Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 230

1

2
3
4
‫مقّد مة‬
‫ه ذا الكت اب يض م بني دفتي ه حماض رات يف «علم البي ان» ألقيته ا على طلب ة الص ف‬
‫الثاين يف قسم اللغة العربية وآداهبا جبامعة بريوت العربية‪.‬‬
‫والقسم األول من هذه احملاضرات يعاجل تاريخ علم البيان ويتابع نشأته وتطوره يف‬
‫العصور املختلفة ‪ ،‬أي منذ بدأت مباحثه يف صورة مالحظات بالغية حىت صارت علما‬
‫واضح املعامل قائما بذاته على يد عبد القاهر اجلرجاين والزخمشري والسكاكي ومن بع دهم‬
‫من رجال البالغة‪.‬‬
‫وق د حرص نا يف ه ذا الع رض الت ارخيي على التعري ف بعلم اء البالغ ة وأعم اهلم ‪،‬‬
‫مس لطني الض وء بوج ه خ اص على م ا ورد يف كتبهم متص ال بفن ون علم البي ان موض وع‬
‫حبنن ا‪ .‬ك ذلك حرص نا على بي ان منه اج ك ل منهم يف حبث ة وم دى ت أثره مبن قبل ه وت أثريه‬
‫فيمن بع ده ‪ ،‬م ع اإلش ارة إىل من أّدت مس امهته منهم يف ه ذا املي دان إىل هنض ة البالغ ة‬
‫العربية أو مجودها‪.‬‬
‫أما القسم الثاين من احملاضرات فدراسة مفص لة حتليلية تعززها النماذج والشواهد‬
‫لفنون علم البيان من التشبيه ‪ ،‬واحلقيقة واجملاز بأنواعه ‪ ،‬والكناية‪.‬‬
‫واهلل أسأل أن ينفع هبذه احملاضرات مبقدار اجلهد الذي بذل فيها‪.‬‬
‫املؤلف‬

‫‪5‬‬
6
‫نشأة علم البيان وتطّو ره‬
‫ـ ‪ 1‬ـ ترتبط «البالغة العربية» يف األذهان عند ذكرها بعلومها الثالثة املعروفة لنا‬
‫اليوم وهي ‪ :‬علم املعاين ‪ ،‬وعلم البيان ‪ ،‬وعلم البديع‪.‬‬
‫وقد يتبادر إىل بعض األذهان أّن هذه العلوم الثالثة البالغية قد نشأ كل واحد منها‬
‫مستقال عن اآلخر مبباحثه ونظرياته ‪ ،‬ولكن الواقع غري ذلك‪.‬‬
‫ف الواقع أّن البالغ ة العربي ة ق د م ّر ت بت اريخ طوي ل من التط ور ح ىت انتهت إىل م ا‬
‫انتهت إليه ‪ ،‬وكانت مباحث علومها خمتلطا بعضها ببعض منذ نشأة الكالم عنها يف كتب‬
‫السابقني األولني من علماء العربية ‪ ،‬وكانوا يطلقون عليها «البيان»‪.‬‬
‫وقد أخذت املالحظات البيانات تنشأ عند العرب منذ العصر اجلاهلي ‪ّ ،‬مث مضت‬
‫هذه املالحظات تنمو بعد ظهور اإلسالم ألسباب شىّت ‪ ،‬منها حتضر العرب ‪ ،‬واستقرارهم‬
‫يف املدن واألقط ار املفتوح ة ‪ ،‬وهنض تهم العقلي ة ‪ّ ،‬مث اجلدل الش ديد ال ذي ق ام بني الف رق‬
‫الدينية املختلفة‬

‫‪7‬‬
‫يف شؤون العقيدة والسياسة‪ .‬فكان طبيعيا لذلك كله أن تكثر املالحظات البيانية والنقدية‬
‫تل ك ال يت نلتقي هبا يف ت راجم بعض الش عراء اجلاهليني واإلس الميني يف كت اب مث ل كت اب‬
‫األغاين‪.‬‬
‫وإذا انتقلن ا إىل العص ر العباس ي فإنن ا جند باإلض افة إىل منو املالحظ ات البالغي ة‬
‫حماوالت أولية لتدوين هذه املالحظات وتسجيلها ‪ ،‬كما هو الشأن يف كتب اجلاحظ ‪،‬‬
‫وخباص ة كت اب «البي ان والتب يني»‪ .‬وق د أّدى إىل ه ذه النقل ة اجلدي دة عوام ل منه ا تط ور‬
‫الشعر والنثر بتأثري احلضارة العباسية ‪ ،‬ورقي احلياة العقلية فيها ‪ ،‬ومنها ظهور طائفتني من‬
‫العلماء املعلمني عنيتا بشؤون اللغة والبيان ‪ ،‬إحدامها طائفة حمافظة هي طائفة اللغويني ‪،‬‬
‫وهؤالء كانوا يعلمون رواية األدب وأصوله اللغوية والنحوية ‪ ،‬وكان اهتمامهم بالشعر‬
‫اجلاهلي واإلسالمي أكثر من اهتمامهم بالشعر العباسي ‪ ،‬وقد هداهم البحث يف أساليب‬
‫الشعر القدمي من ناحيتيها اللغوية والنحوية إىل استنباط بعض اخلصائص األسلوبية على حنو‬
‫م ا جند يف كت اب س يبويه من مث ل كالم ه عن التق دمي والت أخري ‪ ،‬واحلذف وال ذكر ‪،‬‬
‫والتعريف والتنكري ‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫كذلك نلتقي بكتاب «معاين القرآن» للفّر اء «‪‍ 207‬ه» ‪ ،‬والذي يعىن فيه بالتأويل‬
‫وتص وير خص ائص بعض ال رتاكيب ‪ ،‬واإلش ارة إىل م ا يف آي ال ذكر احلكيم من الص ور‬
‫البيانية‪.‬‬
‫ّمث نلتقي بكتاب «جماز القرآن» أليب عبيدة معمر بن املثىن «‪‍ 211‬ه» الذي كان‬
‫معاص را للف راء ‪ ،‬وه ذا الكت اب ال يبحث يف جماز الق رآن من اجلانب البالغي ‪ ،‬وإمّن ا ه و‬
‫حبث يف تأوي ل بعض اآلي ات القرآني ة ‪ ،‬وأب و عبي دة ه ذا ه و أّو ل من تكلم بلف ظ اجملاز ‪،‬‬
‫كما ذكر ابن تيمية يف كتابه «اإلميان» ولكنه مل يتكّلم عن اجملاز الذي هو قسيم احلقيقة ‪،‬‬
‫وإمّن ا اجملاز‬

