وإنما ليَحذرها‪،‬‬

‫و ُي ِّ‬
‫حذر منها‪ ،‬ويعرف األسباب الجالبة للسالمة منها‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫وتكاثرت‬
‫ْ‬ ‫عت‬
‫فتنو ْ‬
‫موجا‪ّ ،‬‬
‫ونحن يف هذا الزمن أشدُّ حاجة من غيرنا‪ ،‬ألنّا نعيش يف زمن تموج فيه الفتن ً‬

‫تنوعت‪ ،‬أو ما يتع ّلق بفتن الشهوات التي كثُرت وأصبحت ً‬


‫سيال‬ ‫دت‪ ،‬سوا ًء ما يتع ّلق بفتن الشبهات التي ّ‬
‫وتو ّل ْ‬

‫حي‬ ‫َ ّ‬
‫عار ًما‪ ،‬ال سيما ونحن يف زمن تعددت فيه وسائل االتصال‪ ،‬وأصبح ما يحدث يف العالم كله كأنه يحدث يف ٍّ‬
‫ُعرض فتن الدنيا على اإلنسان وهو يف بيته‪ ،‬سوا ًء ما يتع ّلق بالشبهات أو الشهوات‪ ،‬أصبح اإلنسان ُيالبِس‬
‫واحد‪ ،‬فت َ‬
‫الفتن يف بيته‪ ،‬يف شارعه‪ ،‬يف وظيفته‪ ،‬يف مدرسته‪ ،‬يف كل مكان‪.‬‬

‫فما أحوجنا إلى أن نعرف هدي نبينا ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف التعامل مع الفتن؛ ألنه ‪ -‬واهلل ‪ -‬ال سالمة لألفراد‬

‫وال للمجتمعات من الفتن إال بسلوك هدي محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وا ّتباع محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬

‫فيما ب ّينه يف هذا الباب‪.‬‬

‫ونحن ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬سنقرأ ما أورده اإلمام مسلم ‪-‬رحمه اهلل‪ ،-‬وستكون عنايتنا بالمتن‪ ،‬أ ّما لطائف األسانيد ‪-‬‬
‫وهي كثيرة جدًّ ا‪ -‬فإنّا لن ِ‬
‫نعرض لها يف شرحنا هذا؛ لمقام الوقت وما يقتضيه المقام‪ ،‬ولذلك سنقرأ مختصرين‬
‫ِ‬
‫مكتفين بأ ّن الحديث يف صحيح مسلم؛ الذي تل ّقته األمة‬ ‫السند‪،‬مقتصرين على الصحابي الذي روى الحديث‪،‬‬

‫بال َقبول‪ ،‬واتفق علماء األ ّمة على صحة ما فيه من حيث الجملة‪.‬‬

‫ونبدأ مستعينين باهلل يف قراءة ما يتع ّلق هبذا الكتاب‪.‬‬

‫بسم اهلل‪ ،‬الحمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم األتمان األكمالن على خير خلق اهلل‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن وااله‪ ،‬أما‬

‫بعد‪:‬‬

‫النو ِو ُّي ‪َ -‬ر ِح َم ُه اهلل‪:-‬‬ ‫ول ِ‬


‫اإل َما ُم َ‬ ‫َي ُق ُ‬

‫السا َع ِة]‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َاب الْفت َِن َو َأ ْش َراط َّ‬
‫ِ‬
‫[كت ُ‬

‫النو ِو ُّي] ‪َ -‬ر ِح َم ُه اهلل‪-‬؛ أل ّن الذي ّبوب صحيح مسلم هو اإلمام النووي‪ ،‬فاإلمام مسلم ‪-‬‬ ‫ول ِ‬
‫اإل َما ُم َ‬ ‫[ َي ُق ُ‬

‫يقسمه َعن َْونَ ًة وإنما َّ‬


‫قسمه بالموضوعات‪ ،‬إذا تأ ّملنا صحيح مسلم وجدنا أنه‬ ‫يبوب الصحيح ولم ّ‬
‫رحمه اهلل‪ -‬لم ّ‬

‫تقسيما على الموضوعات؛ فكتاب اإليمان‪ ،‬وكتاب الطهارة‪ ،‬وكتاب الصالة‪ ،‬كله يف موضع واحد‪ ،‬لكنه ‪-‬‬
‫ً‬ ‫قسمه‬
‫ّ‬
‫سمها‪ ،‬فجاء اإلمام النووي وخدم هذا الكتاب؛ ومن خدمته له أنه ّبوب له‪.‬‬
‫رحمه اهلل‪ -‬لم ُي ّ‬

‫‪6‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫الساع َِة]؛ الفتن ‪-‬أيها اإلخوة‪ :-‬جمع فتنة‪ ،‬والفتنة لها يف لغة العرب وجوه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َاب ا ْلفت َِن َو َأ ْش َراط َّ‬
‫ِ‬
‫قال‪ [ :‬كت ُ‬

‫فمنها العذاب‪ ،‬ومنها اإلحراق‪ ،‬ومنها الحروب‪ ،‬ومنها اإلبتالءواإلمتحان؛ وكل هذه وجوه لمعاين الفتنة عند‬

‫العرب‪.‬‬

‫فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار ليتم ّيز الرديء من الج ّيد‪.‬‬
‫وأصل الفتنة‪ :‬اإلبتالء ‪ ،‬مأخوذ ٌة من قولك‪ُ :‬‬

‫ويف الصحاح‪ :‬إذا أدخلتَه النار لتنظر ما جودته‪.‬‬

‫إذن الفتنة ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أصلها هو اإلبتالء؛ ولذلك يقول الحافظ ابن عبد الرب‪" :‬وجماع معنى الفتنة‪ :‬اإلبتالء‬

‫واإلمتحان واإلختبار"‪.‬‬

‫والفتن قد تكون يف المحيا‪ ،‬وقد تكون يف الممات‪ ،‬ولذلك ُأمرنا بأن نستعيذ من فتنة المحيا ومن فتنة الممات‪.‬‬

‫واإلستعاذة من الفتن معناها ‪-‬يا إخوة‪:-‬‬

‫▪ إما أنه طلب عدم إدراكها؛ كاإلستعاذة من فتنة المسيح الدجال‪ ،‬تقول‪ :‬أعوذ باهلل من فتنة‬

‫المسيح الدجال؛ يعني تطلب من اهلل أال تدركك هذه الفتنة‪.‬‬

‫وقعت؛ كاإلستعاذة من فتن المعاصي‪،‬‬


‫ْ‬ ‫▪ وقد تكون اإلستعاذة طلبًا لعدم الوقوع فيها إن‬

‫المعاصي واقعة‪ ،‬وأنت عندما تستعيذ باهلل من فتن المعاصي فأنت تسأل اهلل أال تقع فيها‪.‬‬

‫▪ وكذلك اإلستعاذة من فتن الحروب التي تقع بين طوائف المسلمين‪ ،‬فإ ّن هذا معناه أنك‬

‫تسأل اهلل أال تقع فيها عند وقوعها‪.‬‬

‫▪ وقد تكون اإلستعاذة من الفتن طل ًبا إلصابة جا ّدة الصواب فيها؛ وذلك كاإلستعاذة من فتن‬

‫الطاعات‪ ،‬فالطاعة فيها فتنة ‪-‬كما سنذكر إن شاء اهلل‪ -‬واالستعاذة من فتنتها معناه‪ :‬أنك تسأل‬

‫اهلل أن يوفقك للصواب يف الطاعات‪.‬‬

‫فهذا معنى اإلستعاذة الذي يشمل كل الفتن‪ .‬وفتن المحيا كثير ٌة جدًّ ا‪ ،‬يف األهل والمال والدين والدنيا؛‬

‫‪ )1‬فمن الفتن‪:‬اإلختبار والمحنة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫آمنت‪ ،‬قال‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل وأشهد أن محمدًا‬


‫ومن ذلك ‪-‬يا إخوة‪ -‬اإلفتتانبالطاعات‪ ،‬الواحد منا قال‪ْ :‬‬

‫َّاس َأ ْن ُيت َْركُوا َأ ْن َي ُقو ُلوا آ َمنَّا َو ُه ْم َال ُي ْفتَنُو َن)[العنكبوت‪ 2:‬بلى واهلل ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬فالبد أن ُيفتَن؛ ( َأ َحس َ‬
‫ب الن ُ‬

‫سيُفتن اإلنسان‪ ،‬ومن فتنة المسلم أن ُيفتَن بالطاعات‪ ،‬فيؤ َمر بالصالة‪ ،‬ويؤ َمر الرجل مثال بإعفاء اللحية‪ ،‬فهذه فتنة‬

‫وابتالء ُيختبَر هبا المسلم‪ ،‬أل ّن بعض الناس إن ُأمِ َر بما ُيحب فعل‪ ،‬وإن ُأمِ َر بما قد ال يحبه لم يفعل‪.‬‬

‫ولي أمره ولو كان فاس ًقا‪ ،‬فهذه فتنة‪ ،‬فتنة ابتالء وإختبار ليتبيّن المطيع من العاصي‪،‬‬
‫ُيبتلى المؤمن باألمر بطاعة ّ‬
‫ليتبيّن أهل الجنة من أهل النار‪.‬‬

‫‪ )2‬ومن الفتنة‪ :‬المال‪.‬‬

‫‪ )3‬ومن الفتنة‪ :‬األوالد؛ (إِن ََّما َأ ْم َوا ُل ُك ْم َو َأ ْو َال ُدك ُْم فِتْنَ ٌة)[التغابن‪ ،]1٥ :‬فقد ُيفتَن المسلم بأوالده‪ ،‬وقد ُيفتَن‬

‫من أوالده‪ ،‬وقد ُيفتن يف أوالده‪.‬‬

‫قد ُيفتن بأوالده فيلهوا هبم عن الطاعات؛ كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ ( :-‬أ ْل َهاك ُُم التَّ َكا ُث ُر َحت َّٰى زُ ْر ُت ُم ا ْل َم َقابِ َر) [التكاثر‪:‬‬

‫‪ ]2-1‬فيلهوا هبم‪.‬‬

‫جر‬ ‫وقد تكون فتنة اإلنسان من أوالده‪ ،‬فكم من ولد فتن أباه‪ ،‬كم من أب مطيع على السنة ابتلي ٍ‬
‫بابن على البدعة؛ ّ‬
‫رجله من السنة إلى البدعة‪.‬‬

‫وقد ُيفتَن يف أوالده‪ ،‬بما يقع من الفتن لألوالد يف الشارع والمدرسة والبيت؛ فهذه فتنة‪.‬‬

‫وقد ُيفتن اإلنسان بماله‪ ،‬وقد يفتن يف ماله‪ ،‬يفتن بماله فيلهوا يف جمعه عن الطاعات‪ ،‬يسمع قول المؤذن "اهلل أكرب"‬

‫فال يسارع إلى المسجد‪ ،‬يعقد الصفقات‪ ،‬يعلم أ ّن هذه المعاملة حرام فال يرتكها فتن ًة بالمال‪ ،‬وقد ُيفتن يف ماله‪،‬‬
‫المال عنده‪ ،‬األول يف طلبه‪ ،‬والثاين يكون المال عنده لكنه ال يعرف حق اهلل فيه‪ ،‬فال يصل به رحمه‪ ،‬وال ُي ِ‬
‫خرج منه‬

‫زكاة وال غير ذلك‪ ،‬فمن الفتنة المال واألوالد‪.‬‬

‫‪ :4‬ومن الفتنة‪ :‬الكفر ‪-‬والعياذ باهلل‪-‬؛ كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ ( :-‬وا ْل ِف ْتنَ ُة َأ َشدُّ مِ َن ا ْل َق ْت ِل)[البقرة‪]1٩1 :‬أي أ ّن‬

‫الكفر أشد من القتل‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪:5‬ومن الفتنة‪ :‬اختالف الناس باآلراء؛ كما قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪(( :-‬فإنه من يعش منكم بعدي‬

‫فسيرى اختال ًفا ً‬


‫كثيرا))؛ فهذه فتنة‪.‬‬

‫‪ :6‬ومن الفتنة‪ :‬فتنة المسلم بالناس‪ ،‬نعم‪ ،‬قد ُيفتن المسلم بالناس‪ ،‬إما بتشنيعهم‪ ،‬وإما بحمدهم‪.‬‬

‫مثال وسمع كالم أهل العلم‬


‫وحد اهلل جاء إلى الحج ً‬
‫الموحدين‪ ،‬فإذا ّ‬
‫ّ‬ ‫ُيفتن بتشنيعهم؛ كتشنيع بعض الناس على‬

‫المبني على قال اهلل قال رسوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وامتأل قلبه بنور التوحيد ورجع إلى بالده عاز ًما على أال‬

‫وهابي‪ ،‬رجع من السعودية بإسالم سعودي! ُيشنّعون عليه‪،‬‬


‫يصرف العبادة إال هلل‪ ،‬فيأتيه المشنّعون ويقولون‪ :‬جاء ّ‬

‫ُيفتن هبذا التشنيع‪.‬‬

‫تمسك المسلم بالسنة فأعفى لحيته ورفع إزاره ف ُيشنّعون عليه ويقولون‪ :‬متشدد‪ ،‬حنبلي! ف ُيفتن بالتشنيع‬
‫وكما لو ّ‬
‫فيرتك الحق من أجل فتنة الناس‪.‬‬

‫اب‬ ‫ول آ َمنَّا بِاهللِ َفإِ َذا ُأوذِ َي فِي اهللِ َج َع َل فِتْنَ َة النَّا ِ‬
‫س َك َع َذ ِ‬ ‫(ومِ َن النَّا ِ‬
‫س َم ْن َي ُق ُ‬ ‫وهذه فتنة عظيمة‪ ،‬قال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ :-‬‬

‫اهللِ) [العنكبوت‪]1٠ :‬فإذا أوذي يف اهلل فشنّع عليه من حوله ترك الحق‪ ،‬فجعل فتنة الناس كعذاب اهلل‪ ،‬فأو َقع نفسه‬

‫يف عذاب اهلل من أجل الناس ‪-‬والعياذ باهلل‪.-‬‬

‫مثال‪ :‬فالن يصلي يف المسجد‪ ،‬فالن ُيكثر من الصالة يف المسجد‪ ،‬فالن يقوم الليل‪،‬‬
‫وقد ُيفتن بحمدهم‪ ،‬فيقولون ً‬

‫فالن رجل صالح‪ ،‬فالن حسن الخلق‪ ،‬واألصل يف هذا أنه من عاجل بشرى المؤمن ما لم يطلبه اإلنسان‪ ،‬لكن قد‬

‫ُيفتَن به فيقع يف الرياء بسببه‪ ،‬فإذا كان يحضر للصالة عند األذان يبدأ يحضر قبل األذان من أجل أن يزيد الناس‪،‬‬

‫وإذا كان يخشع يف صالته يكون يف صدره أزيز من خوفه من اهلل يزيد فيُظ ِهر الصوت بالخشوع من أجل أن يزيد‬

‫حمد فيقال‪:‬‬
‫الناس‪ ،‬هذا ُيفتَن بكالم الناس ُيفتّن بحمد الناس‪ ،‬قد يكون اإلنسان طالب علم نفع اهلل به يف مجاله‪ ،‬فيُ َ‬
‫أنت عالمة‪ ،‬أنت عالم‪ ،‬أنت إمام المسلمين! فيُفتن هبذا و ُيصبح يتكلم يف كل شيء‪ ،‬ثم ينقلب من أن يتكلم بما‬

‫ُيصلح الناس إلى أن يتكلم بما ُيصالِح الناس‪ ،‬ف ُيفتَن بالناس‪.‬‬

‫فالمسلم قد ُيفتن بالناس؛ سواء من جهة التشنيع أو من جهة الحمد‪.‬‬

‫والمعاصي كلها فتنة‪ ،‬وكل من ُفتن بشيء من المعاصي والشهوات المحظورة فهو مفتون‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫وقد يكون يف هذا الباب من الفتنة ما هو أشدّ من مجرد المعصية ‪-‬كما ذكره الحافظ ابن عبد الرب‪-‬؛ أال وهو‬

‫اإلصرار على المعصية واإلقامة على الذنب‪ ،‬فاإلصرار على المعصية أمره خطير حتى يف الصغائر‪ ،‬ولذلك جاء‬

‫عن السلف‪" :‬ال كبيرة مع االستغفار‪ ،‬وال كبيرة مع اإلصرار" ‪.‬‬

‫‪ :7‬ومن الفتن العظيمة شديدة الخطر عظيمة األثر‪ :‬البدع المحدَ ثة التي ُتتّخذ دينًا وإيمانًا‪ ،‬و ُيش َهد هبا على اهلل‬

‫افرتا ًء‪ ،‬ما شرعها اهلل ال يف كتابه وال يف سنة رسوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ف ُيفرتى على اهلل هبا‪ ،‬ومن ُفتِ َن هبا أحبها‬

‫قصر يف البدعة المحدَ ثة‪ ،‬وال ينتقل عنها‬


‫قصر يف السنة الثابتة من أن ُي ّ‬
‫قصر فيها‪ ،‬وأهون عليه أن ُي ّ‬
‫وال يحب أن ُي ّ‬

‫ويو ّد أن يقبضه اهلل عليها‪ ،‬ولذا قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬إ ّن اهلل حجب التوبة عن كل صاحب بدعة؛‬

‫حتى يدعها )) رواه الطرباين وصححه األلباين‪.‬‬

‫ٍ‬
‫أيضا مفتون بفتنة أشدَّ من فتنة المعاصي؛ أل ّن البدع أعلى المعاصي‪ ،‬هي فوق الكبائر‪ ،‬وقد تكون ً‬
‫كفرا وقد‬ ‫فهذا ً‬

‫تكون دون الكفر‪ ،‬فهذا مفتون‪ ،‬زُ ّين له سوء عمله‪ ،‬ويو ّد لو أ ّن كل الناس مثله يف هذا األمر‪.‬‬

‫‪ :8‬ومن الفتن‪ :‬القتل ‪-‬كما سيأتي إن شاء اهلل‪.-‬‬

‫‪ :9‬ومن الفتن‪ :‬ما ُيبتلى به اإلنسان من زينة الدنيا وشهواهتا ولو كانت مباحة‪ ،‬فقد ُيفتن اإلنسان بالزوجة‪ ،‬هي‬

‫عجب هبا فتشغله عن آخرته‪ ،‬بعض الناس ُيفتن بزوجته‪ ،‬ال ُيعفي لحيته ألن الزوجة ال‬
‫حالله؛ لكن ُيفتن هبا بأن ُي َ‬

‫نحي عنك هذه اللحية‪ ،‬أنا أريد أن يكون خدك كخدي‪ ،‬فيحلق لحيته‪ ،‬وكم من سائل سألني‬
‫تريد اللحية؛ تقول‪َّ :‬‬

‫بنفس هذا المعنى‪ ،‬وقد تطلب منه الحرام فيأيت به وهو يعلم أنه حرام؛ ألنه يحبها أعجبته فشغلته عن آخرته‪،‬‬

‫أضر على الرجال من‬


‫تركت على أمتي فتنة ّ‬
‫ُ‬ ‫فسر بعض السلف قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :‬ما‬
‫ولذلك ّ‬
‫النساء بمثل هذا )) قالوا معناه‪ :‬أخاف أن ُتعجبوا هبن فتنشغلوا هبن عن اآلخرة‪.‬‬

‫‪ :10‬ومن الفتن ‪-‬كما قاله شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل‪ :-‬الحروب بين ملوك المسلمين وطوائفهم؛‬

‫مع أ ّن كل واحدة من الطائفتين ملتزم ٌة لشرائع اإلسالم‪ ،‬انتبه للقيود‪ ،‬الحروب بين طوائف المسلمين وملوكهم؛‬

‫‪10‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫الجمل ِ‬
‫وص ِّفين من المسلمين‪ ،‬مع أ ّن كل واحدة من‬ ‫مع أ ّن كل طائفة ملتزمة لشرائع اإلسالم‪ ،‬مثل ما كان من أهل َ‬

‫عرضت لهم‪.‬‬
‫ْ‬ ‫لش َب ٍه‬
‫الطائفتين ملتزم ٌة بشرائع اإلسالم؛ لكنهم اقتتلوا ُ‬

‫قال شيخ اإلسالم‪" :‬وأما قتال الخوارج ومانِعي الزكاة فليس من حروب الفتن‪ ،‬بل هؤالء ُيقاتَلون حتى َيدخلوا يف‬

‫الشرائع الثابتة عن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪."-‬‬

‫وهذا أمر مهم ننبِّه عليه ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أل ّن بعض الناس يخلط بين حروب الفتن وبين غيرها‪ ،‬فال يقف الموقف‬

‫الشرعي‪.‬‬

‫فمثال؛ ما وقع من شرور من الطوائف الضالة يف بلدان المسلمين ‪-‬ومنها ما وقع يف هذا البلد المبارك‪ -‬من‬
‫ً‬

‫اعتداءات من قوم يزعمون أهنم يجاهدون‪ ،‬وليسوا بمجاهدين‪ ،‬فقاتلتهم الدولة من ًعا لشرهم‪ ،‬وجزاها اهلل خيرا‪،‬‬

‫فظ ّن بعض الناس أ ّن هذا األمر من الفتن؛ أعني من قتال الفتن‪ ،‬فقال‪ :‬فتنة ط ّهر اهلل منها سيوفنا فنط ّهر منها ألسنتنا‪،‬‬

‫فال ُينكِر على أولئك وال ُيبغض أعمالهم وال يصفهم بما يستحقون شرعًا‪ ،‬وهذا ليس موق ًفا شرعيًّا‪.‬‬

‫فرق المسلم بين ما كان من قتال الفتن على الوصف الذي وصفه شيخ اإلسالم وهو أ ّن كل طائفة‬
‫فيجب أن ُي ّ‬
‫ملتزمة الشرائع وبين قتال البغاة والخوارج؛ فهذا ليس من الفتن‪ ،‬بل ينبغي أن يكون للمسلم دور يف إنكار منكر‬

‫هؤالء الذين جلبوا الشر على المسلمين من أول ظهور الخوارج إلى يومنا هذا‪.‬‬

‫هذا شيء من فتن المحيا‪.‬‬

‫وأما فتن الممات؛‬

‫▪ فقد تكون عند اإلحتضار‪ ،‬فإ ّن الميت تحضره المالئكة‪،‬‬

‫أيضا‪ ،‬فإنّا نُفتن يف قبورنا‪ ،‬واإلنسان ُيفتن يف قربه بالسؤال عن ربه ونبيه ودينه‪ ،‬فمن‬
‫▪ وقد تكون يف القرب ً‬

‫الناس من ينجو ويو ّفق للصواب فينادي منادٍ‪ :‬أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة‪ ،‬وألبِسوه من الجنة‪،‬‬

‫وسع له مدّ بصره‪ ،‬ويأتيه رجل حسن الوجه حسن‬


‫وافتحوا له با ًبا إليالجنة‪ ،‬فيأتيه من روحها وطيبها‪ ،‬و ُي ّ‬
‫كنت توعَد‪ ،‬أبشر برضوان من اهلل وجنات فيها نعيم‬
‫الثياب ط ّيب الريح فيقول‪ :‬أبشر هذا يومك الذي َ‬

‫‪11‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫كنت‬
‫مقيم‪ ،‬فيقول‪ :‬وأنت بشرك اهلل بالخير من أنت؟ فيقول‪" :‬أنا عملك الصالح؛ فواهلل ما علمت إال َ‬

‫خيرا"‪.‬‬
‫سري ًعا يف طاعة اهلل‪ ،‬بطيئًا يف معصية اهلل‪ ،‬فجزاك اهلل ً‬

‫وال يو ّفق بعض الناس‪ ،‬فال يوفق إلى الصواب‪ ،‬وقد يكون كان يقول الصواب يف الدنيا لكنه ال يو َّفق للصواب يف‬

‫قوال فقلته‪ ،‬فينادي منادٍ‪ :‬أن ك ََذب فأفرشوه من النار‪،‬‬


‫سمعت الناس يقولون ً‬
‫ُ‬ ‫هاه ٍ‬
‫هاه ال أدري‬ ‫قربه فيكون جوابه‪ٍ :‬‬

‫وألبسوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار‪ ،‬فيأتيه من حرها وسمومها و ُيضيَّق عليه قربه حتى تختلف فيه أضالعه‪،‬‬

‫ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب ُمنتِن الريح فيقول‪ :‬أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي َ‬
‫كنت توعَد‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫من أنت بشرك اهلل بالشر فوجهك يجيء بالشر؟ فيقول‪" :‬أنا عملك السيء ‪-‬ويف رواية‪ :‬أنا عملك الخبيث‪ -‬فواهلل‬

‫فتعوذوا إخواين من فتنة المحيا‪ ،‬ومن فتنة الممات‪.‬‬


‫كنت بطيئًا يف طاعة اهلل سري ًعا يف معصية اهلل"‪ّ ،‬‬
‫علمت إال َ‬
‫ُ‬ ‫ما‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس ا َّت ُقوا َربَّ ُك ْم إِ َّن زَ ْلزَ َل َة َّ‬
‫الساعَة َش ْي ٌء عَظ ٌ‬
‫يم *‬ ‫وأما الساعة؛ وما أدراك ما الساعة! قال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ ( :-‬يا َأ ُّي َها الن ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َي ْو َم َت َر ْونَ َها َت ْذ َه ُل ك ُُّل ُم ْر ِض َعة ع ََّما َأ ْر َض َع ْت َو َت َض ُع ك ُُّل َذات َح ْم ٍل َح ْم َل َها َو َت َرى الن َ‬
‫َّاس ُس َك َارى َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى‬

‫اب اهللِ َش ِديدٌ ) [الحج‪ ]2 – 1 :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ّ -‬‬


‫حذرنا من زلزلة الساعة؛ ( َي ْو َم َت َر ْونَ َها َت ْذ َه ُل ك ُُّل ُم ْر ِض َع ٍة‬ ‫ِ‬
‫َو َلك َّن َع َذ َ‬
‫عَما َأر َضع ْت) وما الذي يذهل المرضعة عما ترضع؟! واهلل ال يذهلها إال زلزلة الساعة‪( ،‬و َت َضع ك ُُّل َذ ِ‬
‫ات َح ْم ٍل‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ْ َ‬

‫اب اهللِ َش ِديدٌ)أخافهم فتمايلوا من شدة عذاب‬ ‫ِ‬


‫(و َلك َّن َع َذ َ‬ ‫َح ْم َل َها َو َت َرى الن َ‬
‫َّاس ُس َك َارى) يتمايلون وما هبم من ُسكر َ‬

‫اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪.-‬‬

‫اها ُق ْل إِن ََّما ِع ْل ُم َها ِعنْدَ َر ِّبي َال ُي َج ِّلي َها ل ِ َو ْقتِ َها إِ َّال‬
‫الساع َِة َأ َّيا َن ُم ْر َس َ‬ ‫وال يعلم متى تقوم الساعة إال اهلل ( َي ْس َأ ُلون ََك ع ِ‬
‫َن َّ‬
‫َ ِ َِْ ُ ِ‬ ‫ُهو َث ُق َل ْت فِي السم ِ‬
‫اوات َو ْاأل ْرض َال تأتيك ْم إ َّال بَ ْغتَةً) [األعراف‪ ،]1٨٧ :‬فعلم وقت الساعة ال يعلمه ٌّ‬
‫نبي مرسل‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ‬

‫وال ملك مقرب؛ إال أهنا قريبة‪ ،‬واهلل إهنا لقريبة!‬

‫يخرب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن اقرتاب الساعة بالفعل الماضي الدال على التحقيق والوقوع ال محالة؛ كقوله‪( :‬ا ْقت ََر َب‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫لِلنَّا ِ ِ‬
‫س ح َسا ُب ُه ْم َو ُه ْم في َغ ْف َلة ُم ْع ِر ُضو َن ) [ األنبياء‪]1 :‬وقوله‪( :‬ا ْقت ََر َبت َّ‬
‫السا َع ُة َوان َْش َّق ا ْل َق َم ُر)[القمر‪ ،]1 :‬وقال‬

‫عثت أنا والساعة كهاتين‪ ،‬يشير بأصبعيه يمدهما )) رواه البخاري‪.‬‬


‫النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ُ (( :-‬ب ُ‬

‫الساع َِة ُم ْش ِف ُقو َن) [األنبياء‪4٩ :‬‬ ‫ِ‬


‫(و ُه ْم م َن َّ‬
‫وحال أهل اإليمان أهنم مشفقون من الساعة‪ ،‬خائفون‪ ،‬وجلون َ‬

‫‪12‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫خائفون وال يعلمون متى تأيت‪ ،‬فهم على استعدادٍ لها‪ ،‬أل ّن الواحد منهم ال يدري متى تقوم ساعته‪ ،‬ومن حضرت‬

‫من ّيته قامت ساعته‪ ،‬فهم من الساعة خائفون وجلون ولها مستعدون‪.‬‬
‫وأما من فرط وأتبع نفسه هواها‪ ،‬ولم ِ‬
‫يحسب للساعة حساهبا‪ ،‬فإنه خاسر إذا جاءته الساعة بغتة‪ ،‬قال اهلل ‪-‬عز‬ ‫ّ‬
‫السا َع ُة بَ ْغتَ ًة َقا ُلوا َيا َح ْس َر َتنَا َع َل ٰى َما َف َّر ْطنَا فِي َها) [األنعام‪ ،]٣1 :‬فالساعة شأهنا عظيم‬
‫(حت َّٰى إِ َذا َجا َء ْت ُه ُم َّ‬
‫وجل‪َ :-‬‬

‫أيها اإلخوة‪.‬‬

‫وأما أشراط الساعة؛ فعالماهتا‪ :‬عالمات القيامة التي تسبقها وتدل على قرب وقوعها‪ ،‬وهي عند أهل العلم أيها‬

‫اإلخوة نوعان‪:‬‬

‫‪ )1‬كبرى‪ :‬وهي العالمات العظام التي تظهر قرب وقوع الساعة ولم يقع منها شيء‪ ،‬ولكنها إن‬

‫تتابعت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫وقعت‬

‫‪ )2‬وصغرى‪ :‬وهي دون الكربى‪ ،‬ومنها ما وقع وانقضى‪ ،‬مضى؛ كانشقاق القمر‪ ،‬ومنها ما وقع‬

‫وال زال‪ ،‬وال زال يكثر؛ كانتشار الجهل‪ ،‬فانتشار الجهل وقع وال زال واق ًعا وال زال يتسع‪.‬‬

‫وظهر اليوم من الجهل أنواع كانت قليلة يف الماضي؛ كالجهل المركب‪ ،‬جهل الجاهل الذي ال يعلم أنه جاهل‪،‬‬

‫عالما أو واعظا أو مفت ًيا وهو أجهل من الكرسي الذي يجلس عليه‪ ،‬وهذا من عالمات الساعة الصغرى‪،‬‬
‫يظن نفسه ً‬
‫ومنها ما سيقع إن شاء اهلل ‪-‬عز وجل‪.-‬‬

‫ويبوب النووي‬
‫فإن قال قائل‪ :‬ما الرابط بين الفتن وأشراط الساعة حتى يجمع اإلمام مسلم بينهما يف موضع واحد ّ‬

‫هبذا التبويب؟‬

‫الجامع ‪-‬يا إخوة‪ :-‬أ ّن الفتن من عالمات الساعة‪ ،‬وكلما كثرت الفتن كان ذلك ً‬
‫دليال على قرب الساعة‪ ،‬فهذا هو‬

‫الجامع بينهما‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪13‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫الدرس الثانى‪.‬‬

‫قال اإلمام مسلم ‪-‬رحمه اهلل‪:-‬‬


‫[باب ا ْقتِر ِ ِ‬
‫وج َو َم ْأ ُج َ‬
‫وج]‪.‬‬ ‫اب ا ْلفت َِن َو َفتْحِ َر ْد ِم َي ْأ ُج َ‬ ‫َ ٌ َ‬
‫روى اإلمام مسلم ‪-‬رحمة اهلل عليه‪ -‬بإسناده‪:‬‬

‫«ال إِ َل َه إِ َّال ُ‬
‫اهلل‪َ ،‬و ْي ٌل‬ ‫استَيْ َق َظ مِ ْن ن َْومِ ِه َو ُه َو َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬‬ ‫ِ‬
‫ش َأ َّن النَّبِ َّي َص َّلى ُ‬
‫اهلل َع َليْه َو َس َّل َم ْ‬
‫[ َعن زَ ينَب بِن ِ‬
‫ْت َج ْح ٍ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫وج مِثْ ُل َه ِذ ِه» َو َع َقدَ ُس ْفيَا ُن بِيَ ِد ِه ع ََش َرةً‪ُ ،‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫ول‬ ‫وج َو َم ْأ ُج َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل ِ ْلعر ِ ِ‬
‫ب م ْن َش ٍّر َقدْ ا ْقت ََر َب‪ُ ،‬فت َح ا ْليَ ْو َم م ْن َر ْد ِم َي ْأ ُج َ‬ ‫ََ‬
‫الصال ِ ُحو َن؟ َق َال‪« :‬نَ َع ْم‪ ،‬إِ َذا َكثُ َر ا ْل َخبَ ُث»]‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلل! َأنَ ْهلِ ُك َوفينَا َّ‬

‫عن زينب بنت جحش ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬استيقظ من نومه‪ ،‬ويف رواية ‪-‬‬

‫يؤخذ من هذا‪ :‬أ ّن ذكر اهلل‬


‫ستأتينا‪ :-‬استقظ فزعًا خائ ًفا من هول هذا األمر وهو يقول‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬قال العلماء‪َ :‬‬

‫من أسباب السالمة من الفتن‪ ،‬وسيرد ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬يف موطنه‪.‬‬

‫أذكارا‬
‫ً‬ ‫فمن أسباب السالمة من الفتن‪ :‬أن يداوم اإلنسان على ذكر اهلل‪ ،‬وسنذكر ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬يف موطنه‬

‫بعينها فيها السالمة من الفتن ‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪.-‬‬


‫ِ‬
‫للتفجع‪ ،‬أي‬
‫ُّ‬ ‫«و ْي ٌل» هنا مقصو ٌد به‪ُ :‬حلول الشر‪ ،‬وهو‬ ‫«ال إِ َل َه إِ َّال ُ‬
‫اهلل‪َ ،‬و ْي ٌل ل ْل َع َرب»؛ َ‬ ‫قالت‪َ :‬و ُه َو َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬‬

‫يتفجع عليهم من ُحلول الشر‪.‬‬


‫َّ‬

‫و"ويل" يف أصل المعنى قيل‪ :‬وادٍ يف جهنم‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬وادٍ من صديد أهل جهنم‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬هو العذاب‪.‬‬

‫والمقصود به هنا ‪-‬كما قلنا‪ :-‬حلول الشر‪ ،‬وقوع الشر‪.‬‬


‫ِ‬
‫قال‪َ « :‬و ْي ٌل ل ْل َع َرب»؛ هل العرب هم المختصون بفتنة يأجوج ومأجوج؟ الجواب‪ :‬ال‪ ،‬لكن ّ‬
‫خص العرب‬

‫بالذكر قال العلماء‪ :‬ألمرين‪:‬‬

‫• األمر األول‪ :‬أهنم كانوا معظم من أسلم إذ ذاك؛ والنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يهتم ألمر المسلمين‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫• واألمر الثاين‪ :‬لإلنذار بأن الفتن إذا وقعت كان الهالك أسرع يف العرب‪ ،‬قال العلماء‪ :‬هذا َ‬
‫يؤخذ يف الفتن‬

‫ك ِّلها؛ أ ّن الهالك يف العرب يف الفتن أسرع من غيرهم‪.‬‬

‫ب مِ ْن َش ٍّر َقدْ ا ْقت ََر ْب»؛ أي أ ّن ُقرب ذلك الشر يف غاية ال ُقرب‪.‬‬
‫«و ْي ٌل ل ِ ْل َع َر ِ‬
‫قال‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سائال سأل‪ :‬لماذا تقول ذلك يا رسول اهلل؟ فنبَّه على السبب فقال‪ُ « :‬فت َح ا ْليَ ْو َم م ْن َر ْد ِم َي ْأ ُج َ‬
‫وج‬ ‫ً‬ ‫فكأ ّن‬

‫وج مِثْ ُل َه ِذ ِه»‪.‬‬


‫َو َم ْأ ُج َ‬

‫ردم يأجوج ومأجوج‪ :‬هو السدّ الذي بناه ذو القرنين ‪-‬الذي ورد يف القرآن‪ -‬بزبر الحديد وهي القطع من‬

‫الحديد‪.‬‬

‫صحيحا أهنم من ذرية آدم فقط‪ ،‬بل من ذرية آدم‬


‫ً‬ ‫ويأجوج ومأجوج‪ :‬من البشر‪ ،‬من ذرية آدم وحواء‪ ،‬وليس‬

‫وحواء‪.‬‬
‫ورد يف صفاهتم ماال يثبُت؛ مِن قِ َصرهم ِ‬
‫وصغَرهم‪ ،‬وإنما المعلوم عنهم أهنم قو ٌم أقوياء‪ ،‬ال طاقة ألحد يف‬ ‫َ‬

‫قتالهم‪ ،‬حتى عيسى ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬حتى عيسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬الذي يقتل الدجال ال طاقة له بقتال يأجوج‬
‫ِ‬
‫ومأجوج ‪-‬كما سيأيت إن شاء اهلل‪ .-‬وإذا ُأرسلوا على الناس َ‬
‫أفسدوا عليهم معايشهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫«مثْ ُل َهذه» هذا نائب فاعل لقوله‪ُ « :‬فتح»‪ ،‬وأشار إلى الح ْلقة المب ِّينة بقوله‪َ :‬‬
‫((و َع َقدَ ع ََش َرةً)) هذه من‬

‫طي عقدة‬ ‫ْ‬


‫أساليب العرب يف عقد األعداد‪ .‬ما هو َعقدُ ال َعشر؟ عقد ال َعشر‪ :‬أن يجعل طرف السبابة اليمنى يف باطن ِّ‬
‫طي عُقدة اإلهبام العليا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫إهبامه العليا‪ ،‬هكذا‪ ،‬هذه عشر‪ ،‬إذا أشير هذه إشارة للعشر‪ ،‬فيجعل طرف السبابة اليمنى يف ِّ‬
‫وهي إشارة إلى مثل هذه الفتحة‪ ،‬والمراد أنه لم يكن يف الردم َث ْق ٌ‬
‫ب إال يف ذلك اليوم‪.‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر‪" :‬وقد جاء يف خرب مرفوع أ ّن يأجوج ومأجوج يحفرون السدّ كل يوم‪ ،‬وهو فيما‬

‫وحسنه وابن حبان والحاكم وصححه‪ ،‬عن أبي هريرة رفعه‪« :‬يف السد يحفرونه ّ‬
‫كل يوم‪ ،‬حتى إذا‬ ‫ّ‬ ‫أخرجه الرتمذي‬
‫كادوا َيخرقونه قال الذي عليهم‪ :‬ارجعوا فست ِ‬
‫َخرقونه غدا‪ ،‬ف ُيعيده اهلل كأشدّ ما كان‪ ،‬حتى إذا بلغ مدّ هتم وأراد اهلل‬
‫أن َيبعثهم قال الذي عليهم‪ :‬ارجعوا فست ِ‬
‫َخرقونه غدً ا إن شاء اهلل» واستثنى‪ ،‬قال‪« :‬فيرجعون فيجدونه كهيأته حين‬

‫تركوه‪ ،‬فيخرقونه‪ ،‬ف َيخرجون على الناس‪ » ...‬الحديث‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫قال اإلمام ابن العربي ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬يف هذا الحديث ثالث آيات باهرات‪:‬‬

‫وهنارا "‪.‬‬
‫ً‬ ‫األولى‪ :‬أ ّن اهلل منعهم أن يوالوا الحفر ً‬
‫ليال‬

‫انظروا يا إخوة! يحفرون يف الليل والنهار حتى إذا بقي قليل ال ُيكملون‪ ،‬وإنما يقولون‪ :‬ترجعون غدًا‬

‫ليال خاصة بعد التكرار؟ صرفهم‬


‫فتَخرقونه‪ ،‬فإذا عادوا وجدوه كهيأته‪َ ،‬من الذي َص َرفهم عن أن يواصلوا الحفر ً‬

‫اهلل‪ ،‬أل ّن اهلل جعل لخروجهم ً‬


‫أجال‪.‬‬

‫بس ّلم أو آلة فلم ُيل ِه ُمهم ذلك وال ع َّلمهم‪.‬‬


‫قي على السد ُ‬
‫الر َّ‬
‫قال‪" :‬الثانية‪ :‬منْ ُعهم أن يحاولوا ُ‬
‫الثالثة‪ :‬أنه صدّ هم أن يقولوا‪ :‬إن شاء اهلل؛ حتى يجيء الوقت المحدود"‪.‬‬

‫قلت‪ :‬وفيه‪ :‬أ ّن فيهم أهل صناعة"‪ ،‬لماذا أهل صناعة؟ ألهنم يحفرون‪ ،‬ففيهم أهل‬
‫قال الحافظ ابن حجر‪ُ " :‬‬

‫صناعة‪ .‬قال‪" :‬وأهل والية وسالطة"؛ ألنه قال‪ :‬فيقوم الذي عليهم؛ إذن لهم والي‪ .‬قال‪" :‬ورعيّة تطيع من فوقها"؛‬

‫ألنه يقول لهم ارجعوا فيرجعون‪" .‬وأ ّن فيهم َمن يعرف اهلل"؛ ألنه يقول‪ :‬إن شاء اهلل‪ .‬قال‪" :‬و ُي َ‬
‫حتمل أن تكون تلك‬

‫الكلمة تجري على لسانه من غير قصد للحكمة التي أرادها اهلل"‪.‬‬

‫قالت ‪-‬رضي اهلل عنها‪َ (( :-‬أفنُ ْه َل ْك)) أو (( َأ َفنَ ْهلِ ْك))؛ كالهما ورد‪ .‬فإذا قلنا (( َأ َفنُ ْه َل ْك)) فهذا من اإلهالك‪،‬‬

‫وإذا قلنا ((أفنَهلِك)) فهذا من الهالك‪.‬‬

‫الصال ِ ُحو ْن؟!)) أي َّ‬


‫أنعذب فنهلِك نحن معشر األمة والحال أ ّن بعضنا مؤمنون وفينا الط ّيبون‬ ‫ِ‬
‫((وفينَا َّ‬
‫َ‬

‫عرفت أنه يبقى يف األ ّمة صالحون؟ من إخبار النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؛ «ال تزال‬
‫ْ‬ ‫الطاهرون؟! نعم‪ ،‬من أين‬

‫طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأيت أمر اهلل»‪.‬‬

‫قال ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬نَ َع ْم» أي َيهلِك الطيّب ً‬


‫أيضا‪ ،‬أو ُيه َلك الطيّب ً‬
‫أيضا‪.‬‬

‫الخبَ ْث»؛ ّ‬
‫فسره العلماء‪ :‬بالزنا‪ ،‬إذا كثر الزنا وفشا‪.‬‬ ‫«إذا َكثُ َر َ‬

‫وفسره بعض أهل العلم‪ :‬بأوالد الزنا‪.‬‬


‫ّ‬
‫وفسره بعض أهل العلم‪ :‬بالفجور ك ّله‪ ،‬أن ُيع َلن الفجور؛ من التهتُّك يف اللباس‪ ،‬فتكشف المرأة عن‬
‫ّ‬
‫عوراهتا‪ ،‬ويكشف الرجل عن عوراته‪ ،‬وينتشر هذا بين الناس‪ ،‬ويرضى الرجل المرأته أن تجلس مع صديقه ُيس ّليها‬

‫‪16‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫وتسليه بخلوة أو بحضوره من غير حجاب‪ ،‬تضحك مع صديقه أشدّ ما تضحك مع زوجها‪ ،‬وهذا نو ٌع من أنواع‬

‫الدِّ ياثة ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬وهو فجور‪ .‬والزنا واللواط وغير ذلك من أنواع الفجور‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬

‫اسم جام ٌع؛ يجمع الزنا وغيره من الشر والفساد‪،‬‬


‫قال الحافظ ابن عبد البَّر‪" :‬وجملة القول يف معناه‪ :‬أنه ٌ‬
‫والمنكر يف الدِّين"‪.‬‬

‫فإذا فشا المنكر يف الدين وفشا الفساد وفشا الشر كانت األ ّمة ع ُْرض ًة للهالك‪.‬‬

‫عذب العا ّمة بذنب الخاصة‪ ،‬ولكن إذا ُصنِع‬


‫قال عمر بن عبد العزيز ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬كان ُيقال إ ّن اهلل ال ُي ِّ‬

‫هارا استحقوا العقوبة"‪ .‬وهذا معناه‪ :‬إذا َق ِدروا على اإلنكار فلم ُينكِروا‪.‬‬
‫المنكر َج ً‬

‫الخ ِّير ُيه َلك هبالك ِّ‬


‫الشرير؛ إذا لم ُيغ ِّير عليه َخ َبثه أو ُخبثَه‪،‬‬ ‫قال ابن العربي ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬فيه البيان بأ ّن َ‬

‫فشوا و َيكثر حتى َي ُع ّم الفساد؛ فيَه َلك‬


‫صر الشرير على عمله السيّئ و َي ُ‬
‫وكذلك إذا غيَّر عليه لكن حيث ال ُيجدي‪ ،‬و ُي ُّ‬
‫كل ٍ‬
‫أحد على نيّته"‪.‬‬ ‫حشر ُّ‬
‫حينئذ القليل والكثير‪ ،‬ثم ُي َ‬

‫فهمت من َفتح القدر المذكور من الردم؛ أ ّن األمر إن تمادى على ذلك‬


‫ْ‬ ‫وكأ ّن أم المؤمنين ‪-‬رضي اهلل عنها‪-‬‬

‫ٌ‬
‫إهالك لأل ّمة‪ ،‬ولذلك سألت فقالت‪:‬‬ ‫الخرق؛ بحيث يخرجون‪ ،‬وكان عندها علم يف أ ّن خروجهم فيه‬
‫ا ّتسع َ‬

‫الصال ِ ُحو ْن؟!))‪.‬‬ ‫ِ‬


‫(( َأنَ ْهلِ ُك َوفينَا َّ‬

‫وسيأيت ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬الكالم عن خروج يأجوج ومأجوج إن كتب اهلل وقتًا‪ ،‬وسنتكلم هناك عن حالهم وما‬

‫يكون فيهم‪.‬‬

‫وقعت يف موضع واشتدت ولم ُينكرها أهل الخير أكلت‬


‫ْ‬ ‫ويف هذا الحديث الذي معنا؛ أ ّن نار الفتنة إذا‬
‫ِ‬
‫وأخذت البَّ ّر والفاجر‪.‬‬ ‫الرطب واليابس‪ ،‬وغلبت على الطاهر والنجس‪،‬‬

‫قال ابن ب َّطال ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬أنذر النبي صلى اهلل عليه وسلم يف هذا الحديث ب ُقرب قيام الساعة" لماذا؟‬

‫قال‪" :‬كي يتوبوا قبل أن هتجم عليهم‪ ،‬جاء يف حديث أبي هريرة رفعه‪« :‬ويل للعرب من شر قد اقرتب‪ ،‬موتوا إن‬

‫استطعتم» ‪-‬فالموت أهون‪ ،-‬قال‪ :‬ويف هذا غاية التحذير من الفتن والخوض فيها"‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫ومن مراد اإلمام مسلم ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬من ال َبدء هبذا الحديث‪ :‬بيان أ ّن الفت َن إذا نزلت ال تصيب الظالم فقط‬

‫وإنما تصيب الجميع‪ ،‬وهذا يوجب على الجميع الحذر منها‪.‬‬


‫فال ينبغي لإلنسان أن يقول‪ :‬أنا مالي وهذه الفتنة؟ أنا الحمد هلل بعيد عنها! بل الواجب أن يقوم بما ِ‬
‫يقدر‬

‫حصن أبناءه وبناته ومن حوله‪ ،‬بأن ُيع ِّلمهم ويبيّن لهم‪.‬‬
‫عليه؛ ولو أن ُي ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يقول اهلل ‪-‬عز وجل‪َ ﴿ :-‬وا َّت ُقوا فتْنَ ًة َال ُت ِصيبَ َّن ا َّلذي َن َظ َل ُموا منْ ُك ْم َخ َّ‬
‫اص ًة﴾ﭼ [األنفال‪.]2٥ :‬‬

‫وهذه طريقة أهل العلم ‪-‬يا إخوة‪ ،-‬طريقة أهل العلم أهنم يبدؤون الكالم عن الفتن ببيان أ ّن الحذر منها‬

‫الز ٌم للجميع‪ ،‬ال يخرج من التحذير أحد‪.‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ولذلك؛ البخاري ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬بدأ كتاب الفتن باآلية‪َ ﴿ :‬وا َّت ُقوا فتْنَ ًة َال ُت ِصي َب َّن ا َّلذي َن َظ َل ُموا منْ ُك ْم َخ َّ‬
‫اص ًة﴾‪.‬‬

‫واإلمام مسلم ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬بدأ هذا الكتاب هبذا الحديث الذي ورد فيه أ ّن الفتنة َيهلِك فيها الصالح وغيره‪ ،‬ليَحذر‬

‫الجميع‪.‬‬

‫فأراد ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬أن ُيبيّن عظيم أثرالفتن على الناس؛ ليُعطيها الناس ما تستحقه من اهتمام ويأخذوا‬

‫بأسباب النجاة منها وينكروا ما يقع منها‪.‬‬

‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم َي ْو ًما َف ِزعًا ُم ْح َم ًّرا َو ْج ُه ُه َي ُق ُ‬ ‫[و َعنْها ‪-‬ر ِضي اهلل َعنْها‪ -‬قالت‪َ :‬خرج رس ُ ِ‬
‫ول‪َ « :‬‬
‫ال‬ ‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫َ َ َ َ ُ َ‬
‫هلل‪َ ،‬و ْي ٌل ل ِ ْل َع َر ِ‬
‫ب»]‪.‬‬ ‫إِ َل َه إِ َّ‬
‫ال ا ُ‬
‫محمرا وجهه قد استيقظ من منامه‪ ،‬فإذا كان هذا ‪-‬يا إخوة‪ ،-‬إذا كان حال النبي ‪-‬‬
‫ًّ‬ ‫نعم‪ ،‬خرج يو ًما فزعًا‬

‫موجا وال يخاف‪ ،‬وال َيحذر‪ ،‬وال‬


‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬هذا‪ ،‬فكيف بغيره؟! كيف بنا يرى الواحد منّا الفتن تموج ً‬

‫حذر‪ ،‬وال ُينكر‪ ،‬وال ُيبيّن؟ الشك أ ّن الغفلة فينا عظيمة‪.‬‬


‫ُي ِّ‬

‫وج مِثْ ُل َه ِذ ِه »‪ ،‬وح ّلق‬


‫وج َو َم ْأ ُج َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫«ال إِ َله إِ َّال اهلل‪ ،‬وي ٌل ل ِ ْلعر ِ ِ‬
‫ب م ْن َش ٍّر َقدْ ا ْقت ََر َب‪ُ ،‬فت َح ا ْليَ ْو َم م ْن َر ْد ِم َي ْأ ُج َ‬ ‫ََ‬ ‫ُ َْ‬ ‫[يقول‪َ َ :‬‬

‫بأصبعه اإلهبام والتي تليها]‪ .‬كما قلنا يف السابق‪.‬‬

‫الصال ِ ُحو َن؟ َق َال‪« :‬نَ َع ْم إِ َذا َكثُ َر ا ْل َخ َب ُث»]‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫[ ُق ْل ُت‪ :‬يا رس َ ِ‬
‫ول اهلل َأنَ ْهلِ ُك َوفينَا َّ‬ ‫َ َ ُ‬

‫‪18‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وعن أبي هريرة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬عن النبي صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم قال‪ُ « :‬فت َح ا ْل َي ْو َم م ْن َر ْد ِم َي ْأ ُج َ‬
‫وج‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َو َم ْأ ُج َ‬
‫وج مثْ ُل َهذه»‪ ،‬و َع َقد ُو َه ْي ٌ‬
‫ب بيده تسعين"‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬هذا مثل ما مضى‪ ،‬لك ّن الجديد يف حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه أ ّن ُو َهيْبًا ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أحد‬

‫ويضمها‬
‫ُّ‬ ‫الرواة َع َقدَ بيده تسعين‪ ،‬فما عقد التسعين؟ عقد التسعين قالوا‪ :‬أن يجعل طرف السبابة اليمنى يف أصلها‬
‫ُّ‬
‫ويضمها‬
‫ُّ‬ ‫المنضمة إلى بعضها‪ ،‬يعني هكذا‪ ،‬يضع طرف السبابة يف أصلها ‪-‬أصل السبابة‪ -‬من أسفل‬
‫ّ‬ ‫فتكون كالحيَّة‬

‫ُمح َكمة حتى تكون كهيأة الحيَّة‪.‬‬

‫ط ّيب؛ هنا ستَلحظون شيئًا‪ :‬يف الحديث السابق كان ال َع ْقد هكذا فهذه ح ْلقة‪ ،‬ويف هذا الحديث الح ْلقة هكذا‪،‬‬

‫ٌ‬
‫ففرق بينهما‪ ،‬فهذا شيء يسير وذاك أكرب منه!‬

‫ولذلك؛ قال بعض أهل العلم‪ :‬لعل أبو هريرة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬روى الحديث يف ّأول األمر عندما كان‬

‫يسيرا‪ ،‬ثم ا ّتسع‪.‬‬ ‫َ‬


‫الخرق ً‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬لعل المراد من ذلك التقريب‪.‬‬
‫لكن اختالف الصفتين ‪-‬حقيق ًة‪ -‬ي ِ‬
‫شعر باختالف المعنى‪ ،‬فيظهر ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أ ّن يف ذلك إشارة بأ ّن َ‬
‫الخرق‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫خرقون مقدار هذا‪ ،‬ثم أصبحوا َي ِ‬
‫خرقون مقدار هذا‪ ،‬وال زال َ‬
‫الخرق‬ ‫يتّسع بمرور األيام‪ ،‬فهم يف ّأول األمر كانوا َي ِ‬

‫يتّسع حتى يكتب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬لهم الخروج‪.‬‬

‫األول‪ ،‬فلع ّلنا نكتفي به؛ أل ّن اليوم نقدّ م للمسألة وغدً ا ‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪-‬‬
‫هذا ما يتع ّلق هبذا الحديث ّ‬

‫المبارك‪.‬‬
‫َ‬ ‫نُكمل القراءة يف هذا الكتاب‬

‫وأهم ما ورد ‪-‬يا إخوة‪ -‬هي قضية أنه ُيراد هبذا الحديث‪ :‬التحذير من الفتن‪ ،‬ومن التهاون هبا‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬
‫السكوت عنها عند وقوعها مع القدرة على إنكارها‪.‬‬

‫فإذا وقعت الفتن سواء ما يتع ّلق بالشبهات والبدع فمن الخطر العظيم أن ُيس َكت عن البدع وأهلها‪ .‬وإذا‬

‫وقعت فتن الشهوات فمن الخطر ان ُيس َكت عنها؛ لكن ُيتك ّلم باألصول الشرعية؛ أل ّن من إنكار المنكر ما هو فتنة‪،‬‬

‫‪19‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫منكرا يحتاج إلى إنكار‪ ،‬فالمسألة تحتاج إلى ضوابط شرعية سرتدنا إن شاء اهلل‪،‬‬
‫ً‬ ‫من الناس من يكون إنكاره‬

‫ونقررها على أصولها من األدلة الثابتة‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬


‫ِّ‬

‫‪20‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الثالث‬
‫باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت‬

‫‪21‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم األتمان األكمالن على المبعوث رحم ًة للعالمين‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫ٍ‬
‫بإحسان إلى يوم الدين‪ .‬أما بعد‪:‬‬ ‫ومن تبعه‬

‫يقول اإلمام النووي ‪-‬رحمة اهلل عليه‪:-‬‬

‫ش الَّ ِذي َي ُؤ ُّم الْ َب ْي َ‬


‫ت‪.‬‬ ‫[ باب‪ :‬الْخَ س ِ‬
‫ف بِالْ َج ْي ِ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬

‫*******‬

‫ث ْب ُن َأبِي َربِي َع َة َو َع ْبدُ اهللِ ْب ُن َص ْف َوا َن َو َأنَا َم َع ُه َما َع َلى ُأ ِّم َس َل َم َة ُأ ِّم‬ ‫َع ْن ُع َب ْي ِد اهللِ ا ْب ِن ا ْل ِق ْبطِ َّي ِة‪َ ،‬ق َال‪َ :‬د َخ َل ا ْل َح ِ‬
‫ار ُ‬
‫ف بِ ِه‪ ،‬وكَا َن َذل ِ َك فِي َأيا ِم اب ِن الزُّ بي ِر‪َ ،‬ف َقا َل ْت‪َ :‬ق َال رس ُ ِ‬
‫ش ا َّل ِذي ُي ْخ َس ُ‬ ‫ا ْل ُمؤْ مِنِي َن‪َ ،‬ف َس َأ َ‬
‫ال َها ع ِ‬
‫َن ا ْل َجيْ ِ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬
‫اهلل‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ‬

‫ول!‬ ‫ض ُخ ِس َ‬
‫ف بِ ِه ْم ))‪َ .‬ف ُق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ت َفيُبْ َع ُث إِ َليْ ِه بَ ْع ٌث‪َ ،‬فإِ َذا كَانُوا بِبَيْدَ ا َء مِ َن األَ ْر ِ‬
‫َع َلي ِه وس َّلم‪ (( :‬يعو ُذ عَائِ ٌذ بِا ْلبي ِ‬
‫َْ‬ ‫َُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ف بِ ِه َم َع ُه ْم‪َ ،‬و َلكِنَّ ُه ُيبْ َع ُث َي ْو َم ا ْل ِقيَا َم ِة َع َلى نِيَّتِ ِه )) ‪َ .‬و َق َال َأ ُبو َج ْع َف ٍر ِه َي َبيْدَ ا ُء‬ ‫اهللِ َف َكيْ َ‬
‫ف بِ َم ْن كَا َن ك ِ‬
‫َار ًها؟ َق َال‪ُ « :‬ي ْخ َس ُ‬

‫ا ْل َم ِدين َِة‪.‬‬

‫َق َال‪ :‬ويف حديثه قال ‪:‬‬

‫ض‪َ ،‬ف َق َال َأ ُبو َج ْع َف ٍر‪َ :‬كالَّ‪َ ،‬واهللِ إِ َّن َها َل َب ْيدَا ُء ا ْل َم ِدين َِة‪.‬‬
‫يت َأ َبا َج ْع َف ٍر َف ُق ْل ُت‪ :‬إِ َّن َها إِن ََّما َقا َل ْت بِ َب ْيدَ ا َء مِ َن األَ ْر ِ‬
‫َف َل ِق ُ‬

‫اهلل َع َليْ ِه وعلى آله َو َس َّلم َي ُق ُ‬


‫ول ‪َ (( :‬ليَؤُ َّم َّن َه َذا ا ْلبَيْ َت‬ ‫ِ ِ‬
‫اهلل َعنْ َها‪َ ،-‬أنَّ َها َسم َعت النَّبِ َّي َص َّلى ُ‬
‫ِ‬
‫َو َع ْن َح ْف َص َة ‪َ -‬رض َي ُ‬
‫ف بِ ِه ْم َفالَ َيبْ َقى‬ ‫ف بِ َأوسطِ ِهم‪ ،‬وينَادِي َأو ُلهم ِ‬
‫آخ َر ُه ْم‪ُ ،‬ث َّم ُي ْخ َس ُ‬ ‫َجيْ ٌش َي ْغزُ ونَ ُه‪َ ،‬حتَّى إِ َذا كَانُوا بِبَيْدَ ا َء مِ َن األَ ْر ِ‬
‫َّ ُ ْ‬ ‫ض ُي ْخ َس ُ ْ َ ْ َ ُ‬

‫الش ِريدُ ا َّل ِذي ُي ْخبِ ُر َعنْ ُه ْم ))‪َ .‬ف َق َال َر ُج ٌل‪َ :‬أ ْش َهدُ َع َليْ َك َأن ََّك َل ْم َت ْك ِذ ْب َع َلى َح ْف َص َة َو َأ ْش َهدُ أن َح ْف َص َة َأنَّ َها َل ْم‬ ‫إِ َّ‬
‫ال َّ‬

‫اهلل َع َل ْي ِه َو َع َلى آل ِ ِه َو َص ْحبِ ِه َو َس َّل ْم‪.-‬‬ ‫ِ‬


‫َت ْكذ ْب َع َلى النَّبِ ِّي ‪َ -‬ص َّلى ُ‬

‫‪22‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫ول اهللِ ص َّلى اهلل َع َلي ِه وس َّلم َق َال‪ (( :‬سيعو ُذ بِه َذا ا ْلبي ِ‬
‫ت ‪َ -‬ي ْعنِي ا ْل َك ْع َب َة‪َ -‬ق ْو ٌم َل ْي َس ْت‬ ‫اهلل َعنْ َها‪ -‬أ ّن َر ُس َ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫ُ ْ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َو َعنْ َها ‪َ -‬رض َي ُ‬
‫ض ُخ ِس َ‬
‫ف بِ ِه ْم ))‪.‬‬ ‫ال عُدَّ ةٌ‪ُ ،‬ي ْب َع ُث إِ َل ْي ِه ْم َج ْي ٌش َحتَّى إِ َذا كَانُوا بِ َب ْيدَ ا َء مِ َن األَ ْر ِ‬ ‫َل ُه ْم َمنَ َع ٌة َو َ‬
‫ال َعدَ ٌد َو َ‬

‫الش ْأ ِم َي ْو َمئِ ٍذ َي ِس ُيرو َن إِ َلى َم َّكةَ‪َ ،‬ف َق َال َعبْدُ اهللِ بْ ُن َص ْف َوا َن‪َ :‬أ َما َواهللِ َما ُه َو بِ َه َذا ا ْل َجيْ ِ‬
‫ش‪.‬‬ ‫ف‪َ :‬و َأ ْه ُل َّ‬ ‫َق َال ُي ُ‬
‫وس ُ‬

‫ول اهللِ! َصنَ ْع َت‬


‫اهلل َع َليْ ِه َو َس َّلم فِي َمنَامِ ِه‪َ ،‬ف ُق ْلنَا‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫و َعن عَائِ َش َة ‪-‬ر ِضي اهلل َعنْها‪َ -‬قا َل ْت‪َ :‬عبِ َث رس ُ ِ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ت بِ َر ُج ٍل مِ ْن ُق َر ْي ٍ‬
‫ش َقدْ َل َج َأ‬ ‫َشيئًا فِي منَامِ َك َلم َت ُكن َت ْفع ُله‪َ .‬ف َق َال‪ (( :‬ا ْلعجب إِ َّن نَاسا مِن ُأمتِي يؤُ مو َن هذا ا ْلبي ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ َّ َ ُّ‬ ‫ً‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫َّاس‪َ .‬ق َال‪ (( :‬نَ َع ْم‪ ،‬فِي ِه ُم‪:‬‬ ‫ف بِ ِهم))‪َ .‬ف ُق ْلنَا‪ :‬يا رس َ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ول اهلل! إِ َّن ال َّط ِر َيق َقدْ َي ْج َم ُع الن َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫بِا ْلبَيْت‪َ ،‬حتَّى إِ َذا كَانُوا بِا ْلبَيْدَاء ُخس َ ْ‬
‫اهلل َع َلى نِ َّياتِ ِه ْم ))‪.‬‬ ‫ِ‬
‫دُرو َن َم َصاد َر َشتَّى َي ْب َعثُ ُه ُم ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السبِيلِ‪َ ،‬ي ْهل ُكو َن َم ْه َل ًكا َواحدً ا َو َي ْص ُ‬
‫ِ‬
‫ا ْل ُم ْستَ ْبص ُر‪َ ،‬وا ْل َم ْج ُب ُ‬
‫ور‪َ ،‬وا ْب ُن َّ‬

‫*******‬

‫نعم‪ ،‬هذا الحديث ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬يخرب النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فيه عن ٍ‬
‫أمر يقع يف المستقبل؛ وهو‪ :‬الخسف‬

‫خسف هبم كما ورد يف الحديث‪.‬‬ ‫بجي ٍ‬


‫ش من أ ّمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يؤ ّم الكعبة فيُ َ‬
‫ومخر ٌج يف الصحيحين‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وجوه كثيرةٍ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مستفيض عن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬من‬
‫ٌ‬ ‫والحديث‬

‫وقوله‪(( :‬وكان ذلك يف أيام الزبير))؛ استشكل هذا بعض أهل العلم‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا ليس بصحيح‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬أل ّن‬

‫أم سلمة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬توف ّيت يف خالفة معاوية قبل موته بسنتين سنة تس ٍع وخمسين؛ وعلى هذا فهي لم تدرك‬

‫أيام الزبير‪ ،‬فكيف يقال إ ّن ذلك كان يف أيام الزبير؟!‬

‫لكن قال بعض أهل العلم‪ :‬إهنا ‪-‬رحمها اهلل ورضي عنها‪ -‬توفيت يف أيام يزيد بن معاوية‪ ،‬وعلى هذا يستقيم‪ ،‬أل ّن‬

‫ابن الزبير نازع يزيدً ا ّأول ما بلغتْه بيعته عند وفاة معاوية؛ ذكر ذلك الطربي وغيره من أهل العلم‪.‬‬

‫وذكر ابن عبد الرب يف "االستيعاب" أ ّن أم سلمة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬توفيت زمن يزيد‪ ،‬وعلى هذا ال يكون يف المسألة‬

‫إشكال‪.‬‬

‫على أ ّن هذا الحديث روته عد ٌد من أمهات المؤمنين؛ فروته أم سلمة‪ ،‬وروته حفصة‪ ،‬وروته عائشة‪ ،‬رضي اهلل‬

‫عنهن‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬يعوذ ))‪ ،‬ما معنى يعوذ؟ معناه‪ :‬يلتجئ إليه ويلوذ به طال ِ ًبا العصمة‪ ،‬نحن نقول‬

‫وأطلب العصمة‪ ،‬فقوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬يعوذ )) أي يلتجئ إليه‬
‫ُ‬ ‫ألتجئ‬
‫ُ‬ ‫مثال‪ :‬أعوذ بكلمات اهلل؛ أي‬
‫ً‬

‫ويعتصم به‪.‬‬

‫قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ُ (( :-‬خ ِسف هبم )) أي ُذ ِهب هبم يف األرض‪ ،‬فاهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يعاقب بعض الظالمين‬

‫بأن َيخسف هبم األرض‪.‬‬

‫وهذا وقع يف األزمان الماضية قبل بعثة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؛ كما ُخ ِس َ‬
‫ف بقارون‪ ،‬وسيقع بعد بعثة‬

‫محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف أقوا ٍم من أمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؛ ومنهم قو ٌم يجتمعون على‬
‫الخمر‪ ،‬ويضرب على رؤوسهم بالمعازف‪ ،‬و ُتغنّيهم ِ‬
‫القيان؛ ف ُيخسف هبم ‪-‬والعياذ باهلل‪ .-‬ومنهم هذا الجيش‬ ‫ُ َ‬
‫خسف هبم‪.‬‬
‫الذي يقصد الكعبة فيُ َ‬

‫والبيداء‪ :‬هي الصحراء‪ ،‬الصحراء تسمى بالبيداء‪ ،‬لماذا تسمى بالبيداء؟ قالوا‪ :‬كأهنا ُتبيد َمن دخلها‪ ،‬فهي َمظِنَّة‬

‫الهالك‪ ،‬الصحراء األصل فيها أنه ال ماء فيها وال شجر‪ ،‬و َمن دخلها كان ع ُْر َضة ألن يهلك؛ فسميّت بالبيداء؛ ألهنا‬

‫مظنة أن ُتبيد من دخل فيها‪.‬‬

‫والبيداء المذكورة يف الحديث إ ّما أهنا صحراء لم ُتع َّين؛ لكنها جهة مكة‪.‬‬
‫ِ‬
‫المشرف الممتد‬ ‫وإ ّما أهنا بيداء المدينة التي َّ‬
‫أهل منها النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؛ وبيداء المدينة هي المكان‬

‫صعدت من الميقات إلى طريق مكة القديم ‪-‬وليس الطريق الجديد‪ -‬فإنك ّأول ما تصعد‬
‫َ‬ ‫بعد الميقات‪ ،‬فأنت إذا‬

‫من الميقات ترى مكانًا مشر ًفا مرتف ًعا‪ ،‬عليه اآلن مستشفى ‪-‬أحسب أنه يسمى بمستشفى الميقات‪ -‬هذا المكان‬

‫هو البيداء‪.‬‬

‫قال النووي ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬قال العلماء‪:‬كل أرض ملساء ال شيء هبافهي بيداء" ‪.‬‬

‫إذن البيداء‪ :‬هي األرض الصحراء التي ليس فيها بناء وال شجر‪.‬‬

‫قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬ليؤ ّمن هذا البيت جيش ))؛ أي يقصدونه‪ ،‬أي يقصد هذا البيت جيش‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫الشريد»؛ الشريد‪ :‬معناه البق ّية‪ ،‬يعني يبقى منهم بق ّي ًة ُتخبِر عن حالهم‪.‬‬
‫وقوله‪« :‬إال َّ‬

‫والشريد كما قال أهل اللغة‪ :‬هو البق ّية من الشيء‪ ،‬يقال‪ :‬يف اإلناء َشريدٌ من الماء؛ أي بقية من الماء‪.‬‬

‫والمقصود أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ُ -‬يخرب أنه يبقى منهم شريد‪ ،‬ال لسالمته ‪-‬هو‪ -‬وإنما لحكمة‪ ،‬ما هي‬

‫الحكمة؟ أنه ُيخرب عنهم َمن وراءهم‪.‬‬

‫وقوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬ليست لهم َمنَعة ))؛ أي ليس لهم َمن َيجمعهم و َيمنعهم‪.‬‬

‫وقول أ ّمنا عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪َ (( :-‬عبِ َث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف منامه)) ما المراد بعبث؟ معناه‪:‬‬

‫وح ّرك أطرافه‪.‬‬


‫اضطرب جسمه َ‬

‫حرك يده كمن يأخذ شيئًا يف منامه‪ ،‬وليس هذا من عادة النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف‬
‫قال بعض أهل العلم‪ّ :‬‬
‫منامه‪ ،‬فالنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف منامه يكون ساكنًا ال َيتحرك وال َيضطرب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬لكنه‬

‫يف هذه المرة اضطرب وتحركت أعضاؤه ومدّ يده كأنه يريد أن يأخذ شيئًا وهو نائم‪ ،‬ولذلك سألتْه أ ّمنا عائشة ‪-‬‬

‫رضي اهلل عنها‪ -‬عن هذا‪ ،‬فالنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أخربها‪.‬‬

‫ثم ذكر النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أ ّن فيهم‪ :‬المستبصر‪ ،‬والمجبور‪ ،‬وابن السبيل‪.‬‬

‫ف هبذا‪ ،‬ب ِّي ٌن له األمر‪.‬‬


‫عار ٌ‬ ‫المستبصر‪ :‬هو المستَبين األمر‪ ،‬القاصد له‪ ،‬هو ِ‬
‫ذاهب يريد البيت‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫فمن هو المستبصر؟‬
‫َ‬
‫كره على أن يذهب مع هذا الجيش‪.‬‬
‫مكر ًها‪ ،‬هو ال يريد‪ ،‬لكنه ُي َ‬ ‫المكره‪َ ،‬‬
‫يؤخذ َ‬ ‫َ‬ ‫وأ ّما المجبور‪ :‬فهو‬

‫وأ ّما ابن السبيل‪ :‬فهو سالك الطريق معهم يريد مكة‪ ،‬هو ال يريد ما يريدون ولكنه يسير معهم يريد مكة‪.‬‬

‫ومع ذلك قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬إهنم ُيه َلكون َمه َل ًكا واحدً ا ))‪ ،‬أو (( َيهلِكون مهلِ ًكا واحدً ا )) أي‬

‫المكره‪ ،‬وال ينجو ابن السبيل؛ كلهم ُيه َلكون‪ ،‬ثم يوم القيامة‬
‫َ‬ ‫يقع الهالك يف الدنيا على جميعهم‪ ،‬فال ينجو‬

‫َيصدُ رون مصادِر شتَّى بحسب نياهتم‪ ،‬فاألمر بين يدي اهلل على النيات‪ ،‬فيُجازَ ْون بحسب القصد وبحسب الغرض‬

‫من المسير‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫استشكلت وقوع العذاب على من لم ُي ِ‬


‫شارك‪ ،‬فإ ّن فيهم من ليس منهم! فأخربها النبي ‪-‬‬ ‫ْ‬ ‫فأ ّمنا ‪-‬رضي اهلل عنها‪-‬‬

‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أهنم ُيه َلكون جمي ًعا؛ ولكنهم ُيبعثون على نياهتم‪ ،‬فالطائع ُيجازى بنيته‪ ،‬والعاصي ُيجازى‬

‫بنيته‪.‬‬

‫المراد من هذا الحديث ‪-‬يا إخوة‪:-‬‬

‫‪ ‬بيان أ ّن من الفقه التباعد عن أهل الظلم‪ ،‬فال يكون اإلنسان مع ال َظ َلمة وإن كان ً‬
‫عدال‪ ،‬يبتعد عن أهل‬

‫الظلم و َيحذر مجالسهم و َيحذر مجالستهم؛ ألهنم ع ُْرضة لنزول العقاب‪ ،‬وإذا نزل العقاب ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬أصابه‬

‫معهم‪.‬‬

‫حذرون من مجالسة أهل البدع؛ أل ّن مجالسة أهل البدع شر‪ ،‬إ ّما أن يوقِعوا يف‬
‫السلف ُي ِّ‬
‫ومن هنا ‪-‬يا إخوة‪ -‬كان َّ‬
‫قلب المسلم ُّ‬
‫الشبهة‪ ،‬فلعله أن َيغرتَّ هبم‪ ،‬يذهب إليهم يف زاويتهم وهو على سنَّة وخير‪ ،‬فقد يسمع شيخهم يقول‬

‫شر من هذه الجهة‪.‬‬


‫شيئًا فيقع يف قلبه‪ ،‬فمجالستهم ٌّ‬
‫شر من جهة أخرى؛ وهي‪ :‬أهنم ع ُْرضة ألن ينزل هبم العقاب‪ ،‬وإذا نزل هبم العقاب كان اإلنسان‬
‫ومجالستهم ٌّ‬
‫معر ًضا ألن يكون معهم‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ ‬وفيه‪ :‬أ ّن من الفقه العظيم أن يكون المسلم مع أهل السنة‪ ،‬أن يكون منهم ومعهم‪ ،‬يبحث عنهم‪ ،‬يبحث‬

‫عن مساجدهم‪ ،‬فيكون معهم يف مساجدهم‪ ،‬يحرص على أن يكون منهم يف معتقده‪ ،‬يف أعماله‪ ،‬يف أقواله؛ ألهنم‬

‫موعودون بالسالمة؛ «ال تزال طائف ٌة من أ َّمتي على الحق ظاهرين حتى يأيت أمر اهلل»‪.‬‬

‫‪ ‬وفيه‪ :‬من الفقه أ ّن المسلم ينبغي أن َيتَّخذ له ُمجالسين ُصلحاء من أهل الصالح‪ ،‬من أهل التُّقى‪ ،‬فهم‬

‫نوسع عن‬
‫األ َمنَة‪ ،‬وليس األمر كما يفعل بعض المسلمين؛ يبحثون عن أهل المعاصي وعن أهل التساهل؛ يقول‪ّ :‬‬
‫صدورنا‪ ،‬نفرح معهم‪ ،‬كما يقولون بالعامية‪ :‬المطاوعة مع َّقدون أجلس معهم ُيذكّروين بالجنة والنار وبذكر اهلل‪ ،‬أنا‬

‫أريد أن أنشرح! فيُجالس ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬أهل الغيبة الذين ال يأنسون يف المجلس إال بأكل أجساد المسلمين‪،‬‬

‫ويجالس أهل الكذب‪ ،‬ويجالس أهل البهتان‪ ..‬إلى غير ذلك‪ ،‬هذا ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬من الخذالن‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫حريصا على مجالسة أهل الصالح‪ ،‬على مجالسة أهل الطاعة‪ ،‬ففي مجالستهم‬
‫ً‬ ‫المسلم ينبغي عليه أن يكون‬

‫النجاة والفالح له‪.‬‬

‫‪ ‬وفيه‪ :‬أ ّن المسلم ينبغي أن يتباعد عن الفتن‪ ،‬ألنه إن اقرتب من الفتنة إ ّما أن يكون من أهلها‪ ،‬وإ ّما أن ُيجبَر‬

‫عليها؛ إذا اقرتب من الفتن إ ّما أن يكون من أهلها ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬وإ ّما أن ُيجبَر عليها و َيتس ّلط عليه أه ُلها‪ ،‬فإذا نزل‬

‫رضا ألن يكون معهم‪ ،‬فالمسلم َيتباعد عن الفتن‪.‬‬


‫عقاب كان م َّع ً‬

‫‪27‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫‪ ‬مسلم‬
‫من صحيح‬

‫‪‬‬

‫الدرس الرابع‬

‫باب نزول الفتن كمواقع القطر‬

‫‪28‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫ُول الْ ِفت َِن ك ََم َو ِاق ِع الْ َقطْرِ‪.‬‬


‫اب‪ُ :‬نز ِ‬
‫[ َب ٌ‬

‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪َ -‬أ ْش َرفَ َع َلى ُأ ُط ٍم ِم ْن آ َطا ِم الْ َم ِدين َِة‪ُ ،‬ث َّم َق َال‪(( :‬‬
‫اهلل َعنْ ُه‪َ ،-‬أ َّن النَّبِ َّي ‪َ -‬ص َّلى ُ‬
‫ِ‬
‫َع ْن ُأ َس َام َة ‪َ -‬رض َي ُ‬
‫َه ْل ت ََر ْو َن َما َأ َرى؟ إِنِّي ألَ َرى َم َو ِاق َع الْ ِفت َِن ِخال ََل بُ ُيوتِك ُْم ك ََم َو ِاق ِع الْ َقطْرِ ))‪.‬‬

‫النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أشرف؛ أي ا َّطلع من ُع ُلو‪ ،‬نظر من ُع ُلو‪ ،‬ارتفع على شيء فنظر إلى بيوت‬

‫المدينة‪.‬‬
‫واألُ ُطم‪ :‬هي القصور والحصن‪ ،‬وهي مفرد‪ُ ،‬أ ُطم مفرد‪،‬يعني‪ :‬قصر ِ‬
‫وحصن‪ ،‬وجمعها آطام‪.‬‬ ‫ُ ُ‬

‫فالنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أشرف وعال وارتفع‪ ،‬أين ‪-‬يا إخوة‪ -‬؟ يف مدينته ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬يف هذه‬
‫المدينة‪ ،‬وأخربهم عن ٍ‬
‫أمر فقال‪ )) :‬إنِّي ألرى مواقع الفتن خالل بيوتكم ))‪ ،‬يعني‪ :‬يا أهل المدينة‪.‬‬

‫والمراد بــ (مواقع الفتن)‪ :‬مواضع سقوطها‪ .‬والخالل‪ :‬هي النواحي‪ .‬والرؤية‪ :‬أي بالنظر‪ ،‬أي أ َّن اهلل كشف للنبي ‪-‬‬

‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬الحال؛ فرأى مواقع الفتن بين بيوت أهل المدينة‪.‬‬

‫والتشبيه بــ (مواقع القطر)‪-‬يا إخوة‪ ،-‬المراد به‪ :‬الكثرة؛ النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ُ -‬يخرب األ َّمة أ َّن الفتن ستكون‬

‫كثيرة‪ ،‬ويف هذا تحذير من هذا‪.‬‬

‫أيضا إشارة إلى أ َّن الفتن لن تكون خاصة بطائفة؛ بل تكون عا ّمة؛ أل َّن مواقع المطر تعني أ َّن المطر َي ُّ‬
‫عمها‪،‬‬ ‫ويف هذا ً‬

‫ويف هذا تحذير من الفتن‪.‬‬

‫والحرة‪ ،‬ومقتل‬
‫َّ‬ ‫قال العلماء‪ :‬يف هذا إشارة إلى الحروب التي وقعت بين المسلمين‪ ،‬كوقعة الجمل‪ ،‬وص ِّفين‪،‬‬

‫عثمان‪ ،‬ومقتل الحسين‪ ،‬رضي اهلل عنهما‪.‬‬

‫ولماذا أخبر النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بمواقع الفتن؟‬

‫أخربهم ليتأهبوا لها‪ ،‬وليستعدوا لها فال يخوضوا فيها‪ ،‬ويسألوا اهلل السالمة منها‪ ،‬ويأخذوا بمجامع أسباب النجاة‪.‬‬

‫ومقصود اإلمام مسلم ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬أن ُيبيِّن أ َّن الفتن يف هذه األ َّمة كثيرة‪ ،‬فال يغرت المسلم بأنَّه مسلم‪ ،‬بل َيعلم أ َّن‬

‫الفتن يف األ َّمة كثيرة فيحذر هذه الفتن حتى ال يقع‪ ،‬فإ َّن بعض الناس ال َيحذر مِن الفتن و َيظ ُّن أ َّن األمر ليس‬

‫حذورا فيقع فيه‪.‬‬


‫ً‬ ‫َم‬
‫‪29‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫مثال يقول‪ :‬أ َّمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ال يقع فيها الشرك‪ ،‬وهذا ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬سيرد وسنب ِّين‬
‫بعض الناس ً‬

‫أ َّن الشرك يقع يف أ َّمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬لك َّن بعض الناس ال يحذرون هذا؛ فماذا وقع؟ وقعوا يف‬

‫الشرك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب على عبادة القرب؛ ومع ذلك يقول‪ :‬الشرك ال يقع يف أ َّمة‬ ‫تجد أ َّن الواحد منهم ُمك ٌّ‬
‫ب على عبادة غير اهلل‪ُ ،‬مك ٌّ‬

‫محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬والشرك واق ٌع يف عمله‪.‬‬

‫وبعض الناس يقولون‪ :‬نحن آمنون مِن الفتن‪ ،‬فال يحذر؛ فيقع يف الفتن ‪-‬والعياذ باهلل‪.-‬‬