‫‪8‬‬
‫عنده يع ين بيان املع ىن‪ .‬وم ع ه ذا فق د وردت يف كتابه «جماز الق رآن» إشارات إىل بعض‬
‫األساليب البيانية كالتشبيه واالستعارة والكناية ‪ ،‬وبعض خصائص التعبري النحوية اليت هلا‬
‫دالالت معنوية من مثل الذكر واحلذف وااللتفات والتقدمي والتأخري‪.‬‬
‫ومع ما اهتدى إليه كل من الفراء وأيب عبيدة من السمات واخلصائص البيانية فإّن‬
‫م دلوالهتا البالغي ة مل تتبل ور وحتدد يف ذهن أي منهم ا أو أي من اللغ ويني والنح اة‬
‫املعاصرين هلما‪.‬‬
‫أما طائفة العلماء املعلمني األخرى اليت ظهرت يف العصر العباسي فهي طائفة علماء‬
‫الكالم ويف طليعتهم املعتزل ة ال ذين ك انوا ي دربون تالمي ذهم على فن ون اخلطاب ة واجلدل‬
‫والبحث واملن اظرة يف املوض وعات املتص لة بفك رهم االع تزايل‪ .‬وك ان ه ذا الت دريب يعم ق‬
‫وميتد حىت يشمل الكالم وصناعته وقيمته البالغية واجلمالية‪.‬‬
‫وق د حف ظ لن ا كت اب البي ان والتب يني للجاح ظ ق درا كب ريا من مالحظ ات املعتزل ة‬
‫املتصلة بالبالغة العربية ‪ ،‬وهذه قد استقوها من مصدرين مها ‪ :‬التقاليد العربية ‪ ،‬والثقافات‬
‫األجنبية اليت شاعت يف عصرهم واطلعوا عليها‪ .‬فالثقافات األجنبية اليت أخذوا أنفسهم‬
‫بدراس تها وتعّم ق وا يف فلس فتها ومنطقه ا ق د ع ادت عليهم بفائ دتني هلم ا أثرمها يف ش ؤون‬
‫البالغة ‪ :‬فائدة عقلية حبتة مصدرها دراسة الفلسفة اإلغريقية اليت نظمت عقوهلم تنظيما‬
‫دقيقا أعاهنم على استنباط القضايا البالغية ‪ ،‬وفائدة أخرى ترجع إىل طلبهم معرفة ما يف‬
‫ثقافات األمم األخرى اليت وصلت إليهم من قواعد البالغة والبيان‪.‬‬
‫ويتض ح ذل ك حني جند اجلاح ظ املع تزيل ي ورد يف كتاب ه البي ان والتب يني تع اريف‬
‫اليونان والفرس واهلند للبالغة وهذا يعين أّن املعتزلة‬

‫‪9‬‬
‫أخذوا يضيفون إىل مالحظات العرب اخلاصة يف البالغة مالحظات األمم األجنبية وخاصة‬
‫اليون ان ‪ ،‬ومض وا من خالل ذل ك ينف ذون إىل وض ع املق دمات األوىل لقواع د البالغ ة‬
‫العربية‪.‬‬
‫وأّو ل معتزيل خطا خطوة ملحوظة يف هذا السبيل هو رئيس املعتزلة ببغداد بشر بن‬
‫املعتمر املتوىف سنة ‪ 210‬للهجرة ‪ ،‬فعنه نقل اجلاحظ صفحات نثر فيها بشر مالحظات‬
‫دقيق ة يف البالغ ة ‪ ،‬تلقفه ا من ج اء بع ده من العلم اء ‪ ،‬واس تعانوا هبا على بل ورة بعض‬
‫أصول البالغة وقواعدها‪.‬‬
‫ولعّل أكرب معتزيل جاء بعد بشر بن املعتمر وأوىل البالغة العربية عناية فائقة هو أبو‬
‫عثمان عمرو بن حبر اجلاحظ املتوىف سنة ‪ 255‬للهجرة‪ .‬فقد أّلف يف البالغة كتابه «البيان‬
‫والتب يني» يف أربع ة جمل دات ض خام مجع فيه ا معظم م ا انتهى إىل عص ره من مالحظ ات‬
‫بالغية ‪ ،‬سواء ما اهتدى إليه علماء العربية بأنفسهم أو ما جاء إليهم منقوال عن آداب‬
‫الف رس واهلن د واليون ان وغ ريهم أو عن طري ق م ا قاله بشر (‪ )1‬بن املعتمر وك ان به س ابقا‬
‫لعص ره يف مي دان البالغ ة‪ .‬ه ذا باإلض افة إىل آراء اجلاح ظ ومالحظات ه اخلاص ة يف القض ايا‬
‫البالغية ‪ ،‬وال سيما ما يتصل بالتشبيهات واالستعارات واجملازات اليت هي موضوع «علم‬
‫البيان»‪.‬‬
‫وقد خطا اجلاحظ خطوة غري مسبوقة يف مالحظاته البالغية ‪ ،‬وذلك بالكالم عن‬
‫التشبيه واالستعارة عن طريق النماذج ‪ ،‬مع التفريق بينهما ‪ ،‬كما استعمل «املثل» مرادفا‬
‫للمج از ‪ ،‬وجعل ه مق ابال للحقيق ة ‪ ،‬وذل ك إذ يق ول عن د حديث ه عن «ن ار احلرب» (‪: )2‬‬
‫«ويذكرون نارا أخرى ‪ ،‬وهي على طريق‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب البيان والتبيني ج ‪ 1 :‬ص ‪.135 :‬‬
‫(‪ )2‬أي غري النار احلقيقية ‪ ،‬وهي اليت كان يوقدها العرب ليال على جبل إذا توقعوا جيشا عظيما يف حرب‬
‫وأرادوا االجتماع إلبالغ اخلرب إىل أصحاهبم‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫املثل ال على طريق احلقيقة‪ .‬قال ابن ميادة ‪:‬‬
‫وأخ رى ش ديد باألع ادي ض ريرها‬ ‫ي داه ي د تنه ّل ب اخلري والن دى‬
‫( ‪)1‬‬
‫وأخ رى يص يب اجملرمني س عريها»‬ ‫ون اراه ‪ :‬ن ار ن ار ك ل م دّفع‬
‫فاملثل املرادف عنده للمجاز قد استعمله مقابال للحقيقة ‪ ،‬وهبذا كان أّو ل من فطن‬
‫إلى تقس يم اللف ظ إلى حقيق ة ومج از‪ .‬وال شك أّن هذا ينفي ما زعمه ابن تيمية يف كتابه‬
‫«اإلميان» (‪ )2‬من أّن تقس يم اللف ظ إىل حقيق ة وجماز تقس يم ح ادث بع د الق رن الث الث‬
‫اهلجري‪.‬‬
‫ولع ّل خري من أفاد من مالحظات اجلاحظ البالغية وبىن عليها وطورها هو ضياء‬
‫ال دين بن األث ري املت وىف س نة ‪ 637‬للهج رة ‪ ،‬يف كتاب ه «املث ل الس ائر يف أدب الك اتب‬
‫والشاعر» ‪ ،‬كما سنرى فيما بعد‪.‬‬
‫وجمم ل الق ول يف اجلاح ظ من جه ة البالغ ة أّن ه أمّل يف كتب ه باألس اليب البياني ة من‬
‫تشبيه واستعارة وكناية وحقيقة وجماز ‪ ،‬ولكنه مل يوردها يف تعريفات اصطالحية ‪ ،‬وإمّن ا‬
‫جاء تعريفه هلا والداللة عليها عن طريق األمثلة والنماذج ال عن طريق القواعد البالغية‪.‬‬
‫واملقارنة بينه وبني من تقدموه يف هذا امليدان تظهر أّنه كان بال شك أقدرهم على‬
‫إدراك أسرار البالغة ‪ ،‬وأكثرهم اهتداء عن طريق النماذج إىل شىت العناصر أو األساليب‬
‫البيانية اليت عرفت وح ّد دت فيما بعد ‪ ،‬وأصبحت تؤلف مباحث البالغة وموضوعاهتا‪.‬‬
‫وهلذا فهو يعّد حبق مؤسس‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب احليوان للجاحظ ج ‪ .5 :‬ص ‪ 133‬الضرير ‪ :‬الشدة والبأس‪ .‬الكل بفتح الكاف ‪ :‬من يعوله غريه‬
‫‪ ،‬أو اليتيم‪ .‬املدفع بفتح الدال وتشديد الفاء ‪ :‬الفقري الذليل‪.‬‬
‫(‪ )2‬اإلميان‪ .‬ص ‪.34‬‬