‫فعلى المسلم أن َيحذر الفتن‪ ،‬وأن يسأل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬السالمة منها‪.‬‬

‫ُون فِتَن الْ َق ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫[وعن َأبِي هرير َة ‪-‬ر ِضي اهلل عنْه‪َ -‬ق َال‪َ :‬ق َال رس ُ ِ‬
‫اعدُ‬ ‫«ستَك ُ ٌ‬ ‫ول اهلل َص َّلى اهللُ َع َليْه َو َع َلى آله َس َّل َم‪َ :‬‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ َْ َ َ ُ َ ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫اشي فِ َيها خَ ير ِمن الس ِ‬
‫اعي‪َ ،‬م ْن ت ََش َّرفَ لَ َها ت َْست َْشرِ ُف ُه‪،‬‬ ‫اشي‪ ،‬والْم ِ‬
‫فِ َيها خَ ير ِمن الْ َقائِمِ‪ ،‬والْ َقائِم فِ َيها خَ ير ِمن الْم ِ‬
‫ْ ٌ َ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ٌْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌْ َ‬

‫َو َم ْن َو َجدَ فِ َيها َم ْل َجأً َف ْل َي ُع ْذ بِ ِه»]‪.‬‬

‫فتن» أي‪ :‬ستقع فتن‪ ،‬وهذه الفتن عظيمة‪.‬‬


‫قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬ستكون ٌ‬

‫فمن هو القاعد؟‬
‫خير من القائم»؛ َ‬
‫قال ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬القاعد فيها ٌ‬
‫خير من القائم‪.‬‬
‫ثابت‪ ،‬هو ٌ‬
‫• القاعد‪ :‬هو الذي يثبت يف مكانه وال يتحرك للفتنة‪ ،‬قاعدٌ ٌ‬

‫• ‪ .‬وقال بعض العلماء‪ :‬إ َّنالقاعد هو‪ :‬الثابت‪.‬‬

‫خير من القائم»؛ َمن هو القائم؟‬


‫«القاعد فيها ٌ‬
‫‪ ‬قال بعض أهل العلم‪ :‬القائم هو الواقف الذي ينظر‪.‬‬

‫خيرا منه؟ قالوا‪ :‬أل َّن القائم يرى ما ال يراه القاعد‪ ،‬فيرى من الفتن ما ال يشاهده القاعد‪.‬‬
‫فلماذا كان القاعد ً‬
‫‪ . ‬وقالوا‪ :‬هو الذي تكون يف قلبه؛ لكنه يرتدد يف الفعل‪ ،‬هذا معنى آخر للقائم‪ ،‬يعني‪ :‬تكون الفتنة ‪-‬والعياذ‬

‫باهلل‪ -‬يف قلبه؛ يحبُّها؛ كما يقولون يف لسان العا َّمة اليوم‪" :‬مقتنع بها"؛ لكنه يرتدد يف الفعل‪ ،‬يرت َّدد يف إثارة‬

‫خير منه‪.‬‬
‫الفتنة‪ ،‬فالقاعد الثابت ٌ‬

‫‪30‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫والمعلوم ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬يا إخوة؛ أ ّن الفتن ُتقبِل كالمرأة الحسناء و ُتدبر كالعجوز الشمطاء‪ ،‬فأهل البصيرة‬

‫أدبرت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أقبلت‪ ،‬وأ َّما الدَّ هماء فال َيعرفوهنا إال إذا‬
‫ْ‬ ‫َيعرفوهنا إذا‬

‫عرض نفسه ألن ُيفتَن هبا‪ ،‬ولذلك قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬القاعد فيها‬
‫فالذي يقوم و َينظر إلى الفتنة ُي ِّ‬
‫خير من القائم»‪.‬‬
‫ٌ‬

‫خير من الماشي»؛ الماشي هو‪:‬‬


‫«والقائم فيها ٌ‬
‫▪ الذاهب على رجله إليها‪ ،‬يعني‪ :‬لم يقف فقط؛ بل مشى‪.‬‬

‫▪ وقال بعض أهل العلم‪ :‬الماشي هو الذي يمشي يف الفتنة ألسباب أخرى‪ ،‬فيمشي يف الفتنة ليس من أجل‬

‫تاجر َيذهب إلى خيمة المولد ال‬


‫ٌ‬ ‫مثال‪:‬‬
‫الفتنة وإنما ألسباب أخرى‪ ،‬فقد يقوده ذلك إلى الوقوع فيها؛ ً‬
‫عمل يف الموالد‪ ،‬فقد يقوده ذلك إلى أن ِ‬
‫يشارك‪.‬‬ ‫الح ُّمص ويبيع ما ُي َ‬
‫ليشارك يف المولد وإنما ليبيع‪ ،‬يبيع ُ‬

‫عرض نفسه للوقوع‬ ‫ٍ‬


‫ألسباب غير الفتنة؛ ف ُي ّ‬ ‫فالمقصود بالماشي عند بعض أهل العلم‪ :‬هو الذي يمشي يف الفتنة‬

‫فيها‪.‬‬

‫خير من الساعي)) والساعي هو‪ :‬الذي ُيسرع إليها ماشيًا أو راكبًا‪.‬‬


‫((والماشي فيها ٌ‬
‫حسية وقد تكون معنوية‪.‬‬
‫وهذه السرعة ‪-‬يا إخوة‪ -‬قد تكون ِّ‬
‫▪ قد تكون حسية‪ :‬بأن َيعلم اإلنسان بأهل فتنة فيُسرع إليهم‪.‬‬

‫يعرضه للوقوع فيها‪.‬‬


‫▪ وقد تكون معنوية‪ :‬بأن َيعلم اإلنسان بأهل فتنة فيقرأ كتبهم؛ مما ِّ‬

‫والمراد ‪-‬يا إخوة‪-‬؛ أ َّن المباشرة للفتنة كلما كانت أقرب كانت أعظم‪ .‬فكلما اقرتب اإلنسان من الفتنة كان ذلك‬

‫أشد‪.‬‬

‫وقد قال بعض أهل العلم‪ :‬إ َّن الناس يف الفتنة‪:‬‬

‫▪ نائـــــــــــــم‪.‬‬

‫▪ ومضطجع‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫▪ وقاعــــــــد‪.‬‬

‫▪ وقائــــــــم‪.‬‬

‫▪ ومـــــاشي‪.‬‬

‫▪ وســـــاعي‪.‬‬

‫▪ وواقــــــــع‪.‬‬
‫‪ -‬نائم‪ُ :‬م ِ‬
‫عرض عنها تما ًما‪ ،‬ال يدري عنها شيئًا‪َ ،‬أغلق بابه دوهنا‪.‬‬

‫‪ -‬ومضطجع‪ :‬هو يقظان؛ لكنه مضطجع‪ ،‬ال يريد أن يرى شيئًا‪.‬‬

‫‪ -‬وقاعد‪ :‬فهو أقرب إلى الرؤية؛ لكنه ثابت‪.‬‬

‫‪ -‬وقائم‪َ :‬يتط َّلع؛ فهو يرى يف الفتنة أكثر؛ وقد يقوده ذلك إلى أن يقع يف حبائلها‪.‬‬

‫‪ -‬وماشي‪ :‬يمشي‪.‬‬
‫‪ -‬وساعي‪ :‬يجري‪ُ ،‬م ِ‬
‫سرع‪.‬‬

‫‪ -‬وواقع‪ :‬أي أنه من أهلها –والعياذ باهلل‪ ،‬عياذا باهلل من الفتن‪.-‬‬

‫والمقصود ‪-‬أيها اإلخوة‪-‬؛ بيان عظيم خطر الفتن‪ ،‬والحث على تجنُّبها والهرب منها والبعد عن المقاربة لها‪ ،‬فإ َّن‬

‫قرباهنا خطر‪ ،‬وأ َّن شرها يكون بحسب ال ُقرب منها‪.‬‬

‫وفيه‪ :‬ما أخذه أهل العلم مِن قاعدة عظيمة ‪-‬يا إخوة‪ -‬ينبغي على المسلمين جمي ًعا وعلى طالب العلم أن‬

‫َنب وال تُجتَلب»‪.‬‬


‫َيعلموها؛ وهي‪«:‬أ َّن الفتن تُجت ُ‬

‫فمن َسلِ َم من الفتنة فال َيجلبها لنفسه‪ ،‬البلد الذي َيس َل َم من فتنة ال َيجلبها لنفسه‪ ،‬وال يلزم ‪-‬يا إخوة‪ -‬إذا كانت‬
‫َ‬
‫فليحمد اهلل‪ ،‬فإذا ظهرت فتنة فإنَّه ُيتبا َعد عنها‪.‬‬
‫َ‬ ‫الفتنة يف بلد أن ُتج َلب إلى بلد آخر ولو باللسان‪َ ،‬‬
‫فمن عُويفَ‬

‫قائما وال ماش ًيا وال ساع ًيا وال واق ًعا يف الفتنة؟‬
‫طيب؛ كيف نَتباعد عن الفتنة؟ كيف ال أكون ً‬

‫أمور ستأيت‪ ،‬منها‪:‬‬


‫لذلك ٌ‬

‫‪32‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫السنَّة‪ ،‬فإ ّن مالزمة أهل السنة فيها مباعَدة للفتن‪ ،‬ماذا قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؟‬
‫‪ ‬مالزمة أهل ُ‬

‫يعش منكم بعدي فسيرى اختال ًفا ً‬


‫كثيرا))؛ ماذا نصنع إذا وقع االختالف؟‬ ‫قال‪ (( :‬فإنَّه من ْ‬

‫تمسكوا بها‪ ،‬و َع ُّضوا عليها بالنواجذ ))‪.‬‬


‫المهديين‪ّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين‬
‫(( فعليكم ُ‬

‫أيضا‪ :‬أن تَحذر البدع وأهلها‪ ،‬فتكون بعيدًا عنهم‪ ،‬ففي ذلك السالمة من الفتن‪ ،‬ولذلك ماذا قال‬
‫‪ ‬ومنها ً‬

‫النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف الحديث الذي ذكرناه قبل قليل؟‬

‫ٍ‬
‫بدعة ضاللة ))‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫محدثة بدعة‪ ،‬وكل‬ ‫قال‪ (( :‬وإياكم ومحدثات األمور‪ ،‬فإ َّن كل‬

‫فإذا ظهرت فتنة من جماعة‪ ،‬من فئة‪ ،‬من شخص‪ ،‬كيف أتباعد عن الفتنة؟‬

‫أسوي بين أهل السنة وصاحب الفتنة‪ ،‬أبدً ا! بل ألزم أهل السنة وأعرف لصاحب الفتنة فتنته‪،‬‬
‫السنَّة‪ ،‬ال ِّ‬
‫أن ألزم أهل ُّ‬
‫فأتبا َعد عنه‪ ،‬وأتباعَد عن كالمه‪ ،‬وأتبا َعد عن نصرته‪.‬‬

‫أيضا‪ :‬أن نَلزم جماعة المسلمين وإمامهم‪ ،‬كما سيأيت ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬ونع ِّلق عليه‪.‬‬
‫‪ ‬منها ً‬

‫‪ ‬وقبل هذا ومعه‪ :‬االستعاذة باهلل من الفتن‪ ،‬وسؤال اهلل أن يس ِّلمك من الفتن‪.‬‬

‫تشرف لها‪ :‬أي َتط َّلع لها و َتصدَّ ى لها‪.‬‬


‫تشرف لها ))؛ َّ‬
‫وقوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :-‬من ّ‬
‫ف منها على الهالك‪ ،‬وهو مِن اإلشراف‪ ،‬بمعنى‪:‬‬ ‫قوله ‪-‬صلى اله عليه وسلم‪(( :-‬تستشرفه)) أي‪ُ :‬تهلِكه‪ ،‬بأ ْن ُي ِ‬
‫شر َ‬

‫شرف المريض على الموت‪ ،‬أي‪ :‬كان قريبًا من الموت‪ .‬أو المعنى‪ :‬أنَّها ُتهلِكه ً‬
‫فعال‪،‬‬ ‫ال ُق ْرب من الهالك‪ ،‬يقال‪َ :‬أ َ‬
‫فإنَّها مهلِكة‪.‬‬

‫ِ‬
‫ويستشرف لها‪:‬‬ ‫إذن‪-:‬يا إخوة‪-‬؛ َمن يتط َّلع إلى الفتن ‪-‬ليس َمن يخوض يف الفتن‪َ -‬من يتط َّلع إلى الفتن‬

‫‪ -‬يكون عُرض ًة ألن يكون قريبا من الهالك‪ ،‬ومن اقرتب من الشيء أوشك أن يقع فيه‪.‬‬

‫فعال‪ ،‬أل َّن الغالب أ َّن َمن اقرتب من الفتنة َّ‬


‫غرته فوقع فيها‪.‬‬ ‫‪ -‬أو يكو ُن عُرضة للهالك ً‬

‫عاصما وموض ًعا يلتجئ إليه‪.‬‬


‫ً‬ ‫وقوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :-‬من وجد منها ملجأً ))؛ أي‪:‬‬

‫‪33‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫(( فل َي ُع ْذ به )) أي فليعتصم به وليعتزل فيه‪.‬‬

‫ُّ‬
‫والحث على اجتناهبا والبعدُ عنها‪.‬‬ ‫اإلخوة‪:‬التحذير من الفتنة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ويف هذا الحديث أيها‬

‫الصالَةِ َصالَ ٌة َم ْن َفا َتتْ ُه َفكَأَن ََّما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫الر ْح َم ِن يف َحديث َأبِي ُه َر ْي َر َة ‪َ -‬رض َي ُ‬
‫اهلل َعنْ ُه‪« :-‬م َن َّ‬
‫ِ‬
‫[قال‪ :‬زاد َأبُو بَ ْكرِ بْ ُن َعبْد َّ‬
‫ُوتِ َر َأ ْه َل ُه َو َمالَ ُه»]‪.‬‬

‫الصالَةِ َصالَ ٌة َم ْن َفا َتتْ ُه َفكَأَن ََّما ُوتِ َر‬ ‫ِ‬ ‫اهلل أكرب!أي‪ :‬أ َّن أبا بكر ‪-‬يعني اب َن عبد الرحمن َ‬
‫شيخ الزُّ هري‪ -‬زاد(( م َن َّ‬

‫َأ ْه َل ُه َو َمالَ ُه))‪.‬‬

‫مرس ًال مِن كالمه‪.‬‬


‫حتمل أن يكون أبو بكر زاد هذا َ‬
‫‪ُ -‬ي َ‬

‫‪ -‬و ُيحتمل أن يكون زاده باإلسناد المذكور فيكون مرفو ًعا‪.‬‬

‫قال العلماء‪ :‬المراد هبذه الصالة‪ :‬صالة العصر‪ ،‬فصالة العصر َمن فاتته يف وقتها فكأنما َف َقدَ أهله وماله‪.‬‬

‫سمعت رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يقول‪ (( :‬هي صالة‬
‫ُ‬ ‫وقد جاء عن ابن عمر ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ -‬قال‪:‬‬

‫العصر))‪.‬‬

‫وقد ثبت يف الصحيحين أ َّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪ (( :‬من فاتته صالة العصر فكأنما ُوتِ َر أهله وماله))‪.‬‬

‫قال ابن عبد الرب‪" :‬وقد ذهب قوم من أهل العلم إلى أ َّن حديث نوفل أعم وأولى بصحيح المعنى من حديث ابن‬

‫عمر‪ ،‬وقالوا فيه‪َ :‬ق ْوله‪ (( :‬من فاتته الصالة))‪ ،‬يريد كل صالة"‪ .‬من فاتته الصالة ‪-‬كل صالة ‪ -‬عن وقتها فكأنما‬

‫فقد أهله وماله‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬وتخصيص ابن عمر لصالة العصر هو من باب إجابة السؤال‪ ،‬ألنه ُسئل عن صالة العصر‪ ،‬ولو ُسئل عن‬

‫غيرها ألجاب بمثل جوابه‪.‬‬

‫أيضا أ َّن لصالة العصر ّ‬


‫خاصية يف هذا؛ لثبوت هذا يف الصحيحين‪.‬‬ ‫وهذا قول قوي لبعض أهل العلم‪ ،‬لكن ال َيمنع ً‬

‫‪34‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫تعظيم لعمل الصالة يف وقتها‪ ،‬وهي خير أعمالنا‪ ،‬كما قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫ٌ‬ ‫ويف هذا الحديث ‪-‬يا إخوة‪-‬؛‬

‫أحب إلى‬ ‫وسلم‪ (( :-‬اعلموا أ َّن خير أعمالكم الصالة))‪ ،‬وقد ُسئل النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عن ِّ‬
‫أي األعمال ُّ‬

‫ور ِو َي‪ (( :‬الصالة يف َّأول وقتها ))‪.‬‬


‫اهلل؟ قال‪ (( :‬الصالة يف وقتها)) ُ‬

‫ويف هذا الحديث ‪-‬أيها اإلخوة‪-‬؛ تحقير الدنيا‪ ،‬فالدنيا حقيرة ال تساوي عند اهلل جناح بعوضة‪ ،‬وأ َّن القليل من‬

‫خير من الدنيا‪.‬‬
‫عمل الخير ٌ‬

‫أال َترون يا إخوة أ َّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬جعل َف َ‬
‫وت صالة العصر عن وقتها كفقد األهل والمال؟!وما‬

‫الدنيا إال أهل ومال؟! فهذا يف فوت صالة‪ ،‬فقليل الخير خير من الدنيا وما فيها‪ ،‬فاإلنسان ينبغي عليه أن َيقدُ ر الدنيا‬

‫قدرها وأن َيعرف للخير فضله‪ ،‬فإذا تعارضت الدنيا والخير؛ قدَّ م الخير‪.‬‬

‫ولذلك نحن نقول إلخواننا الذين يقولون‪ :‬نحن يف أوروبا أو يف غير أوروبا يقتضي منا العمل أال نصلي الصالة يف‬

‫وقتها فيُط َلب منا أال نصلي حتى يخرج وقت الصالة‪ ،‬نقول‪َ :‬من فاتته الصالة حتى خرج وقتها فكأنما َف َقدَ أهله‬

‫وماله‪ ،‬فكيف ُتقدِّ م العمل على هذا األمر؟! إذا كان العمل يقتضي منك أن ترتك الصالة عن وقتها من غير مصلحة‬

‫ظاهرة؛ فإنك ترتك العمل‪.‬‬


‫ٍ‬
‫قلت‪" :‬من غير مصلحة ظاهرة"؛ أل َّن المصلحة قد تقتضي تأخير الصالة عن وقتها إلى وقت أختها التي ُت َ‬
‫جمع‬ ‫ُ‬

‫طويال حتى يخرج وقت الصالة‬


‫ً‬ ‫مثال وستُجري عملية وهذه العملية تقتضي منك وقتًا‬
‫كنت طبي ًبا ً‬
‫معها‪ ،‬كما لو ً‬

‫األولى‪ ،‬فهنا َتجمع؛ ألنَّها مصلحة ظاهرة‪ ،‬وأل َّن هذا األمر ليس ً‬
‫دائما‪.‬‬
‫أ َّما أن ُت ِ‬
‫خرج الصالة عن وقتها من أجل العمل! فاحذر من هذا؛ فإ َّن العمل القليل من الخير ٌ‬
‫خير لك من هذه‬

‫الدنيا‪.‬‬

‫فالشاهد ‪-‬أيها اإلخوة‪-‬؛ أنه ينبغي على المسلم أن يحرص على الخير وأن يجتنب الشر‪.‬‬

‫ان فِ َيها‬ ‫ُون فِتْنَةٌ؛ النَّائِ ُم فِ َيها خَ ْي ٌر ِم َن الْ َي ْقظَ ِ‬


‫ان‪َ ،‬والْ َي ْقظَ ُ‬ ‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم‪َ « :‬تك ُ‬
‫[ َع ْن َأبِي ُه َر ْي َر َة َق َال‪َ :‬ق َال النَّبِ ُّي َص َّلى ُ‬
‫اعي‪َ ،‬ف َم ْن َو َجدَ َم ْل َجأً َأ ْو َم َعا ًذا َف ْل َي ْست َِع ْذ»‪.‬‬
‫خَ ير ِمن الْ َقائِمِ‪ ،‬والْ َقائِم فِ َيها خَ ير ِمن الس ِ‬
‫ْ ٌ َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌْ َ‬

‫‪35‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫خ ُّي إِلَى ُم ْس ِل ِم ْب ِن َأبِي َبك َْر َة َو ُه َو فِي َأ ْر ِض ِه َفدَ خَ ْلنَا َع َل ْي ِه‪،‬‬


‫ت َأنَا و َفر َقدٌ السب ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫الش َّحا ُم َق َال‪ :‬ا ْنطَ َل ْق ُ‬ ‫[ َع ْن ُعثْ َم ُ‬
‫ان َّ‬
‫ول اهللِ‬ ‫ث فِي الْ ِفت َِن َح ِديثًا‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬س ِم ْع ُ‬
‫ت َأ َبا َبك َْر َة ُي َحدِّ ُ‬
‫ث َق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬ ‫َف ُق ْلنَا‪َ :‬ه ْل َس ِم ْع َ‬
‫ت َأ َب َ‬
‫اك ُي َحدِّ ُ‬

‫اشي فِ َيها‬
‫اشي فِ َيها‪ ،‬والْم ِ‬
‫َ َ‬
‫اعدُ فِ َيها خَ ير ِمن الْم ِ‬
‫ٌْ َ َ‬
‫ُون فِتْنَ ٌة الْ َق ِ‬
‫ُون فِت ٌَن؛ َأالَ ُث َّم َتك ُ‬
‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم‪« :‬إِن ََّها َستَك ُ‬
‫َص َّلى ُ‬
‫َان لَ ُه إِبِ ٌل َف ْليَ ْل َح ْق بِإِبِ ِل ِه‪َ ،‬و َم ْن كَان ْ‬
‫َت لَ ُه َغن ٌَم َف ْليَ ْل َح ْق‬ ‫ت ‪َ -‬أ ْو َو َق َع ْ‬
‫ت‪َ -‬ف َم ْن ك َ‬ ‫خَ ير ِمن الس ِ‬
‫اعي إِلَيْ َها‪َ ،‬أالَ َفإِ َذا َن َزلَ ْ‬ ‫ْ ٌ َ َّ‬

‫ول اهللِ! َأ َر َأ ْي َ‬
‫ت َم ْن لَ ْم َيك ُْن لَ ُه إِبِ ٌل َوالَ‬ ‫َت لَ ُه َأ ْر ٌض َف ْل َي ْل َح ْق بِأَ ْر ِض ِه»‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َق َال َر ُج ٌل‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫بِ َغن َِم ِه‪َ ،‬و َم ْن كَان ْ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫استَطَ َ‬
‫اع الن ََّجا َء‪ ،‬ال َّل ُه َّم َه ْل َب َّل ْغ ُ‬
‫ت‪،‬‬ ‫«ي ْعمدُ إِلَى َس ْيفه َف َيدُ ُّق َع َلى َحدِّ ه بِ َح َجرٍ‪ُ ،‬ث َّم لْ َين ُْج إِ ِن ْ‬ ‫َغن ٌَم َوالَ َأ ْر ٌض‪َ ،‬ق َال‪َ :‬‬
‫ت َحتَّى ُينْطَ َل َق بِي إِلَى‬ ‫ت إِ ْن ُأ ْكرِ ْه ُ‬‫ول اهللِ! َأ َر َأ ْي َ‬ ‫ْت»‪َ .‬ق َال َف َق َال َر ُج ٌل‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ْت‪ ،‬ال َّل ُه َّم َه ْل بَ َّلغ ُ‬
‫ال َّل ُه َّم َه ْل بَ َّلغ ُ‬

‫«يبُو ُء بِإِ ْث ِم ِه َوإِ ْث ِم َ‬


‫ك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الص َّفيْ ِن َأ ْو إِ ْحدَ ى الْ ِفئَتَيْ ِن‪َ ،‬ف َض َربَنِي َر ُج ٌل بِ َسيْ ِف ِه َأ ْو َي ِ‬
‫جي ُء َس ْه ٌم َفيَ ْقتُ ُلني‪َ ،‬ق َال‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫َأ َحد َّ‬

‫َّار» ]‪.‬‬ ‫ُون ِم ْن َأ ْص َح ِ‬


‫اب الن ِ‬ ‫َو َيك ُ‬

‫نعم‪ ،‬هذا الحديث فيه ما تقدَّ م وزيادة‪.‬‬

‫ستوجد‪ ،‬وتقع‪ ،‬وتحدث‪.‬‬


‫َ‬ ‫قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬إنَّها ستكون)) أي‪:‬‬

‫ان‪َ ،‬والْ َي ْقظَا ُن فِ َيها خَ ْي ٌر ِم َن الْ َقائِمِ‪َ ،‬والْ َقائِ ُم فِ َيها خَ ْي ٌر ِم َن‬
‫وقوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬النَّائِ ُم فِ َيها خَ ْي ٌر ِم َن الْ َي ْقظَ ِ‬

‫الس ِ‬
‫اعي ))‪ ،‬تقدَّ م معنا ‪-‬أيها األخوة‪ -‬أ َّن يف هذا بيان أحوال الناس يف الفتن‪ ،‬فالناس يف الفتن‪ :‬إ َّما نائم‪ ،‬وإ َّما‬ ‫َّ‬
‫مستبصر وواقع‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مضطجع يقظان‪ ،‬وإ َّما قاعد‪ ،‬وإ َّما قائم‪ ،‬وإ َّما ماشي‪ ،‬وإ َّما ساعي‪ ،‬وبينهما‬

‫▪ أ َّما النَّائم‪ :‬فهو الذي ال يقع منه شيء يف الفتنة؛ بل هو بعيد عنها‪ ،‬ليس له فيها شيء‪ ،‬بعيد عن‬

‫الفتنة‪ ،‬كالنَّائم ال يدري ما حوله‪.‬‬


‫ٍ‬
‫راض هبا‪ ،‬قال بعض أهل العلم هذا هو النائم‪.‬‬ ‫بعض أهل العلم‪ :‬إنَّه ال يقع منه شيء يف الفتنة لكنَّه‬
‫وقال ُ‬

‫ومن أهل العلم من يقول‪ :‬النائم هو الذي ال يدري عن الفتنة شيئًا‪ ،‬فهو كالنائم ال يدري بما حوله‪.‬‬

‫▪ وأ َّماالمضطجع‪ :‬فهو العارف بالفتنة المنصت لها‪ ،‬لكنَّه ال َينظر إليها‪ ،‬مضطجع َيسمع و َيعرف‬
‫ِ‬
‫مضطجع يقظان‪.‬‬ ‫الفتنة لكنَّه ال َينظر إليها‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫تغره‪.‬‬
‫▪ وأ َّماالقاعد‪ :‬فهو العارف بالفتنة الناظر إليها يف حال الجلوس‪ ،‬فهو يرى منها أشياء قد ُّ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬إ َّن القاعد هو الثابت يف مكانه إذا نزلت الفتنة‪.‬‬

‫تغره‬
‫▪ والقائم‪ :‬هو العارف بالفتنة الناظر إليها من حال القيام؛ فهو يرى ما ال يراه القاعد فقد ُّ‬
‫الفتنة‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إ َّنالقائم‪ :‬هو الذي يكون يف قلبه باعث على الفتنة؛ لكنه يرت َّدد يف إثارة الفتنة‪ ،‬يف قلبه يوجد ما َيبعثه على‬

‫الفتنة‪ ،‬لكنه يرتدد عن الفعل‪ ،‬فهو قائم‪.‬‬

‫▪ والماشي‪ :‬هو العارف بالفتنة الذاهب إليها من غير إسراع؛ كأنَّه يرت َّدد‪ ،‬يعني هو عارف‪ ،‬يعرف‬

‫يتحرك إلى الفتنة؛ لكنه ال َيتحرك ُمسرعًا‪.‬‬


‫الفتنة‪ ،‬يف قلبه باعث‪َّ ،‬‬
‫وقيل يف الماشي ‪-‬كما قدّ منا باألمس‪ :-‬هو الذي يسير يف الفتنة ألسباب أخرى غير الفتنة؛ كتجارة أو نحوها‪ ،‬أو‬

‫الملك‪ ،‬أو يريد الكرسي‪ ،‬أو يريد منصبًا‪ ،‬فهو يسير يف الفتنة‪ ،‬ليس من أهل الفتنة لكنَّه يريد سببا آخر؛ وهذا‬
‫يريد ُ‬
‫عرض نفسه للوقوع يف الفتنة‪.‬‬
‫ُي ِّ‬

‫▪ والساعي‪ :‬هو العارف بالفتنة المتح ِّرك إليها سري ًعا‪ ،‬يسعى إليها‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬

‫مستبصر وواقع‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وأ َّما ما بينهما‪:‬‬

‫▪ أ َّماالواقع‪ :‬فهو أسوأ الناس يف الفتنة وهو الذي يخوض فيها ويقع فيها وتصيبه بما فيها‪.‬‬

‫السنَّة‬ ‫ِ‬
‫السنَّة عند وقوع الفتنة‪ ،‬وهذا أعلى الناس منزلة‪ ،‬يعرف ُّ‬
‫المستبصر‪ :‬فهو الذي َيعلم ُّ‬
‫▪ وأ َّما ُ‬
‫ِ‬
‫المستبصر‪ ،‬وهو أعلى الناس عند وقوع الفتنة‪.‬‬ ‫السنَّة‪ ،‬وهذا هو‬
‫عند وقوع الفتنة؛ ف َيلزَ م ُّ‬

‫هذا هو الذي ُّ‬


‫يدل عليه ما جاء يف الحديث‪.‬‬

‫َت لَ ُه إِبِ ٌل )) المقصود‪ :‬من كانت له إبل يف الرب َّية‪ ،‬أل َّن الغالب أ َّن‬
‫قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :-‬ف َم ْن كَان ْ‬

‫اإلبل ال تكون يف المدن وإنما تكون يف الربية؛ فيلحق هبا ل َيعتزل‪ ،‬يعني أنه َيذهب إلى الربية‪.‬‬

‫أرض )) أي‪ِ :‬عقار ومزرعة بعيدة عن المدينة‪ ،‬بعيدة يف ناحية‪.‬‬


‫(( ومن كانت له ٌ‬

‫‪37‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫«فليلحق بها» أي‪ :‬فليعتزل هبا عن الفتنة‪.‬‬

‫والمقصود ‪-‬يا إخوة‪-‬؛ أن َيشتغل اإلنسان بخُ َو ْي َصة نفسه من ماله وأهله‪.‬‬

‫فمن لم يكن له شيء من ذلك؟ فماذا يفعل؟ يعني‪َ :‬من لم تكن له‬
‫مفس ًرا‪ :‬أنه أبو بكرة‪َ :-‬‬
‫قال رجل ‪-‬وجاء يف رواية َّ‬
‫فيدق على حدِّ ه بحجرٍ ))‬ ‫عمد على ِ‬
‫سيفه َّ‬ ‫إبل وال أرض وال غنم ماذا يفعل؟ فقال ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬فلي ِ‬
‫َ‬
‫جانب حا ٌّد يقع به القتل‪ ،‬فماذا يصنع من اضطر للبقاء يف المدينة‬
‫ٌ‬ ‫أي فليضرب بجانب سيفه على حجر‪ ،‬للسيف‬

‫والفتنة فيها فليس عنده شيء يذهب إليه؟ قال‪ :‬يقصد إلى سيفه ُّ‬
‫فيدق حدَّ ه بحجر‪.‬‬

‫سبيال ليكون من أهلها‪.‬‬


‫وتزخرفت ال يجد ً‬
‫ْ‬ ‫قال العلماء‪ :‬المقصود أن يفعل هذا حقيقةً؛ حتى إذا جاءت الفتنة‬
‫وهذا يدل على أ َّن المقصود بالفتنة هنا ‪-‬يا إخوة‪ِ :-‬‬
‫القتال‪ ،‬نقول‪ :‬يدل على الفتنة العظيمة التي ذكرها النبي ‪-‬صلى‬

‫اهلل عليه وسلم‪ :-‬القتال؛ ألنه َط َل َ‬


‫ب منه أن َّ‬
‫يدق سيفه بحجر حتى ال يخوض يف الفتنة‪.‬‬

‫وقال بعض العلماء‪ :‬معناه‪ :‬أن يعتزل الفتنة‪ ،‬وليس المعنى أن يكسر حدَّ السيف‪.‬‬

‫ُّ‬
‫يحث على البُعد عن‬ ‫ارع من الحث على المبالغة يف البُعد عن الفتنة‪َّ ،‬‬
‫فالشارع‬ ‫األول أظهر؛ لِما ُع ِهدَ عن َّ‬
‫الش ِ‬ ‫لك َّن َّ‬

‫أسباب الفتنة‪.‬‬

‫نج إن استطاع النجاء))؛ النجاء‪ :‬أي اإلسراع‪ ،‬يعني‪ :‬ثم ل ُي ِ‬


‫سرع إن‬ ‫ِ‬
‫قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬ثم ل َي ُ‬

‫استطاع اإلسراع‪.‬‬

‫وقيل إ َّنالنجاء‪ :‬هو الخالص‪ ،‬يعني إن استطاع الخالص من الفتنة ل َي ْ‬


‫خرج من الفتنة‪.‬‬

‫أرأيت إن ُأكرِ ُ‬
‫هت حتى ُينطَ َلق بي إلى أحد الص َّفين أو إلى إحدى الفئتين؟))‬ ‫َ‬ ‫فقوله‪ (( :‬قال رجل‪ :‬يا رسول اهلل!‬

‫كر ًها إلى أحد الص َّفين أو إلى‬ ‫ِ‬ ‫بقيت ف ُأ ِ‬


‫هت على الفتنة ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬فان ُطلق بي ُم َ‬
‫كر ُ‬ ‫أرأيت إن ُ‬
‫َ‬ ‫يعني‪ :‬يا رسول اهلل‬

‫سهم‬
‫كسرت سيفي ((فضربني رجل بسيفه أو يجيء ٌ‬
‫ُ‬ ‫إحدى الفئتَين؟! قال‪(( :‬فضربني رجل بسيفه)) ألنني أنا قد‬

‫فيقتلني؟)) قال‪ (( :‬يبوء بإثمه وإثمك‪ ،‬ويكون من أصحاب النار ))‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫معنى‪ (( :‬يبوء بإثمه وإثمك )) ؛ قال بعض أهل العلم معناه‪ :‬أي أنه يرجع بإثمه وإثمك‪ ،‬يرجع بإثمه يف الفتنة‬

‫وإثمك يف الفتنة‪.‬‬

‫المكره ال إثم‬
‫َ‬ ‫لك َّن األقرب ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أ َّن المعنى‪ :‬أنه يبوء ويرجع بإثمه يف الفتنة وبإثمك ألنه تسبب يف قتلك‪.‬‬

‫عليه‪ ،‬فهو يرجع بإثمه يعني بإثم قتله؛ ألنه تسبب يف قتله‪.‬‬

‫(( ويكون من أصحاب النار )) أي‪ :‬يكون مستح ًقا لها‪ ،‬فهذا من نصوص الوعيد‪.‬‬

‫المكره ال إثم عليه‪-‬؛ لكن ال ُيباح له القتال‪.‬‬


‫َ‬ ‫المكره ‪-‬‬
‫َ‬ ‫قال العلماء‪ :‬تدل هذه الجملة على رفع اإلثم عن‬

‫الصف ال إثم عليه؛ لكن ال يجوز له أن يقاتِل‪ ،‬بل الواجب عليه أن يبقى بال قِتال؛‬ ‫فمن ُأ ِ‬
‫كره على الفتنة ودخل مع َّ‬ ‫َ‬
‫ولو ُقتِل‪ .‬هذا معنى الحديث‪ ،‬وهو الذي َف ِهمه أبو بكرة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،-‬ويشهد له‪ :‬أ َّن العلماء م ِ‬
‫جمعون على‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫أ َّن َمن ُأ ِ‬
‫كره بالقتل على القتل‪ :‬ال يجوز له القتل‪.‬‬

‫ٍ‬
‫مسلم فوضع السالح على رأسه وقال‪ :‬إ َّما أن تقتل محمدً ا من الناس أو أقتلك‬ ‫لو أ َّن ً‬
‫ظالما ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬جاء إلى‬

‫كرهه‪ ،‬يعني حتى لو عَلِ َم ِعلم اليقين أ ّن من‬


‫محمدًا؛ وإن قتله َمن َأ َ‬
‫اآلن؟ أجمع العلماء على أنه ال يجوز له أن يقتل ّ‬
‫محمدً ا سيقتُله؛ ال يجوز له أن َيقتل محمدً ا‪ ،‬فال ُيحيي اإلنسا ُن نفسه بقتل مسلم‪ ،‬وهذا محل‬
‫َ‬ ‫َأكرهه إن لم يقتل‬

‫إجما ٍع من أهل العلم‪.‬‬

‫المكره يف القتال يف الفتنة بكسر سيفه وليس له أن يقاتل وإن ُقتل‪.‬‬


‫َ‬ ‫وقد أمر النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬

‫الحكم ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬يف هذا األمر‪.‬‬


‫النهي عن القتال يف قتال الفتنة‪ ،‬وسنذكر ُ‬
‫ُ‬ ‫ففي هذا الحديث‪:‬‬

‫المكره أن يفسد سالحه وأن يصرب حتى ُيقتَل‬


‫َ‬ ‫المكره إذا ُقتل يكون اإلثم على القاتل‪ ،‬وعلى‬
‫َ‬ ‫وبَيَّن الحديث‪ :‬أ َّن‬

‫مظلو ًما‪.‬‬

‫بمن ُأكرِ َه على قتال المسلمين؟! َ‬


‫كمن‬ ‫قال شيخ اإلسالم ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬هذا فيمن ُأكرِ َه يف قتال الفتنة‪ ،‬فكيف َ‬
‫مسلما على أن يقاتِل معهم‪ ،‬هذا ليس قتال فتنة‪ ،‬هذا قتال للمسلمين‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫أكرهه الخوارج"‪ ،‬لو أ َّن الخوارج أكرهوا‬

‫شك أنه ال يجوز له أن يقاتِل؛ وإن قتلوه‪ ،‬بل الواجب عليه أن يصرب كما ذكره شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‬

‫عز وجل‪.-‬‬

‫‪39‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫وقد اختلف العلماء يف قتال الفتنة؛ هل يقاتِل فيه المسلم أو ال يقاتل؟‬

‫‪ : -‬فقالت طائفة من العلماء‪ :‬ال ُيقا َتل يف فتن المسلمين‪ ،‬وإن دخلوا على المسلم بيتَه‪ ،‬فإنه ال يقاتِل بل يصرب وإن‬

‫قتلوه‪ .‬وعلى هذا بعض الصحابة ‪-‬رضوان اهلل عليهم‪ -‬وهو مذهب أبي بكرة؛ ف ِهمه من هذا الحديث الذي معنا‪.‬‬

‫‪ -‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬ال ُيقاتَل يف قتال فتن المسلمين‪ ،‬لكن إن اعتزل المسلم فدخل عليه أهل الفتنة بيته‬

‫فإنه يقاتلهم؛ ألنه ها هنا ليس من باب القتال يف الفتنة وإنما من باب دفع الصائل‪ .‬ودفع الصائل مشروع‬

‫ولو بقتل من يصول على اإلنسان؛ وهذا مذهب ابن عمر وعمران بن الحصين‪ ،‬رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫‪ . -‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬يجب نصر الم ِ‬
‫ح ّق يف قتال الفتنة؛ فيقاتل المسلم مع من ظهر له أنَّالحق معه‪.‬‬ ‫ُ‬

‫وذهب المح ِّققون من أهل الحديث إلى أ َّن القتال بين المسلمين نوعان‪:‬‬

‫‪ ‬قتــــال فتنــــــة‪.‬‬

‫‪ ‬وقتال للخارجين عن األحكام الشرعية‪.‬‬

‫▪ أ َّما قتال الفتنة‪ :‬فيجب اعتزاله‪ .‬ما هو قتال الفتنة؟ قتال الفتنة‪ :‬أن تقتتل طائفتان من المسلمين‬

‫ٍّ‬
‫لكل منهما تأويل له وجه‪ .‬كما وقع يف موقعة الجمل وموقعة ص ِّفين‪- ،‬وإن كتب اهلل لنا ً‬
‫عمرا‬

‫ُعرج عليها إن شاء اهلل عز وجل‪ ،‬فقتال الفتنة يجب اعتزاله‪.‬‬


‫سن ِّ‬
‫ٌ‬
‫تأويل‬ ‫▪ والنوع الثاين‪ :‬قتال الخارجين عن أحكام الشرع‪ ،‬وضابطه‪ :‬أن ال يكون إلحدى الفئتَين‬

‫معتَربٌ شرعًا‪ ،‬كقتال الخوارج للمسلمين وإمامهم‪ ،‬وهذا ال يجوز اعتزاله‪.‬‬

‫انتبهوا‪:‬‬

‫❖ قتال الفتنة‪:‬يجب اعتزاله‪.‬‬

‫❖ قتال الخارجين‪ :‬ال يجوز اعتزاله إن ن ُِد َب إليه المسلم‪ ،‬فإذا دعا ولي األمر إلى قتال الخوارج المارقِين‬

‫الذين فيهم صفات الخوارج فإنَّه ال يجوز ألحد أن َيعتزل ويقول هذا قتال فتنة‪ ،‬بل َيتع َّين عليه أن يقاتل مع‬

‫إمام المسلمين‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫و َمن ُقتل يف مثل هذا القتال ممن قاتل مع الطائفة التي معها الحق مع إمام المسلمين فهو شهيد معركة‪.‬‬
‫ولذلك؛ الجنود من المسلمين الذين ُيقتَلون يف قتال الخوارج يف كل زمان هم من شهداء المعارك‪ .‬ال ِ‬
‫نجزم ألحد‬

‫شرعي ُقتلوا‪.‬‬ ‫بالشهادة لكن نقول‪ :‬حالهم أهنم من شهداء المعارك‪ ،‬ألنَّهم يف ٍ‬
‫قتال‬
‫ٍّ‬

‫خلت المدينة مِن فقه األثر‪،‬‬


‫ِ‬ ‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬أهل المدينة" وأهل المدينة أهل أثر‪ ،‬ما‬

‫من زمن الصحابة إلى يومنا هذا بحمد اهلل‪ ،‬أهل حديث‪ ،‬أهل سنَّة‪ ،‬نسأل اهلل أن يجعلنا من أهل الحديث وأهل‬

‫السنة‪ ،‬يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬أهل المدينة َيرون قتال من خرج عن الشريعة؛ كالحرورية‬

‫ويفرقون بين هذا وبين القتال يف الفتنة‪ ،‬وهو مذهب فقهاء الحديث‪ ،‬وهذا هو الموافق‬
‫وغيرهم ‪-‬أي الخوارج‪ِّ -‬‬
‫وسنَّة الخلفاء الراشدين"‪.‬‬
‫لسنَّة رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ُ -‬‬
‫ُ‬

‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬أهل المدينة َيرون قتال من خرج عن الشريعة؛ كالحرورية‬

‫لسنَّة رسول اهلل ‪-‬‬


‫وغيرهمويفرقون بين هذا وبين القتال يف الفتنة‪ ،‬وهو مذهب فقهاء الحديث‪ ،‬وهذا هو الموافق ُ‬
‫ِّ‬
‫وسنَّة الخلفاء الراشدين"‪ ...‬إلى قوله ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬عن الخوارج‪" :‬وقد ثبت اتِّفاق الصحابة‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ُ -‬‬
‫على قتالهم‪ ،‬وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬وذكر فيهم سنَّة رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه‬

‫المتضمنَة لقتالهم‪ ،‬و َفرِ َح بقتلهم"‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫وسلم‪-‬‬

‫انظروا لحال علي بن أبي طالب ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬يف قتال الخوارج‪:‬‬

‫• قاتلهم‪.‬‬

‫• وذكر يف قتالهم ُسنَّة‪.‬‬

‫• و َفرِ َح بقتلهم‪.‬‬

‫شكرا لقتلهم‪.‬‬
‫وس َجدَ هلل ً‬
‫• َ‬

‫فرح بذلك؛ بل ظهر عليه التأ ُّلم ولم‬


‫قال‪" :‬بخالف ما جرى يوم الجمل وص ِّفين؛ فإ َّن عليًّا ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬لم َي َ‬
‫مرقوا وخالفوا‬
‫يذكر يف ذلك ُسنَّة وإنما ذكر أنه قاتل باجتهاده"‪ ،‬فانظروا كيف! فرق بين قتال الخوارج الذين َ‬
‫األحكام َّ‬
‫الشرعية فاستحقوا القتال‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫علي ‪-‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪ -‬قاتلهم‪ ،‬وذكر أ َّن قتالهم ُسنَّة‪ ،‬وفرح بقتلهم؛ بل سجد هلل ً‬
‫شكرا‪ ،‬أما يف قتال الفتنة‬

‫فرح؛ بل َح ِزن‪ ،‬ولم َيذكر ُسنَّة؛ بل ذكر اجتها ًدا‪.‬‬


‫فإنه ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬لم َي َ‬

‫السنَّة يف قتال المارقين من الشريعة‪ ،‬وترك القتال يف الفتنة‪ ،‬وعلى ذلك أئمة‬
‫قال شيخ اإلسالم‪" :‬فأهل المدينة ا َّتبعوا ُّ‬
‫سوى بين قتال هؤالء وهؤالء"‪.‬‬
‫أهل الحديث بخالف َمن ّ‬

‫وقِس على هذا سائر الفتن‪ ،‬سواء فيما يتع َّلق بفتن األشخاص أو فتن األقوال‪ ،‬فإنَّه يفرق يف األمور‪ ،‬وهبذا ي ِ‬
‫ستبصر‬ ‫َ‬ ‫ُ َّ‬
‫طالب العلم‪.‬‬

‫قال العلماء‪ :‬يف الحديث‪ :‬التحذير من الفتن وبيان كثرتها وأ َّن من اقترب منها اكتوى بنارها‪ ،‬ولو ظ َّن أنَّه َي ْس َلم‬

‫عظيم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫منها‪ ،‬لو ظ َّن أ َّن عنده ما َي ْس َلم به‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫شر الفتنة‬

‫‪‬‬

‫‪42‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الخامس‬
‫باب إذاتواجه املسلمان بسيفيهما‬

‫‪43‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫اج َه الْ ُم ْس ِل َم ِ‬
‫ان بِ َسيْ َفيْ ِه َما ]‬ ‫[باب‪ :‬إِ َذا ت ََو َ‬
‫ٌ‬

‫الر ُج َل‪َ ،‬ف َل ِق َينِي َأ ُبو َبك َْر َة ‪-‬رضي اهلل عنه‪َ ،-‬ف َق َال‪:‬‬
‫ت َو َأنَا ُأ ِريدُ َه َذا َّ‬
‫ع ِن األَحن ِ‬
‫َف ْب ِن َق ْي ٍ‬
‫س َق َال‪ :‬خَ َر ْج ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم ‪َ -‬ي ْعنِي َع ِل ًّيا ‪-‬رضي اهلل‬ ‫ِ ِ‬


‫ت‪ُ :‬أ ِريدُ ن َْص َر ا ْب ِن َع ِّم َر ُسول اهلل َص َّلى ُ‬
‫َأ ْي َن ُترِيدُ َيا َأ ْحنَفُ ؟ َق َال‪ُ :‬ق ْل ُ‬

‫اهلل َع َليْ ِه َو َس َّل ْم َي ُق ُ‬ ‫ت رس َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ول‪« :‬إِ َذا ت ََو َ‬
‫اج َه‬ ‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫عنه‪َ -‬ق َال‪َ :‬ف َق َال لي‪َ :‬يا َأ ْحنَفُ ؛ ْار ِج ْع َفإِنِّي َسم ْع ُ َ ُ‬
‫ول اهللِ! َه َذا الْ َقاتِ ُل َف َما َب ُال‬ ‫يل‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ت َأ ْو ِق َ‬ ‫ُول فِي الن ِ‬
‫َّار»‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف ُق ْل ُ‬ ‫ان بِ َس ْي َف ْي ِه َما؛ َفالْ َقاتِ ُل َوالْ َم ْقت ُ‬
‫الْ ُم ْس ِل َم ِ‬

‫احبِ ِه» ]‪.‬‬


‫ُول؟ َق َال‪« :‬إِ َّنه َقدْ َأراد َقت َْل ص ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫الْم ْقت ِ‬
‫َ‬

‫ٍ‬
‫واحد منهما بسيفه فالقاتل والمقتول يف النار‪ ،‬قال العلماء‪ :‬إذا لم يكن لهما‬ ‫إذا تقاتل المسلمان فضرب كل‬

‫ٌ‬
‫تأويل معتبَر‪ .‬أ ّما إذا كان لهما تأويل فال َيدخالن يف الوعيد‪.‬‬

‫ولهذا قال أهل السنّة قاطب ًة بال نزا ٍع بينهم‪ :‬إ ّن الدماء التي جرت بين الصحابة ‪-‬رضوان اهلل عليهم‪ -‬ال َتدخل يف‬

‫هذا الوعيد؛ بإجماع أهل السنّة‪.‬‬

‫ومذهب أهل السنة‪ :‬إحسان الظ ّن بالصحابة واعتقاد أنّهم عدول‪ ،‬وأنّهم ما قاتلوا لدنيا وال لشهوة‪ ،‬وإنما قاتلوا عن‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫تأويل؛ إذا اعتقد كل واحد من الطرفين أ ّن مخالفه با ٍغ يجب قتاله ليرجع‪ ،‬فهم ِّ‬
‫متأولون‪.‬‬
‫قال بعض أهل العلم‪ :‬بعضهم مصيب وبعضهم مخطئ‪ ،‬المصيب له أجران‪ ،‬والمخطئ له أجر؛ ألنّهم عن اجتهادٍ‬

‫قد اقتَتلوا‪.‬‬

‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬عن الصحابة‪" :‬نقول يف هؤالء ونحوهم فيما شجر بينهم‪ :‬إ ّما أن يكون‬

‫مغفورا‪ ،‬أو اجتها ًدا قد ع ُِف َي لصاحبه عن الخطأ؛ فلهذا من أصول أهل العلم‪:‬‬
‫ً‬ ‫مشكورا‪ ،‬أو ذنبًا‬
‫ً‬ ‫عمل أحدهم سعيًا‬

‫ٌ‬
‫عدول مرض ُّيون"‪ ،‬هذا منهج أهل‬ ‫أنّه ال ُيم َّكن أحدٌ من الكالم يف هؤالء بقدح؛ يف عدالتهم وديانتهم؛ بل ُيع َلم أنّهم‬

‫ٌ‬
‫عدول مرض ُّيون‪ ،‬رضي اهلل عنهم‬ ‫السنّة والجماعة‪ ،‬ال ُيقدَ ح فيهم‪ ،‬وال ُيم َّكن أحدٌ من أن يقدح فيهم‪ ،‬بل هم‬

‫وأرضاهم‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬أهل السنّة متّفقون على عدالة القوم" ‪-‬يعني على عدالة الصحابة‬

‫الذين تقا َتلوا يف الفتنة‪ -‬قال‪ " :‬ثم لهم يف التصويب والتخطئة مذاهب ‪-‬يعني ألهل السنة‪:-‬‬

‫علي فقط ‪-‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪.-‬‬ ‫ّ‬


‫▪ أحدها‪ :‬أن المصيب ّ‬
‫▪ والثاين‪ :‬الجميع مصيبون‪.‬‬

‫▪ والثالث‪ :‬المصيب واحدٌ ؛ ال بعينه‪- .‬واحد لكنّه غير معيَّن‪.-‬‬

‫عما َشجر بينهم مطل ًقا‪ ،‬مع العلم بأ ّن عليًّا وأصحابه هم‬
‫▪ والرابع ‪-‬وعليه َج ْم َه َرة أهل السنّة‪ :-‬اإلمساك ّ‬
‫أولى الطائفتَين بالحق" ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫هذا كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬رحمه اهلل‪.‬‬

‫قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬إ ّن القاتل والمقتول يف النّار )) ّ‬


‫فلما قيل للنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬هذا‬

‫القاتل‪ ،‬فما بال المقتول؟ قال‪ :‬إنّه أراد قتل صاحبه))‪ ،‬مِن هنا قال بعض أهل العلم‪ :‬إ ّن َمن نوى المعصية جاز ًما‬

‫آثما وإن لم يفعلها وال تكلم‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬أل ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬جعل القاتل والمقتول‬
‫بقلبه؛ يكون ً‬
‫ٍ‬
‫عذاب واحد‪.‬‬ ‫يف النار‪ ،‬يف‬

‫طيب؛ استشكل الصحابة‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل! هذا القاتل عرفنا ذنبه؛ يف النار‪ ،‬فما بال المقتول؟ قال‪ (( :‬إنّه أراد‬

‫قتل صاحبه))‪ ،‬إذن بماذا ع َّلل النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عذاب المقتول؟ ع َّلله باإلرادة‪ ،‬قالوا‪ّ :‬‬
‫فدل ذلك على‬

‫أ ّن من أراد المعصية إراد ًة جازمة ُيعا َقب عليها و َيأثم‪.‬‬

‫وعلما )) انتبهوا يا‬


‫ً‬ ‫و َيشهد لهذا قول النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬إنّما الدنيا ألربعة نفر‪ :‬عبدٌ رزقه اهلل ً‬
‫ماال‬

‫وعلما‪ ،‬فهو يتقي‬


‫ً‬ ‫إخوة‪ ،‬وأنتم لن َتخرجوا عن هؤالء األربعة؛ فانتبهوا! (( إنّما الدنيا ألربعة نفر‪ :‬عبدٌ رزقه اهلل ً‬
‫ماال‬

‫فيه ربه و َي ُ‬
‫صل فيه رحمه ويعلم هلل فيه ح ًّقا؛ فهذا بأفضل المنازل )) هذا األول‪ (( .‬وعبدٌ رزقه اهلل ً‬
‫علما ولم يرزقه‬

‫لعملت بعمل فالن؛ فهو بنيته؛ فأجرهما سواء )) هذا الثاين‪ ،‬لم يرزقه‬
‫ُ‬ ‫ماال؛ فهو صادق النية يقول‪ :‬لو أ ّن لي ً‬
‫ماال‬ ‫ً‬

‫لعملت بمثل عمله؛ فهو‬


‫ُ‬ ‫علما ناف ًعا فهو صادق النية محس ٌن بنيته؛ يقول‪ :‬لو أ ّن لي مثل مال فالن‬ ‫اهلل ً‬
‫ماال لكن رزقه ً‬

‫‪45‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫علما؛ فهو َيخبِط يف ماله بغير علم‪ ،‬وال يتقي فيه ربه وال‬ ‫بنيته‪ ،‬فأجرهما سواء‪ (( .‬وعبدٌ رزقه اهلل ً‬
‫ماال ولم يرزقه ً‬
‫علما؛ فهو‬ ‫َيصل فيه رحمه وال يعلم هلل فيه ح ًّقا؛ فهذا بأخبث المنازل )) هذا الثالث‪ (( .‬وعبدٌ لم يرزقه اهلل ً‬
‫ماال وال ً‬
‫لعملت فيه بعمل فالن؛ فهو بنيته‪ ،‬فوزرهما سواء )) رواه أحمد والرتمذي وصححه األلباين‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يقول‪ :‬لو أ ّن لي ً‬
‫ماال‬

‫علما؛ فهو يقول‪ :‬لو أ ّن‬ ‫والشاهد منه‪ :‬الرابع‪ ،‬إذن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال(( عبدٌ لم يرزقه اهلل ً‬
‫ماال وال ً‬
‫لعملت بعمل فالن )) فهذا َ‬
‫يؤاخذ بنيته؛ فوزرهما سواء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لي ً‬
‫ماال‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬إنّه ال َ‬


‫يؤاخذ على النيّة يف المعصية‪ ،‬ال يؤاخذ بمجرد إرادة القلب الجازمة‪ ،‬وقال هبذا‬
‫ٍ‬
‫بسيئة فلم‬ ‫بعض السلف؛ قالوا‪ :‬ألنه يدخل يف حديث النفس ويدخل يف الهم؛ وقد د ّلت األحاديث على أ ّن من ّ‬
‫هم‬

‫يفعلها ال ُيكتب له شيء‪.‬‬

‫عظيما جليًّا؛ فبيّن أ ّن اإلرادة الجازمة‪ :‬تقتضي الفعل‬


‫ً‬ ‫وح ّقق شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬المسألة تحقي ًقا‬

‫مع القدرة؛ فإن لم يفعل شيئًا مع قدرته فإنّه لم يجزم‪.‬‬

‫يمسها فيه‪ ،‬فلم‬ ‫قرب المسألة‪ٌ :‬‬


‫رجل عزم على طالق امرأته‪ ،‬يف قلبه عزم‪ ،‬وهي طاهر‪ ،‬يف طهر لم ّ‬ ‫وأعطيكم ً‬
‫مثاال ُي ِّ‬
‫يطلقها! نقول‪ :‬هذا إرادته ليست جازمة‪ ،‬لماذا؟ ألنّه لو كان جاز ًما لفعل‪ ،‬ألنه قادر‪ ،‬ال يوجد ما يمنعه‪ ،‬فما دام أنه‬

‫لم يفعل علمنا أنه لم ُي ِر ْد إراد ًة جازمة‪ ،‬ولذلك ذهب جماهير العلماء إلى أ ّن من نوى الطالق بقلبه ال يقع طالقه؛‬

‫ألنه ال يكون إرادة جازمة‪.‬‬

‫إذن يا إخوة؛ اإلرادة الجازمة تقتضي الفعل مع القدرة‪ ،‬وال يتخ ّلف عنها الفعل إال لعجز‪ ،‬إذن يا إخوة؛ َمن نوى‬

‫الزنا ‪-‬والعياذ باهلل‪ُ -‬مريدًا للزنا إراد ًة جازم ًة البد أن يفعل ما يقدر عليه؛ مِن النظر‪ ،‬من المشي‪ ،‬من البحث‪ ،‬البد‬

‫أن يفعل ما يقدر عليه؛ فإن لم يفعل شيئًا مع القدرة؛ علِمنا أنّه لم ُي ِر ْد إراد ًة جازمة‪.‬‬

‫إذن ما الحكم؟ الحكم‪ :‬أ َّن من أراد المعصية إراد ًة جازم ًة ففعل ما يقدر عليه ولم يمنعه من المعصية إال العجز؛‬

‫َ‬
‫يؤاخذ عليها‪.‬‬

‫كهذا الرجل الذي معنا يف الحديث؛ أراد أن يقتل أخاه إراد ًة جازمةً‪ ،‬ولذلك ماذا فعل؟ قاتله؟ لماذا قاتله؟ ليقتله‪،‬‬

‫ما الذي منعه من قتله؟ العجز؛ هذا َ‬


‫يؤاخذ‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫قادرا‬ ‫قادرا فلم يفعل شيئًا؛ فإنّه ال َ‬


‫يؤاخذ‪ ،‬ولذلك نقول‪ :‬من نوى السرقة‪ ،‬عزم على السرقة‪ ،‬وكان ً‬ ‫أ ّما لو أراد وكان ً‬
‫لتحرك‪ ،‬أل ّن هذا القلب ملِك واألعضاء‬
‫ّ‬ ‫يحرك ساكنًا؛ ال َ‬
‫يؤاخذ هبذا؛ لماذا؟ ألنه لم يعزم‪ ،‬ولو عزم‬ ‫لكنّه لم ّ‬
‫ِ‬
‫جنوده‪ ،‬وقد جاء هذا اللفظ عن أبي هريرة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ (( -‬القلب َمل ٌك واألعضاء جنوده ))‪ ،‬فإذا جزم َ‬
‫الملك‬

‫تحركت األعضاء‪ ،‬وال يمنعها إال العجز‪.‬‬

‫فمنَ َعه العجز؛‬


‫لكن لو أنّه أراد السرقة فنظر يف بيت جاره فوجد السور عاليًا؛ ما سرق‪ ،‬لكنّه فعل ما يستطيع‪ ،‬نظر‪َ ،‬‬
‫هذا َ‬
‫يؤاخذ بإرادته‪.‬‬

‫وهبذا ُي َح ّل اإلشكال و ُي َ‬
‫جمع بين النصوص جميعها‪.‬‬

‫فاإلرادة الجازمة تقتضي فعل المقدور عليه‪ ،‬وال يتخلف عنها الفعل إال للعجز‪ ،‬فإذا تخ ّلف عنها مع القدرة لم‬

‫تكن إراد ًة جازمة‪.‬‬

‫لكن تبقى مسألة‪َ :‬من أراد المعصية بقلبه إراد ًة غير جازمة‪ ،‬بمعنى لم يفعل شيئًا مع القدرة‪ ،‬تركها إذن‪ ،‬هل يثاب‬

‫أو ال يثاب؟‬

‫يحرك ساكنًا‪ ،‬وترك هذا األمر‪ ،‬لكن لماذا‬ ‫نقول‪ :‬إن تركها هلل ُأثيب‪ٌ .‬‬
‫رجل حدّ ث نفسه بالزنا ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬ولم ّ‬
‫قدم عليها؟! عقاهبا ُتنُّور يف النار‬ ‫ٍ‬
‫لشيء يسير من الزمن ُتغضب اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ُ -‬ا ِ‬ ‫تركه؟ قال‪ :‬أعوذ باهلل‪ ،‬لذة‬

‫يوم القيامة‪ ،‬أعوذ باهلل؛ فرتكها؛ هذا ُيكتَب له حسنة‪.‬‬

‫يحرك ساكنًا مع القدرة‪ ،‬وقال‪ :‬سبحان اهلل! ّ‬


‫لذة ساعة تجلب لي العار عند‬ ‫آخر َه ّم‪ ،‬نوى‪ ،‬لكنّه لم يفعل شيئًا ولم ّ‬
‫الناس‪ ،‬يعيبني الناس بالزنا‪ ،‬قد يراين جاري‪ ،‬قد يراين العسكر‪ ،‬قد يراين الناس! فرتكها من أجل الناس‪ ،‬هذا ال‬

‫ُيكتَب له وال عليه‪.‬‬

‫أيضا يا إخوة‪ ،‬من نوى المعصية إراد ًة جازمةً‪ ،‬وفعل ما يمكن‪ ،‬ثم ترك ذلك هلل؛ فإنّه يثاب‪ ،‬يثاب على‬
‫بل نقول ً‬

‫ماذا؟ يثاب على التوبة‪ ،‬هذه توبة‪ .‬إنسان أراد الزنا ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬إرادة جازمة ‪-‬نسأل اهلل أن يعيذ المسلمين‪،-‬‬

‫فذهب إلى مكان الزنا‪ ،‬مشى‪ ،‬لكن ما وجد امرأة‪ ،‬هذا يستحق العقاب! فلما جاء فما وجد المرأة قال‪ :‬أعوذ باهلل‪،‬‬
‫ماذا سأفعل بنفسي أنا؟ ُأ ِ‬
‫غضب اهلل بالزنا؟ أعوذ باهلل‪ ،‬أتوب إلى اهلل‪ ،‬أستغفر اهلل‪ ،‬أرجع إلى اهلل‪ُ .‬يثاب على توبته‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫مسلما أراد الزنا إراد ًة جازمة ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬وذهب إليه فوقع له حادث يف الطريق فأصيب بعجز وأصبح‬
‫ً‬ ‫بل لو أ ّن‬

‫أصال؛ فتاب إلى اهلل ورجع إلى اهلل وتحققت فيه شروط التوبة‪ ،‬ندم‪ ،‬وبالتالي ال شك أنّه أقلع‬
‫ال يستطيع أن يزين ً‬

‫ألنه لن يفعل‪ ،‬وعزم أنّ ه ال يرجع وال يفعل؛ يقبل اهلل توبته عند أهل السنة والجماعة‪ ،‬وهو ما يسمى بــ‪ :‬تـوبة‬

‫فش ّل؛ أصبح ال يستطيع‬


‫لصا يسرق بيوت الناس فوقع يو ًما من السور ُ‬
‫العاجز‪ ،‬كالمجبوب‪ ،‬والمشلول‪ .‬رجل كان ً‬

‫السرقة‪ ،‬عاجز؛ فتاب توب ًة صادقة؛ ُتقبل توبته عند أهل السنة والجماعة‪ ،‬قال أهل السنة والجماعة‪ُ :‬تقبل توبة‬

‫العاجز‪.‬‬

‫إذن؛ انتبهوا يا إخوة‪ ،‬نعود فنقول‪:‬‬

‫❖ من أراد الشر إراد ًة جازمة ففعل المقدور؛ كان مستح ًقا للعقوبة ولو لم يفعل نفس المعصية‪.‬‬

‫❖ ومن لم ُي ِرد إراد ًة جازمة ال يستحق العقوبة‪.‬‬

‫تنح ّل المسألة وتجتمع األدلة ويظهر الحق‪ .‬والحمد هلل‪.‬‬


‫وهبذا َ‬

‫يف هذا الحديث من الفقه‪:‬‬

‫▪ أ ّن من الناس من يخوض يف الفتنة بفعله‪ ،‬فيبوء باإلثم‪.‬‬

‫من الناس من يخوض يف الفتنة بفعله؛ يوزّ ع أشرطة تحث على الفتنة‪ ،‬يزرع الفتنة بين‬

‫تفرق بين قلوب الراعي والرعية‪ ،‬تجعل الناس وقو ًدا للخوارج‪ ،‬هذا يخوض يف الفتنة‬
‫المسلمين‪ ،‬يوزّ ع أشرطة ّ‬
‫بالفعل؛ فيبوء بإثمه‪.‬‬

‫▪ ومن الناس من يخوض فيها بلسانه؛ فيبوء بإثمه‪ ،‬نعم قد اليفعل وال يقوم مع أهل الفتنة؛ ولكنه‬

‫بلسانه خائض؛ فيبوء باإلثم‪.‬‬

‫▪ ومنهم من يخوض فيها بنيته؛ فيبوء باإلثم‪ ،‬نعم ‪-‬واهلل‪ ،-‬واهللِ إنا نقول‪ :‬إ ّن من المسلمين من‬

‫يكون يف بلد آخر فتقع فتنة يف بلد آخر فيبوء باإلثم؛ ألنّه يحب أن يكون مع أهل الفتنة‪ .‬فالعياذ‬
‫مثال‪ :‬الذين يسمعون بما يفعله هؤالء المارقون يف هذا البلد المبارك يف أي ٍ‬
‫بلد من البلدان؛‬ ‫باهلل ً‬

‫فيتمنَّون أن لو كانوا معهم وفعلوا مثل أفعالهم؛ يبوؤون بإثم الفتنة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫▪ والذين ُيثنون على أهل الفتنة؛ يبوؤون باإلثم‪ ،‬الذين يقولون‪ :‬هؤالء شجعان‪ ،‬مجاهدون‪ ،‬قاموا‬

‫يف وجه ال َّظلمة؛ يبوؤون بإثم الفتنة‪.‬‬

‫دعما ماد ًيا أو معنو ًيا؛ يبوؤون بإثم الفتنة‪.‬‬


‫▪ الذين يجمعون لهم ً‬

‫فالناس يف الفتنة درجات كما ّ‬


‫دل عليه هذا الحديث‪.‬‬

‫ُول‬ ‫ول اهللِ َص َّلى اهللُ َع َليْ ِه َو َس َّل ْم‪« :‬إِ َذا الْتَ َقى الْ ُم ْس ِل َم ِ‬
‫ان بِ َسيْ َفيْ ِه َما؛ َفالْ َقاتِ ُل َوالْ َم ْقت ُ‬ ‫[ َع ْن َأبِي بَك َْرةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬

‫فِي الن ِ‬
‫َّار»‪.‬‬

‫ان حم َل َأحدُ هما ع َلى َأ ِخ ِيه السالَح َف ُهما فِي جر ِ‬ ‫ِ‬


‫ف‬ ‫ُ ُ‬ ‫ِّ َ َ‬ ‫اهلل َع َل ْيه َو َس َّل ْم َق َال‪« :‬إِ َذا الْ ُم ْس ِل َم ِ َ َ َ ُ َ َ‬
‫َو َعنْ ُه َع ِن النَّبِ ِّي َص َّلى ُ‬
‫احبَ ُه َدخَ ال ََها َج ِمي ًعا»]‪.‬‬
‫ج َهنَّم‪َ ،‬فإِ َذا َقت ََل َأحدُ هما ص ِ‬
‫َ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬

‫قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬على ُج ُرف جهنم )) أي على حافة جهنم‪ ،‬ومعناه‪ :‬أهنما اقرتبا من‬

‫جهنم هبذا القتال‪.‬‬

‫وهذا يا إخواين ‪-‬كما قلنا‪ -‬إنّما هو يف قتال الفتنة‪ ،‬فيجب أن ُيتنبَّه‪.‬‬

‫أ ّما القتال الشرعي الذي ُيقا َتل فيه َمن يستحق القتال؛ من أهل ِّ‬
‫الردة‪ ،‬من الخوارج؛ فهذا ال يدخل يف الحديث‪.‬‬

‫متأو ًال؛ أي أ ّن قتاله كان هلل بتأوي ٍل له وجه؛ كما حدث من الصحابة‪ ،‬ليس‬
‫كما أنّه ال يدخل يف الوعيد‪َ :‬من كان ِّ‬

‫أيضا ال يدخل يف الحديث‪.‬‬


‫للدنيا وإنما هلل‪ ،‬بتأوي ٍل له وج ٌه يف الشريعة؛ فهذا ً‬

‫إذن؛ يخرج عن الحديث أمران‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬قتال َمن يكون قتالهم شرع ًّيا؛ كقتال الخوارج؛ فهذا ال يدخل يف الحديث‪ ،‬نقول هذا أل ّن‬ ‫▪‬

‫بعض الناس يأيت إلى الجنود الذين يدافعون عن المسلمين ويقومون بالواجب يف مثل هذا األمر فيذكرون لهم هذا‬

‫تخذيال لهم؛ وهذا باطل‪ ،‬فإ ّن هذا ال يدخل يف الحديث‪ ،‬بل هو نو ٌع من أنواع الجهاد يف سبيل اهلل الذي‬
‫ً‬ ‫الحديث‬

‫هو ذروة سنام اإلسالم‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫أيضا ال يدخل يف الحديث‪.‬‬ ‫▪ واألمر الثاين‪ :‬ما يقع من ٍ‬


‫قتال بين المسلمين هلل لتأوي ٍل له وجه؛ فهذا ً‬

‫وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة‪.‬‬

‫روى اإلمام مسلم ‪-‬رحمة اهلل عليه‪ -‬بإسناده‬


‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬
‫[ َع ْن َه َّما ِم بْ ِن ُمنَبِّه ‪-‬رضي اهلل عنه‪َ ،-‬ق َال‪َ :‬ه َذا َما َحدَّ َثنَا َأبُو ُه َر ْي َر َة ‪-‬رضي اهلل عنه‪َ -‬ع ْن َر ُسول اهلل َص َّلى ُ‬
‫اهلل‬
‫السا َع ُة َحتَّى َت ْقتَتِ َل فِئَت ِ‬ ‫ِ‬ ‫يث ِمنْها‪ :‬و َق َال رس ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َان‬ ‫ول اهلل َص َّلى اهللُ َع َليْه َو َس َّل ْم‪« :‬الَ َت ُقو ُم َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َع َليْه َو َس َّل ْم‪َ ،‬ف َذك ََر َأ َحاد َ َ َ‬
‫ُون بين َُهما م ْقتَ َل ٌة عظِيم ٌة ودعواهما و ِ‬
‫احدَ ةٌ»]‪.‬‬ ‫يمت ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ َ َْ ُ َ َ‬ ‫َان‪َ ،‬و َتك ُ َ ْ َ َ‬ ‫َعظ َ‬

‫هذا الحديث العظيم الذي أورده اإلمام مسلم جاء فيه قول النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬ال تقوم الساعة‬

‫حتى تقتتل فئتان عظيمتان) )‪ ،‬هذا الخرب ‪-‬يا إخوة‪ -‬من معجزات النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬ومعجزات النبي‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كثيرة؛ منها‪ :‬إخباره ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عن ٍ‬
‫أمور تقع بعده‪ ،‬وقد وقع بعضها‪ ،‬وسيقع‬

‫اآلخر؛ إن شاء اهلل عز وجل‪.‬‬

‫وهذه معجز ٌة للنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؛ أل ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان أ ّميًّا لم يكن يقرأ وال يكتب‬
‫ٍ‬
‫غيبية تقع يف المستقبل‪ ،‬ثم جاء‬ ‫يتلق عن أحد؛ ومع ذلك وهو األ ّمي أخرب عن ٍ‬
‫أمور‬ ‫ولم يأخذ عن أهل الكتاب ولم َّ‬
‫ُّ‬
‫نبي‬
‫مما أخرب به ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وهذا يدل على أنه ال يمكن أن يكون ذلك إال من ٍّ‬
‫كثير ّ‬
‫الواقع فوقع ٌ‬
‫ٍ‬
‫محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬ ‫أوحى إليه رب العالمين‪ ،‬فهذه من معجزات‬

‫وقوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬ال تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان ))‪ ،‬فئتان‪ :‬تثنية فئة؛ وهي الجماعة‪،‬‬
‫ووص َفهم النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ِ -‬‬
‫بالع َظم؛ أي‪ :‬بالكثرة؛ يعني تقتتالن فئتان كثيرتا العدد‪ ،‬فهذه الفئة كثيرة‬ ‫َ َ‬

‫وتلك الفئة كثيرة‪.‬‬

‫والمراد بالفئتَين عند أهل التحقيق‪ :‬هم من كانوا مع علي ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،-‬ومن كان مع معاوية ‪-‬رضي اهلل عنه‪-‬‬

‫لما تحاربا بص ّفين‪ ،‬وذلك يف سنة ٍّ‬


‫ست وثالثين من هجرة رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬ ‫ّ‬

‫‪50‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬دعواهما واحدة ))‪ ،‬ما المراد بدعواهما واحدة؟ المراد أ ّن دينهما واحد‬
‫ِ‬
‫ومقصدهما واحد‪ ،‬فدينهما واحد؛ هو اإلسالم‪ ،‬فكال الطائفتين مسلمة‪ ،‬ومقصدهما واحد؛ هو الحق‪ٌّ ،‬‬
‫فكل منهما‬

‫يقصد الحق عن اجتهادٍ منه‪ ،‬وال يريد ً‬


‫باطال‪ ،‬وال يريد الدنيا‪ ،‬فدعواهما واحدة من هذا الباب‪.‬‬

‫َصرا اآلن‪ ،‬وهو أ ّن عليًّا ‪-‬رضي اهلل عنه‪-‬‬


‫وموقعة ص ّفين سيأيت الكالم عليها ‪-‬إن شاء اهلل‪ ،-‬لكن نورد شيئا مخت ً‬
‫بعد مقتل عثمان ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬كان أفضل الصحابة باتفاق أهل السنة والجماعة‪ ،‬وبايعه جماعة من الصحابة‬
‫تأو ًال ٍ‬
‫ألمر يرى أنّه من‬ ‫بالخالفة‪ ،‬وهو ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أولى الناس بالخالفة إذ ذاك‪ ،‬لك ّن بعض الصحابة لم يبايع ُّ‬

‫الدين‪ ،‬فتخ ّلف معاوية بن أبي سفيان ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ -‬عن مبايعته‪ ،‬ودعا الناس إلى طلب َقتَ َلة عثمان ‪-‬رضي‬

‫اهلل عنه‪ ،-‬باعتباره ول ًّيا لدمه‪ ،‬وراسل عل ًّيا ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬يف ذلك‪ ،‬لك ّن عل ًّيا ‪-‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪ -‬أبى أن‬

‫ولي الدم وثبوت ذلك على َمن باشره‪ ،‬وهذه من واجبات‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬
‫َيدفع القتَلة إلى معاوية ومن معه إال بعد قيام دعوى من ِّ‬
‫فعلي ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬كان مح ًّقا‪ ،‬ومعاوية ‪-‬رضي‬ ‫َْ‬ ‫ِّ‬
‫ولي األمر؛ أال ُيسلم أحدً ا إلى أحد حتى تثبت الدعوى عليه‪ّ ،‬‬
‫متأو ًال طالبًا لدم عثمان ‪-‬رضي اهلل عنه‪.-‬‬
‫اهلل عنه‪ -‬كان ِّ‬

‫علي ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬بالعساكر طالبًا الشام داعيًا معاوية ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬ومن معه إلى الدخول يف‬
‫ورحل ّ‬
‫وعلي ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬و َمن معه بص ّفين‪ ،‬وهي بين الشام‬
‫ّ‬ ‫طاعته‪ ،‬فالتقى معاوية ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬و َمن معه‪،‬‬

‫المقتلة العظيمة التي أخرب عنها النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬و ُقتل فيها جم ٌع كبير من‬
‫والعراق‪ ،‬فكانت بينهم َ‬
‫المسلمين‪ ،‬قال بعض المؤرخين إنه يزيد على سبعين أل ًفا‪.‬‬

‫ولم يكن مقصود الصحابة ‪-‬رضوان اهلل عليهم‪ -‬القتال؛ بل كانوا حريصين على االجتماع‪ ،‬ولذلك يقول شيخ‬

‫اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬أكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون عليًّا وال‬

‫معاوية"؛ وإنّما كانوا من أهل األهواء الذين يختارون القتال‪ ،‬أ ّما الصحابة ‪-‬رضوان اهلل عليهم‪ -‬و َمن و ّفقهم اهلل‬

‫للسنة فكانوا يقصدون الحق‪.‬‬

‫علي ومعاوية أط َلب‬


‫يقول الشيخ ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬لم يكونوا يطيعون عل ًّيا وال معاوية ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ ،-‬وكان ٌّ‬
‫لكف الدماء مِن أكثر المقتتلين لكن غُلِبا فيما وقع"‪.‬‬
‫ِّ‬

‫‪51‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫ثم قال شيخ اإلسالم كلمة عظيمة ‪-‬الكلمة هذه ينبغي للمسلمين أن يتنبهوا لها!‪ -‬قال رحمه اهلل‪" :‬والفتنة إذا‬

‫عجز الحكماء عن إطفاء نارها" ‪.‬‬


‫‪1‬‬
‫ثارت َ‬
‫ْ‬

‫يوجه الحكماء جهدهم إلى منع الفتنة قبل أن تثور‪ ،‬ولن يكون ذلك إال بنشر السنة وتعليم الناس‬
‫ولذلك ينبغي أن ّ‬

‫شرها‪.‬‬
‫السنّة‪ .‬أ ّما الفتنة إذا ثارت فنسأل اهلل أن يكفينا ّ‬
‫قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسم‪ (( :-‬حتى تقتتل فئتان عظيمتان‪ ،‬وتكون بينهما مقتلة عظيمة))‪ ،‬هذا الحديث ‪-‬يا‬

‫إخوة‪ -‬فيه ر ٌّد على َمن ك َّفر الطائفتين أو ك َّفر إحدى الطائفتين‪ ،‬فإنّه جاء يف بعض الروايات‪ (( :‬لن تقوم الساعة‬

‫حتى تقتتل فئتان عظيمتان مسلمتان))‪ ،‬وقوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ (( :-‬دعواهما واحدة) ر ٌّد على أولئك القوم‪.‬‬

‫ِ‬ ‫[عن َأبِي هرير َة ‪-‬رضي اهلل عنه‪َ ،-‬أ َّن رس َ ِ‬


‫ول اهلل ‪َ -‬ص َّلى اهللُ َع َليْه َو َس َّل ْم‪َ -‬ق َال‪« :‬الَ َت ُقو ُم َّ‬
‫السا َع ُة َحتَّى َي ْكثُ َر‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ َْ‬ ‫َ ْ‬

‫ول اهللِ؟ َق َال‪« :‬الْ َقت ُْل الْ َقت ُْل»]‪.‬‬


‫الْ َه ْر ُج» ‪َ .‬قالُوا‪َ :‬و َما الْ َه ْر ُج َيا َر ُس َ‬

‫عظيم‪ُ ،‬يبيِّن فيه النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كثرة القتل يف آخر الزمان‪ ،‬وليس المراد‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حديث‬ ‫هذا الحديث‬

‫كثرة القتل للكفار؛ وإنّما المراد كثرة القتل بين المسلمين‪.‬‬

‫والهرج‬
‫ْ‬ ‫قال الحافظ ابن عبد ال َّبر‪" :‬قد ثبت عن النبي عليه السالم من وجوه‪ :‬أ ّن ْ‬
‫الهرج ال يزال إلى يوم القيامة‪،‬‬

‫بتسكين الراء‪ :‬القتل‪ ،‬وكذلك الرواية يف هذا الحديث وغيره" ‪.‬‬


‫‪2‬‬

‫الهرج ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬يف لغة العرب هو‪ :‬اختالف الناس‪ ،‬واختالطهم‪ ،‬وكوهنم بال رئيس‪ ،‬وإذا اختلط الناس‬
‫أصل ْ‬
‫و َكثُروا وليس لهم رئيس اختلفوا وال بُدّ ‪ ،‬وبغا القوي على الضعيف؛ وهذا يقود إلى القتل‪ ،‬ولذلك؛ يقول‬
‫ٍ‬ ‫خير مِن‬
‫ساعة بال سلطان"‪.‬‬ ‫الحكماء‪" :‬ستُّون سنّة بإما ٍم جائر ‪-‬ظالم‪ٌ -‬‬
‫قديما وحديثًا تبيّن ذلك‪ ،‬فالناس بال‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل‪" :-‬والتجربة ُتبيّن ذلك"‪ ،‬فالتجربة ً‬
‫تهارجون‪َ ،‬يختلفون‪ ،‬و َيتقاتلون‪.‬‬
‫رئيس َي َ‬
‫الهرج‪ :‬الكثرة واالتساع يف الشيء" ‪.‬‬
‫‪٣‬‬
‫الهرج‪ :‬االختالط‪ ،‬وقد َه َرج الناس إذا اختلفوا‪ ،‬وأصل ْ‬
‫"قال يف النهاية‪ْ :‬‬

‫(‪)2‬التمهيدالبن عبدالبر‪.)199/19( :‬‬


‫(‪)3‬تحفة األحوذي للمبارك فوري‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫والهرج‪ :‬القتل‪ ،‬بلسان الحبشة‪.‬‬


‫ْ‬
‫الهرج ‪-‬يا إخوة‪ -‬يطلق على القتل بلغة العرب‪ ،‬ويطلق على القتل بلغة الحبشة‪.‬‬
‫ْ‬
‫بلغة الحبشة‪.‬‬