‫‪11‬‬
‫البالغة العربية األول ‪ ،‬ومعّبد الطريق أمام من أتى بعده من رجاهلا‪.‬‬
‫ّمث ج اء من بع ده مت أثرا خط اه وإن مل يكن معتزلي ا (‪ )1‬مثل ه ابن قتيب ة ال دينوري «‬
‫‪‍ 276‬ه» ففي كتابه «تأويل مشكل القرآن» يتح ّد ث أوال عن إعجاز القرآن كرد على‬
‫الطاعنني يف أسلوبه ‪ ،‬جهال منهم بأساليب البيان العريب ‪ّ ،‬مث ينتقل من ذلك إىل احلديث‬
‫املبوب عن موضوعات «علم البيان» من حقيقة وجماز وتشبيه واستعارة وكناية‪.‬‬
‫وبعد ابن قتيبة يأيت معاصره أبو العباس املربد «‪‍ 285‬ه» بكتابه «الكامل» الذي‬
‫جيمع بني الشعر والنثر ‪ ،‬ويع ّد من كتب اللغة املمهدة للمعاجم مبا تضمنه من تفسري كل‬
‫ما يقع يف نصوصه من كالم غريب أو معىن مغلق‪.‬‬
‫ومع أّن «الكامل» يف األصل كتاب لغة فإّن املربد تعرض فيه عند شرح النصوص‬
‫األدبي ة لبعض موض وعات البي ان مث ل اجملاز واالس تعارة والكناي ة والتش بيه ال ذي توس ع يف‬
‫حبثه وقسمه إىل أربعة أقسام ‪ :‬تشبيه مفرط ‪ ،‬وتشبيه مصيب ‪ ،‬وتشبيه مقارب ‪ ،‬وتشبيه‬
‫بعي د‪ .‬وق د اس توحى ه ذا التقس يم مما كتب ه اجلاح ظ عن التش بيه دون أن يض يف ه و إلي ه‬
‫جديدا من عنده‪.‬‬
‫***‬
‫وأّو ل كتاب يلقانا من كتب علماء الكالم الذين اهتموا باملباحث البالغية من أجل‬
‫تفسري اإلعجاز البالغي للقرآن هو كتاب «النكت يف‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬هو أبو حممد عبد اهلل بن مسلم بن قتيبة الكويف املولد ‪ ،‬ومسي الدينوري ألّنه كان قاضي الدينور‪ .‬وكان‬
‫ألهل السنة مثل اجلاحظ للمعتزلة ‪ ،‬فإّنه خطيب أهل السنة ‪ ،‬كما كان احلاحظ خطيب املعتزلة‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫إعجاز القرآن» للرماين املعتزيل «‪‍ 386‬ه»‪.‬‬
‫وقد حتّد ث الرماين فيه عن البالغة وجعلها يف عشرة أبواب يعنينا منها هنا اثنان من‬
‫أبواب «علم البيان» ‪ ،‬مها التشبيه واالستعارة‪ .‬أّم ا التشبيه فقد قّس مه إىل حسي وعقلي ‪،‬‬
‫ّمث فّص ل الق ول يف العقلي من ه تفص يال أف اد من ه فيم ا بع د عب د الق اهر اجلرج اين يف كت اب‬
‫«أسرار البالغة»‪ .‬وكذلك توسع يف الكالم عن االستعارة مبينا قيمتها البيانية ‪ ،‬وأهّن ا أبلغ‬
‫يف الداللة على املعىن من احلقيقة‪ .‬وكل ما قاله الرماين عن االستعارة كان رصيدا جديدا‬
‫انتفع به أيضا فيما بعد عبد القاهر وغريه من البالغيني إىل حد كبري‪.‬‬
‫وكتاب «النكت يف إعجاز القرآن» مبشتمالته ومضمونه واجلديد فيه له أثر واضح‬
‫يف تاريخ البالغة العربية ‪ ،‬فقد عّر ف فيه بعض ألواهنا تعريفا هنائيا ‪ ،‬ومّي ز أقسامها وأفاض‬
‫يف شرحها‪.‬‬
‫***‬
‫تلك نبذة عن مسائل «علم البيان» اليت وردت يف كتب بعض املتكلمني ممن عنوا‬
‫بدراس ة بالغ ة الق رآن وأس رار إعج ازه‪ .‬وباإلض افة إلى ذل ك ظه رت في الق رن الراب ع‬
‫الهج ري دراس ات نقدي ة على أس س بالغي ة تع ّر ض فيه ا أص حاهبا إىل مب احث من علم‬
‫البيان‪.‬‬

‫كتاب الموازنة ‪:‬‬


‫من ه ذه الدراس ات النقدي ة على أس س بالغي ة كت اب «املوازن ة بني أيب متام‬
‫والبحرتي» أليب القاسم احلسن بن بشر اآلمدي البصري املتوىف سنة ‪ 370‬للهجرة‪.‬‬
‫والكتاب كما يدل عليه امسه موازنة بني شعر شاعرين ‪ ،‬أو موازنة‬

‫‪13‬‬
‫بني مذهبني يف الشعر متقابلني من حيث صنع الشعر ونقده‪ .‬واملذهب األول هو مذهب‬
‫أيب عب ادة البح رتي ودع اة البالغ ة العربي ة «ممن يفض لون س هل الكالم وقريب ه ‪ ،‬وي ؤثرون‬
‫صحة السبك ‪ ،‬وحسن العبارة ‪ ،‬وحلو اللفظ ‪ ،‬وكثرة املاء والرونق» (‪ .)1‬واملذهب الثاين‬
‫ه و م ذهب أيب متام وأص حابه ممن «مييل ون إىل الص نعة ‪ ،‬واملع اين الغامض ة ال يت تس تخرج‬
‫بالغوص والفكرة ‪ ،‬وال تلوي على غري ذلك» (‪.)2‬‬
‫ومنه اج اآلم دي يف املوازن ة أال يفص ح بتفض يل أح د الش اعرين على اآلخ ر ‪ ،‬وإمّن ا‬
‫يعرض بالنقد حلجج املتعصبني لكل منهما ‪ّ ،‬مث يقارن بني قصيدتني من شعرمها إذا اّتفقتا‬
‫يف ال وزن والقافي ة وإع راب القافي ة ‪ ،‬وبني مع ىن ومع ىن ‪ ،‬م ع بي ان أيهم ا أش عر يف تل ك‬
‫القصيدة ‪ ،‬ويف ذلك املعىن ‪ّ ،‬مث برتك احلكم حينئذ للقارىء على مجلة ما لكل واحد منهما‬
‫‪ ،‬إذا أحاط علما باجليد والرديء (‪ .)3‬فاملوازنة يف الواقع دراسة تطبيقية للصورة واحملسنات‬
‫يف شعر الشاعرين‪.‬‬
‫وليس يعنينا من املوازنة هنا إاّل ما جاء فيها متصال بعلم البيان ‪ ،‬وهو الباب الذي‬
‫عق ده اآلم دي ملا عيب من االس تعارة عن د أيب متام ‪ ،‬فه و يف ه ذا الب اب ي ذكر الق بيح من‬
‫استعارات أيب متام ‪ ،‬ومص در هذا القبح يف نظره هو غل ّو أيب متام وإغراقه يف استعاراته ‪،‬‬
‫ويق ول ‪« :‬إّن لالس تعارة ح دا تص لح في ه ‪ ،‬ف إذا جاوزت ه فس دت وقبحت»‪ّ .‬مث يش ري إىل‬
‫االستعارة إشارات عامة من غري حتديد هلا كقوله ‪« :‬وإمّن ا استعارت العرب املعىن ملا ليس‬
‫له إذا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬املوازنة ‪ :‬ص ‪ 4‬ـ ‪.5‬‬
‫(‪ )2‬نفس املرجع ص ‪.5 :‬‬
‫(‪ )3‬املوازنة ص ‪.5 :‬‬

‫‪14‬‬
‫كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه يف بعض أحواله ‪ ،‬أو كان سببا من أسبابه ‪ ،‬فتكون اللفظة‬
‫املستعارة حينئذ الئقة بالشيء الذي استعريت له ومالئمة ملعناه»‪.‬‬
‫وكان يعنينا من املوازنة أيضا باب آخر متصل بعلم البيان ذكره اآلمدي يف منهاج‬
‫حبث ه ‪ ،‬ولكن ه مفق ود من الكت اب ‪ ،‬وأع ين ب ه الب اب ال ذي أف رده ملا وق ع يف ش عر أيب متام‬
‫والبحرتي من التشبيه واملفاضلة بينهما فيه‪.‬‬
‫وإذا كان هدفنا األول من وراء هذا التمهيد هو تتبع فنون علم البيان منذ نشأهتا‬
‫ح ىت أص بحت علم ا مس تقال بذات ه ‪ ،‬ف إّن ذل ك ال مين ع من التعلي ق على رأي اآلم دي يف‬
‫االس تعارة ب أّن التمي يز بني االس تعارة اجلي دة واالس تعارة القبيح ة أم ر يرج ع إىل ال ذوق‬
‫املكتسب باملران والنظر يف أقوال الشعراء اجمليدين أكثر مما يرجع إىل القواعد اليت وضعها‬
‫لذلك علماء البيان‪.‬‬

‫كتاب الوساطة ‪:‬‬


‫ومن كتب الدراس ات النقدي ة على أس س بالغي ة كت اب «الوس اطة بني املتن يب‬
‫وخصومه» أليب احلسن علي بن عبد العزيز الشهري بالقاضي اجلرجاين ‪ ،‬املتوىف سنة ‪366‬‬
‫للهجرة‪.‬‬
‫ومع أّن الوساطة كتاب نقد أكثر منه كتاب بالغة ‪ ،‬فإّن اجلرجاين قد عاجل فيه‬
‫االستعارة بتوسع ‪ ،‬مفرقا بينها وبني التشبيه البليغ‪ .‬ويف حديثه عن االستعارة يقول ‪« :‬فأّم ا‬
‫االستعارة فهي أحد أعمدة الكالم ‪ ،‬وعليها املعول يف التوسع والتصرف ‪ ،‬وهبا يتوصل إىل‬
‫ت زيني اللف ظ ‪ ،‬وحتس ني النظم والن ثر ‪ ،‬وق د ق دمنا عن د ذكرن ا الب ديع نب ذا منه ا مثلن ا هبا‬
‫املستحسن واملستقبح ‪ ،‬وفصلنا بني املقتصد واملفرط‪ .‬وقد كانت الشعراء جتري على‬