‫لكن ما الفرق بين إطالق الهرج على القتل عند العرب وإطالق الهرج على القتل عند الحبشة؟‬

‫قتال‬
‫الهرج ً‬
‫يسمى ْ‬ ‫بينهما فرق؛ الفرق‪ :‬أ ّن ْ‬
‫الهرج يطلق على القتل يف لغة العرب باعتبار المآل‪ ،‬ليس مباشرة‪ ،‬ال ّ‬
‫مباشرة‪ ،‬وإنّما الهرج يؤول إلى القتال؛ ألن الهرج كما قلنا هو‪ :‬االختالط واالختالف بال رئيس‪ ،‬هذا سيؤ ّدي إلى‬

‫ماذا؟ سيؤ ّدي إلى القتل‪ ،‬فهذا يسميه العرب‪ :‬تسمية الشيء باعتبار ما يؤول إليه‪.‬‬

‫رجال‪،‬‬
‫يقال عن الطفل الذكر أحيانًا‪ :‬هذا رجل؛ أي باعتبار ما يؤول إليه إن شاء اهلل‪ ،‬أي أنّه يؤول إلى أن يكون ً‬

‫و ُيقال عن الطفلة األنثى الصغيرة‪ :‬هذه امرأة؛ باعتبار ما تؤول إليه منكوهنا تكون امرأة‪.‬‬

‫الهرج؛ بمعنى القتل‪.‬‬


‫الهرج بمعنى القتل يف لغة الحبشة فهو يطلق مباشرة‪ ،‬فالحبشة يقولون‪ْ :‬‬
‫أما ْ‬
‫فالهرج ُيطلق على القتل عند العرب لكن باعتبار المآل‪ ،‬ويطلق على القتل عند الحبشة مباشرة‪ .‬فهو يف لسان‬

‫العرب كذلك‪ ،‬ويف لسان الحبشة كذلك‪.‬‬

‫وقوله‪ :‬قال‪ (( :‬القتل القتل)) هذا صريح يف أ ّن تفسير القتل من كالم رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪،-‬‬

‫فسر ذلك‪.‬‬
‫فالرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ّ -‬‬

‫فإن قال قائل‪ :‬ما مناسبة الحديثين األخيرين للفتن؟‬

‫المناسبة‪ :‬بيان أ ّن الفتن العظيمة بين المسلمين تكون يف باب القتال‪ ،‬ولذلك ينبغي على المسلمين أن يتنبّهوا‬

‫لموضوع الدماء‪ ،‬فإ ّن أكثر الفتن العظيمة بين المسلمين إنما تكون يف هذا الباب‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫‪54‬‬
‫‪‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫‪2‬‬
‫‪‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الدرس السادس‬

‫قال اإلمام النووي ‪-‬رحمة اهلل عليه‪:-‬‬

‫اب‪َ :‬هال َُك َه ِذ ِه األُ َّم ِة َب ْع ِض ِه ْم بِبَ ْع ٍ‬


‫ض]‬ ‫[ َب ٌ‬

‫اهلل ز ََوى لِ َي األَ ْر َض َف َر َأ ْي ُ‬


‫ت َم َش ِ‬ ‫ِ‬ ‫عن َثوبا َن ‪-‬رضي اهلل عنه‪َ -‬ق َال‪َ :‬ق َال رس ُ ِ‬
‫ار َق َها‬ ‫اهلل َع َل ْيه َو َس َّل ْم‪« :‬إِ َّن َ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ َْ‬

‫ت َربِّي‬ ‫ي لِي ِمن َْها‪َ ،‬و ُأ ْعطِ ُ‬


‫يت الْ َكنْز َْي ِن األَ ْح َم َر َواألَبْيَ َض‪َ ،‬وإِنِّي َسأَلْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َو َمغ ِ‬
‫َاربَ َها‪َ ،‬وإِ َّن ُأ َّمتي َسيَ ْب ُلغُ ُم ْلك َُها َما ز ُِو َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ألُ َّمتي َأ ْن الَ ُي ْه ِلك ََها بِ َسنَة َع َّامة‪َ ،‬و َأ ْن الَ ُي َس ِّل َط َع َليْ ِه ْم َعدُ ًّوا م ْن س َوى َأ ْن ُفس ِه ْم َفيَ ْستَبِ َ‬
‫يح بَيْ َضت َُه ْم‪َ ،‬وإِ َّن َربِّي َق َال‪َ :‬يا‬

‫ك َأ ْن الَ ُأ ْه ِلك َُه ْم بِ َسنَ ٍة ب َع َّام ٍة‪َ ،‬و َأ ْن الَ ُأ َس ِّل َط َع َل ْي ِه ْم‬
‫ُك ألُ َّمتِ َ‬
‫ت َق َضا ًء َفإِ َّن ُه الَ ُي َر ُّد‪َ ،‬وإِنِّي َأ ْعطَ ْيت َ‬
‫ُم َح َّمدُ ! إِنِّي إِ َذا َق َض ْي ُ‬
‫اجت ََم َع َع َل ْي ِه ْم َم ْن بِأَ ْقطَ ِ‬
‫ار َها ‪َ -‬أ ْو َق َال َم ْن َب ْي َن َأ ْقطَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ار َها‪َ -‬حتَّى َيكُو َن‬ ‫َعدُ ًّوا م ْن س َوى َأ ْن ُفس ِه ْم َي ْستَبِ ُ‬
‫يح َب ْي َضت َُه ْم‪َ ،‬ولَ ِو ْ‬

‫َب ْع ُض ُه ْم ُي ْه ِل ُ‬
‫ك َب ْع ًضا َو َي ْسبِي َب ْع ُض ُه ْم َب ْع ًضا»‪.‬‬

‫اهلل َت َعالَى ز ََوى لِ َي األَ ْر َض َحتَّى َر َأ ْي ُ‬


‫ت َم َش ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ار َق َها‬ ‫وعنه ‪-‬رضي اهلل عنه‪َ -‬أ َّن َنبِ َّي اهلل َص َّلى ُ‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس َّل ْم َق َال‪ :‬إِ َّن َ‬
‫َاربَ َها‪َ ،‬و َأ ْعطَانِي الْ َكنْز َْي ِن األَ ْح َم َر َواألَبْيَ َض»‪.‬‬
‫َو َمغ ِ‬

‫ج ِد بَنِي‬
‫ات َي ْو ٍم ِم َن الْ َعالِيَ ِة َحتَّى إِ َذا َم َّر بِ َم ْس ِ‬
‫اهلل َع َليْ ِه َو َس َّل ْم َأ ْقبَ َل َذ َ‬ ‫يه َأ َّن رس َ ِ‬
‫امر بن سع ٍد عن َأبِ ِ‬
‫ِ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َوعن َع ْ ُ َ ْ َ ْ‬

‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم‪:-‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُم َع ِ‬


‫او َي َة َدخَ َل َف َرك ََع فيه َر ْك َعتَ ْي ِن‪َ ،‬و َص َّل ْينَا َم َع ُه‪َ ،‬و َد َعا َربَّ ُه َط ِويالً ُث َّم ان َْص َرفَ إِلَ ْينَا َف َقا َل ‪َ -‬ص َّلى ُ‬
‫السن َِة َفأَ ْعطَانِ َيها‪َ ،‬و َسأَلْتُ ُه َأ ْن الَ‬ ‫ت ربي َأ ْن الَ ي ْه ِل َ ِ‬
‫ك ُأ َّمتي بِ َّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت َر ِّبي َثالَ ًثا َفأَ ْعطَاني ثنْتَ ْي ِن َو َمنَ َعني َواحدَ ةً؛ َسأَلْ ُ َ ِّ‬
‫«سأَلْ ُ‬
‫َ‬
‫ك ُأ َّمتِي بِالْغ ََر ِق َفأَ ْعطَانِ َيها‪َ ،‬و َسأَلْتُ ُه َأ ْن الَ َي ْج َع َل َبأْ َس ُه ْم َب ْين َُه ْم َف َمنَ َعن ِ َيها»‪.‬‬
‫ُي ْه ِل َ‬

‫ول اهللِ صلى اهلل عليه وسلم فِي َطائِ َف ٍة ِم ْن َأ ْص َحابِ ِه َف َم َّر بِ َم ْس ِ‬
‫ج ِد َبنِي‬ ‫َو َعنْ ُه ‪-‬رضي اهلل عنه‪َ -‬أ َّن ُه َأ ْق َب َل م َع رس ِ‬
‫َ َ ُ‬
‫اوي َة‪ .‬بِ ِمثْ ِل ح ِد ِ‬
‫يث ابْ ِن ن َُميْرٍ]‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُم َع ِ َ‬

‫‪3‬‬
‫‪‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫حديث عظيم‪ ،‬فيه بيان أمور عظيمة ُأعطيها النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ألمته‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫هذا الحديث‬

‫زويت الشيء‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬إ ّن اهلل زوى لي األرض» أي جمع لي األرض‪ .‬يقال‪:‬‬

‫جمعتُه وقبضتُه‪ ،‬أي أ ّن اهلل ‪-‬عز وجل‪ّ -‬قرب البعيد منها؛ حتى اط ّلع عليه ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬

‫«فرأيت مشارقها ومغارهبا»‪ ،‬رأى النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬المشارق‬
‫ُ‬ ‫قال ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪:-‬‬

‫والمغارب؛ أي رأى جميع األرض‪.‬‬

‫وقال بعض العلماء‪ :‬رأى جهة المشرق والمغرب أكثر؛ قالوا‪ :‬ولذا نرى أ ّن الفتوحات اإلسالمية تتّسع ناحية‬

‫المشرق والمغرب أكثر‪.‬‬

‫وبعض العلماء قال‪ :‬ال؛ بل رأى جميع األرض‪ ،‬وأ ّن اإلسالم سيدخل األرض كلها‪.‬‬
‫وال شك أ ّن اإلسالم سيدخل كل ٍ‬
‫بيت على وجه األرض‪ ،‬أخرب بذلك النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬

‫فالمعنى‪ :‬أ ّن األرض ُج ِمعت للنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فرآها‪ ،‬وهي ُتفتَح أل ّمته جز ًءا فجزء؛ حتى يصل‬

‫ملك أمته إلى أجزائها‪.‬‬

‫عطيت الكنزين األحمر واألبيض» أي ُأعطِ ُ‬


‫يت كنز الذهب؛ وهو األحمر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قال ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬و ُأ‬

‫وكنز الفضة؛ وهو األبيض‪.‬‬

‫فاألحمر‪ :‬هو ُملك الشام‪ ،‬لماذا سمي باألحمر؟‬

‫أل ّن الغالب على أموال أهل الشام الذهب‪ ،‬وأل ّن الغالب على ألوان أهل الشام ُ‬
‫الحمرة‪.‬‬

‫األبيض‪ :‬قيل لفارس‪ ،‬ولماذا سمي الكنز األبيض؟ قالوا‪ :‬أل ّن الغالب على أموالهم الفضة‪ ،‬وأل ّن الغالب على‬

‫ألواهنم البياض‪.‬‬

‫فقيل‪ :‬للشام األحمر‪ ،‬ولفارس األبيض‪.‬‬

‫يعم أراضي المسلمين‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬


‫عامة» أي بقحط عا ٍّم ُّ‬
‫قال‪« :‬بسنة ّ‬

‫‪4‬‬
‫‪‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫قال‪« :‬وأال يس ّلط عليهم عدوا» أي أال يس ّلط عليهم الكفار‪ ،‬ولذلك قال‪ِ :‬‬
‫«من سوى أنفسهم» أي كائنًا من‬

‫سوى أنفسهم‪.‬‬

‫«فيستبيح» أي يستأصل‪.‬‬

‫«بيضتهم» ما المقصود بالبيضة؟‬


‫المقصود بالبيضة‪ :‬الجماعة ومكان ِ‬
‫العزّ ‪.‬‬
‫لماذا قال عن الجماعة ومكان ِ‬
‫العزّ "البيضة"؟‬

‫ٍ‬
‫طعم و َف ْرخ‪ ،‬إذا كُسرت البيضة‬ ‫كل ما فيها مِن‬
‫قال بعض أهل العلم‪ :‬أل ّن البيضة إذا ُأهلِ َكت ذهب ُّ‬

‫ُؤصلت البيضة مِن األصل ال يبقى منها شيء‪ ،‬أ ّما إذا لم تذهب من أصلها فقد يبقى بعضها‪.‬‬
‫واست ِ‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬المقصود بالبيضة‪ :‬الخوذة‪ ،‬فكأنه ش َّبه مكان اجتماعهم ببيضة الحديد التي يضعها‬

‫الفارس على رأسه‪.‬‬

‫قضيت قضا ًء فإنه ال ُير ّد» أي إين‬


‫ُ‬ ‫قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬إ ّن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬قال‪ :‬يا محمد! إين إذا‬

‫كما مربَ ًما فإنه ال َير ُّده شيء؛ بل البد من وقوعه‪.‬‬


‫حكمت ُح ً‬
‫ُ‬ ‫إذا‬

‫وهنا نن ّبه يا إخوة إلى أ ّن العلماء ‪ً -‬‬


‫أخذا من النصوص‪ -‬قالوا‪ :‬القضا ُء نوعان‪:‬‬

‫‪ ‬نو ٌع ع ّلقه اهلل بسبب‪ ،‬فيدور مع سببه؛ كالربكة يف العمر‪ ،‬والربكة يف الرزق؛ ُيع ّلقها اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬

‫فمن وصل َر ِح َمه بورك له يف عمره‪ ،‬ونسأ اهلل له يف أجله‪ ،‬وبورك له يف رزقه‪ ،‬و َمن لم يصل َر ِح َمه‬
‫الرحم‪َ ،‬‬
‫بصلة َّ‬
‫ال يحصل له هذا‪.‬‬

‫ومنها أ ّن بعض القضاء قد ُيربَط بالدعاء‪ ،‬فإن دعا المسلم ُر ّد‪ ،‬وإن لم يد ُع وقع‪ ،‬وك ُّله بقدر اهلل‪ .‬ولذلك‬

‫جاء يف بعض اآلثار‪ :‬ال ير ّد القضاء إال الدعاء‪ .‬وجاء يف بعض األحاديث أ ّن الدعاء والبالء يعتلجان‪ ،‬هذا إذا‬

‫كان الدعاء مربو ًطا بالدعاء‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫‪‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ٍ‬
‫مربوط بشيء‪ ،‬وهذا البد أن يقع‪ ،‬ومنه هذا الذي طلبه النبي ‪-‬‬ ‫‪ ‬والنوع الثاين‪ :‬أن يكون القضاء غير‬

‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬من اهلل‪ ،‬فإ ّن اهلل‪-‬عز وجل‪ -‬لم ُيعطِه هذا؛ ال ّن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬قضا هبذا األمر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬سأل ربه لهذه األ ّمة أال يهلكها بقحط عام‪ ،‬وأال يس ّلط عليهم ً‬
‫عدوا من سوى‬
‫أنفسهم فيستبيح بيضتهم؛ فأعطاه اهلل ألمته‪ :‬أال يهلكهم ٍ‬
‫بسنة عا ّمة‪ ،‬فال يهلكهم بقحط عام‪.‬‬

‫ولذلك قال العلماء‪ :‬يؤخذ من هذا‪ :‬أ ّن القحط ال ّ‬


‫يعم ديار أمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬إن وقع سيقع‬

‫كافرا‬ ‫يف بعض النواحي‪ .‬واهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أعطى النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أال يس ِّلط عليهم ً‬
‫عدوا ً‬
‫يستأصلهم‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪6‬‬
‫‪‬‬
‫‪7‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫‪7‬‬
‫‪‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الدرس السـابع‬

‫السا َع ِة))‬ ‫ِ‬


‫يما َيكُو ُن إِلَى ق َيا ِم َّ‬
‫ِ‬ ‫اب إِخْ َب ِ‬
‫ار النَّبِ ِّي َص َّلى ُ‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس َّلم ف َ‬ ‫(( َب ُ‬

‫السا َع ِة‪َ ،‬و َما بِي إِ َّ‬


‫ال َأ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫ان ﭬ‪َ :‬واهللِ إِنِّي ألَ ْع َل ُم الن ِ‬
‫َّاس بِك ُِّل ف ْتنَة ه َي كَائ َن ٌة ف َ‬
‫يما َب ْيني َو َب ْي َن َّ‬ ‫َق َال ُح َذ ْي َف ُة ْب ُن الْ َي َم ِ‬

‫ول اهللِ َص َّلى اهللُ َع َل ْيه‬ ‫ول اهللِ َص َّلى اهللُ َع َليْه َو َس َّلم َأ َس َّر إِلَ َّي فِي َذلِ َ‬
‫ك َشيْئًا لَ ْم ُي َحدِّ ْث ُه َغيْرِي‪َ ،‬ولَكِ ْن َر ُس ُ‬ ‫َيكُو َن َر ُس ُ‬

‫اهلل َع َليْه َو َس َّلم‪َ ،‬و ُه َو َي ُعدُّ الْ ِفت ََن‪:‬‬ ‫يه‪ -‬ع ِن الْ ِفت َِن‪َ ،‬ف َق َال رس ُ ِ‬
‫ث مج ِلسا َأنَا فِ ِ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َو َس َّلم َق َال ‪َ -‬و ُه َو ُي َحدِّ ُ َ ْ ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َار َومن َْها كبَ ٌار »‪َ .‬ق َال ُح َذ ْي َفةُ‪َ :‬ف َذ َه َ‬
‫ب‬ ‫َث الَ َيكَدْ َن َي َذ ْر َن َش ْيئًا‪َ ،‬ومن ُْه َّن فت ٌَن َكرِ َياحِ َّ‬
‫الص ْيف‪ ،‬من َْها صغ ٌ‬ ‫«من ُْه َّن َثال ٌ‬

‫الر ْه ُط ُك ُّل ُه ْم َغ ْيرِي ))‪.‬‬


‫ك َّ‬‫ُأولَئِ َ‬

‫الشرح يحتاج إلى تدقيق يف نقل التفريغ‬

‫يف الحديث‪ :‬بيان كثرة الفتن يف أمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وأهنا متفاوتة؛ فمنها‪ :‬فت ٌن عامة‪ ،‬ال‬

‫تختص بقطر‪ .‬ومنها‪ :‬فت ٌن سريعة‪ .‬ومنها‪ :‬فت ٌن صغيرة‪ .‬ومنها‪ :‬فت ٌن كبيرة‪.‬‬

‫سرا هبذه الفتن‪ ،‬بل بيَّنها بيانًا عامًّّّا‪ ،‬لك ّن رسول‬


‫إلي ًّ‬
‫أسر َّ‬
‫(‪ )..‬قال حذيفة ﭬ‪ :‬النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َّ -‬‬
‫مجلسا أنا فيه عن الفتن‪ ،‬فقال رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫ً‬ ‫اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وهو يحدِّ ث‬

‫وهو َيعدُّ الفتن‪ِ « :‬من ُْه َّن َثال ٌ‬


‫َث الَ َيكَدْ َن َي َذ ْر َن َش ْيئًا»‪ ،‬ما معنى هذه الجملة؟‬

‫أي ال يكد َن يرتك َن شيئًا‪ ،‬فه ّن فت ٌن عظيمة ُّ‬


‫تعم الواحدة منهن؛ حتى ال يكاد يسلم منها أحد‪ ،‬فهي فت ٌن عامة‪،‬‬
‫هذه ثالث ٍ‬
‫فتن كبيرة عامة‪.‬‬
‫وقوله ﭬ‪ :‬عن النبي‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬ومِنْهن فِتَن ك َِرياحِ الصي ِ‬
‫ف»؛ أي أهنا تأيت سريعة ومتتابعة‪،‬‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ ُ َّ ٌ َ‬

‫فهي دون الثالث األُ َول يف العموم‪ ،‬لكنها كثيرة السرعة‪ ،‬كثيرة التتابع؛ يتبع بعضها ً‬
‫بعضا‪.‬‬

‫َار َومِنْ َها كِبَ ٌار»؛ أي أ ّن الفتن منها‪ :‬صغار‪ ،‬ومنها كبار‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫«منْ َها صغ ٌ‬

‫إذن ‪-‬يا إخوة‪-‬؛ يف هذا الحديث‪ :‬بيان كثرة الفتن يف أمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وأهنا متفاوتة؛ فمنها‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫‪‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫‪ ‬فت ٌن عامة‪ ،‬ال تختص بقطر‪.‬‬

‫‪ ‬ومنها‪ :‬فتـــ ٌن سريعـــــــــــة‪.‬‬

‫‪ ‬ومنها‪ :‬فتـــ ٌن صغيــــــــــرة‪.‬‬

‫‪ ‬ومنها‪ :‬فتـــ ٌن كبيــــــــــــرة‪.‬‬

‫ويف هذا معجزة للنبي‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فإنه وقعت يف المسلمين فت ٌن كبيرة‪ ،‬ووقعت فت ٌن صغيرة‪،‬‬

‫ووقعت فت ٌن سريعة‪ ،‬والزالت تقع ‪-‬نعوذ باهلل من الفتن‪ ،-‬ففي هذا معجزة للنبي ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬

‫ك إِلَى‬ ‫ول اهللِ ص َّلى اهلل ع َليه وس َّلم م َقاما ما تَر َك َشيئًا يكُو ُن فِي م َق ِ‬
‫ام ِه َذلِ َ‬ ‫(( َع ْن ُح َذ ْي َف َة ﭬ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬قا َم فِينَا َر ُس ُ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ َ ْ َ َ َ ً َ َ‬ ‫َ‬

‫ث بِ ِه‪َ ،‬ح ِفظَ ُه َم ْن َح ِفظَ ُه‪َ ،‬ون َِس َي ُه َم ْن ن َِس َي ُه‪َ ،‬قدْ َع ِل َم ُه َأ ْص َحابِي َه ُؤال َِء‪َ ،‬وإِ َّن ُه لَ َيكُو ُن ِم ْن ُه َّ‬
‫الش ْي ُء‬ ‫السا َع ِة إِ َّ‬
‫ال َحدَّ َ‬ ‫ِ‬
‫ق َيا ِم َّ‬
‫ِ‬
‫اب َعنْ ُه ُث َّم إِ َذا َرآ ُه َع َر َف ُه ))‪.‬‬
‫الر ُج ِل إِ َذا َغ َ‬ ‫َقدْ نَسيتُ ُه َفأَ َرا ُه َفأَ ْذك ُُر ُه ك ََما َي ْذك ُُر َّ‬
‫الر ُج ُل َو ْج َه َّ‬

‫اهلل َع َليْه َو َس َّلم َم َقا ًما َما َت َر َك َشيْئًا َي ُكو ُن فِي‬ ‫نعم‪ ،‬حذيفة ‪-‬هنا‪ -‬ﭬ يقول‪َ (( :‬قام فِينَا رس ُ ِ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫ث بِ ِه))‪ ،‬وهذا مشكل! إذ لو كان المقصود أنه بيّن كل شيء يقع إلى قيام‬ ‫الساع َِة إِ َّ‬
‫ال َحدَّ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫َم َقامه َذل َك إِ َلى قيَا ِم َّ‬
‫لما كفى ذلك المقام!‬
‫الساعة َ‬
‫ولذلك‪ :‬الصواب أ ّن المراد أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ب ّين األمور العظيمة ذات الشأن‪ ،‬ومنها أحوال‬

‫الفتن‪.‬‬

‫يقول اإلمام الذهبي ‪ $‬يف سير أعالم النبالء‪" :‬قد كان صلى اهلل عليه وسلم ُيرتِّل كالمه ويفسره"‪ ،‬ما معنى‬

‫ير ِّتل كالمه ويفسره؟‬

‫‪9‬‬
‫‪‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫مرتسالً حتى يفهمه الناس‪ ،‬فكان ال يسرد الكالم سر ًدا‪ .‬يقول اإلمام الذهبي ‪" :$‬قد كان‬
‫أي يتكلم كال ًما ِّ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يرتِّل كالمه ويفسره‪ ،‬فلعله قال يف مجلسه ذلك ما يكتب يف ٍ‬
‫جزء‪ ،‬فذكر أكبر الكوائن‪ ،‬ولو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ذكر أكثر ما هو كائن يف الوجود لَما تهيّأ أن يقوله يف َسنة؛ بل وال يف أعوام"‪.‬‬

‫إذن؛ مراد حذيفة ﭬ أ ّن النبي‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أخرب عن األمور العظيمة التي تقع إلى قيام الساعة‪،‬‬

‫ومنها الفتن‪.‬‬

‫قال‪َ (( :‬ح ِفظَ ُه َم ْن َح ِفظَ ُه‪َ ،‬ون َِس َي ُه َم ْن ن َِس َي ُه))‪.‬‬

‫محفوظ بحفظ اهلل‪ ،‬ولذلك أجمع العلماء على أ ّن ما يقوم به الدين محفوظ؛ لم ُي َ‬
‫نس منه شيء‪ ،‬وإن‬ ‫ٌ‬ ‫الدِّ ين‬

‫نس منه شيء‪.‬‬


‫نسي البعض حفظ البعض اآلخر‪ ،‬فالدين بحمد اهلل محفوظ‪ ،‬لم ُي َ‬

‫((ح ِفظَ ُه َم ْن َح ِفظَ ُه‪َ ،‬ون َِس َي ُه َم ْن ن َِس َي ُه))؛ أي أ ّن البعض حفظ شيئًا ونسي شيئًا‪ ،‬والبعض اآلخر‬
‫وقوله ﭫ‪َ :‬‬

‫حفظ شيئًا ونسي شيئًا آخر‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫تأولوا أو نَسوا‪.‬‬ ‫قوله ﭬ‪َ (( :‬قدْ عَلِمه َأصحابِي هؤُ َ ِ‬


‫الء))؛ يعني‪ :‬الذين دخلوا يف الفتنة‪ ،‬قد علموه‪ ،‬لكنهم َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ َ‬

‫الش ْي ُء َقدْ ن َِسيتُ ُه َف َأ َرا ُه َف َأ ْذك ُُر ُه))؛ يعني‪ :‬كان يقع فيراه‬
‫((وإِنَّ ُه َليَ ُكو ُن مِنْ ُه َّ‬
‫وأخرب ﭬ عن وقوع هذا األمر؛ يقول‪َ :‬‬

‫كما قاله النبي‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فيتذكر ذلك الشيء‪.‬‬

‫يف الحديث‪:‬‬

‫*‪ :‬أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ب ّين األمور العظيمة ذات الشأن‪ ،‬ومنها أحوال الفتن‪.‬‬

‫*‪ :‬أ ّن الحفظ ٌ‬


‫علم‬

‫*‪:‬قال اإلمام الذهبي رحمه اهلل ‪-‬تعليقًا على الحديث‪" :-‬قد كان صلى اهلل عليه وسلم ُير ِّتل كالمه‬
‫ويفسره‪ ،‬فلعله قال يف مجلسه ذلك ما يكتب يف ٍ‬
‫جزء‪ ،‬فذكر أكرب الكوائن‪ ،‬ولو ذكر أكثر ما هو كائن يف الوجود‬ ‫ُ‬

‫َلما هتيّأ أن يقوله يف َسنة؛ بل وال يف أعوام"‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫لسا َعةُ‪َ ،‬ف َما ِم ْن ُه‬ ‫ِ‬ ‫(( عن ح َذي َف َة ﭬ‪َ ،‬أ َّنه َق َال َأخْ برنِي رس ُ ِ‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس َّلم بِ َما ُه َو كَائ ٌن إِلَى َأ ْن َت ُقو َم ا َّ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫ََ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ُ ْ‬
‫َش ْي ٌء إِالَّ َقدْ َسأَلْتُ ُه‪ ،‬إِالَّ َأنِّي لَ ْم َأ ْسأَلْ ُه َما ُيخْ رِ ُج َأ ْه َل الْ َم ِدين َِة ِم َن الْ َم ِدين َِة ))‪.‬‬

‫هذا الحديث متّصل المعنى بما قبله‪ ،‬فحذيفة ﭬ يخرب أ ّن الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أخربه بما‬

‫هو كائ ٌن إلى قيام الساعة‪.‬‬

‫ومعنى (( َأ ْخبَ َرنِي)) أي‪ :‬مع غيري ‪-‬كما تقدم يف السابق‪ ،-‬وأخربه بالفتن واألمور العظيمة‪ ،‬ليس بكل شيء ‪-‬‬

‫كما قدمنا‪.-‬‬

‫ال َأنِّي‬ ‫إخبار عا ٌّم‪ ،‬لك ّن حذيفة ﭬ يقول‪َ (( :‬ف َما مِنْ ُه َش ْي ٌء إِ َّ‬
‫ال َقدْ َس َأ ْلتُ ُه‪ ،‬إِ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫وإخبار النبي‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬

‫َل ْم َأ ْس َأ ْل ُه َما ُي ْخ ِر ُج َأ ْه َل ا ْل َم ِدين َِة مِ َن ا ْل َم ِدين َِة)) وهذا يقتضي أ ّن الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أخرب الناس أ ّن‬

‫أهل المدينة سيخرجون من المدينة‪ ،‬وهذا الخروج المقصود به الخروج العام‪ ،‬ليس المقصود به خروج‬

‫البعض‪ ،‬نعم؛ خرج بعض الصحابة للجهاد ولنشر العلم ولنشر الحق‪ ،‬وليس هذا هو المراد؛ وإنما المراد ما‬

‫إخراجا عا ًّما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُي ِ‬
‫خرج أهل المدينة‬

‫قال الحاكم يف المستدرك‪" :‬قد خفي على حذيفة الذي ُيخرج أهل المدينة من المدينة و َع ِلمه غيره"‪.‬‬

‫فأهل المدينة يخرجون بأسباب؛‬

‫‪ ‬منها‪ :‬أهنا إذا ُفتحت األمصار جاء أهل األمصار فرغَّبوا أهل المدينة يف تلك األمصار‪ ،‬قالوا‪ :‬والهواء‬

‫عندنا يف الشام كذا‪ ،‬واألرزاق عندنا يف الشام كذا‪ ،‬والهواء يف مصر كذا‪ ،‬واألرزاق يف مصر كذا‪،‬‬

‫خير لهم لو كانوا يعلمون‪.‬‬


‫والهواء يف اليمن كذا‪ ،‬فيخرج أقوا ٌم معهم‪ .‬والمدينة ٌ‬
‫‪ ‬ومنها‪ :‬أ ّن أمراء سيُخرجون أهل المدينة من المدينة؛ كما جاء عن أبي هريرة ﭬ‪ .‬فحذيفة لم يسأل‪،‬‬

‫غيره عَلِم‪.‬‬ ‫لكن‬

‫‪11‬‬
‫‪‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪:‬‬


‫ُ‬ ‫‪ ‬وقد روى البخاري ومسلم أ ّن أبا هريرة ﭬ قال‪" :‬‬

‫«يتركون المدينة على خير ما كانت‪ ،‬ال يغشاها إال العواف» يريد‪ :‬عوايف السباع والطير" يعني‪ :‬يرتك‬
‫‪1‬‬

‫أهل المدينة المدينة‪ ،‬وجاء يف رواية‪« :‬ترتكون المدينة»‪.‬‬

‫قال العلماء‪ :‬ليس المراد‪ :‬الصحابة؛ وإنما من يأيت بعدهم من ذرياهتم‪ ،‬وذريات ذرياهتم‪.‬‬

‫خروجا‬
‫ً‬ ‫«يرتكون المدينة على خير ما كانت‪ ،‬ال يغشاها إال العواف»؛ يعني‪ :‬ال يوجد فيها إال السباع‪ ،‬يخرجون‬

‫عا ًّما ال يبقى فيها أحد‪ .‬حتى أنه جاء يف بعض الروايات أ ّن السباع تروح وتجيء يف مسجد النبي‪-‬صلى اهلل‬

‫خلو المدينة إذ ذاك‪.‬‬


‫عليه وسلم‪ ،-‬من ِّ‬

‫قال النووي ‪" :$‬المختار أ ّن هذا الرتك يكون يف آخر الزمان عند قيام الساعة"‪.‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر‪ :‬قد روي بإسنادٍ صحيح عن عوف بن مالك قال‪" :‬دخل رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه‬

‫وسلم‪ -‬المسجد ثم نظر إلينا‪ ،‬فقال‪« :‬أ َما واهلل‪ ،‬ليد ُعنَّها أهلها مذ َّل َّل ًة أربعين عا ًما للعوايف» أتدرون ما العوايف؟‬

‫الطير والسباع"‪.‬‬

‫قلت‪ :‬وهذا لم يقع قط ًعا؛ وإنما سيقع يف آخر الزمان‪ ،‬فيدعها أهلها مذللة أربعين‬
‫قال الحافظ ابن حجر‪ُ " :‬‬

‫عاما"‪ .‬قال النووي‪" :‬إ ّن ذلك قبل قيام الساعة"‪.‬‬

‫ول اهللِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫(( َو َع ْن ع ْل َبا ُء ْب ُن َأ ْح َم َر‪َ ،‬حدَّ َثني َأ ُبو ز َْيد ‪َ -‬ي ْعني َع ْم َرو ْب َن َأخْ طَ َ‬
‫ب رضي اهلل عنه‪َ ،-‬ق َال‪َ " :‬ص َّلى بِنَا َر ُس ُ‬

‫ت الظُّ ْه ُر‪َ ،‬فنَز ََل َف َص َّلى‪ُ ،‬ث َّم َص ِعدَ الْ ِمنْ َب َر َفخَ طَ َبنَا‬
‫ص َّلى اهلل ع َليه وس َّلم الْ َفجر‪ ،‬وص ِعدَ الْ ِمنْبر َفخَ طَبنَا حتَّى ح َضر ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ُ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬

‫الش ْم ُس؛ َفأَخْ بَ َر َنا بِ َما كَا َن‪َ ،‬وبِ َما ُه َو‬
‫ت َّ‬‫ت الْعصر‪ُ ،‬ثم َنز ََل َفص َّلى‪ُ ،‬ثم ص ِعدَ الْ ِمنْبر َفخَ طَبنَا حتَّى غَرب ِ‬
‫حتَّى ح َضر ِ‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬

‫كَائِ ٌن‪َ ،‬فأَ ْع َل ُمنَا َأ ْح َفظُنَا"))‪.‬‬

‫(‪)1‬أخرجه مسلم (‪،)1389‬في كتاب‪:‬الحج‪،‬باب‪ :‬في المدينة حين يتركها أهلها‪ .‬والبخاري ‪-‬واللفظله‪،)1775( -‬في كتاب‪ :‬فضائل‬
‫المدينة ‪،‬باب‪ :‬من رغب عن المدينة‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫‪‬‬‫‪13‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫إخبارا‬
‫ً‬ ‫هذا الحديث ‪-‬يا إخوة‪ -‬يدل على ما قدمناه؛ وهو أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أخرب بذلك‬

‫عا ًّما‪ ،‬ويدل على اهتمام النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ببيان الفتن ألمته؛ ليحذروها‪ ،‬وليسلكوا سبيل السالمة‬

‫عند وقوعها‪ ،‬وليتهيؤوا لها بتع ُّلم ّ‬


‫السنة‪.‬‬

‫وهذا الحديث ‪-‬يا إخوة‪ -‬يبيِّن َج َلد النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف بيان الحق للناس‪ ،‬فانظروا‪ :‬ص َّلى النبي‬

‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬الفجر وخطب حتى حضرت الظهر‪ ،‬فنزل فصلى الظهر‪ ،‬فصعد فخطب حتى‬

‫حضرت العصر‪ ،‬فنزل فصلى العصر‪ ،‬ثم صعد المنرب فخطب حتى المغرب!‬

‫الواحد منا إذا تكلم ساعة شعر باإلعياء الشديد‪ ،‬وهو ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يقوم هبذا األمر العظيم؛ من‬

‫حرصه على أمته ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فجزاه اهلل عنا خير ما جزى نب ًّيا عن أمته‪.‬‬

‫وقوله ﭬ‪َ (( :‬ف َأ ْخ َب َرنَا بِ َما كَا َن‪َ ،‬وبِ َما ُه َو كَائِ ٌن))‪ ،‬قلنا‪ :‬هذا ال يلزم أنه أخربهم بكل شيء؛ لكنه يدل على أ ّن‬
‫ٍ‬
‫بأمور عظيمة من الماضي؛ بما كان من خلق آدم ڠ‪ ،‬وبعثة‬ ‫الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أخربهم‬

‫الرسل‪ ،‬وما يقع من أمور عظيمة يف المستقبل‪.‬‬


‫ّ‬

‫وهنا نلحظ ‪-‬يا إخوة‪ -‬أ ّن الراوي لم ِّ‬


‫يصرح بما ذكره النبي‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف هذا الوقت الطويل‪.‬‬

‫فأعلمنا بما أخرب ‪-‬عليه‬


‫ُ‬ ‫وقول الراوي‪َ (( :‬ف َأ ْع َل ُمنَا َأ ْح َف ُظنَا)) يعني أ ّن الذين استمعوا متفاوتون يف الحفظ؛‬

‫الصالة والسالم‪ -‬عنه يف هذا المقام هو أحفظنا‪.‬‬

‫وقد جرت سنة اهلل أ ّن الناس يتفاوتون عند سماع العلم؛ فمنهم من يسمع وال يحفظ شيئًا‪ ،‬ومنهم من يسمع‬

‫ويحفظ أشياء‪ ،‬ومنهم من يحفظ أكثر من غيره‪ ..‬وهكذا‪ ،‬وهذه كائنة من زمن الصحابة ﭫ‪ ،‬فاألعلم هو‬

‫األحفظ‪.‬‬

‫وهذا يدل ‪-‬يا إخوة‪ -‬على أ ّن الحفظ ٌ‬


‫علم‪ .‬فحفظ السنة‪ ،‬حفظ األحاديث؛ علم‪ ،‬وليس كما يقول بعض من ال‬

‫علم عنده‪ :‬إ ّن َمن حفظ زاد نسخة‪.‬‬

‫(‪ )..‬حفظ األحاديث عن رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فهو من علوم األمة العظيمة‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫‪‬‬‫‪14‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫والحفظ هو وسيلة الفقه؛ فإن الفقه يف هذا الدين ليس فقه آراء؛ وإنما فقه أثر‪ ،‬فالبد من حفظ اآلثار حتى‬

‫يحصل الفقه لألمة‪.‬‬

‫فالنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬خطب الناس وأخربهم بما كان حتى دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار‪.‬‬
‫ٍ‬
‫روايات‬ ‫ٍ‬
‫حديث واحد‪ ،‬لكن رواه الصحابة‬ ‫وما قاله النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬نُقل إلينا‪ ،‬لكنه لم ُينقل يف‬

‫متفرقة‪ ،‬من ذلك ما جاء عن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف إخباره عن األمم السابقة وإخباره عن الرسل‪،‬‬

‫و األحاديث يف أشراط الساعة‪ ،‬واألحاديث يف الفتن‪ ،‬كلها رواها الصحابة ﭫ‪ ،‬فجاءنا هذا عن النبي ‪-‬صلى‬

‫اهلل عليه وسلم‪ -‬يف روايات متفرقة‪.‬‬

‫ويفيد هذا الحديث‪:‬‬

‫‪ ‬أ ّن الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان أحرص ما يكون على البالغ والبيان؛ فإنه ‪-‬صلى اهلل عليه‬

‫صبورا على هذا‪.‬‬


‫ً‬ ‫ناصحا لألمة‪،‬‬
‫ً‬ ‫حريصا على تبليغ ما أنزله إليه ربه‪،‬‬
‫ً‬ ‫وسلم‪ -‬كان‬

‫‪ ‬وفيه‪ :‬أنه ينبغي على العلماء وطالب العلم أن ُيبيِّنوا للناس الخير بالخير؛ ليتَّبعه الناس‪ ،‬وأن ُي ِّ‬
‫حذروا‬

‫الناس من الشر بالخير؛ ليَ ْحذره الناس‪ .‬طالب العلم ينبغى أن ُيبيِّن للناس الخير بالخير‪ ،‬يعني ُيبيِّن للناس‬
‫الخير بالسنة؛ فال ي ِ‬
‫حدث بِدعًا‪ ،‬يقول‪ :‬أريد أن أب ِّين للناس فيها الخير‪ ،‬ال وكال! ُيب ِّين للناس الخير بالخير و ُيب ِّين‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫للناس الشر بالخير ‪-‬أيضا‪ ،-‬يعني باألساليب الشرعية التي ُشرعت يف هذه الشريعة من أجل أن يكثر الخير يف‬

‫أمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬ومن أجل أن ُيجتنب الشر‪.‬‬

‫قلت مرارا‬
‫ومن ذلك أيضا‪ :‬أنه ينبغي على طالب العلم أن يحرصوا على تحذير األمة من الفتن‪ .‬وكما ُ‬

‫وتكرارا ال يحصل التحذير من الفتن إال بأمرين‪:‬‬

‫‪ ‬األمر األول‪ :‬أن نُبيّن للناس أ ّن الفتن قريبة‪ ،‬كثيرة‪ ،‬لنَحذر و َيحذر الناس‪.‬‬

‫السنة‪ ،‬وما كان عليه الصحابة‬


‫‪ ‬األمر الثاين‪ :‬أن نُبيّن للناس ُّ‬

‫‪14‬‬
‫‪‬‬‫‪15‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ألن النبي‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان أ َمنة للناس‪ ،‬وتبقى سنته أ َمنة لألمة‪ ،‬وألن الصحابة ﭫ ‪-‬كما سيأتينا‬

‫إن شاء اهلل‪ -‬كانوا أ َمنة للناس من الفتن‪ ،‬ويف آثارهم وفِ ْقههم أ َمنة للناس اليوم‪ ،‬فينبغي علينا أن نحرص على‬

‫بيان الفتن للناس‪ ،‬وعلى أن ننشر السنة بين الناس‪ ،‬وعلى أن نحرص على أن نجمع َ‬
‫الخلق على الحق؛ وهذا‬

‫من مقاصد الشريعة‪ ،‬وباجتماع الخلق على الحق تندفع الفتن والشرور‪.‬‬

‫نحن ندعو جميع المسلمين من العامة والخاصة إلى أن يتجردوا للحق‪ ،‬وأن يجتمعوا على الحق‪ ،‬واالجتماع‬

‫على الحق هو‪ :‬االجتماع على ما جمع عليه النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أصحابه؛ على التوحيد‪ ،‬وعلى‬

‫الكتاب والسنة‪ ،‬فدعوتنا إلخواننا من طالب العلم ومن العوام أن نجتمع‪ ،‬لكن أن نجتمع اجتماعًا ناف ًعا؛‬

‫كاجتماع النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مع أصحابه؛ اجتما ٌع على الحق‪ ،‬هذا إذا كنا صادقين يف أننا نريد أن‬

‫نجنِّب األمة الفتن ببذل أسباب اجتناهبا‪ .‬وفضل اهلل واسع‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ولعلنا نقف هنا الليلة‪.‬‬

‫(‪ )..‬انقطاع التسجيل‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫‪‬‬
‫‪16‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الثامن‬
‫باب في الفتنةالتي تموج كموج البحر‬

‫‪16‬‬
‫‪‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وج ك ََم ْوجِ الْ َب ْحرِ ))‬ ‫(( ب ِ ِ ِ ِ‬


‫اب في الْف ْتنَة الَّتي ت َُم ُ‬
‫َ ٌ‬

‫اهلل َع َل ْي ِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫َع ْن ُح َذ ْي َف َة رضي اهلل عنه َق َال‪ُ " :‬كنَّا ِعنْدَ ُع َم َر رضي اهلل عنه‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬أ ُّيك ُْم َي ْح َف ُظ َح ِد َ‬
‫يث َر ُسول اهلل َص َّلى ُ‬
‫ول اهللِ َص َّلى‬ ‫ت َس ِم ْع ُ‬
‫ت َر ُس َ‬ ‫َو َس َّل ْم فِي الْ ِفتْن َِة ك ََما َق َال؟ َق َال‪َ :‬ف ُق ْل ُ‬
‫ت‪َ :‬أنَا‪َ ،‬ق َال‪ :‬إِن َ‬
‫َّك لَ َجرِي ٌء! َو َك ْيفَ َق َال؟ َق َال‪ُ :‬ق ْل ُ‬
‫ول‪« :‬فِتْنَ ُة الرج ِل فِي َأه ِل ِه‪ ،‬ومالِ ِه‪ ،‬و َن ْف ِس ِه‪ ،‬وولَ ِد ِه‪ ،‬وج ِ ِ‬
‫هلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم َي ُق ُ‬
‫الصالَةُ‪،‬‬ ‫اره‪ُ ،‬ي َك ِّف ُر َها‪ِّ :‬‬
‫الص َيا ُم َو َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ا ُ‬
‫وف‪َ ،‬والن َّْه ُى َع ِن الْ ُمنْ َكرِ»‪َ .‬ف َق َال ُع َم ُر رضي اهلل عنه‪ :‬لَ ْي َس َه َذا ُأ ِريدُ ؛ إِن ََّما ُأ ِريدُ الَّتِي‬
‫والصدَ َقةُ‪ ،‬واألَمر بِالْمعر ِ‬
‫َ ْ ُ َ ُْ‬ ‫َ َّ‬

‫اب َأ ْم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫ين؟ إِ َّن بَيْن ََك َوبَيْن ََها بَابًا ُم ْغ َل ًقا‪َ ،‬ق َال‪َ :‬أ َفيُك َْس ُر الْبَ ُ‬
‫ك َولَ َها َيا َأم َير الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫وج ك ََم ْوجِ الْبَ ْحرِ‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف ُق ْل ُ‬
‫ت‪َ :‬ما لَ َ‬ ‫ت َُم ُ‬

‫ي َأ ْن الَ ُي ْغ َل َق َأبَدً ا‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف ُق ْلنَا لِ ُح َذ ْي َفةَ‪َ :‬ه ْل كَا َن ُع َم ُر َي ْع َل ُم َم ِن‬ ‫ت‪َ :‬ال؛ بَ ْل ُي ْك َس ُر‪َ .‬ق َال‪َ :‬ذلِ َ‬
‫ك َحرِ ٌّ‬ ‫ُي ْفت َُح؟ َق َال‪ُ :‬ق ْل ُ‬
‫الْباب؟ َق َال‪َ :‬نعم‪ ،‬كَما يع َلم َأ َّن دو َن غ ٍَد ال َّلي َلةَ‪ ،‬إِنِّي حدَّ ْثتُه ح ِديثًا لَيس بِاألَ َغالِ ِ‬
‫يط‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف ِهبْنَا َأ ْن ن َْسأَ َل ُح َذ ْي َف َة َم ِن‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ َْ ُ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫اب‪َ ،‬ف ُق ْلنَا لِ َم ْس ُر ٍ‬
‫وق‪َ :‬س ْل ُه‪َ ،‬ف َسأَلَ ُه‪َ ،‬ف َق َال‪ُ :‬ع َم ُر" رضي اهلل عنه‪.‬‬ ‫الْبَ ُ‬

‫يث‪ ،‬بِن َْح ِو َح ِديثِ ِه ْم ))‬


‫و َعنْه رضي اهلل عنه َق َال‪َ :‬ق َال ُع َم ُر‪َ :‬م ْن ُي َحدِّ ُثنَا َع ِن الْ ِفتْن َِة؟ َوا ْقت ََّص الْ َح ِد َ‬

‫السر‪ ،‬وهو أعلم الصحابة بالفتن‪ -‬كان يف مجل ٍ‬


‫س من‬ ‫حذيفة رضي اهلل عنه ‪-‬كما قدّ منا‪-‬؛ هو صاحب ِّ‬
‫مجالس عمر رضي اهلل عنه ‪ ،‬فقال عمر رضي اهلل عنه مخاطبًا الصحابة‪ :‬أ ُّيكم يحفظ حديث رسول اهلل‪-‬صلى‬

‫اهلل عليه وسلم‪ -‬يف الفتنة؟ ما الدليل أ ّن الخطاب للصحابة؟ الدليل‪ :‬أهنم هم الذين ُيخا َطبون بالسؤال عن‬

‫رواية أخرى عن حذيفة‪ :‬أنه َق ِد َم من عند عمر فقال‪ :‬سأل‬


‫ٍ‬ ‫حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأنه جاء يف‬

‫عمر باألمس أصحاب محمد‪ :‬أ ُّيكم سمع قول رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف الفتنة؟‬

‫قوله رضي اهلل عنه لحذيفة‪(( :‬إِن ََّك َل َج ِري ٌء)) ويف رواية قال له‪(( :‬إنك عليه لجريء))؛ هذا أيها اإلخوة ليس‬

‫مدح له؛ أل ّن الجراءة يف لغة‬ ‫ِ‬


‫إنك لشجا ٌع مقدا ٌم على األمر ال َتها ُبه؛ فهو ٌ‬
‫ذ ًّما لحذيفة ﭬ؛ وإنما معنى الجملة‪َ :‬‬

‫العرب‪ :‬هي الشجاعة‪ ،‬والجريء‪ :‬هو الذي ال يهاب؛ المقدام‪ ،‬فعمر رضي اهلل عنه يمدح حذيفة رضي اهلل عنه‬
‫قائال له‪ :‬إنك ِ‬
‫لمقدا ٌم شجا ٌع ال هتاب‪.‬‬ ‫ً‬

‫‪17‬‬
‫‪‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وقول النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬فِتْنَ ُة الرج ِل فِي َأ ْهلِ ِه‪ ،‬ومال ِ ِه‪ ،‬ونَ ْف ِس ِه‪ ،‬وو َل ِد ِه‪ ،‬وج ِ ِ‬
‫اره‪ُ ،‬ي َك ِّف ُر َها‪ِّ :‬‬
‫الص َيا ُم‪،‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ ُ‬

‫َن ا ْل ُمنْ َك ِر»‪ ،‬تقدَّ م معنا ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬الكالم عن الفتن‬ ‫والصالَةُ‪ ،‬والصدَ َقةُ‪ ،‬واألَمر‪ ،‬بِا ْلمعر ِ‬
‫وف‪َ ،‬والنَّ ْه ُى ع ِ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َّ‬

‫ص الرجل‬ ‫وأنواعها يف المحيا والممات‪ ،‬والمراد باألهل هنا‪ :‬الزوجات‪ ،‬ألنه ذكر مع األهل األوالد‪ُ .‬‬
‫وخ ّ‬

‫الحكم يف داره‪ ،‬وإال فالنساء شقائق الرجال‪ ،‬وحكم‬ ‫ِّ‬


‫بالذكر هنا ‪-‬قال‪ :‬فتنة الرجل‪ -‬ألنه يف الغالب صاحب ُ‬

‫المرأة حكم الرجل؛ ُتفتَن يف زوجها وولدها ومالها وجيراهنا‪ ،‬فليس هذا من باب تخصيص الرجال؛ وإنما من‬

‫باب ذكر الغالب؛ الغالب أ ّن الرجل هو الذي يكون َح ً‬


‫كما يف داره‪.‬‬

‫وفتنة الرجل يف أهله‪ ،‬وماله‪ ،‬ونفسه‪ ،‬وولده‪ ،‬وجاره؛ أنواع‪:‬‬

‫وقد تقدّ م معنا ‪-‬يا إخوة‪ -‬أ ّن اإلنسان قد ُيفتن بولده‪ ،‬وقد ُيفتن يف ولده‪ ،‬وقد ُيفتن من ولده‪ ،‬فهي أنواع؛ منها‪:‬‬

‫فرط محبته ألوالده واشتغاله هبم عن الخير‪ ،‬فقد يشتغل اإلنسان بأوالده ويرتك الخير‪ ،‬فكم من طالب ٍ‬
‫علم‬

‫صوا ًما على‬ ‫ٍ‬


‫كان ُمكبًّا على طلب العلم تزوج فأنجب فاشتغل بأوالده عن طلب العلم! وكم من عابد كان ّ‬

‫قوا ًما على السنة تزوج فأنجب فاشتغل بأوالده عن هذا الخير! فهم فتنة من هذا الباب‪.‬‬
‫السنّة َّ‬

‫وقد روى الرتمذي وغيره‪ ،‬واللفظ للرتمذي‪ ،‬وصححه األلباين؛ قال‪)) :‬كان النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬

‫َيخطبنا؛ إذ جاء الحسن والحسين ﭭ‪ ،‬عليهما قميصان أحمران‪ ،‬يمشيان ويعثران‪ ،‬فنزل رسول اهلل ‪-‬صلى‬

‫اهلل عليه وسلم‪ -‬من المنرب‪ ،‬فحملهما ووضعهما بين يديه؛ وقال‪« :‬صدق اهلل‪ ﴿ :‬إِن ََّما َأ ْم َوا ُل ُك ْم َو َأ ْو َال ُدك ُْم‬

‫قطعت حديثي‬
‫ُ‬ ‫نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصرب حتى‬
‫ُ‬ ‫فِتْنَ ٌة ۚ ﴾ [التغابن ‪]1٥ :‬؛‬

‫ورفعتهما»‪ ،‬ثم أخذ يف الخطبة ((‬

‫النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يخطب خطبة يف أصحابه‪ ،‬فجاء ابناه‪ :‬الحسن والحسين‪ ،‬وهو جدهما صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهما صغيران يمشيان ويتعثران‪ ،‬انظروا النبي صلى اهلل عليه وسلم يف ٍ‬
‫أمر عظيم؛ يخطب‪،‬‬

‫وفسر هذا من الفتنة‪.‬‬ ‫لكنه َّ‬


‫رق فنزل وحملهما‪ ،‬وذكر اآلية‪َّ ،‬‬

‫‪18‬‬
‫‪‬‬‫‪19‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫فالولد قد يشغل والده عن الخير؛ أل ّن قلبه يتعلق به‪ ،‬أو لتفريطه بما يلزم من القيام‪ ،‬قد تكون فتنة الولد يف‬

‫تفريط األب فيما يلزم من القيام بحقوق األوالد‪ ،‬ألن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬كلكم راعٍ‪ ،‬وكلكم‬
‫مسئول عن رعيته»‪ ،‬وثبت عنه يف الصحيحين أنه قال‪« :‬ما من ٍ‬
‫عبد يسرتعيه اهلل رعي ًة يموت يوم يموت وهو‬ ‫ٌ‬
‫غاش لرعيته؛ إال حرم اهلل عليه الجنة»؛ «ما من ٍ‬
‫عبد يسرتعيه اهلل رعية» وهذا يشمل كل من اسرتعاه اهلل رعية‬ ‫ٌّ‬

‫ومنهم الوالد‪« ،‬يموت يوم يموت وهو ٌّ‬


‫غاش لرعيته إال حرم اهلل عليه الجنة» فهو متو َّعدٌ هبذا الوعيد الشديد ‪-‬‬

‫والعياذ باهلل‪ ،-‬فقد تكون الفتنة من هذا الباب‪.‬‬

‫حريصا على الطاعة‪،‬‬


‫ً‬ ‫وقد تكون فتنة الرجل بولده بأن يعصي اهلل عز وجل من أجل ولده‪ ،‬فكم من رج ٍل كان‬

‫محرمة؛ من أجل أوالده‪ ،‬إ ّما من آالت المالهي‬


‫محرمة كان يرى أهنا َّ‬ ‫ٍ‬
‫بأمور َّ‬ ‫فلما أنجب ُفتن بأوالده‪ ،‬فجاء‬
‫ّ‬
‫المحرمة أو أشرطة الغناء أو نحو ذلك من المحرمات‪ ،‬فيكون الولد فتن ًة له‪.‬‬
‫َّ‬
‫والفتنة باألهل ‪-‬أي بالنساء‪:-‬‬

‫• قد تقع بالميل إليه ّن‪،‬‬

‫• وقد تقع بالميل عنه ّن‪،‬‬

‫• قد تقع بالميل إليهن؛ فينشغل اإلنسان هبن عن الخيرات‪،‬‬

‫• وقد تقع بالميل عنهن؛ إذا تزوج الرجل أكثر من امرأة فيميل إلى واحدةٍ ويدع األخرى‪،‬‬

‫فهذا ُفتن بأهله‪.‬‬

‫والفتنة بالمال‪:‬‬

‫➢ قد تقع يف طريق كسبه‪،‬‬


‫التصرف به؛ بحيث ال ُي ِ‬
‫خرج حق اهلل فيه‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫➢ وقد تقع يف طريق‬

‫والفتنة بالجار‪:‬‬

‫▪ قد تقع بالحسد بين جارين‪،‬‬

‫‪19‬‬
‫‪‬‬‫‪20‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫▪ وقد تقع بالمزاحمة يف الحقوق‪،‬‬

‫▪ وقد تقع بإهمال الحقوق‪ ،‬وقد تقع بإهمال الحقوق‪ ،‬وقد تقع بعدم الصرب على‬

‫أذية الجار‪.‬‬

‫*وليست الفتنة ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬محصور ًة فيما ذكرنا‪ ،‬ولكنها أمثلة‪.‬‬

‫عظيما؛ قالوا‪ :‬كل ما َيشغل صاحبه عن اهلل فهو فتنة‪ ،‬فيدخل يف ذلك من ُذكر‬
‫ً‬ ‫ولذلك؛ ذكر أهل العلم ضاب ًطا‬

‫و َمن لم ُيذكر‪.‬‬

‫طبعا أيها اإلخوة؛ فتنة المسلم بالولد واألهل والمال والجار قد توقعه يف المعاصي وقد ال توقعه‪ ،‬فقد يقع يف‬
‫المعصية‪ ،‬وهذه المعاصي ذنوب يرجى تكفيرها بالحسنات‪ ،‬كما قال اهلل عز وجل‪ ﴿ :‬إِ َّن ا ْلحسن ِ‬
‫َات ُي ْذ ِه ْب َن‬ ‫َ َ‬ ‫ٌ ُ‬
‫السيئ ِ‬
‫َات ﴾ [هود‪.]114 :‬‬ ‫َّ ِّ‬

‫وأ ّما تخصيص الصالة وما ُذكر معها للتكفير دون سائر العبادات؛ ففيه إشار ٌة إلى تعظيم قدرها‪ ،‬ال من أجل‬

‫نفي التكفير عن غيرها‪ ،‬بل غيرها ُيك ِّفر ً‬


‫أيضا؛ لكنها ُخ َّصت لبيان عظيم قدرها‪ ،‬فذكر النبي صلى اهلل عليه‬

‫وسلم من عبادة األفعال‪ :‬الصالة والصيام‪ ،‬وذكر من عبادة المال‪ :‬الصدقة‪ ،‬وذكر من عبادة األقوال‪ :‬األمر‬

‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬فهذا يدخل فيه كل عبادة؛ لكن ُخ َّصت هذه لعظيم قدرها‪.‬‬

‫بم يحصل؟‬
‫ط ّيب؛ هذا التكفير‪َ ،‬‬
‫قال بعض أهل العلم‪ :‬يحصل هبذه العبادات‪ ،‬فإذا صلى؛ ُك ِّفرت عنه هذه السيئات‪ ،‬إذا تصدّ ق؛ ُك ّفرت عنه هذه‬

‫السيئات‪ ،‬وهذا الصحيح‪.‬‬


‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬بالموازنة‪ ،‬ما معنى الموازنة؟ أي أ ّن هذه حسنات َت ِ‬
‫رج ُح بتلك السيئات؛ مع بقاء تلك‬

‫السيئات‪.‬‬

‫ف ِه ْمتم ‪-‬يا إخوة‪ -‬الفرق بين القولين؟‬

‫▪ القول األول‪ :‬معناه أ ّن السيئات ُتمحى بالصالة‪ ،‬والصيام‪ ،‬والصدقة‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫‪‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ِ‬
‫وقوله رضي اهلل عنه ‪-‬أعني عمر ﭬ‪ُ (( :-‬أ ِريدُ ا َّلتي َت ُم ُ‬
‫وج ك ََم ْوجِ ا ْل َب ْح ِر))‪ ،‬والعياذ باهلل‪ ،‬أي‪ :‬تضطرب‪،‬‬

‫بعضا‪ ،‬وش َّبهها بموج البحر؛ لشدهتا‪ ،‬وكثرهتا‪ ،‬وصعوبة النجاة منها‪ ،‬كموج البحر‪ ،‬اإلنسان قد‬
‫و َيدفع بعضها ً‬

‫سليما لكن يأتيه الموج فيجرفه‪ ،‬وال يستطيع أن ير ّده‪.‬‬


‫ً‬ ‫يسير يف البحر‬

‫قال‪َ (( :‬ف َأ ْس َك َت ا ْل َق ْو َم)) أي صمت القوم؛ ألهنم لم يكونوا يحفظون هذا النوع‪ .‬تقدم معنا ‪-‬يا إخوة‪ -‬أ ّن‬

‫حذيفة رضي اهلل عنه ذكر أ ّن الذين شاركوه يف معرفة هذه الفتن قد ماتوا‪ ،‬فسكت القوم ألنه لم يكن منهم َمن‬

‫َيعلم تلك الفتن‪.‬‬

‫فقال حذيفة رضي اهلل عنه لعمر رضي اهلل عنه‪َ (( :‬ما َل َك َو َل َها َيا َأمِ َير ا ْل ُمؤْ مِنِي َن؟ إِ َّن َب ْين ََك َو َب ْينَ َها َبا ًبا ُم ْغ َل ًقا))‬

‫فمعنى هذا أ ّن حذيفة ﭬ أخرب عمر ﭬ أ َّن الفتن لن تقع يف األمة وعمر ﭬ موجود‪ ،‬فال يخرج منها شيء‬

‫يف حياة عمر ﭬ‪ ،‬يعني الفتن الكربى العظمى‪.‬‬

‫و"الباب" جاء أنه‪ :‬عمر بن الخطاب ﭬ ‪-‬كما سيأيت‪.-‬‬

‫اب َأ ْم ُيفت َْح؟))؛ً قال بعض أهل العلم‪ :‬ليَعلم عمر هل هذه الفتن يمكن أن ُتغ َلق أو ال‬
‫قال‪(( :‬أ ُي ْك َس ُر ا ْلبَ ُ‬

‫يمكن؟ ألنه لو قال‪ُ :‬يفتح؛ فهذا يدل على عدم ِع َظم الفتنة‪ ،‬ويدل على أنه يمكن أن ُيغلق مرة أخرى‪ ،‬لكن إذا‬

‫قال‪" :‬أنه ُيكسر"؛ فهذا أوال‪ :‬يدل على عظم الفتنة وأهنا تكون عن مغا َلبة‪ ،‬ثم يدل أهنا لن ُتغلق بعد ذلك أبدً ا‪،‬‬

‫فأخربه حذيفة ﭬ أنه ُيكسر‪.‬‬

‫وجاء يف بعض الروايات يف مسلم يف كتاب اإليمان ‪-‬وقد تقدَّ م‪ -‬قول حذيفة ﭬ‪" :‬وحدّ ثتُه أ ّن ذلك الباب‪:‬‬

‫صرح؛ قال‪ُ :‬يكسر‪ ،‬لكن يف التصريح جاء بـ "أو"‪ .‬قال العلماء‪ :‬قوله‪" :‬‬ ‫ٌ‬
‫رجل ُيقتل أو يموت"‪ ،‬فهو يف الكناية َّ‬
‫ُيقتل أو يموت"؛‬

‫‪ ‬إ ّما حذيفة ﭬ سمع ذلك من الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بـ "أو"؛ وهذا مرجوح‪.‬‬

‫‪ ‬أو أنه لم ُي ِرد أن ُيخرب عمر ﭬ أنه ُيقتَل‪ ،‬أل ّن عمر ﭬ كان يعلم أنه الباب‪ ،‬فلم ُي ِرد أن يقول له‪َ :‬‬
‫إنك‬

‫ستُقتل‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫‪‬‬‫‪22‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫‪ ‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬ال‪ ،‬لكن لعل حذيفة ﭬ لم يكن مأذونًا له يف الخرب‪ ،‬فقال‪ُ " :‬يقتل أو يموت"؛‬

‫أل ّن الرجل إ ّما أن ُيقتل وإ ّما أن يموت‪ ،‬فذكر ما يمكن أن يقال يف هذا الباب‪.‬‬

‫يقول العلماء‪ :‬الفتن كالدار‪ ،‬والباب‪ :‬عمر ﭬ‪ ،‬الفتن محبوسة يف دار‪ ،‬والباب عمر‪ ،‬فإذا ُقتل عمر‬

‫ﭬ خرجت الفتن‪.‬‬

‫وقول حذيفة ﭬ‪(( :‬ح ِديثًا َليس بِاألَغَال ِ ِ‬


‫يط))‪:‬‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬

‫األغاليط‪ :‬جمع ُأغلوطة‪ ،‬وهي التي ُيغا َلط هبا‪ ،‬فمعناه‪ :‬حدَّ ْثتُه حديثًا عن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬ليس‬

‫حديث مح َّق ٌق عن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫هو من أحاديث أهل الكتاب وليس من اجتهادي؛ وإنما‬

‫والحاصل أيها اإلخوة؛ أ ّن الحائل بين الفتن والمسلمين‪ :‬كان عمر ﭬ؛ وهو الباب‪ ،‬فما دام ح ًّيا ال تدخل‬

‫الفتن العظيمة على المسلمين‪ ،‬فإذا مات دخلت الفتن‪ ،‬وكذا كان‪ ،‬فإ ّن ّأول الفتن العظيمة يف ديار اإلسالم‬

‫كانت بعد موت عمر ﭬ‪ ،‬وهي الفتنة يف خروج أولئك القوم عن طاعة عثمان ﭬ‪.‬‬

‫ويف الحديث يا إخوة؛ أ ّن عمر ﭬ َأ َمنَة للمسلمين من الفتنة‪ ،‬وكذلك أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عله‬

‫وسلم فإهنم َأ َمنَة للناس من الفتنة‪.‬‬

‫فمن أراد اليوم األَمنة من الفتنة‪ :‬فعليه بمنهج الصحابة ﭫ؛ فإ ّن صحابة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َأمنَة‬
‫َ‬
‫لألُ َّمة‪.‬‬

‫فمن أراد األ َمنة فعليه بالسنة‪ ،‬والصحابة ﭫ كانوا‬


‫وقد مات الرسول صلى اهلل عليه وسلم لكن بقيت ُسنَّته‪َ ،‬‬
‫َأمنة لألمة وماتوا؛ لكن بقيت سيرهتم‪ ،‬فمن أراد األَمنَة فعليه بمنهج الصحابة ﭫ‪.‬‬

‫مسلم يف صحيحه‪ ،‬أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪« :‬النجوم َأمنَ ٌة للسماء‪ ،‬فإذا ذهبت النجوم أتى‬
‫ٌ‬ ‫روى‬

‫ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون‪ ،‬وأصحابي َأمنَ ٌة ألمتي‪ ،‬فإذا ذهب‬


‫ُ‬ ‫السماء ما توعَد‪ ،‬وأنا َأمنَ ٌة ألصحابي‪ ،‬فإذا‬

‫‪22‬‬
‫‪‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»‪ ،‬فجعل النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬نسبة أصحابه إلى األمة كنسبته‬

‫ألصحابه‪ ،‬وكنسبة النجوم إلى السماء‪.‬‬

‫األمة من وجوب اهتداء‬


‫قال ابن القيم ‪" :$‬ومن المعلوم أ ّن هذا التشبيه ‪-‬وانتبهوا لهذا يا إخوة‪ -‬يعطي ّ‬
‫وأيضا فإنه‬
‫نظير اهتدائهم بنبيِّهم ‪-‬صلى اهلل عليه سلم‪ ،-‬ونظير اهتداء أهل األرض بالنجوم‪ً ،‬‬
‫األمة بهم ما هو ُ‬
‫ِ‬
‫جعل بقاءهم بين األمة َأ َمنة لهم وحرزًا من ِّ‬
‫الشر وأسبابه"‪.‬‬

‫وهذا ‪-‬يا إخوة‪ -‬هو الذي يجعل أهل الحق يقولون‪ :‬إ ّن الحق يف األمة هو‪ :‬باألخذ بمنهج الصحابة ﭫ‪ ،‬هذا‬

‫بحر ال ساحل له‪.‬‬


‫أحد األدلة؛ وإال فاألدلة ٌ‬
‫فإذا أرا َدت األ َّمة السالمة واألَمنَة والعزَّ ة‪ :‬فعليها أن تتمسك بكتاب اهلل وسنة رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه‬

‫وسلم‪ -‬على َفهم الصحابة ﭫ؛ فهذا فيه األَمنَة لهذه األمة‪.‬‬

‫واألحاديث المذكورة يف هذا الباب من حديث حذيفة ﭬ تتع ّلق بإخباره ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عن ٍ‬
‫أمور‬

‫وقعت بعد وفاته صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫ت‪ :‬لَ ُي َه َرا َق َّن الْ َي ْو َم َها ُهنَا دِ َما ٌء‪َ .‬ف َق َال َذ َ‬
‫اك‬ ‫ْت َي ْو َم الْ َج َر َع ِة‪َ ،‬فإِ َذا َر ُج ٌل َجالِ ٌس‪َ ،‬ف ُق ْل ُ‬
‫ب ﭬ َق َال‪ِ :‬جئ ُ‬
‫(( وعن ُجنْدُ ٍ‬

‫ول اهللِ َص َّلى‬


‫يث رس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‪َ :‬ب َلى َواهللِ‪َ .‬قال‪َ َ:‬كالَّ َواهللِ‪ُ .‬ق ْل ُ‬
‫ت‪َ :‬ب َلى َواهلل‪َ .‬ق َال‪َ :‬كالَّ َواهلل‪ ،‬إِ َّن ُه لَ َحد ُ َ ُ‬ ‫الر ُج ُل‪َ :‬كالَّ َواهللِ‪ُ .‬ق ْل ُ‬
‫َّ‬
‫ول اهللِ‬
‫ك َو َقدْ س ِم ْعتَ ُه ِم ْن رس ِ‬
‫ْت‪ُ ،‬من ُْذ الْ َي ْوم ت َْس َم ُعنِي ُأخَ الِ ُف َ‬
‫يس لِي َأن َ‬ ‫اهلل ع َلي ِه وس َّلم حدَّ َثن ِ ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‪ :‬بِئ َْس الْ َج ِل ُ‬
‫يه‪ُ .‬ق ْل ُ‬ ‫ُ َ ْ َ َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم َفالَ َتن َْهانِي؟! ُث َّم ُق ْل ُ‬
‫ت َع َل ْيه َو َأ ْسأَلُ ُه؛ َفإِ َذا َّ‬
‫الر ُج ُل ُح َذ ْي َف ُة ﭬ))‪.‬‬ ‫ب؟ َفأَ ْق َب ْل ُ‬
‫ت‪َ :‬ما َه َذا الْغ ََض ُ‬ ‫َص َّلى ُ‬

‫((جئ ُْت َي ْو َم ا ْل َج َرع َِة‪َ ،‬فإِ َذا َر ُج ٌل َجال ِ ٌس‪-‬لم يعرفه‪َ ،-‬ف ُق ْل ُت‪َ :‬ليُ َه َرا َق َّن ا ْليَ ْو َم َها‬
‫أمرا؛ قال‪ِ :‬‬
‫جندب يحكي ً‬
‫الر ُج ُل‪َ :‬كالَّ َواهللِ ‪-‬ال يقع‪ُ .-‬ق ْل ُت‪ :‬بَ َلى َواهللِ ‪-‬سيقع‪َ .-‬قال‪َ :‬كالَّ َواهللِ‪-‬ال يقع‪ُ .-‬ق ْل ُت‪ :‬بَ َلى‬ ‫ُهنَا دِ َما ٌء‪َ .‬ف َق َال َذ َ‬
‫اك َّ‬
‫َواهللِ)) انتبهوا يا إخوة؛ كان جندب يحلف أنه سيقع‪ ،‬وحذيفة ﭬ يحلف أنه لن يقع‪ ،‬وك ُّرر ذلك‪ ،‬لكن‬
‫ول اهللِ ص َّلى اهلل َع َلي ِه وس َّلم حدَّ َثن ِ ِ‬
‫يه))‪ ،‬هل قال جندب‪:‬‬ ‫انظروا ماذا وقع؟! (( َق َال‪َ :‬كالَّ َواهللِ‪ ،‬إِنَّ ُه َل َح ِد ُ‬
‫يث َر ُس ِ‬
‫ُ ْ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬

‫‪23‬‬
‫‪‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫بلى واهلل؟ ال! ألهنا السنة‪ ،‬والقوم و َّقافون عند السنة‪َ ،‬ل ّما كان األمر إلى الرأي فيما ظهر له والنظر يف األمور‬

‫لما جاءت السنة وقف؛ بل غضب‪ ،‬غضب على هذا الرجل وقال له‪(( :‬بِئ َْس‬ ‫ِ‬
‫كان ُيخالف ويقول‪ :‬سيقع‪ ،‬لكن ّ‬
‫يس لِي َأن َْت)) لماذا؟‬
‫ا ْل َجلِ ُ‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫قال‪ُ (( :‬من ُْذ ا ْليَ ْو ِم َت ْس َم ُعني ُأ َخال ُف َك‪ -‬ويف رواية‪ :‬أحالفك؛ يعني نحلف‪َ -‬و َقدْ َسم ْعتَ ُه م ْن َر ُسول اهلل َص َّلى ُ‬
‫اهلل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قلت لنفسي‪ :‬ما هذا الغضب؟ أل ّن‬ ‫َع َليْه َو َس َّلم َفالَ َتنْ َهاني؟!))‪ ،‬قال‪ُ (( :‬ث َّم ُق ْل ُت‪َ :‬ما َه َذا ا ْلغ ََض ُ‬
‫ب؟)) يعني ُ‬

‫الغضب مذموم‪ ،‬وعند الحاكم يف المستدرك‪( :‬قال لي‪ :‬ما َلك وللغضب؟) يعنى حذيفة هو الذي قال‪ :‬ما َ‬
‫لك‬

‫فأقبلت عليه أسأله؛ فإذا الرجل حذيفة ﭬ‪.‬‬


‫ُ‬ ‫وللغضب؟ ال تغضب‪ ،‬قال‪:‬‬

‫الج َرعَة ‪-‬يا إخوة‪ :-‬مكا ٌن ُم ِ‬


‫شرف‪ ،‬قريب من الكوفة‪ .‬ويوم الجرعة وقع يف عام أرب ٍع وثالثين من الهجرة‪ ،‬يف‬ ‫َ‬

‫زمن عثمان ﭬ‪ ،‬حيث تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان ﭬ يف األقطار وثاروا على ُوالهتم يف األقطار‪،‬‬

‫وكان أكثرهم يف الكوفة‪ ،‬فثاروا على سعيد بن العاص أمير الكوفة لعثمان ﭬ‪ ،‬وأرسلوا إلى عثمان ﭬ‬

‫عماله؛ فثقل األمر على‬ ‫سال‪ ،‬نالوا منه ومن أمرائه‪ ،‬وذ ّموه‪ ،‬وقدحوا فيه‪ ،‬وذ ّموا األمراء‪ ،‬وطلبوا أن ِ‬
‫يعزل ّ‬ ‫ُر ً‬

‫عثمان ﭬ‪ ،‬فدعا أمراءه للتشاور‪ ،‬فجاؤوا‪ ،‬منهم‪ :‬معاوية ﭬ‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬وسعيد بن العاص‪..‬‬

‫فاشت ََوروا واستقر الرأي على أن ُيقر عثمان ﭬ أمرا َءه يف أماكنهم‪ ،‬وأن يتأ َّلف هؤالء بالمال‪ ،‬وأن‬
‫وغيرهم‪ْ ،‬‬

‫وجههم إلى الجهاد يف األطراف‪ .‬فرجع سعيد بن العاص إلى الكوفة‪ ،‬فثار أولئك القوم يف الكوفة‪ ،‬ولبسوا‬
‫ُي ِّ‬
‫ٍ‬
‫بمكان يقال له‬ ‫أميرا غيره‪ ،‬وكان اجتماعهم‬
‫أسلحتهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬واهلل ال يدخل هذا الوالي الكوفة‪ ،‬وطلبوا ً‬
‫لما رأى أ ّن‬
‫الج َرعَة؛ فقيل له‪" :‬يوم الجرعة"‪ .‬فوقع هذا الحديث‪ ،‬جندب ‪-‬رضي اهلل عنه وأرضاه ورحمه‪ّ -‬‬
‫َ‬

‫علم‬
‫هؤالء القوم لبسوا السالح وخرجوا وسعيدٌ قادم؛ قال‪ :‬سيقع قتال وستهراق الدماء‪ ،‬فحذيفة ﭬ عنده ٌ‬
‫من رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فقال‪ :‬كال واهلل‪ ،‬لن يقع!‪ ،‬فقال جندب‪ :‬بلى واهلل‪ ،‬سيقع! فقال حذيفة‪:‬‬

‫كال واهلل‪ ،‬لن يقع!‪ ،‬ثم ب ّين حذيفة أ ّن ذلك من خرب رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وقد وقع األمر كما قال‬

‫‪24‬‬
‫‪‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫أميرا غيره‪،‬‬
‫حذيفة‪ ،‬فأحجم سعيد بن العاص عن قتالهم ورجع إلى المدينة وكسر الفتنة‪ ،‬وأرسل عثمان ﭬ ً‬
‫شرهم‪ ،‬لكن فتنة هذا األمر انطفأت‪.‬‬
‫الشر استمروا يف ِّ‬
‫فانطفأت الفتنة يف ذلك الوقت‪ ،‬وإال فأهل ِّ‬

‫يس لِي َأن َْت‪ُ ،‬من ُْذ ا ْليَ ْوم َت ْس َم ُعنِي ُأ َخال ِ ُف َك؟!))؛ يعني أخالفك يف هذا األمر‪ .‬ويف رواية‪:‬‬
‫قوله‪(( :‬بِئ َْس ا ْل َجلِ ُ‬

‫(( ُأ َحال ِ ُف َك))؛ أي ُأ ْقسم األيمان معك‪ ،‬وهذا هو األقرب؛ لكثرة الحلف فيما بينهما‪.‬‬

‫ويف هذا األثر أيها اإلخوة؛ بيان أ ّن السلف كانوا و َّقافين عند النصوص‪ ،‬فلم يكونوا يقدِّ مون العواطف وال‬

‫أخذت األمة‬
‫ْ‬ ‫األهواء وال اآلراء؛ بل كانوا يرجعون عن آرائهم إلى النصوص‪ ،‬وهذا هو طريق السالمة‪ .‬أ ّما إذا‬

‫كثير من المتأخرين يف عدم‬ ‫طري ًقا آخر فكان تقديم اآلراء على النصوص فإ ّن ذلك سبب ٍ‬
‫فرقة ٍّ‬
‫وذل‪ .‬وقد وقع ٌ‬
‫الوقوف عند النصوص؛ ففي األحكام؛ يسمع المسلم النص الصحيح الصريح ويأبى أن يعمل به؛ يسمع‬

‫الحنفي ‪-‬مثال‪ -‬أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ :-‬كان يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع من الركوع وعند‬
‫ُّ‬
‫القيام من التشهد األوسط يف أحاديث صحاح مثل الشمس‪ ،‬فيقول‪ :‬ال‪ ..‬ال‪ ،‬أنا ال أرفع‪ ،‬بل بعضهم يسيء‬

‫األدب؛ حتى قال بعضهم‪ :‬ماذا يريد بالرفع؟ أيريد أن يطير؟!‬


‫ويقول ‪-‬مثال‪ -‬المالكي‪ :‬أنا ال أقبض وأنا قائم قبل الركوع بل ُأ ِ‬
‫رسل فيسمع الحديث يف الصحيحين ويف‬

‫موطأ اإلمام مالك‪ :‬أن ّالنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان يقبض؛ يقول‪ :‬ال‪ ..‬ال‪.‬‬

‫مثال‪ -‬ويعلم أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ما ذبح هديه إال يوم النحر فيقول‪ :‬ال‪ ،‬نذبح‬
‫ويأيت الشافعي ‪ً -‬‬

‫قبل يوم النحر‪ ،‬مع وضوح النص عنده‪.‬‬

‫ويأيت الحنبلي ‪-‬مثال‪ -‬ويقول‪ :‬أنا أقبض على السرة وأنا قائم ويسمع بالنص الصحيح الصريح أ ّن النبي ‪-‬‬

‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :-‬كان يضع اليمنى على اليسرى على صدره‪ ،‬ويقول‪ :‬ال‪ ..‬ال‪.‬‬

‫ال شك أ ّن هذا ليس من هنج السلف ﭫ‪.‬‬

‫است ََو ٰى ﴿‪[ ﴾٥‬طه‪َ ﴿ ،]٥ :‬أ َأمِنتُم َّمن‬


‫ش ْ‬‫الر ْح َمـٰ ُن َع َلى ا ْل َع ْر ِ‬
‫األشعري قول اهلل عز وجل‪َّ ﴿ :‬‬
‫ُّ‬ ‫ويف العقيدة يسمع‬
‫فِي السم ِ‬
‫اء ﴾ [الملك‪]1٦ :‬؛ ويقول‪ :‬ال‪ ،‬اهلل يف كل مكان‪ ،‬و ﭽ ﮌﭼ يعني‪ :‬استولى! يسمع سؤال النبي ‪-‬صلى‬ ‫َّ َ‬
‫‪25‬‬
‫‪‬‬‫‪26‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ٍ‬
‫ألحد أن يسأل‪ :‬أين اهلل! كأنه أعلم باألحكام من رسول‬ ‫اهلل عليه وسلم‪ -‬للجارية‪ :‬أين اهلل؟ فيقول‪ :‬ال يجوز‬

‫اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ !-‬وتشير الجارية بأصبعها وتقول‪ :‬يف السماء‪ ،‬فيقول‪« :‬من أنا؟» فتقول‪ :‬أنَت رسول‬

‫لقطعت‬
‫ُ‬ ‫اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيقول‪« :‬اِعْتقها؛ فإهنا مؤمنة»‪ ،‬يأيت األشعري ويقول‪ :‬ال! لو ُ‬
‫كنت عندها‬

‫أصبعها؛ كيف تشير؟!‬

‫يف التعامل بين المسلمين كان أحد من ال يعرف حق والة األمر على الرعية؛ ذكرنا له األحاديث التي يف‬

‫الصحيحين أو يف أحدهما من األمر بالطاعة‪ ،‬وقول النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬سيكون فيكم أمراء‪ ،‬ال‬