‫‪15‬‬
‫هنج منها قريب من االقتصاد ‪ ،‬حىت اسرتسل فيها أبو متام ومال إىل الرخصة فأخرجه إىل‬
‫التع دي ‪ ،‬وتبع ه أك ثر احملدثني بع ده ‪ ،‬فوقف وا عن د م راتبهم من اإلحس ان واإلس اءة ‪،‬‬
‫والتقصري واإلصابة‪ .‬وأكثر هذا الصنف من الباب الذي قدمت لك القول فيه ‪ ،‬وأقمت‬
‫لك الشواهد عليه ‪ ،‬وأعلمتك أّنه مما مييز بقبول النفس ونفورها ‪ ،‬وينتقد بسكون القلب‬
‫ونب وه ‪ ،‬ورمبا متكنت احلجج من إظه ار بعض ه ‪ ،‬واهت دت إىل الكش ف عن ص وابه أو‬
‫غلطه» (‪.)1‬‬
‫ولعّلن ا ن درك من ه ذا الق ول أّن م رّد احلكم على ج ودة االس تعارة أو قبحه ا عن د‬
‫اجلرج اين ه و «قب ول النفس أو نفوره ا» وأّن ذل ك أك ثر من احلجج الدال ة على ج ودة‬
‫االستعارة أو قبحها ‪ ،‬فقد جيد الناقد حججا يستدل هبا على جودة االستعارة ‪ ،‬ومع ذلك‬
‫تنفر منها النفس ‪ ،‬أو جيد حججا يستدل هبا على قبح االستعارة ‪ ،‬ومع ذلك تقبل عليها‬
‫النفس‪.‬‬
‫وال ريب أّن ه يف ذل ك يلتقي م ع اآلم دي يف أّن احلكم على ج ودة االس تعارة أو‬
‫رداءهتا يرجع أكثر ما يرجع إىل الذوق الذي هو وليد املران والدربة وإطالة النظر والتأمل‬
‫يف أقوال الشعراء اجمليدين‪.‬‬

‫كتاب العمدة ‪:‬‬


‫ويف القرن اخلامس اهلجري نلتقي بأيب علي احلسن بن رشيق القريواين «‪‍ 456‬ه»‬
‫يف كتابه «العمدة» الذي يعّد أيضا من الدراسات النقدية على أسس بالغية‪.‬‬
‫وحيّد ثنا ابن رشيق يف مقدمة كتابه العمدة عن الدافع الذي حفزه‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الوساطة بني املتنيب وخصومه ص ‪ 319 :‬ـ ‪.320‬‬

‫‪16‬‬
‫على تصنيفه فيقول ‪ ....« :‬فقد وجدت الشعر أكرب علوم العرب ‪ ،‬وأوفر حظوظ األدب‬
‫‪ ،‬وأحرى أن تقبل شهادته ‪ ،‬وتتمثل إرادته ‪ ،‬لقول رسول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪« :‬إّن‬
‫من الشعر حلكما» وروي «حلكمة» ‪ ،‬وقول عمر بن اخلطاب رضي‌هللا‌عنه ‪« :‬نعم ما‬
‫تعلمت ه الع رب األبي ات من الش عر يق دمها الرج ل أم ام حاجت ه ‪ ،‬فيس تنزل هبا الك رمي‬
‫ويس تعطف هبا الل ئيم» ‪ ،‬م ع م ا للش عر من عظم املزي ة ‪ ،‬وش رف األبي ة ‪ ،‬وع ز األنف ة ‪،‬‬
‫وسلطان القدرة»‪.‬‬
‫«وجدت الناس خمتلفني فيه ‪ ،‬متخلفني عن كثري منه ‪ :‬يقدمون ويؤخرون ‪ ،‬ويقلون‬
‫ويكثرون ‪ ،‬قد بّو بوه أبوابا مبهمة ‪ ،‬ولقبوه ألقابا متهمة (‪ ، )1‬وكل واحد منهم قد ضرب‬
‫يف جهة ‪ ،‬وانتحل مذهبا هو فيه إمام نفسه ‪ ،‬وشاهد دعواه ‪ ،‬فجمعت أحسن ما قاله كل‬
‫واحد منهم يف كتابه ‪ ،‬ليكون «العمدة يف حماسن الشعر وآدابه» «إن شاء اهلل تعاىل»‪.‬‬
‫«وع ولت يف أك ثره على قرحية نفس ي ونتيج ة خ اطري خ وف التك رار ورج اء‬
‫االختصار ‪ ،‬إاّل ما تعلق باخلرب ‪ ،‬وضبطته الرواية ‪ ،‬فإّنه ال سبيل إىل تغيري شيء من لفظه‬
‫وال معناه ‪ ،‬ليؤتى باألمر على وجهه»‪.‬‬
‫«فك ل م ا مل أس نده إىل رج ل مع روف بامسه ‪ ،‬وال أحلت في ه على كت اب بعين ه ‪،‬‬
‫فهو من ذلك ‪ ،‬إاّل أن يكون متداوال بني العلماء ‪ ،‬ال خيتص به واحد منهم دون اآلخر ‪،‬‬
‫ورمبا حنلت ه أح د الع رب ‪ ،‬وبعض أه ل األدب ‪ ،‬تس رتا بينهم ‪ ،‬ووقوع ا دوهنم ‪ ،‬بع د أن‬
‫ق رنت ك ل ش كل بش كله ورددت ك ل ف رع إىل أص له ‪ ،‬وبينت للناش ىء املبت دىء وج ه‬
‫الصواب فيه ‪ ،‬وكشفت عنه لبس االرتياب به ‪ ،‬حىت أع ّر ف باطله من حقه وأميز كذبه‬
‫من صدقه» (‪.)2‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬متهمة بفتح اهلاء ‪ :‬مشكوك فيها‪.‬‬
‫(‪ )2‬كتاب العمدة ‪ :‬ج ‪ 1‬ص ‪ 4‬ـ ‪.5‬‬

‫‪17‬‬
‫تلك نبذة من مقدم ة كتاب «العمدة يف حماسن الشعر وآدابه» توضح غرض ابن‬
‫رشيق من وراء تصنيفه ‪ ،‬واملنهاج الذي رمسه لنفسه يف إخراجه ‪ ،‬مع بيان مقدار ما له‬
‫وما لغريه فيه‪.‬‬
‫وم ا دمن ا نتح دث عن نش أة علم البي ان واجله ود ال يت أس همت يف تط ويره من‬
‫مالحظات بيانية متناثرة هنا وهناك إىل علم بالغي قائم بذاته ‪ ،‬فإّن موضع اهتمامنا من‬
‫كتاب العمدة معّلق باألبواب اليت عرض فيها بشيء من التفصيل لفنون علم البيان ‪ ،‬من‬
‫جماز واستعارة وتشبيه وكناية‪.‬‬
‫حقا إّنه مجع حتت كل باب من هذه األبواب أقوال السابقني فيه وعرضها عرضا‬
‫حسنا ييسرها للطالبني ‪ ،‬وليس هذا اجلهد يف حد ذاته بقليل‪ .‬ولكن من احلق أيضا أّن له‬
‫إض افات جدي دة يف ه ذه األب واب ت دل على غ زارة علم ه ‪ ،‬ودّق ة فهم ه ‪ ،‬وس المة ذوق ه‬
‫األديب‪.‬‬

‫كتاب الصناعتين ‪:‬‬


‫ومن كتب الدراس ات النقدي ة ال يت ق امت على أس س بالغي ة ‪ ،‬وإن ك انت أك ثر‬
‫ختصصا من سابقتها كتاب «الصناعتني ـ الكتابة والشعر» أليب هالل احلسن بن عبد اهلل‬
‫بن سهل العسكري املتوىف سنة ‪ 395‬للهجرة‪.‬‬
‫ف أبو هالل يف كت اب الص ناعتني ي درس البالغ ة دراس ة دقيق ة هي م زيج من علم ه‬
‫اخلاص هبا وعلم من سبقوه إليها ‪ ،‬مع اإلكثار من األمثلة والشواهد‪.‬‬
‫وه و يع ين بالص ناعتني الكتاب ة والش عر ‪ ،‬فالكت اب ين ىبء من عنوان ه عن موض وعه‬
‫الذي يبحث حبثا مستفيض ا يف أص ول ه اتني الص ناعتني وأدواهتم ا اليت تتض افر على ص نع‬
‫الكاتب والشاعر‪.‬‬
‫والكتاب يشتمل على عشرة أبواب ‪ :‬باب يف اإلبانة عن موضوع‬

‫‪18‬‬
‫البالغة وحدودها ‪ ،‬وباب يف متييز جيد الكالم من رديئه ‪ ،‬وباب يف معرفة صنعة الكالم‬
‫وت رتيب األلف اظ ‪ ،‬وب اب يف البي ان عن حس ن النظم وج ودة الرص ف ‪ ،‬وب اب يف ذك ر‬
‫اإلجياز واإلطناب ‪ ،‬وباب يف حسن األخذ وحل املنظوم ‪ ،‬وباب يف التش بيه ‪ ،‬وباب يف‬
‫ذك ر االس جاع واالزدواج ‪ ،‬وب اب يف ش رح الب ديع ‪ ،‬وب اب يف ذك ر مب ادىء الكالم‬
‫ومقاطع ه‪ .‬وين درج حتت ك ل ب اب من ه ذه األب واب فص ول ت رتاوح من فص ل إىل مخس ة‬
‫وثالثني فصال‪.‬‬
‫ويف الباب األول الذي عقده أبو هالل لإلبانة عن موضوع البالغة وحدودها ين ّو ه‬
‫بشأن البالغة ‪ ،‬ويقرر أّن العلم هبا ضروري ملعرفة إعجاز القرآن الكرمي ‪ ،‬ولرتبية الذوق‬
‫األديب ‪ ،‬والتمييز بني جّيد الكالم ورديئه‪.‬‬
‫وأبو هالل ال خيفي تأثره باجلاحظ وإعجابه بكتابه البيان والتبيني ‪ ،‬واقتباسه الكثري‬
‫من ه ‪ ،‬ولكن ه م ع ذل ك يش ري إىل م ا يأخ ذه على منهج ه الت أليفي بقول ه ‪« :‬إّن اإلبان ة عن‬
‫حدود البالغة ‪ ،‬وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة يف تضاعيفه ‪ ،‬ومنتشرة يف أثنائه ‪ ،‬فهي‬
‫ض الة بني األمثل ة ال توج د إاّل بالتأم ل الطوي ل والتص فح الكث ري ‪ ،‬ف رأيت أن أعم ل كت ايب‬
‫هذا مشتمال على مجيع ما حيتاج إليه يف صنعة الكالم نثره ونظمه» (‪.)1‬‬
‫فه ذا املأخ ذ على منه اج اجلاح ظ الت أليفي ورغبت ه يف تالفي ه وعالج ه ك ان أح د‬
‫األسباب اليت دفعت أبا هالل على تأليف كتاب الصناعتني ‪ ،‬أّم ا األسباب األخرى فهي‬
‫معرفته بقيمة علم صناعة الكالم ‪ ،‬وشعوره بش ّد ة احلاجة إليه ‪ ،‬وختبط العلماء وختليطهم‬
‫فيم ا رام وا من ه ‪ّ ،‬مث قّل ة الكتب املص نفة في ه ‪ ،‬وال يت ك ان أكربه ا وأش هرها كت اب البي ان‬
‫والتبيني أليب عثمان عمرو بن حبر اجلاحظ‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب الصناعتني ص ‪.5 :‬‬