‫أناس قلوهبم قلوب شياطين يف جثمان إنس»‪ ،‬قال حذيفة ﭬ‬


‫يهتدون هبداي‪ ،‬وال يستنون بسنتي‪ ،‬يقوم فيهم ٌ‬

‫أدركت ذلك؟! قال‪« :‬تسمع وتطيع لألمير‪ ،‬وإن ُض ِرب ظهرك و ُأ ِخذ مالك» قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫فما تأمرين يا رسول اهلل إن‬

‫ال‪ ..‬ال‪ ،‬هذه األحاديث أنتم جئتم هبا من أجل الحكام‪ ،‬قلنا‪ :‬هذا يف الصحيحين يا أخي! قال‪ :‬وإن كان‪ ،‬ال‬

‫كرامة لهم‪.‬‬

‫ذبحا‪ ،‬وس َّلم‬ ‫هذا ٌ‬


‫خلل عظيم؛ المؤمن و َّق ٌ‬
‫اف عند النصوص‪ ،‬إذا جاءت العاطفة تخالف النص ذبح العاطفة ً‬

‫زمامه لقال اهلل قال رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يضيء حياته كلها بالنصوص‪ ،‬ال يقدِّ م على قول اهلل وعلى‬
‫قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قول ٍ‬
‫أحد‪.‬‬

‫هري واإلمام مالك ‪-‬رحمهما اهلل‪ -‬قد قاال‪" :‬إ ّن ُّ‬


‫السنة سفينة نوح‪ ،‬والدنيا طوفان"‪،‬‬ ‫مر معنا أ ّن اإلمام الزُّ ّ‬
‫وقد ّ‬
‫سمعت‬
‫ُ‬ ‫فمن قال ‪-‬يا إخوة‪ :-‬سآوي إلى جب ٍل يعصمني من الماء دون السنة غرق وال شك‪ ،‬أ ّما من قال‪:‬‬

‫وأطعت؛ سلِم ونجا‪.‬‬


‫ُ‬

‫ٍ‬
‫ونحن ‪-‬يا إخوة‪ -‬يف هذا الزمان بالذات نعيش يف طوفان عظيم‪ ،‬والمتكلمون يف الدنيا كُثر‪َ ،‬ت َّ‬
‫عمم الكثير‪،‬‬

‫فالح ُّق عندي‪ ،‬والنجاة بيَّنها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬فإ ّن من‬
‫إلي َ‬ ‫ٌّ‬
‫إلي‪َّ ..‬‬
‫وتمشيَخ الكثير‪ ،‬وكل يقول‪َّ :‬‬

‫‪26‬‬
‫‪‬‬‫‪27‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ِ‬
‫َيعش منكم بعدي فسيرى اختال ًفا ً‬
‫كثيرا‪ ،‬فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدييين‪ ،‬تمسكوا هبا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بدعة ضاللة»‪.‬‬ ‫وعَضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬وإياكم ومحدثات األمور؛ فإ ّن كل محدَ ٍ‬
‫ثة بدعة‪ ،‬وكل‬

‫فكر أو عقيدةٍ فانْظر إلى المتقدّ مين‪ ،‬إلى سلف األمة؛ فإن كان هذا عندهم‬
‫كم أو ٍ‬
‫أي ُأخي إلى ُح ٍ‬
‫َّ‬ ‫فإذا ُد ِع َ‬
‫يت ْ‬
‫ِ‬
‫ف َأنعم به‪ ،‬وإن لم يكن عندهم ْ‬
‫فاحذره؛ فال خير فيه لك‪ ،‬وال خير فيه ألهلك‪ ،‬وال خير فيه ألمتك‪.‬‬

‫فعلينا ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أن نتأدب مع الكتاب والسنة بأدب سلفنا الصالح ﭫ ‪.‬‬

‫وواهلل ثم واهلل لن يجمع األمة إال الكتاب والسنة بعد فضل اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪.-‬‬

‫عظيم على األمة؛ نعرف فضل اإلمام أبي حنيفة‬


‫ٌ‬ ‫ورب الكعبة‪ٌ -‬‬
‫فضل‬ ‫إذا عرفنا فضل األئمة األربعة‪ ،‬ولهم ‪ِّ -‬‬

‫النعمان بن ثابت ‪-‬رضي اهلل عنه ورحمه‪ ،-‬ونعرف فضل اإلمام مالك بن أنس ‪-‬رضي اهلل عنه ورحمه‪،-‬‬

‫ونعرف فضل اإلمام محمد بن إدريس الشافعي ‪-‬رضي اهلل عنه ورحمه‪ ،-‬ونعرف فضل اإلمام أحمد بن حنبل‬

‫‪-‬رضي اهلل عنه ورحمه‪ ،-‬ونأخذ من أقوالهم وأقوال فقهاء اإلسالم ما َّ‬
‫دل عليه الدليل‪ ،‬هنا سنجتمع‪ ،‬أ ّما إذا‬
‫ٍ‬
‫واحد يقول‪ :‬أنا على هذا المذهب ال أتركه أبدً ا؛ سيرت َّتب على ذلك أمور‪:‬‬ ‫كان كل‬
‫‪ ‬منها‪ :‬ترك ٍ‬
‫كثير من النصوص؛ فإنه لم يوجد إما ٌم من أئمة اإلسالم جمع النصوص كلها‪.‬‬
‫‪ ‬ومنها‪ :‬افرتاق األمة؛ حتى يقع ما وقع قبل ٍ‬
‫زمن يف المسجد الحرام‪ ،‬يف أكرب مساجد المسلمين! أربع ُة‬

‫ومحراب‬
‫ٌ‬ ‫محراب لألحناف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫محاريب‪ ،‬وليس محرا ًبا واحدً ا‪ ،‬أمام الكعبة التي يتجه إليها المسلمون جمي ًعا!‬

‫ومحراب للحنابلة‪ ،‬حتى يف صالهتم أمام بيت رهبم يتفرقون! مع تباغض‬


‫ٌ‬ ‫حراب للشافعية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫للمالكية‪ ،‬وم‬

‫القلوب ‪-‬والعياذ باهلل‪.-‬‬

‫حنفي ال أدع اإلمام أبي‬


‫ٌّ‬ ‫مثال أنا قلت‪ :‬أنا‬
‫أيضا النيل من بقية األئمة‪ :‬إما بالحال وإما بالمقال‪ً ،‬‬
‫‪ ‬ويقع ً‬

‫حنيفة ‪ $‬أبدً ا‪ ،‬معنى ذلك أ ّن اإلمام مالكا ‪ $‬كان مخطئًا يف كل شيء‪ ،‬وأ ّن اإلمام الشافعي كان مخطئًا يف‬

‫‪27‬‬
‫‪‬‬‫‪28‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫كل شيء‪ ،‬وأ ّن اإلمام أحمد كان مخطئًا يف كل شيء‪ ،‬وهذا ٌ‬


‫نيل من هؤالء األئمة‪ ،‬ثم يقود األمر إلى النيل‬

‫بالمقال‪.‬‬

‫وهذا ال شك ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أن فيه تفريقا لألمة‪.‬‬

‫رجحنا ً‬
‫قوال غير قول أحد األئمة فإنا نحفظ لذلك اإلمام فضله‬ ‫أما إذا قلنا‪ :‬نعرف فضل أئمتنا ونحرتمهم وإذا َّ‬

‫مأزورا؛ اجتمعنا واجتمعت كلمتنا وتقاربت قلوبنا وعرفنا حق أئمتنا‪ ،‬ومن قبل ذلك‬
‫ً‬ ‫مأجور وليس‬
‫ٌ‬ ‫ونعتقد أنه‬

‫وهو أعظم من كل هذا‪ :‬عرفنا حق ربنا وحق رسولنا صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫وكذا يف العقيدة؛ تتَّحدُ كلمتنا وتجتمع على عقيدتنا يف ربنا‪ ،‬وعلى عقيدتنا يف نبينا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وعلى‬

‫عقيدتنا يف الصحابة ﭫ‪ ،‬وهكذا يف كل أمور العقيدة‪ ،‬ولن يكون ذلك إال بالتسليم للكتاب والسنة‪ ،‬وبه‬

‫يحصل الحق‪.‬‬

‫ولذلك يا إخوة؛ من أراد أن يكون داعي ًة إلى الحق الذي تنتفع به األمة وترتفع به األمة ِّ‬
‫فليتق اهلل يف نفسه‪،‬‬
‫ِ‬
‫وإ َّياه أن يقول كلم ًة واحد ًة ُتبعد األمة عن الكتاب والسنة؛ بل عليه أن ِّ‬
‫يقرب الناس من الكتاب والسنة ما‬

‫سبيال‪.‬‬
‫استطاع إلى ذلك ً‬

‫يفرقون األمة‪ ،‬نحن‬ ‫ٍ‬ ‫يقول بعض الناس‪ :‬هؤالء دعاة ُف ٍ‬


‫وتفريق لألمة؛ يقولون‪ :‬أشاعرة‪ ،‬يقولون‪ :‬أهل سنة‪ّ ،‬‬ ‫رقة‬

‫نقول‪ :‬ما االجتماع يف األمة؟‬

‫أليس االجتما ُع االجتما َع على ما كان عليه النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وأصحابه؟‬

‫وإال كان فرقة؟‬

‫إن قيل‪ :‬كان فرقة؛ فهذه مصيبة! وإن قيل‪ :‬إنه كان اجتماعًا؛ قلنا‪ :‬ونحن نقول‪ :‬إ ّن هذا ّ‬
‫التفرق الذي حصل‬

‫شرفنا اهلل بِأن نضع يف اجتماع األمة ولو‬


‫مرض أصاب األمة ونحن يجب أن نكون أطباء لنحاول جاهدين أن ُي ِّ‬
‫ٌ‬

‫‪28‬‬
‫‪‬‬‫‪29‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫لبِنة واحدة‪ ،‬واهلل لو سقطت الرقاب من أجل أن يكون اإلنسان سب ًبا يف عودة األمة إلى ُّ‬
‫السنة‪ ،‬ولو إلى‬

‫منها‪َ ،‬ل َما كان ذلك عزيزً ا‪.‬‬


‫ٍ‬
‫واحد منا‬ ‫المباركون‪ ،‬يا من اجتمعتم يف مسجد رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؛ ينبغي على كل‬ ‫وأنتم أيها‬
‫َ‬
‫بحسبه وقدرته أن ينشر هذا األمر بين من حوله‪ ،‬محبِّبًا ومتل ِّط ًفا ومبيِّنًا وم ِ‬
‫فص ًحا؛ حتى نكون من دعاة الخير‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫واهلل ناصر دينه بنا أو بغيرنا‪ ،‬لكن الخوف علينا‪ ،‬نحن ال نخاف على الدين‪ ،‬اهلل ِ‬
‫حفظ دينه‪ ،‬لك ّن الخوف علينا؛‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫نقصر فيما نستطيع فنُسأل بين يدي اهلل؛ فال جواب‪ ،‬أو أن نكون سببًا لتخذيل األمة عن الكتاب والسنة؛‬
‫أن ِّ‬

‫فنُسأل عن ذلك بين يدي اهلل؛ فماذا نقول؟!‬

‫فنسأل اهلل عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العال أن يجمع أمة محمد صلى اهلل عليه وسلم على ما اجتمع‬

‫عو ًدا حميدً ا إلى الفهم العظيم َفهم الصحابة ﭫ‪ ،‬وأن يكفي‬
‫عليه الصحابة ﭫ‪ ،‬وأن يعيد الجميع ْ‬

‫المسلمين شرور أعدائهم من الشياطين؛ من شياطين اإلنس والجن‪ ،‬ممن يتكلمون بلغتنا وممن ال يتكلمون‬

‫بلغتنا‪.‬‬

‫ولعلنا نقف يف هذا الموطن‪ ،‬لنواصل غدا إن شاء اهلل عز وجل‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪29‬‬
‫‪‬‬
‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس التاسع‬

‫باب ال تقوم الساعة‬


‫حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب‬
‫‪2‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫ات َع ْن َج َب ٍل ِم ْن َذ َه ٍ‬
‫ب ))‬ ‫السا َع ُة َحتَّى َي ْح ِس َر الْ ُف َر ُ‬
‫ال َت ُقو ُم َّ‬
‫اب َ‬
‫)) َب ٌ‬

‫اس ُمخْ ت َِل َف ًة َأ ْعنَا ُق ُه ْم فِي‬ ‫ْت َواقِ ًفا َم َع ُأبَ ِّي بْ ِن َك ْع ٍ‬
‫ب َف َق َال‪ :‬الَ َيز َُال النَّ ُ‬ ‫َع ْن َعبْ ِد اهللِ بْ ِن الْ َح ِ‬
‫ار ِ‬
‫ث بْ ِن ن َْو َف ٍل‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬كن ُ‬

‫ات َأ ْن َي ْح ِس َر‬ ‫ول‪« :‬ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت رس َ ِ‬ ‫ِ‬


‫ك الْ ُف َر ُ‬
‫وش ُ‬ ‫اهلل َع َل ْيه َو َس َّلم َي ُق ُ ُ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫ت‪َ :‬أ َج ْل‪َ .‬ق َال‪ :‬إِنِّي َسم ْع ُ َ ُ‬ ‫َط َل ِ‬
‫ب الدُّ ْن َيا‪ُ .‬ق ْل ُ‬

‫َّاس َيأْخُ ُذو َن ِمنْ ُه لَ ُي ْذ َه َب َّن ِب ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاس َس ُاروا إِلَ ْي ِه‪َ ،‬ف َي ُق ُ‬
‫ول َم ْن عنْدَ ُه‪ :‬لَئ ْن ت ََر ْكنَا الن َ‬
‫ِ ِ‬ ‫َع ْن َج َب ٍل ِم ْن َذ َه ٍ‬
‫ب‪َ ،‬فإِ َذا َسم َع بِه الن ُ‬

‫َام ٍل فِي َح ِديثِ ِه َق َال‪َ :‬و َق ْف ُ‬


‫ت َأنَا َو ُأ َب ّي‬ ‫ُك ِّل ِه»‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬في ْقتَتِ ُلو َن ع َلي ِه‪َ ،‬في ْقت َُل ِمن ك ُِّل ِمائ ٍَة تِسع ٌة وتِسعو َن»‪َ .‬ق َال َأبو ك ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ َ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ب فِي ظِ ِّل ُأ ُج ِم َح َّسا َن ‪((.‬‬ ‫بْ ُن َك ْع ٍ‬

‫(‪ )..‬وذهب بعض العلماء إلى أنه يقع يف زمن عيسى بن مريم عليه السالم ؛ ألنه الزمن الذي يفيض‬

‫المال بين أيدي المسلمين‪ ،‬قالوا‪ :‬ومن ذلك ظهور هذا الكنز‪ ،‬ولم ِيرد يف النصوص ‪-‬يف الحقيقة‪ -‬ما يدل‬

‫قريب من نزول عيسى ڠ‪ ،‬وليس بعد نزول عيسى ڠ‪ ،‬ألن‬


‫ٌ‬ ‫على التحديد‪ ،‬لكن يبدوا ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أنه‬

‫المؤمنين بعد نزول عيسى ڠ مع عيسى ڠ وهم يف خير‪ ،‬وال تحصل لهم هذه المقتلة‪ ،‬وإنما ذلك فيما‬

‫يظهر لي ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬قبل نزول عيسى ڠ‪.‬‬

‫َّاس ُم ْختَلِ َف ًة َأ ْعنَا ُق ُه ْم فِي‬ ‫َّاس َأ ْعنَا ُق ُه ْم ُم ْختَلِ َفةً))‪ ،‬ويف رواية‪َ (( :‬‬
‫ال َيزَ ُال الن ُ‬ ‫ال َيزَ ُال الن ُ‬
‫وقوله يف الحديث‪َ (( :‬‬

‫َط َل ِ‬
‫ب الدُّ نْيَا)) وهو قول أبي بن كعب‪ .‬قال العلماء‪ :‬األعناق هنا المراد هبم‪ :‬األمراء‪ ،‬وال ُكرباء‪ ،‬واألثرياء‪ ،‬ال‬

‫يزالون يستكثرون من الدنيا مع ما عندهم من الدنيا‪.‬‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬ال‪ ،‬المراد باألعناق‪ :‬أعناق الناس عمو ًما‪ ،‬فإ ّن اإلنسان يحب أن يستكثر من الدنيا‪.‬‬

‫ول اهللِ ص َّلى اهلل ع َلي ِه وع َلى َآلِ ِه وس َّلم‪« :‬إِ َذا منَع ِ‬
‫ت الْ ِع َر ُاق دِ ْر َه َم َها‬ ‫(( َع ْن َأبِي ُه َر ْي َر َة ﭬ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ْ َ‬ ‫َ‬

‫ث َبدَ ْأت ُْم‪َ ،‬و ُعدْ ت ُْم ِم ْن‬


‫ت ِم ْص ُر إِ ْر َد َّب َها َودِين ََار َها‪َ ،‬و ُعدْ ت ُْم ِم ْن َح ْي ُ‬
‫الشأْ ُم ُمدْ َي َها َودِين ََار َها‪َ ،‬و َمنَ َع ْ‬
‫ت َّ‬‫و َق ِفي َزها‪ ،‬ومنَع ِ‬
‫َ ََ َ‬ ‫َ‬

‫ث َبدَ ْأت ُْم»‪َ .‬ش ِهدَ َع َلى َذلِ َ‬


‫ك لَ ْح ُم َأبِي ُه َر ْي َر َة َو َد ُم ُه ))‪.‬‬ ‫ث َبدَ ْأت ُْم‪َ ،‬و ُعدْ ت ُْم ِم ْن َح ْي ُ‬
‫َح ْي ُ‬

‫‪3‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫اهلل المستعان‪ .‬هذا الحديث عالمة من عالمات قيام الساعة الصغرى‪ .‬ساق النبي صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عما ُيستقبل لِتَح ُّقق الوقوع‪ .‬ولذلك ماذا قال أبو هريرة ﭬ يف‬
‫إخبار َّ‬
‫ٌ‬ ‫الخرب بصيغة الماضي‪ ،‬وهو‬

‫آخرالحديث؟‬

‫قال‪" :‬شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه"‪ ،‬ونحن نشهد على ذلك‪ ،‬فإ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم أخرب‬

‫به‪ ،‬وما أخرب به النبي صلى اهلل عليه وسلم ال يكون إال ح ًّقا‪.‬‬

‫إخبار عن المستقبل‪ ،‬فالنبي صلى اهلل عليه وسلم قال ذلك‪ ،‬وهذه البلدان كلها بالد كفر‪ ،‬لم‬
‫ٌ‬ ‫يف هذا الحديث‬

‫ُتفتح‪ ،‬العراق والشام ومصر‪ ،‬ومع ذلك النبي صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ :‬إهنا « َمنعت»؛ معنى ذلك أهنا‬

‫َأعطت‪ ،‬ثم َمنعت‪ ،‬ويف هذا إشارة إلى أهنا ستُفتح‪ ،‬وقد ُفتحت‪.‬‬

‫قوله‪َ « :‬منعت العراق» يعني‪ :‬أهل العراق‪ ،‬وقيل يف معنى هذه الجملة‪ :‬أنه تكون عليهم الجزية لعدم‬

‫إسالمهم؛ يعني أنه عند فتح العراق يبقى أقوام من أهل العراق ال ُيسلمون‪ ،‬ويرتضون الجزية‪ ،‬فتُفرض عليهم‬

‫الجزية‪ ،‬فإذا خالطهم المسلمون وعرفوا اإلسالم أسلموا‪ ،‬فإذا أسلموا سقطت الجزية‪ ،‬وعلى هذا يكون يف‬

‫إخبار بإسالم أهل العراق‪ ،‬وأهل الشام‪ ،‬وأهل مصر‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫ذلك‬

‫وقيل إ ّن منعها ذلك بسبب استيالء الكفار عليها يف آخر الزمان‪ ،‬ويف ذلك نِذارة أ ّن هذه الديار سيستولي عليها‬

‫الكفار‪ ،‬ويأخذها الكفار من أيدي المسلمين‪ ،‬وبالتالي ُيمنع الخير الذي كان يأيت منها للمسلمين‪.‬‬
‫وقد روى مسلم عن جابر بن عبد اهلل ﭬ قال‪ِ " :‬‬
‫يوشك أهل العراق ّأال ُي ْجبى إليهم قفيز وال درهم‪ ،‬قلنا‪:‬‬

‫من أين ذاك؟ قال‪ :‬من قِبل العجم يمنعون ذاك‪ ،‬ثم قال‪ :‬يوشك أهل الشام أال ُيجبى إليهم دينار وال َم ِدي‪،‬‬

‫قلنا‪ :‬من أين ذاك؟ قال‪ :‬من قِبَل الروم» ‪.‬‬


‫‪1‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ ) 2٩1٣‬يف كتاب‪ :‬الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب‪ :‬ال تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقرب الرجل فيتمنى أن يكون مكان‬
‫الميت من البالء‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫والعجم‪ :‬قيل إهنم هم الروم‪ ،‬وقيل‪ :‬إهنم طائفة من الروم‪ ،‬وقيل‪ :‬قوم غير الروم وغير فارس يتكلمون بغير‬

‫العربية‪.‬‬
‫يف هذا الحديث جابر ﭬ ُيخرب عن شيء‪ ،‬لكن هذا اإلخبار له حكم الرفع‪ ،‬ألنه إخبار عن ٍ‬
‫أمر مستقبل‪،‬‬

‫فقال‪" :‬يوشك أهل العراق أال ُي ْجبى إليهم قفيز وال درهم‪ ،‬قلنا‪ :‬من أين ذاك؟ قال‪ :‬من قبل العجم يمنعون‬

‫ذاك" أي‪ :‬أ ّن العجم يستولون على العراق فيمنعون ذلك‪.‬‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معناه أ ّن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم يف آخر الزمان‪ ،‬فال تدفع جزية‬

‫للمسلمين‪ ،‬وها هو اليوم‪ ،‬ال ُتدفع جزية للمسلمين‪ ،‬ألن شوكة الكفار قد قويت‪ ،‬وضعفت شوكة المسلمين‪.‬‬

‫ٌ‬
‫مكيال معروف ألهل العراق‪ ،‬قال العلماء هو‪ :‬اثنا عشر صاعا‪.‬‬ ‫والقفيز‪:‬‬

‫ٌ‬
‫مكيال معروف ألهل الشام‪ ،‬قال العلماء‬ ‫المدي على وزن َفعل‪ :‬هو‬
‫المدُّ على وزن ُقفل أو َ‬
‫لمدي‪ ،‬أو ُ‬
‫وأما ا َ‬
‫هو‪ :‬اثنان وعشرون صاعا ونصف‪.‬‬

‫ٌ‬
‫فمكيال معروف عند أهل مصر‪ ،‬ال يزال الفالحون يعرفونه إلى اليوم‪ ،‬قال العلماء‪ :‬يسع أربعة‬ ‫اإلر َدب‪:‬‬
‫وأما ْ‬
‫وعشرين صاعا‪.‬‬

‫قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬وعدتم من حيث بدأتم»؛‬

‫قال النووي ‪ :$‬هو بمعنى الحديث اآلخر‪« :‬بدأ اإلسالم غريبا وسيعود كما بدأ» ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫قال الحافظ ابن عبد الرب ‪-‬مب ِّينا معنى هذه العودة‪ " :-‬صار أول هذه األمة خير القرون؛ ألهنم آمنوا حين كفر‬

‫الناس وصدقوا النبي صلى اهلل عليه وسلم حين كذبه الناس‪ ،‬وعزروه‪ ،‬ونصروه ‪ ،‬وآووه بأموالهم وأنفسهم‪،‬‬

‫وقاتلوا الكفار حتى أدخلوهم يف اإلسالم‪ ،‬فقرنه إنما فضل ألهنم كانوا غرباء يف إيماهنم لكثرة الكفار‪،‬‬

‫ولصربهم على أذى الكفار ‪ ،‬ولتمسكهم بدينهم مع قوة الكفار‪ ،‬وإ ّن آخر هذه األمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )14٥‬يف كتاب‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب‪ :‬بيان أن اإلسالم بدأ غريبا وسيعود غريبا‪ .‬من حديث أبي هريرة ﭬ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫به وصربوا على طاعة رهبم يف حين ظهور الشر‪ ،‬والفسق‪ ،‬والهرج‪ ،‬والمعاصي‪ ،‬والكبائر كانوا عند ذلك أيضا‬

‫غرباء" ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫إذن؛ ما معنى «وعدتم من حيث بدأتم»؟‬

‫أي‪ :‬عدتم قلة وسط كثرة‪ ،‬فعاد المسلمون قلة وسط كثرة الكفار‪ ،‬وعدتم ضعفاء مع قوة عدوكم‪ ،‬وعاد‬

‫المتمسك بدينه قليال مع كثرة الكفار‪ ،‬وعاد المتمسك بالطاعة قليال مع كثرة العصاة‪ ،‬فهذا معنى «وعدتم من‬

‫حيث بدأتم»‪.‬‬

‫قال بعض العلماء‪" :‬عدتم يف قلة كما كنتم يف قلة"؛ يعني عدتم من حيث بدأتم؛ عدتم يف قلة وقد بدأتم يف‬

‫قلة‪.‬‬

‫وقال بعض العلماء‪ :‬عاد اإلسالم محصورا يف المدينة كما بدأ يف المدينة‪ ،.‬كان اإلسالم عند هجرة النبي‬

‫صلى اهلل عليه وسلم محصورا يف المدينة‪ ،‬ومعنى «عدتم من حيث بدأتم» أي‪ :‬عاد المسلمون يف المدينة‪،‬‬

‫وحصروا فيها‪.‬‬
‫ُ‬

‫وقد جاء يف الحديث عند مسلم‪« :‬بدأ اإلسالم غريبا وسيعود غريبًا كما بدأ‪،‬وهو يأرز بين المسجدين كما‬

‫تأرز الحية إلى جحرها» أي‪ :‬يعودوا بين المسجدين‪ .‬ويف الرواية األخرى‪« :‬إن اإليمان ليأرز إلى المدينة‬
‫‪2‬‬

‫كما تأرز الحية إلى جحرها» ‪.‬‬


‫‪٣‬‬

‫فهذا الحديث فيه بِشارة وفيه نِذارة ‪:‬‬

‫ففيه بشارة بفتح العراق‪ ،‬والشام‪ ،‬ومصر‪ ،‬وأ ّن الخير سيخرج منها للمسلمين‪ ،‬وقد خرج الخير منها‬

‫للمسلمين‪ ،‬فكانت األرزاق تخرج من العراق‪ ،‬ومن الشام‪ ،‬ومن مصر‪ ،‬إلى جميع بلدان المسلمين‪.‬‬

‫(‪ )1‬التمهيد البن عبد الرب‪)2٥2-2٥1/2٠ ( :‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه مسلم (‪ ) 14٦‬يف كتاب‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب‪ :‬بيان أن اإلسالم بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه يأرز بين المسجدين‪ .‬من حديث ابن‬
‫عمر ﭭ‪.‬‬
‫(‪ )٣‬أخرجه البخاري (‪ ) 1٧٧٧‬يف كتاب‪ :‬فضائل المدينة‪ ،‬باب‪ :‬اإليمان يأرز إلى المدينة‪ .‬من حديث أبي هريرة ﭬ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫وفيه نذارة بأ ّن هذا الخير س ُيمنع‪ ،‬واألغلب أ ّن هذا الخير ُيمنع بسبب استيالء الكفار على هذه الديار‪.‬‬

‫وبعض أهل العلم قال‪ :‬هذا الحديث فيه بيا ُن أ ّن حقوق المسلمين ستُمنع من غير بيان السبب‪ ،‬بعض العلماء‬

‫يقول‪ :‬السبب لم ُيعيَّن يف الحديث‪ ،‬لكن المتعيِّن أ ّن حقوق المسلمين ستُمنع يف آخر الزمان‪ ،‬وحقوق‬

‫المسلمين اليوم ُتمنع كثيرا من قِبَل تسلط أعدائهم على خيرات المسلمين‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪7‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس العاشر والحادي عشر‬

‫باب في فتح القسطنطينية‬

‫وخروج الدجال ونزول عيس ى ابن مريمڠ‬

‫‪8‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫يسى ا ْب ِن َم ْر َي َمڠ ))‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‪ :‬في َفتْحِ ُق ْسطُنْطين َّي َة َوخُ ُروجِ الدَّ َّجال َو ُنزُول ع َ‬
‫(( َب ٌ‬

‫اهلل َع َليْ ِه َو َس َّل ْم َق َال‪« :‬الَ‬ ‫سلم رحمة اهلل عليه بإسناده عن َأبِي هريرةَ‪َ ،‬أ َّن رس َ ِ‬
‫ِ‬ ‫َر َوى ِ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫اإل َما َم ُم ْ‬
‫اق َأ ْو بِدَ ابِ َق‪َ ،‬ف َيخْ ُر ُج إِلَ ْي ِه ْم َج ْي ٌش ِم َن الْ َم ِدين َِة ِم ْن ِخ َي ِ‬
‫ار َأ ْه ِل‬ ‫الرو ُم بِاألَ ْع َم ِ‬
‫السا َع ُة َحتَّى َين ِْز َل ُّ‬
‫َت ُقو ُم َّ‬
‫ين َس َب ْوا ِمنَّا ُن َقاتِ ْل ُه ْم‪َ .‬ف َي ُق ُ‬
‫ول الْ ُم ْس ِل ُم َ‬
‫ون‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األَر ِ ِ ٍ‬
‫ض َي ْو َمئذ‪َ ،‬فإِ َذا ت ََصا ُّفوا َقالَت ُّ‬
‫الرو ُم‪ :‬خَ ُّلوا َب ْينَنَا َو َب ْي َن الَّذ َ‬ ‫ْ‬
‫اهلل َع َل ْي ِه ْم َأبَدً ا‪َ ،‬و ُي ْقت َُل ُث ُلثُ ُه ْم؛‬
‫ُوب ُ‬ ‫الَ َواهللِ‪ ،‬الَ نُخَ ِّلي بَ ْينَك ُْم َوبَ ْي َن إِخْ َوانِنَا‪َ .‬ف ُي َقاتِ ُلون َُه ْم‪َ ،‬ف َين َْه ِز ُم ُث ُل ٌ‬
‫ث الَ َيت ُ‬

‫ون ُق ْسطُنْطِينِيَّةَ‪َ .‬فبَيْن ََما ُه ْم َي ْقت َِس ُم َ‬


‫ون‬ ‫ُون َأبَدً ا‪َ ،‬فيَ ْفتَتِ ُح َ‬ ‫اء ِعنْدَ اهللِ‪َ ،‬و َي ْفتَتِ ُح الثُّ ُل ُ‬
‫ث الَ ُي ْفتَن َ‬ ‫الش َهدَ ِ‬
‫َأ ْف َض ُل ُّ‬

‫يح َقدْ خَ َل َفك ُْم فِي َأ ْه ِليك ُْم‪.‬‬ ‫ِ‬


‫ان‪ :‬إِ َّن الْ َمس َ‬
‫الش ْيطَ ُ‬ ‫اح فِ ِ‬
‫يه ُم َّ‬ ‫الْ َغنَائِ َم َقدْ َع َّل ُقوا ُس ُيو َف ُه ْم بِالز َّْيت ِ‬
‫ُون؛ إِ ْذ َص َ‬
‫ون الص ُفوفَ إِ ْذ ُأ ِقيم ِ‬
‫ت‬ ‫ون لِ ْل ِقت ِ‬
‫الشأْ َم خَ َر َج‪َ ،‬فبَ ْين ََما ُه ْم ُي ِعدُّ َ‬
‫ك َباطِ ٌل‪َ .‬فإِ َذا َجا ُءوا َّ‬
‫ون‪َ ،‬و َذلِ َ‬
‫َف َيخْ ُر ُج َ‬
‫َ‬ ‫َال ُي َس ُّو َ ُّ‬
‫الصالَة‪َ ،‬فين ِْز ُل ِعيسى ابن مريم َفأَم ُهم‪َ ،‬فإِ َذا رآه عدُ و اهللِ َذاب كَما ي ُذوب الْ ِم ْلح فِي الْم ِ‬
‫اء‪َ ،‬ف َل ْو ت ََر َك ُه‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫َ ُ َ ُّ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ َ َ َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫يه ْم َد َم ُه فِي َح ْر َبتِ ِه))‪.‬‬


‫اهلل بِ َي ِد ِه َف ُيرِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب َحتَّى َي ْه ِل َ‬
‫ك؛ َولَك ْن َي ْقتُ ُل ُه ُ‬ ‫الَن َْذ َ‬

‫هذا الباب وما بعده من األبواب إلى عالمات الساعة الكربى؛ أراد اإلمام مسلم ‪ $‬باألحاديث التي‬

‫أور َدها أن ُيبيِّن أ ّن من عالمات قرب الساعة‪ :‬كثرة الروم‪ ،‬وأ ّنَّّّ الروم يكثرون يف آخر الزمان‪ ،‬ومع كثرهتم‬

‫يحصل بينهم وبين المسلمين ملحمة كربى ينتصر فيها المسلمون‪ ،‬و ُتفتح قسطنطينية‪ ،‬فإذا حصل ذلك كان‬

‫ذلك عالم ًة على خروج الدجال ونزول عيسى عليه السالم‪.‬‬

‫السا َع ُة َحتَّى َين ِْز َل ُّ‬


‫الرو ُم‬ ‫ففي هذا الحديث ‪-‬الذي معنا‪ -‬يقول النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬الَ َت ُقو ُم َّ‬
‫بِاألَ ْع َم ِ‬
‫اق َأ ْو بِدَ ابِ َق»‪.‬‬

‫مياه كثيرةٍ ال تجف إال يف الصيف‪ ،‬كثير المياه‪.‬‬


‫واألعماق‪ :‬هي بلدٌ قريب من حلببالشام‪ ،‬وهو مصب ٍ‬
‫َ ُّ‬ ‫ٌ‬

‫أيضا‪ ،‬وهو يف األصل اسم لنهر؛ األعماق‬ ‫وأما دابِق‪ ،‬ويقال دا َبق ‪ّ -‬‬
‫واألول أفصح‪ :-‬فموض ٌع ُقرب حلب ً‬ ‫َّ‬
‫ودابق موضعان قريبان من حلب‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«سبُوا منا»‪،‬‬ ‫الرو ُم‪ :‬خَ ُّلوا بَ ْينَنَا َوبَ ْي َن الَّذ َ‬
‫ين َسبَ ْوا منَّا))‪ ،‬ويف رواية‪ُ :‬‬ ‫قوله‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :-‬قالَت ُّ‬
‫ِ‬
‫وسبوا‪ :‬أي ُسبُوا من الروم‪.‬‬
‫فسبَ ْوا من الروم‪ُ .‬‬
‫السبْي‪َ ،‬‬
‫«سبُوا»؛ بمعنى‪ :‬فعلوا َّ‬ ‫«خَ ُّلوا َب ْينَنَا َو َب ْي َن الَّذ َ‬
‫ين َسبَ ْوا»‪ ،‬و ُ‬
‫فهل بينهما اختالف؟‬

‫الصحيح أنه ال اختالف بينهم؛ ألهنم ُسبوا من الروم‪ ،‬فكانوا من الروم‪ ،‬فكانوا َس ْب ًيا‪ ،‬فأسلموا فأصبحوا من‬

‫فس َب ْوا من الروم؛ فهؤالء كأهنم يقولون للمسلمين‪ :‬خلوا بيننا وبين بني جنسنا‬
‫خيرة المسلمين‪ ،‬فقاتلوا َ‬
‫نقاتلهم‪ ،‬ا ْخ ُرجوا أنتم‪ ،‬فأبى المسلمون‪.‬‬

‫اهلل َع َليْ ِه ْم َأبَدً ))؛ أي ال ُيلهمهم التوبة‪ ،‬وإال َمن تاب‬


‫ُوب ُ‬ ‫قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :-‬فيَن َْه ِز ُم ُث ُل ٌ‬
‫ث الَ َيت ُ‬

‫كفرا‪ ،‬لك ّن اهلل ال يو ِّفقهم للتوبة؛ ألن االهنزام والفرار من الزحف كبير ٌة من‬ ‫من ٍ‬
‫ذنب تاب اهلل عليه ولو كان ً‬
‫كبائر الذنوب‪.‬‬

‫يفر إال من أجل أن يتحيز لفئة‪،‬‬ ‫فإذا التقى الص َّفان َتع َّين الجهاد وأصبح فرض عين‪َ ،‬‬
‫وح ُر َم على المسلم أن َّ‬
‫الص َّف ْين فإنه ال يجوز‪.‬‬
‫فر مع التقاء َّ‬
‫أو من أجل مكيدة بالعدو‪ ،‬أ َّما أن َي َّ‬
‫قال العلماء‪" :‬إال إذا َّ‬
‫قل عدد المسلمين‪ ،‬وغلب على الظن أ َّنهم إن قاتلوا ُاستئصلوا‪َّ ،‬‬
‫ففر البقية إبقا ًء على‬

‫المسلمين"‪ ،‬قالوا ‪ :‬هذا ليس بحرام‪.‬‬


‫ٍ‬
‫أحوال ثالث‪:‬‬ ‫إ ًذا الفرار من الزحف عند التقاء الصفين كبيرة من كبائر الذنوب؛ إال يف‬

‫▪ أن يتحيَّز اإلنسان إلى فئة أخرى من الجيش‪.‬‬

‫▪ الحالة الثانية‪ :‬أن ُيظهر الفرارمكيد ًة للكفار‪.‬‬

‫فيفر البقية من أجل اإلبقاء على‬


‫▪ الحالة الثالثة‪ :‬أن ُيخشى على المسلمين االستئصال‪َّ ،‬‬
‫المسلمين‪ ،‬فهذا ال حرج فيه‪.‬‬

‫والثالث ‪-‬يف الحقيقة‪ -‬هو من كوهنم يتحيزون إلى فئة‪ ،‬ألهنَّم يتحيزون إلى جماعة المسلمين‪ .‬أما أن يفر‬

‫المسلم من العدو خو ًفا على نفسه من القتل‪ ،‬من غير هذه األمور الثالثة؛ فإ ّن ذلك من كبائر الذنوب‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫قوله‪َ (( :‬ف َي ْفتَتِ ُحو َن ُق ْسطُنْطِين ِ َّيةَ))‪ ،‬و َيضبطها بعض أهل العلم بقولهم‪ُ " :‬ق ْس ُطنطِينة" بدون ياء أخيرة‪ ،‬يعني‪:‬‬

‫" ُق ْسطُنطِين َّية" و" ُق ْسطُنطِينة" بدون ياء قبل الهاء‪ ،‬وهي مدينة من أعظم مدائن الروم‪ ،‬كان اسمها "بيزنطة"‬

‫عظيما‪ ،‬وجعلها دار ُم ْلك الروم؛‬ ‫ِ‬


‫ً‬ ‫أو "بيزنطية"‪ ،‬فنزلها ُق ْس ُطنْطين األكرب؛ من ملوك الروم‪ ،‬وبنى عليها ً‬
‫سورا‬

‫يعني جعلها عاصمة الروم‪.‬‬

‫وقد حاول المسلمون فتح قسطنطينية يف زمن معاوية ﭬ؛ حيث قاد معاوية ﭬ ً‬
‫جيشا حتى بلغ المضيق‬

‫دوهنا‪ ،‬ولم يصل إليها‪ ،‬لكن ابنه يزيد بن معاوية غزاها بجي ٍ‬
‫ش ومعه سادات من كبار الصحابة؛ منهم أبو‬

‫أيوب ﭬ‪ ،‬ومنهم ابن عمر ﭭ‪ ،‬ومنهم ابن عباس ﭭ‪ ،‬ومنهم ابن الزبير ﭭ‪ ،‬فكان هذا الجيش أول‬

‫جي ٍ‬
‫ش يغزو هذه المدينة‪.‬‬

‫«أول جي ٍ‬
‫ش َيغزون مدينة قيصر؛‬ ‫وقد ثبت يف صحيح البخاري أ ّنَّّّ رسول الله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪َّ :‬‬

‫مغفور لهم»‪ ،‬وهذه هي مدينة قيصر‪.‬‬


‫ٌ‬
‫وقد ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ $‬أ ّن جيش يزيد هو ّأول جيش‪ ،‬وكذلك ذكر ذلك ابن كثير ‪.$‬‬

‫ولذلك أهل السنة والجماعة يك ّفون عن يزيد بن معاوية‪ ،‬يقولون فيهم كما قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‬

‫‪" :$‬النحبهم والنَسبُّهم"‪.‬‬

‫انتبهوا لهذه العبارة! ألن بعض الناس يفهمها خط ًأ! "النحبهم والنَسبُّهم"؛ أي فيما ن ُِقل عنهم من أحداث‪،‬‬

‫الح َّرة مثال؛ ال نُحبهم وال نَسبهم‪.‬‬ ‫ِ‬


‫فما نُقل عنهم من أحداث‪ ،‬كما نُقل يف موقعة َ‬

‫وإن كان يزيد فيه من الحسنات ما ُي َحب له‪ ،‬وفيه من األحداث ما وقع مما ُي ْبغَض من أجله؛ لكن قال‬

‫العلماء يف مثل هذا‪ُ :‬يبغ َُض فع ُله وال ُي َس ُّ‬


‫ب به؛ ال سيما أنه كان على رأس الجيش الذي غزى هذه المدينة‪،‬‬

‫مغفور لهم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وقد ثبت يف صحيح البخاري أنه‬

‫ثم تتابعت محاوالت المسلمين لفتحها‪ ،‬لكن ذلك لم يقع إلى زمن السلطان "محمد الثاين بن مراد الثاين"‬

‫من العثمانيين‪ ،‬وهو مشهور بـ "السلطان محمد خان"‪ ،‬حيث قاد ً‬


‫جيشا لفتحها‪ ،‬وذلك يف عام سب ٍع‬
‫ٍ‬
‫وثمان مائة من الهجرة‪ ،‬ففتحها اهلل على يديه؛ دكّها بالقنابل‪ ،‬ونقل السفن على ألواحِ خشبية‪،‬‬ ‫وخمسين‬

‫‪11‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫دهن الخشب بزيت كثيف‪ ،‬ثم أجرى السفن على هذه الخشب‪ ،‬حتى نقلها‬
‫على مسافة ثالثة أميال يف الرب‪َ ،‬‬

‫من ماء إلى ماء‪ ،‬وهبذه الحيلة تم َّكن من ِّ‬


‫دك الحصون من جهتين‪ :‬من جهة الماء ومن جهة الرب‪،‬‬

‫سر‬
‫وجانب يف البحر‪ ،‬وكان ُّ‬
‫ٌ‬ ‫جانب يف الرب‬
‫ٌ‬ ‫وقسطنطينية ‪-‬كما أخرب النبي صلى اهلل عليه وسلم عنها‪ -‬لها‬

‫لما فعل السلطان محمد خان‬ ‫قوهتا أ ّن المسلمين إنما يأتون من جهة الرب‪ّ ،‬‬
‫فيتقوى الروم من جهة الرب‪ ،‬لكن ّ‬
‫أيضا من جهة البحر‪ ،‬فدكّهم من جهة البحر‪ ،‬فارتبك الروم‪ ،‬وفتح اهلل على يديه هذه‬
‫هذه الحيلة جاءهم ً‬

‫المدينة‪ ،‬واتخذها العثمانيون عاصم ًة للخالفة اإلسالمية‪ُ ،‬‬


‫وسميّت بـ "استانبول"‪ ،‬واليوم قسطنطينية هي‬

‫توسعت‪.‬‬
‫جزء من اسطنبول‪ّ ،‬‬
‫لكن يظهر ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أهنا ستقع يف يد الروم مرة أخرى‪ ،‬ويأخذها الروم من أيدي المسلمين؛ أل ّن‬

‫األحاديث د ّلت على أ َّن فتحها يكون يف آخر الزمان قبل نزول عيسى عليه السالم بقليل‪َّ ،‬‬
‫فدل ذلك على أهنا‬

‫ستعود إلى أيدي الروم‪ ،‬ثم يفتحها المسلمون‪.‬‬


‫مثال‪ -‬قول النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ِ :-‬‬
‫«عمران بيت المقدس خراب يثرب‪ ،‬وخراب يثرب‬ ‫ومن ذلك ‪ً -‬‬

‫خروج الملحمة‪ -‬أي القتال مع الروم ‪ ،-‬وخروج الملحمة فتح ُقسطنطينية‪ ،‬وفتح ُق ْسطنطينية خروج‬

‫الدجال»؛ يعني كل واحدة عالمة لألخرى؛ فعمران بيت المقدس عالم ٌة على خراب يثرب ‪ -‬أي المدينة ‪-‬‬

‫‪ ،‬وخراب يثرب عالمة على وقوع الملحمة الكربى مع الروم‪ ،‬ووقوع الملحمة الكربى مع الروم عالمة‬

‫على فتح ُقسطنطينية‪ ،‬وفتح ُقسطنطينية عالمة على خروج الدجال‪ .‬إ ًذا ذلك يكون يف آخر الزمان؛ ألن‬

‫خرب ولم ُت ْخ َرب حتى اآلن‪ ،‬فال زال هذا باق ًيا‪.‬‬
‫يثرب –المدينة‪ -‬لم ُت َّ‬
‫هذا الحديث رواه أبو داود وسكت عنه‪ ،‬وحسنه األلباين‪ ،‬رحم اهلل الجميع‪.‬‬

‫كنت مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف غزاة فأتاه قوم من‬
‫وعن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة‪ ،‬قال‪ُ " :‬‬

‫قِبل المغرب عليهم ثياب الصوف فوافقوه عند أكمة‪ ،‬وهم قيام وهو قاعد‪ ،‬فأتيته فقمت بينهم وبينه‬

‫فحفظت منه أربع كلمات‪ ،‬أعدهن يف يدي"‪ ،‬قال‪(( :‬تغزون جزيرة العرب فيفتحها اهلل‪ ،‬ثم تغزون فارس‬

‫‪12‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫فيفتحها اهلل‪ ،‬ثم تغزون الروم فيفتحها اهلل‪ ،‬ثم تغزون الدجال فيفتحه اهلل))‪ .‬قال نافع‪" :‬يا جابر‪ ،‬ال نرى أن‬

‫الدجال يخرج حتى تُفتح الروم"‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬

‫فظاهر هذا الحديث الذي معنا يدل على أ ّن الروم يكثرون يف آخر الزمان ‪-‬كما سيأتينا إن شاء اهلل يف‬

‫الحديث‪ ،-‬فتكون بينهم وبين المسلمين هدن ٌة وصلح‪ ،‬ويقاتل المسلمون والروم عدُ ًّوا‪ ،‬فينتصرون عليه‪،‬‬

‫الجموع‪ ،‬وتأيت زاحفة على المسلمين بجي ٍ‬


‫ش عظيم تحت اثنتي عشرة‬ ‫ثم تغدر الروم‪ ،‬وتجمع للمسلمين ُ‬

‫راية‪ ،‬تحت كل راية ثمانون أل ًفا؛ أي أ ّن عددهم يبلغ تسعمائة وستين ألف‪ ،‬قريب من المليون‪ ،‬يأتون‬

‫أهالإلسالم‪ ،‬ويخرج الجيش‬


‫زاحفين إلى ديار اإلسالم‪ ،‬حتى ينزلوا باألعماق بقرب حلب‪ ،‬فيجمع لهم ُ‬
‫من المدينة؛ ألن اإليمان ِ‬
‫يأرزُ إليها‪ ،‬فيخرج الجيش من المدينة وهم من خيار أهل األرض يوم ذاك‪ ،‬حتى‬

‫تصاف الجيشان طلب الروم من المسلمين أن ُي ْخ ُلوا بينهم وبين الذين ُس ُبوا منهم‪ ،‬أي أن ُي ْخ ُلوا بينهم‬
‫َّ‬ ‫إذا‬

‫فيفر‬ ‫وبين الروم المسلمين ليقاتلوهم‪ ،‬فيقول المسلمون‪ :‬ال نُخ ّلي بينكم وبين إخواننا‪ ،‬فيقع ٌ‬
‫قتال شديد‪ُّ ،‬‬
‫ٌ‬
‫ثلث من ٌ‬
‫جيش المسلمين‪ ،‬وال يوفقهم اهلل للتوبة من هذا‪.‬‬

‫فتحصل مقتل ٌة شديدة حتى‬


‫ُ‬ ‫وتشرتط جماع ٌة من الفئة الباقية أال ترجع إال غالبة‪ ،‬إ َّما أن ُت ْقتَل أو َتغْلِب‪،‬‬

‫يحجزَ الليل بين الطرفين‪ ،‬وتكون الفئة التي اشرتطت قد ُقتِ َلت‪.‬‬

‫فتقوم جماع ٌة أخرى يف اليوم الثاين‪ ،‬فتشرتط أال ترجع إال غالبة أو ُت ْقتَل‪ ،‬فتحصل مقتل ٌة عظيمة حتى َيحجز‬

‫الليل بين الطرفين‪ ،‬وتكون الطائفة التي اشرتطت قد ُأبيدت– ُقتِ َلت ‪.-‬‬

‫ويف اليوم الثالث؛ تشرتط جماعة من الفئة الباقية أال ترجع إال غالبة‪ ،‬فيقتتل المسلمون مع الروم مقتل ًة‬

‫شديدة‪ ،‬حتى يحجز الليل بينهم‪ ،‬وتكون الجماعة التي قد اشرتطت قد ُقتلت‪ ،‬وهم من خير ُ‬
‫الشهداء‪.‬‬

‫ويف اليوم الرابع؛ َينهض البقية من أهل اإلسالم إلى عدوهم‪ ،‬فتحصل مقتل ٌة شديدة و ُيقتل عد ٌد كبير من‬

‫المسلمين؛ إال أ ّنَّّّ اهلل يكتب النصر للمسلمين‪ ،‬وينكسر الروم‪ ،‬فإذا انكسر الروم و َّلوا أدبارهم إلى‬

‫ُقسطنطينية‪ ،‬فتقوم البقية من جيش المسلمين‪ ،‬وهم يف سبعين ألف ‪-‬قيل إهنم من العرب‪ ،‬وقيل إهنم من‬
‫م ِ‬
‫سلمي الروم‪ ،-‬فيتْبعون الروم إلى قسطنطينية‪ ،‬حتى إذا وصلوا هناك لم يقاتلوا بسالح‪ ،‬ولم يرموا بسهم؛‬ ‫ُ‬
‫‪13‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫وإنَّما قالوا‪" :‬ال إله إال اهلل واهلل أكرب"؛ فيسقط الجانب الذي من جهة البحر بال قتال‪ ،‬ثم يقولوا مرة ثانية‪:‬‬

‫"ال إله إال اهلل واهلل أكرب"؛ فيسقط الجانب الثاين الذي إلى جهة الرب‪ ،‬ثم يقولون الثالثة‪" :‬ال إله إال اهلل واهلل‬

‫فرج لهم فيدخلون‪ ،‬وهذا هو الفتح الذي ورد يف هذا الحديث‪.‬‬


‫أكرب"؛ ف ُي َ‬
‫ويغنم المسلمون مغانم كثيرة جدً ا‪ ،‬فبينما هم يقتسمون المغانم‪ ،‬قد ع َّلقوا أسلحتهم يف أشجار الزيتون؛ إذا‬

‫َ‬
‫الدجال قد خرج يف أهليكم"‪ ،‬فيرجعون عن الغنائم‬ ‫بالشيطان يتمثّل لهم على هيئة رجل يصرخ فيهم‪" :‬إ ّن‬

‫‪-‬وماذا يريدون بالغنائم وقد خرج الدجال؟!‪ -‬ويرتكون الغنائم‪ ،‬وذلك باطل‪ ،‬كذب ‪-‬أعني قول الشيطان‬

‫يكذب عليهم‪ ،-‬ما خرج الدجال‪ ،‬فيرجعون ويبعثون عشرة فوارس طليع ًة لهم‪.‬‬

‫قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬إين ألَعرف أسماءهم‪ ،‬وأسماء آبائهم‪ ،‬وألوان خيولهم‪ ،‬هم خير‬
‫ٍ‬
‫يومئذ»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫فوارس على ظهر األرض‬ ‫ٍ‬
‫يومئذ» أو «من خير‬ ‫ٍ‬
‫فوارس على ظهر األرض‬

‫حتى إذا جاء المسلمون الشام خرج الدجال بعد وصولهم‪ ،‬ف ُي ِعدُّ ون لقتاله‪ ،‬يستعدون لقتاله ألهنم يعلمون‬

‫فتحضر الصالة‪ ،‬وتقام‪ ،‬فبينما هم َيص ّفون الصفوف‬


‫ُ‬ ‫أنه يطوف األرض‪ ،‬إال أنه ال يدخل مكة والمدينة‪،‬‬

‫ينزل عيسى عليه السالم ‪-‬وسنتكلم عن نزوله قريبًا إن شاء اهلل‪ ،-‬فإذا نزل عرفوه‪ ،‬فقال أميرهم‪" :‬يا روح‬

‫قصدهم‪ ،‬وليس المراد‬ ‫اهلل! تقدم ِّ‬


‫فصل"‪ ،‬يقدِّمه ليكون إمام‪ .‬جاء يف الحديث الذي معنا‪« :‬فأ َّم ُهم»؛ معناه‪َ :‬‬

‫قصد َج ْمعهم الذي اجتمع للصالة‪ .‬فلما وصلهم قال له أميرهم‪" :‬تقدّ م يا‬
‫أنه صلى هبم إما ًما‪« ،‬فأ َّمهم»‪ :‬أي َ‬

‫فصل بنا"‪ ،‬فيقول‪" :‬تقدم أنت‪ ،‬فإنما ُأقيمت لك"‪ ،‬وإذا نزل عيسى عليه السالم فإمام المسلمين‬
‫روح اهلل ِّ‬

‫يكون من أمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؛ َت ُ‬


‫كرم ًة ألمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬

‫متوج ًها نحو بيت‬


‫ِّ‬ ‫ويلتف المؤمنون حول عيسى عليه السالم‪ ،‬ويكون الدجال عند نزول عيسى عليه السالم‬

‫المقدس‪ ،‬فيلحق به عيسى عليه السالم عند باب ُلدٍّ ‪ ،‬وباب ُلدّ قريب من بيت المقدس‪ ،‬فإذا رآه الدجال‬

‫ذاب كما يذوب الملح يف الماء‪ ،‬فيقول له عيسى عليه السالم‪" :‬إ ّن لي َ‬
‫فيك ضرب ًة لن تفوتني"‪ ،‬فيتداركه‬

‫عيسيفيقتله بحربته‪ ،‬و ُي َرى أثر الدم يف حربة عيسى عليه السالم‪ ،‬و َينهزم أتباعه‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫بعد هذا سيأتينا ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬أنه سيحصل للمسلمين َم ْك َر َمة أخرى‪ ،‬وأهنم ينتصرون على عدوهم اآلخر؛‬

‫األول وهم الروم‪ ،‬فإذا اهنزم‬ ‫وهم اليهود‪ ،‬فهم ً‬


‫أوال قبل نزول عيسى عليه السالم انتصروا على عدوهم ّ‬

‫دج ًاال‪ ،‬إذا اهنزموا تبعهم‬


‫أتباع الدجال؛ وأكثرهم من اليهود ‪-‬كما سيأتينا إن شاء اهلل‪ ،-‬دجاجلة يتبعون َّ‬
‫يهودي خلفي َ‬
‫تعال فا ْقتله‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫المسلمون؛ ف َيقتل المسلمون اليهود‪ ،‬حتى يقول الحجر والشجر‪ :‬يا مسلم! هذا‬

‫إال شجر الغ َْر َقد؛ فإنه من شجر اليهود ال ُيخبِر عنهم‪ ،‬ولذلك تقول األخبار إهنم يحاولون أن ُيكثروا من‬

‫عدوهم‪.‬‬
‫زراعته يف فلسطين‪ ،‬ولن ينفعهم إن شاء اهلل؛ فسيقتلهم المسلمون‪ ،‬وينتصر المسلمون على ِّ‬

‫كل هذا الذي ذكر ُته ثبت يف الصحيحين أو يف أحدهما؛ كل ما ذكرناه ثبت يف األحاديث‪ ،‬إ َّما أهنا يف‬

‫خرج عن هذا‪ ،‬إال ما ذكرناه من حديث أبي داود‬


‫الصحيحين أو يف البخاري أو يف مسلم‪ ،‬ولم نذكر شيئًا َ‬
‫أخبار صحيحة‪ ،‬وقد جمعناها بما يدل على انتظامها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ونصصنا عليه‪ ،‬فهي‬

‫‪‬‬

‫‪15‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ونقرأ ما أورده اإلمام مسلم ‪ $‬مما يدل على ما ذكرناه‪.‬‬

‫الرو ُم َأ ْكثَ ُر الن ِ‬


‫َّاس))‬ ‫اب‪َ :‬ت ُقو ُم َّ‬
‫السا َع ُة َو ُّ‬ ‫(( َب ٌ‬

‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم‬ ‫ت رس َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َق َال الْ ُم ْست َْو ِر ُد الْ ُق َر ِش ُّي ﭬ ِعنْدَ َع ْمرو ْب ِن الْ َع ِ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫اص َق َال‪َ :‬سم ْع ُ َ ُ‬
‫ول َما‬ ‫ول"‪َ ،‬ق َال‪َ ":‬أ ُق ُ‬ ‫َّاس«‪َ .‬ف َق َال لَ ُه َع ْمروﭬ‪َ " :‬أ ْب ِص ْر َما َت ُق ُ‬ ‫الرو ُم َأ ْكثَ ُر الن ِ‬ ‫السا َع ُة َو ُّ‬ ‫َي ُق ُ‬
‫ول‪َ (( :‬ت ُقو ُم َّ‬
‫يهم لَ ِ‬
‫خ َصاالً َأ ْربَ ًعا‪ :‬إِن َُّه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ت َذلِ َ‬
‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم"‪َ ،‬ق َال‪" :‬لَئِ ْن ُق ْل َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫س ِمع ُ ِ‬
‫ك إِ َّن ف ِ ْ‬ ‫ت م ْن َر ُسول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ْ‬
‫َّاس ِعنْدَ فِتْن ٍَة‪َ ،‬و َأ ْس َر ُع ُه ْم إِ َفا َق ًة بَ ْعدَ ُم ِصيبَ ٍة‪َ ،‬و َأ ْو َشك ُُه ْم ك ََّر ًة بَ ْعدَ َف َّرةٍ‪َ ،‬وخَ يْ ُر ُه ْم لِ ِم ْسكِ ٍ‬
‫ين‬ ‫ألَ ْح َل ُم الن ِ‬
‫امس ٌة حسنَ ٌة ج ِمي َلةٌ‪ :‬و َأمنَع ُهم ِمن ُظ ْل ِم الْم ُل ِ‬
‫وك"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ْ ُ ْ ْ‬ ‫َو َيتي ٍم َو َضعيف‪َ ،‬وخَ َ َ َ َ‬

‫الرو ُم َأ ْك َث ُر‬ ‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم َي ُق ُ‬ ‫ت رس َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ول‪َ (( :‬ت ُقو ُم َّ‬
‫السا َع ُة َو ُّ‬ ‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫اهلل َعنْ ُه‪َ :‬ق َال َسم ْع ُ َ ُ‬
‫َو َعنْ ُه َرض َي ُ‬
‫يث الَّتِي ت ُْذك َُر َعن َ‬
‫ْك َأن َ‬
‫َّك َت ُقولُ َها َع ْن‬ ‫اص َف َق َال‪َ " :‬ما َه ِذ ِه األَ َحادِ ُ‬ ‫َّاس»‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َب َلغَ َذلِ َ‬
‫ك َع ْمرو بْ َن الْ َع ِ‬ ‫الن ِ‬

‫ول اهللِ َص َّلى‬


‫ت ِم ْن رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ت الَّ ِذي َس ِم ْع ُ‬
‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم؟"‪َ .‬ف َق َال لَ ُه الْ ُم ْست َْو ِر ُدﭬ‪ُ :‬ق ْل ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫َر ُسول اهلل َص َّلى ُ‬
‫َّاس ِعنْدَ فِتْن ٍَة‪َ ،‬و َأ ْج َب ُر الن ِ‬
‫َّاس‬ ‫ت َذلِ َ‬
‫ك إِن َُّه ْم ألَ ْح َل ُم الن ِ‬ ‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم َق َال‪َ .‬ف َق َال َع ْمروﭬ‪" :‬لَئِ ْن ُق ْل َ‬
‫ُ‬
‫َّاس لِ َم َساكِينِ ِه ْم َو ُض َع َفائِ ِه ْم"‪.‬‬
‫ِعنْدَ ُم ِصيبَ ٍة‪َ ،‬وخَ يْ ُر الن ِ‬

‫سمعت رسول اهلل‬


‫ُ‬ ‫ِ‬
‫المستورد القرشي رضي اهلل عنه وأرضاه‪:‬‬ ‫يف هذا الحديث –أيها اإلخوة‪ -‬يقول‬

‫الرو ُم َأ ْكثَ ُر الن ِ‬


‫َّاس))؛ ففي ذلك بيان أ ّنَّّّ من عالمات‬ ‫صلى اهلل عليه وعلى وسلميقول‪َ (( :‬ت ُقو ُم َّ‬
‫السا َع ُة َو ُّ‬
‫ظهور أ َمارات الساعة الكربى‪ :‬كثرة الروم‪ ،‬وقد تقدّ م معنا ربْط ذلك بالملحمة‪ ،‬وأ ّن الروم يكثرون‪ ،‬ثم‬

‫يصطلح معهم المسلمون‪ ،‬ثم َيغدر الروم‪.‬‬

‫يث الَّتِي ت ُْذك َُر َعن َ‬


‫ْك َأن َ‬
‫َّك َت ُقولُ َها؟" ويف‬ ‫فبلغ ذلك عمرو بن العاص رضي اهلل عنه فقال‪َ " :‬ما َه ِذ ِه األَ َحادِ ُ‬

‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم"‪ .‬هنا عمرو‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت الَّ ِذي س ِمع ُ ِ‬


‫رواية قال‪" :‬أ ْب ِصر ما تقول!"‪ ،‬قال‪ُ " :‬ق ْل ُ‬
‫ت م ْن َر ُسول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ْ‬

‫‪16‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫ﭬ لما ِ‬
‫سمع الخرب من رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬علِ َم أنه حق؛ فبيَّن السبب يف كثرهتم‪ ،‬ما الذي‬ ‫ّ‬
‫خصاال خمسة تقتضي بقاء قوهتم‪ ،‬وبقاء صحتهم‪ ،‬وبقاء نسلِهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫يجعلهم َيكثرون؟ فذكر فيهم‬

‫ما هذه الخصال الخمس؟‬

‫▪ أ َّنهم أسرع الناس إفاق ًة بعد مصيبة؛ فإذا نزلت هبم مصيبة ُيسرعون إلى اإلفاقة‪.‬‬

‫▪ وأ َّنهم أبطأ الناس عند الفتنة؛ الفتن ُتهلِك الناس‪ ،‬وال ُبطء عند الفتنة سالمة‪ ،‬والروم كانوا‬

‫على هذا‪ ،‬إذا ح َّلت فتنة ال ُيسارعون إليها؛ فهم أبطأ الناس عند نزول فتنة‪.‬‬

‫انكسر جيْشهم ُيسارعون إلى العودة إلى‬


‫َ‬ ‫كر ًة بعد َّفرة؛ يعني إذا حصل أن‬
‫▪ وأوشكهم َّ‬
‫القتال‪.‬‬

‫▪ وأ َّنهم من أحسن الناس إحسانًا للضعفاء؛ من األيتام وأبناء السبيل واألرامل وغير ذلك‪،‬‬

‫فهم أحسن الناس إحسانًا لضعفائهم‪ ،‬واإلحسان إلى الضعفاء برك ٌة على أهله‪.‬‬

‫سبب لألمن‪ ،‬والحاكم العادل ُيم َّكن له ولو‬


‫تحري ملوكهم للعدل؛ والعدل ٌ‬
‫▪ والخامسة‪ِّ :‬‬
‫كافرا‪.‬‬
‫كان ً‬
‫فهذه الخصال الخمسة موجودة فيهم أكثر من غيْ ِرهم‪ ،‬ولذلك ِيق ُّل الناس ويكثرون‪ ،‬الناس ُتهلِكهم‬

‫يقل ذلك فيهم‪ُّ ،‬‬


‫فيقل الناس و َيكثر‬ ‫المصائب والفتن‪ ،‬وظلم بعضهم لبعض‪ ،‬وظلم ُحكامهم لهم‪ ،‬وهؤالء ّ‬

‫الروم‪ ،‬وكثرهتم ‪-‬كما قلنا‪ -‬عالم ٌة على ُقرب قيام الساعة‪.‬‬

‫لعلنا نكتفي هبذا يف هذا اليوم‪ ،‬وغدً ا إن شاء اهلل عز وجل نُكمل ما أورده اإلمام مسلم مما ُيب ِّين ما سر ْدنا ُه‬

‫من وقائع الملحمة التي تقع بين المسلمين والروم بين يدي الساعة‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪17‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الثاني عشر‬


‫باب إقبال الروم في كثرة القتل‬

‫عندخروج الدجال‬

‫‪18‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫ال الرو ِم فِي َكثْرةِ الْ َقت ِْل ِعنْدَ خُ روجِ الدَّ َّج ِ‬
‫ِ‬
‫ال‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اب‪ :‬إِ ْقبَ ُّ‬
‫بَ ٌ‬

‫يح َح ْم َرا ُء بِالْكُو َف ِة‪َ ،‬ف َجا َء َر ُج ٌل لَ ْي َس لَ ُه ِه ِّج َيرى إِالَّ‪َ :‬يا‬
‫ت ِر ٌ‬ ‫َع ْن َأبِي َقتَا َد َة الْ َعدَ ِو ِّ‬
‫ي َع ْن ُي َس ْيرِ ْب ِن َجابِرٍ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ه َ‬
‫اج ْ‬

‫السا َع َة الَ َت ُقو ُم َحتَّى الَ ُي ْق َس َم ِم َير ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫اث‬ ‫السا َع ُة! َق َال‪َ :‬ف َق َعدَ ‪َ -‬وكَا َن ُمتَّكئًا‪َ ،-‬ف َق َال‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫َع ْبدَ اهلل ْب َن َم ْس ُعود‪َ ،‬جا َءت َّ‬
‫الشا ِم‪َ ،-‬ف َق َال‪َ :‬عدُ ٌّو َي ْج َم ُعو َن ألَ ْه ِل ِ‬ ‫ِِ‬ ‫والَ ي ْفرح بِغَن ِ ٍ‬
‫اإل ْسالَ ِم َو َي ْج َم ُع لَ ُه ْم‬ ‫يمة‪ُ .‬ث َّم َق َال بِ َيده َهك ََذا‪َ -‬ون ََّح َ‬
‫اها ن َْح َو َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‬

‫َال َر َّد ٌة َش ِديدَ ةٌ‪َ ،‬ف َي ْشتَرِ ُط الْ ُم ْس ِل ُمو َن ُش ْر َط ًة‬


‫ت‪ :‬الروم َت ْعن ِي؟ َق َال‪َ :‬ن َعم‪َ ،‬و َتكُو ُن ِعنْدَ َذاكُم الْ ِقت ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َأ ْه ُل ِ‬
‫اإل ْسالَمِ‪ُ ،‬ق ْل ُ ُّ َ‬
‫ت الَ ت َْر ِج ُع إِالَّ َغالِبَةً‪َ ،‬فيَ ْقتَتِ ُلو َن َحتَّى َي ْح ُج َز بَيْن َُه ُم ال َّليْ ُل‪َ ،‬فيَ ِفي ُء َه ُؤال َِء َو َه ُؤالَ ِء‪ ،‬ك ٌُّل َغيْ ُر غَالِ ٍ‬
‫ب‪َ ،‬و َت ْفنَى‬ ‫لِ ْلمو ِ‬
‫َْ‬

‫ت الَ ت َْر ِج ُع إِالَّ َغالِبَةً‪َ ،‬فيَ ْقتَتِ ُلو َن َحتَّى َي ْح ُج َز بَيْن َُه ُم ال َّليْ ُل‪َ ،‬فيَ ِفي ُء‬
‫الشر َطةُ‪ُ ،‬ثم ي ْشتَرِ ُط الْمس ِلمو َن ُشر َط ًة لِ ْلمو ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ ُ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُّ ْ‬
‫ت الَ ت َْر ِج ُع إِالَّ َغالِبَةً‪،‬‬
‫الشر َطةُ‪ُ ،‬ثم ي ْشتَرِ ُط الْمس ِلمو َن ُشر َط ًة لِ ْلمو ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ ُ‬ ‫َّ َ‬ ‫َه ُؤال َِء َو َه ُؤال َِء‪ ،‬ك ٌُّل َغ ْي ُر غَالِ ٍ‬
‫ب َو َت ْفنَى ُّ ْ‬
‫الرابِعِ؛ ن ََهدَ إِلَ ْي ِه ْم‬
‫الش ْر َطةُ‪َ ،‬فإِ َذا كَا َن َي ْو ُم َّ‬ ‫َف َي ْقتَتِ ُلو َن َحتَّى ُي ْم ُسوا‪َ ،‬ف َي ِفي ُء َه ُؤال َِء َو َه ُؤال َِء‪ ،‬ك ٌُّل َغ ْي ُر غَالِ ٍ‬
‫ب‪َ ،‬و َت ْفنَى ُّ‬

‫اهلل الدَّ َب َر َة َع َل ْي ِه ْم‪َ ،‬ف َي ْقتُ ُلو َن َم ْقتَ َل ًة ‪-‬إِ َّما َق َال‪ :‬الَ ُي َرى ِمثْ ُل َها‪َ ،‬وإِ َّما َق َال‪ :‬لَ ْم ُي َر ِمثْ ُل َها‪،-‬‬ ‫َب ِق َّي ُة َأ ْه ِل ِ‬
‫اإل ْسالَمِ‪َ ،‬ف َي ْج َع ُل ُ‬
‫جدُ و َن ُه َب ِق َي ِمن ُْه ْم إِالَّ‬
‫ب كَانُوا ما َئ ًة َفالَ َي ِ‬ ‫حتَّى إِ َّن الطَّائِر لَيمر بِجنَباتِ ِهم َفما يخَ ِّل ُف ُهم حتَّى ي ِ‬
‫خ َّر َم ْيتًا‪َ ،‬ف َيتَ َعا ُّد َبنُو األَ ِ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ َ ُ ُّ َ َ ْ َ ُ‬ ‫َ‬

‫س ُه َو َأ ْكبَ ُر ِم ْن َذلِ َ‬
‫ك‬ ‫ك إِ ْذ َس ِم ُعوا بِبَأْ ٍ‬
‫اس ُم؟ َفبَيْن ََما ُه ْم ك ََذلِ َ‬ ‫احدُ ‪َ ،‬فبِأَي غَنِيم ٍة ي ْفرح َأو َأ ِ ٍ‬
‫ي م َيراث ُي َق َ‬
‫َ ُ َ ُ ْ ُّ‬ ‫ِّ‬
‫الرج ُل الْو ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ُ‬
‫يخ؛ إِ َّن الدَّ َّج َال َقدْ خَ َل َف ُه ْم فِي َذ َر ِاريه ْم؛ َفيَ ْرفِ ُضو َن َما فِي َأ ْي ِد ِ‬
‫يه ْم َو ُي ْقبِ ُلو َن‪َ ،‬فيَبْ َعثُو َن َع َش َر َة َف َو ِار َس‬ ‫الصرِ ُ‬
‫َف َجا َء ُه ُم َّ‬

‫اهلل ع َل ْي ِه َو َس َّل ْم‪« :-‬إِنِّي ألَ ْعرِفُ َأ ْس َما َء ُه ْم َو َأ ْس َما َء آبَائِ ِه ْم َو َألْ َوا َن خُ ُيولِ ِه ْم‪ُ ،‬ه ْم‬ ‫َط ِليع ًة‪َ .‬ق َال رس ُ ِ‬
‫ول اهلل ‪َ -‬ص َّلى ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬

‫ض َي ْو َمئِ ٍذ»‪.‬‬ ‫ض يومئِ ٍذ»‪َ ،‬أو ِ‬


‫«م ْن خَ ْيرِ َف َو ِار َس َع َلى َظ ْهرِ األَ ْر ِ‬ ‫ْ‬ ‫خَ ْي ُر َف َو ِار َس َع َلى َظ ْهرِ األَ ْر ِ َ ْ َ‬
‫اق الْ َح ِد َ‬
‫يث‪.‬‬ ‫يح َح ْم َرا ُء‪َ .‬و َس َ‬ ‫ْت ِعنْدَ ا ْب ِن َم ْس ُعودٍ َف َه َّب ْ‬
‫ت ِر ٌ‬ ‫َو َعنْ ُه رضي اهلل عنه َق َال‪ُ :‬كن ُ‬

‫يح َح ْم َرا ُء بِالْ ُكو َف ِة‪َ .‬ف َذك ََر ن َْح َو‬
‫ت ِر ٌ‬ ‫ت َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َم ْس ُعودٍ‪َ ،‬والْ َب ْي ُ‬
‫ت َمآل ُن‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َه َ‬
‫اج ْ‬ ‫ْت فِي بي ِ‬
‫َْ‬ ‫َو َعنْ ُه َق َال‪ُ :‬كن ُ‬
‫ح ِد ِ‬
‫يث ابْ ِن ُع َليَّةَ‪.‬‬ ‫َ‬

‫هذا الحديث أيها اإلخوة‪ ،‬تقدّ م معنا مضمونه‪ ،‬وبيّنَّا أنه يف الملحمة التي تقع بين المسلمين والروم‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫اج ْت ِر ٌ‬
‫يح َح ْم َرا ُء))‪ ،‬والريح الحمراء من عالمات قيام الساعة‪ ،‬وقد جاء عن أبي‬ ‫((ه َ‬
‫قال يسير بن جابر‪َ :‬‬

‫ريح حمراء مِن قِ َبل‬


‫هريرة رضي اهلل عنهعن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪« :‬ال تقوم الساعة حتى ُتب َعث ٌ‬
‫اليمن؛ َف َي ْك ِف ُت اهلل هبا َّ‬
‫كل نف ٍ‬
‫س تؤمن باهلل واليوم اآلخر» رواه ابن حبان وصححه األلباين‪ .‬أبو هريرةرضي اهلل‬

‫عنه يحكي عن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أنه قال‪« :‬ال تقوم الساعة حتى ُتب َعث ٌ‬
‫ريح حمراء»‪ ،‬من أين؟‬

‫«من قِ َبل اليمن»‪ ،‬هذه الريح تأخذ روح َّ‬


‫كل مؤمن فال يبقى بعدها إال كافر ‪-‬وسنتكلم عنها إن شاء اهلل قري ًبا‪،-‬‬

‫ريح حمراء‪ ،‬والقوم كانوا يعلمون أ ّن الريح الحمراء من عالمات‬


‫وصفها بأهنا‪ٌ :‬‬
‫لكن الشاهد من الرواية هنا هو ْ‬

‫فلما رآها رجل جاء إلى ابن مسعودرضي اهلل عنه‪ ،‬وليس له ِه ِّجيرى؛ أي ليس له ديدن ود َأب‬
‫قيام الساعة‪ّ ،‬‬
‫يكرر‪ ،‬هذا‬
‫وشيئًا يعود إليه إال أن يقول‪ :‬يا ابن مسعود جاءت الساعة‪ ،‬يا ابن مسعود جاءت الساعة! يعني ِّ‬
‫لما رأى العالمة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫معنى "وليس له إال ه ِّجيرى"؛ يعني أنه يكرر هذا األمر؛ من خوفه‪َّ ،‬‬

‫قال‪َ (( :‬ف َق َعدَ )) َمن الذي قعد؟ ابن مسعود‪ ،‬ليس الرجل‪ ،‬وإنما ابن مسعود‪ ،‬كان متكئًا ّ‬
‫فلما سمع هذا الكالم‬

‫العظيم من هذا الرجل وهو يردده ويعاوده‪ :‬جاءت الساعة‪ ،‬جاءت الساعة‪ ،‬جاءت الساعة‪ ،‬قعد ﭬ‪ ،‬وكان‬

‫ال ُي ْف َر َح‬ ‫ال ُي ْق َس َم مِ َير ٌ‬


‫اث َو َ‬ ‫ال َت ُقو ُم َحتَّى َ‬ ‫متكئًا‪ ،‬فقال‪ :‬إ ّن األمر ليس كما تظن‪ ،‬ولذلك قال له‪(( :‬إِ َّن َّ‬
‫السا َع َة َ‬

‫يم ٍة))؛ إذن هذه ليست هي الريح‪ ،‬أل ّن هذا األمر لم يقع؛ أنه ال ُيقسم الميراث وال ُيفرح بالغنيمة‪.‬‬‫ِ‬
‫بِغَن َ‬
‫الشا ِم‪ ))-‬أي أشار إلى جهة الشام‪ ،‬أي أ ّن هذا األمر يقع يف جهة الشام‪،‬‬ ‫(( ُث َّم َق َال بِيَ ِد ِه َه َك َذا ‪َ -‬ون ََّح َ‬
‫اها ن َْح َو َّ‬

‫وهو ‪-‬كما قلنا باألمس‪ -‬يقع قريبًا من حلب عند الملحمة الكربى‪.‬‬
‫اإل ْسالَ ِم َو َي ْج َم ُع َل ُه ْم َأ ْه ُل ِ‬
‫اإل ْسالَمِ)) وذلك أ ّن الروم ‪-‬كما تقدّ م معنا‪-‬‬ ‫فقال‪َ (( :‬عدُ ٌّو َي ْج َم ُعو َن ألَ ْه ِل ِ‬

‫رومي‪:‬‬
‫ٌّ‬ ‫يصالحون المسلمين فيقاتلون عدُ ًّوا ‪-‬أعني المسلمين والروم يقاتِلون عدُ ًّوا‪ -‬فينتصرون عليه‪ ،‬فيقول‬

‫الصلح‪ ،‬وهذه من عاداهتم؛‬


‫نص َرنا اهلل‪ ،‬ثم يغدر الروم بالمسلمين و َينقضون ُّ‬
‫انتصر الصليب‪ ،‬ويقول مسلم‪َ :‬‬
‫َ‬

‫الشرعي وأفتى والة األمر من العلماء بجوازه‪ ،‬واختاره أولياء األمر من‬
‫ُّ‬ ‫لك ّن هذا ال َيمنع الصلح إذا قام سببه‬

‫الحكام؛ فإ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أخرب عن ُّ‬


‫الصلح مع الروم وأهنم ينقضون‪ ،‬ولم ينه عن هذا‬

‫الصلح‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫فيجمعون ألهل اإلسالم وينطلقون بجي ٍ‬
‫ش عظيم تحت اثني عشرة راية‪ ،‬اثنتا عشرة راية يرفعها هؤالء القوم‪،‬‬

‫تحت كل راية ثمانون ألفا‪ ،‬فيسمع أهل اإلسالم هبم فيجمعون لهم‪ ،‬ويخرج لهم جيش من المدينة‪ ،‬واإليمان‬
‫إذ ذاك ِ‬
‫يأرز إلى المدينة‪ ،‬وهم من خيار أهل األرض‪ ،‬فتقع الملحمة‪.‬‬

‫َال َر َّد ٌة َش ِديدَ ةٌ)) ما معنى قوله تكون ر َّدة شديدة؟‬


‫الرو َم َت ْعنِي؟ َق َال‪ :‬نَ َع ْم‪َ ،‬و َت ُكو ُن ِعنْدَ َذاك ُُم ا ْل ِقت ِ‬
‫قال‪ُ (( :‬ق ْل ُت ُّ‬
‫فر َّدة‪ :‬يعني َع ْطفة‪ ،‬ف َيعطف هؤالء القوم‬
‫أي َع ْطف ٌة شديدة بين القوم يف القتال‪ ،‬فيقع القتال والقتل يف الجانبين‪َ ،‬‬

‫على المسلمين فيُ َقتَّل من المسلمين‪ ،‬و َيعطف المسلمون عليهم ‪-‬أي ّ‬
‫يكر المسلمون عليهم‪ -‬و ُيقتِّلون من‬

‫الروم‪.‬‬
‫(( َفي ْشت َِر ُط ا ْلمسلِمو َن ُشر َط ًة ل ِ ْلمو ِ‬
‫ت)) ما هي ُّ‬
‫الشرطة؟ قالوا‪ :‬الشرطة؛ هي الكتيبة التي تشهد المعركة‪ُ ،‬س ُّموا‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ ُ‬ ‫َ‬

‫" ُشرطة" ألهنم يتقدّ مون على الجيش‪ ،‬يعني أول كتيبة من الجيش؛ فهم ُي ِعدُّ ون أنفسهم للموت‪ ،‬والشرطة هي‬

‫إعداد اإلنسان نفسه للموت‪ ،‬ومنه ُس ِّميت الشرطة اليوم شرطة؛ أ ّن َرجل الشرطة ُي ِعدُّ نفسه للموت يف حماية‬

‫يتعرض للمجرمين‪ .‬وقيل‪ :‬إ ّن الشرطة هي العالمة‪ ،‬ومنه سميت ّ‬


‫الشرطة " ُشرطة"؛ ألهنم‬ ‫اآلمنين؛ ألنه ّ‬
‫يضعون عالم ًة تميّزهم عن غيرهم‪.‬‬

‫فالشرطة‪ :‬هم الكتيبة التي تشهد المعركة‪ ،‬و قيل‪ :‬هم أول طائفة يشهدون المعركة‪.‬‬

‫والمقصود أيها اإلخوة؛ أهنم قو ٌم ُيعدُّ ون أنفسهم للموت يف سبيل اهلل‪ ،‬فيشرتطون على أنفسهم شر ًطا؛ هو‬

‫الموت ‪-‬شهاد ًة‪ -‬أو ال َغ َلبة‪ ،‬فيقاتلون كما قالوا صادقين‪ ،‬فتُقتل هذه الكتيبة جميعا‪ ،‬قال رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫ال ِء)) أي يرجع هؤالء وهؤالء ((ك ٌُّل َغ ْي ُر غَال ِ ٍ‬


‫ب))‪ ،‬لك ّن‬ ‫ال ِء َو َهؤُ َ‬
‫(( َف َي ْقتَتِ ُلو َن َحتَّى َي ْح ُجزَ َب ْينَ ُه ُم ال َّل ْي ُل‪َ ،‬ف َي ِفي ُء َهؤُ َ‬

‫الشرطة قد َفن َْت‪ُ ،‬قتِلت‪ ،‬فتَشرتط ُشرطة جديدة من المسلمين‪ ،‬على نفس َّ‬
‫الشرط السابق‪ :‬الغلبة أو الموت‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ال ِء)) أي يرجع‪ٌّ ،‬‬


‫كل إلى معسكره‪ ،‬ك ٌُّل َغيْ ُر غَال ِ ٍ‬
‫ب‪،‬‬ ‫ال ِء َو َهؤُ َ‬
‫(( َفيَتَ ْقا َت ُلو َن َحتَّى َي ْح ُجزَ بَيْنَ ُه ُم ال َّليْ ُل‪َ ،‬فيَ ِفي ُء َهؤُ َ‬

‫لكن الشرطة َتفنى و ُتقتل يف سبيل اهلل‪ ،‬فتقوم شرطة ثالثة يشرتطون هذا الشرط ويقتتل القوم يف اليوم الثالث‬

‫يحجز بينهم الليل‪ ،‬فيفيء هؤالء وهؤالء‪ٌّ ،‬‬


‫كل غير غالب‪ ،‬لك ّن الشرطة تفنى‪ ،‬وهؤالء‬ ‫ُ‬ ‫عظيما حتى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قتاال‬

‫شهداء‪ ،‬وهم من خير الشهداء‪ ،‬كما تقدم معنا يف الحديث باألمس‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫يف اليوم الرابع‪ :‬ينهض بقية أهل اإلسالم‪ ،‬والظاهر ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أ ّن الجميع َي ِ‬
‫عزمون على ما كانت تعزم عليه‬

‫الشرطة؛ وهي الموت أو الغلبة‪ ،‬بقلب رج ٍل واحد‪ ،‬فينصرهم اهلل‪ ،‬وينكسر الروم‪.‬‬

‫اهلل الدَّ َب َر َة َع َل ْي ِه ْم))؛ الدَّ َبرة يف اللغة‪ :‬يعني الهزيمة‪ ،‬فيجعل اهلل الهزيمة على الروم؛‬
‫قالرضي اهلل عنه‪َ (( :‬ف َي ْج َع ُل ُ‬
‫ف ُيدبِرون‪ .‬وجاء يف رواية‪" :‬فيجعل اهلل الدائرة عليهم"‪ ،‬أي تدور عليهم المعركة‪ ،‬وينتصر المسلمون‪.‬‬

‫ال ُي َرى مِثْ ُل َها‪ ،‬أو َل ْم ُي َر مِثْ ُل َها)) يعني مقتلة شديدة لم تسبق‪ ،‬ويكثر القتل‪ ،‬وتكثر ِج َيف‬
‫قال‪َ (( :‬ف َي ْقتُ ُلو َن َم ْقتَ َل ًة َ‬

‫الكفار‪ ،‬حتى أ ّن الطائر يطير يف السماء فإذا ّ‬


‫مر هبم سقط ميّتًا من شدة نتنهم ومن كثرة القتل فيهم‪ ،‬فهذا معنى‬
‫قولهرضي اهلل عنه‪(( :‬حتَّى إِ َّن ال َّطائِر َليمر بِجنَباتِ ِهم َفما ي َخ ِّل ُفهم حتَّى ي ِ‬
‫خ َّر َميْتًا))‪.‬‬ ‫ُ ْ َ َ‬ ‫َ َ ُ ُّ َ َ ْ َ ُ‬ ‫َ‬

‫ب))؛ أي مِن الروم‪(( ،‬كَانُوا مِا َئةً))‪ ،‬قال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫(( َفيَتَ َعا ُّد َبنُو األَ ِ‬

‫الجد‪ ،‬وقد يكون جد الجد‪ ،‬أل ّن الجد أب‪ ،‬فقد يكون‬


‫األب المباشر؛ فقد يكون َ‬
‫األب َ‬
‫‪ o‬ال يلزم أن يكون ُ‬

‫المراد‪ :‬فيتعا ّد أبناء القبيلة‪ ،‬كانوا مائة فال يبقى منهم إال واحد‪.‬‬

‫‪ o‬وقد يكون المراد‪ :‬األب المباشر‪ ،‬أل ّن الروم يكثرون إذ ذاك‪ ،‬فقد يكون للرجل الواحد مئة من الولد‪،‬‬

‫فيتعاد المئة‪ ،‬فال يبقى منهم إال رجل واحد‪.‬‬

‫فإذ ذاك يغنمون غنيمة عظيمةً‪ ،‬متى يا إخوة؟ عندما يذهبون إلى القسطنطينية‪ ،‬ألهنم بعد هذه المعركة يتْبعون‬

‫الروم إلى قسطنطينية ويحصل الفتح‪ ،‬ويغنمون مغانم كثيرة‪.‬‬


‫ِ ٍ‬ ‫قال‪َ (( :‬فبِ َأي غَن ِ ٍ‬
‫يمة ُي ْف َر ُح َأ ْو َأ ُّي م َيراث ُي َق َ‬
‫اس ُم؟)) هنا تلحظون أنه لم ُيذكَر السبب يف هذا‪ ،‬السبب ‪-‬كما قلنا‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬

‫باألمس‪ :-‬أهنم إذا وصلوا القسطنطينية وغنموا وبدؤوا يتقاسمون الغنائم وهي غنائم عظيمة جدا‪ ،‬يصرخ‬

‫فيهم الشيطان‪ :‬أ ّن الدجال قد خرج من ورائكم‪ ،‬فيعلمون أ ّن الساعة اقرتبت؛ فماذا يريدون من الدنيا إذ ذاك؟!‬

‫قاسم ميراث‪ ،‬ال أحد يريد المال‪ ،‬وال‬


‫ماذا يريدون من الدنيا وقد ظهرت العالمات الكربى؟! فإذ ذاك ال ُي َ‬
‫فرح بغنيمة‪.‬‬
‫ُي َ‬
‫وهذا ‪-‬يا إخوة‪ -‬وإن كان يف آخر الزمان إال أنه يد ُّلنا على حقارة الدنيا وأنه ال ينبغي للمسلم أن يع ّلق نفسه‬
‫ٍ‬
‫هبا‪ ،‬أل ّن ساعة كل واحد منا قريبة‪ ،‬وأعمار أمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ما بين ّ‬
‫الستين إلى السبعين‪،‬‬

‫‪22‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫َّ‬
‫وقل منهم َمن يجوز ذلك‪ ،‬ونحن قد اقرتبنا‪ ،‬واهلل أعلم متى يكن األجل‪ ،‬قد ال يقوم الواحد منا من مقامه‪ ،‬قد‬

‫ال يكمل كلمته‪ ،‬قد ال يتم ليلته! كم من رج ٍل نام يظن أنه يستيقظ فما استيقظ من منامه! وكم مِن طف ٍل ُرجيت‬

‫حياته فمات قبل تمامه!‬

‫ولذلك؛ جاء عن ميمون بن مهران رحمه اهلل أنه نظر إلى جلسائه يو ًما فقال‪" :‬يا معشر الشيوخ‪ ،‬ما ُينتَ َظر مِن‬

‫الزرع إذ اب َي َّض؟ قالوا‪ :‬الحصاد‪ ،‬ثم نظر إلى الشباب فقال‪ :‬يا معشر الشباب‪ ،‬إ ّن الزرع قد ُتدْركه آف ٌة قبل أن‬

‫ستحصد"‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُي‬

‫لت َأ ْج َسا ُد ُه ْم ُظ ْل َمـــ َة ال َقربِ‬ ‫و َقدْ ُأ ِ‬


‫دخ ْ‬ ‫عمرهم‬ ‫َو َك ْم مِ ْن ِصغ ٍ‬
‫َار ُي ْر َت َجى ُط ُ‬
‫َ‬ ‫ــول ْ‬
‫َاش ِحينًا مِ َن الدَّ ْه ِر‬ ‫َوك َْم مِ ْن َس ِق ٍ‬
‫يم ع َ‬ ‫ات مِ ْن َغيْ ِر ِعــــ َّل ٍة‬ ‫وكَم مِن ص ِ‬
‫حيحٍ َم َ‬ ‫َ ْ ْ َ‬

‫فنحن ‪-‬واهلل‪ ،‬يا إخوة‪ -‬ساعتنا قريبة‪ ،‬وقد تكون أقرب مما نظن‪ ،‬فال ينبغي علينا أن نع ّلق قلوبنا بالدنيا‪ ،‬وإنما‬

‫نجعل تع ّلقنا باآلخرة‪ ،‬نعم ال هنجر الدنيا ولم نؤ َمر هبجران الدنيا؛ لكنّا ال نتعلق هبا حتى تفتننا عن ديننا‪ ،‬بل‬

‫نجعل اآلخرة مقدَّ م ًة على كل حال‪ ،‬ونسعى جاهدين إلى أن نفوز بفضل اهلل بكثرة الطاعات‪ ،‬فإنه لن يدخل‬

‫أحدٌ منا الجنة بعمله‪ ،‬حتى رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إال بفضل اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ ،-‬واألعمال‬
‫الصالحة سبب ني ِل فضل اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ ،-‬وما من ٍ‬
‫ميت يموت إال ويندم؛ والبد‪ ،‬إن كان محسنًا ندم أال‬ ‫ُ‬

‫يكون قد ازداد‪ ،‬وإن كان ُمسيئًا ندم أال يكون قد استعتَب‪.‬‬

‫فالذي ينبغي علينا أن نتنبَّه إلى أنفسنا وأن نرجع إلى ر ِّبنا‪ ،‬الشيطان يحفر لنا‪ ،‬وأعداؤنا من الجن واإلنس‬

‫يحفرون لنا‪َ ،‬ينصبون لنا الحبائل‪ ،‬يريدون أن نكون من أهل النار‪ ،‬فعلينا أن نتنبه لهذا األمرالخطير‪ ،‬ونستعيذ‬

‫باهلل من شرور هؤالء جمي ًعا‪ ،‬ونلزم الطاع َة ما استطعنا‪ ،‬فإ ّن األمر جدُّ قريب‪ ،‬والعاقبة إنّما هي ألهل التقوى‪.‬‬

‫لما سمعوا بخروج الدجال عافوا َّ‬


‫كل‬ ‫فهنا أيها اإلخوة؛ نرى المسلمين وقد غنموا الذهب الكثير؛ لكنهم ّ‬
‫ذلك‪ ،‬ولو تي ّقنا الموت حق اليقين وآمنا بقربه منا إيمانًا صاد ًقا َل َما قدَّ منا الدنيا على اآلخرة أبدً ا؛ بل َل َعاف‬

‫الواحد منا الدنيا بجانب اآلخرة‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫س ُه َو َأ ْكبَ ُر مِ ْن َذل ِ َك)) أي ٍ‬
‫بأمر هو أكرب من‬ ‫قال ابن مسعود رضي اهلل عنه‪َ (( :‬فبَيْن ََما ُه ْم ك ََذل ِ َك إِ ْذ َس ِم ُعوا بِبَ ْأ ٍ‬

‫الص ِر ُ‬
‫يخ))؛ أي الصارخ‪ ،‬وقد ُف ِّسر هذا يف الحديث السابق؛ بأنه الشيطان‪ ،‬يصرخ فيهم‬ ‫ذلك‪َ (( ،‬ف َجا َء ُه ُم َّ‬

‫بالباطل‪.‬‬

‫وبالمناسبة يا إخوة؛ الشيطان قد يأيت المسلم بصورة ناصح يريد أن يوقعه فيما ُيسخط اهلل‪ ،‬هذا الشيطان جاء‬

‫للمسلمين ِّ‬
‫يحذرهم الدجال أنه خرج خلفهم يف ذراريهم؛ بالباطل‪ ،‬وكذلك نحن؛ الشيطان يجري من ابن آدم‬

‫دائما؛ بل هو كما قال ابن القيم‬


‫مجرى الدم‪ ،‬وال تحسب َّن الشيطان يأيت لإلنسان ليقوده إلى المعصية مباشرة ً‬
‫رحمه اهلل‪َ ":‬ي َش ام قلب العبد‪ ،‬ينظر يف قلب العبد فما يرى أنه أسرع لفتنته أخذ به"‪ .‬فإن رأى من الرجل حب‬

‫المعاصي دعاه إلى المعاصي مباشرة‪ ،‬إن رأى منه حب الزنا ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬دعاه إلى الزنا‪ ،‬إن رأى منه حب‬

‫الغيبة دعاه للغيبة‪ ،‬إن رأى منه حب الكذب دعاه للكذب‪ ،‬وإن لم َير منه حب المعاصي احتال عليه وجاءه‬

‫بصورة ناصح‪ ،‬فقد يأمر إبليس اإلنسان بقيام الليل‪ ،‬وقيام الليل هو أفضل الصالة بعد الفريضة‪ ،‬لكن إبليس ال‬

‫يريد من المسلم أن يقوم الليل لينال الفضيلة‪ ،‬وإنما إذا علم منه أنه إذا قام الليل نام عن الصالة المفروضة؛‬
‫يفوت عليه صالة الفجر؛ وإذا فاتت الفريضة وقع يف ٍ‬
‫أمر عظيم‪.‬‬ ‫فيدعوه إلى قيام الليل من أجل أن ّ‬

‫فالشيطان قد يأيت إلى اإلنسان بصورة ناصح‪ ،‬قد يأيت لإلنسان فيقول‪ :‬انتبه‪ ،‬أنت اآلن تتوضأ والوضوء مفتاح‬
‫الصالة ومن لم يصح وضوؤه لم تصح صالته؛ ِ‬
‫فزد يف الوضوء‪ ،‬فيزيد‪ ،‬فيقع يف االعتداء؛ أل ّن النبي ‪-‬صلى اهلل‬

‫عليه وسلم‪ -‬قال‪« :‬هذا الوضوء‪ ،‬فمن زاد فقد أساء واعتدى وظلم» ‪-‬أ ّما رواية «من نقص» فهي شاذة‪ ،-‬ثم‬

‫يقوده للوسواس‪ ،‬فإذا خرج من الحمام ‪-‬أعزكم اهلل‪ -‬قال له‪ :‬انتبه بقي شيء من البول والمسألة مسألة صالة؛‬

‫تفرط يف الطهارة؟! ارجع؛‬


‫ارجع‪ ،‬فإذا رجع وقضى ما قضى وخرج؛ قال له‪ :‬ال حوال وال قوة إال باهلل‪ ،‬كيف ِّ‬
‫يفوت عليه الوقت‪ ،‬أو يريد أن يث ّقل عليه‬
‫يفوت عليه الجماعة ‪-‬مثال‪ ،-‬أو يريد أن ّ‬
‫وينصحه؛ وهو يريد أن ّ‬

‫الطاعة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫ولذلك يا إخوة؛ من كثر شكه يف الوضوء ف ْليعلم أهنا من مكائد الشيطان وليست من احتياط أهل اإليمان‪،‬‬
‫ِ‬
‫فليكتف‪ ،‬وإذا استنجى كما يستنجي الناس‬ ‫و ْليستعذ باهلل من الشيطان‪ ،‬و ْل ِ‬
‫ينته‪ ،‬فإذا غسل عضو الوضوء ثال ًثا‬
‫ِ‬
‫ولينته‪ ،‬وال يتف ّقد وال يفتش؛ فإ ّن ذلك من مكائد الشيطان‪.‬‬ ‫ف ْليأخذ ما ًء و ْليضعه يف لباسه‪ ،‬وليخرج‬

‫الشاهد؛ أ ّن الشيطان يصرخ يف هؤالء ‪-‬أهل الفضل‪ :-‬أ ّن الدجال قد خلفهم يف ذراريهم‪ ،‬فيرتكون الغنائم‬

‫ويرجعون‪ ،‬قال‪َ (( :‬ف َي ْرفِ ُضو َن َما فِي َأ ْي ِدي ِه ْم َو ُي ْقبِ ُلو َن)) إلى الشام‪ ،‬قال‪َ (( :‬ف َي ْب َعثُو َن ع ََش َر َة َف َو ِار َس َطلِي َعةً)) أي‬

‫اهلل َع َليْ ِه َو َس َّل ْم)) ما فائدة هذه الجملة هنا؟‬ ‫مقدِّ مة‪َ (( ،‬ق َال رس ُ ِ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫هي تدل على أ َّن هذا مرفوع من كالم النبي صلى اهلل عليه وسلم؛ أل ّن ابن مسعود رضي اهلل عنه يف ّأول الكالم‬

‫ذكر هذا من غير أن ُيسنِده إلى النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬لكن ُيع َلم أنه مرفوع؛ أل ّن مثل هذا الكالم ال‬

‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل ْم‪« :‬إِنِّي ألَ ْع ِر ُ‬ ‫يقال إال عن توقيف‪ ،‬لكن جاءت هذه الجملة مبينة؛ قال‪َ (( :‬ق َال رس ُ ِ‬
‫ف‬ ‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ِّ‬

‫َأ ْس َما َء ُه ْم َو َأ ْس َما َء آ َبائِ ِه ْم َو َأ ْل َوا َن ُخ ُيول ِ ِه ْم»؛وهذه الجملة تدل على أ ّن القتال سيرجع إلى أن يكون على‬

‫الخيول‪ ،‬والخيول معقو ٌد بنواصيها الخير إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫و ُيفهم من الحديث ‪-‬أيضا‪ :-‬أ ّن هذه اآلالت التي نعيشها ونراها هذا الزمان ستزول‪ ،‬ويعود األمر إلى ما كان‪،‬‬

‫بدون هذه اآلالت؛ من هواتف وسيارات ودبابات وغير ذلك‪ ،‬ألهنم عندما بلغهم الخرب ماذا فعلوا؟ رجعوا‬

‫وأرسلوا طليعة؛ معنى هذا أنه ليس معهم ما يعرفون معه الخرب‪ ،‬وهم على خيولهم؛ معنى هذا أنه ليس معهم‬

‫هذه اآلالت‪ ،‬وهذا أمر ظاهر‪ ،‬فالقتال سيعود على الخيول‪ ،‬ويعود بالسيوف‪ ،‬ويعود بالسهام‪ ،‬ويعود بالرماح‪،‬‬

‫وتزول هذه اآلالت‪.‬‬

‫ف َأ ْس َما َء ُه ْم َو َأ ْس َما َء آ َبائِ ِه ْم َو َأ ْل َوا َن ُخ ُيول ِ ِه ْم‪ُ ،‬ه ْم َخ ْي ُر َف َو ِار َس‬


‫قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬إِنِّي ألَع ِْر ُ‬

‫ض َي ْو َمئِ ٍذ»‪.‬‬
‫ض َي ْو َمئِ ٍذ»‪َ ،‬أ ْو«مِ ْن َخيْ ِر َف َو ِار َس َع َلى َظ ْه ِر األَ ْر ِ‬
‫َع َلى َظ ْه ِر األَ ْر ِ‬

‫‪25‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬

‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الثالث عشر‬


‫باب مايكون من فتوحات املسلمين قبل الدجال‬

‫‪26‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫[ باب‪ :‬ما يك ُ ِ‬


‫ال]‬ ‫ُوحات الْ ُم ْس ِلم َ‬
‫ين َق ْب َل الدَّ َّج ِ‬ ‫ُون م ْن ُفت َ‬ ‫ٌ َ َ‬

‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّلم‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫اهلل َع َل ْيه َو َس َّلم في َغز َْوة‪َ ،‬ق َال‪َ :‬فأَتَى النَّبِ َّي َص َّلى ُ‬
‫َع ْن نَافع بْن عتْبَة َقال‪ُ " :‬كنَّا َم َع َر ُسول اهلل َص َّلى ُ‬
‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّلم‬ ‫وف‪َ ،‬فوا َف ُقوه ِعنْدَ َأكَم ٍة‪َ ،‬فإِنَّهم لَ ِقيام ورس ُ ِ‬
‫ب‪ ،‬ع َلي ِهم ثِياب الص ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫ُ ْ َ ٌ ََ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َق ْو ٌم م ْن قبَ ِل الْ َم ْغرِ ِ َ ْ ْ َ ُ ُّ‬

‫َج ٌّي َم َع ُه ْم‪َ .‬فأَ َت ْيت ُُه ْم َف ُق ْم ُ‬


‫ت‬ ‫ت لِي َن ْف ِسي‪ :‬ائْتِ ِه ْم َف ُق ْم َب ْين َُه ْم َو َب ْينَ ُه؛ الَ َي ْغتَالُو َن ُه‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬ث َّم ُق ْل ُ‬
‫ت‪ :‬لَ َع َّل ُه ن ِ‬ ‫َق ِ‬
‫اعدٌ ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َقالَ ْ‬
‫اهلل‪ُ ،‬ث َّم َف ِ‬
‫ار َس‬ ‫ات َأ ُعدُّ ُه َّن فِي َي ِدي؛ َق َال‪َ ((:‬ت ْغزُو َن َج ِز َير َة الْ َع َر ِ‬
‫ب َف َي ْفت َُح َها ُ‬
‫ت ِمنْه َأربع ك َِلم ٍ‬ ‫ِ‬
‫َب ْين َُه ْم َو َب ْينَ ُه‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َحفظْ ُ ُ ْ َ َ َ‬
‫الرو َم َفيَ ْفت َُح َها اهللُ‪ُ ،‬ث َّم َت ْغزُو َن الدَّ َّج َال َفيَ ْفت َُح ُه اهللُ»‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َق َال نَافِ ٌع‪َ :‬يا َجابِ ُر‪ ،‬الَ ن ََرى‬
‫َفيَ ْفت َُح َها اهللُ‪ُ ،‬ث َّم َت ْغزُو َن ُّ‬

‫الدَّ َّج َال َيخْ ُر ُج َحتَّى ُت ْفت ََح ُّ‬


‫الرو ُم))‪.‬‬

‫هذا الحديث أورده اإلمام مسلم ‪ $‬ليبيّن أ ّنّّ هذه الملحمة مع الروم إنَّما تكون قبل خروج الدجال‪ ،‬أل ّن النبي‬

‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ر ّتب ذلك‪.‬‬

‫نافع بن عتبة ﭬ يحكي أهنم كانوا مع رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف غزوة‪ ،‬فأتى قوم من قِ َبل المغرب‬

‫اهلل َع َل ْي ِه‬ ‫مكان مرتفع‪َ (( ،‬فإِنَّهم َل ِقيام ورس ُ ِ‬


‫ٍ‬ ‫عليهم ثياب الصوف‪ ،‬فوافقوه عند َأكَمة؛ أي عند‬
‫ول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫ُ ْ َ ٌ ََ ُ‬
‫ال َي ْغتَا ُلونَ ُه)) أي ال يقتلونه ِغيلة؛ أي يف غفلة منه‪،‬‬
‫اعدٌ ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َقا َل ْت لِي نَ ْف ِسي‪ :‬ائْتِ ِه ْم َف ُق ْم بَيْنَ ُه ْم َوبَيْنَ ُه؛ َ‬
‫وس َّلم َق ِ‬
‫َ َ‬
‫النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قاعد وهم قيام‪ ،‬وهو ال يعرف القوم‪ ،‬فخاف على النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪،-‬‬

‫ات َأعُدُّ ُه َّن فِي َي ِدي"‪،‬‬


‫َجي مع ُهم"؛ أي لعله يناجيهم ويحدّ ثهم‪ ،‬قال‪َ " :‬فح ِف ْظ ُت مِنْه َأربع كَلِم ٍ‬
‫ُ ََْ َ‬ ‫َ‬ ‫ثم قال‪" :‬لَ َع َّل ُه ن ِ ٌّ َ َ ْ‬
‫اهلل ))؛ وقد فتح اهلل جزيرة العرب‪ُ (( ،‬ث َّم َف ِ‬
‫ار َس َف َي ْفت َُح َها ُ‬
‫اهلل))؛ وقد فتح‬ ‫َق َال‪َ (( :‬ت ْغزُو َن َج ِز َير َة الْ َع َر ِ‬
‫ب َف َي ْفت َُح َها ُ‬

‫اهلل فارس‪ُ ((،‬ث َّم َت ْغزُو َن ُّ‬


‫الرو َم َف َي ْفت َُح َها ُ‬
‫اهلل))‪ ،‬قال بعض العلماء‪ :‬قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :-‬ت ْغزُو َن‬
‫اهلل‪ُ ،‬ث َّم َف ِ‬
‫ار َس)) ولم يقل‪ :‬ثم تغزون فارس؛ قالوا‪ :‬للداللة على قرب فتح فارس من فتح‬ ‫َج ِز َير َة الْ َع َر ِ‬
‫ب َف َي ْفت َُح َها ُ‬

‫جزيرة العرب‪ ،‬وكان األمر كذلك‪ ،‬فإ ّن فارس ُفتحت قري ًبا من فتح جزيرة العرب‪ ،‬ثم قال‪ُ « :‬ث َّم َت ْغزُ و َن ُّ‬
‫الرو َم‬

‫َفيَ ْفت َُح َها ُ‬


‫اهلل»‪ ،‬والروم المقصود هبا‪ :‬دار عاصمة الروم؛ قسطنطينية‪ ،‬فيفتحها اهلل‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وقلنا أهنا تفتح للمسلمين مرتين‪ ،‬مرة قد وقعت على يد السلطان محمد الثاين ابن مراد الثاين؛ محمد خان‪،‬‬

‫ولكنها ستعود إلى أيدي الروم‪ .‬و ُتفتح مرة أخرى؛ وذلك قبل خروج الدجال‪ ،‬ولذلك قال النبي صلى اهلل عليه‬

‫وسلم‪ُ « :‬ث َّم َت ْغزُو َن الدَّ َّج َال َفيَ ْفت َُح ُه اهللُ»؛ أي ُيقتل ‪-‬وهذا كما ذكرنا باألمس‪ ،-‬متى؟ بعد رجوعهم من‬

‫القسطنطينية‪ ،‬إذا وصلوا إلى الشام‪ ،‬وكان الشيطان قد كذب عليهم وقال‪ :‬إ ّن الدجال قد خرج؛ وهو كاذب‪ ،‬إذا‬

‫بلغوا الشام خرج الدجال‪ ،‬فيستعدُّ ون لقتاله ‪-‬كما قلنا باألمس‪ -‬و ُيص ُّلون جماعة‪ ،‬فبينما هم قد أقاموا الصالة‬

‫المهدي‪ :‬محمد بن عبد اهلل القرشي ‪-‬‬


‫ُّ‬ ‫وص ُّفوا الصفوف نزل عيسى ڠ فقال إمام المسلمين إذ ذاك؛ وهو‬

‫وعمرا‪-‬‬
‫سنتكلم عنه قريبا إن شاء اهلل‪ ،‬إن كتب اهلل لنا وقتا‪ ،‬وإال نتكلم عنه يف العام القادم إن كتب اهلل لنا جلوسا ْ‬
‫‪ ،‬يقول لعيسى ڠ‪ :‬تقدم يا روح اهلل ِّ‬
‫فصل لنا‪ ،‬فيقول‪ :‬بل تقدم أنت‪ ،‬أئمتكم منكم؛ َت ُ‬
‫كرم ًة ألمة محمد صلى‬

‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬ثم يخرجون إلى الدجال وهو متجه إلى بيت المقدس‪ ،‬فيلحقه المسلمون عند باب ُلدّ ‪ ،‬وهو ‪-‬‬

‫كما قلنا‪ -‬قريب من بيت المقدس‪ ،‬فإذا رأى الدجال‪ ،‬الذي كان يتعاظم على الناس ويريهم العجائب‪ ،‬إذا رأى‬

‫عيسى ڠ ذاب كما يذوب الملح يف الماء‪ ،‬لك ّن عيسى ڠ يتداركه فيضربه ُبر ْمحه؛ أل ّن له فيه ضرب ًة لن‬

‫تخطئه‪ ،‬وهبذا ُيقتل الدجال‪ ،‬وهذا معنى قول النبيصلى اهلل عليه وسلم‪ُ « :‬ث َّم َت ْغزُ و َن الدَّ َّج َال َفيَ ْفت َُح ُه ُ‬
‫اهلل»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بأمور ستقع‪ ،‬وقد‬ ‫وكما تلحظون يف هذا الحديث معجزة من معجزات النبي صلى اهلل عليه وسلم؛ حيث أخرب‬
‫ٍ‬
‫بأمور ستقع‪ ،‬وستقع إن شاء اهلل؛ أخرب بفتح جزيرة العرب وقد ُفتحت‪ ،‬أخرب بفتح فارس وقد‬ ‫وقعت‪ ،‬وأخرب‬

‫ُفتحت‪ ،‬وأخرب بفتح الروم وستُفتح‪ ،‬وأخرب بقتل الدجال وس ُيقتَل‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪2‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الرابع عشر‬


‫باب في اآليات التي تكون قبل الساعة‬

‫‪3‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫قال اإلمام النووي‪:$‬‬

‫السا َع ِة]‬ ‫ات الَّتِي َتك ُ‬


‫ُون َقبْ َل َّ‬
‫[ باب‪ :‬فِي ْاآلي ِ‬
‫َ‬ ‫َ ٌ‬

‫ِ‬ ‫يد الْ ِغ َف ِ‬


‫عن ح َذي َف َة ب ِن َأ ِس ٍ‬
‫«ما‬ ‫ي ﭬ‪َ ،‬ق َال‪" :‬ا َّط َل َع النَّبِ ُّي َص َّلى ُ‬
‫اهلل َع َل ْيه َو َس َّل ْم َع َل ْينَا َون َْح ُن َنت ََذاك َُر‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬‬ ‫ار ِّ‬ ‫َ ْ ُ ْ ْ‬
‫ت ََذاكَرو َن؟» َقالُوا‪ :‬ن َْذكُر الساع َة‪َ .‬ق َال‪(( :‬إِن ََّها لَن َت ُقوم حتَّى تَرو َن َقب َل َها ع ْشر آي ٍ‬
‫ات»‪َ ،‬ف َذك ََر‪ :‬الدُّ خَ ا َن‪َ ،‬والدَّ َّج َال‪،‬‬ ‫َ ْ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫س ِمن م ْغرِبِ َها‪ ،‬و ُنز َ ِ‬
‫وج َو َمأْ ُج َ‬
‫وج‪َ ،‬و َثالَ َث َة‬ ‫اهلل َع َل ْيه َو َس َّل ْم‪َ ،-‬و َيأْ ُج َ‬
‫يسى ا ْب ِن َم ْر َي َم ‪َ -‬ص َّلى ُ‬
‫ُول ع َ‬ ‫َ‬ ‫الش ْم ِ ْ َ‬
‫َوالدَّ ا َّبةَ‪َ ،‬و ُط ُلو َع َّ‬

‫َار تَخْ ُر ُج ِم َن الْيَ َم ِن َتطْ ُر ُد‬


‫كن ٌ‬‫آخ ُر َذلِ َ‬
‫ب‪ ،‬و ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‪َ ،‬وخَ ْسفٌ بِ َج ِز َيرة الْ َع َر ِ َ‬
‫خُ س ٍ‬
‫وف؛ خَ ْسفٌ بِالْ َم ْشرِ ِق‪َ ،‬وخَ ْسفٌ بِالْ َم ْغرِ ِ‬ ‫ُ‬
‫َّاس إِلَى َم ْح َشرِ ِه ْم))‪.‬‬
‫الن َ‬

‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اهلل َع َليْه َو َس َّل ْم في غ ُْر َفة َون َْح ُن َأ ْس َف َل منْ ُه‪َ ،‬فا َّط َل َع إِلَيْنَا َف َق َال‪َ :‬‬
‫«ما ت َْذك ُُرو َن؟» ُق ْلنَا‪:‬‬ ‫َو َعنْ ُه ﭬ َق َال‪ :‬كَا َن النَّبِ ُّي َص َّلى ُ‬
‫ب‪َ ،‬وخَ ْسفٌ فِي‬ ‫الساع َة‪َ .‬ق َال‪ ( :‬إِ َّن الساع َة الَ َتكُو ُن حتَّى َتكُو َن ع ْشر آي ٍ‬
‫ات‪ :‬خَ ْسفٌ بِالْ َم ْشرِ ِق‪َ ،‬وخَ ْسفٌ بِالْ َم ْغرِ ِ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ َ‬
‫الشم ِ ِ‬ ‫َج ِز َيرةِ الْ َع َر ِ‬
‫س م ْن َم ْغرِبِ َها‪َ ،‬ون ٌ‬
‫َار تَخْ ُر ُج‬ ‫وج َو َمأْ ُج ُ‬
‫وج‪َ ،‬و ُط ُلو ُع َّ ْ‬ ‫ض‪َ ،‬و َيأْ ُج ُ‬
‫ب‪َ ،‬والدُّ خَ ا ُن‪َ ،‬والدَّ َّج ُال‪َ ،‬و َدا َّب ُة األَ ْر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن ُق ْع َرة َعدَ ٍن ت َُر ِّح ُل الن َ‬
‫َّاس))‪.‬‬

‫هذا الحديث أيها اإلخوة؛ بعد أن ذكر اإلمام مسلم ‪ $‬العالمة على قرب ظهور العالمات الكربى؛ ذكر‬

‫العالمات الكربى‪ ،‬ما هي عالمة قرب ظهور العالمات الكبرى؟ كثرة الروم والملحمة‪ ،‬بعد أن ذكر هذه العالمة‪،‬‬

‫ذكر أمارات الساعة الكربى‪ ،‬وهي ما يف هذا الحديث‪.‬‬

‫اهلل َع َليْ ِه َو َس َّل ْم َع َليْنَا َون َْح ُن نَت ََذاك َُر‪َ ،‬ف َق َال‪َ « :‬ما َت َذاك َُرو َن؟»)) هذا يف بعض نسخ مسلم‪،‬‬
‫قال‪" :‬ا َّط َل َع النَّبِ ُّي َص َّلى ُ‬

‫ويف بعض نسخ مسلم‪(( :‬ما َت ْذكرون؟)) بدون األلف‪ ،‬قالوا‪(( :‬ن َْذك ُُر َّ‬
‫السا َعةَ)) أي نذكر أمر قيامها‪ ،‬وأهنا يمكن‬
‫أن تقوم يف أي وقت‪ ،‬ولذلك قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬إِنَّها َلن َت ُقوم حتَّى َترو َن َقب َلهاع َْشر آي ٍ‬
‫ات»‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬

‫وذكرها‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫هذا الحديث فيه عالمات الساعة الكربى‪ ،‬وهي كما جاء يف الحديث‪ :‬الدّ خان‪ ،‬والدّ ّجال‪ ،‬والدابة‪َ ،‬وطلوع‬

‫ّ‬
‫الشمس من مغرهبا‪ ،‬ونزول عيسى ابن مريم ڠ‪ ،‬وخروج يأجوج ومأجوج‪ ،‬وثالثة خسوف‪ ،‬والنَّار التي تحشر‬

‫الناس‪.‬‬

‫فصلنا الخسوف فذكرنا‬


‫طيب؛ هذه كم يا إخوة؟ هي ثمانية إذا عددناها هكذا‪ ،‬عشر بتفصيل الخسوف‪ ،‬إذا ّ‬

‫الثالثة تصبح عشرة‪ ،‬كما سيأيت عن شاء اهلل‪.‬‬

‫وهذه اآليات لم ُتذكَر يف الحديث مر َّتبة؛ بدليل أ ّن الروايات مختلفة يف ِّ‬


‫الذكر يف التقديم والتأخير‪ .‬ويحسن قبل‬

‫أن نشير إلى ما يتعلق برتيبها‪ ،‬أن نشير إلى ما يتعلق بتقسيمها‪ ،‬فإ ّن علماء اإلسالم ‪-‬بفقههم‪ -‬قسموا هذه‬
‫ٍ‬
‫تقسيمات جميلة‪.‬‬ ‫العالمات الكربى‬

‫فمنهم من قسمها إلى قسمين‪:‬‬ ‫•‬

‫عالمات متعلق ٌة بتغيرأحوال األرض؛ منها‪ :‬خروج الدجال‪ ،‬وخروج يأجوج ومأجوج‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫‪ ‬القسم األول‪:‬‬

‫ونزول عيسى ڠ‪ ،‬والخسوف ‪-‬الذي سنتكلم عنه إن شاء اهلل‪.-‬‬

‫عالمات متعلق ٌة بتغير أحوال السماء؛ ومنها‪ :‬طلوع الشمس من مغرهبا‪ ،‬والدابة التي‬
‫ٌ‬ ‫‪ ‬والقسم الثاين‪:‬‬

‫تكلم الناس‪ ،‬والنار التي تحشر الناس‪.‬‬

‫ومن أهل العلم من قسمها إلى قسمين‪:‬‬ ‫•‬

‫عالمات متّفق ٌة مع العادة‪ ،‬وإن كانت باهرة؛هي باهرة ‪ ،‬لكنها على وفق العادة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫األول‪:‬‬
‫‪ ‬القسم ّ‬

‫ظهور الدجال‪ ،‬ونزول عيسى ڠ‪ ،‬وخروج يأجوج ومأجوج‪ .‬قلنا هذه العالمات عظيمة؛ كيف يقولون متفقة‬

‫مع العادة؟!‬

‫كيف تقولون أنَّها متفقة مع العادة؟‬

‫‪5‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫قالوا‪ :‬نقول إهنا متفقة مع العادة؛ أل َّن هؤالء على هيئة بني آدم ومن بني آدم‪ .‬يأجوج ومأجوج من ذرية آدم‬

‫وحواء ‪-‬كما سيأيت إن شاء اهلل‪ ،-‬وعيسى ڠ هو ابن مريم‪ ،‬والدجال سيأيت التفصيل يف أصله‪ ،‬وبيان أنه من‬

‫بني آدم‪.‬‬

‫عالمات مخالف ٌة للعادة؛ ومنها‪ :‬طلوع الشمس من المغرب؛ قالوا‪ :‬هذا خالف المعتاد؛‬
‫ٌ‬ ‫‪ ‬والقسم الثاين‪:‬‬

‫ال يألفه الناس‪ ،‬ومنها‪ :‬ظهور الدابة‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬وهذا أيضا على نوعين ‪-‬أي التي ليست مألوفة‪:-‬‬

‫عالمات أرضية‪ :‬وهي ظهور الدابة‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫أ‪.‬‬

‫وعالمات سماوية‪ :‬وهي طلوع الشمس من مغرهبا‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫ب‪.‬‬

‫وهذا التقسيم قد ُيعتَرض عليهمن جهة أ ّن اآليات كلها لو تدبرناها لوجدناها مخالفة للعادة؛ فالدجال معه أمور‬

‫ُتخالف العادة‪ ،‬ونزول عيسى ڠ كذلك‪ ،‬وخروج يأجوج ومأجوج كذلك‪.‬‬

‫تقسيما دقيقا‪ ،‬فقال‪ :‬هذه العالمات على قسمين‪:‬‬


‫ً‬ ‫• ومن العلماء من قسمها‬

‫عالمات دال ٌة على ُقرب قيام الساعة؛ وهي‪ :‬الدجال‪ ،‬ونزول عيسى ڠ‪ ،‬وظهور يأجوج‬
‫ٌ‬ ‫األول‪:‬‬
‫‪ ‬القسم ّ‬

‫ومأجوج‪ ،‬والخسوفات؛ هذه عالمات على ماذا؟ على قرب قيام الساعة‪.‬‬

‫عالمات دالة على وقوع الساعة؛ وهي‪ :‬الدخان‪ ،‬وطلوع الشمس من مغرهبا‪ ،‬وخروج‬
‫ٌ‬ ‫‪ ‬والقسم الثاين‪:‬‬

‫الدابة‪ ،‬والنار التي تحشر الناس‪ ،‬قالوا‪ :‬هذه عالمات على حصول الساعة؛ إذا وقعت هذه العالمات حصلت‬

‫الساعة‪ ،‬وهي قريبة جدً ا من وقتها‪.‬‬

‫تعارض يف الظاهر‪ ،‬وسأذكر لكم النصوص‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫وقد جاءت النصوص فيها بيا ُن ّأول هذه العالمات‪ ،‬لكن وقع بينها‬

‫ثم أذكر لكم كيف أ ّن علماءنا ‪-‬رحمهم اهلل‪ -‬ح ُّلوا هذا اإلشكال‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫نار تحشر‬
‫‪ -‬فقد جاء يف صحيح البخاري عن أنس قال‪ :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ّ (( :‬أول أشراط الساعة‪ٌ :‬‬
‫الناس من المشرق إلى المغرب))‪ ،‬إ ًذا؛ ما هي أول اشراط الساعة؟ النار‪.‬‬

‫حفظت من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬


‫ُ‬ ‫‪ -‬وجاء يف صحيح مسلم عن عبد اهلل بن عَمرو ﭭ قال‪" :‬‬

‫وأيتهما ما كانت قبل‬


‫خروجا‪ :‬طلوع الشمس من مغربها‪ ،‬وخروج الدابة على الناس ضحى‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫يقول‪ّ ((:‬أول اآليات‬

‫صاحبتها‪،‬فاألخرى على إثرها َقرِيبًا))‪ ،‬إ ًذا؛ على هذا الحديث ما هي ّأول اآليات؟ طلوع الشمس من مغرهبا‪.‬‬

‫‪ -‬وجاء يف بعض األحاديث ما ُيشعر بأن ّأول اآليات الدجال‪.‬‬

‫طيب؛ جاء يف حديث‪ّ :‬أول اآليات‪ :‬النار‪ ،‬وجاء يف حديث ّأول اآليات‪ :‬طلوع الشمس من مغرهبا‪ ،‬وجاء يف‬

‫بعض األحاديث ما ُيشعر أ ّن ّأول اآليات‪ :‬الدجال! فكيف نجمع؟‬

‫جمع العلماء بين هذه األحاديث جم ًعا بدي ًعا‪:‬‬

‫‪ -‬فقالوا‪ :‬إ ّن النار هي ّأول عالمات حصول الساعة وهناية الدنيا‪ ،‬فليس بعدها من الدنيا شيء؛‬

‫يبق من الدنيا‬
‫يعني ّأول عالمات حصول الساعة‪ :‬هي النار‪ ،‬فإذا ظهرت النار انتهت الدنيا فلم َ‬

‫شيء‪ ،‬وحصلت الساعة؛ فهذه ّأوليَّتها‪.‬‬

‫المؤذِنة بتغ ُّير األحوال العامة يف األرض‪.‬‬


‫‪ -‬وقالوا‪ :‬إ َّن خروج الدجال هو َّأول العالمات ُ‬
‫‪ -‬قالوا‪ :‬وإ َّن ّأول اآليات المؤذِنة بتغ ُّير العالم العلوي ‪-‬يعني يف السماء‪ :-‬هو طلوع الشمس‬

‫من المغرب‪ ،‬والدابة قريب ٌة منها؛ ألنَّه إذا طلعت الشمس من المغرب‪ ،‬ماذا سيحصل؟ س ُيغلق‬

‫باب التوبة؛ فالمؤمن مؤمن‪ ،‬والكافر كافر‪ ،‬لن يتوب الكافر من كفره‪ ،‬فتظهر الدابة َت ِس ُم‬

‫الناس‪ ،‬فتظهر العالمة؛ عالمة المؤمن وعالمة الكافر؛ فهذا هو الجمع‪.‬‬

‫‪ ‬أ َّول عالمات حصول الساعة ونهاية الدنيا حيث ال يكون بعدها شيء‪ :‬هي النار‪.‬‬

‫وأول عالمات التغ ُّير العام يف األرض‪ :‬هو خروج الدجال‪.‬‬


‫‪َّ ‬‬

‫وأول عالمات التغير يف السماء‪ :‬هو طلوع الشمس من المغرب‪.‬‬


‫‪َّ ‬‬

‫‪7‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫أيضا إشكال ‪-‬لعلكم انتبهتم له‪ :-‬النبي صلى اهلل عليه وسلم يف هذا الحديث الذي معنا ماذا قال؟‬
‫لكن هنا ً‬

‫َّاس إِلَى َم ْح َشرِ ِه ْم))‪.‬‬ ‫ِ‬


‫َار تَخْ ُر ُج م َن الْ َي َم ِن َتطْ ُر ُد الن َ‬
‫كن ٌ‬‫آخ ُر َذلِ َ‬
‫قال‪(( :‬و ِ‬
‫َ‬

‫نار تحشر‬ ‫آخ ُر َذلِ َ‬


‫ك))‪ ،‬وقال يف حديث أنس الذي يف صحيح البخاري‪(( :‬وأول أشراط الساعة‪ٌ :‬‬
‫ماذا قال؟((و ِ‬
‫َ‬

‫الناس من المشرق إلى المغرب))؛ الحظتم يا إخوة؟‬

‫وو َص َفها يف حديث البخاري يف حديث أنس أهنا َّأول‪ ،‬فكيف‬ ‫ِ‬
‫َو َص َفها يف حديث مسلم الذي معنا أهنا آخر‪َ ،‬‬

‫جمع؟!‬
‫ُي َ‬
‫قال أهل العلم‪ُ :‬يجمع بينهما بأهنا آخر اآليات المذكورة يف الحديث‪ ،‬وهي َّأول حصول الساعة‪ ،‬وآخر عالمات‬

‫الساعة الكربى‪ ،‬فمن هنا تكون ّأول وتكون آخر؛ آخر باعتبار العالمات األخرى التي ُذكرت معها‪َّ ،‬‬
‫وأول باعتبار‬

‫أهنا َّأول حصول الساعة فليس بعدها من الدنيا شيء ‪-‬كما سيأيت إن شاء اهلل عز وجل‪.-‬‬

‫إذا عرفنا هذا؛ فإنه هنالك آيات وردت النصوص برتتيبها؛ وهي‪:‬‬

‫‪ ‬خروج الدجال‪.‬‬

‫‪ ‬ثم ينزل عيسى ڠ‪.‬‬

‫‪ ‬ثم يخرج يأجوج ومأجوج‪.‬‬

‫فهذه اآليات الثالث مر ّتبة هكذا‪.‬‬

‫وأ ّما بقية اآليات لم ِيرد يف ترتيبها نص‪ ،‬طبعا نحن ذكرنا ّ‬
‫األول ّية انتهينا منها‪ ،‬لكن من جهة ترتيب اآليات لم يرد‬

‫نص يف الرتتيب إال يف خروج الدجال‪ ،‬ثم بعد ذلك ينزل عيسى ڠ‪ ،‬ثم يخرج يأجوج ومأجوج‪ .‬لكن العلماء‬

‫اجتهدوا يف الرتتيب‪ُّ .‬‬


‫وأدق ما قيل يف ذلك‪ ،‬وإن كان ال ُيجزَ م به‪ ،‬لكنه اجتها ٌد حس ٌن يف الباب‪:‬‬

‫‪ )1‬أن ّأول اآليات خروجا‪ :‬الدجال‪.‬‬

‫‪ )2‬ثم ينزل عيسى ڠ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫المهدي يف ذلك الزمان مع هذه العالمات‪ ،‬وهو عند أهل السنة‬


‫ّ‬ ‫‪ )3‬ثم يخرج يأجوج ومأجوج‪ ،‬ويكون‬

‫والجماعة من العالمات الكربى ‪-‬كما سنذكره إن شاء اهلل عز وجل‪.-‬‬

‫‪ )4‬ثم الخسوفات‪ ،‬تقع الخسوفات الثالث‪.‬‬

‫‪ )5‬ثم تظهر العالمات الدالة على حصول الساعة؛ فيأيت الدخان‪.‬‬

‫‪ )6‬ثم تطلع الشمس من مغربها‪.‬‬

‫‪ )7‬ثم تظهر الدابة‪.‬‬

‫‪ )8‬ثم تخرج النار‪.‬‬

‫وهبذا تتم العالمات‪.‬‬

‫ترتيب‬
‫ٌ‬ ‫ترتيب حسن‪ ،‬وإن كان ال ُيجزم به؛ ألنه ال ُيجزم يف الغيب إال بنص‪ ،‬لك ّن هذا الرتتيب‬
‫ٌ‬ ‫وهذا الرتتيب‬

‫متناسب‪.‬‬

‫وهذه اآليات أيها اإلخوة إذا ظهرت واحد ٌة منها تتابَعت‪ ،‬فهي متتابعة؛ كالخرز المنظوم يف السلك‪ ،‬إذا ُقطِع‬

‫السلك سقطت الخرزات سريعة متتابعة‪ ،‬وكذلك يف هذه اآليات؛ فقد جاء عن أبي هريرة ﭬ عنالنبي صلى اهلل‬

‫عليه وسلمقال‪ (( :‬خروج اآليات بعضها على إثر بعض‪ ،‬يتتابعن كما تتتابع الخرز يف النظام)) رواه الطرباين‬

‫وصححه األلباين‪.‬‬

‫أيضا‪.‬‬
‫فهذا يدل على أهنا تتتابع‪ .‬وجاء عند اإلمام أحمد ما يدل على ذلك ً‬

‫الم ّ‬
‫خل ‪-‬إن‬ ‫سنشرع ‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪ -‬من يوم الغد يف الكالم عن هذه العالمات بشيء من االختصار غير ُ‬
‫شاء اهلل عز وجل‪ -‬بما يتناسب مع ما بقي من الوقت‪ ،‬ألنا نريد أن نجعل ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬آخر درس يف عالمات‬

‫الفتن وأسباب السالمة منها ‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪.-‬‬

‫‪‬‬

‫‪9‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫‪10‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الخامس عشر‬


‫باب في اآليات التي تكون قبل الساعة‪:‬‬

‫الدخان‬

‫‪11‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ال زلنا يف درسنا مع ما أورده اإلمام مسلم ‪ $‬يف أشراط الساعة‪ ،‬حيث ا َّطلع النبي صلى اهلل عليه وسلم على‬

‫قو ٍم من أصحابه يتذاكرون؛ فقال‪« :‬ما َتذكرون؟»‪ ،‬ويف رواية‪« :‬ما َتذاكرون؟» قالوا‪ :‬نذكر الساعة‪ ،‬قال صلى اهلل‬

‫عليه وسلم‪« :‬إهنا لن تقوم حتى َت َرون قبلها عشر آيات؛ فذكر‪ :‬الدخان‪ ،‬والدجال‪ ،‬والدابة‪ ،‬وطلوع الشمس من‬

‫مغرهبا‪ ،‬ونزول عيسى بن مريم‪ ،‬ويأجوج ومأجوج‪ ،‬وثالثة خسوف‪ :‬خسف بالمشرق‪ ،‬وخسف بالمغرب‪،‬‬

‫نار تخرج من اليمن َت ُ‬


‫طرد الناس إلى محشرهم»‪.‬‬ ‫وخسف بجزيرة العرب‪ ،‬وآخر ذلك ٌ‬

‫عمايتيسر من‬
‫ّ‬ ‫وقد تكلمنا عن مقدِّ مات هذا الحديث يف مجلس األمس‪ .‬واليوم ‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪ -‬نتكلم‬

‫اآليات التي ذكرها النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫فأول آية ذكرها النبي صلى اهلل عليه وسلم يف هذا الحديث‪ :‬الدخان‪.‬‬
‫ّ‬

‫واضح َي ُع ُّم الناس جمي ًعا‪ ،‬فيراه الناس جمي ًعا‪ ،‬دخانًا يغشاهم‪ ،‬وهوكما يف قول اهلل ‪-‬تعالى‪:-‬‬
‫ٌ‬ ‫والدخان‪ :‬دخا ٌن‬
‫ِ‬ ‫الس َما ُء بِدُ خَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َأل ٌ‬
‫يم﴾[الدخان‪.]11 - 1٠ :‬‬ ‫َّاس َهـ َٰذا َع َذ ٌ‬ ‫ان ُّمبِ ٍ‬
‫ين* َيغ َْشى الن َ‬ ‫ب َي ْو َم تَأْتي َّ‬
‫﴿ َف ْارتَق ْ‬

‫يعم الناس؛ هل سبق ووقع ومضى أم أنه ال زال‬


‫وقد اختلف علماؤنا من السلف والخلف يف الدخان الذي ّ‬
‫وسيقع يف آخر الزمان؟‬

‫فذهب ابن مسعود ﭬ وتبعه بعض العلماء واختاره ابن جرير الطربي شيخ المفسرين إلى أ ّن الدخان قد وقع‬

‫وسبق ومضى؛ وذلك يف زمن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فعن مسروق قال‪" :‬دخلنا على عبد اهلل بن مسعود‬

‫ﭬ فقال‪" :‬يا أيها الناسمن علم شيئًا فليقل به‪ ،‬ومن لم يعلم فليقل‪ :‬اهلل أعلم"؛ وهذه قاعدة أهل السنة‬

‫والجماعة أ ّن المسلم يقول بما علم‪ ،‬ويمسك عما لم يعلم‪ ،‬فال َّ‬
‫يتخرص وال يذكر شيئًا من عنده‪ ،‬فعندما قال اهلل‬

‫ى﴾[طه‪ ،]٥ :‬قال أهل السنة والجماعة‪ :‬الرحمن على العرش استوى‬ ‫عز وجل‪﴿ :‬ا َّلر ْح َمـ ُٰن َع َلى الْ َع ْر ِ‬
‫ش ْاست ََو ٰ‬

‫تشبيه‪ ،‬ولكنهم قالوا لِما ال‬


‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تكييف وال‬ ‫كما نفهم من كلمة استوى؛ عال ‪-‬سبحانه‪ -‬واستقر وارتفعمن غير‬

‫يعلمون‪" :‬اهلل أعلم"‪ ،‬فقالوا‪" :‬الكيف مجهول"‪ ،‬اهلل لم ُيعلِمنا كيف استوى؛ فنَكِ ُل العلم إلى اهلل‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫تخرص المسلم فيقول‪ :‬إ ّن الساعة ستقوم يف السنة الفالنية‪ ،‬يا أمة محمد! النداء‬
‫كذلك يف أشراط الساعة؛ ال َي َّ‬
‫التخرص‪ ،‬وإنَّما يقول المسلم يف أشراط الساعة ما عَلِ َم؛ ف َي ُعدّ األشراط‪ ،‬و ُيب ِّين األحوال‪ ،‬أ ّما ما‬
‫ُّ‬ ‫األخير! فهذا من‬

‫لم نُ ْع َلم به ال يف الكتاب وال يف السنة فال يجوز أن َّ‬


‫نتخرص به‪ ،‬وال يجوز أن ننزِّ ل األشراط على الوقائع إال‬

‫بدليل‪ ،‬وإال قلنا‪ :‬اهلل أعلم‪.‬‬

‫فهذه قاعدة شريفة ُمنيفة يضعها ابن مسعود ‪-‬رحمه اهلل ورضي عنه‪ -‬يف ّأول كالمه؛ حيث قال‪َ " :‬من علم شيئًا‬

‫فليقل به‪ ،‬ومن لم يعلم فليقل‪ :‬اهلل أعلم‪ ،‬فإ ّن من العلم أن يقول لِما ال يعلم‪ :‬اهلل أعلم"‪ ،‬قال اهلل عز وجل لنبيِّه‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ ُق ْل َم َاأ ْسأَلُك ُْم َع َل ْي ِهمنْأَ ْجرٍ َو َم َاأنَامنَالْ ُمتَ َك ِّلف َ‬
‫ين﴾[ص‪ ،]٨٦ :‬والقول بال علم من التك ُّلف‪.‬‬

‫قال ابن مسعود ﭬ‪" :‬وسأحدّ ثكم عن الدخان‪ ،‬إ ّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دعا ً‬
‫قريشا إلى اإلسالم؛‬

‫فأبطؤوا عليه ولم يجيبوه‪ ،‬فقال‪ (( :‬اللهم أعنِّي عليهم بسب ٍع كسبع يوسف))؛ ‪-‬أي يصيبهم القحط سبع سنين‪،-‬‬

‫كل شيء‪ -‬أي أكلت ّ‬


‫كل شيء‪ -‬حتى أكلوا الميتة والجلود‪ ،‬حتى جعل‬ ‫"فأخذتهم سنة‪-‬أي قحط‪َ " ،-‬ف َح َص ْت َّ‬

‫الرجل يرى بينه وبين السماء دخانًا من الجوع"‪ ،‬من شدة الجوع أصبح الرجل إذا نظر يرى دخانًا؛ فهذا هو‬
‫الس َما ُء بِدُ خَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس َهـ َٰذا َع َذ ٌ‬
‫اب‬ ‫ان ُّمبِ ٍ‬
‫ين* َيغ َْشى الن َ‬ ‫ب َي ْو َم تَأْتي َّ‬
‫الدخان‪،‬فقال اهلل عز وجل‪َْ َ﴿ :‬ارتَق ْ‬

‫ول ُّمبِ ٌ‬
‫ين* ُث َّم‬ ‫ى َو َقدْ َجا َء ُه ْم َر ُس ٌ‬ ‫اب إِنَّا ُم ْؤ ِمنُو َن* َأن َّٰى لَ ُه ُم ِّ‬
‫الذك َْر ٰ‬
‫ِ‬
‫يم﴾‪،‬قالﭬ‪":‬فد َع ْوا‪َّ ﴿:‬ر َّبنَااكْشفْ َعنَّا الْ َع َذ َ‬
‫ِ‬
‫َأل ٌ‬
‫اب َق ِل ًيالإِ َّنك ُْم َعائِدُ و َن﴾[الدخان‪]1٥ – 12 :‬؛ قال ابن مسعود‬ ‫تَولَّواعنْه و َقالُوامع َّلم مجنُو ٌن*إِنَّاك ِ‬
‫َاش ُفوالْ َع َذ ِ‬ ‫ُ َ ٌ َّ ْ‬ ‫َ ْ َ ُ َ‬

‫كشف العذاب يوم القيامة؟! قال‪ :‬ف ُك ِشف ثم عادوا يف كفرهم؛ فأخذهم اهلل يوم بدر﴿ َي ْو َم َن ْبطِ ُش‬
‫ﭬ‪" :‬أف ُي َ‬

‫ى إِن َُّامنت َِق ُمو َن﴾[الدخان‪"]1٦ :‬؛ يعني يوم بدر‪.‬‬


‫الْبَطْ َشةَالْ ُكبْ َر ٰ‬

‫جلوسا‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫أيضا عن مسروق بيّن سبب كالم ابن مسعود ﭬ‪ ،‬قال‪" :‬كنا عند عبد اهلل‬
‫وعند البخاري ومسلم ً‬

‫قص ويزعم أ ّن آية الدخان تجيء‬ ‫ِ‬ ‫مضطجع بيننا‪ ،‬فأتاه ٌ‬


‫قاصا عند أبواب كندة َي ُّ‬
‫رجل فقال‪ :‬يا أبا عبد الرحمن‪ ،‬إ ّن ًّ‬ ‫ٌ‬

‫فتأخذ بأنفاس الكفار‪ ،‬ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام‪ ،‬فقال عبد اهلل ‪-‬وجلس وهو غضبان‪" :-‬يا أيها الناس‪،‬‬

‫‪13‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫اتقوا اهلل! من علم منكم شيئًا فليقل‪ ،‬ومن لم يعلم فليقل‪ :‬اهلل أعلم"‪ ،‬ثم ذكر ما ورد ساب ًقا؛ إ ًذا ابن مسعود ﭬ‬

‫مضت يف هذا الزمن‪.‬‬


‫ْ‬ ‫يرى أ ّن آية الدخان قد‬

‫وذهب بعض العلماء ومنهم ابن عباس ﭭ فيما صح عنه وبعض العلماء من السلف والخلف إلى أ ّن آية‬

‫الدخان لم تقع‪ ،‬وأهنا ستقع يف آخر الزمان‪.‬‬

‫وال شك أيها اإلخوة؛ أ ّن آية الدخان العظمى التي هي عالمة قيام الساعة لم تقع‪ ،‬وإنَّما ستقع بين يدي الساعة؛‬

‫بدليل هذا الحديث الذي معنا؛ فإ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم ذكرها بين يدي الساعة‪.‬‬

‫وجاء يف حديث حذيفة أ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬إ ّن من أشراط الساعة دخانًا؛ يمأل ما بين المشرق‬

‫وأما الكافر فيكون بمنزلة‬ ‫ِ‬


‫فأما المؤمن فيصيب منه ش ْب َه الزكام‪ّ ،‬‬
‫يوما‪ّ ،‬‬
‫والمغرب‪ ،‬يمكث يف األرض أربعين ً‬
‫السكران‪َ ،‬يخرج الدخان من أنفه وعينيه ُ‬
‫وأذنَيه و ُد ُبره))‪.‬‬

‫قال ابن حجر ‪" :$‬روى الطبري عن حذيفة ‪-‬مرفو ًعا‪ -‬يف خروج اآليات والدخان؛ قال حذيفة‪" :‬يا رسول‬

‫وأما الكافر فيخرج من ِمنْخَ َريه‬


‫اهلل‪ ،‬وما الدخان"؟فتَال هذه اآلية‪ ،‬قال‪ّ (( :‬أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام‪ّ ،‬‬
‫وأذنَيه و ُدبره))‪ ،‬قال الحافظ ابن حجر‪" :‬إسناده ضعيف"‪.‬‬

‫لكن تظافر هذه‬ ‫ِ‬ ‫وض ّعف الحافظ ابن حجر َّ‬
‫ب ذلك‪َّ " :‬‬
‫كل األحاديث التي وردت يف هذا المعنى‪ ،‬لكن قال عَق َ‬

‫أصال"‪.‬‬ ‫األحاديث ّ‬
‫يدل على أ ّن لذلك ً‬
‫فنقول أيها اإلخوة‪ :‬إ ّن الدخان ثابت‪ ،‬وإنه سيخرج يف آخر الزمان‪ ،‬وأما هيئته ما روي من أحاديث م ِ‬
‫شعر هبذا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫لكن ال ُيجزَ م به؛ أل ّن األحاديث لم َتثبُت بأسانيد صالحة حتى ُيجزَ م بالهيئة‪.‬‬

‫قال بعض العلماء ‪-‬واختاره القرطبي‪" :-‬الذي يقتضيه النظر الصحيح؛ َح ْمل ذلك على قضيَّتين مختلفتَين‪:‬‬

‫خاصبقريش‪ ،‬واآلية التي ذكرها النبي صلى اهلل عليه وسلم ستقع بين‬
‫فالذي ذكره ابن مسعود وقع وهو دخان ٌ‬

‫يدي الساعة"‪.‬‬

‫كشف عنهم العذاب‪ ،‬ويوم القيامة ال ُيدعى وال ُي َ‬


‫كشف!‬ ‫ط ِّيب؛ ابن مسعود قال‪ :‬إهنم دعوا بأن ُي َ‬

‫‪14‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫والجواب‪ :‬أ ّن هذا ليس يف يوم القيامة؛ وإنما من مقدمات يوم القيامة ‪-‬يف أشراط الساعة‪ ،-‬فال َي ْب ُعد أن يدعوا‬

‫الناس إذ ذاك؛ فيكشف اهلل عنهم العذاب‪ ،‬لكنهم ال َيفون بعهدهم‪.‬‬

‫‪ -‬وقول ابن مسعود ﭬ ‪-‬كما تلحظون‪ -‬من قوله‪ ،‬لم ُيسنده إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪15‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس السادس عشر‬

‫باب في اآليات التي تكون قبل الساعة‪ :‬الدجال‬

‫‪16‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وأما اآلية الثانية التي ذكرها النبي صلى اهلل عليه وسلم فهي‪ :‬الدجال ‪-‬نعوذ باهلل من فتنته‪.-‬‬
‫َّ‬

‫وقد تواترت األحاديث عن النبي صلى اهلل عليه وسلم يف خروج الدجال‪،‬فمما َيقطع به المؤمن‪ :‬أ ّن الدجال‬

‫سيَخرج بين يدي الساعة‪.‬‬

‫واسم الدجال‪ :‬المسيح الدجال ‪ ،‬قيل‪ُ :‬س ِّمي بالمسيح‪:‬‬

‫➢ ألنَّه يسيح يف األرض ‪-‬أي يطوف يف األرض‪ ،-‬إال مكة والمدينة؛ وعليه يكون المسيح‪ :‬بمعنى ماسح‪،‬‬

‫يقول العلماء‪ :‬فعيل بمعنى فاعل‪ ،‬أي أنه يمسح األرض؛ فهو ماسح األرض‪.‬‬

‫والعلماء قالوا‪ :‬المسيح اثنان‪:‬‬

‫• مسيح مِحنة‪.‬‬

‫• ومسيح مِنحة ورحمة‪.‬‬

‫أ َّما الدجال‪ :‬فمسيح مِحنة‪ ،‬وأما مسيح الرحمة‪ :‬فهو عيسى عليه السالم‪.‬‬

‫مسيحا ألنه ممسوح العين ‪-‬كما سيأيت يف وصفه إن شاء اهلل‪ ،-‬فهو فعيل بمعنى مفعول‪.‬‬
‫ً‬ ‫➢ وقيل سمي‬
‫➢ وقال بعض العلماء‪ :‬إ َّن الدجال مِسيح‪ ،‬ال يقال له المسيح وإنَّما يقال له ِ‬
‫الم ِّسيح‪ ،‬لماذا؟ أرادوا التفرقة‬ ‫ِّ‬
‫بينه وبين عيسى عليه السالم‪ ،‬فقالوا‪ :‬عيسى عليه السالم يقال له المسيح‪ ،‬والدجال يقال له ِ‬
‫الم ِّسيح‪.‬‬

‫المسيخ هو الذي ُخلِ َق‬ ‫ِ‬ ‫الم ِس‬


‫يخ؛والمسيخ يف لغة العرب هو األعور‪ ،‬وقيل إ َّن َ‬
‫َ‬ ‫➢ ومن أهل العلم من قال‪َ :‬‬
‫على هيئة قبيحة‪.‬‬

‫قال ابن عبد الرب ‪" :$‬والمسيح ابن مريم عليه السالم والمسيح الدجال لفظهما واحدٌ عند أهل العلم وأهل‬

‫الم ِسيح‪ ،‬بكسر الميم والسين‪ ،‬ومنهم من قال ذلك بالخاء‪،‬‬


‫اللغة‪ ،‬وقد كان بعض رواة الحديث يقول يف الدجال‪ِ :‬‬
‫ُ َّ‬

‫وذلك ك ُّله عند أهل العلم خطأ"‪.‬‬

‫الم ِسيح‪ ،‬وهو الذي وردت به النصوص‪ ،‬وأ ّما بقية األسماء فهي عند‬
‫إ ًذا المحققون من أهل العلم يقولون‪ :‬هو َ‬
‫أهل العلم خطأ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الكذابِين‪ ،‬كبير الدجاجلة ‪-‬‬


‫كذاب؛ ألنه يدَّ عي أنه إله‪ ،‬فهو أفجر َّ‬
‫الكذاب‪ ،‬وهو ّ‬
‫وس ِّمي بالدجال‪ ،‬والدجال هو ّ‬
‫ُ‬
‫كما يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ ،-$‬فسمي بالدجال ألنه كذاب‪.‬‬

‫➢ وقال بعض أهل العلم‪ُ :‬س ِّمي بالدجال؛ ألنه ُيغ ِّطي‪ ،‬ماذا ُيغ ِّطي؟ قالوا‪ُ :‬يغ ِّطي األرض؛ إال مكة والمدينة‪.‬‬

‫➢ وقال بعض أهل العلم‪ُ :‬يغ ِّطي الحق بالباطل‪ ،‬فيُظ ِهر عالمات تجعل الباطل كأنه حق ‪-‬كما سيأيت إن شاء‬

‫اهلل‪.-‬‬

‫دج ًاال؛ من الدَّ ْجلِ؛ وهو َط ْلي البعير بال َقطِران‪ ،‬إذا أصيب البعير بالداء والجرب ُيطلى بمادة‬
‫➢ وقيل‪ُ :‬س ِّمي ّ‬

‫فس ِّمي بذلك؛ ألنه َيطلي الباطل؛ فال َتظهر صورة الباطل‪ .‬و"ف ّعال" من أبنية‬ ‫ِ‬
‫ال َقطران ويقال إنه َد ْجل؛ ُ‬
‫المبالغة؛ أي كثير الكذب‪ ،‬كثير التغطية‪.‬‬
‫ِ‬
‫وجاء يف القاموس المحيط‪َ " :‬د َج َل البعير‪ :‬طاله أو ّ‬
‫عم جسمه بال َقطران؛ ومنه الدجال َ‬
‫المسيح؛ ألنه يعم األرض‪،‬‬

‫تدجيال‪ُ :‬غطِّ َي و ُطلي بالذهب؛ لتمويهه بالباطل‪ ،‬أو من الدَّ َجال؛ بمعنى‬
‫ً‬ ‫أو ِمن َد َج َل‪ :‬أي ك ََذ َب‪ ،‬أو من ُد ِج َل‬

‫الذهب والفضة‪ ،‬فسمي بذلك"‪.‬‬

‫لماذا؟ ألنه ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬تتبعه كنوز األرض من الذهب والفضة‪ ،‬تسير وراءه ‪-‬كما سيأتينا إن شاء اهلل‪.-‬‬

‫الكذاب‪ ،‬مع أ َّن الدجاجلة كثير‪،‬‬


‫ولفظة الدجال ‪-‬يا إخوة‪ -‬عند المسلمين أصبحت إذا أطلقت إنما ُيعنى هبا هذا ّ‬

‫لكنها أصبحت َع َل ًما على الدجال األكرب‪ ،‬على صاحب الفتنة‪ ،‬عيا ًذا باهلل من فتنته‪.‬‬

‫ف لنا الدجال‪ ،‬ال ألن نتسلى بوصفه؛ وإنَّما لنحذره‬


‫وأما صفته‪ ،‬فنبينا صلى اهلل عليه وسلم الرحيم بنا َو َص َ‬
‫َّ‬
‫ولنعرفه إذا خرج ‪-‬عيا ًذا باهلل من فتنته‪.-‬‬

‫ففي البخاري ومسلم‪ ،‬قال ابن عمر ﭭ‪" :‬قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الناس‪ ،‬فأثنى على اهلل بما هو‬

‫نوح قومه‪ ،‬ولكني أقول‬


‫نبي إال وأنذره قومه‪ ،‬لقد أنذر ٌ‬
‫أهله‪ ،‬ثم ذكر الدجال؛ فقال‪(( :‬إين ألنذركموه‪ ،‬وما من ٍّ‬

‫‪18‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫قوال لم َي ُق ْل ُه ٌّ‬
‫نبي لقومه‪ ،‬تعلمون أنه أعور وأ ّن اهلل ليس بأعور))؛ فالدجال أعور‪ ،‬وأ ّن اهلل ليس بأعور‪ ،‬ويف‬ ‫لكم فيه ً‬

‫هذا إثبات العين على وجه الكمال‪.‬‬

‫➢ وعن أبي هريرة ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أال أحدِّ ثكم حديثًا عن الدجال ما‬

‫نبي قومه‪ :‬إنه أعور»‪.‬‬


‫حدَّ ث به ٌّ‬
‫يوما بين ظهراين الناس المسيح‬ ‫ٍ‬
‫ولمسلم عن ابن عمر ﭭ قال‪" :‬ذكر النبي صلى اهلل عليه وسلم ً‬ ‫➢‬

‫الدجال‪ ،‬فقال‪« :‬إ ّن اهلل ليس بأعور‪ ،‬أال إ َّن المسيح الدجال أعور العين اليمنى‪ ،‬كأ ّن عينه عنب ٌة طافية»‪.‬‬

‫➢ ولمسلم عنه مرفوعًا؛ أ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬وأراين اهلل عند الكعبة يف المنام» فذكر صفة‬

‫رأيت وراءه‬
‫ُ‬ ‫عيسى ڠ ‪-‬وسنذكرها إن شاء اهلل عز وجل‪ ،-‬ثم قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ثم‬

‫رأيت بابن َقطَن‪ ،‬واض ًعا يديه على منكبي َر ُجل‪،‬‬


‫ُ‬ ‫رجال‪َ ،‬جعدً ا‪َ ،‬قطَطًا‪ ،‬أعور العين اليمنى‪ْ ،‬‬
‫كأش َب َه من‬ ‫ً‬

‫فقلت من هذا؟ قالوا‪ :‬المسيح الدجال»‪ .‬ورواه البخاري‪.‬‬


‫ُ‬ ‫يطوف بالبيت‪،‬‬

‫أعور عينِه اليُمنى‪ ،‬كأ ّن عينه عنبة طافية‪ُ ،‬‬


‫قلت من‬ ‫ُ‬ ‫➢ وجاء فيه‪« :‬فإذا رجل أحمر‪ ،‬جسيم‪َ ،‬ج ْعدُ الرأس‪،‬‬

‫هذا؟ قالوا‪ :‬الدجال‪ ،‬وأقرب الناس به َشبَ ًها‪ :‬ابن َقطَن» قال الزهري‪":‬رجل من خزاعة‪ ،‬هلك يف‬

‫الجاهلية‪ ،‬يقال له‪ :‬عبد العزّى بن َقطَن"‪.‬‬

‫المتكسر الشعر‪ ،‬الذي يلتوي شعره وال َيسرتسل‬


‫ِّ‬ ‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إنه َج ِعدٌ َقطَط»؛ ال َق َطط‪ :‬هو‬
‫قول ِّ‬
‫ُ‬

‫الج ُعودة يقال لصاحبه‪ :‬إنه َق َطط‪.‬‬ ‫أبدً ا‪ ،‬وال َق َطط‪ :‬هو شديد ُج ُعودة َّ‬
‫الشعر‪ .‬إذا كان َّ‬
‫الشعر شديد ُ‬

‫وأ َّما قوله‪« :‬كأنها عنبة طافية» فإنه يعني أهنا ظاهرة منتفخة‪َ ،‬ط ْ‬
‫فت على وجهه كما يطفو الشيء على الماء‪ ،‬كأهنا‬

‫عنبة بارزة على وجهه‪.‬‬

‫ففي هذه األحاديث ‪-‬أيها اإلخوة‪ :-‬أنَّه أعور العين اليمنى‪ ،‬وعينه ظاهر ٌة بارز ٌة منتفخة‪.‬‬

‫‪‬ويف مسلم‪ :‬عن أنس بن مالك ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬الدجال ممسوح العين))‪.‬‬

‫‪‬وفيه عن حذيفة ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬الدجال أعور العين اليسرى))‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫‪‬وفيه أيضا ‪-‬أي يف صحيح مسلم‪ -‬عن حذيفة ﭬ أ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬وإ َّن الدجال ممسوح‬

‫العين عليها َط َف َر ٌة غليظة»؛ ماهي الطَ َف َرة؟‬

‫الطفرة‪:‬هي اللحمة التي تكون يف مقدَّ مة العين‪ ،‬وقد تمتد إلى السواد؛ لحمة حمراء تكون من داخل العين يف‬

‫المقدِّ مة‪ ،‬وقد تمتد إلى السواد‪.‬‬

‫هنا سنلحظ يا إخوة؛ أ ّن يف الحديث المتفق عليه ُو ِص َفت عين الدجال اليمنى بال َع َور وأهنا طافية‪ ،‬ويف الحديث‬

‫الذي يف مسلم ُو ِص َفت بأهنا ممسوحة‪ ،‬وأ ّن العين اليسرى هي العوراء!‬

‫الوصف األول يف الصحيحين‪ ،‬والوصف الثاين يف صحيح مسلم‪ ،‬كالهما صحيح! وقد وقف العلماء من هذه‬

‫الروايات موقفين‪:‬‬
‫‪ِ ‬‬
‫فمن العلماء َمن ذهب إلى الرتجيح؛ فقال‪ :‬رواية الصحيحين مقدَّ مة على رواية مسلم‪ ،‬وذهب إلى هذا‬

‫رجح أ ّن العين اليمنى هي العوراء‪ ،‬وهذا منهج من مناهج أهل العلم‪.‬‬


‫الحافظ ابن حجر؛ يعني أنه َّ‬

‫‪ ‬وذهب بعض أهل العلم إلى الجمع بين الروايات‪ ،‬وهذا َأولى‪.‬‬

‫يا إخوة! العلماء يقولون‪ :‬الجمع أولى من الرتجيح؛ لماذا؟‬

‫تركت بعض األدلة‪.‬‬


‫َ‬ ‫حت‬ ‫خذت ِّ‬
‫بكل األدلة‪ ،‬أ ّما إذا َر َّج َ‬ ‫َ‬ ‫عت َأ‬
‫ألنك إذا َج َم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فمن أهل العلم من جمع بين الروايات وقال‪ :‬إ َّن الروايات كلها صحيحة‪ ،‬فالدجال َمع ُ‬
‫يب العينين‪ ،‬أ ّما عينه‬

‫وانتفخت‪ ،‬وأ ّما عينه اليسرى فممسوحة‪ ،‬يظهر فيها العيب‪ ،‬عليها لحمة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وبرزت‬
‫ْ‬ ‫اليمنى فعوراء قد انطفأ ضوؤها‬

‫عيب يف عينَيه‪.‬‬
‫لك ّن ضوءها لم ينطفئ‪ ،‬فهو َم ٌ‬

‫الح ْم َل على هذا المعنى ممكن فإنه ُيصار إليه؛ أل ّن الجمع مقدَّ ٌم على الرتجيح‪.‬‬
‫وما دام أ َّن َ‬

‫ومن أهل العلم من قال‪ :‬إ ّن العين اليمنى ممسوحة‪ ،‬لك ّن األَ ْو َفق القول إ ّن العين اليمنى هي عوراء قد ذهب‬

‫ضوؤها وهي منتفخة ظاهرة بارزة كالعنبة‪ ،‬وأ ّما العين اليسرى فممسوحة‪ ،‬وفيها لحمة ظاهرة‪ ،‬ولك ّن ضوءها لم‬

‫ينطفئ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وجاء يف حديث النواس عند مسلم ‪-‬وسنذكره إن شاء اهلل‪ -‬قول النبي صلى اهلل عليه وسلم عن الدجال‪(( :‬إ َّنه‬

‫شاب))‪.‬‬

‫صححه األلباين ‪-‬رحم اهلل جميع علماء اإلسالم‪ -‬يف حديث عبادة بن الصامت أ ّن‬ ‫ٍ‬
‫وجاء عند أبي داود بإسناد َّ‬

‫رجل قصير َأ ْف َحج))؛ ما هو األفحج؟ هو متباعدُ ما‬


‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬إ ّن المسيح الدجال ٌ‬

‫َ‬
‫الفخذين؛ فهذا وصفه‪.‬‬ ‫بين الساقين وما بين‬

‫ويف صحيح مسلم أ ّن بعض أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عيه وسلم قال‪ :‬إ َّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‬

‫مكتوب بين عينَيه كافر‪ ،‬يقرؤه من َكرِ َه عمله‪ ،‬أو يقرؤه ُّ‬
‫كل مؤمن))‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫يوم َّ‬
‫حذر الناس الدجال‪(( :‬إنه‬

‫ُوب ب ْي َن َع ْينَ ْي ِه كفرأي ))؛ أي كافر‪.‬‬


‫وفيه‪ :‬عن أنس بن مالك أ ّن نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬الدَّ َّج ُال َم ْكت ٌ‬

‫ُوب ب ْي َن َع ْي َن ْي ِه‬
‫وح ال َع ْي ِن َم ْكت ٌ‬
‫وعن أنس بن مالك قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬الدَّ َّج ُال َم ْم ُس ُ‬

‫اهاكفري ْق َرؤُ ُه ك ُُّل ُم ْس ِل ٍم))‪.‬‬


‫َ‬ ‫كافِ ٌر‪ُ ،‬ث َّم ت ََه َّج‬

‫أيضا‪ -‬عن حذيفة ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪َ « :‬ألَنا َأ ْع َل ُم بما مع الدجال منه‪،‬‬
‫ويف مسلم ‪ً -‬‬
‫ِ‬
‫فليأت النهر‬ ‫كن أحدً ا‬ ‫تأجج‪ ،‬فإما َأ َ‬
‫در ّ‬ ‫نار َّ‬
‫رأي العين ٌ‬
‫رأي العين ما ٌء أبيض‪ ،‬واآلخر َ‬
‫معه نهران يجريان؛ أحدهما َ‬

‫شرب منه فإنه ما ٌء بارد‪ ،‬وإ ّن الدجال ممسوح العين عليها َط َف َرة‬ ‫ِ‬
‫نارا‪ ،‬ول ُيغمض‪ ،‬ثم ل ُيطأطئ رأسه ف َي َ‬
‫الذي يراه ً‬
‫ٍ‬
‫«كاتب وغير كاتب»‪.‬‬ ‫كاتب وغير كاتب» و َي ِص ُّح أن يقال‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫مكتوب بين عينيه‪ :‬كافر‪ ،‬يقرؤه ُّ‬
‫كل مؤمن‬ ‫ٌ‬ ‫غليظة‪،‬‬

‫إ ًذا؛ يف هذا الحديث أ ّن الدجال من صفته أنه مكتوب بين عينيه‪" :‬كافر"‪ ،‬وهذه الكتابة حقيقي ٌة ظاهرةٌ؛ لكن ال‬

‫يقرؤها إال المؤمن‪.‬‬

‫مكتوب بين عينيه‪ :‬كافر‪ ،‬يقرؤه ُّ‬


‫كل‬ ‫ٌ‬ ‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪" :$‬ويف الحديث الصحيح‪« :‬إ ّن الدجال‬

‫مؤمن قارئ وغير قارئ» ّ‬


‫فدل على أ ّن المؤمن‪-‬انتبهوا لهذه الفائدة يا أخوة!‪َ -‬يتبيّن له ما ال َيتبيّن لغيره وال سيما‬

‫‪21‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫كذ ُب َخ ْل ِق اهلل‪ ،‬مع أ ّن اهلل ُي ِ‬


‫جري على يديه‬ ‫يف الفتن‪ ،‬و َينكشف له حال ال َك ِذ ِ‬
‫ب على اهلل ورسوله‪ ،‬فإ َّنَّّّ الدجال َأ َ‬

‫أمورا هائلة‪ ،‬و َمخاريق ُم ِ‬


‫زلزلة‪ ،‬حتى أ ّن َمن رآه افتَتن به‪ ،‬فيكشفها اهلل للمؤمن‪ ،‬حتى َيعتقد بطالهنا"‪.‬‬ ‫ً‬
‫الحق وال‬ ‫انتبهوا لهذه الفائدة! فائدة نفيسة؛ اإليمان ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬عصمة لصاحبه بفضل اهلل‪ ،‬فالمؤمن ي ِ‬
‫بص ُر ّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السنة كانت له ُجنَّة‬ ‫سيما عند الفتن‪ ،‬فإ َّنّّ اهلل يرزقه بصيرة َي ْع َل ُم هبا الفتن‪ ،‬ومن بصيرته أنه َي ْع َل ُم ُّ‬
‫السنة‪ ،‬و َمن عَل َم ُّ‬
‫بفضل اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪.-‬‬

‫فالمؤمن ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬يقرأ بين عيني الدجال‪ :‬كافر‪ ،‬مع أ ّن الدجال من أكثر الناس قدرة على الكذب ومعه‬

‫مخاريق هائله ‪-‬سنذكرها إن شاء اهلل عز وجل‪.-‬‬

‫إ ًذا؛ نقول‪ :‬إ ّن الدجال من بني آدم‪ ،‬وهو شاب‪ ،‬أحمر‪ ،‬جسيم ‪-‬يعني كبير الخلقة‪ ،-‬متباعدُ ما بين‬

‫الشعر‪ ،‬شديد َتج ُعد الشعر‪َ ،‬معيب العينَين؛ فعينه اليمنى عوراء قد ذهب ضوؤها‪،‬‬ ‫الساقينوالفخذين‪ِ ،‬‬
‫منكسر َّ‬ ‫َ‬

‫مكتوب بين عينيه‪ :‬كافر؛ فهذه أوصافه التي بيّنها النبي صلى اهلل عليه‬
‫ٌ‬ ‫وعينه اليسرى ممسوحة لم يذهب ضوؤها‪،‬‬

‫وسلم‪.‬‬

‫الدجاجلة فتنة‪ ،‬فإنه ما خلق اهلل مِن َلدُ ن آدم إلى قيام الساعة أعظم من‬
‫ِ‬ ‫‪‬وأ ّما فتنته ‪-‬عيا ًذا باهلل منها‪ -‬فهو أعظم‬

‫فتنته‪ ،‬وسنذكر األحاديث المب ِّينة لفتنته ونشرح بعض كلماهتا‪.‬‬

‫الدَّج َال َذ َ‬ ‫اهلل ع َل ِيه وس َّل َم‬ ‫ِ‬


‫ات‬ ‫َّ‬ ‫رسول اهلل ص َّلى ُ‬
‫ُ‬ ‫ففي صحيح مسلم‪ ،‬عن النواس بن سمعان قال‪َ " :‬ذك ََر‬
‫َ‪،‬فخفض ِ‬
‫َفيه ورف َع"‪.‬‬ ‫الغداة َ‬

‫َّخل"؛ يعني‪ :‬حتى ظنناه‬ ‫ِ‬


‫طائفةالن ِ‬ ‫ما معنى "فخفض فيه ورفع"؟ أي بالغ يف تقريبه‪ ،‬ولذلك قال‪َ " :‬حتَّى ظننَّا أ َّن ُه يف‬

‫وهنَا"‪.‬‬ ‫خرج وهو يف طائفة النخل‪" ،‬فلما رحنَا إليه عرفَ َذلِ َ ِ‬
‫وج َ‬
‫ك في ُ‬ ‫ََ‬ ‫ّ ُ ْ‬

‫فلما رحنا"؛ أي جئنا يف المساء‪،‬‬


‫يا إخوة! النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ذلك يف الغداة أي يف الصباح‪ّ " ،‬‬

‫الر ْو َحة أن تط َلق على المجيء يف المساء؛ لك ّن ذلك ليس بالزم؛ ألنَّها قد ُتط َلق ً‬
‫أيضا على الصباح؛‬ ‫واألصل يف َّ‬

‫‪22‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫قرب َبدَ نة))؟ وهذا قبل المساء‪ ،‬لك ّن األصل يف لغة‬


‫أال تعرفون الحديث‪َ (( :‬من راح يف الساعة األولى فكأنما ّ‬
‫فلما رحنا إليه"؛ أي جئناه مسا ًء‪َ " ،‬ع َرفً َذلِ َ‬
‫ك يف‬ ‫الروحة تط َلق على المجيء مسا ًء‪ ،‬قال النواس‪ّ " :‬‬
‫العرب أ ّن َّ‬
‫وجوهنَا ‪-‬أي تغيرت وجوههم من الخوف من الدجال‪َ -‬ق َال‪((:‬ماشأ ُنكُم؟‪ -‬ما حالكم؟‪ُ ،-‬قلنا‪ :‬يارسول َاهللِ‬
‫َّ‬ ‫ُ َ‬

‫أخو ُفني‬ ‫ِ‬


‫طائفةالن ِ‬
‫َّخل َ‬ ‫رفعت‪،‬حتَّى ظننَّا أ َّن ُه يف‬ ‫ِ‬ ‫َذك َ‬
‫َرت الدَّ َّجال َالغداةَ‪،‬فخ َف َ‬
‫((غيرالدَّ َّجال ِ َ‬
‫ُ‬ ‫‪،‬قال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ثم َ‬
‫ضت فيه ّ‬
‫غير الدجال َأخَ َو ُفني عليكم))‪ ،‬ويف رواية ‪-‬هي عند الرتمذي بإسنادٍ صحيح‪َ (( :-‬أخوف لي‬
‫علي ُكم))"‪ ،‬قال‪ُ (( :‬‬
‫عليكم))‪ ،‬هذا الخطاب للصحابة‪.‬‬

‫غير الدجال َأخْ َو ُفني عليكم))؛ أي أين ال أخاف عليكم إال الدجال‪ ،‬ثم َذك ََر سبب هذا؛ فقال‪(( :‬إن ُ‬
‫يخرج و‬ ‫(( ُ‬

‫ناحجيج ُه دو َنكُم»‪ ،‬إن يخرج فيكم معاشر الصحابة؛ فأنا حجيجه دونكم؛ أي مدافِ ُعه و ُمبطِ ٌل أمره فال‬
‫ُ‬ ‫َأنافيكُم فأَ‬

‫شاب قطَ ٌط‪،‬عينُه ُ َطافِ َيةٌ‪،‬‬ ‫نفس ِه‪ ،‬واهلل ُخَ ليفتي على ِّ‬
‫كل مسلمٍ‪ ،‬إنَّه ُ ٌّ‬
‫يضركم‪(( ،‬وإن يخرج و لستُفيكم‪ ،‬فامرؤٌ حجيج ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫يه فواتح سورةِالك َْه ِ‬
‫طن‪،‬من َأدر َكه ِمنكُم‪،‬فليقرأ ْع َل ِ‬ ‫كأنِّي أشب ُهه ب ِ‬
‫ف‪ ،‬إ َّن ُه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫بن َق ٍ َ ْ َ ُ‬‫عبدالعزَّى ِ‬‫ِّ ُ َ‬

‫ِ‬
‫ِ‪،‬والعراق))؛ ما معنى َخ َّلة؟ يعني يف طريق‪ ،‬أي خارج من طريق بين الشام والعراق‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الشام‬ ‫ارج من خ َّلة َ‬
‫بين َّ‬ ‫خَ ٌ‬

‫ً‬
‫شماال؛ أي أفسد فسا ًدا شديدً ا يف األرض‪،‬‬ ‫ماال))؛ يعني إذ َخ َر َج عاث يمينًا وعاث‬ ‫َ‬
‫ًا‪،‬وعاث َش ً‬ ‫(( َ‬
‫فعاث يمين‬
‫ِ‬
‫((ياعبا َداهلل اثبُتوا))‪(( ،‬يا عباد اهلل اثبتوا))‪(( ،‬يا عباد اهلل اثبتوا))؛ َأ ْم ٌر بالثبات‪ ،‬ويف ذلك إشار ٌة إلى أ ّن َّ‬
‫مما َيقي‬

‫المسلم من فتنة الدجال‪ :‬أن َيثبُت على اإلسالم‪.‬‬

‫وكيف َيثبت على اإلسالم؟‬

‫يثبت على اإلسالم بالعلم والعمل‪ ،‬فيتع َّلم و َيعمل‪ ،‬ويسأل اهلل أن يثبته على دينه؛ فإ ّن القلوب بين أصب َعين من‬

‫أصابع الرحمن يق ِّلبها كيف يشاء‪ ،‬فال َيغرت بعلمه‪ ،‬وال َيغرت بعمله‪ ،‬وإنَّما يلجأ إلى ربه ً‬
‫أيضا‪(( :‬يا مقلب القلوب‬

‫واألبصار‪ ،‬ثبِّت قلبي على دينك))‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫يوما‪،‬يو ٌم‬ ‫ِ‬


‫األرض؟ ‪ -‬كم بقاؤه يف األرض؟‪َ ،-‬ق َال‪((:‬أربعو َن ً‬ ‫ول اهللِ ومالبثُ ُه يف‬
‫يار ُس َ‬
‫قال النواس ﭬ‪ُ " :‬ق ْلنَا‪َ :‬‬
‫كسنَة مِن أيامِنا على الحقيقة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كأيامكُم))"‪ ،‬أربعون يو ًما‪ ،‬يو ٌم منها َ‬
‫ِِ‬
‫‪،‬وسائر َّأيامه َّ‬
‫ُ‬
‫َسنة‪ ،‬ويوم ك ََش ْهرٍ‪،‬ويوم كَج ٍ‬
‫معة‬ ‫ٌ ُ‬ ‫ٌ‬
‫ك ٍ‬

‫ويو ٌم كشهر ‪-‬يمتد اليوم بطول الشهر وهو يوم‪ ،-‬ويو ٌم كجمعة؛ يمتد اليوم بطول األسبوع‪ ،‬وسائر أيامه‬

‫كأيامكم‪.‬‬

‫يارسول اهللِ فذلِ َ‬


‫ك اليو ُم الَّذي‬ ‫َ‬ ‫انظروا يا إخوة؛ الكالم يف ٍ‬
‫أمر َمهول عظيم؛ ماذا قال الصحابة؟ قال ﭬ‪ُ " :‬قلنا‪:‬‬
‫ِ‬ ‫كس ٍنة َ‪،‬أ َتك‬
‫ْفينافيه صال ُة يومٍ؟" ال إله إال اهلل! انظروا اهتمامهم بالصالة‪ ،‬يخربهم النبي صلى اهلل عليه وسلم عن‬ ‫َ‬
‫كسنَة أتكفينا فيه صالة يوم؟! يعني نصلي‬
‫حال الدجال المهول فما ألهاهم عن الصالة؛ قالوا‪ :‬ذلك اليوم الذي َ‬
‫قدر ُه)) قال‪ :‬ال‪ ،‬ال تكفيكم‪:‬‬
‫َ‬ ‫خمس صلوات؟ فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬فاقدُ روا َل ُه‬

‫((فاقدُ روالَ ُه َ‬
‫قدر ُه))ما معنى هذا؟‬

‫يعني ُاقدُ روا األيام– قدِّروها‪ -‬أ ّن هذا المقدار ليوم؛ فصلوا فيه خمس صلوات‪ ،‬ثم المقدار الثاين لليوم الثاين‬

‫فصلوا فيه‪ ،‬حتى تنتهي السنة‪.‬‬

‫وأخذ الفقهاء من هذا فائدة‪ :‬وهي أ ّن المسلمين يف البلدان التي ال تط ُلع عليهم الشمس يف بعض أيام السنة‬

‫كبعض بلدان أوروبا؛ ي َقدرون َقدْ َر اليوم؛ يعني لو فرضنا جاء رمضان وال هنار‪ ،‬ال شمس‪ ،‬ال َيرون الشمس؛ ماذا‬

‫يفعلون؟ َيقدُرون اليوم‪.‬‬

‫كيف َيقدُ رونه؟‬

‫حسب الوقت هكذا‪ ،‬هذا يف الصيام ويف الصالة كذلك يف‬


‫قال الفقهاء‪ :‬ينظرون إلى أقرب بلد لهم فيه هنار؛ فيُ َ‬
‫معرفة األوقات‪.‬‬

‫وص ْفتها لنا؛‬ ‫ِ‬


‫األرض؟" هو سيمكث أربعين يوما َ‬ ‫قدر ُه))‪،‬قال‪ُ :‬قلنا َيا َر ُس َ‬
‫ول اهلل‪َ :‬ف َماإسرا ُع ُه يف‬ ‫"قال‪((:‬اقدُ روا لَ ُه َ‬
‫فما إسراعه يف األرض؟ األرض كبيرة‪ ،‬فما إسراعه يف األرض؟ فقال صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬كالغ ِ‬
‫َيث استَدبرت ُه‬

‫السحب إذا هاجت الريح كيف تمضي مسرعة؟ فكذلك هو‪.‬‬


‫الريح))؛ يمضي سري ًعا‪ ،‬أال تنظرون إلى ُّ‬
‫ِّ‬

‫‪24‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫فيدعوهم فيؤمنو َن ِب ِه و َيستَجيبو َن‬


‫ُ‬ ‫الريح‪ ،‬فيأتي القو َم‬ ‫ِ‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬كالغَيث استَدبرت ُه ِّ‬
‫وح َعليهم َس ِ‬
‫ارحت ُُهم))‪ ،‬ما سارحتهم؟ أي ماشيتهم من اإلبل‬ ‫‪،‬ويأمراألرض َفتُنْبِ َ‬
‫ت‪َ ،‬فت ََر ُ‬ ‫ُ‬ ‫السما َء فت ُْمطِ َر‬ ‫لَ ُه‪َ ،‬ف ُ‬
‫يأمر َّ‬

‫انت ُذ ًرى))سبحان اهلل!تأيت يف المساء أطول ما كانت ً‬


‫ذرى؛ أي سنام‪ ،‬أي اإلبل؛ يف‬ ‫والغنم والبقر‪َ ((،‬‬
‫أطول ما َك ْ‬

‫خواصر))؛ أي يظهر‬
‫َ‬ ‫يوم واحد‪(( ،‬وأسب َغ ُه ُضرو ًعا))؛أي أطوله ضروعًا؛ لكثرة اللبن فيهايف يوم واحد‪(( ،‬وأمدَّ ُه‬
‫عليها ِ‬
‫الس َمن يف يوم واحد‪ ،‬انظروا الفتنة نعوذ باهلل منها!‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثم يأتي القو َم فيدعوهم فير ُّدو َن ع َليه))؛ ال يؤمنون به‪َ « ،‬فير ُّدو َن ع َليه قولَ ُه‪،‬فينصرِفُ عنهم ف ُيصبح ون َُممح َ‬
‫لين‪-‬‬ ‫(( َّ‬
‫مربالخَ ر َب ِة))؛‬ ‫ِ‬
‫أي ُمجدبِين‪ ،-‬ليس بِأيديهم شي ٌءمن أموالهم)) تموت مواشيهم يف يوم‪ ،‬نعوذ باهلل من الفتنة! « َي َّ‬
‫يقول لَها‪ :‬أخرِجي كُنوز ِ‬
‫َك–يأمرها‪ -‬فتتب ُع ُه ُكنو ُزها‬ ‫مربالخَ ر َب ِة َف ُ‬
‫أي باألرض الخراب وبالبيوت الخراب‪َ ((،‬و َي َّ‬
‫ِ‬
‫جزلتين‪-‬أي‬ ‫دعورجال ممتلئًا َشبابا‪ ،‬فيضربه بالس ِ‬
‫يف فيقط ُع ُه‬ ‫ً‬ ‫َّحل‪-‬يعني كجماعة النحل‪ُ ،-‬ث ّم َ َي‬ ‫ِ‬
‫عاسيب الن ِ‬ ‫ك َي‬
‫ُ ُ َّ‬ ‫ً‬

‫وجزْ ل ًة يف جهة أخرى‪ ،‬وتكون المسافة بينهما مسافة‬ ‫قِطعتَين‪ِ ،‬ش ّقين‪َ -‬رميةَال َغ ِ‬
‫رض))؛ أي أنه يجعل َجزْ ل ًة يف جهة َ‬

‫‪،‬فيقبل َويت ََه َّل ُل ُ‬


‫وجه ُه))؛ نعوذ باهلل من الفتنة‪ ،‬نعوذ‬ ‫ُ‬ ‫الرمي ‪-‬رمي السهم‪ -‬بعد أن يقطعه‪ ،‬والعياذ باهلل‪ُ (( ،‬ث َّم َيدعو ُه‬

‫شق بعيد فيَدعوه فيأيت ُيقبِل َيته َّلل وجهه‬ ‫باهلل من الفتنة‪ ،‬يقطعه نصفين ويجعل َّ‬
‫كل نصف يف ٍّ‬
‫ِ‬
‫البيضاء))‪ ،‬وسنتكلم عن هذا ‪-‬‬‫‪،‬فينزل عندَ المنارةِ‬
‫ُ‬ ‫مريم ڠ‬ ‫ابن‬ ‫ك‪،‬فبينَما ُهوكذلِ َ‬
‫ك‪،‬إذ َ‬ ‫ضح ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫اهلل عيسى َ‬
‫بعث ُ‬ ‫« َو َي َ‬

‫إن شاء اهلل عز وجل‪ -‬عند كالمنا على نزول عيسى ڠ‪.‬‬

‫أيضا‪ -‬عند مسلم عن أبي سعيد الخدري ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫‪‬وجاء يف فتنته ‪ً -‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرجال الذين‬ ‫ين‪َ ،‬فتَ ْلقا ُه َ‬
‫المسال ُح‪َ ،‬مسال ُح الدَّ َّجال))؛ المسالح‪ :‬هم ِّ‬ ‫« َيخْ ُر ُج الدَّ َّج ُال َفيَت ََو َّج ُه قبَ َل ُه َر ُج ٌل م َن ُ‬
‫الم ْؤمن َ‬
‫ي ِ‬
‫حملون السالح‪ ،‬ير ِّتبون الناس للدجال‪ ،‬و َيجمعون الناس للدجال‪ ،‬رجال الدجال ‪-‬والعياذ باهلل‪(( ،-‬فيَقولو َن‬ ‫َ‬

‫قال‪:‬ف َيقولو َن له‪َ :‬أو ما ت ُْؤ ِم ُن َبربِّنا؟))؛‬


‫عمد إلى هذا‪ -‬الذي خَ َر َج‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫قول‪ :‬أ ْعمدُ إلى هذا‪-‬أو َأ ُ‬
‫ب؟ ف َي ُ‬
‫له‪ْ :‬أي َن َت ْذ َه ُ‬
‫قال هذا‪ ،‬وهم يقولون ربنا! قالوا‪َ :‬أو ما تؤمن بربنا؟ (( ف َي ُ‬
‫قول‪ :‬ما َبر ِّبنا خَ فا ٌء‪ ،‬ف َيقولو َن‪ :‬ا ْقتُ ُلو ُه‪-‬يرونه‬

‫قال‪َ :‬ف َينْطَ ِل ُقو َن به إلى‬


‫أحدً ا ُدو َن ُه‪َ ،‬‬
‫أليسقدْ نَهاك ُْم َر ُّبك ُْم‪-‬أي الدجال‪-‬أ ْن َت ْقتُ ُلوا َ‬
‫ض‪َ :‬‬ ‫قول َب ْع ُض ُه ْم لِ َب ْع ٍ‬
‫كافرااقتلوه‪،-‬ف َي ُ‬
‫ً‬

‫‪25‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫قال‪َ :‬ف َيأْ ُم ُر‬


‫اهلل عليه وس َّل َم‪َ ،‬‬ ‫قال‪ :‬يا أيها النَّاس هذا الدَّ ج ُال الذي َذكَر ر ُ ِ‬
‫الم ْؤ ِم ُن‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫سول اهلل َص َّلى ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫الدَّ َّجال‪ ،‬فإذا َرآ ُه ُ‬
‫اجرحوه يف رأسه‬ ‫وه ُ‬
‫وش ُّجو ُه‪ -‬أي‪َ :‬‬ ‫الدَّ َّج ُال به ف ُي َش َّب ُح‪ -‬أي ُي َمدّ على بطنه‪ ،‬يأمر به ف ُي َمدّ على بطنه‪ -‬ف َي ُ‬
‫قول‪ :‬خُ ُذ ُ‬

‫قول‪َ :‬أومات ُْؤ ِمنُبي؟ ‪-‬بعد أن‬


‫قال‪ :‬فيَ ُ‬
‫ضرب ضربًا شديدًا‪َ -‬‬
‫وس ُع َظ ْه ُر ُه وبَطْنُ ُه َض ْربًا‪ -‬أي أنه ُي َمدّ فيُ َ‬
‫ووجهه‪ -‬فيُ َ‬
‫ْشار ِمن َم ْفرِقِ ِه حتَّى ييُ َف َّر َق بيْ َن ِر ْج َليْ ِه))؛‬ ‫‪،‬قال‪ :‬في ْؤمر به في ْؤ َشر ِ‬
‫بالمئ ِ‬ ‫ُ ُ‬ ‫اب َ ُ َ ُ‬ ‫يح الك َّذ ُ‬
‫ْت ِ‬
‫المس ُ‬ ‫قال‪ :‬فيَ ُ‬
‫قول‪ :‬أن َ َ‬ ‫ضربه ‪َ -‬‬

‫وال بسكين وال بآلة قاطعة وإنَّما بالمنشار‪ ،‬وأنتم تعلمون حال المنشارمن أعلى رأسه حتى يخرج المنشار من‬

‫يقول له‪:‬‬ ‫يقول له‪ُ :‬ق ْم‪َ ،‬ف َي ْستَ ِوي قائِ ًم َ‬
‫ا‪،‬قال‪ُ :‬ث ّم َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫بين رجليه‪َ (( ،‬ق َالََ‪ُ :‬ثم َيم ِشي الدَّ ج ُال بين ِ‬
‫القطْ َعتَ ْين ِ ُث َّم‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬ ‫ّ َْ‬
‫الي ْف َع ُل َب ْع ِدي بأَ َح ٍد))؛‬
‫َّاس إنَّه َ‬
‫ياأيهاالن ُ‬ ‫يك َّإال َب ِص َير ًة ‪-‬ال إله إال اهلل!‪َ -‬‬
‫قال‪ُ :‬ث َّم ُ‬
‫يقول‪ُّ :‬‬ ‫ت فِ َ‬ ‫أت ُْؤ ِمنُبي؟ف َي ُ‬
‫قول‪ :‬ماا ْز َد ْد ُ‬

‫يعني يقول‪ :‬أيها الناس ال تخافوا منه؛ فإن اهلل لن يم ِّكنه من أحد بعدي أن َيف َعل به هذا‪ٌ ،‬‬
‫أمر عظيم يا إخوة! فتنة‬

‫عظيمة! ُي َ‬
‫نشر بالمنشار‪ ،‬هذا العذاب األليم‪ ،‬حتى ُيفرق فلقتين‪ ،‬ثم يمشي الدجال بينهما‪ ،‬ثم يأمره أن يقوم فيقوم‬

‫حيَّا! ال إله إال اهلل! ولكنه اإليمان‪ ،‬ثبّتَه اهلل عز وجل‪ ،‬لكنه ُيطمئِن َمن بعده من الناس‪ :‬ال تخافوا فإنه ال يتم َّكن‬

‫قال‪َ :‬فيَأْخُ ُذ ُه الدَّ َّج ُال لِيَ ْذبَ َح ُه ‪-‬يريد اآلن أن يذبحه‪-‬فيُ ْج َع َل ما بيْن َ َر َقبَتِ ِه إلى ت َْر ُق َوتِ ِه‬
‫مِن فِ ْعل هذا‪َ (( ،‬‬

‫نحاسا‪ ،‬فال يستطيع أن يذبحه‪ُ ،‬ي َصدّ عن ذبحه‪ ،‬قال‬


‫ً‬ ‫ُحاسا))؛يجعل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬ما بين رقبته إلى ترقوته‬
‫ن ً‬
‫َّاس أنَّما َق َذ َف ُه‬ ‫ِ‬ ‫قال‪َ :‬فيأْخُ ُذ بيدَ ي ِه ِ ِ ِ‬
‫يع إلَ ْي ِه َسبِ ًيال‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫ور ْج َل ْيه َف َي ْقذفُ به‪َ ،‬ف َي ْحس ُ‬
‫ب الن ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬فال َي ْستَط ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الجن َِّة َف َ‬ ‫ِ‬ ‫إلى الن ِ‬
‫اهلل عليه وس َّل َم‪ :‬هذا أ ْعظَ ُم الن ِ‬
‫َّاس َشها َد ًة عنْدَ َر ِّب العالَم َ‬
‫ين))‬ ‫قال َرسول ُاهلل َص َّلى ُ‬ ‫َّار‪ ،‬وإنَّما ُألْقي َيف َ‬

‫؛ هذه بعض األحاديث يف فتنته‪.‬‬

‫وغدً ا ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬سنذكر بعض فتنته لألعراب‪ ،‬فإنه يفتن األعراب‪ ،‬وسنذكر ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬كيف َيفتن‬

‫األعراب‪.‬‬
‫وسنذكر ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬األحاديث المبينة لحاله وما يقي منه ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬يف أول درس ٍ‬
‫غد ‪-‬إن شاء اهلل عز‬ ‫ِّ‬

‫وجل‪.-‬‬

‫‪26‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس السابع عشر‬


‫‪27‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫أيها اإلخوة؛ نحن ‪-‬بحمد ربنا‪ -‬نجتمع يف هذا المكان المبارك على حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من‬

‫صحيح اإلمام مسلم ‪$‬من كتاب الفتن من هذا الصحيح‪.‬‬

‫ونحن ال زلنا على عهدنا مع قول النبي صلى اهلل عليه وسلم عن الساعة‪(( :‬إنها لن تقوم حتى َترون عشر آيات؛‬

‫فذكر‪ :‬الدخان‪ ،‬والدجال‪ ،‬والدابة‪ ،‬وطلوع الشمس من مغربها‪ ،‬ونزول عيسى بن مريم عليه السالم‪ ،‬ويأجوج‬

‫ومأجوج‪ ،‬وخسوفات ثالث‪ :‬خسف بالمغرب‪ ،‬وخسف بالمشرق‪ ،‬وخسف بجزيرة العرب))‪ ،‬ثم ذكر النبي‬

‫َطرد الناس إلى محشرهم»‪.‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم أ ّن ((آخر ذلك ٌ‬
‫نار تخرج من اليمن ت ُ‬
‫وكنا نتك َّلم يف المجلس الماضي عن عالمة كربى‪ ،‬ذكرها النبي صلى اهلل عليه وسلم؛ وهي‪ :‬خروج الدجال‪،‬‬

‫ووقف بنا الكالم يف الكالم عن فتنته‪ ،‬فذكرنا شيئًا من عظيم فتنته ‪-‬عيا ًذا باهلل منها‪ -‬ونواصل اليوم الكالم عن‬

‫هذا األمر‪.‬‬
‫ول ال ّل ِه صلى اهلل عليه وسلم ينَادِي‪:‬الصالَةَج ِ‬
‫ام َعةً‪َ ،‬فخَ َر ْج ُ‬
‫ت‬ ‫فعن فاطمة بنت قيس ڤ قالت‪" :‬نادى منَادِي رس ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫فِي َصفّ‬ ‫ول ال ّل ِه صلى اهلل عليه وسلم‪َ ،‬ف ُكن ُ‬
‫ت م َع رس ِ‬ ‫إِلَى الْمس ِ ِ‬
‫الن َّساء الّتي تَلي ُظ ُه َ‬
‫ورالْ َق ْو ِم"؛‬ ‫ْت‬ ‫جد َف َص ّليْ ُ َ َ ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫سمعت ذلك تحقي ًقا؛ ألهنا كانت يف ّأول ِّ‬
‫صف النساء‪ ،‬فكانت قريبة من مقام‬ ‫ْ‬ ‫ومقصودها مِن ذِك ِْر هذا أن تبيِّن أهنا‬

‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫ك‪َ .‬ف َق َال‪((:‬لِ َي ْل َز ْم‬


‫‪،‬ج َل َس َع َل َى الْ ِمنْ َبرِ َو ُه َو َي ْض َح ُ‬ ‫قالت ڤ‪َ " :‬ف َلما َق َضى رس ُ ِ‬
‫ول ال ّله صلى اهلل عليه وسلم َصالَ َت ُه َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ُّل إِن َْس ٍ‬
‫ان ُم َصالّ ُه ))‪ُ ،‬ث ّم َق َال‪َ « :‬أتَدْ ُرو َن ل َم َج َم ْعتُك ُْم؟» َقالُوا‪ :‬ال ّل ُه َو َر ُسولُ ُه َأ ْع َل ُم‪َ ،‬ق َال‪((:‬إِنّي َوال ّله َم َ‬
‫اج َم ْعتُك ُْم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ ِ ٍ‬
‫يثًاوا َف َق‬ ‫يما الدّ ِار ّ‬
‫ي كَا َن َر ُجالًن َْص َرانيًّا ‪َ ،‬ف َجا َء َفبَ َاي َع َو َأ ْس َل َم‪َ ،‬و َحدّ َثني َحد َ‬ ‫ل َر ْغبَة َوالَل َر ْهبَة‪َ ،‬ولَك ْن َج َم ْعتُك ُْم؛ ألَ ّن تَم ً‬
‫ْت ُأ َحدّ ُثك ُْم َعن َْم ِس ِ‬
‫يح الدّ ّج ِ‬
‫ال‪.‬‬ ‫الّ ِذي ُكن ُ‬

‫َف َل ِعب َيبِ ِه ُم الْ َم ْو ُج‬ ‫ال ِم ْن لَخْ ٍم َو ُج َذا َم ‪-‬من قبيلتين ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫َمع َ َثالَث َ‬
‫ين َر ُج ً‬ ‫ب فِي َس ِفينَة ٍبَ ْحرِ ّي ٍة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َحدّ َثني َأ ّن ُه َرك َ‬

‫الس ِفين َِة‪َ .‬فدَ خَ ُلواالْ َج ِز َير َة‪،‬‬


‫ب ّ‬ ‫س‪َ ،‬ف َج َل ُسوافِي َأ ْق ُر ِ‬
‫الش ْم ِ‬
‫ب ّ‬ ‫َش ْهر ًافِي الْبَ ْحرِ‪ُ ،‬ث ّم َأ ْر َف ُؤواإِلَ َى َج ِز َيرةٍفِي الْبَ ْحرِ َحت َّى َم ْغرِ ِ‬

‫الش َعرِ» أهلب‪ :‬يعني كثيرة الشعر‪ ،‬وقولهم‪ :‬كثير الشعر؛ هذا تفسير ((ال ََيدْ ُرو َن َما ُق ُب ُل ُه ِم ْن‬
‫ب كَثِ ُير ّ‬ ‫ِ‬
‫َف َلق َيت ُْه ْم َدا ّب ٌة َأ ْه َل ُ‬

‫‪28‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ك م َاأن ِ‬
‫ِ‬ ‫ُد ُبرِ ِه ِم ْن َكثْ َرةِ ّ‬
‫بالجساسة؛ ألهنا تتجسس األخبار‬
‫َّ‬ ‫ت‪َ :‬أنَاالْ َج ّس َ‬
‫اس ُة))؛ ُ‬
‫وسميت‬ ‫ْت؟ َف َقالَ ْ‬ ‫الش َعرِ‪َ .‬ف َقالُوا‪َ :‬و ْي َل َ‬
‫للدجال‪ ،‬فهي تتجسس األخبار للدجال؛ أل ّن الدجال ‪-‬كما سيأيت‪ -‬مو َثق‪ ،‬فهي َتخرج وتتجسس األخبار له؛‬

‫يت بالجساسة‪.‬‬
‫فسم ْ‬
‫ِّ‬
‫االر ُج ِل فِي الدّ ْيرِ))؛ والدَّ ْير هنا المراد به‪ :‬القصر؛ أي أنه‬ ‫ِ‬
‫ت‪َ :‬أ ّي َهاالْ َق ْو ُم!ا ْنطَل ُقواإِلَ َى َه َذ ّ‬
‫اسةُ؟ َقالَ ْ‬
‫(( َقالُوا‪َ :‬و َماالْ َج ّس َ‬
‫يف قصر‪.‬‬

‫(( َفإِ ّن ُه إِلَ َى خَ بَرِك ُْم بِاألَ ْش َو ِاق))؛ ومعنى هذا أنَّه أخربها عن أنَّها ستصادف قو ًما؛ ويكون قد علم هذا‪ ،‬أو أنه أمرها‬

‫أهنا إذا رأت أحدً ا من البشر توصلهم إليه‪.‬‬

‫االر ُج ِل فِي الدّ ْيرِ؛ َفإِ ّن ُه إِلَ َى خَ َبرِك ُْم بِاألَ ْش َو ِاق‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ت‪َ :‬أ ّي َهاالْ َق ْو ُم!ا ْنطَل ُقواإِلَ َى َه َذ ّ‬
‫اسةُ؟ َقالَ ْ‬
‫(( َقالُوا‪َ :‬و َماالْ َج ّس َ‬
‫ال َفرِ ْقن َِامن َْها ‪-‬خفنا‪َ -‬أ ْن َتكُو َن َش ْيطَا َن ًة‪.‬‬
‫ت لَن ََار ُج ً‬ ‫لَ ّم َ‬
‫اس ّم ْ‬
‫َق َال‪َ :‬فا ْنطَ َل ْقنَا ِسراعًا حتّى دخَ ْلنَا الدّ ير؛ َفإِ َذافِ ِ‬
‫يه َأ ْعظَ ُم إِن َْس ٍ‬
‫ان َر َأ ْينَا ُه َق ّط خَ ْلقًا ‪-‬كما قلنا يف المجلس الماضي‪:‬‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫جسيم‪،‬كبيرالخلقة‪-‬و َأ َشدّ ه ِو َثاقًا‪ ،‬مجموع ٌة يدَ اه إِلَى عن ُِق ِه ‪ ،‬مابين ر ْكبتَي ِه إِلَى َكعبي ِه بِالْح ِد ِ‬
‫يد‪ُ ،‬ق ْلنَا‪َ :‬و ْي َل َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ َْ َ ُ َ ْ َ َْْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ ُ َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫َم َاأن َ‬
‫ْت؟ َق َال‪َ :‬قدْ َقدَ ْرت ُْم َع َل َى خَ بَرِي))؛ أنا اآلن بين أيديكم مو َثق وستعرفون الخرب‪(( ،‬فأخبروين ما أنتم؟ قالوا‪:‬‬
‫ٍ‬
‫سفينة بحرية فصا َد ْفنا البحر حين اغتَ َلم ))؛ أي كانت هنالك أمواج شديدة‪،‬‬ ‫نحن أناس من العرب َركِبنا يف‬

‫ب كَثِ ُير‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(( َف َل ِعب بِنَا الْموج َش ْهرا‪ُ ،‬ثم َأر َفأْنَا إِلَى ج ِزيرتِ َ ِ ِ‬
‫ك َهذه‪َ ،‬ف َج َل ْسنَا في َأ ْق ُربِ َها‪َ ،‬فدَ خَ ْلنَـا الْ َج ِز َيرةَ‪َ ،‬ف َلق َيتْنَا َدا ّبة ٌَأ ْه َل ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ً ّ ْ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ‬
‫ك م َاأن ِ‬
‫الشعرِ‪َ .‬ف ُق ْلنَا‪ :‬وي َل ِ‬‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‪َ :‬أنَاالْ َج ّس َ‬
‫اس ُة‪ُ .‬ق ْلنَا‪:‬‬ ‫ْت؟ َف َقالَ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ى َما ُق ُب ُل ُه م ْن ُد ُب ِره م ْن َكثْ َرة ّ َ‬
‫الش َعرِ‪ ،‬ال َُيدْ َر َ‬
‫ّ‬

‫ك ِس َراعًا‪.‬‬
‫َفإِ ّن ُه إِلَ َى خَ بَرِك ُْم بِاألَ ْش َو ِاق‪َ .‬فأَ ْقبَ ْلنَا إِلَيْ َ‬ ‫االر ُج ِل فِي الدّ ْيرِ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ا ْعمدُ واإِلَ َى َه َذ ّ‬
‫وماالْجساسةُ؟ َقالَ ِ‬
‫ت‪:‬‬ ‫ََ َ ّ َ‬
‫ا‪،‬ولَ ْم نَأْ َمنْأَ ْن َتكُون ََشيْطَا َن ًة))؛ فأخبَروه بكل ما وقع‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َو َف ِز ْعنَامن َْه َ‬

‫(( َف ًق َال‪َ :‬أخْ بِ ُرونِي َع ْن نَخْ ِل بَ ْي َسا َن))؛ وبيسان قرية يف الشام فيها نخل‪َ (( ،‬ف ًق َال‪َ :‬أخْ بِ ُرونِي َع ْن نَخْ ل ِبَ ْي َسا َن‪ُ ،‬ق ْلنَا‪:‬‬

‫ك َأ ْن الَ ُتثْ ِم َر‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫عن َأي َشأْنِ َها تَستَخْ بِر؟ َق َال‪َ :‬أسأَلُكُم عن نَخْ ِل َها‪ ،‬ه ْل يثْ ِمر؟ ُق ْلنَالَه‪َ :‬نعم‪َ .‬ق َال‪َ :‬أما إِ ّنه ي ِ‬
‫وش ُ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ُ َْ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ ْ ّ‬
‫َأخْ بِرونِي عن بحيرةِ الطّبرِي ِة‪ُ ،‬ق ْلنَا‪ :‬عن َأي َشأْنِ َها تَستَخْ بِر؟ َق َال ‪ :‬ه ْل فِ َيها ماء؟ َقالُوا‪ِ :‬هي كَثِير ُة الم ِ‬
‫اء‪َ .‬ق َال‪َ :‬أ َما إِ ّن‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ ْ ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ ْ ُ َ َْ‬ ‫ُ‬

‫‪29‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ب‪َ .‬ق َال‪َ :‬أخْ بِ ُرونِي َعن ْ َع ْي ِن ُزغ ََر))؛بلدة يف الشام قليلة بالنسبة للشام‪ ،‬الشام معروف كثير‬
‫ك َأ ْن َي ْذ َه َ‬
‫ماءها ي ِ‬
‫وش ُ‬ ‫َ ََ ُ‬
‫ي َشأْنِ َها‬
‫النبات؛ لك ّن هذه البلدة قليلة النبات‪ ،‬فيها نبات‪ ،‬لكنها بالنسبة للشام قليلة النبات‪َ ((.‬قالُوا‪َ :‬ع ْن َأ ّ‬

‫‪،‬و َأ ْه ُل َه َايز َْر ُعو َن ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َْستَخْ بِر؟ َق َال‪َ :‬ه ْل في الْ َعيْن َِما ٌء؟ َو َه ْل َيز َْر ُع َأ ْه ُل َها بِ َماءالْ َعيْ ِن؟ ُق ْلنَالَ ُه‪َ :‬ن َع ْم‪ .‬ه َي كَث َيرةُالْ َماء َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمائ َها‪َ .‬ق َال‪َ :‬أخْ بِ ُروني َعن ْ َنبِ ّي األُ ّميّ َ‬
‫ين َما َف َع َل؟))؛ هو يقصد محمدً ا صلى اهلل عليه وسلم؛ أل ّن أمة محمد صلى‬

‫اهلل عليه وسلم أ ّمة أميَّة‪.‬‬

‫ومعنى كون أمة محمد صلى اهلل عليه وسلم أ َّمة أميَّة أهنا تأخذ بالظاهري‪ ،‬بالعالمات الظاهرة التي يشرتك فيها‬

‫الناس‪ ،‬فال تأخذ بالحساب الفلكي الذي ال َيعرفه إال المختصون‪ ،‬وال تأخذ بعلوم أ َبا جاد واألرقام واستخراج‬

‫األخبار منها‪ ،‬ولذلك يا إخوة! ليس هناك مناقضة بين كون أمة محمد صلى اهلل عليه وسلم أم ّية وبين الحث على‬

‫العلم يف أمة محمد صلى اهلل عليه وسلم؛ ألنه ليس المقصود باألم ّية بالنسبة لألمة عدم العلم‪ ،‬وال عدم القراءة‬
‫َحسب وال نكتب))؛ ال ِ‬
‫نحسب حساب الفلكيين‪،‬‬ ‫والكتابة؛ وإنَّما المقصود كما جاء تفسيره يف الحديث‪(( :‬ال ن ِ‬

‫وال نكتب كتابة أبا جاد‪ ،‬وإنَّما نأخذ بالظاهر‪ ،‬فيدخل الشهر بالهالل‪ ،‬فإن لم يكن فباإلكمال‪.‬‬

‫ين َما َف َع َل؟ َقالُوا‪َ :‬قدْ خَ َر َج ِم ْن َم ّكة ََو َنز ََل َيثْرِ َب‪َ .‬ق َال‪َ :‬أ َقا َت َل ُه الْ َع َر ُب؟ ُق ْلنَا‪َ :‬ن َع ْم‪َ .‬ق َال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫(( َق َال‪َ :‬أخْ بِ ُروني َع ْن َنبِ ّي األُ ّم ّي َ‬

‫ب َو َأ َطا ُعو ُه‪َ .‬ق َال لَ ُه ْم‪َ :‬قدْ كَا َن َذلِ َ‬


‫ك؟ ُق ْلنَا‪َ :‬ن َع ْم‪.‬‬ ‫يه ِم َن الْ َع َر ِ‬
‫َكيفَ صنَع بِ ِهم؟ َق َال‪َ :‬فأَخْ برنَاه َأ ّنه َقدْ َظ َهرع َلى من ْي ِل ِ‬
‫َ َ َ َ َ‬ ‫َْ ُ ُ‬ ‫ْ َ َ ْ‬
‫ك َأ ْن ُي ْؤ َذ َن لِي فِي الْخُ ُروجِ ‪.‬‬ ‫اك خَ يرلَ ُهم َأ ْن يطِيعوه‪ .‬وإِنّي مخْ بِركُم ْعنّي‪َ :‬أنَاالْم ِسيح‪ ،‬وإِنّي ُأ ِ‬
‫وش ُ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ ُ ُ َ‬ ‫َق َال‪َ :‬أ َما إِن َّذ َ ْ ٌ ْ‬
‫ِ‬ ‫ين لَ ْي َل ًة‪َ .‬غ ْي َر َم ّكة ََو َط ْي َب َة‪َ .‬ف ُه َم ُام َح ّر َمت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َفأَخْ ُر ُج َفأَ ِس ُير فِي األَ ْر ِ‬
‫َان َع َل ّي ك ْلت ُ‬
‫َاه َما‪،‬‬ ‫ض‪َ ،‬فال ََأ َد ُع َق ْر َية ًإِال َّه َبطْ َهافي َأ ْر َبع َ‬
‫تًاي ُصدّ نِي َعن َْها‪َ .‬وإِ ّن َع َل َى ك ُّل َن ْق ٍ‬
‫ب‬ ‫السيْفُ َص ْل َ‬
‫احد ًا ِمن ُْهما‪ ،‬استَ ْقب َلنِي م َل ٌ ِ ِ‬
‫ك بِيَده ّ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫احدَ ةً‪َ ،‬أو و ِ‬
‫ْ َ‬
‫ت َأ ْن َأدخُ َل و ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُك ّل َم َاأ َر ْد ُ‬

‫ِمن َْه َامالَئِ َك ًة َي ْح ُر ُسون ََها))‪.‬‬

‫ُ‪،‬ه ِذ ِه‬
‫((ه ِذ ِه َطيْبَةُ‪َ ،‬ه ِذه ِ َطيْبَة َ‬
‫ول ال ّل ِه صلى اهلل عليه وسلم – َو َط َع َن بِ ِمخْ َص َرتِ ِه فِي الْ ِمنْبَرِ‪َ : -‬‬
‫َقا َلتْﭫ‪َ " :‬ق َال َر ُس ُ‬

‫َط ْي َب ُة»؛ أي ما أنتم فيه هذه المدينة هي طيبة التي لن يدخلها الدجال‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫مر معنا أ ْن ذكرنا وجه هذه التسمية‪ ،‬وأنَّها من ال ِّطيب الذي هو الرائحة‪ ،‬أو من طِيب ال َعيش‪ ،‬أو من ال ُّطهر ‪-‬‬
‫وقد ّ‬
‫ْت َحدّ ْثتُك ُْم َذلِ َ‬
‫ك؟))‪َ ،‬ف َق َال الن ُ‬
‫ّاس‪َ :‬ن َع ْم"‪.‬‬ ‫يعني المدينة‪ ،-‬ثم قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :‬أالَ َه ْل ُكن ُ‬

‫انتبهوا ‪-‬يا إخوة‪ -‬هنا فائدة!‪:‬‬

‫تميما على ما حكى‪ ،‬وإقرار النبي صلى اهلل عليه وسلم ُحجة؛ أل ّن بعض‬
‫أقر ً‬‫أوال‪ :‬النبي صلى اهلل عليه وسلم ّ‬
‫الناس يقول‪ :‬هذا الخرب من خرب تميم‪ ،‬وليس من خرب الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأ ً‬
‫وال نقول‪ :‬النبي صلى اهلل‬

‫منكرا َل َما قاله النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬


‫أقر تميما وحكى ما قاله‪ ،‬ولو كان ما قاله ً‬
‫عليه وسلم ّ‬
‫ْت َحدّ ْثتُك ُْم َذلِ َ‬
‫ك؟)) وهذا يرجع إلى‬ ‫ثانيا‪ :‬نقول‪ :‬أ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال يف آخر الكالم‪َ (( :‬أالَ َه ْل ُكن ُ‬

‫ّاس‪َ :‬ن َع ْم"‪ ،‬إ ًذا النبي صلى اهلل عليه وسلم قبل أن يأيت تميم َذك ََر لهم هذا الكالم‪ ،‬فحدَّ ثهم عنه‪،‬‬
‫الجميع‪َ "،‬قال َالن ُ‬

‫ويف هذا َر ٌّد على من َي ُر ّد هذا الحديث‪ ،‬ويقول أنه ليس من كالم النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫يث ت َِمي ٍم َأ ّن ُه َوا َف َق الّ ِذي ُكنْت ُُأ َحدّ ُثك ُْم َعنْ ُه َو َع ِن الْ َم ِدين َِة َو َم ّك َة‪َ .‬أالَ إِ ّن ُه فِي‬
‫قال‪َ (( :‬فإِ ّن ُه َأ ْع َجبَنِي َح ِد ُ‬

‫الشام َِأ ْوبَ ْحرِالْيَ َم ِن))؛ يعني الدجال يف بحر الشام أو بحر اليمن‪.‬‬
‫بَ ْحرِ ّ‬

‫طيِّب؛ هنا "أو" للشك؛ يعني يمكن أن يكون يف بحر الشام‪ ،‬ويمكن أن يكون يف بحر اليمن‪.‬‬

‫قال بعض أهل العلم‪:‬‬

‫‪ ‬إ ّما أ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم لم َ‬


‫يوح إليه بمكانه عينًا عند ذلك الكالم‪ ،‬وإنَّما أوحي له أنه إ َّما‬

‫يف بحر الشام أو بحر اليمن‪.‬‬

‫‪ ‬أو بقصد اإلهبام على السامع‪ ،‬يعني أ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان َيع َلم لكن َق َصدَ اإلهبام على‬

‫لتفت إليه السامع‪.‬‬


‫السامع؛ لكي َي َ‬

‫الشا ِم َأ ْوبَ ْحرِالْ َي َم ِن‪،‬بَ ْل ِم ْن قِبَل ِالْ َم ْشرِ ِق)) إ ًذا؛ َأ ْض َرب عن التخيير‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :‬أالَ إِ ّن ُه فِي بَ ْحرِ ّ‬

‫وحدَّ د (( َب ْل ِمن ْقِبَل ِالْ َم ْشرِ ِق))‪.‬‬

‫وحي إليه يف مقامه تحديد المكان‪ ،‬وأنه من جهة المشرق‪.‬‬


‫األول‪ -‬أنه أ َ‬
‫‪ ‬فإ ّما ‪-‬على الرأي ّ‬

‫‪31‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫‪ ‬وإما أنه بعد أن َأ ْب َهم ب ّين لفائدة يف مقامه‪.‬‬

‫وم ْن قِ َبل ِالْ َم ْشرِ ِق))‪ ،‬الذين ال يفهمون أسرار العربية َي ِقفون عند هذه‬
‫قال‪(( :‬ماهو ِمن قِبل ِالْم ْشرِ ِق‪،‬ماه ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ َُ ْ َ َ‬
‫الجملة َوقف َة َحيرة؛ ألنه صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬بَل ِْم ْن قِبَل ِالْ َم ْشرِ ِق))جزَ م! ثم ماذا‬

‫وم ْن قِبَ ِل الْ َم ْشرِ ِق))؛ فيظنون أنه َأ ْثبَت ثم نفى! وليس األمر كذلك؛ بل هذه‬
‫قال؟((ماهو ِمن ْقِبل ِالْم ْشرِ ِق‪،‬ماه ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َُ‬
‫"الميم" عند العرب زائدة لتأكيد اإلثبات‪ ،‬وليست نافية‪ ،‬لم ي ِ‬
‫نف النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإنَّما الميم هذه‬ ‫َ‬

‫(ما) زائدة‪ ،‬لماذا؟‬

‫وم ْن قِ َب ِل الْ َم ْشرِ ِق))؛ أي‪ :‬هو مِن قِ َبل المشرق‪ ،‬هو من قِ َبل المشرق‪.‬‬
‫ليتأكد اإلثبات ((ماهو ِمن قِب ِل الْم ْشرِ ِق‪،‬ماه ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ َُ ْ َ َ‬
‫ول ال ّل ِه صلى اهلل عليه وسلم"‪.‬‬
‫ت َه َذا ِم ْن رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫" َو َأ ْو َمأَ بِ َي ِد ِه إِلَ َى الْ َم ْشرِ ِق"‪َ ،‬قا َل ْت‪َ " :‬ف َح ِفظْ ُ‬

‫وبه نعلم أ ّن اهلل أعطاه خوارق َيفتن هبا الناس‪ ،‬فإنه أخرب عن أشياء تقع‪ ،‬لم تقع عندما تكلموا معه لكنه أخرب أهنا‬

‫ستقع‪.‬‬

‫وتعظم فتنته ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬للنساء؛ فإ ّن النساء أسرع ً‬


‫تأثرا بالخوارق‪ ،‬ولذلك أكثر من يصدِّ ق الدجالين النساء‪،‬‬
‫مثال‪ -‬فقال لها‪ِ :‬‬
‫أنت أ ُّمك فالنة‪ ،‬لو جئتَها ‪-‬إال أن يشاء اهلل‪ -‬بالقرآن يبيِّن أ ّن هذا‬ ‫ذهبت للدجال ‪ً -‬‬
‫ْ‬ ‫فإ ّن المرأة إذا‬

‫دجال ما ُتصدِّ ق! وهذا هو السر يف التفريق بين زيارة النساء والرجال يف زيارة القبور؛ أ ّن المرأة سريعة الفتنة؛‬

‫فقد ُتفتن بالقرب‪ ،‬وقد ُتفتن عند القرب‪ ،‬وقد ُتفتن برؤية القرب‪.‬‬

‫‪ ‬فقد تُفتن بالقبر‪ :‬فتتع َّلق بالقرب و ُتع ِّلق أمورها بالقرب‪.‬‬

‫‪ ‬وقد تُفتن عند القبر‪ :‬بأن تجد صاحب فتنة؛ فتقع سري ًعا يف حبائله‪.‬‬

‫‪ ‬وقد تُفتن بما يف القبر‪ :‬أي أهنا يتجدَّ د حزهنا؛ فقد تعود إلى النياحة والندب ونحو ذلك؛ كما هو‬

‫مشاهد يف مقابر المسلمين‪ ،‬فإنك تجد أ ّن المرأة ً‬


‫مثال فيما يسمى باألسبوع‬

‫‪32‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫؛إذا ذهبوا إلى القرب ومعهم النساء بدأ النساء يلطمن‪ ،‬ويف األربعين تجد أ ّن الرجال قد يتحدثون حديثًا‬

‫معتا ًدا‪ ،‬وأ ّما النساء تجد الواحدة تلطم وتشق وتحثو الرتاب‪ ،‬وكذلك يف الحولية‪ ،‬فالمرأة سريعة‬

‫التأثر بالفتنة‪.‬‬

‫السبَ َخ ِة))؛ أي يف‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫وقد جاء عن ابن عمر ﭭ قال‪ :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :‬ين ِْزل ُالدَّ َّج ُال في َهذه َّ‬
‫الج ْرف؛ خلف أحد‪ ،‬قال‪َ (( :‬فيَ ُكو ُن َأ ْكثَ َر َمن ْ َي ْخ ُر ُج إِ َليْ ِه الن َِّسا ُء)) من المدينة؛ ألنه هو ال يدخل المدينة‪ ،‬لكن‬
‫ُ‬

‫يم ِه َوإِ َلى‬


‫يخرج إليه بعض من يف المدينة‪ ،‬وأكثر من يخرج هم من النساء‪ ،‬قال‪(( :‬حتَّى إِ َّن الرج َل ير ِجع إِ َلى ح ِم ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ُ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ُأ ِّم ِه َوا ْبنَتِ ِه َو ُأ ْختِ ِه َوع ََّمتِ ِه َف ُيوثِ ُق َها َم َخا َف َة َأ ْن َت ْخ ُر َج إِ َل ْي ِه))؛ يعني حتى أ ّن الرجل يرجع إلى بيته ف َيربط زوجته ربا ًطا‬

‫وثي ًقا‪ ،‬ويربط أمه ربا ًطا وثي ًقا‪ ،‬ويربط أخواته ربا ًطا وثي ًقا‪ ،‬ويربط عمته‪ ،‬وخالته‪ ..‬وهكذا سائر نسائه؛ لماذا؟‬

‫مخافة أن َيخرجن إليه‪ .‬رواه اإلمام أحمد يف المسند‪ ،‬وصححه الشيخ أحمد شاكر‪.‬‬

‫بعثت‬
‫ُ‬ ‫أيضا؛ فقد قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬إ ّن من فتنته أن يقول لألعرابي‪ :‬أرأيت إن‬
‫ويفتن األعراب ً‬
‫َ‬
‫بعثت لك أباك وأمك من القرب؛ أتشهد أين ربك؟‬
‫ُ‬ ‫أرأيت لو‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫لك أباك وأمك أتشهد أين ربك؟))‪ ،‬يقول له‪:‬‬

‫أخرجت أبي من القرب أشهد لك هبذا‪ ،‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬فيتمثَّل له شيطانان‬
‫َ‬ ‫((فيقول‪ :‬نعم))‪ ،‬إن‬

‫يف صورة أبيه وأمه فيقوالن‪ :‬يا بني ا ْت َبعه فإنَّه ربك))‪ ،‬رواه ابن ماجه وصححه األلباين‪ ،‬فالدجال معه أعوان من‬

‫شياطين اإلنس والجن‪.‬‬

‫‪‬ويتبعه اليهود؛ أل ّن اليهود ع ّباد المال‪ ،‬وهو صاحب أموال تتبعه الكنوز؛ كالنحل ‪-‬كما تقدَّ م معنا‪ ،-‬فعند‬

‫مسلم عن أنس بن مالك ﭬ أ ّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬يتْبَع الدجال من يهود أصبهان سبعون‬

‫أل ًفا))؛ هذا بعض ما ورد يف فتنته‪.‬‬

‫بقي معنا‪ :‬ما الذي يقي من فتنته ‪-‬بإذن اهلل عز وجل‪-‬؟‬

‫‪33‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫دلت األدلة على ٍ‬


‫أمور تقي ‪-‬بإذن اهلل‪ -‬من فتنته‪:‬‬

‫األول‪ :‬التمسك باإلسالم والثبات على اإلسالم‪.‬‬


‫‪ -1‬األمر ّ‬

‫والثبات على اإلسالم ‪-‬كما قدمنا ساب ًقا‪ -‬يكون‪ :‬بالعلم‪ ،‬والعمل‪ ،‬وبسؤال اهلل ‪-‬من قبل ومن بعد‪ -‬التثبيت‪،‬‬

‫وأن يطابق الباطن الظاهر‪.‬‬

‫وهذه قضية مهمة ينبغي أن يراعيها العبد؛ أن يكون باطنه مطاب ًقا لظاهره‪ ،‬فإ ّن هذا معنى الثبات‪ .‬ولذلك جاء يف‬

‫سوء الخاتمة‪(( :‬وإ ّن الرجل ل َيعمل بعمل أهل الجنة ‪-‬فيما يظهر للناس‪ -‬حتى إذا لم َ‬
‫يبق بينه وبينها إال ذراع؛‬

‫سبق عليه الكتاب فعمل بعمل أهل النار))‪.‬‬

‫الحظوا يا إخوة!((فيما يظهر للناس))؛ فالباطن ال يوافق الظاهر‪ ،‬فمن الثبات على الدين‪ :‬أن يحرص المسلم‬

‫دائما على أن يكون باطنه موافقا لظاهره‪.‬‬


‫ً‬
‫إ ًذا عندنا أربعة أمور‪:‬‬

‫▪ الحرص على موافقة الباطن الظاهر‪.‬‬

‫▪ العلم‪.‬‬

‫▪ العمل‪.‬‬

‫▪ سؤال اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬التثبيت‪.‬‬

‫ودليل هذا األمر أنه يقي من الفتنة‪ :‬النبي صلى اهلل عليه وسلم عندما ذكر فتنة الدجال ماذا قال؟ قال‪ُ (( :‬أيها‬

‫النَّاس ُاثبتُوا))‪ ،‬كما ّ‬


‫مر معنا باألمس يف المجلس السابق‪.‬‬

‫‪ -2‬واألمر الثاين‪ :‬حفظ عشر آيات من سورة الكهف‪.‬‬


‫فعن أبي الدرداء عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬من حفظ عشر آيات من ّأول سورة الكهف ع ِ‬
‫ُص َم من‬

‫الدجال)) رواه مسلم‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وعن أبي الدرداء عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬من قرأ العشر األواخر من سورة الكهف ع ِ‬
‫ُص َم من فتنة‬

‫الدجال)) رواه مسلم‪.‬‬

‫قال بعض أهل العلم‪ :‬معنى هذا‪ :‬أن يجمع بينها؛ فيحفظ العشر األُ َول ويحفظ العشر األُ َخر‪.‬‬

‫فمن َح ِف َظ العشر األُ َول تح َّقق له الوعد ‪-‬إن شاء‬ ‫ٌ‬


‫حاصل بواحدة منهما‪َ ،‬‬ ‫وقال بعضهم‪ :‬معنى هذا‪ :‬أ ّن الحفظ‬

‫اهلل‪ ،-‬و َمن َح ِف َظ العشر األُ َخر تح َّقق له الوعد إن شاء اهلل‪ .‬وهذا ٌ‬
‫قول َو ِجيه‪.‬‬

‫‪ -٣‬األمر الثالث‪:‬ال ُّلجوء إلى المدينة‪ ،‬والحرص على سكنى المدينة‪.‬‬

‫فعن أنس بن مالك ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬لَ ْي َس ِم ْن َب َل ٍد إِ َّال َس َي َ‬
‫ط ُؤ ُه الدَّ َّج ُال‪،‬‬
‫ص المدينة؛ ألنه ثبت أ ّن اإليمان ِ‬ ‫ِ‬
‫يأرز إليها يف آخر الزمان‪ ،‬وأ ّن فيها خيار خلق اهلل‪،‬‬ ‫إِ َّال َمكَّة ََوالْ َمدينَ َة))‪ ،‬لكن ُت َخ ُّ‬

‫مع ما تقدَّ م‪ ،‬ال يكفي اللجوء إلى المدينة مع الفساد‪ ،‬الذي يف المدينة وال يصلي ال خير له يف البقاء يف المدينة‪،‬‬

‫بل ال يجوز ‪-‬على ما نختاره‪ -‬أن يبقى يف المدينة‪ ،‬أعني الحرم‪ ،‬وإن كانت المدينة اآلن أوسع من الحرم‪.‬‬

‫والمبتدع ليس من أهل الحق يف المدينة؛ أل ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬من َأحدَ ث فيها َحدَ ًثا أو آوى‬
‫فيها ِ‬
‫محد ًثا؛ فعليه لعنة اهلل والمالئكة والناس أجمعين‪ ،‬ال يقبل اهلل منه صر ًفا وال عد ً‬
‫ال))‪.‬‬

‫أيضا عن أنس بن مالك قال‪ :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬يجيء الدجال‪ ،‬حتى‬
‫ويدل على ذلك ما جاء ً‬

‫ينزل يف ناحية المدينة ‪-‬يعني خلف ُأحد‪ -‬ثم َت ُ‬


‫رجف المدينة ثالث َر َجفات؛ ف َيخرج إليه ُّ‬
‫كل كافر ومنافق))‪ ،‬هو‬

‫يف المدينة لكن ما نفعه‪ ،‬فيخرج إليه كل كافر ومنافق‪.‬‬

‫‪ -4‬األمر الرابع‪ :‬البُعد عنه‪.‬‬

‫وهذا أصل يف الفتن يا إخوة قررناه ساب ًقا؛ وهو‪ :‬أ ّن السالمة من الفتنة يكون بالبعد عنها‪ ،‬وأ ّن اإلنسان كلما‬

‫معر ًضا ألن تحرقه نارها ولو َظ ّن أنه بعيد‪ ،‬بعض الناس يظن أنه بعيد عن الفتنة‪ ،‬ليس من‬
‫اقرتب من الفتنة كان َّ‬

‫‪35‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫أهلها‪ ،‬فيتساهل‪ ،‬فيسمع ألهل الفتنة؛ فيقع يف الفتنة‪ .‬بعض الناس يظن أنه بعيد عن الفتنة بعلمه؛ فال يحذر؛ فيقع‬

‫يف الفتنة‪.‬‬

‫وقد سبق أن ذكرنا أ ّن األحاديث ُّ‬


‫تدل على أ ّن الناس يف الفتنة أقسام‪:‬‬

‫المستبين؛ الذي تظهر له الفتنة فيكون بعيدا عنها‪ ،‬تظهر له يف إقبالها وليس يف إدبارها؛ ألنَّها‬
‫‪ ‬منهم ُ‬
‫يف إدبارها تظهر لكثير من الناس‪ ،‬أ ّما يف إقبالها فإنَّما تظهر ألهل البصيرة‪ ،‬فهذا المستبين يبتعد عن الفتنة بعدً ا‬

‫كامال‪.‬‬
‫ً‬

‫خير من‬
‫‪ ‬وأ ّما غيره فيقرتب منها؛ فيكون ُعرضة ألن يقع فيها‪ ،‬ولذلك جاء يف الحديث‪« :‬النائم فيها ٌ‬
‫خير من القائم‪ ،‬والقائم‬
‫خير من القاعد‪ ،‬والقاعد ٌ‬
‫اليقظان ‪-‬ويف رواية‪(( :‬خير من المضطجع))‪ -‬والمضطجع ٌ‬
‫خير من الساعي))‪.‬‬
‫خير من الماشي‪ ،‬والماشي ٌ‬
‫ٌ‬
‫وسبق أن ذكرنا ‪-‬يا إخوة‪ -‬أ ّن النائم ال يدري عن الفتنة؛ لكنها يف قلبه‪ ،‬يف قلبه بواعث الفتنة‪ ،‬لم يسلم القلب‪،‬‬

‫فهذا نائم‪.‬‬

‫والنائم خير من المضطجع‪ ،‬والمضطجع‪ :‬هو الذي يف قلبه شيء من أثر الفتنة‪ ،‬ولكنه مضطجع فيسمع‪ ،‬تصله‬

‫األقوال‪ .‬والقاعد مع السماع يرى؛ فيكون ُعرضة ألن يسقط يف الفتنة‪.‬‬

‫والقائم مع السماع يرى أكثر؛ فيكون ُعرضة ألن يقع يف الفتنة‪.‬‬

‫مرارا‪ :‬الفتنة ُسميت فتنة ألهنا تتزين عند إقبالها‪ ،‬فهي مثل الشيطان ُيقبِل متزينًا و ُيدبر متربئًا‪ ،‬إذا جاء‬
‫وكما قلنا ً‬
‫لإلنسان ليغويه أقبل إليه متزينًا إليه ومز ِّينًا له؛ فإذا وقع أدبر‪ ،‬وقد ُيندِّ م اإلنسان ال مِن أجل أن يتوب‪ ،‬ولكن من‬

‫أجل أن يطفئ بمصيبة أعظم!‬

‫خير من الماشي‪ ،‬سبق قلنا أ ّن الماشي هو الذي يمشي إلى الفتنة مرتد ًدا‪،‬‬
‫فالشاهد؛ أ ّن القائم أقرب‪ ،‬والقائم ٌ‬
‫وبعض أهل العلم يقول‪ :‬الماشي إلى الفتنة المقصود به َمن يمشي يف الفتنة لغير الفتنة؛ تجارة‪ ،‬يبيع أشرطة‪ ،‬هو‬

‫‪36‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ليس من أهل الفتنة‪ ،‬لكن األشرطة تمشي‪ ،‬تأيت بأرباح؛ فيمشي فيها لهذا األمر؛ فيكون ُعرضة للوقوع‪ ،‬والماشي‬

‫خير من الساعي الذي يمشي إليها مسرعًا‪.‬‬

‫حذر من ِّ‬
‫كل هذه األقسام إال‬ ‫المقصود ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أ ّن العلماء قالوا‪ :‬أ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم ُي ِّ‬

‫المستبين؛ لم ِيرد يف الحديث؛ لماذا؟ أل ّن اإلنسان إذا اقرتب من الفتنة ّ‬


‫بأي أنواع االقرتاب كان ُعرضة ألن يقع‬

‫فيها‪.‬‬

‫ففتنة الدجال مما يقي منها ‪-‬بإذن اهلل‪ :-‬أن يبتعد اإلنسان عنها؛ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪َ (( :‬من َس ِم َع‬

‫حسب أنه مؤمن فيتَّبعه؛ مما ُب ِع َث به من الشبهات))‪.‬‬


‫بالدجال فلينأ عنه‪ ،‬فواهلل إ ّن الرجل ليأتيه وهو ي ِ‬
‫َ‬

‫يحسب أنه مؤمن فيتَّبعه؛ مما ُب ِعث‬


‫بعد عنه‪ -‬فواهلل إ ّن الرجل ليأتيه وهو ِ‬
‫((من سمع بالدجال فلينأ عنه ‪-‬يعني فلي ِ‬
‫ُ‬

‫به من الشبهات)) رواه أبو داود واإلمام أحمد‪ ،‬وصححه األلباين‪.‬‬

‫‪ -٥‬من األمور التي تقي من فتنته ‪-‬بحول اهلل‪:-‬االستعاذة الصادقة من الفتنة‪.‬‬

‫سبب للسالمة‪ ،‬لكنها ليست استعاذة الكذابِين؛ الذي يقول أعوذ باهلل من الفتنة‬
‫ٌ‬ ‫االستعاذة الصادقة من الفتن‬
‫ويغمس نفسه فيها؛ بعض الناس من جهله قد يقول‪ :‬أعوذ باهلل من الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ وهو ي ِ‬
‫غمس نفسه‬ ‫َ‬
‫الكذابِين‪.‬‬
‫الكذابِين‪ ،‬وكاستغفار َّ‬
‫الكذابين‪ ،‬هي كتوبة َّ‬
‫غمسا؛ هذا ال تنفعه االستعاذة؛ هذه استعاذة َّ‬
‫يف الفتنة ً‬
‫مثال‪ ،-‬فتقول له‪ :‬يا أخي‪ ،‬اتق اهلل هذا ي ِ‬
‫غضب اهلل‪ ،‬فيقول‪ :‬أستغفر اهلل؛‬ ‫مص السيجارة ‪ً -‬‬
‫تجد بعض الناس َي ُّ‬
‫ُ‬
‫فيمص الثانية! هذا مثال لِما يذكره شيخ اإلسالم ابن القيم ‪ $‬من أهنا توبة َّ‬
‫الكذابِين‪.‬‬
‫فاستعاذة الك َّذابين ال تنفع‪ ،‬وإنما الذي ينفع ‪-‬بفضل اهلل‪ -‬االستعاذة الصادقة؛ أن يعلم اهلل منك أنك ُت ِ‬
‫بغض‬

‫حذر الفتنة‪ ،‬وتسال من ٍ‬


‫قلب صادق أن ُيس ِّلمك اهلل من الفتنة‪ ،‬وأن يصدِّ ق ذلك العمل‪ ،‬فهذه‬ ‫الفتنة‪ ،‬و َت َ‬

‫االستعاذة‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وهذا أصل –يا إخوة‪ -‬يف الدعاء‪ ،‬البد أن يكون الدعاء من القلب صاد ًقا‪ ،‬أ ّما إذا لم يكن من القلب؛ فهذا ليس‬

‫بنافع‪ ،‬دعاء اللسان ال ينفع‪ ،‬الذي يأيت يقول‪ :‬اللهم اهدنا‪ ،‬اللهم اهدانا‪ ،‬اللهم اهدنا‪ ،‬ولم يستشعر يف قلبه هذا‬

‫جرب؛ ما ينفعه‪.‬‬
‫السؤال العظيم؛ ما ينفعه‪ ،‬والبد أن يكون الدعاء عن تحقيق‪ ،‬يقين‪ ،‬أ ّما الذي يدعو ُي ِّ‬
‫ستجب لي!‬
‫دعوت لم ُي َ‬
‫ُ‬ ‫دعوت‬
‫ُ‬ ‫ولذلك؛ الداعي الصادق يصرب‪ ،‬ال يعجل‪َ ،‬يستمر‪ ،‬ال يقول‪:‬‬

‫فالشاهد؛ أ ّن االستعاذة البد أن تكون من ِصدْ ق‪.‬‬

‫قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬إذا تشهد أحدكم فلي ِ‬
‫ستعذ باهلل من أربع؛ يقول‪ :‬اللهم إين أعوذ بك من عذاب‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫جهنم‪ ،‬ومن عذاب القرب‪ ،‬ومن فتنة المحيا والممات‪ ،‬ومن فتنة المسيح الدجال)) رواه مسلم‪ .‬وكان النبي صلى‬

‫اهلل عليه وسلميستعيذ باهلل من هذه األربع‪ ،‬كما ثبت يف الصحيحين‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪38‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الثامن عشر‬

‫باب في اآليات التي تكون قبل الساعة‪ :‬الدابة‬

‫‪39‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وأ ّما العالمة الثالثة التي ذكرها النبي صلى اهلل عليه وسلم فهي‪ :‬الدابة‪ ،‬وما أدراك ما الدابة؟‬

‫الدابة المذكورة يف هذا الحديث؛ هي الدابة المذكورة يف قول اهلل عز وجل‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َو َق َع الْ َق ْو ُل َع َل ْي ِه ْم َأخْ َر ْجنَا‬

‫َّاس كَانُوا بِ َآياتِنَا َال ُيوقِنُو َن﴾[النمل‪.]٨2 :‬‬


‫ض ُت َك ِّل ُم ُه ْم َأ َّن الن َ‬
‫لَ ُه ْم َدابَّ ًة ِّم َن ْاألَ ْر ِ‬

‫قال ابن كثير ‪ " :$‬هذه الدابة تخرج يف آخر الزمان‪ ،‬عند فساد الناس‪ ،‬وتركهم أوامر اهلل‪ ،‬وتبديلهم الدين الحق‪،‬‬

‫ُيخرج اهلل لهم دابة من األرض‪ ،‬قيل من مكة وقيل من غيرها"‪.‬‬

‫وقوله ‪-‬سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :-‬وإِ َذا َو َق َع الْ َق ْو ُل َع َل ْي ِه ْم ﴾‪.‬‬

‫﴿ َو َق َع ﴾‪:‬بمعنى َو َج َ‬
‫ب‪.‬‬

‫و﴿الْ َق ْو ُل﴾‪:‬‬

‫ب عليهم العذاب؛ استحقوا العذاب‪.‬‬


‫‪‬قال بعض أهل العلم‪ :‬هوالعذاب؛ يعني إذا َو َج َ‬

‫‪‬وقال بعض العلماء‪ :‬هو الغضب؛ فاستحقوا الغضب من اهلل‪.‬‬

‫الحجج‪ :‬ما َيسبق الدابة من عالمات الساعة؛‬ ‫ِ‬


‫الح ّجة المستبينة‪ ،‬ومن هذه ُ‬
‫‪‬وقال بعض العلماء‪ :‬هو ُ‬

‫كخروج الدجال‪ ،‬ونزول عيسى ڠ‪.‬‬

‫ومتى يكون ذلك؟ متى يستحقون الغضب أو العذاب؟‬

‫‪‬قال بعض أهل العلم‪":‬إذا تركوا األمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ هذا قاله ابن مسعود ﭬ‪.‬‬

‫وجاء ما يؤ ِّيده يف حديث‪ (( :‬أنه يكون يف آخر الزمان َأ ْمثَ ُل الناس َمن إذا رأى الرجل َوقع على امرأة يف الطريق‬

‫تهارج الناس كما تتهارج‬


‫قال‪ :‬لو واراها خلف الجدار)) نعوذ باهلل‪ ،‬كما سيأتينا ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬أنه يف آخر الزمان ي َ‬
‫الح ُمر؛ يعني يجامع الرجل المرأة يف قارعة الطريق كالحمير‪ ،‬وإذ ذاك يكون َأ ْمثَ ُل الناس ‪-‬أحسنهم‪ -‬الذي‬
‫ُ‬

‫يقول‪ :‬لو واراها خلف الحائط‪ ،‬ال ينكر هذا المنكر العظيم؛ لكن فقط أنَّها يف الشارع! والعياذ باهلل‪ ،‬فإذ ذاك‬

‫يستحقون الغضب‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫استبانت لهم اآليات فلم يؤمنوا ولم َيظهر فيهم‬


‫ْ‬ ‫رج صالحهم؛ يعني‬
‫‪‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬إذا لم ُي َ‬

‫الخير‪.‬‬

‫ضحى‪ ،‬يف وقت الضحى؛ كما ثبت يف حديث البخاري‪ ،‬عن عبد اهلل بن عمرو ﭭ‪.‬‬
‫ً‬ ‫والدابة َتخرج‬

‫وأخرج اإلمام أحمد عن أبي أمامة عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬تخرج الدابة فت َِس ُم على خراطيمهم ‪-‬‬
‫ِ‬
‫أي َتسم الكفار على خراطيمهم‪-‬ثم ُي َّ‬
‫عمرون فيكم ‪-‬يعني ال يموتون مباشرة‪ -‬حتى يشتري الرجل الدابة فيُقال‪:‬‬

‫ممن اشتريتها؟ فيقول‪ :‬من الرجل المخَّ طم)) ُتصبح عالمة؛ حتى يشرتي الرجل الدابة فيقال له‪ :‬اشرتيتها ممن؟‬
‫َّ‬
‫يقول‪ :‬من الرجل المخ َّطم‪ .‬هذا الحديث رواه اإلمام أحمد‪ ،‬وصححه األلباين‪.‬‬

‫وروى ابن ماجه والرتمذي واإلمام أحمد عن أبي هريرة أ ّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬تخرج الدابة‬

‫ومعها خاتم سليمان ‪ ،‬وعصا موسى بن عمران ڽ‪ ،‬فتَجلو وجه المؤمن بالعصا‪ ،‬وتَخطِم أنف الكافر بالخاتم‪،‬‬
‫ِ‬
‫حتى أ ّن اهل الخُ وان لَيَجتَمعون‪ ،‬فيقول هذا‪ :‬يا مؤمن‪ ،‬ويقول هذا‪ :‬يا كافر))‪ّ ،‬‬
‫صححه الشيخ أحمد شاكر‪،‬‬

‫وض ّعفه الشيخ ناصر األلباين‪.‬‬

‫وقوله يف الحديث‪(( :‬فتَجلو وجه المؤمن))؛ أي ُتبيِّض وجه المؤمن‪.‬‬

‫يوضع عليه الطعام عند األكل‪.‬‬


‫و((أهل الخُ وان))‪ :‬أي ما َ‬

‫((يجتمعون)) يعني على الطعام‪ ،‬وهذا مخطوم وهذا مج ّلى‪ ،‬فيقول المخطوم للمجلى‪ :‬يا مؤمن‪ ،‬ويقول ذاك‬

‫له‪ :‬يا كافر‪.‬‬

‫ّأما مكان خروجها؛ من أين تخرج؟‬

‫‪‬فقد روى ابن ماجه عن بريدة قال‪ :‬ذهب بي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى موض ٍع بالبادية‪ ،‬قريب من‬

‫أرض يابسة حولها رمل‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬تخرج الدابة من هذا الموضع»‪،‬‬
‫مكة‪ ،‬فإذا ٌ‬

‫‪41‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫إ ًذا على هذا؛ أهنا تخرج من مكان بقرب مكة‪ .‬قال اإلمام البخاري‪" :‬فيه نظر"‪-‬يعني الحديث‪ ،-‬وقال‬

‫اإلمام األلباين‪" :‬ضعيف جدا"؛ فال يصح أن ُيستَند إليه‪.‬‬

‫كج ْر ِي ال َف َر ِ‬
‫س ثالثة أيام وما‬ ‫‪‬وروى ابن جرير عن ابن عمر ﭭ قال‪" :‬تخرج الدابة من َصدْ ٍع يف الصفا‪َ ،‬‬

‫خرج ثلثها"‪.‬‬

‫" َصدْ ٍع"؛ أي شق يف جبل الصفا‪.‬‬

‫"كجري الفرس" أي مسرعة‪ ،‬ثالثة أيام وهي تخرج مسرعة‪.‬‬

‫قال‪" :‬وما خرج ثلثها"‪ :‬وعلى هذا فهي عظيمة جدً ا؛ لك ّن األثر ضعيف‪.‬‬

‫ض ُت َك ِّل ُم ُه ْم﴾؛ قال‪" :‬للدابة ثالثة‬ ‫أيضا‪ -‬عن حذيفة يف قوله‪َ ﴿ :‬أخْ َر ْجنَا لَ ُه ْم َدا َّب ًة ِّم َن ْ َ‬
‫األ ْر ِ‬ ‫وروى ابن جرير ‪ً -‬‬
‫ٍ‬
‫وخرجة يف بعض القرى حين ُيهرِيق األمراء الدماء؛ ثم تكمن‪،‬‬ ‫خَ َرجات‪ :‬خَ ْر َج ٍة يف بعض البوادي؛ ثم َتك ُْمن‪،‬‬

‫ارتفعت بهم األرض؛‬


‫ْ‬ ‫فبينما الناس عند أشرف المساجد وأعظمها وأفضلها ‪-‬الذي هو المسجد الحرام‪ -‬إذ‬
‫فانطلق الناس ِهرابًا‪ ،‬وتبقى طائفة من المؤمنين ويقولون‪ :‬إنه ال ُي ِ‬
‫نجينا من اهلل شيء‪ ،‬فتَخرج عليهم الدابة تجلو‬

‫أيضا ضعيف‪.‬‬
‫الدري‪ ،‬ثم تنطلق‪ ،‬فال يدركها طالب‪ ،‬وال ينجو منها هارب"‪ ،‬وهذا ً‬
‫ّ‬ ‫وجوههم مثل الكوكب‬

‫ْب من الحاج"؛ يعني خلف‬ ‫أيضا‪ -‬عن عبد اهلل بن عمرو ﭭ‪" :‬أنها تخرج يف َع ِق ِ‬
‫ب َرك ٍ‬ ‫ورى ابن جرير ‪ً -‬‬

‫مجموعة من الحجاج‪ ،‬وهذا ضعيف‪.‬‬

‫ور ِو َي مرفوعًا‪(( :‬تخرج الدابة من أجياد)) أجياد تعرفونه؛ مكان يف مكة «تخرج الدابة من أجياد‪ ،‬فيبلغ صدرها‬
‫ُ‬
‫ولما يخرج ذنبها بَ ْعد‪ ،‬وهي دابة ذات وبر وقوائم» قال األلباين‪ :‬ضعيف‪.‬‬
‫الركن اليماينّ‪ّ ،‬‬
‫عتمد عليه‪ ،‬وما ُيذكَر من تحديد مكان خروجها يف كتب التفسير أو يف كتب‬ ‫إ ًذا؛ لم يصح يف تحديد مكاهنا ٌ‬
‫أثر ُي َ‬
‫شروح األحاديث ال ُيركَن إليه‪.‬‬

‫وأوردت ما‬
‫ُ‬ ‫نحن نؤمن أهنا ستَخرج‪ ،‬وأ ّما مكان خروجها فلم ُيخبِرنا اهلل عز وجل به‪ ،‬فنَكِ ُل ذلك األمر إلى اهلل‪.‬‬

‫ذكروه من أجل أن نَتب َّين هذا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫إذا كان ذلك كذلك؛ فما عمل الدابة؟ ما الذي تعمله الدابة؟‬

‫القراء يف قراءة اآلية يف قوله‪ُ ﴿:‬ت َك ِّل ُم ُه ْم﴾‬


‫اختلف َّ‬
‫‪‬فقرأ عامة القراء‪" :‬تُك ِّل ُمهم" أي ُتخربهم و تحدّ ثهم‪.‬‬

‫‪‬وقرأ أبو زرعة بن عمرو‪َ " :‬ت ْك َل ُمهم" أي َت ِس ُمهم و ُت َع ِّل ُمهم؛ تضع عليهم عالمة‪.‬‬

‫‪‬قال ابن كثير ‪" :$‬فتَك َّلم الناس يف ذلك"‪.‬‬

‫وروي عن علي ﭬ‪" :-‬تُك ِّلمهم ً‬


‫كالما؛ أي تخاطبهم مخاطبة"‪.‬‬ ‫‪‬قال ابن عباس والحسن وقتادة ‪ُ -‬‬
‫ت ْج َر ُحهم"؛ يعني ال ُتك ِّلمهم مخاطبةً؛ وإنما تجرحهم‪.‬‬
‫‪‬وقال ابن عباس ‪-‬يف رواية‪َ " :-‬‬

‫كال تَفعل"؛ أي ُتك ِّلمهم و َت ِس ُمهم‪.‬‬


‫‪‬وجاء عنه يف رواية قال‪ّ " :‬‬

‫‪‬قال ابن كثير‪" :‬وهو قول حسن‪ ،‬وال منافاة"‪ ،‬ما دام أهنا قراءتان‪ ،‬ويمكن العمل بالمعن َيين؛ فال منافاة‪ ،‬فهي‬

‫وأيضا َت ِس ُمهم‪.‬‬
‫تك ِّلمهم وتخاطبهم ً‬

‫وفيم تكلمهــم؟ ماذا تقول لهـــم؟‬


‫َ‬

‫َّاس كَانُوا بِ َآياتِنَا َال ُيوقِنُو َن﴾؛ ومن آيات اهلل‪ :‬خروج الدابة؛ أهنم‬
‫‪‬قال بعض العلماء‪ :‬تقول لهم‪َ ﴿ :‬أ َّن الن َ‬

‫كانوا ال يصدّ قون هبا‪.‬‬

‫وهبذا ‪-‬يا إخوة‪ :-‬بيان خطورة َر ِّد األحاديث التي جاءت يف عالمات الساعة‪.‬‬

‫‪‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬تكلمهم ببطالن األديان سوى اإلسالم؛ فتقول‪ُّ :‬‬
‫كل دين باطل سوى اإلسالم‪.‬‬

‫‪‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬تك ِّلمهم بما َيسوؤهم؛ ومعنى هذا أهنا تك ِّلم الكفار؛ تك ِّلمهم بما يسوؤهم‪.‬‬

‫‪‬وللمفسرين –يا إخوة‪ -‬كالم كثير يف الدابة‪:‬‬

‫▪ فقيل‪ :‬إن طولها ستون ذراعًا‪.‬‬

‫وروي أ ّن رأسها يبلغ السحاب‬


‫▪ ُ‬

‫‪43‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫▪ وقيل‪ :‬إ ّن ما بين قرنَيها فرسخ للراكب‪.‬‬

‫▪ قيل‪ :‬لها أربع قوائم‪ ،‬وزغب وريش وجناحان ‪-‬وهذا غريب‪ ،-‬وليس هذا يف العادة‪.‬‬

‫▪ وقيل‪ :‬لها ريش وزغب وحافر وما لها ذنب؛ بل لها لحية‪.‬‬

‫▪ قيل‪- :‬وهذا من أعجب ما قيل‪ ،-‬ذكره ابن جريج عن أبي الزبير‪ :-‬إ ّن رأسها رأس ثور‪ ،‬وعينها‬

‫عين خنزير‪ ،‬وأذهنا أذن فيل‪ ،‬وقرهنا قرن َأ ِّيل‪،‬وعنقها عنق نعامة‪ ،‬وصدرها صدر أسد‪ ،‬ولوهنا لون‬

‫كل مفص َلين اثنى عشر‬


‫هر‪ ،‬وذنبها ذنب كبش‪ ،‬وقوائمها قوائم بعير‪ ،‬بين ِّ‬
‫نمر‪ ،‬وخاصرهتا خاصرة ّ‬
‫ذراعًا‪ ،‬تخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شيء من هذا‪ ،‬فإن صح الخبر فيه عن رسول اهلل‬ ‫قال يف تحفة األحوذي‪" :‬واعلم؛ أنه ال داللة يف الكتاب على‬

‫صلى اهلل عليه وسلم ُقبِل وإال لم ُيلتَفت إليه"‪ُ ،‬‬


‫قلت‪ :‬لم يصح يف وصف الدابة َخ َب ٌر وال َأ َث ٌر‪.‬‬

‫تلتفت ل ِ َما ذكره المفسرون ُ‬


‫وش َّراح الحديث ‪-‬على مختلف طبقاهتم‪ -‬يف‬ ‫ْ‬ ‫وعليه؛ فيا قارئ‪ ،‬يا طالب العلم‪ ،‬ال‬

‫أمر غيبي ال يجوز القول فيه إال بنقل‪ ،‬ولم يثبت يف ذلك ٌ‬
‫نقل‪.‬‬ ‫مسألة وصف الدابة‪ ،‬فإنه ٌ‬

‫خالصة الباب‪ :‬أنَّا نؤمن بالدابة‪ ،‬وأهنا ستخرج‪ ،‬وأهنا تك ِّلم الناس‪ ،‬وأهنا َت ِسم الناس‪ ،‬وأهنا قريبة من طلوع‬

‫الشمس من مغرهبا‪ ،‬وبالتالي هي عالمة على ُق ْر ِ‬


‫ب إغالق باب التوبة‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪44‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس التاسع عشر‬

‫باب في اآليات التي تكون قبل الساعة‪:‬‬

‫الشمس من مغربها‬
‫‪45‬‬ ‫طلوع‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫إذن؛ ذكرنا‪ :‬الدخان‪ ،‬والدجال‪ ،‬والدابة‪.‬‬

‫ال َأن َت ْأتِي ُه ُم‬


‫أ ّما اآلية الرابعة؛ فهي‪ :‬طلوع الشمس من مغرهبا‪ ،‬قال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ ( :-‬ه ْل َين ُظ ُرو َن إِ َّ‬

‫يمانُ َها َل ْم َت ُك ْن آ َمن َْت مِن‬


‫ال َين َف ُع نَ ْف ًسا إِ َ‬
‫ات رب َك يوم ي ْأتِي بع ُض آي ِ‬
‫ات َربِّ َك َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ا ْل َمآلئ َك ُة َأ ْو َي ْأت َي َربُّ َك َأ ْو َي ْأت َي بَ ْع ُض آ َي َ ِّ َ ْ َ َ َ ْ‬

‫يمانِ َها َخيْ ًرا ُق ِل انتَظِ ُرو ْا إِنَّا ُمنتَظِ ُرو َن)[األنعام‪ ،]1٥٨ :‬قال ابن جرير ‪" :$‬يقول ‪-‬تعالى‬ ‫ِ‬
‫َقبْ ُل َأ ْو ك ََسبَ ْت في إِ َ‬
‫ذكره‪ :-‬يوم يأيت بعض آيات ربك ؛ ال ينفع من كان قبل ذلك مشركًا باهلل أن يؤمن بعد مجيء تلك اآلية"‪.‬‬

‫‪ o‬وقيل إ ّن تلك اآلية التي أخرب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عنها‪ :‬هي طلوع الشمس من مغرهبا؛ وعليه‬

‫األكثر من العلماء‪.‬‬

‫‪ .1‬وقيل‪ :‬إهنا واحدة من ثالث‪ :‬الدجال‪ ،‬والدابة‪ ،‬وطلوع الشمس من مغرهبا‪.‬‬

‫أ ّما الدابة وطلوع الشمس من مغرهبا؛ فاألمر فيها قريب؛ ألهنما قريبتان جدً ا‪ ،‬لك ّن الدجال مشكِل؛ أل ّن الدجال‬

‫خرجت‬
‫ْ‬ ‫َيخرج قبل َغ ْلق باب التوبة و ُيسلِم بعض الناس‪ ،‬وقد ورد يف حديث صحيح أ ّن هذه اآليات الثالث إذا‬

‫لم ينفع اإليمان‪ ،‬لك ّن الدجال ُذكر يف بعض الروايات‪ ،‬و ُذكر يف الروايات األخرى الدخان‪ ،‬ولذلك بعض أهل‬

‫العلم يقول‪( :‬إن ذكر الدجال يف هذا الحديث ‪-‬وإن كان صحيح اإلسناد‪ -‬ال يثبت؛ من جهة أنه تارة ُيذكَر‬

‫الدجال وتارة ُيذكَر الدخان‪ ،‬والدخان من حيث المعنى أقرب يف إغالق باب التوبة)‪.‬‬

‫‪ .2‬وقيل ‪-‬قول ثالث‪ :-‬وهي أ ّن هذه اآلية المذكورة هي ُأولى اآليات الكربى؛ ّ‬
‫فأول آية من اآليات الكربى‬

‫ُيغ َلق معها باب التوبة‪.‬‬

‫ثالثة أقوال ألهل العلم‪.‬‬

‫لكن ابن جرير ‪ $‬قال‪" :‬وأولى األقوال بالصواب يف ذلك‪ :‬ما تظاهرت به األخبار عن رسول اهلل صلى اهلل‬

‫عليه وسلم أنه قال‪« :‬ذلك حين تطلع الشمس من مغرهبا»‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫روى البخاري ومسلم يف تفسير هذه اآلية‪ ،‬عن أبي هريرة ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪((:‬ال‬

‫نفسا إيماهنا لم‬


‫تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغرهبا‪ ،‬فإذا رآها الناس آمن َمن عليها‪ ،‬فذلك حين ال ينفع ً‬
‫تكن آمنت من قبل))؛ وهذا نص صريح يف التفسير يف الصحيحين‪.‬‬

‫وروى البخاري عن أبي ذر ﭬ قال‪" :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم لي حين غربت الشمس‪(( :‬تدري أين‬

‫ورب الكعبة تذهب‪ ،‬قال‪(( :‬فإهنا تذهب حتى تسجد‬


‫تذهب؟)) قلت‪ :‬اهلل ورسوله أعلم"‪ .‬والشمس تذهب‪ِّ ،‬‬

‫تحت العرش‪ ،‬فتستأذن فيؤ َذن لها‪ ،‬ويوشك أن تسجد فال ُيقبَل منها‪ ،‬وتستأذن فال يؤذن لها‪ ،‬يقال لها‪ :‬ارجعي‬
‫من حيث ِ‬
‫س ََتْ ِري لِ ُم ْستَ َق ٍّر ََلَا ذَلِ َ‬
‫ك تَ ْق ِد ُير ال َْع ِزي ِز‬ ‫جئت؛ فتطلع من مغرهبا؛ فذلك قول اهلل ‪-‬عز وجل‪َ :-‬و َّ‬
‫الش ْم ُ‬
‫ال َْعلِي ِمﱠ ))وهذا عند البخاري يف الصحيح‪.‬‬

‫وروى مسلم عن أبي ذر ﭬ أ ّن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال يو ًما‪(( :‬أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟))هذا‬

‫خطاب للصحابة ويتبعهم المؤمنون؛ ((أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟)) قالوا‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪(( :‬إ ّن‬
‫هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش‪ِ ،‬‬
‫فتخ َّر ساجدة‪ ،‬فال تزال كذلك حتى يقال لها‪ :‬ارجعي حيث‬

‫فتخر ساجدة‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬


‫جئت‪ ،‬فرتجع‪ ،‬فتصبح طالعة من مطلعها‪ ،‬ثم تجري حتى تنتهي لمستقرها تحت العرش‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫جئت‪ ،‬فرتجع‪ ،‬فتصبح طالعة من مطلعها‪ ،‬ثم تجري؛ ال‬ ‫تزال كذلك حتى يقال لها‪ :‬ارتفعي ارجعي من حيث‬

‫َيستنكر الناس منها شيئًا‪ ،‬حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها‪ :‬ارتفعي‪ ،‬أصبحي طالع ًة من‬

‫مغربك‪ ،‬فتصبح طالعة من مغربه))فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين ال ينفع‬

‫نفسا إيماهنا لم تكن آمنت من َقبل))‪.‬‬


‫ً‬
‫وروى البخاري ومسلم أ ّن أبا هريرة ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬ال تقوم الساعة حتى‬

‫نفسا إيماهنا لم تكن آمنت من‬


‫تطلع الشمس من مغرهبا‪ ،‬فإذا رآها الناس آمن َمن عليها‪ ،‬فذاك حين ال ينفع ً‬
‫َقبل))‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ويف صحيح مسلم عن أبي هريرة ‪-‬رفعه‪(( :-‬من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغرهبا؛ تاب اهلل عليه))‪ ،‬وهذا‬

‫نص؛ أنه من تاب قبل طلوع الشمس من مغرهبا ُقبِلت توبتُه»‪.‬‬

‫وألبي داود والنسائي من حديث معاوية ‪-‬رفعه‪(( :-‬ال تزال ُتقبَل التوبة حتى تطلع الشمس من مغرهبا))‪ ،‬قال‬

‫الحافظ‪ :‬وسنده جيد‪.‬‬

‫بعضا متّفق ٌة على أ ّن الشمس إذا طلعت من‬


‫وساق الحافظ عددا من اآلثار؛ ثم قال‪" :‬فهذه اآلثار يشد بعضها ً‬

‫المغرب ُأغلق باب التوبة ولم ُيفتَح بعد ذلك‪ ،‬وأ ّن ذلك ال يختص بيوم الطلوع بل يمتد إلى يوم القيامة"‪ .‬فإذا‬

‫طلعت الشمس من مغرهبا ُأغلق باب التوبة‪.‬‬

‫وروى اإلمام أحمد أ ّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬إ ّن الهجرة َخصلتان))‪-‬واسمعوا يا إخوة‪ -‬قال‪:‬‬
‫هجر السيئات))هذه هجرة ((واألخرى‪ِ :‬‬
‫هتاجر إلى اهلل ورسوله‪ ،‬وال تنقطع ما ُتق ِّبلت‬ ‫((إ ّن الهجرة َخصلتان‪َ :‬ت ُ‬

‫التوبة‪ ،‬وال تزال التوبة ُتقبَل حتى تطلع الشمس من مغرهبا))‪ ،‬قال ابن كثير ‪" :‬هذا الحديث حسن اإلسناد‪ ،‬ولم‬

‫خرجه أحدٌ من أصحاب الكتب الستة"‪.‬‬


‫ُي ِّ‬

‫قال العلماء‪ :‬لماذا يغلق باب التوبة عند طلوع الشمس من مغرهبا؟‬

‫قالوا‪ " :‬ألنه إذا طلعت الشمس من مغرهبا انقطعت اآلمال‪ ،‬وماتت الشهوات‪ ،‬وسقطت الرغبات‪ ،‬فأصبح األمر‬

‫كمعاينة الممات‪ ،‬وال ُيقبل التوبة عند معاينة الممات"‪.‬‬

‫كأن العلماء يقولون‪ :‬معاينة الممات تكون بأحد أمرين‪ :‬خاصة وعامة‪.‬‬

‫‪ .1‬أما الخاصة‪ :‬فهي بغرغرة اإلنسان؛ أل ّن اإلنسان ال يزال يرجو الحياة ما لم يغرغر؛ فإذا غرغر عَلِ َم أ ّن‬

‫األمر انتهى؛ فإذ ذاك ال ُتقبل التوبة‪.‬‬

‫‪ .2‬والعام‪ :‬إذا طلعت الشمس من المغرب‪ ،‬فإذا طلعت الشمس من المغرب عَلِ َم اإلنسان أنه لم َ‬
‫يبق يف‬

‫الدنيا شيء؛ فيكون عا َين الممات؛ فال ُتقبل منه التوبة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وهي كما قلنا‪ :‬تخرج قري ًبا من خروج الدابة‪ ،‬كما روى مسلم عن عبد اهلل بن عمرو ﭭ قال‪ :‬سمعت من‬

‫خروجا‪ :‬طلوع الشمس من مغرهبا‪ ،‬وخروج الدابة‬


‫ً‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪(( :‬إ ّن ّأول اآليات‬

‫ضحى‪ ،‬فأيتهما كانت قبل صاحبتها؛ فاألخرى على إثرها))يعني هما متقاربتان‪ .‬وطب ًعا ‪-‬أنا أذكِّر اإلخوة‪ -‬أنّا‬

‫شرحنا األَولوية فيما مضى من الدروس وبيّنا الرتتيب بالنسبة لكلمة «األولى»‪.‬‬

‫قال العلماء‪ :‬الحكمة يف اقرتان طلوع الشمس من المغرب وظهور الدابة‪ :‬أ ّن الشمس إذا طلعت من المغرب لم‬
‫ِ‬
‫نسدّ الباب‪ ،‬فتأيت الدابة لتُع ِّلم الناس؛ هذا مؤمن وهذا كافر؛ َ‬
‫فناسب اقرتاهنما‪.‬‬ ‫باب لإليمان وال للتوبة؛ ُا ُ‬
‫يبق ٌ‬
‫َ‬

‫طلوع الشمس ينسدُّ به باب التوبة؛ فتأيت الدابة فتُع ِّلم الناس بحسب أحوالهم؛ َت ِس ُم الناس بحسب أحوالهم‪.‬‬

‫أهم ما يورده العلماء يف مسألة الدابة‪.‬‬


‫هذا ُّ‬

‫‪‬‬

‫‪49‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس العشرون‬
‫باب في اآليات التي تكون قبل الساعة‪:‬‬
‫نزول عيس ى بن مريمڠ‬

‫‪50‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ونحن بحمد اهلل نقرأ من صحيح اإلمام مسلم ‪-‬رحمه اهلل عز وجل رحم ًة واسعة وأعلى درجته يف الجنة‪ ،‬ورحم‬

‫سائر علماء المسلمين‪ -‬من كتاب الفتن من هذا الصحيح‪ .‬وكنا يف المجلس السابق نتكلم عن الحديث الذي‬

‫أورده اإلمام مسلم يف بيان أشراط الساعة‪ ،‬حيث أخرب النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أنه لن تقوم الساعة حتى‬

‫نرى عشر آيات؛ فذكر منها‪ :‬الدخان‪ ،‬والدجال‪ ،‬والدابة‪ ،‬وطلوع الشمس من مغرهبا‪ ،‬وخروج يأجوج ومأجوج‪،‬‬
‫ٍ‬
‫خسوفات‪ :‬خسف بالمغرب‪ ،‬وخسف بالمشرق‪،‬‬ ‫ونزول عيسى بن مريم ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وثالث‬

‫نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم‪.‬‬


‫وخسف بجزيرة العرب‪ ،‬و ٌ‬
‫وكنا بحمد اهلل قد تكلمنا عن آية الدخان‪ ،‬وعن آية ظهور الدجال‪ ،‬وعن آية الدابة‪ ،‬وعن آية طلوع الشمس من‬

‫مغرهبا‪.‬‬

‫واليوم‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪ -‬نتكلم عن نزول عيسى بن مريم ڠ‪ ،‬وعن يأجوج ومأجوج‪ ،‬وعن الخسوفات‪.‬‬

‫ثم يف الغد‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪ -‬نختم دروسنا يف هذا المكان بالكالم عن آخر اآليات؛ وهي النار ‪ ،‬ثم نختم‬

‫ٍ‬
‫مسلم ومسلمة؛ تتعلق بأسباب الوقوع يف الفتن‪ ،‬وأسباب السالمة منها‪ ،‬وسنذكر الضوابط من‬ ‫بضوابط ُت ِه ُّم كل‬

‫كالم أهل العلم‪ ،‬إن شاء اهلل عزوجل‪.‬‬

‫أما نزول عيسى بن مريم فقد تواترت األخبار عن رسول اهلل‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أ ّن عيسى بن مريم ڠ‬
‫ينزل يف آخر الزمان‪ِ ،‬‬
‫فمن األمور القطع َّية يف ديننا أ ّن عيسى بن مريم ڠ سينزل يف آخر الزمان‪ ،‬وأنه َيقتل‬

‫الدجال‪ ،‬وأنه يموت‪ ،‬وأنه ُيصلي عليه المسلمون و ُيد َفن‪ ،‬وهذه َم َ‬
‫كرم ٌة لعيسى ڠ اخت َّ‬
‫ُص هبا من دون سائر‬

‫األنبياء ۏ‪ ،‬وسنتحدث عنها‪ ،‬إن شاء اهلل عز وجل‪.‬‬

‫أ ّما إسمه ڠ‪ :‬فاسمه المسيح عيسى بن مريم‪ ،‬قال اهلل عز وجل‪ ﴿ :‬إ ْذ قَالَت ال َْم ََلئ َكةُ ََي َم ْرَيُ إِ َّن ََّ َُ ُ‬
‫اَّلل ي ب ِشر ِك بِ َكلِمةٍّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫اْسُه الْم ِس ِ‬ ‫ِ‬
‫ي﴾ [آل عمران‪.]4٥ :‬‬ ‫يسى ابْ ُن َم ْرَيَ َو ِج ً‬
‫يها ِِف الدُّنْ يَا َو ْاْلخ َرة َوم َن ال ُْم َق َّربِ َ‬ ‫يح ع َ‬
‫منْهُ ْ ُ َ ُ‬
‫والمسيح لقبٌّ لعيسى ڠ‪ ،‬فاسمه‪ :‬عيسى‪ ،‬ولقبه‪ :‬المسيح‪ .‬والمسيح‪ :‬معناه الصدِّيق‪ ،‬فهو‪ -‬ڠ صدِّ يق‪.‬‬

‫واختُلف يف المسيح بن مريم مِن ماذا ُأخذ؟‬

‫‪51‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫▪ فقيل‪ :‬إنه ُأخذ من مسح األرض؛ ألنه يمسح األرض‪ :‬أي ال يستقر يف مكان‪ .‬وقال بعض أهل‬

‫مفص ٌل يف التفسير"‪.‬‬
‫العلم‪ ":‬إنه اليستقر يف مكان ألنه ابتُلي ببني إسرائيل‪ ،‬كما هو ّ‬
‫ٍ‬
‫مريض إال‬ ‫ٍ‬
‫مريض إال ُشفي بإذن اهلل‪ ،‬فكان ال يمسح على‬ ‫مي بالمسيح؛ ألنه كان ال يمسح على‬
‫▪ وقيل‪ُ :‬س َ‬
‫بَ ِرئ‪.‬‬

‫ممسوح بدهن البَ َركة‪ ،‬وهو ُده ٌن طيِّب الرائحة‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫مي بالمسيح؛ ألنه‬
‫▪ وقيل‪ :‬إنه ُس َ‬
‫▪ وقيل‪ :‬ألنه كان ممسوح األَ َ‬
‫خمصين‪ ،‬يعني أ ّن قدمه مستوية‪َ ،‬ت َم ُّس األرض جميعها‪ ،‬واألخمص‪ :‬هو‬

‫المكان المرتفع يف باطن القدم‪.‬‬

‫▪ وقيل‪ُ :‬سمي المسيح؛ ألن الجمال َم َسحه وأصابه‪ ،‬فهو جميل ڠ‪ .‬والزالت الناس تقول هذا؛ فتقول‬

‫‪-‬مثال‪ :-‬فالن فيه َم ْسح ٌة من جمال‪ ،‬أي َم َسحه الجمال‪.‬‬

‫مي بالمسيح؛ ألنه ُم ِسح من الذنوب‪ ،‬أي ُط ِّهر من الذنوب‪ .‬ولذلك يا إخوة؛ يف حديث‬
‫▪ وقيل‪ :‬إنما ُس َ‬
‫الشفاعة يف بيان المقام المحمود لحبيبنا ونبينا محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عندما يعتذر األنبياء عن‬

‫الشفاعة‪ٌّ ،‬‬
‫كل يذكر ذنبًا يراه؛ إال عيسى ڠ؛ فإنه ال يذكر ذنبًا‪ ،‬لكنه يعتذر عن الشفاعة؛ ألهنا لنبينا ‪-‬‬

‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فقال بعض أهل العلم‪ :‬هو مسيح؛ أي أنه مط َّهر من الذنوب‪.‬‬

‫▪ وقال بعض أهل العلم‪ :‬هو مسيح ألنه ُخلِق َخل ًقا حسنًا ڠ‪.‬‬

‫وصفة عيسى ڠ وردت هبا األحاديث‪ ،‬واإليمان بصفة عيسى ڠ من اإليمان باألنبياء‪ ،‬فإ ّن اإليمان باألنبياء‬

‫رك ٌن من أركان اإليمان‪.‬‬

‫مفصل ومنه ما هو مجمل‪.‬‬


‫واإليمان باألنبياء منه ما هو َّ‬

‫ً‬
‫رسوال؛ يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك‪.‬‬ ‫كل ٍ‬
‫أمة‬ ‫المجمل‪ :‬فنؤمن أ ّن اهلل ‪-‬عزوجل‪ -‬بعث إلى ِّ‬ ‫‪ ‬أ ّما‬
‫َ‬

‫فهذا إيما ٌن َ‬
‫مجمل باألنبياء‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫تفصيال‪ ،‬على ما ورد عنهم؛ من أسمائهم‪،‬‬


‫ً‬ ‫المفصل‪ :‬فمعناه أن نؤمن بمن عَلِمناه من األنبياء‬
‫َّ‬ ‫‪ ‬وأ ّما‬

‫نبي نؤمن به على سبيل التفصيل‪.‬‬ ‫ّ‬


‫وقصصهم‪ ،‬وصفاهتم‪ ،‬كل ما ثبت عن ٍّ‬

‫وعيسى ڠ جاء وصفه يف األحاديث الصحيحة؛ ففي مسلم جاء أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪:‬‬

‫رجل آدم‪ ،‬كأحسن ما ترى من ُأ ْدم الرجال‪َ ،‬ت ْض ِر ُب ل ِ َّمتُه بين َمنْكبيه‪،‬‬
‫((وأراين الليلة يف المنام عند الكعبة‪ ،‬فإذا ٌ‬

‫فقلت‪ :‬من هذا ؟ فقالوا‪:‬‬


‫ُ‬ ‫منكبي َر ُج َلين‪ ،‬وهو يطوف بالبيت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َر ِجل َّ‬
‫الشعر‪َ ،‬يقطر رأسه ما ًء‪ ،‬واض ًعا يديه على‬

‫المسيح ابن مريم))‪.‬‬

‫وروى البخاري عن ابن عمر ﭭ قال‪" :‬ال واهلل‪ ،‬ما قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬لعيسى أحمر؛ ولكن‬

‫الشعر‪َ ،‬يتهادى بين َر ُج َلين‪َ ،‬ين ُطف رأسه ما ًء))أو‬ ‫نائم أطوف بالكعبة‪ ،‬فإذا َر ٌ‬
‫جل آدم‪َ ،‬س ْب ُط َّ‬ ‫قال‪(( :‬بينما أنا ٌ‬
‫(( ُي َه َر ُاق رأسه ما ًء))‪.‬‬

‫وروى اإلمام مالك ‪ $‬يف الموطأ بالسند الذهبي؛ عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر ﭭ أ ّن رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫أنت ٍ‬
‫راء من ال ِّل َمم‪ ،‬قد‬ ‫أنت ٍ‬
‫راء من آدم الرجال‪ ،‬له ل ِ َّم ٌة كأحسن ما َ‬ ‫رجال آدم كأحسن ما َ‬
‫رأيت ً‬
‫وسلم‪ -‬قال‪ُ (( :‬‬

‫سألت من هذا؟ فقيل‪ :‬هذا‬


‫ُ‬ ‫َر َّجلها؛ فهي تقطر ما ًء‪ ،‬متكئًا على َرج َلين أو على عواتق َرجلين يطوف بالبيت‪ ،‬و‬

‫المسيح ابن مريم))‪.‬‬

‫فعيسى ڠ رجل آدم‪ ،‬وما المقصود باآلدم؟ اآلدم‪ :‬هو األسمر‪ ،‬الذي فيه سمرة‪ .‬واألُ ْد َمة ‪-‬كما قال العلماء‪:-‬‬

‫هي لون العرب؛ وهو لون الرتاب‪.‬‬

‫رجله‬ ‫وال ُّل َّمة‪ :‬هي َّ‬


‫الشعر الذي َيضرب إلى المنكبَين‪ ،‬فعيسى ڠ له شعر َيضرب إلى منكبيه‪َ ،‬يعتني به؛ فهو ُي ِّ‬

‫سرحه‪.‬‬
‫و ُي ِّ‬
‫وهو َر ِج ُل َّ‬
‫الشعر‪ :‬أي أنه مسرتسل َّ‬
‫الشعر‪ ،‬فشعره مسرتسل وليس مج َّعدً ا‪.‬‬

‫َي ْق ُطر رأسه ماء؛ يعني‪:‬‬

‫ظاهرا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫صاف ُيرى‬ ‫ٍ‬
‫صاف‪ ،‬فعرقه‬ ‫قال بعض أهل العلم‪ :‬أنه صاحب عرق‬ ‫‪.1‬‬
‫ً‬

‫‪53‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬المراد بيان جماله ونضرته‪ ،‬فهو ن َِض ٌر‪ ،‬كأنه َيقطر ماء من شدة نضارته ڠ‪.‬‬ ‫‪.2‬‬

‫وروى مجاهد عن ابن عمر ‪-‬مرفوعا‪ -‬يف صفة المسيح ڠ‪« :‬أنه أحمر َج ِعد»‪.‬‬

‫رأيت عيسى وموسى وإبراهيم‬


‫وذكر البخاري عن ابن عمر ﭭ قال‪ :‬قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ُ (( :-‬‬

‫فأحمر َج ْعدٌ عريض الصدر))‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ۏ؛ فأما عيسى‬

‫طيِّب؛ إذن يف هذا الحديث َو َص َفه بأنه أحمر‪َ ،‬من الراوي؟ ابن عمر‪ ،‬ويف الحديث اآلخر ‪-‬الذي ّ‬
‫مر معنا قبل‬

‫أيضا يف البخاري‪" :-‬ال واهلل‪ ،‬ما قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف عيسى‬
‫قليل‪ -‬قال ابن عمر ‪-‬وهذا ً‬

‫أحمر"‪ ،‬إذن هنا إشكال!‬

‫جمع بين نفي ابن عمر وإثبات أنه أحمر؛ بأ ّن ابن عمر حكى ما يعلم‪ ،‬وغيره حكى ما‬
‫قال بعض أهل العلم‪ُ :‬ي َ‬

‫يعلم‪ ،‬لك ّن هذا ال يستقيم؛ أل ّن ابن عمر ﭭ روى ً‬


‫أيضا أنه أحمر‪ ،‬فما الجمع؟‬

‫نفي لحديث الرؤية‪ ،‬أنه يف حديث الرؤية‬ ‫ّ‬


‫الذي ظهر لي ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬يف التأمل يف المسألة‪ :‬أن نفي ابن عمر هو ٌ‬
‫عند الكعبة ما قال‪ :‬أحمر‪ ،‬وإثباته يف األحاديث األخرى‪ ،‬فمراد ابن عمر «ما قال عن عيسى إنه أحمر» يف هذا‬

‫الحديث‪ ،‬وليس نفيا مطل ًقا‪ ،‬وهذا متعيِّن يف هذا الباب‪.‬‬

‫مر معنا يف صفة الدجال‪ ،‬أعاذنا اهلل من فتنته‪ :-‬هو الذي ال يسرتسل‬
‫والج ْعد ‪-‬كما ّ‬
‫طيب؛ قال‪" :‬أحمر َج ْعد"؛ َ‬

‫شعره‪ ،‬شعره مج َّعد ال يسرتسل‪.‬‬

‫مر معنا قبل قليل أ ّن عيسى ڠ " َر ِج ُل الشعر" أي مسرتسل‪ ،‬وهنا َج ْعد‪ ،‬فاستشكل بعض العلماء ذلك!‬
‫ط ِّيب؛ ّ‬
‫وال إشكال؛ أل ّن جعدً ا هنا لم ُت َضف إلى َّ‬
‫الشعر؛ وإنما قيل‪" :‬جعد" والجعودة قد تكون يف الشعر وقد تكون يف‬

‫الجسم‪ ،‬وهي هنا يف الجسم؛ بدليل األحاديث األخرى‪ ،‬أي أنه ممتلئ الجسم‪ ،‬ڠ‪ ،‬والعرب تقول لممتلئ‬

‫الجسم إنه "جعد"؛ أي‪ :‬مكتنز؛ ممتلئ الجسم‪.‬‬

‫«عريض الصدر»؛ فهو ڠ عريض الصدر ألنه ممتلئ الجسم‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ويف حديث عبد الرحمن بن آدم‪ ،‬عن أبي هريرة ﭬ أ ّن النبي صلى اهلل عليه وآله وسلم قال‪((:‬إ ّن روح اهلل‬

‫عيسى بن مريم نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه؛ رجل مربوع إلى الحمرة والبياض‪ ،‬عليه ثوبان ُم َم َّصران‪ ،‬كأ ّن‬

‫رأسه يقطر‪ ،‬وإن لم يصبه بلل))‪.‬‬

‫طيِّب؛ هنا يوجد إشكال‪ ،‬يف األحاديث السابقة ُو ِص َ‬


‫ف عيسى ڠ بأنه آدم‪ ،‬وقلنا اآلدم‪ :‬هو األسمر‪ ،‬ويف‬

‫جمع؟‬ ‫األحاديث األخرى ُو ِص َ‬


‫ف بأنه أحمر‪ ،‬فكيف ُي َ‬
‫قال العلماء‪ :‬إن ُأ ْد َمته صافية‪ ،‬واألُ ْد َمة الصافية َت ِ‬
‫ضر ُب إلى الحمرة‪.‬‬

‫الوجنة‬
‫الحسن والجمال؛ أن تكون َ‬ ‫وبعض أهل العلم قال‪ :‬إ ّن لونه فيه سمرة و َت َ‬
‫حم ُّر وجنتاه‪ ،‬وهذا من صفات ُ‬

‫حم َّرة‪.‬‬
‫ُم َ‬
‫الح ْمرة هو للوجنة‪ ،‬ولونه هو لون األُ ْد َمة؛ فهو آدم من الرجال‪.‬‬
‫ف ُ‬ ‫فقال بعض أهل العلم‪َ :‬و ْص ُ‬

‫ممصران ‪-‬قال أهل اللغة‪ -‬أي‪ :‬فيهما ُصفرة خفيفة‪ ،‬فثيابه صفراء صفرة خفيفة‪.‬‬
‫مصران))؛ َّ‬
‫قال‪(( :‬عليه ثوبان ُم َّ‬

‫((كأن رأسه يقطر‪ ،‬وإن لم يصبه بلل))؛ هذا من شدة الجمال‪ُ ،‬يخيَّل لمن ينظر إليه ڠ أ ّن رأسه يقطر؛ وليس‬

‫به بلل؛ وإنما هذا من شدة نضارهتڠ‪.‬‬

‫ويف حديث النواس بن سمعان‪ ،‬الذي يف مسلم‪ ،‬قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪(( :-‬فينزل عند المنارة البيضاء‬

‫الممصران‪ ،‬أي ثوبان ُصبِغَا بال ُع ْص ُفر والزعفران‪،‬‬


‫َّ‬ ‫شرقي دمشق بين مهرود َتين))؛ والمهرودتان‪ :‬هما‬

‫((واض ًعا كفيه على أجنحة م َلكين‪ ،‬إذا طأطأ رأسه ق َطر))قطر ڠ من العرق ((وإذا رفعه َتحدَّر منه مثل جمان‬
‫ٍ‬
‫صاف كجمان اللؤلؤ‪.‬‬ ‫اللؤلؤ))؛ أي من عرقه‪ ،‬عرقه‬

‫ولمسلم عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪(( :-‬ليلة ُأسري بي ُ‬
‫لقيت موسى ڠ‪ ،‬فنَ َعتُّه‪،‬‬

‫مضطرب َر ِجل الرأس‪ ،‬كأنه من رجال شنوءة‪ ،‬قال‪ :‬ولقيت عيسى‪ ،‬فنَ َعتَه النبي صلى اهلل‬
‫ٌ‬ ‫فإذا رجل‪ ،‬أحسبه قال‪:‬‬

‫ورأيت إبراهيم‪ ،‬وأنا أشبه‬


‫ُ‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ُ :‬ر ْب َعة أحمر‪ ،‬كأنما َخ َرج مِن دِيماس))يعني من الحمام‪ ،‬قال‪(( :‬‬

‫ولده به))‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الربعة؟ هو الرجل الذي ليس‬


‫الربعة؟ أو من هو ُّ‬
‫فعيسى وصفه النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بأنه ُر ْبعة‪ ،‬ما هو ُّ‬
‫ٍ‬
‫بقصير جدًّ ا‪َ ،‬م ْر ُبوع‪ ،‬والزالت العرب تستعمل هذه الكلمة؛ فيقولون‪ :‬فالن َمربوع؛ أي أنه‬ ‫بطويل جدً ا وال‬

‫متوسط‪ ،‬معتدل‪.‬‬
‫ِّ‬
‫تحمر وجنتاه‪ .‬المعلوم أ ّن الحمام‪:‬‬ ‫ِ‬
‫حمام؛ أي أنه صايف اللون؛ َّ‬
‫((كأنما خرج من ديماس))؛ يعني كأنما خرج من َّ‬
‫وهو المكان الذي ُيغتَسل فيه بالماء الحار‪ ،‬ليس الحمام كما نقول اليوم هو مكان قضاء الحاجة عندنا هنا‪ ،‬وإنما‬

‫واغتسل فيه وخرج يكون ن َِض َر‬


‫َ‬ ‫الحمام‬
‫َّ‬ ‫الحمام‪ :‬هو المكان الذي ُيغتَسل فيه بالماء الحار‪ .‬والمعلوم أ ّن من دخل‬
‫ّ‬
‫اللون‪ ،‬يضرب وجهه إلى الحمرة‪ ،‬فكذلك َو ْصف عيسى ڠ‪.‬‬

‫متوسط ال بالطويل وال بالقصير‪ ،‬أسمر سمرة صافية تضرب إلى الحمرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إذن؛ عيسى ڠ ٌ‬
‫رجل َمربو ٌع؛‬

‫رجله‪َ ،‬ج ْعدُ الجسم؛ فهو مجتمع الجسم مكتنز‬


‫محمر ٌة وجنتاه ڠ‪ ،‬شعره يضرب إلى منكبيه مسرتسل ُي ّ‬
‫َّ‬
‫الجسم ممتلئ ڠ‪ ،‬شديد النضارة وصفاء اللون ڠ‪.‬‬

‫نسخ دين محمد عليه الصالة والسالم ويأيت بدين؟‬


‫ما الذي يعمله عيسى ڠ عند نزوله؟ هل َي َ‬

‫الجواب‪ :‬ال‪ ،‬فإ ّن عيسى ڠ ال َينزل نبيًّا‪ ،‬هو نبي لكنّه ال ينزل نبيًّا‪ ،‬وإنما ينزل آية‪ ،‬مع بقاء صفة َّ‬
‫النبوة له؛ لكنّه‬

‫ال ينزل نب ًّيا للناس عند نزوله؛ ألنه ال نبي بعد محمد صلى اهلل عليه وسلم إلى قيام الساعة‪ ،‬فهو ڠ يحكم‬

‫بشريعة محمد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬والذي نفسي بيده‪،‬‬

‫حكما عدْ ًال‪ ،‬فيكسر الصليب ويقتل الخنزير‪ ،‬ويضع الجزية‪ ،‬و َيفيض المال‬
‫ً‬ ‫ليوشك ّن أن ينزل فيكم ابن مريم‬

‫خيرا له من الدنيا وما فيها))‪ ،‬فعيسى ڠ ينزل يف َمن؟ يف هذه األمة؛‬


‫حتى ال َيقبلها أحد‪ ،‬وحتى تكون السجدة ً‬
‫قال‪(( :‬ينزل فيكم))‪ ،‬ينزل يف هذه األمة؛ والمقصود‪ :‬بعض األمة؛ ألنه ينزل يف آخر األمة‪(( ،‬ينزل فيكم‬

‫أميرا عليهم‪ ،‬بل أمراؤهم منهم‪ ،‬وإنما‬ ‫ِ‬


‫َحك ًَما))أي حاك ًما‪ ،‬فنزوله نزول حاكم‪َ ،‬يحكم بين المسلمين‪ ،‬وليس ً‬

‫‪56‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ينزل حكما عدْ ًال‪(( ،‬مقسطًا‪ ،‬فيكسر الصليب)) أي يهدم الصليب‪ ،‬ومعنى أنه يهدم الصليب‪ :‬أي أنه ُيبطِل هذه‬

‫المحرفة التي يعبد أه ُلها الصليب‪.‬‬


‫َّ‬ ‫النصرانية‬

‫والصليب‪ :‬خشبة مث ّلثة‪ ،‬تختلف هيأهتا من كنيسة إلى كنيسة‪ ،‬ولكنها تتَّفق على هيأة واحدة؛ وهي أهنا خشبة‬

‫مثلثة‪ ،‬طولها من أسفل أطول من أعلى‪ ،‬وطولها أطول من عرضها‪.‬‬


‫كل مث َّل ٍ‬
‫ث صليبًا‪ ،‬بعض الناس ك ّلما رأى خ َّطين قد تقاطعا قال‪ :‬صليب‪ .‬بعض الناس يصلي على هذه‬ ‫وليس ُّ‬

‫بالصلبان!‬
‫السجادة ثم يأيت يقول‪ :‬هذه السجادة مليئة ُّ‬

‫ومرة قيل للشيخ ابن العثيمين هذا‪ ،‬فقال‪ :‬اإلنسان لو مدّ يديه لكان كما قلتُم ‪-‬اإلنسان لو مدّ يديه هكذا لكان‬

‫على هيأةٍ مث ّلثة‪ -‬وإنما الصليب على الهيأة المعلومة التي يفعلها النصارى للتع ُّبد‪ ،‬فليس ك ّلما رأينا خ ّطين قد‬

‫تقاطعا قلنا هذا صليب‪.‬‬

‫وبعض الناس عندهم مغاالة‪ ،‬يعني رأينا بعض الناس َيحكي عن أحذية َتقدُ م ً‬
‫مثال من بلدان النصارى أوغيرها‬

‫فيتخيّلون أ ّن لفظ الجاللة مكتوب أسفل ويخ ِّطون خطو ًطا ويرسموهنا ويرسلوهنا‪ ،‬وهي قد تكون هكذا وقد ال‬

‫وصال من قِبَل الناس‪ ،‬ونحن نعلم أ ّن النصارى مع كفرهم وتحريفهم يؤمنون باهلل‪ ،‬فهم‬
‫ً‬ ‫توصل‬
‫تكون؛ ألهنا َ‬

‫محر ًفا؛ فمن البعيد أن يضعوا اسم اهلل تحت الحذاء‪ ،‬لك ّن بعض الناس عنده مغاالة يف‬
‫يؤمنون باهلل إيمانًا َّ‬
‫أوال‪ :‬ال يتط َّلب غير الواضحات‪ .‬بعض الناس يأيت إلى المسجد وينظر‬
‫األمور‪ ،‬واإلنسان ينبغي أن يكون متّزنًا؛ ً‬

‫يف الزخرفة‪ :‬هذه نجمة سداسية‪ ،‬وهذا صليب‪ ،‬وهذا كذا! يتط َّلب الشيء حتى ُيقنِع نفسه به‪ ،‬ثم يفتن نفسه‬

‫وغيره هبذا! وهذا ليس مطلوبًا وال ينبغي‪ ،‬وإذا أشكل شي ٌء على اإلنسان ف ْليسأل العلماء وال ينشر شيئًا‪.‬‬

‫وجدت أ ّن هذا‬
‫َ‬ ‫نظرت‬
‫َ‬ ‫بعض الناس يكتب حتى يف الشبكة العنكبوتية‪ :‬المسجد النبوي فيه كذا وفيه كذا‪ ،‬وإذا‬

‫ك َّله إ ّما مكذوب؛ أل ّن بعض الناس َيحقدون على هذه الدولة المباركة دولة التوحيد‪ ،‬إ ّما ممن ال يحبون التوحيد‬

‫أصال‪ ،‬وإ ّما من خوارج هذا الزمان‪ ،‬وخوارج هذا الزمان أسوأ من الخوارج المتقدِّمين‪ ،‬أل ّن الخوارج المتقدِّ مين‬
‫ً‬

‫ويرون أ ّن من يكذب كافر‪ ،‬وخوارج هذا الزمان مع خروجهم ّ‬


‫يتقربون إلى اهلل بالكذب‪.‬‬ ‫ال يكذبون َ‬

‫‪57‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫طائفة منحرفة َت ِ‬
‫نتسب إلى اإلسالم أسوأ ما‬ ‫ٍ‬ ‫وقد قال بعض مشايخنا‪" :‬إ ّن خوارج هذا الزمان قد َأخذوا مِن ِّ‬
‫كل‬

‫فيها‪ ،‬فكانوا عبارة عن مجموعة َسوءات الطوائف المنحرفة"‪ ،‬وهذا له باب آخر‪.‬‬

‫ب عليها‪ ،‬وما ُصلِ َ‬


‫ب‬ ‫الشاهد؛ أ ّن الصليب‪ :‬هو خشبة مث ّلثة يع ّظمها النصارى‪ ،‬ويزعمون أ ّن عيسى ڠ قد ُصلِ َ‬

‫ڠ ولكن ُشبِّه لهم‪.‬‬

‫المحرفة ويحكم باإلسالم‪.‬‬


‫َّ‬ ‫فعيسى ڠ يكسر الصليب‪ :‬أي ُيبطِ ُل هذه النصرانية‬

‫يحرم اقتناءه وأكله‪ ،‬و ُيبيح قتله‪.‬‬ ‫ِ‬


‫((ويقتل الخنزير)) أي ِّ‬
‫((ويضع الجزية)) قال بعض أهل العلم‪ ":‬معنى ذلك‪ :‬أنه ُيبطِل الجزية"‪ ،‬كيف ُيبطِل الجزية؟ قال بعض أهل‬

‫يوجد من ُت َ‬
‫وضع عليه الجزية"‪.‬‬ ‫العلم‪ُ ":‬يبطِل الجزية بأن ُيسلِ َم ُّ‬
‫كل من يف األرض يف زمنه‪ ،‬فال َ‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ُ ":‬يبطل الجزية؛ معنى ذلك‪ :‬أنه يرفع الجزية؛ أل ّن الجزية يف دين محمد صلى اهلل عليه‬

‫ارتفعت"‪.‬‬
‫ْ‬ ‫وسلم مؤقت ٌة بظهور المسيح‪ ،‬فإذا ظهر المسيح ڠ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪" :‬معنى يضع الجزية‪ :‬أنه ِ‬
‫يفرض الجزية‪ ،‬فيعيد الجزية مرة أخرى‪ ،‬بعد أن يكون الكفار‬

‫معنى آخر‪.‬‬
‫مرة أخرى"‪ ،‬وهذا ً‬
‫مر معنا‪ -‬فيعود عيسى ڠ ويضعها عليهم ّ‬
‫تقووا فمنعوها ‪-‬كما ّ‬
‫قد َّ‬

‫وبعض أهل العلم قال‪" :‬يضع الجزية يعني ُيبطِل الجزية؛ ألنه ال يوجد من يأخذها‪ ،‬ال ّن المال كثير فال يوجد‬

‫من يأخذها"‪.‬‬

‫((ويفيض المال)) يعني يزيد؛ وذلك بكثرة الخيرات‪.‬‬

‫ويمر بطريق مكة الذي يسمى بطريق مكة القديم‪ ،‬ليس طريق مكة الذي‬
‫سيحج بعد نزوله ويعتمر‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وعيسى ڠ‬

‫الروحاء‪،‬‬
‫بفج َّ‬
‫يمر ّ‬
‫يسلكه الحجاج اليوم‪ ،‬وإنما الطريق القديم الذي سلكه النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فهو ّ‬
‫كيال‪ ،‬حوالي خمسة‬ ‫والروحاء مرت بنا يف الحج‪ ،‬قرية يف طريق مكة‪ ،‬قرية تبعد عن المدينة بني ٍ‬
‫ف وسبعين ً‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫وسبعين كيلو مرت‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الروجاء‬ ‫جاء يف مسلم عن أبي هريرة ﭬ أ ّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪(( :‬ل ُيه ُّلن عيسى بن مريم ِّ‬
‫بفج َّ‬
‫بالحج أو بالعمرة أو ل ُيثَنِّ َينَّ ُه َما))‪.‬‬

‫وتكون اإلمامة ‪-‬كما قلنا‪ -‬عند نزوله للمسلمين‪ ،‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كيف بكم إذا نزل فيكم‬

‫ومر معنا ‪-‬يا إخوة‪ -‬شيء من هذا‪ ،‬وسيأيت إن شاء اهلل‪.‬‬


‫المسيح ابن مريم وإمامكم منكم» متفق عليه‪ّ .‬‬
‫مر معنا ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬يف حديث الفتن؛ أ ّن عيسى ڠ ينزل على المسلمين وهم َيستعدّ ون للدجال وقد‬
‫وقد ّ‬
‫َس َّووا صفوفهم وأقاموا الصالة؛ فيقصدهم‪ ،‬يؤمهم عيسى‪ :‬أي يقصدهم عيسى ڠ‪ ،‬فيقول له أميرهم‪" :‬تقدَّ م‬

‫أقيمت لك‪ ،‬إمامكم منكمڠ))‪.‬‬ ‫فصل لنا ‪ِّ -‬‬


‫صل بنا‪ "-‬فيقول‪(( :‬ال‪ ،‬تقدّ م أنت إنما َ‬ ‫يا روح اهلل ِّ‬

‫ويف حديث النواس بن سمعان الذي يف مسلم؛ قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬إذ بعث اهلل المسيح ابن مريم‬

‫أصفرين ُص ْفر ًة‬


‫َ‬ ‫ڠ فينزل عند المنارة البيضاء شرقِ ِّي دمشق بين مهرودتين))كما قلنا؛ أي أنه البِ ٌس ثو َبين‬
‫خفيفة ((واضعا كفيه على أجنحة م َلكين‪ ،‬إذا طأطأ رأسه َق َطر‪ ،‬وإذا رفعه تحدَّر منه جمان اللؤلؤ‪ ،‬وال ي ِ‬
‫ح ُّل‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫لكافر َيجد ريح نَ َف ِسه إال مات‪ ،‬ونَ َف ُسه ينتهي حيث ينتهي َط ْرفه‪ ،‬فيطلبه حتى ُي ِ‬
‫دركه بباب ُلدٍّ )) أي يطلب الدجال‬
‫حتى ُي ِ‬
‫دركه بباب ُلدٍّ ‪ ،‬وقد قلنا إهنا قريبة من القدس‪(( ،‬ثم يأيت عيسى ڠ قو ًما قد ع َ‬
‫َص َمهم اهلل منه»))أي من‬

‫الدجال ((فيمسح عن وجوههم‪ ،‬ويحدّ ثهم بدرجاهتم يف الجنة‪ ،‬فبينما هو كذلك إذ أوحى اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬إلى‬
‫ٍ‬
‫ألحد بقتالهم))وهؤالء هم يأجوج ومأجوج‪ ،‬كما سيأيت إن شاء اهلل‪،‬‬ ‫أخرجت عبادا لي ال ي ِ‬
‫دان‬ ‫ُ‬ ‫عيسى‪ :‬إين قد‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫حدب ينسلون))‪ ،‬وهذا سيأيت ‪-‬إن شاء اهلل‬ ‫فحرز عبادي إلى ال ّطور‪ ،‬ويبعث اهلل يأجوج ومأجوج وهم من كل‬
‫(( ِّ‬
‫عز وجل‪ -‬بيانه‪.‬‬

‫عيسى ڠ سيبقى يف األرض ثم يموت‪ .‬وقد جاء يف حديث صحيح‪(( :‬أ ّن عيسى ڠ يمكث يف األرض بعد‬

‫نزوله أربعين سنة)) وهذا الحديث رواه أبو داود‪ ،‬والحاكم وصححه‪ ،‬وابن حبان وصححه‪ ،‬وصححه الحافظ‬

‫ابن حجر‪ ،‬رحم اهلل الجميع‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وجاء يف حديث عبد اهلل بن عمر ﭭ عند مسلم؛ أنه يمكث سبع سنين؛ ط ّيب وهذا إشكال! يف حديث صحيح‬

‫أنه يمكث أربعين سنة‪ ،‬ويف حديث آخر أنه يمكث سبع سنين!‬

‫قال العلماء‪ :‬ال إشكال‪ ،‬ففي الحديث األول أنه يمكث أربعين سنة أي بمجموع عمره ڠ؛ فإنه ُرفِع إلى‬

‫صح األقوال‪ ،-‬ويمكث بعد نزوله سبع سنين؛ فهذه أربعون‪.‬‬


‫السماء وله ثالثة وثالثون عا ًما ‪-‬على أ ِّ‬

‫فالحديث األول‪ :‬يف مدّة بقائه يف األرض‪ ،‬والحديث الثاين‪ :‬يف مدّ ة بقائه بعد نزوله‪.‬‬

‫وهو سيموت ڠ‪ ،‬وسيصلي عليه المسلمون‪ ،‬وما صلى المسلمون الذين هم أفضل األمم إال على نبيَّيْن‪:‬‬

‫محمد بن عبد اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعيسى بن مريم ڠ‪ ،‬فهذه من َمكارم عيسى ڠ أنه تصلي عليه خير‬

‫األمم كما ص ّلت على خير األنبياء؛ محمد بن عبد اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫ولم َيثبت حديث صحيح وال أثر صحيح بمكان موته وال بمكان دفنه‪ ،‬لكن َيشيع بين المسلمين ‪-‬أعني بين‬

‫عوا ِّمهم‪ -‬أنه ُيد َفن يف المدينة‪ ،‬و ُيدفن مع النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف قربه‪ ،‬يف القرب الرابع‪ .‬وبعضهم يقول‪:‬‬

‫ُيدفن يف الروضة‪.‬‬

‫وأ ّما قولهم‪ُ :‬يدفن يف الروضة‪ ،‬فلم أعثر عليه أبدً ا‪ ،‬بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال‪.‬‬

‫وأ ّما قولهم‪ :‬إنه ُيدفن مع النبي صلى اهلل عليه وسلم يف قربه؛ أي يف حجرة عائشة؛ فموجو ٌد يف كتب المتقدّ مين‪،‬‬

‫عتمد عليه‪.‬‬ ‫ولكنه ال َيثبت ٍ‬


‫بأثر ُي َ‬
‫فقد ذكر الحافظ ابن عساكر يف ترجمة عيسى بن مريم ڠ عن بعض السلف‪ ":‬أنه ُيدفن مع النبي صلى اهلل‬

‫عليه وسلم يف حجرته"‪ ،‬هذا ذكره الحافظ ابن عساكر‪.‬‬

‫وقال ابن عرب الرب يف التمهيد‪" :‬روى عبد اهلل بن نافع الصائغ ‪-‬صاحب مالك‪ -‬عن عثمان بن الضحاك بن‬

‫األسدي عن محمد بن يوسف عن عبد اهلل بن سالم عن أبيه عن جدّه قال‪ُ " :‬يدفن عيسى ڠ مع النبي‬
‫عثمان َ‬

‫ڠ وصاحبَيه‪َ ،‬ث َّم موض ُع قربٍ رابع" يعني يوجد موضع قرب رابع‪ .‬وليس يف ذلك خرب يجوز أن ُي َ‬
‫عتمد عليه‪.‬‬

‫إذن؛ ما الذي يعتقده المسلم؟‬

‫‪60‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫يعتقد المسلم أ ّن عيسى ڠ سيموت و ُيصلى عليه‪ ،‬و ُيدفن يف األرض كسائر الناس‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬
‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الحادي والعشرون‬

‫باب في اآليات التي تكون قبل الساعة‪:‬‬


‫خروج يأجوج ومأجوج‬

‫‪62‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وأ ّما يأجوج ومأجوج؛ فيأجوج ومأجوج يقال لهم‪ :‬يأجوج ومأجوج‪ ،‬ويقال‪ :‬ياجوجوماجوج‪ .‬وقال بعض‬

‫العلماء‪ :‬ياجوجوماجوج (بدون همز)أفصح‪.‬‬

‫ماج الشيء؛ إذ اضطرب‪،‬أي أهنم يموج بعضهم يف بعض من كثرهتم‪ ،‬من كثرهتم‬
‫وياجوجوماجوج‪ :‬من َ‬

‫يضطرب بعضهم يف بعض‪ ،‬فهذه صفة لهم من جهة الكثرة‪.‬‬

‫وأ ّما يأجوج ومأجوج‪:‬‬

‫‪ ‬فقيل من أجيج النار‪ ،‬وهو التهاهبا‪ ،‬فهم كالنار التي تأكل كل شيء‪.‬‬

‫‪ ‬وقيل‪ :‬من األَ َّجة؛ وهي االختالط‪.‬‬

‫األجة؛ أي شدة الحر‪ ،‬فهم أذى على الناس كشدة الحر‪.‬‬


‫‪ ‬وقيل‪ :‬من َّ‬

‫‪ ‬وقيل‪ :‬من األَ ّج؛ وهي سرعة العدو‪ ،‬فهم يسرعون سرعة شديدة‪.‬‬

‫‪ ‬وقيل‪ :‬من األُجاج؛ وهو الماء المالح‪ ،‬شديد الملوحة‪.‬‬

‫وكل هذه الصفات تدل على ِع َظ ِم أذاهم‪ ،‬أي أ ّن أذاهم شديد‪.‬‬


‫ُّ‬

‫‪ ‬وقيل‪ :‬يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان؛ فال اشتقاق لهما‪.‬‬

‫و َمن هم يأجوج ومأجوج؟ هم قو ٌم مفسدون‪ ،‬من ساللة آدم ‪-‬عليه السالم‪-‬؛ كما ثبت يف الصحيحين‪(( :‬إ ّن اهلل‬

‫‪-‬تعالى‪ -‬يقول‪ :‬يا آدم! فيقول‪ :‬لبيك وسعديك))‪ ،‬فيقول‪(( :‬ابعث َب ْعث النار))‪ ،‬فيقول‪ :‬وما َب ْع ُث النار؟ فيقول‪:‬‬
‫((من كل ٍ‬
‫ألف تسع مئة وتسعة وتسعون))‪ ،‬تسع مئة وتسعة وتسعون!من كل ألف واحد يف الجنة‪،‬وتسع مئة‬

‫وتسعة وتسعون يف النار من ذرية آدم‪-‬عليه السالم‪ ، -‬فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها‪،‬‬

‫فأكثر أهل النار من ذرية آدم هم يأجوج‬


‫ُ‬ ‫فقال‪(( :‬إ ّن فيكم ُأ ّمتين ما كانتا يف شيء إال كثَّرتاه؛ يأجوج ومأجوج))‪،‬‬

‫ومأجوج‪ ،‬والحمد هلل‪.‬‬

‫وهم من نسل نوح‪ ،‬من أوالد يافثابن نوح‪ ،‬كما ثبت يف مسند اإلمام أحمد‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وحكى النووي ‪-‬رحمه اهلل‪-‬يف شرح مسلم عن بعض الناس ‪-‬وجاء يف بعض الروايات أنه عن كعب األحبار‪:-‬‬

‫أ ّن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم وليسوا من ذرية حواء‪ ،‬كيف؟! قالوا‪" :‬إ ّن آدم احتلم يوما فأصاب من ُّيه الرتاب‬

‫غريب جدًّ ا‪ ،‬ال‬


‫ٌ‬ ‫فخلِ َق من ذلك يأجوج ومأجوج"؛ وهذا ال يصح! ولذلك قال ابن كثير ‪-‬رحمه اهلل‪":-‬هذا ٌ‬
‫قول‬ ‫ُ‬

‫دليل عليه؛ ال مِن عق ٍل وال مِن نقل‪ ،‬وال يجوز االعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب"‪ .‬طبعا هو‬
‫َ‬

‫باطل المتن؛ ألنه أوال االحتالم من تالعب الشيطان‪ ،‬والشيطان ال يتالعب باألنبياء‪-‬عليهم السالم‪.-‬‬

‫ولذلك؛ ُيحكى عن بعض السلف أنه َيختَبِر طالبه ليعرف ذكاءهم ‪-‬وهذا يسميه اآلن الرتبويون بالفروق‬

‫الفردية‪ ،-‬فقال لهم‪ :‬إذا احتلم النبي صلى اهلل عليه وسلم كيف يصنع بثيابه؟ منهم من قال‪ :‬يغسلها‪ ،‬ومنهم من‬

‫قال‪ :‬يحتها‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إذا كانت رطبة غ ُِسلت وإذا كانت يابسة‪ ،..‬وأحدهم قال‪ :‬النبي صلى اهلل عليه‬

‫وسلم ال يحتلم‪ ،‬وكان يفض ُّله على غيره من الطالب فأراد أن يبين لهم سبب تفضيله‪ ،‬وهو استخدم "إذا"‪،‬‬

‫و"إذا" هنا تدل على التعليق الممتنع‪.‬‬

‫صنما على هنر‬


‫رأيت ً‬
‫ُ‬ ‫ولذلك؛ أحد السلف أيضا ‪-‬وال بأس نذكر هذا‪ -‬ذهب إلى بغداد ثم رجع فقال لطالبه‪:‬‬

‫دجلة‪ ،‬إذا عطش نزل فشرب‪ ،‬وهم يعرفون أ ّن الشيخ ثقة ال يكذب والمسألة مشكلة‪ !..‬صنم‪ ،‬ينزل‪ ،‬ويشرب!‬

‫فأخذوا َيدُ وكون يف المسألة‪ ،‬وما عرفوها‪ ،‬ثم ب ّين لهم؛ هو استخدم "إذا" قال‪ :‬إذا عطش‪ ،‬والصنم ال يعطش‪،‬‬

‫فلو عطش لنزل وشرب‪ ،‬لكنه ال يعطش‪ ،‬وبالتالي ال ينزل وال يشرب‪.‬‬

‫فهذا القول ال يصح؛ ألن آدم ‪-‬عليه السالم‪-‬نبي‪ ،‬والنبي ال يحتلم‪ ،‬فيأجوج ومأجوج من ذرية آدم وحواء‪ ،‬من‬

‫بني آدم‪.‬‬

‫وهم قو ٌم ُكثُر؛ قال الحافظ ابن حجر‪" :‬وأخرج الحاكم وابن مردوية من طريق عبد اهلل بن عمر أ ّن يأجوج‬

‫ومأجوج من ذرية آدم‪ ،‬ووراءهم ثالث أمم‪ ،‬ولن يموت منهم رجل إال ترك من ذريته أل ًفا فصاعدً ا‪ ،‬قال‪ :‬وأخرج‬

‫عبد بن ُح َميد ‪-‬بسند صحيح‪ -‬عن عبد اهلل بن سالم مثله"‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وقد ذكر اهلل قصتهم يف القرآن‪ ،‬وهي معروفة‪ ،‬و ُتقرأ يف سورة الكهف‪ ،‬فقد أخرب اهلل تعالى أ ّن ذا القرنين سار‬

‫طر ًقا‪ ،‬وسلك ً‬


‫سبال‪ ،‬حتى إذا بلغ بين السدَّ ين؛ وهما جبالن فيهما ثغرة‪ ،‬خلفهما يأجوج ومأجوج‪ ،‬يخرجون‬
‫على الناس من هذه الثغرة في ِ‬
‫فسدون‪ ،‬قال بعض المفسرين‪ ":‬أي يأكلون الناس"‪ .‬وقال بعض المفسرين‪" :‬أي‬ ‫ُ‬

‫ُيقتِّلون الناس"‪ .‬وقال بعض المفسرين‪ ":‬أي َين َهبون ما عند الناس‪ ،‬فيأكلون األخضر واليابس"‪.‬‬

‫قوال؛ ال ُيبِينون وال َيفهمون‪،‬‬


‫قوال‪ ،‬وال يكادون ُيبِينُون ً‬
‫فجاء فوجد من دون الجب َلين قو ًما‪ ،‬ال يكادون يفهمون ً‬
‫فقالوا‪ ":‬يا ذا القرنين‪ ،‬إ ّن يأجوج ومأجوج ِ‬
‫مفسدون يف األرض؛ فهل نعطيك ُأجر ًة من أموالنا على أن تجعل‬
‫مما َت ِ‬
‫عرضون‬ ‫خير ّ‬
‫الملك والمال والقوة ٌ‬
‫بيننا وبينهم حاجزً ا؟"فقال لهم ‪-‬لتقواه وورعه‪" :-‬ما مكنِّي فيه ربي من ُ‬
‫عمال أهل ِحرفة‪ -‬أجعل بينكم وبينهم حاجزً ا أشد‬ ‫بعم ٍ‬
‫ال ذوي َصنعة‪ ،‬هذه هي القوة؛ َّ‬ ‫علي‪ ،‬فأعينوين بقوة ‪-‬أي َّ‬
‫ّ‬
‫السد"‪ ،‬قال‪ ":‬أجعل بينكم وبينهم حاجزً ا أقوى مما‬
‫الردم أقوى من َّ‬
‫الر ْدم"‪ ،‬قال المفسرون‪َّ ":‬‬
‫مما طلبتم؛ وهو َّ‬
‫َطلبتم"‪.‬‬

‫"آتوين ‪-‬جيؤوين‪ِ -‬بقطَ ِع الحديد" فجاؤوا هبا‪ ،‬حتى إذا ساوى بين الجبلين؛ فبلغ الحديد رؤوس الجبال؛ قال‬

‫للعمال‪ ":‬انفخوا عليها بالنار"‪ ،‬فنفخوا‪ ،‬حتى إذا َج َع َل الحديد نار ًا‪ ،‬قال‪ ":‬أعطوين نح ً‬
‫اسا"‪ ،‬وقال بعض‬

‫صاصا‪ ،‬وقال بعض المفسرين قال‪ :‬أعطوين حديدً ا ُمذا ًبا ‪-‬من أجل أن يتماسك‬
‫المفسرين قال‪ :‬أعطوين َر ً‬

‫الحديد‪ -‬فوضعه عليه فما اسطاعوا؛ ما استطاعوا أن َيعلوه‪ ،‬أن يرتقوه‪" ،‬وما استطاعوا له نقبا" ما استطاعوا أن‬

‫فلما رأى ذو القرنين هذا قال‪ ":‬هذا رحمة من ربي"بي وبأهل األرض‪"،‬حتى إذا جاء وعد ربي‬
‫يحفروه‪ّ ،‬‬
‫سواه باألرض‪ ،‬ومِن المفسرين من قال‪ :‬أي جعل فيه‬ ‫ِ‬
‫بخروجهم جعله دكّا "؛ فمن المفسرين من قال‪ :‬أي َّ‬

‫طري ًقا‪ ،‬وهذا أصوب‪.‬‬


‫كل يوم‪ ،‬وهم ي ِ‬
‫حفرونه َح ْفر ًا ضي ًقا و َيسيرون يف ذلك‪ ،‬ويف ِّ‬ ‫السد َّ‬ ‫ِ‬
‫كل‬ ‫َ‬ ‫وقد مر معنا أ ّن يأجوج ومأجوج َيحفرون َّ‬
‫الخ ْرق الذي َيحفرونه؛ لكنهم إذا جاء الليل وقفوا وقالوا‪َ :‬ت ِ‬
‫رجعون غد ًا‪َ ،‬تحفرونه غدً ا‪ ،‬فيعود كما‬ ‫فرتة يتَّسع َ‬

‫كان‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وقد روى ابن ماجه حديثًا يف هذا؛ أنّمالرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪« :‬إ ّن يأجوج ومأجوج يحفرون كل‬

‫يوم‪ ،‬حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس‪ ،‬قال الذي عليهم‪ :‬ارجعوا فسنحفره غد ًا‪ ،‬فيعيده اهلل أشد ما كان‪ ،‬حتى‬

‫إذا بلغت مدهتم وأراد اهلل أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس‪ ،‬قال الذي عليهم‪:‬‬

‫ارجعوا فستحفرونه غد ًا إن شاء اهلل تعالى‪ ،‬واستثنوا‪ ،‬فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه‪ ،‬فيحفرونه‪،‬‬

‫ويتحصن الناس منهم يف حصوهنم‪ ،‬فيرمون‬


‫َّ‬ ‫و َيخرجون على الناس‪ ،‬فيَن ِْشفون الماء ‪-‬أي يشربون الماء‪،-‬‬

‫بسهامهم إلى السماء‪ ،‬فرتجع عليهم الدم الذي ْأج َفض» ما معنى الذي ْ‬
‫أج َفض؟ يعني الذي مألها‪ ،‬ترجع وقد‬

‫امتألت د ًما من السماء‪ ،‬فتن ًة لهم «فيقولون‪َ :‬ق َهرنا أهل األرض‪ ،‬و َع َلونا أهل السماء‪ ،‬فيبعث اهلل نغ ًفا يف َأ ْق َفائهم‬

‫َسمن و َت ْش َكر َش َكر ًا‬


‫فيقتلهم هبا»‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬والذي نفسي بيده إ ّن دواب األرض لت َ‬
‫مِن لحومهم»‪ .‬الحديث رواه ابن ماجه‪ ،‬وصححه األلباين‪.‬‬

‫ويف صحيح مسلم يف حديث النواس ﭬ بعد أن َذك ََر النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ -‬قتْل عيسى للدجال قال‪:‬‬

‫دَر َجاتِ ِه ْم فِي ا ْل َجن َِّة‪َ ،‬فبَيْن ََما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اهلل منْ ُه‪َ ،‬فيَ ْم َس ُح َع ْن ُو ُجوه ِه ْم‪َ ،‬و ُي َحدِّ ُث ُه ْم بِ َ‬
‫ِ ِ‬
‫« ُث َّم َي ْأتي ع َ‬
‫يسى بْ ُن َم ْر َي َم َق ْو ًما َقدْ ع َ‬
‫َص َم ُه ْم ُ‬
‫ان ِألَ َح ٍد بِ ِقتَال ِ ِه ْم» يعني‪ :‬ال قدرة ألحد على‬
‫ُهو ك ََذل ِ َك إِ ْذ َأوحى اهلل إِ َلى ِعيسى‪ :‬إِنِّي َقدْ َأ ْخرج ُت ِعبادا لِي َال يدَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ً‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬

‫ب َين ِْس ُلو َن‪،‬‬


‫وج‪َ ،‬و ُه ْم مِ ْن ك ُِّل َحدَ ٍ‬
‫وج َو َم ْأ ُج َ‬
‫اهلل َي ْأ ُج َ‬ ‫قتالهم؛ فال تقاتلوهم‪ ،‬قال‪َ « :‬ف َح ِّرزْ ِع َبادِي إِ َلى ال ُّط ِ‬
‫ور‪َ ،‬و َي ْب َع ُث ُ‬
‫آخ ُر ُه ْم َف َي ُقو ُلو َن‪َ :‬ل َقدْ كَا َن بِ َه ِذ ِه َم َّر ًة َما ٌء‪َ ،‬و ُي ْح َص ُر ‪-‬ويف‬
‫َفيمر َأوائِ ُلهم َع َلى بحيرةِ َطب ِري َة َفي ْشربو َن ما فِيها‪ ،‬ويمر ِ‬
‫ُ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ ُ ُّ‬ ‫َ ُ ُّ َ ُ ْ‬
‫يسى َو َأ ْص َحا ُب ُه‪َ ،‬حتَّى َي ُكو َن َر ْأ ُس الثَّ ْو ِر ِألَ َح ِد ِه ْم َخ ْي ًرا مِ ْن مِائ َِة دِين ٍ‬
‫َار‬ ‫ِ ِ‬
‫رواية عند الرتمذي‪ :‬و ُيحاصروا‪ -‬نَبِ ُّي اهلل ع َ‬
‫ِ ِ‬
‫ألَ َحدك ُْم ا ْليَ ْو َم» يعني‪ :‬من قلة الطعام رأس الثور يكون ً‬
‫خيرا من مائة دينار‪ ،‬ومائة دينار يف زمن الصحابة ثروة‬

‫اهلل َع َليْ ِه ْم النَّغ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫َف»‬ ‫َب نَبِ ُّي اهلل ع َ‬
‫يسى َو َأ ْص َحابُ ُه» أي يدعو عيسى ويدعو َمن معه « َفيُ ْرس ُل ُ‬ ‫عظيمة‪ ،‬قال‪َ « :‬فيَ ْرغ ُ‬

‫َف فِي ِر َقابِ ِه ْم؛ َفيُ ْصبِ ُحو َن َف ْر َسى» أي‪ :‬موتى‬
‫اهلل َع َل ْي ِه ْم النَّغ َ‬ ‫ِ‬
‫والنغف‪ :‬دو ٌد يكون يف أنوف الدواب‪َ « ،‬فيُ ْرس ُل ُ‬
‫ض َم ْو ِض َع ِشبْ ٍر إِ َّال َم َ َ‬
‫جدُ و َن فِي ْاألَ ْر ِ‬
‫ض َف َال َي ِ‬
‫يسى َو َأ ْص َحا ُب ُه إِ َلى ْاألَ ْر ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت نَ ْف ٍ ِ ٍ‬
‫«كَمو ِ‬
‫أل ُه‬ ‫س َواحدَ ة‪ُ ،‬ث َّم َي ْهبِ ُط نَبِ ُّي اهلل ع َ‬ ‫َْ‬
‫َاق ا ْلب ْخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫زَ َهمهم ونَتْنُهم» أي‪ :‬رائحتهم ِ‬
‫ت»‬ ‫اهلل َط ْي ًرا َك َأ ْعن ِ ُ‬
‫يسى َو َأ ْص َحا ُب ُه إِ َلى اهلل‪َ ،‬ف ُي ْرس ُل ُ‬
‫َب نَبِ ُّي اهلل ع َ‬
‫المنْتنَة « َف َي ْرغ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُُ ْ َ ُ ْ‬

‫‪66‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫اهلل َم َط ًرا َال ُيكِ ُّن مِنْ ُه َب ْي ُت َمدَ ٍر َو َال‬ ‫ِ‬


‫اهلل‪ُ ،‬ث َّم ُي ْرس ُل ُ‬
‫ِ‬
‫البخت‪ :‬جمال طويلة األعناق « َفت َْحم ُل ُه ْم َفتَ ْط َر ُح ُه ْم َح ْي ُث َشا َء ُ‬

‫َو َب ٍر» َ‬
‫المدر‪ :‬هو الطين القاسي‪ ،‬فهو بيت من الطين القاسي‪« ،‬وال وبر» أي‪ :‬البيت المصنوع من وبر الجمال‪ ،‬فال‬

‫ُيكِ ّن منه شيء‪َ « ،‬فيَغ ِْس ُل ْاألَ ْر َض»‪.‬‬

‫صححه األلباين‪ -‬جاء أهنم عند موت يأجوج ومأجوج يقول النبي صلى اهلل عليه‬ ‫ٍ‬
‫وعند ابن ماجه ‪-‬بإسناد َّ‬

‫بعضا‪ ،‬فيُصبح المسلمون ال‬


‫وسلم‪« :‬فيموتون موت الجراد» الجراد إذا مات يتساقط على بعضه « َيركب بعضهم ً‬

‫َيسمعون لهم ِح ًّسا» ال يسمعون لهم صو ًتا‪ ،‬وهم يخافون منهم «فيقولون‪َ :‬من َر ُج ٌل َيشري نفسه و َينظر ما‬

‫فعلوا؟» أي هل مِن َر ُج ٍل يبيع نفسه هلل وينظر ما فعلوا؟ «فينزل منهم رجل قد َو َّطن نفسه على أن َيقتلوه‪،‬‬

‫فيجدهم موتى؛ فيناديهم‪ :‬أال أبشروا أال أبشروا؛ قد أهلك اهلل عدوكم! فيخرج الناس‪ ،‬و ُي ْخ ُلون سبيل مواشيهم‪،‬‬
‫ت مِن ٍ‬
‫نبات أصابته َقط» أي َت ْس َمن كأحسن‬ ‫كأح َس ِن ما َشكِ َر ْ‬
‫فما يكون لهم َرع ٌْي إال لحومهم‪ ،‬فت َْش ُك َر عليها ْ‬

‫الس َمن‪.‬‬
‫ِّ‬
‫وهم ‪-‬والعياذ باهلل منهم‪ -‬قو ٌم معهم سالح كثير؛ وذلك لكثرهتم‪ ،‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ « :‬سيوقد‬
‫المسلمون مِن قِ ِس ِي يأجوج ومأجوج ون َُّشابِهم و َأ ْت ِ‬
‫راسهم سبع سنين» رواه ابن ماجه وصححه األلباين‪ ،‬يعني‬

‫يوقد المسلمون من أسلحة يأجوج ومأجوج سبع سنين؛ من كثرهتا‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬

‫أمورا ال تصح‪ ،‬وذكر الحافظ ابن حجر يف "الفتح" بعض اآلثار التي‬
‫وقد ذكر المفسرون يف يأجوج ومأجوج ً‬
‫تدل على ما ذكروه؛ وال تصح‪ ،‬ومن ذلك ‪-‬مثالً‪ -‬قولهم‪ :‬إن يأجوج ومأجوج ثالثة أصناف‪:‬‬

‫واألرز شجرة بالشام‪ ،‬يكثر يف لبنان اليوم‪ ،‬يقولون ‪ :‬إ ّن طول الشجرة منه‬
‫َ‬ ‫▪ صنف بِطول َ‬
‫األرز؛‬

‫شاهد اليوم؛ ولذلك الحافظ ابن‬


‫عشرون ومئة ذراع؛ كذا قال المفسرون‪ ،‬وليس هو كذلك فيما ُي َ‬

‫حجر قال‪" :‬هو شجر طويل" ولم يحدِّ د؛ لكن يف كتب التفسير جاء‪ :‬إ ّن طوله عشرون ومائة‬

‫ذراع‪.‬‬

‫ْف طوله وعرضه سواء؛ أربعة أذرع يف أربعة أذرع‪ ،‬أي أ ّن هيئتهم مربعة‪.‬‬ ‫▪ قالوا‪ِ :‬‬
‫وصن ٌ‬

‫‪67‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ف باألخرى‪.‬‬ ‫ْف يفت َِرش أحدهم ُأذنَه وي ْلت ِ‬


‫َح ُ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫▪ وصن ٌ َ‬
‫وقال بعض المفسرين‪ :‬منهم من طوله ِش ْبر‪ ،‬ومنهم ُم ِ‬
‫فرط يف الطول‪ .‬قالوا‪ :‬ولهم شعر يواري أجسادهم؛‬

‫اليمرون بفيل وال وحش وال جمل وال خنزير إال أكلوه‪ ،‬ومن مات منهم أكلوه‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫فلباسهم الشعر‪ .‬قال بعضهم‪:‬‬

‫قالوا‪ :‬مقدمتهم بالشام وساقهم بخراسان من كثرهتم‪.‬‬

‫أتعمد ذكره؛ أل ّن هذه األمور تشتهر بين الناس‪ ،‬و ُتذكَر‬ ‫لكن كل هذا ‪-‬كما قلت‪ -‬لم ِ‬
‫يأت يف ٍ‬
‫عتمد عليه‪ ،‬وأنا َّ‬
‫أثر ُي َ‬
‫يف الكتب‪ ،‬وقد يظن بعض طالب العلم أهنا صحيحة‪ ،‬وهي ليست بصحيحة؛ بل الذي نعتقده‪ :‬أ ّن يأجوج‬

‫والرماح‪ ،‬ومثل هذا ال يتَّفق مع ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫سي ِّ‬‫ومأجوج قو ٌم من بني آدم‪ ،‬أقوياء‪َ ،‬يتناكحون ويتناسلون‪ ،‬و ُيحاربون بالق ِّ‬
‫ذكره بعض المفسرين‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪68‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الثاني والعشرون‬

‫باب في اآليات التي تكون قبل الساعة‪:‬‬


‫الخسوفات الثالث‬
‫‪69‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وأما اآلية األخيرة ‪-‬والكالم فيها قليل‪ -‬فهي‪ :‬الخسوفات الثالث‪.‬‬

‫والخسف‪ :‬هو الذهاب يف األرض والغيبوبة فيها‪.‬‬

‫والخسوفات الثالث ُخ َّصت بالذكر لعظهما‪ ،‬وإال فالخسوف قد وقع قبل أمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ويقع‬

‫يف أمة محمد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫قدرا زائدًا‬ ‫قال الحافظ ابن حجر‪" :‬قد ُو ِجد الخسف يف مواضع؛ لكن ُي َ‬
‫حتمل أن يكون المراد بالخسوفات الثالث ً‬

‫على ما ُو ِجد؛ كأن يكون أعظم منه مكانًا أو ً‬


‫قدرا"‪.‬‬

‫مر بنا أ ّن ً‬
‫جيشا يؤُ ُّم الكعبة ‪-‬يقصد الكعبة‪ -‬يخسف اهلل به‪ ،‬وهذا يف آخر الزمان‪.‬‬ ‫وأظنكم تذكرون أنه ّ‬
‫خسف بالمغرب‪ ،‬وليس المراد بالمغرب ما يسمى‬
‫ٌ‬ ‫خسف يف جزيرة العرب عظيم يف آخر الزمان‪ .‬وسيقع‬
‫ٌ‬ ‫وسيقع‬

‫بالمغرب اآلن‪ ،‬وإنما المراد بالمغرب‪ :‬الغ َْرب‪ .‬ويقع بالمشرق؛ وهذه هي الخسوفات العظيمة‪.‬‬

‫وقذف»‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ومسخ‪،‬‬ ‫خسف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وسيقع خسف يف آخر الزمان؛ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬سيقع يف هذه األمة‬

‫وقذف‪ ،‬قال بعض أهل العلم‪ :‬يقع ذلك يف قو ٍم معيَّنين؛ فيُ َ‬


‫مسخ‬ ‫ٌ‬ ‫خسف‪ ،‬و َم ٌ‬
‫سخ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫يعني هناك قوم سيقع فيهم‪:‬‬

‫ٌ‬
‫رجل من‬ ‫حتمل غير هذا‪" .‬قال‬
‫خسف ببعضهم‪ .‬وقال بعض أهل العلم‪ُ :‬ي َ‬ ‫بعضهم‪ ،‬و ُي َ‬
‫قذف ببعضهم‪ ،‬و ُي َ‬
‫المسلمين‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ومتى ذاك؟" ما هي عالمة الخسف؟ قال‪« :‬إذا ظهرت ال َقيْنات» أي المطربات‪ ،‬النساء‬

‫المغنيات‪« ،‬والمعازف‪ُ ،‬‬


‫وشربت الخمور» رواه الرتمذي وصححه األلباين‪.‬‬

‫ونحن ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬يف هذا الزمان نرى شيئًا من هذا؛ فقد ظهرت المطربات‪ ،‬وأصبح بعض من ال يخافون اهلل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المطربات‪ ،‬ف ُيحضر أحدهم مطرب ًة تغنِّي‪ ،‬و ُيعزف بالمعازف‪ ،‬و ُي َ‬
‫شرب الخمر يف المجلس‪.‬‬ ‫يتباهون بمجالس‬
‫َ‬

‫ظاهرا يف الناس؛ َتظهر‬


‫ً‬ ‫لكن يظهر ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬من الحديث أ ّن ذلك سيكون عا ًّما ‪-‬والعياذ باهلل‪ ،-‬يعني يكون‬
‫ٍ‬
‫حفالت عا َّمة‪ ،‬وال ُين َكر ذلك وال ُيؤ َمر بمعروف‪.‬‬ ‫المطربات والمعازف و ُت َ‬
‫شرب الخمور يف‬

‫‪70‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الج َه َلة على العلماء‪،‬‬


‫وهذه ‪-‬كما تقدم معنا‪ -‬هي عالمات آخر الزمان؛ إذا ارتفع العلم وظهر الجهل‪ ،‬و ُقدِّ م َ‬

‫وجاهر هبا الناس عمو ًما‪ ،‬حتى يزين الرجل بالمرأة على قارعة الطريق‪ ،‬ويزين اآلخر بجواره‬
‫َ‬ ‫وظهرت المنكرات‪،‬‬
‫ِ‬
‫ظهور‬ ‫‪-‬والعياذ باهلل‪-‬؛ فال ُين َكر ذلك‪ ،‬وال ُيؤ َمر بمعروف وال ُينهى عن منكر‪ ،‬إذا ظهر هذا؛ فهذه عالمات ُق ْر ِ‬
‫ب‬

‫العالمات الكربى‪.‬‬

‫إذن؛ العالمات الكربى ذكرنا لها عالمة سابقة‪ ،‬ما هي؟ كثرة الروم‪ ،‬والملحمة التي تقع بيننا وبينهم‪ ،‬وأضيفوا ما‬

‫ذكرناه اليوم‪ .‬فهذه عالمات على ُق ْر ِ‬


‫ب ظهور اآليات الكربى‪.‬‬

‫آخر اآليات ذِك ًْرا؛ وهي النار التي تطرد الناس‬


‫ولعلنا نقف هنا اليوم‪ ،‬وغدا ‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪ -‬سنتكلم عن ِ‬

‫إلى المحشر‪ ،‬والكالم فيها قليل‪.‬‬

‫قلت مقدِّ ًما‪ -‬سنتكلم عن ٍ‬


‫أمر من األهمية بمكان؛ وهي‪ :‬ضوابط يف الفتن‪ ،‬تتع َّلق بأسباب‬ ‫ثم بعد ذلك ‪-‬كما ُ‬

‫السالمة وأسباب الوقوع؛ فنذكر أسباب الوقوع من باب‪:‬‬

‫و َلــكِـــن لِـتَــو ِّق ِ‬


‫ـيــــه‬ ‫ال ل ِ َّ‬
‫لش ِّر‬ ‫َع َر ْف ُت َّ‬
‫الش َّر َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫يـــــــــــــ َقع فـــــــ ِ‬
‫ِيـه‬ ‫ف َّ‬
‫الش َّر‬ ‫َفمن َال يع ِر ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َْ‬

‫ونعرف أسباب السالمة؛ لنكون من أهلها‪.‬‬

‫ٍ‬
‫محمد وعلى آله وصحبه وس ّلم‪.‬‬ ‫واهلل أعلم‪ .‬وصلى اهلل على‬

‫‪‬‬

‫‪71‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الثالث والعشرون‬

‫باب في اآليات التي تكون قبل الساعة‪:‬‬


‫النارالتي تخرج من اليمن‬

‫‪72‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وكنا نقرأ يف الحديث الذي أخرب فيه النبي صلى اهلل عليه وسلم عن الساعة أهنا لن تقوم حتى ترون عشر آيات؛‬

‫فذكر‪ :‬الدخان‪ ،‬والدجال‪ ،‬والدابة‪ ،‬وطلوع الشمس من مغرهبا‪ ،‬ونزول عيسى بن مريم عليه السالم‪ ،‬ويأجوج‬
‫ٍ‬
‫وخسف بجزيرة العرب‪ ،‬قال‪« :‬وآخر ذلك‬ ‫ٍ‬
‫وخسف بالمغرب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫خسف بالمشرق‪،‬‬ ‫ومأجوج‪ ،‬والخسوفات الثالث‪:‬‬

‫نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم»‪.‬‬


‫ٌ‬
‫يسر اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬لنا الكالم عن تس ٍع من اآليات المذكورة‪ ،‬وبقي علينا أن نتكلم يف اآلية العاشرة التي قال‬
‫وقد َّ‬
‫نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم»‪.‬‬
‫فيها النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬وآخر ذلك ٌ‬
‫خروجا‪ ،‬وأهنا ّأول آيات حصول الساعة وانتهاء‬
‫ً‬ ‫َتقدَّ م معنا ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أ ّن هذه النار هي آخر اآليات الكربى‬

‫الدنيا‪ ،‬فليس بعدها من الدنيا شيء‪ ،‬فهي أول اآليات وهي آخر اآليات‪.‬‬

‫هي أول اآليات؛ باعتبار اآليات التي تدل على حصول القيامة وانتهاء الدنيا وليس بعدها شيء من الدنيا‪.‬‬

‫وهي آخر اآليات؛ باعتبار اآليات الكربى التي ُذكِ َرت معها‪ ،‬فهي آخر تلكم اآليات‪.‬‬

‫نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم»‪ ،‬ويف رواية عند‬
‫وقول النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬وآخر ذلك ٌ‬
‫خرج من ُق ْعرة عدن» أو « َق ْعرة عدن»‪.‬‬
‫أيضا‪َ « :‬ت ُ‬
‫مسلم ً‬

‫و ُقعرة عدن‪ :‬هي أقصى أرض عدن‪ ،‬و َعدَن‪ٌ :‬‬


‫أرض مشهور ٌة باليمن‪ ،‬معروفة إلى اليوم‪.‬‬

‫قال بعض أهل العلم‪ :‬إهنا ُسميت عَدَ نًا من ال ُعدوان؛ وهو اإلقامة‪ ،‬قالوا‪ :‬أل ّن الملك " ُت َّبع" ‪-‬وكان من ملوك‬

‫فسم َّيت بـ‪ :‬عدن‪.‬‬


‫اليمن‪ -‬كان يحبس فيها أصحاب الجرائم‪ُ ،‬‬
‫وهذه النار الخارجة من اليمن‪ :‬هي النار التي َتحشر الناس‪ .‬وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‬

‫عن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪ُ « :‬ي َ‬


‫حشر الناس على ثالث طرائق‪ :‬راغبين راهبين‪ ،‬واثنان على بعير‪ ،‬وثالثة‬

‫‪73‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫حشر َبقيَّتهم النار‪َ ،‬ت ِق ُيل معهم حيث قالوا‪ ،‬و َتبِ ُ‬
‫يت معهم حيث‬ ‫على بعير‪ ،‬وأربعة على بعير‪ ،‬وعشرة على بعير‪ ،‬و َت ُ‬

‫باتوا‪ ،‬و ُتصبِح معهم حيث أصبحوا‪ ،‬و ُتمسي معهم حيث أمسوا»‪ ،‬وهذا يف الصحيحين‪.‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر‪ :‬قوله‪« :‬على ثالث طرائق» الطرائق‪ :‬جمع طريق‪ ،‬وهي ُتذكَّر و ُتؤنَّث‪.‬‬
‫ٍ‬
‫رواية لمسلم‪« :‬راهبين» بغير الواو‪ ،‬يعني «راغبين راهبين» بدون الواو‪ -‬فهذه هي‬ ‫وقوله‪« :‬راغبين وراهبين» ‪-‬ويف‬

‫الطريقة األولى من الثالث؛ أهنم ُيحشرون راغبين راهبين‪.‬‬

‫وقوله‪« :‬واثنان على بعير‪ ،‬وثالثة على بعير‪ ،‬وأربعة على بعير‪ ،‬وعشرة على بعير» هذه هي الطريقة الثانية‪.‬‬

‫وقوله‪« :‬و َتحشر بقيتهم النار»‪ ،‬قال الحافظ ابن حجر‪ :‬هذه هي النار المذكورة يف حديث حذيفة بن َأسيد ‪-‬التي‬

‫معنا‪ .-‬قال‪ :‬وعند مسلم يف حديث فيه ذكر اآليات الكائنة قبل قيام الساعة كطلوع الشمس من مغرهبا ففيه‪« :‬وآخر‬

‫نار تخرج من َقعر عدن ُت ِّ‬


‫رحل الناس»‪ ،‬ويف رواية له‪« :‬تطرد الناس إلى محشرهم»‪.‬‬ ‫ذلك ٌ‬
‫وقوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬تقيل معهم حيث قالوا» فيه إشارة إلى أ ّن النار تالزمهم وال ترتكهم يف أي ٍ‬
‫وقت‪،‬‬

‫فهي معهم يف سائر األوقات حتى تطردهم إلى محشرهم‪.‬‬

‫هذا المحشر‪ ،‬ما هو؟‬

‫بعض العلماء قال‪ :‬المحشر‪ :‬هو النشر من القبور‪.‬‬

‫وبعض العلماء قال‪ :‬هو المحشر يوم القيامة‪.‬‬

‫حشر يف الدنيا قبل يوم القيامة‪.‬‬


‫لكن الصحيح قول الجمهور‪ :‬إنه ٌ‬
‫كثير من العلماء‪.‬‬ ‫حشر الناس إلى الشام‪ .‬قال هذا الخ ّطابي ّ‬
‫ورجحه ٌ‬ ‫وهذا الحشر يكون إلى الشام‪ ،‬فيُ َ‬

‫قال الحافظ ابن حجر‪ :‬هذا الحشر يكون قبل قيام الساعة‪َ ،‬تحشر الناس أحيا ًء إلى الشام‪ ،‬وأ ّما الحشر من القبور‬

‫إلى الموقف فهو على خالف هذه الصورة ‪-‬مِن الركوب على اإلبل والتعاقب عليها‪ -‬وإنما هو على ما ورد يف‬

‫‪74‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫«حفا ًة ُعرا ًة ُمشاةً» وهذا يكون للجميع‪ ،‬ألن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ُ « :‬تحشرون يوم‬
‫حديث ابن عباس‪ُ :‬‬

‫القيامة ُحفا ًة ُعرا ًة غ ُْرال»‪ ،‬ويف رواية‪ُ « :‬مشا ًة»‪.‬‬

‫طيب؛ هنا النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف الحديث الذي يف الصحيحين قال‪« :‬اثنان على بعير‪ ،‬وثالثة على بعير‪،‬‬

‫وأربعة على بعير‪ ،‬وعشرة على بعير» وهذا بالنسبة لزيادة العدد على خالف العادة‪ ،‬كون عشرة على بعير‪ ،‬وخمسة‬

‫على بعير‪ ،‬وستة على بعير؛ ألن العلماء قالوا‪ :‬من اثنين إلى عشرة‪ ،‬هذا على خالف العادة‪.‬‬

‫فبعض أهل العلم قال‪ :‬المراد أهنم َيتعاقبون؛ فهذا ينزل وهذا يركب‪.‬‬

‫تحم ٍل لهذا األمر‪ ،‬فيركب‬


‫وبعض أهل العلم قال‪ :‬المراد أهنم يف ذلك الزمان يجعل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬للبعير قو َة ُّ‬
‫العشرة عليه‪.‬‬

‫والذي يظهر ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أ ّن المراد بيان ق َّلة ما ُيركَب‪ ،‬فئذ ذاك يكون ما ُيركَب ً‬
‫قليال؛ فيركب االثنان على بعير‬

‫واحد‪ ،‬والثالثة على بعير واحد‪ ،‬والعشرة على بعير واحد‪.‬‬

‫رجحه بعض أهل العلم بأ ّن الصفة المذكورة ال‬


‫ما ُذكر من أنه هو الحشر الذي يف الدنيا وليس حشر يوم القيامة؛ ّ‬

‫يمكن أن تكون إال يف الدنيا‪ ،‬أل ّن النار َتقيل معهم حيث قالوا‪ ،‬وتصبح معهم حيث أصبحوا؛ وهذا ال يكون يف‬

‫ظاهر جدًّ ا‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫الحشر يوم القيامة وإنما يكون يف الحشر يف الدنيا‪ ،‬وهذا‬

‫وقد ذكر الحافظ ابن حجر وغيره أ ّن الدليل ٌ‬


‫ثابت يف وقوع الحشر يف الدنيا إلى جهة الشام‪ ،‬وذكروا حديث معاوية‬

‫وركبانا و ُت ُّ‬
‫جرون على وجوهكم»‪،‬‬ ‫جدّ هبز بن حكيم ‪-‬رفعه‪« :-‬إنكم محشورون ‪-‬ونحا بيده نحو الشام‪ -‬رجا ً‬
‫ال ُ‬
‫قال الحافظ‪ :‬أخرجه الرتمذي والنسائي وسنده قوي‪ ،‬قال وحديث‪« :‬ستكون هجر ٌة بعد هجرة و َتنحاز الناس إلى‬

‫هاجر إبراهيم‪ ،‬وال َيبقى يف األرض إال ِشرارها» قال‪ :‬أخرجه أحمد‪ ،‬وسنده ال بأس به‪.‬‬
‫ُم ِ‬

‫‪75‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫قلت‪ :‬ويؤيد ذلك ما رواه اإلمام أحمد والرتمذي عن ابن عمر ﭭ قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪:-‬‬
‫ُ‬

‫نار من حضرموت أو من نحو حضرموت قبل يوم القيامة؛ تحشر الناس»‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬فما‬
‫«ستخرج ٌ‬
‫تأمرنا؟ قال‪« :‬عليكم بالشام» صححه األلباين‪.‬‬

‫نارا ستخرج من حضرموت‪ ،‬وهي مِن اليمن‪ ،‬هذه النار متى ستكون؟ قال‬
‫فهنا النبي صلى اهلل عليه وسلم يقول إ ّن ً‬
‫نص يف المسألة‪ ،‬وأشار ‪-‬النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إلى‬
‫النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬قبل يوم القيامة» وهذا ٌ‬

‫أهنا تحشرهم إلى الشام؛ ألنه قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬عليكم بالشام»‪.‬‬

‫وقال النووي‪ :‬قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ُ « :-‬يحشر الناس على ثالث طرائق راغبين راهبين‪ »..‬إلى آخر الحديث‬

‫هذا الحشر يف آخر الدنيا قبل القيامة وقبيل النفخ يف الصور؛ بدليل قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬وتحشر بقيتهم‬

‫النار تبيت معهم وتقيل وتصبح وتمسي» وهذا آخر أشراط الساعة كما ذكر مسلم ‪-‬يعني يف هذا الحديث الذي‬

‫نار تخرج من اليمن» إذن؛ هذه هي اآليات العشرة يف العالمات الكربى قبل خروج الساعة‪.‬‬
‫معنا‪« -‬وآخر ذلك ٌ‬

‫‪‬‬

‫‪76‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫شرح كتاب‬
‫الفتن وأشراط الساعة‬
‫من صحيح مسلم‬

‫‪‬‬

‫الدرس الرابع والعشرون‬

‫ضوابط في الفتن يحتاجها كل مسلم‬

‫‪77‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ضوابط يف الفتن؛ يحتاجها ُّ‬


‫كل مسلم‪ ،‬وذلك أ َّن األمر‬ ‫َ‬ ‫ثم كما وعدنا؛ فإنا ‪-‬إن شاء اهلل عز وجل‪ -‬نَختم الكالم عن‬
‫ٍ‬
‫أشكال وألوان‪،‬‬ ‫وتكاثرت فيه الفتن‪،‬وأصبحت الفتن على‬
‫َ‬ ‫تنوعت فيه الفتن‪،‬‬ ‫مرارا‪ -‬أنّا نعيش يف ٍ‬
‫زمن َّ‬ ‫‪-‬كما ذكرنا ً‬
‫ٍ‬
‫والمسلمبحاجة عظيمة إلى معرفة كيف يتعامل مع‬ ‫سوا ًء منها ما َيتعلق بفتن الشبهات أو ما َيتعلق بفتن الشهوات‪،‬‬

‫الفتن‪.‬‬

‫وأتوسع فيها؛‬
‫َّ‬ ‫ضوابط كثيرة ُتستخ َلص من أدلة الكتاب والسنة وكالم سلف األمة‪ُ ،‬‬
‫كنت أحب أن أبسطها‬ ‫ُ‬ ‫وهناك‬

‫عرضا بما َيتناسب مع الوقت‪ ،‬وإن‬


‫مبكرا قبل المغرب فسأعرضها ً‬
‫لكن لضيق الوقت واضطرارنا إلى ختم الدرس ً‬
‫سنبسطها يف محاضرةٍ مستقلة مع غيرها من الضوابط‪.‬‬
‫ُ‬ ‫شاء اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬

‫أما الضابط األول يف الفتنة‪:‬ال ت َّتبِع العاطفة‪ ،‬وق ِّيدها بالشرع‪.‬‬

‫وكثير‬ ‫العاطفة ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬قد تكون عاصف ًة باإلنسان؛ َت ِ‬


‫عصف به إلى االنحراف عن جادة الصواب‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ممن تساقطوا يف الفتن إنما سقطوا بالعواطف‪ ،‬فالعواطف عواصف‪.‬‬

‫والعاقل َمن ق ّيد عواطفه بعقله‪ ،‬وق ّيد عقله بالشرع‪.‬‬

‫اإلنسان ال ُيط َلب منه أن يكون بال عاطفة‪ ،‬أن يكون جامد العاطفة؛ فهذا ال يمكن ما دام أ ّن اإلنسان إنسا ٌن؛‬

‫فاإلنسان البد له من العاطفة‪ ،‬لك ّن المطلوب منه أن ُيقيِّد العاطفة بعقله الذي رزقه اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬إ َّياه؛ فالعقل‬

‫َقيْدٌ للعواطف‪ ،‬وال ينساق وراء عاطفته بما ُتر ُّده العقول‪.‬‬

‫ال لو َأع َْمل عقله لر َّدها؛ ً‬


‫فضال عن أن َيعرف الشرع يف المسألة‪.‬‬ ‫فبعض الناس َيدخل يف الفتن دخو ً‬

‫‪78‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ووزَ َن عقله بالشرع؛ أل ّن المعلوم عند‬


‫والعاقل ‪-‬أيضا‪ُ -‬يقيّد عقله بالشرع؛ فإذا وقع يف عقله شي ٌء َر َج َع إلى الشرع َ‬

‫موافق للعقل الصحيح‪ ،‬العقل السليم يوافق‬


‫ٌ‬ ‫المسلمين أ ّن الشرع ال يأيت بما يخالف العقل؛ بل النقل الصريح‬

‫النقل‪.‬‬

‫ولذلك؛ إذا وقع يف عقلك شي ٌء فاعرضه على النقل الصحيح؛ فإن وافق النقل فاعْلم أنه خير‪ ،‬وإن خالف النقل‬

‫فاعْلم أنه مرض ال خير فيه‪ ،‬ابْتعد عنه‪.‬‬


‫ولذلك؛ نحن نقول ‪-‬يا إخوة‪ :-‬ما بدى لإلنسان من ٍ‬
‫أمور تخالف النقل ال تخلو من حالين‪:‬‬

‫مكذوب على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬ ‫➢ إما أن يكون النقل غير ٍ‬
‫ثابت؛ فهو‬
‫ٌ‬

‫مريضا‪.‬‬
‫➢ وإما أن يكون العقل ً‬

‫وكال!‬
‫مثال يف الصحيحين أو يف أحدهما‪ -‬ويخالفه العقل السليم؛ فال َّ‬
‫أ ّما أن يكون النقل ثابتًا ‪-‬كأن يكون ً‬
‫ٍ‬
‫حديث يف الصحيح ويقول‪ :‬هذا الحديث ُأر ُّده أل ّن عقلي ال َيقبله‪ .‬نقول له‪ :‬إ ّن عقلك مريض‪،‬‬ ‫فالذي يأيت إلى‬

‫يحتاج إلى عالج؛ وعالجه‪ :‬أن ُتالزم العلماء الربانيين أهل السنة‪ ،‬فتتع َّلم منهم تعظيم السنة ومعانيها‪ ،‬أ ّما أن‬

‫ولست من ُفرساهنا فهذا دا ٌء لك ولغيرك‪.‬‬


‫َ‬ ‫تتس َّلط على السنة‬

‫فالشاهد يا إخوة؛ أنه يف الفتن البد من عدم ا ِّتباع العواطف‪ ،‬وتقييدها بالعقل‪ ،‬وتقييد العقل بالشرع‪.‬‬

‫الضابط الثاين‪َّ :‬إيــاك والعجلـة‪ ،‬والْــز ِم األنــاة‪.‬‬

‫الحظوا ‪-‬يا إخوة‪-‬؛ أنا أذكر يف الضابط سبب الوقوع وسبب السالمة‪.‬‬

‫قلنا يف األول‪ :‬ال تتبع العاطفة وقيِّدها بالشرع؛ سبب الوقوع يف الفتنة‪ :‬اتباع العاطفة‪ ،‬وسبب السالمة‪ :‬تقييد‬

‫العاطفة بالشرع‪.‬‬

‫سبب للسالمة من الفتنة‪.‬‬ ‫نقول هنا‪ :‬إ َّياك والعجلة والز ِم األناة‪ .‬العجلة‪ٌ :‬‬
‫سبب للوقوع يف الفتنة‪ ،‬واألناة‪ٌ :‬‬

‫‪79‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫يقول اهلل عز وجل‪ ﴿ :‬ي َأيهاٱ َّل ِذينءامنُو ْا إِن جآءكُم َف ِ‬


‫اس ُق بِنَبَإ َفتَبَيَّن ُٓو ْا ﴾[الحجرات‪ ،]٦ :‬قال المفسرون‪ :‬التبيُّن‪ :‬هو‬ ‫َ َ‬ ‫ََ َ ٓ‬ ‫َٰ ُّ َ‬

‫والتبصر يف األمر الواقع والخرب الوارد‪ ،‬يعني أ ّن اهلل عز‬


‫ُّ‬ ‫والتفحص‪ ،‬من التثبيت واألناة وعدم العجلة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫التعرف‬
‫ُّ‬
‫التبصر فيما يقع‪.‬‬
‫وجل يأمرنا باألناة وعدم التعجل؛ بل البد من ُّ‬
‫قال الشوكاين يف قوله ‪-‬عز وجل‪ ﴿:-‬ك ََّالبل ُت ِ‬
‫ح ُّبو َن ٱل َع ِ‬
‫اج َل َة ﴾[القيامة‪" ]2٠ :‬كال"؛ ّ‬
‫للردع عن العجلة‪،‬‬ ‫َ‬

‫وللرتغيب يف األناة‪ ،‬فنحن منهيُّون عن العجلة ُمرغَّبون يف األناة‪.‬‬

‫وروى الرتمذي عن سهل بن سعد الساعدي‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬األناة من اهلل‪ ،‬والعجلة‬

‫حسنه جم ٌع من أهل العلم؛ منهم الشيخ ناصر األلباين رحمه اهلل‪.‬قال ُ‬


‫الش َّراح‪« :‬العجلة من الشيطان»‬ ‫من الشيطان» ّ‬
‫والتبصر‪ ،‬ومن لم يتث ّبت وقع يف‬
‫ُّ‬ ‫أي أ ّن الحامل عليها الشيطان بوسوسته‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬ألن العجلة تمنع من التث ّبت‬

‫الخطايا‪ ،‬فالعجلة من الشيطان‪ ،‬وذلك من كيد الشيطان ووسوسته‪.‬‬

‫شج عبد القيس‪« :‬إ ّن فيك خصلتين يحبهما اهلل‪:‬‬ ‫ِ‬


‫وروى اإلمام مسلم أ ّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال أل ِّ‬
‫ِ‬
‫الح ْلم واألناة‪ .‬قال النووي‪ ":‬أما الحلم فهو العقل‪ ،‬وأما األناة فهو التثبت وترك العجلة"‬

‫فهما حصلتان بحبهما اهلل؛ العقل والتثبت وترك العجلة‬

‫صفتي الحلم واألناة وأ ّن اهلل يحبهما؛ قال‪" :‬وضدهما الطيش والعجلة‪،‬‬


‫ْ‬ ‫قال اإلمام ابن القيم رحمه اهلل‪ ":‬يف مدح‬

‫وهما ُخلقان مذمومان ُمفسدان لألخالق واألعمال" ‪.‬‬


‫‪12‬‬

‫قال العلماء‪ :‬العجلة مذموم ٌة يف الغالب وال تأيت بخير‪ ،‬إما يف ذاهتا وإما فيما يرتب عليها‪.‬‬

‫ولذلك؛ المطلوب من المسلم يف كل حال‪ :‬األناة‪ ،‬لكنه عند الفتنة يلزم ذلك أكثر‪.‬‬

‫رعي‪.‬‬ ‫واحرص على العل ِم َّ‬


‫الش ِّ‬ ‫ْ‬ ‫الضابط الثالث‪َّ :‬إيـاك والجهل‪،‬‬

‫(‪[)12‬زاداملعاد‪.] ٥31 :‬‬

‫‪80‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫احذر الجهل واحرص على العلم الشرعي‪ ،‬فإ ّن الفتن مِن بضاعة الشيطان‪ ،‬وبضاعة الشيطان ال َتروج إال‬

‫خشىٱل َّل َه ِمن ِع َبادِ ِه‬


‫مع الجهل‪ ،‬أ ّما مع العلم فال َتروج‪ .‬ولذلك جاءت النصوص مب ّين ًة فضل العلم؛ ﴿ إِن ََّما َي َ‬

‫ٱل ُع َل َٰمؤُ ْا ﴾[ [ فاطر‪ ،]2٨ :‬قال العلماء‪َ " :‬‬


‫حصر اهلل الخشية يف العلماء لبيان أ ّن النفع الحقيقي إنما يكون للعلماء"‪،‬‬

‫النفع الكامل والخشية الكاملة التي ُّ‬


‫تدل على الخير و َتمنع من الشر إنما تكون للعلماء‪.‬‬

‫والنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ّ -‬‬


‫حث على العلم يف أحاديث كثيرة؛ منها‪ :‬قوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ « :-‬من سلك‬

‫علما؛ س َّهل اهلل له طريقا إلى الجنة‪ ،‬وإ ّن المالئكة لتضع أجنحتها لطالب العلم؛ ً‬
‫رضا بما َيصنع‪،‬‬ ‫طريقا يلتمس به ً‬
‫وإ ّن العالِم َليستغفر له من يف السماوات ومن يف األرض حتى الحيتان يف الماء‪ ،‬وفضل العالِم على العابد كفضل‬

‫ورثوا‬
‫درهما؛ وإنما َّ‬
‫ً‬ ‫القمر على سائر الكواكب‪ ،‬أال إ ّن العلماء ورثة األنبياء‪ ،‬وإ ّن األنبياء لم ُي ِّ‬
‫ورثوا دينا ًرا وال‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بحظ وافر» ‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫الع ْلم‪َ ،‬‬
‫فمن أخذه أخذ‬

‫وفضل النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬العالم على العابد ‪-‬كما سمعنا يف الحديث‪ -‬قال‪« :‬فضل العالم على العابد‬
‫ّ‬

‫كفضل القمر على سائر الكواكب»‪.‬‬

‫ويف الحديث اآلخر ُذكِ َر للنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عالم وعابد؛ فقال‪« :‬فضل العالم على العابد كفضلي على‬

‫أدناكم» ؛ ألن العالِم ال َتروج عليه بضاعة الشيطان‪ ،‬و َمن تع َّلم َأمِن ‪-‬بفضل اهلل‪ -‬مكايد الشيطان‪ ،‬والعلم الشرعي‬ ‫‪14‬‬

‫بعد الشبهات عن القلب‪ ،‬وي ِ‬


‫ضعف‬ ‫ضعف الشهوات؛ ي ِ‬
‫بعد الشبهات وي ِ‬
‫سالح للمسلم يطرد به الشيطان‪ ،‬فهو ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬

‫الشهوات‪.‬‬

‫ولذلك؛ قال اإلمام السعدي رحمه اهلل‪:‬‬

‫(‪)13‬أخرجهالرتمذي يف سننه( ‪،)2682‬كتاب‪:‬العلم‪،‬ابب‪:‬ماجاءيف فضل الفقه على العبادة‪ .‬يف سننه‪.‬وأبوداود (‪،)3641‬كتاب‪:‬العلم‪ ،‬ابب‪:‬احلثعلىطلبالعلم‪.‬‬
‫منحديث أيب الدرداء ﭬ‪ .‬وحسنهابن حجريف ختريج مشكاةاملصابيح‪.‬وصححهاأللباين يف صحيح اجلامع(‪.)6297‬‬
‫(‪)14‬أخرجهالرتمذي يف سننه (‪،)268٥‬كتاب‪:‬العلم‪،‬ابب‪:‬ماجاءيف فضل الفقه على العبادة‪.‬من حديثأبيأمامةالباهلي‪.‬وصححهاأللبانيفيصحيحاجلامع( ‪.)4213‬‬

‫‪81‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫أفـضـل ا ْل ِمنَـ ْن‬


‫َ‬ ‫ـم ُه ِـد َ‬
‫يـت َأ َّن‬ ‫ِ‬
‫الـدَّر ْن‬
‫ـك َعن َْك َو َ‬
‫الش َّ‬
‫زيـــــل َّ‬‫لم ُي‬
‫ع ٌ‬ ‫ا ْع َل ْ‬

‫اعلم ُهديت أ ّن أعظم النِّعم عليك أيها المسلم‪ٌ :‬‬


‫علم‪ ،‬ما صفته وما شأنه؟ يزيل الشك عنك‪ ،‬ف َيمنع الشبهات‬ ‫ْ‬
‫الو َسخ‪ -‬ف ُيضعف الشهوات‪ ،‬فال تصرف الشهوة إال يف مباح‪ .‬فالعلم من أعظم أسلحة المسلم‪.‬‬
‫والدّ َرن ‪-‬أي َ‬

‫والصغار‪ ،‬والْـــزم الكبار‪.‬‬


‫الضابط الرابع‪ :‬عند االختالف‪َّ :‬إيــاك ِّ‬

‫إذا وقع االختالف يف ٍ‬


‫أمر‪ ،‬وال س ّيما يف األمور التي قد تتع َّلق هبا الفتن؛ فإياك والصغار ولو كانوا من طالب‬

‫العلم‪ ،‬والزم الكبار من العلماء؛ فإ ّن صغار السن والشباب فيهم ِحدَّ ة الشباب‪ ،‬وحرارة الشباب‪ ،‬وعجلة الشباب‪،‬‬

‫جربوا الدنيا‪ ،‬و َع َرفوا‬ ‫فمهما بلغ الشاب من ِ‬


‫الشاب فيه‪ ،‬وتبقى عجلة الشباب فيه‪ ،‬أ ّما الكبار فقد ّ‬
‫ِّ‬ ‫العلم تبقى حرارة‬

‫لم عَلِموه‪،‬‬ ‫رأي قد َأحكموه ِ‬


‫وع ٍ‬ ‫أحوالها وأسرارها‪ ،‬وانكسرت فيهم ِحدَّة الشباب التي كانت‪ ،‬فال َيصدُ رون إال عن ٍ‬

‫تيسر للشباب‪.‬‬
‫فهم عن العلم َيصدرون وعن الحكمة َيفهمون‪ ،‬وهذا ال َي َّ‬
‫دح يف الشباب؛ وإنما فيه بيان الحال؛ مِن أنه إذا حصل االختالف واختلف الناس فعليك بالكبار‪.‬‬
‫وهذا ليس فيه َق ٌ‬

‫مثال الكالم‬
‫فمثال؛ لو اختلف الناس يف مسألة فقال بعض الناس‪ :‬هذا جائز‪ ،‬وقال بعض الناس‪ :‬هذا محرم‪ ،‬يعني‪ً :‬‬
‫ً‬

‫مثال‪ :‬لو أ ّن بعض الناس من طالب العلم قال‪ :‬هذا جائز‬


‫وسب الحكام على المنابر‪ً ،‬‬
‫ّ‬ ‫الح َّكام على المنابر‪،‬‬
‫على ُ‬

‫محرم وقد ذ َّمه السلف والنصوص فيه ظاهرة؛ فعليك بالكبار؛ فإهنم‬ ‫ِ‬
‫وهو ومن الجهاد‪ ،‬وقال بعض العلماء‪ :‬هذا َّ‬
‫أهل بصيرة وحكمة‪ .‬وهناك آثار كثيرة عن السلف سنذكرها إن شاء اهلل عند التفصيل‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الضابط الخامس‪ّ :‬إيـاك واألمور الحادثة‪ ،‬والْــ َز ِم ُّ‬


‫السنة‪.‬‬

‫إذا جاء األمر فانظر فيه؛ هل هو قديم؟ هل هو على ما كان عليه النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وأصحابه؟‬

‫(‪...‬كل ما خالف هدي رسول اهلل وهدي صحابة رسول اهلل) فهي بدعة من البدع‪ ،‬وكل بدعة فهي ضاللة‪ ،‬ال‬
‫‪15‬‬

‫تقود إلى خير؛ ال يف الدنيا وال يف اآلخرة وإنما تقود إلى ضالل‪.‬‬

‫وقد روى أبو داود عن يزيد بن عميرة أ ّن معاذ بن جبل رضي اهلل عنه‪ :‬كان ال يجلس مجلسا للذكر حين يجلس‬

‫كم عدْ ل‪ ،‬هلك المرتابون"‪ ،‬فقال معاذ بن جبل يوما‪" :‬إ ّن من ورائكم فتنًا يكثر فيها‬
‫(أي للتعليم) إال قال‪" :‬اهلل َح ٌ‬
‫ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق‪ ،‬والرجل والمرأة‪ ،‬والصغير والكبير‪ ،‬والعبد والحر"؛ يعني‬
‫المال‪ُ ،‬‬
‫إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال بين أيدي الناس ويفتح فيها القرآن أي أن العلم يعطي للناس فال يختص به قلة؛ بل‬

‫يكثر فيتعلم الرجال والنساء الصبيان والكبار العبيد واألحرار فيكون ماذا ؟قال رضي اهلل عنه‪-":‬هذا ما كان يف‬

‫قرأت القرآن؟‪-‬مالهم ال يرئسوين ما لهم ال‬


‫ُ‬ ‫زمنهم لكنه واهلل وقع‪-‬فيوشك ٌ‬
‫قائل أن يقول‪ :‬ما للناس ال يتبعوين وقد‬

‫يجعلونني رأسا مالي أكون يف الصف ويقدم غيري من كثرة من يتكلم بالعلم‪-‬قال‪ :‬فيقول‪:‬فيوشك ٌ‬
‫قائل أن‬

‫تبعي حتى أبتدع لهم غيره‪-‬ما دمت على هذا العلم فهذا‬
‫بم َّ‬‫قرأت القرآنما ُهم ُ‬
‫ُ‬ ‫يقول‪":‬ما للناس ال يتبعوين وقد‬

‫العلم يعرفه الناس ويف علماء أعلم مني وأنا سأكون يف الصف لكن متى أصبح رأسا؟ إذا ابتدعت شيئا جديدا‬

‫علمته للناس ودعوت الناس إليه ‪-‬يقول رضي اهلل عنه‪ ":‬فإياكم وما ابتُدع؛ فإ ّن ما ابتدع ضاللة‪ ،‬وأحذركم‬

‫زيغةالحكيم؛‪-‬أحذركم زلة الحكيم؛ قد يزل حكيم لكن اليزل كل الحكماء‪-‬فإن الشيطان قد يقول كلمة الضاللة‬

‫قلت لمعاذ‪ :‬ما يدريني ‪-‬رحمك اهلل‪ -‬أن الحكيم‬


‫على لسان الحكيم‪ ،‬وقد يقول المنافق كلمة الحق"‪ .‬قال الراوي‪ُ :‬‬

‫قد يقول كلمة الضاللة؟‪-‬هو حكيم‪ ،‬ما الذي يدريني أهنا ضاللة؟ وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟المنافق‬

‫(‪)1٥‬انقطاع التسجيل‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ُمبغَض فإذا علمتُه كيف أعرف أنه قال كلمة الحق؟ والحكيم متبَع‪ ،‬فإذا قال كلمة كيف أعرف أهنا زيغة؟ قال معاذ‬

‫رضي اهلل عنه‪" :‬بلى اجتنب من كالم الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه؟ اجتنب من كالم الحكيم ما يأيت به‬

‫المحدَ ثات التي ُي ْح ِدثها‪ ،‬ف ُيقال‪ :‬فالن قال قوال‪ ،‬ما هذه‬
‫من عجائب تخالف ما يأيت به الحكماء؛ الغرائب ُ‬
‫السنة الربانيين‪ ،‬وقال كلم ًة فخا َلف فيها‬
‫عرفت أنه حكيم؛ وأنه من علماء ُّ‬
‫َ‬ ‫المقولة؟! وال يثنيك ذلك عنهإذا‬

‫الحكماء فاحذر هذه الكلمة! لكن ال ُتسقطه‪،‬‬

‫فإنه لعله أن يراجعوواهلل إ ّن علماء ّ‬


‫السنة يراجعون‪ ،‬وعلماء البدعة ُيكابرون؛العلماء الذين هم علماء على السنة‬

‫كبيرا‪ ،‬وأما من يكون على البدعة فإنه يكابر يف الغالب‬ ‫ِ‬


‫إذا أخطأ الواحد منهم وعلم أنه أخطأ رجع مهما كان ً‬
‫ويدخل يف الحديث‪« :‬إ ّن اهلل حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدعها»‪.‬‬

‫قال‪ ":‬وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا" ‪.‬‬
‫‪16‬‬

‫ويف رواية؛ قال ابن مسعود عندما سأله الراوي عن‪ :‬ما يدريه إذا قال الحكيم كلمة الضاللة؟ قال‪" :‬بلى؛ ما تشابه‬

‫عليك من قول الحكيم حتى تقول‪ :‬ما أراد هبذه الكلمة؟" يعني إذا جاء بالغريب الذي يخالف كالم العلماء علماء‬

‫السنة علماء الخير؛ فاجتنب هذه الزيغة‪.‬‬

‫وروى أبو داود أ ّن رجال كتب إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدَر‪ ،‬فكتب ‪-‬وهذه وصية عظيمة يا إخوان؛‬

‫وصي ٌة عظيمة من هذا الخليفة العادل الراشد المو َّفق صاحب ّ‬


‫السنة‪ -‬قال‪:‬‬

‫"أما بعد؛ أوصيك بتقوى اهلل‪ ،‬واالقتصاد يف أمره‪ ،‬وا ّتباع سنة نبيه ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وترك ما أحدث‬

‫الم ْحدثون بعدما َجرت به سنته‪ ،‬و ُك ُفوا ُمؤُ ونته‪ ،‬فعليك بلزوم السنة؛ فإهنا لك بإذن اهلل عصمة"‪ .‬واهلل! عصمة من‬
‫ُ‬
‫الفتن‪ ،‬وعصمة من الزيغ‪ ،‬وعصمة من الضاللة‪.‬‬

‫(‪)1٦‬أخرجه أبو داود يف كتاب السنة (‪ .)4٦11‬قال الشيخ األلباين‪ :$‬صحيح اإلسناد موقوف‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫"ثم اعلم؛ أنه لم يبتدع الناس بدع ًة إال قد مضى ما قبلها ما هو ٌ‬


‫دليل عليها أو عرب ٌة فيها؛ فإ ّن السنة إنما سنّها من قد‬

‫علم ما يف خالفها"‪.‬‬

‫"السنة إنما سنها من قد علم ما يف خالفها"؛ فال يتطرق األمر أ ّن الذي قال السنة قد يكون لم يتن ّبه لهذا األمر‪ ،‬ألن‬

‫مثال‪ -‬قد يقول‪ :‬هذه البدعة يمكن أنه لم يتنبه لها السابقون؛ السنة سنّها من يعلم ما يف خالفها‪ ،‬ولو‬
‫بعض الناس ‪ً -‬‬

‫كان يف خالفها سنة لذكره صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬


‫وببصر ٍ‬
‫نافذ َك ُّفوا ‪-‬يعني َك ُّفوا عن هذه‬ ‫ٍ‬ ‫قال‪" :‬فارض لنفسك ما رضي به القوم ألنفسهم‪ ،‬فإهنم على ٍ‬
‫علم وقفوا‬

‫المحدثات‪ ،-‬وهم على كشف األمور كانوا أقوى وبفضل ما كانوا فيه أولى‪ ،‬فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد‬

‫سبقتموهم إليه ‪-‬وهذا ال يكون‪ -‬ولئن قلتم إنما حدَ ث بعدهم ما أحدثه إال من اتبع غير سبيلهم ‪-‬يعني ولئن قلتم‪:‬‬

‫ور ِغب بنفسه عنهم؛ فإهنم هم السابقون‪ ،‬فقد تكلموا‬


‫إنما حدث بعدهم‪ ،‬قلنا‪ :‬ما أحدثه إال من اتبع غير سبيلهم‪َ -‬‬
‫فيه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي‪. "..‬‬
‫‪17‬‬

‫ٍ‬
‫مسلم أن َيعلمها ويفهمها‪ ،‬فهي‬ ‫وهذه وصي ٌة عظيم ٌة جليلة ينبغي على طالب العلم أن يتنبّهوا لها‪ ،‬وينبغي على كل‬

‫خالصة عظيمة للنصوص ولِما كان عليه السلف الصالح رضوان اهلل عليهم‪.‬‬

‫الضابط السادس‪َّ :‬إيـــاك أن تقترب من الفتنة‪ ،‬وابتعد عنها‪.‬‬

‫بأي أنواع‬
‫سبب للسالمة منها‪ ،‬ال تقرتب من الفتنة ِّ‬
‫ٌ‬ ‫سبب للوقوع فيها‪ ،‬والبعد عنها‬
‫ٌ‬ ‫القرب من الفتنة‬

‫يسيرا‪.‬‬
‫االقرتاب ولو كان االقرتاب ً‬

‫(‪)17‬أخرجه أبوداود يف سننه (‪ ،)3998‬كتاب‪:‬السنة‪،‬ابب‪:‬لزومالسنة‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫وقد مر بنا ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي اهلل عنهقال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ستكون فت ٌن‬

‫خير من الساعي‪ ،‬ومن ُيشرف لها‬


‫خير من الماشي‪ ،‬والماشي فيها ٌ‬
‫خير من القائم‪ ،‬والقائم فيها ٌ‬
‫القاعد فيها ٌ‬
‫تستشرفه‪ ،‬ومن وجد ملج ًأ فل َي ُعذ به»‪.‬‬

‫وعند مسلم عن أبي هريرةرضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬تكون فتن ٌة النائم فيها ٌ‬
‫خير من‬

‫خير من الساعي»‪.‬‬
‫خير من القائم‪ ،‬والقائم فيها ٌ‬
‫اليقظان‪ ،‬واليقظان فيها ٌ‬
‫خير من‬
‫ثم تكون فتن؛ القاعد فيها ٌ‬
‫وعن أبي بَكرة قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إهنا ستكون فت ٌن‪ ،‬أال َّ‬
‫فمن كان له إبل ف ْليلحق بإبله‪ ،‬ومن‬
‫وقعت‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫نزلت أو‬
‫ْ‬ ‫خير من الساعي إليها‪ ،‬أال فإذا‬
‫الماشي فيها‪ ،‬والماشي فيها ٌ‬
‫أريت َمن لم‬
‫َ‬ ‫كانت له غنم ف ْليلحق بغنمه‪ ،‬ومن كانت له أرض ف ْليلحق بأرضه»‪ ،‬قال‪ :‬فقال ٌ‬
‫رجل‪ :‬يا رسول اهلل!‬

‫عمد إلى سيفه ُّ‬


‫فيدق على حدِّ ه بحجر‪ ،‬ثم لينجو إن استطاع النجاة‪ ،‬اللهم‬ ‫يكن له إبل وال غنم وال أرض؟ قال‪َ « :‬ي َ‬
‫كرهت حتى ُين َطلق بي‬
‫ُ‬ ‫أريت إن ُأ‬ ‫هل ب َّلغت؟ اللهم هل ب َّلغت؟ اللهم هل ب َّلغت؟»‪ ،‬قال‪ :‬فقال ٌ‬
‫رجل‪ :‬يا رسول اهلل‪َ ،‬‬

‫إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني ٌ‬


‫رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال‪« :‬يبوء بإثمه وإثمك‪ ،‬ويكون‬

‫من أصحاب النار»‪.‬‬

‫بأي أنواع االقرتاب‪ ،‬ولذلك‪ :‬النائم فيها خير من اليقظان ‪-‬‬


‫تحذير شديدٌ من االقرتاب من الفتن ِّ‬
‫ٌ‬ ‫هنا ‪-‬يا إخوة‪-‬‬

‫قريب من‬
‫ٌ‬ ‫أثرا يف قلبه‪ ،‬فاألثر يف القلب‪ ،‬هذا‬
‫المضطجع وهو يقظان‪ ،-‬النائم هو الذي ال يعلم عن الفتنة لك ّن لها ً‬
‫قريب من الفتنة بسمعه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫خير من اليقظان؛ ألن اليقظان‬
‫الفتنة بقلبه‪ ،‬والنائم ٌ‬
‫قريب من الفتنة ببصره وسمعه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫خير من القاعد؛ ألن القاعد‬
‫واليقظان ٌ‬
‫قريب من الفتنة أكثر بسمعه وبصر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫خير من القائم؛ أل ّن القائم‬
‫والقاعد ٌ‬

‫‪86‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫خير من الماشي؛ ألن الماشي اقرتب من الفتنة بالسمع والبصر والمشي‪ .‬وسبق أن ذكرنا أ ّن للماشي‬
‫والقائم ٌ‬
‫ٍ‬
‫لغرض غير الفتنة كالتجارة مثال‪.‬‬ ‫تفسيرا آخر‪ :‬وهو الذي يمشي مع أهل الفتنة‬
‫ً‬
‫خير من الساعي؛ ألنه يسرع من الفتنة‪ ،‬فاقرتابه أكثر‪.‬‬
‫الماشي ٌ‬
‫ثم بيّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أ ّن المسلم ينبغي عليه أن يبتعد عن الفتنة‪ ،‬إن كانت له إبل يف الصحراء (يف‬

‫الرب) فليلحق بإبله؛ يبتعد عن الفتنة‪ ،‬يذهب مع اإلبل هناك‪ ،‬ومن كانت له غنم بعيدة عن المدينة فليلحق هبا‪ ،‬ومن‬

‫كانت له أرض (مزرعة) بعيدة عن مكان الفتنة فليذهب إليها‪.‬‬

‫كسر جميع أسباب الفتنة‪،‬فإن كانت الفتنة فتنة قتال ك ََسر السيف؛‬
‫فإن لم يكن له شيء يذهب إليه‪ ،‬ماذا يصنع؟! ُي ّ‬
‫كسر آلة القتال ويبقى يف بيته‪ ،‬وإن كانت الفتنة فتنة كُتب ابت َعد عنها‪ ،‬وإن كانت الفتنة فتنة أشرطة ابت َعد عنها‪ .‬فالبعد‬
‫ّ‬
‫عن الفتنة من أعظم أسباب السالمة‪.‬‬

‫وقد مر معنا قريبا أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال يف فتنة الدجال‪« :‬من سمع به فلينأ عنه» هذا الحديث الذي‬

‫رواه اإلمام أحمد وإسناده صحيح‪.‬‬

‫منـع الفتنة أسهل من رفعها‪.‬‬


‫الضابط السابع‪ُ :‬‬

‫متعلق بالذي قبله؛ البعد عن الفتنة حتى ال تقع يف القلب هو المتعيِّن؛ ألنه كما يقول‬
‫ٌ‬ ‫وهذا ‪-‬يا إخوة‪-‬‬

‫الفقهاء‪ :‬المنع أسهل من الدفع‪ .‬ما هو المنع؟ المنع‪ :‬منع الشيء قبل وقوعه‪ .‬والدفع‪ :‬رفع الشيء بعد‬

‫متعلق بالماضي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وقوعه‪.‬ومنع الشيء قبل وقوعه أسهل‪ ،‬وهذا‬

‫كما مر معنا قول شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل‪" :‬إ ّن الفتنة إذا وقعت صعب على الحكماء إطفاؤها"؛ فالفتنة‬

‫وقعت فإنه َيص ُعب التخلص منها‪.‬‬


‫ْ‬ ‫ُتطفأ قبل الوقوع‪ ،‬فإذا‬

‫‪87‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الضابط الثامن‪ :‬اِحــذر الهوى عندما تأخذ بالفتوى‪ ،‬وخُ ــذ بما أضاءه الدليل‪.‬‬

‫عالما إال إذا علِم أنه يقول ما يريد‪.‬‬


‫إ َّياك أن تأخذ الفتوى هبواك‪ ،‬فبعض الناس ال يسأل ً‬
‫لم تذهب للشيخ صالح الفوزان ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫وأذكر لكم أنّا سألنا شا ًّبا وقع يف فتنة من الفتن‪ ،‬وهو يف الرياض‪ ،‬فقلنا له‪ :‬ل َم ْ‬
‫مثال‪ -‬أو الشيخ عبد العزيز آل الشيخ؟ قال‪ :‬الذي عندهم معروف‪ ،‬هو ال يريد أن يسمع من أمثال هؤالء‪ ،‬وهذا ال‬

‫سبب للوقوع يف الفتنة‪.‬‬


‫شك أنه ٌ‬

‫مثال‪ -‬يف مسألة من المسائل‪ ،‬يبحث َمن يقول بالقول الذي يريده؛ فإذا سمع‬
‫بعض الناس إذا أراد أن يستفتي ‪ً -‬‬

‫ذهب وجلس عنده؛ وإذا سمعه‪ ،‬قال‪ :‬أفتاين عالم‪.‬‬

‫مثال ‪-‬ونحن نقول‪ :‬ال يجوز الذهاب إلى العراق‪ -‬إذا أراد أن يخالف‬
‫بعض شبابنا الذين يذهبون إلى العراق ً‬

‫والدَ يه و َيذهب؛ يسأل َمن مِن المشايخ يقول‪ :‬الجهاد يف العراق فرض عين؟ فيقال له‪ :‬فالن نسمع يقول هبذا؛‬

‫فيذهب إليه ويجلس عنده؛ فإذا سمعه ذهب وطار‪ ،‬ويظن أنه برئت ذمته هبذا‪ ،‬واهلل ما برئت! ألنه ما أخذ ال ُفتيا‬

‫بطلب الحق‪ ،‬وإنما أخذ بالهوى‪.‬‬

‫تجرد؛ لِي ْعلم اهلل من قلبك أنك إنما تريد الحق‪.‬‬


‫أمر ينبغي أن ُيتن َّبه له‪ ،‬خذ بما أضاءه الدليل‪َّ ،‬‬
‫وهذا ٌ‬

‫يا أخي! أنت ال تتعامل مع الناس؛ الناس تغشهم‪ُ ،‬تظ ِهر لهم خالف ما يف قلبك‪َ ،‬‬
‫أنت تتعامل مع من يعلم خائنة‬

‫فخ ْذ من الفتاوى ما أضاءه الدليل‪.‬‬


‫األعين وما تخفي الصدور‪ ،‬وهو ‪-‬سبحانه‪ -‬الذي سيسألك عن عملك‪ُ ،‬‬

‫كنت عام ًّيا‪ :‬فال تأخـذ بالتَّشهي‪ ،‬وق ِّلــد األع َلم‪.‬‬
‫إن َ‬‫الضابط التاسع‪ْ :‬‬

‫كنت عاميًّا ال ُتميز األدلة فإياك‬


‫كنت تعلم الدليل وتعرف الدليل فخذ بما أضاءه الدليل‪ ،‬وإن َ‬
‫الذي قبله‪ :‬إن َ‬

‫والتّشهي! إياك أن تأخذ من الفتاوى تشهيًّا؛ فتقول‪ :‬فالن فتاواه سهلة فأنا أسأله‪ ،‬فالن الحرام عنده قليل فأنا‬

‫‪88‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫أسأله‪ ،‬وإنما يجب عليك أن تق ِّلد األعلم؛ قال العلماء‪َ " :‬من لم يعرف الدليل وجب عليه أن يق ِّلد أعلم َمن يف‬

‫البلد"‪.‬‬

‫وليس الناس سواء‪ ،‬يأيت لطالب ٍ‬


‫علم مثلي ويزنه بالشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه اهلل أو بالشيخ صالح الفوزان‬

‫كثير والحمد هلل‪،‬‬


‫أو بالشيخ صالح آل الشيخ‪ ،‬والشيخ صالح اللحيدان‪ ،‬وغيرهم من العلماء الكبار‪ ،‬وغيرهم ٌ‬
‫علي التقليد‪ ،‬نقول له‪ :‬ال! ال يجوز لك ذلك‪ ،‬يجب عليك‬
‫عامي إنما َّ‬
‫ٌّ‬ ‫قلدت ً‬
‫شيخا وأنا‬ ‫ُّ‬ ‫ويوازن بيننا؛ ال‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا‬

‫أن تقلد األعلم‪.‬‬

‫قوال‪ :‬ما تبْر ُأ ذمتك بأن تأخذ بقولي‪،‬‬


‫قوال ‪-‬وأسأل اهلل أال يقع‪ -‬وقال الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ً‬
‫قلت أنا ً‬
‫فإذا ُ‬

‫شيخا‪..‬ال! يجب أن تق ِّلد األعلم وهو الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه اهلل‪ ،‬فشبابنا ‪-‬‬
‫ً‬ ‫عامي وأق ِّلد‬
‫ٌّ‬ ‫وتقول‪ :‬أنا‬

‫هنا‪ -‬الذين يقولون‪ :‬نحن عوام ما نعرف الدليل سمعنا ً‬


‫شيخا يف القناة الفضائية الفالنية يقول كذا واتبعناه‪ ،‬نقول‪:‬‬

‫واهلل ما تربأ ِّ‬


‫الذمم! وهذا سبب وقوعكم يف الفتن‪.‬‬

‫عندنا ‪-‬الحمد هلل‪ -‬علماء كبار معروفون؛ يجب أن تق ِّلد األعلم‪ ،‬واألعلم عندنا هنا يف البلد ‪-‬اآلن‪ -‬هو الشيخ‪:‬‬

‫ولي أ ْمرنا ‪-‬وفقه اهلل‪ -‬لل ُفتيا‪ ،‬فتُق ِّلد الشيخ عبد العزيز آل الشيخ إذ ذاك يف‬
‫نصبه ُّ‬
‫عبد العزيز آل الشيخ‪ ،‬وهو الذي ّ‬

‫المسائل الحادثة الواقعة‪.‬‬

‫وخ ْذ بقوله‪ ،‬األعلم معروف؛ األعلم‪ :‬هو صاحب‬


‫فإذا الناس قالوا كذا وناس قالوا كذا؛ فانظر من فيه األعلم ُ‬

‫المتمسك بالسنة‪ ،‬الذي شهد له أهل السنة‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫التوحيد‪،‬‬

‫كنت عاميًّا‪ :‬فإياك والتّشهي وق ِّلد األعلم‪.‬‬


‫فإن َ‬

‫الضابط العاشر‪َّ :‬إياك والتق ُّلب‪ ،‬واثبُ ْ‬


‫ت على الدِّ ين بنور القرآن والسنة‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ٍ‬
‫بحال‪ ،‬واثبُ ْت على الدين بنور القرآن والسنة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بحال وتمسي‬ ‫إ َّياك والتقلب؛ أن تصبح‬

‫السنة أكثر التن ُّقل"‪ ،‬فاث ُب ْت على الدّ ين‪ ،‬وذلك باألخذ بالقرآن والسنة على ضوء فهم‬
‫والسلف يقولون‪َ " :‬من ترك ّ‬
‫خير األمة؛ سلف األمة‪.‬‬

‫وقد مر معنا قول النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف فتنة الدجال‪« :‬عباد اهلل‪ُ ،‬اثبتوا»‪ ،‬أي اثبتوا على اإلسالم‪ .‬وقد‬

‫ذكرنا ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أ ّن الثبات على اإلسالم يكون‪ :‬بسؤال اهلل الثبات‪ ،‬وبالعلم‪ ،‬وبالعمل‪.‬‬
‫َح ِل الفطرة شاهدَ ِ‬
‫ت األشيا َء على‬ ‫الحق‪ ،‬فإذا لم َتست ِ‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل‪" :‬إ ّن اهلل َف َط َر عباده على ّ‬
‫ْ‬
‫منكرها و َعر َف ْت معروفها؛ قال عمر ﭬ‪" :‬الحق أبلج ال يخفى على َفطِن"‪ ،‬فإذا كانت‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫فأنكر ْ‬
‫َ‬ ‫ما هي عليه‪،‬‬

‫وانتفت عنها‬
‫ْ‬ ‫منور ًة بنور القرآن؛ تج َّل ْت لها األشياء على ما هي عليه يف تلك المزايا‪،‬‬
‫الفطرة مستقيم ًة على الحقيقة َّ‬

‫األمور عيانًا مع غيبها عن غيرها"‪ ،‬قال‪" :‬ويف السنن والمسند وغيره؛ عن النواس بن‬ ‫ِ‬
‫فرأت‬ ‫ظلمات الجهاالت؛‬
‫َ‬
‫مستقيما؛ وعلى جنَبَتَي الصراط ُسوران؛‬
‫ً‬ ‫مثال صرا ًطا‬
‫سمعان عن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪« :‬ضرب اهلل ً‬

‫تور ُمرخاة‪ ،‬ودا ٍع يدعو على رأس الصراط‪ ،‬ودا ٍع يدعو من فوق‬
‫أبواب مفتّحة؛ وعلى األبواب ُس ٌ‬
‫ٌ‬ ‫السورين‬
‫ويف ُّ‬
‫المفتَّحة‪ :‬محارم اهلل‪ ،‬فإذا أراد‬
‫المرخاة‪ :‬حدود اهلل‪ ،‬واألبواب ُ‬
‫والستور ُ‬
‫الصراط؛ والصراط المستقيم‪ :‬هو اإلسالم‪ُّ ،‬‬
‫العبد أن َيفتح با ًبا من تلك األبواب ناداه المنادي‪ :‬يا عبد اهلل! ال تفتحه؛ فإنك إ ْن فتحته َتلِ ْج ُه‪ ،‬والداعي على رأس‬

‫الصراط‪ :‬كتاب اهلل‪ ،‬والداعي فوق الصراط‪ :‬واعظ اهلل يف قلب ِّ‬
‫كل مؤمن»؛ فقد ب َّين يف هذا الحديث العظيم ‪-‬الذي‬

‫َمن عرفه انتفع به انتفاعًا بالغًا إن ساعده التوفيق‪ ،‬واستغنى به عن علوم كثيرة‪ -‬أ ّن يف قلب ِّ‬
‫كل مؤمن واع ًظا" اهـ‪.‬‬

‫وتمسك بالقرآن والسنة َتنجلي لك األمور‪.‬‬


‫َّ‬ ‫أمر عظيم‪ُ ،‬اثبت‬
‫وهذا ٌ‬

‫‪90‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫مكتوب بين عينيه كافر يقرأها‬


‫ٌ‬ ‫مر معنا كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل يف الحديث‪« :‬أ ّن الدجال‬
‫ولذلك؛ ّ‬
‫ٍ‬
‫مؤمن قارئ وغير قارئ»‪ ،‬أ ّن المؤمن تنجلي له األشياء ويتب َّين له ما ال يتب َّين لغيره‪ ،‬الدجال مع عظيم فتنته وما‬ ‫ُّ‬
‫كل‬

‫أمر عظيم‪.‬‬
‫مكتوب بين عينيه وأنه كافر‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫معه من مخاريق؛ المؤمن يتب َّين له ما هو‬

‫الضابط الحادي عشر‪ :‬ال تُنازع النصوص بما تريد‪ ،‬واجعل ما تريد على وفق النصوص‪.‬‬

‫ممن َيتساقطون يف الفتن ال ُيس ِّلمون للنصوص‪ ،‬وإن ظهر منهم تد ُّين؛ بل ير ُّدون النصوص ُ‬
‫لمراداهتم‪،‬‬ ‫كثير َّ‬
‫ٌ‬
‫لخيَ َرةُمِن َأ ِ‬
‫مر ِهم‬ ‫وقد قال اهلل ‪-‬عز وجل‪ ﴿ :-‬وما كَا َن لِمؤمِن و َال مؤمِن ٍَة إِ َذا َق َضى ٱهلل ورسو ُل ۥهّٓ َأمرا َأن ي ُكو َن َلهم ا ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ََ ُ ُ ً‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫هلل َو َر ُسو َل ُۥه َف َقد َض َّل َضالال ُّمبِينا ﴾[األحزاب‪ ،]٣٦ :‬وقال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ ﴿ :-‬ف َال َو َربِّ َك َال ُيؤمِنُو َن‬
‫صا َ‬‫َو َمن َيع ِ‬

‫جدُ و ْا فِ ٓي َأن ُف ِس ِهم َح َرجا ِّم َّما َق َض َ‬


‫يت َو ُي َس ِّل ُمو ْا َتسلِيما ﴾[النساء‪.]٦٥ :‬‬ ‫يما َش َج َر َبينَ ُهم ُث َّم َال َي ِ‬‫حتَّى يح ِّكم َ ِ‬
‫وك ف َ‬ ‫َ ٰ ُ َ ُ‬
‫استبانت له سنة رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬لم يكن له أن‬
‫ْ‬ ‫وقال اإلمام الشافعي‪" :‬أجمع الناس على أ ّن َمن‬

‫أحد ِمن الناس"‪.‬‬


‫يدَ عها لقول ٍ‬
‫َ َ‬

‫الضابط الثاين عشر‪ :‬اِحــذر ال ُف ْرقة‪ ،‬والْــزم الجماعة‪.‬‬

‫ت اهللِ َع َل ْيك ُْم إِ ْذ ُكنْت ُْم َأ ْعدَ ا ًء َفأَلَّفَ َب ْي َن ُق ُلوبِك ُْم‬


‫قال تعالى ﴿ َوا ْعت َِص ُموا بِ َح ْب ِل اهللِ َج ِمي ًعا َو َال َت َف َّر ُقوا َوا ْذك ُُروا نِ ْع َم َ‬

‫اهلل لَك ُْم َآياتِ ِه لَ َع َّلك ُْم ت َْهتَدُ و َن ﴾ آل‬ ‫َّار َفأَ ْن َق َذك ُْم ِمن َْها ك ََذلِ َ‬
‫ك ُي َب ِّي ُن ُ‬ ‫َفأَ ْص َب ْحت ُْم بِن ِ ْع َمتِ ِه إِخْ َوانًا َو ُكنْت ُْم َع َلى َش َفا ُح ْف َرةٍ ِم َن الن ِ‬

‫عمران ‪103‬‬

‫وكنت‬
‫ُ‬ ‫وروى مسلم عن حذيفة بن اليمان قال‪" :‬كان الناس يسألون رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عن الخير‬
‫ٍ‬
‫جاهلية وشر‪ ،‬فجاءنا اهلل هبذا الخير؛ فهل بعد‬ ‫أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل! إنّا كنا يف‬

‫‪91‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الشر مِن خير؟ قال‪« :‬نعم؛ وفيه َد َخن»‪ُ ،‬‬


‫قلت‪ :‬وما َد َخنُه؟‬ ‫قلت‪ :‬وهل بعد ذلك ّ‬
‫شر؟ قال‪« :‬نعم»‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬
‫هذا الخير من ّ‬
‫شر؟ قال‪« :‬نعم‪ ،‬دعا ٌة على‬ ‫ِ‬ ‫ف منهم و ُتنْكِر»‪ُ ،‬‬
‫قال‪« :‬قو ٌم َيهدون بغير هديي‪َ ،‬ت ْع ِر ُ‬
‫قلت‪ :‬فهل بعد ذلك الخير من ّ‬
‫قلت‪ :‬يا رسول اهلل! ِص ْفهم لنا‪ ،‬فقال‪« :‬هم مِن ِج ْلدتنا و َيتكلمون‬
‫أبواب جهنم‪َ ،‬من أجاهبم إليها قذفوه فيها»‪ُ ،‬‬

‫قلت‪ :‬فما تأمرين إن أدركني ذلك؟ قال‪َ « :‬تلزَ م جماعة المسلمين وإمامهم»‪ُ ،‬‬
‫قلت‪ :‬فإن لم يكن لهم‬ ‫بألسنتنا»‪ُ ،‬‬
‫ْتزل تلك ِ‬
‫الفرق كلها؛ ولو أن َت َع ّض بأصل شجرة‪ ،‬حتى يدركك الموت وأنت على‬ ‫جماع ٌة وال إمام؟ قال‪« :‬فاع ِ‬

‫ذلك» ‪.‬‬
‫‪18‬‬

‫والشر والعذاب‪ ،‬والْــزَم العدل والخير والرحمة‪.‬‬


‫َّ‬ ‫الضابط الثالث عشر‪َّ :‬إيــاك والظُّلم‬

‫ظالما‪ ،‬واحذر ما فيه ظلم‪ ،‬وإياك والشر‪ ،‬واحذر ما فيه شر‪ ،‬وإياك والعذاب‪،‬‬
‫ً‬ ‫إياك والظلم‪ ،‬إياك أن تكون‬

‫واحذر ما فيه عذاب‪ ،‬والزم العدل وأهله‪ ،‬والخير وأهله‪ ،‬والرحمة وأهلها؛ فإ ّن الخير والعدل تكون عندهما‬

‫الشريعة‪.‬‬

‫خرجت‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫مسألة‬ ‫ومصالح كلها‪ ،‬وحكم ٌة كلها‪ ،‬فكل‬ ‫يقول ابن القيم رحمه اهلل‪" :‬الشريعة ٌ‬
‫عدل كلها‪ ،‬ورحم ٌة كلها‪،‬‬
‫ُ‬

‫فليست‬
‫ْ‬ ‫المفسدة‪ ،‬ومِن الحكمة إلى ال َع َبث؛‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الجور‪ ،‬ومن الرحمة إلى ضدِّ ها‪ ،‬ومن المصلحة إلى َ‬
‫ِ‬
‫من العدل إلى َ‬
‫‪19‬‬ ‫ٍ‬
‫شيء وإن ُأ ْد ِخ َل ْت فيها بتأويل" ‪.‬‬ ‫مِن الشريعة يف‬

‫جاءت إال بالعدل‪ ،‬فإذا جاءتك فتنة سرتى فيها الظلم؛ فاحذرها‪ ،‬سرتى فيها الشر لك وللمسلمين؛‬
‫ْ‬ ‫الشريعة ما‬

‫فاحذرها‪ ،‬سرتى فيها العذاب لك وللمؤمنين؛ فاحذرها‪ ،‬والزم جانب العدل‪ ،‬والزم جانب الخير‪ ،‬والزم جانب‬

‫الرحمة‪ ،‬ففيه الشريعة والمصلحة‪.‬‬

‫النبوةيف اإلسالم‪.‬ومسلم(‪ )1847‬فيكتاب‪:‬اإلمارة‪ ،‬ابب‪:‬وجومبالزمةمجاعةاملسلمينعندظهورالفنت‪.‬‬


‫(‪)18‬أخرجه البخاري(‪ )3602‬يف كتاب‪ :‬املناقب‪،‬ابب‪ :‬عالمات َّ‬
‫(‪)19‬إعالماملوقعني‪.)13/3( :‬‬

‫‪92‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫الضابط الرابع عشر‪ :‬ال تتط َّلب الفتن‪ ،‬واستعذ باهلل من شرها‪.‬‬

‫مر معنا أ ّن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ -‬أ َم َرنا‬


‫أعني؛ ال تتط َّلب الفتن بقلبك‪ ،‬واستعذ باهلل من شرها‪ .‬كما َّ‬
‫باالستعاذة مِن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال‪ ،‬وكان النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يستعيذ باهلل‬

‫من الفتن‪.‬‬

‫الضابط الخامس عشر‪ :‬ال تَغتر بزخرفة الفتن‪ ،‬وانظر إلى حقيقتها ببصيرة المؤمن‪.‬‬

‫جمل العروس؛ حتى َت ُروج بين الناس‪ ،‬حتى َي ُظ ّن الناظر إليها‬


‫جملوهنا كما ُت َّ‬
‫فإ ّن أهل الفتن ُيزخرفوهنا و ُي ِّ‬
‫النظر َة ال َعجلى أهنا الخير كله‪ ،‬وفيها الشر كله‪ ،‬فال َتغرت هبا‪ ،‬وانظر إليها ببصيرة المؤمن‪.‬‬

‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل‪" :‬الدجال َأك َْذب َخ ْلق اهلل؛ مع أ ّن اهلل ُيجري على َيديه ً‬
‫أمورا هائل ًة و َمخاريق‬
‫زلزلة؛ حتى أ ّن َمن رآه افتَتن به‪ ،‬ف َيكش ُفها اهلل للمؤمن؛ حتى َيعتقد ك َِذ َبها وبطالهنا"؛ الدجال معه ما ُي ِ‬
‫زخرف فتنته‬ ‫ُم ِ‬

‫مر معنا‪ -‬لك ّن المؤمن الذي ينظر إليه ببصيرة المؤمن؛ ينكشف له حال الدجال‪.‬‬
‫‪-‬كما َّ‬
‫ٍ‬
‫وقال شيخ اإلسالم يف قاعدة شريفة ‪-‬يا إخوة؛ اسمعوها وانتبهوا لها‪" :-‬قد ا َّتفق أهل المعرفة والتَّحقيق أ ّن َّ‬
‫الرجل‬

‫لو طار يف الهواء‪ ،‬أو مشى على الماء‪ ،‬لم ُيتَّبع إال أن يكون مواف ًقا ألمر اهلل ورسوله"؛ الرجل لو رأيناه يطير يف‬

‫الهواء أو َيسير على الماء ال نتَّبعه لذلك؛ إال إذا رأيناه مواف ًقا ألمر اهلل وأمر رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫فالناس الذين يأتون ويقولون‪ :‬هؤالء أهل بركة‪ ،‬أهل خير‪ ،‬مشت سيارهتم بدون بنزين‪ ،‬وضعوا الماء مشت‬

‫السيارة‪ ،‬هؤالء أهل كرامات نتّبعهم! هذه ليست قاعدة أهل السنة والجماعة يف هذا الباب‪.‬‬

‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل‪ " :‬قد ا َّتفق أهل المعرفة والتَّحقيق أ ّن ّ‬
‫الرجل لو طار يف الهواء‪ ،‬أو مشى‬

‫تأثيرا فا َّتبَعه يف خالف‬ ‫على الماء‪ ،‬لم ُيتَّبع إال أن يكون مواف ًقا ألمر اهلل ورسوله‪ ،‬و َمن رأى مِن َر ُج ٍل ُم َ‬
‫كاشف ًة أو ً‬
‫الكتاب والسنة؛ كان مِن جنس أتباع الدجال؛ فإ ّن الدجال يقول للسماء‪ :‬أمطري؛ فتُمطِر‪ ،‬ويقول لألرض‪ :‬أنبتي؛‬

‫‪93‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫رجال ثم يأمره أن يقوم فيقوم‪،‬‬ ‫ِ‬


‫فتخرج معه كنوز الذهب والفضة‪ ،‬و َيقتل ً‬ ‫للخ ِر َبة‪ :‬أخرجي كنوزك؛‬
‫فتُنبِت‪ ،‬ويقول َ‬

‫كافر ملعون" اهـ‪.‬‬


‫‪20‬‬
‫وهو مع هذا ٌ‬
‫يتقربون إلى الشيطان بمخالفة السنة؛ قد َيغ ُُّر الشيطا ُن‬
‫وقد ذكر شيخ اإلسالم رحمه اهلل يف ضمن الكالم‪ :‬أ ّن َمن َّ‬
‫يصب له‬
‫ُّ‬ ‫الناس هبم؛ فيطير بالواحد منهم‪ ،‬والذي طار الشيطان به‪ ،‬قال‪" :‬وقد َي ُ‬
‫جعل الماء له يف اإلناء من الهواء"؛‬ ‫َ‬

‫الماء و ُيخيَّل للناس أ ّن الماء مِن الهواء؛ مِن أجل أن َيغرتّ الناس هبذه البدعة أو هبذا الشر؛ فيقعوا يف هذا الشر‪.‬‬

‫ولذلك يا إخوة؛ أهل السنة والجماعة يؤمنون بكرامات أهل اإليمان‪ ،‬بكرامات أولياء اهلل ويذكرون لها ضوابط؛‬

‫أهم الضوابط‪ :‬أن يكون صاحب هذا األمر مواف ًقا للكتاب والسنة‪ ،‬أ ّما إذا كان يخالف الكتاب والسنة ويقول هذه‬
‫ِ‬
‫مخاريق الشيطان‪ ،‬هذا ضابط عند أهل السنة والجماعة‪َ :‬من ا َّدعى خارقا إن كان موافقا للكتاب‬ ‫كرامة؛ هذه من‬

‫والسنة؛ فهذا مِن كرامات األولياء‪.‬‬

‫استدراجا‪ ،‬و َيحرص على أن‬


‫ً‬ ‫الولي الصالح ال يدَّ عي الكرامة؛ بل يخاف منها‪ ،‬يخاف أن تكون‬
‫ّ‬ ‫مع العلم أ ّن‬

‫ليست دعوى‪ -‬نَعلم أ ّن هذه مِن‬


‫َيسرتها‪ ،‬وإن كان الذي يدَّعي على خالف الكتاب والسنة لو رأيناه بأ ّم أعيننا ‪ْ -‬‬

‫مخاريق الشيطان‪ ،‬وال يكون ذلك سببًا ال ِّتباعه‪.‬‬

‫الضابط السادس عشر‪ :‬اِحــذر الغلو‪ ،‬والــزم االعتدال‪.‬‬

‫ٍ‬
‫شيء شر‪ ،‬واالعتدال خير‪ ،‬قال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال َق ْصدَ ال َق ْصدَ َتبلغوا» رواه‬ ‫فإ ّن الغلو يف ِّ‬
‫كل‬

‫البخاري ومسلم‪ .‬وقال النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :-‬إياكم والغُلو‪ ،‬فإنما َأ ْه َل َك َمن َقبْ َلكم الغُلو» رواه اإلمام‬

‫وصححه النووي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أحمد‪ ،‬وابن ماجه‪،‬‬

‫(‪)20‬الفتاوى الكربى‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫غلو فاحذرهم والزم‬


‫رأيت قو ًما أهل ٍّ‬
‫أمر يحتاج إلى بسط؛ لكن هذا يكفي‪ :‬احذر الغلو والزم االعتدال‪ .‬فإذا َ‬
‫وهذا ٌ‬

‫االعتدال‪ .‬واالعتدال إنما َتح َّقق يف أهل السنة؛ فأهل السنة أهل وسط بين الغالة ُ‬
‫والجفاة‪.‬‬

‫الضابط السابع عشر‪ :‬اِحـــذر العقوق‪ ،‬وأ ِّد الحقوق‪.‬‬

‫َ‬
‫الحقوق بأنواعها؛‬ ‫عاق‪ ،‬فأ ِّد‬ ‫الحق‪ُّ ،‬‬
‫فكل َمن قطع ح ًّقا عليه فهو ّ‬ ‫ال ُعقوق‪ :‬هو َق ْط ُع ّ‬

‫حق اهلل؛ وأصله‪ :‬التوحيد‪ ،‬وا ّتباع ما جاء يف الوحي‪.‬‬


‫‪ ‬رأسها‪ُّ :‬‬

‫عرض عنه مِن أجل غيره‪ ،‬مِن‬


‫حق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم؛ ومِن ح ِّقه‪ :‬أن تتَّبعه وال ُت ِ‬
‫‪ ‬وأ ِّد َّ‬

‫فر ْح َت هبا ولو قال ُ‬


‫شيخك خالفها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫جاءت السنة ِ‬ ‫ح ِّقه‪ :‬أن تتَّبعه؛ فإذا‬
‫ٍ‬
‫طاعة يف غير‬ ‫حقوق ُوالة األمر؛ مِن العلماء والح َّكام‪ ،‬فتؤ ِّدي ّ‬
‫حق والة األمر فيما لهم من‬ ‫ِ‬ ‫‪ ‬ومنه أداء‬

‫معصية اهلل‪.‬‬

‫وإ ّياك أن َتقطع الحقوق؛ فإ ّن قطع الحقوق مِن أعظم أسباب الوقوع يف الفتن بأنواعها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عاوضة؛ إ ْن ُأحسن َأحسنت! ال؛ وإنما اجعل أداءك للحقوق عباد ًة َّ‬
‫تتقرب هبا إلى اهلل‪.‬‬ ‫للحقوق ُم َ‬ ‫َ‬
‫أداءك‬ ‫وال َتجعل‬

‫قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا‪،‬‬


‫ْ‬ ‫أرأيت إن‬
‫َ‬ ‫وقد قام ٌ‬
‫رجل ‪-‬كما يف الصحيح‪ -‬وقال‪ :‬يارسول اهلل!‬

‫فأعرض عنه‪ ،‬فسأله الثالثة‪ ،‬فقال‪« :‬اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما ُح ِّملوا‬
‫فأعرض عنه‪ ،‬فسأله الثانية‪َ ،‬‬
‫فما تأمرنا؟ َ‬
‫ٌ‬
‫مسئول بين يدي اهلل‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫والكل‬ ‫أنت عليك ما ُح ِّملت من أداء الحقوق‪ ،‬وعليهم ما ُح ِّملوا‪،‬‬
‫وعليكم ما ُح ِّملتم»؛ َ‬

‫فمن أعظم الضوابط يف الفتن‪ :‬أن تحرص على أداء الحقوق وأن تحذر العقوق‪.‬‬

‫الضابط الذي َأختم به ‪-‬وقد ّ‬


‫مر معنا‪:-‬‬

‫‪95‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫ف َّ‬
‫الحق بأصله وأثره‪.‬‬ ‫الضابط الثامن عشر‪ :‬اِحذر ِقصر النَّظر‪ ،‬واعرِ ِ‬
‫َ َ‬

‫الحق ال يكون ح ًّقا إال إذا كان ح ًّقا يف أصله ح ًّقا يف أثره"‪ .‬فيكون ح ًّقا يف أصله وح ًّقا يف‬
‫ُّ‬ ‫فالعلماء يقولون‪":‬‬

‫أثره؛ فال َينت ُُج عنه إال خير‪.‬‬

‫حق يف أصله؛ لكنه ال يكون ح ًّقا حتى يكون ح ًّقا يف أثره ً‬


‫أيضا‪.‬‬ ‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ٌّ‬

‫َ‬
‫إنكارك عليه باطل وليس‬ ‫مسلما؛‬
‫ً‬ ‫أنكرت عليه َتع َل ُم مِن حاله أنه َيذهب فيقتل‬
‫َ‬ ‫رجال َيشرب الخمر لو‬
‫وجدت ً‬
‫َ‬ ‫فلو‬

‫ح ًّقا‪.‬‬

‫مروا بقو ٍم مِن الترت يشربون الخمر‪ ،‬قال‪:‬‬


‫وأنتم تعرفون قصة شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ $‬مع أصحابه؛ عندما ّ‬
‫أنكرت عليهم لذهبوا ُيقتِّلون‬
‫َ‬ ‫فأنكرت على الذي َأنْكر" ّ‬
‫فلما قيل له‪ ،‬قال‪" :‬إنك لو‬ ‫ُ‬ ‫فأنكر عليهم بعض أصحابي‬
‫" َ‬
‫رجال يقرأ يف كتب‬
‫ً‬ ‫رأيت‬
‫َ‬ ‫المسلمين و َينتهكون أعراضهم"‪ .‬وذكر شيخ اإلسالم ابن القيم رحمه اهلل‪ :‬أنك لو‬

‫أنكرت عليه َلذهب يقرأ يف كتب الشبهات والكفر؛ فإنه ال يجوز لك أن ُتنكِر‬
‫َ‬ ‫وعلمت منه أنك لو‬
‫َ‬ ‫مثال‬
‫الشهوات ً‬

‫الحق ال يكون ح ًّقا إال إذا كان ح ًّقا يف أصله ح ًّقا يف أثره‪.‬‬
‫عليه‪ .‬إذن يا إخوة؛ ُّ‬

‫حق آخر إذا كان يرت َّتب عليه َمفسدة‪.‬‬


‫الحق إلى ٍّ‬ ‫كل ما علِمتَه تقوله؛ بل حتى َت َّ‬
‫تبصر فيه؛ ما أثره؟ وقد ُيرتَك ّ‬ ‫وليس ُّ‬

‫رأيت قو ًما‬
‫َ‬ ‫جمع‪ ،‬وال تكن سي ًفا َيقطع"‪ ،‬إذا‬
‫حبال َي َ‬
‫الحق ً‬
‫ِّ‬ ‫ولذلك؛ مِن األمور العظيمة قول بعضهم‪" :‬كُن يف‬

‫حبال يزيدهم اجتماعًا‪ ،‬وإياك أن تكون سي ًفا بلسانك ُيق ِّطعهم‪ .‬نعم؛‬ ‫ِ‬
‫مجتمعين على السنة فاحرص على أن تكون ً‬

‫فرق أهل السنة و ُيق ِّطعهم و ُيمزِّ قهم فال ُت ِشعه حتى َترجع إلى العلماء و َيتبيَّن لك الخير‪.‬‬
‫قد َتع َل ُم ح ًّقا لكن إذا كان ُي ِّ‬

‫طويت بعض التفصيالت لرغبتي يف أن أذكر ما أتمكن منه من‬


‫ُ‬ ‫هناك ضوابط أخرى َيضيق الوقت عن َسردِها‪ ،‬وقد‬

‫َبسط فيها هذا األمر‪ ،‬لعظيم فائدته وعظيم أثره‪.‬‬


‫هذه الضوابط‪ .‬ونسأل اهلل عز وجل أن ييسر لنا محاضرة ن ُ‬

‫‪96‬‬
‫‪‬‬ ‫شرح كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيح مسلم‬ ‫‪‬‬
‫‪‬وسائإلصالحالمجتمعودرالشباببهذاالواجب‬

‫اجتهدت فيها على ما‬


‫ُ‬ ‫دروس عقدناها يف مسجد حبيبنا ورسولنا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قد‬
‫ٌ‬ ‫وبعدُ أيها اإلخوة؛ فهذه‬

‫حرصت فيها على المراجعة لكالم أهل التحقيق‪ ،‬وقد َأر ِجع يف درس اليوم الواحد‬
‫ُ‬ ‫ُيربئ ِّ‬
‫الذمة و َينفع األ َّمة‪ ،‬وقد‬

‫ٍ‬
‫كتاب أو أكثر؛ رغب ًة يف أن ال نقول يف المجلس إال ح ًّقا‪ ،‬ينتفع به السامع و َمن وراءه‪.‬‬ ‫إلى ما يزيد عن مئة‬

‫ولمن َيسمع دروسنا األجر والثواب‪ ،‬وأن َيجعل يف ذلك‬


‫ولمن حضر معنا َ‬
‫ونسأل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن َيكتب لنا َ‬
‫عظيما لنا‪ ،‬وأسأل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يجزي َمن تسبَّب يف هذه الدروس خير الجزاء‪ ،‬وأسأل اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫ً‬ ‫نف ًعا‬

‫أن يجزي القائمين على شؤون المسجد النبوي خير الجزاء على ما كان لهم مِن فض ٍل ‪-‬بعد فضل اهلل سبحانه‬

‫تفرقنا‬
‫وتعالى‪ -‬يف إقامة هذه الدروس‪ ،‬وأسأل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يجعل اجتماعنا اجتماعًا مرحو ًما وأن َيجعل ُّ‬
‫تفر ًقا معصو ًما‪ .‬واهلل أعلم‪ .‬وصلى اهلل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‬
‫بعده ّ‬

‫‪‬‬

‫‪97‬‬

You might also like