‫‪19‬‬
‫وقد صّر ح بأّنه مل يؤلف كتابه على طريقة املتكلمني ‪ ،‬وإمّن ا أّلفه على طريقة ص ّناع‬
‫الكالم من الشعراء والكتاب‪.‬‬
‫واملتصفح لكتاب الصناعتني يرى أّن املؤلف قد أمّل فيه تقريبا بكل مباحث علوم‬
‫البالغة الثالثة ‪ :‬املعاين والبيان والبديع ‪ ،‬ولكن مباحث كل علم ال تأيت يف موضع معني‬
‫من الكتاب ‪ ،‬وإمّن ا تأيت يف ثناياه وتضاعيفه على حسب مقتضيات املنهاج الذي رمسه أبو‬
‫هالل لنفسه يف تأليفه‪.‬‬
‫وملا كنا نعرض هنا بإجياز لتاريخ البيان وتطوره حىت صار علما قائما بذاته ‪ ،‬فإّن‬
‫ما يعنينا من كتاب الصناعتني هو معرفة ما ورد فيه من موضوعات علم البيان وطريق ة‬
‫املؤلف يف معاجلتها ‪ ،‬وهذه املوضوعات هي التشبيه ‪ ،‬واالستعارة ‪ ،‬والكناية‪.‬‬
‫وقد عقد أبو هالل للتشبيه يف كتابه بابا (‪ )1‬من فصلني ‪ ،‬حتّد ث يف أوهلما عن حد‬
‫التش بيه ‪ ،‬ووج وه التش بيه املختلف ة ‪ ،‬وأدوات التش بيه ‪ ،‬والطريق ة املس لوكة يف التش بيه ‪،‬‬
‫وإخراج ما ال يعرف بالبديهة إىل ما يعرف هبا ‪ ،‬وإخراج ما ال ق ّو ة له إىل ما له قوة ‪،‬‬
‫وتشبيه ما يرى بالعيان مبا ينال بالفكر ‪ ،‬وغريب التشبيه وبديعه ومليحه ‪ ،‬وشرف التشبيه‬
‫وموقعه من البالغة‪.‬‬
‫ويف الفص ل الث اين حتّد ث عن قبح التش بيه وعيوب ه ‪ ،‬مث ل خط أ التش بيه ‪ ،‬والتش بيه‬
‫الكريه ‪ ،‬والتشبيه الرديء اللفظ ‪ ،‬وبعيد التشبيه ‪ ،‬والتشبيه املتنافر‪.‬‬
‫أّم ا االستعارة فعقد هلا فصال (‪ )2‬تكّلم فيه عن ‪ :‬االستعارة واجملاز ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب الصناعتني ‪ :‬ص ‪ 238 :‬ـ ‪.259‬‬
‫(‪ )2‬كتاب الصناعتني ‪ :‬ص ‪ 268‬ـ ‪.288‬‬

‫‪20‬‬
‫والغرض من االستعارة ‪ ،‬واالستعارة املصيبة ووقعها ‪ ،‬وفضل االستعارة على احلقيقة ‪ ،‬وال‬
‫بّد لكل استعارة وجماز من حقيقة ‪ ،‬وال ب ّد من معىن مشرتك بني املستعار واملستعار منه ‪،‬‬
‫واالس تعارة أبل غ من احلقيق ة ‪ ،‬واالس تعارة يف كالم الع رب والن يب والص حابة واألع راب ‪،‬‬
‫واالستعارة يف أشعار املتقدمني ‪ ،‬ويف كالم احملدثني‪.‬‬
‫وقد ع ّد أبو هالل الكناية ضمن فنون البديع ‪ ،‬وعقد هلا فصال عّر فها فيه وذكر‬
‫مناذج من اجليد واملعيب منها ‪ ،‬مع أهّن ا من مباحث علم البيان ‪ ،‬وليس املهم إىل أي علوم‬
‫البالغة قد نسبها ‪ ،‬وإمّن ا املهم أّنه أتى على ذكرها يف كتابه‪.‬‬
‫وطريقت ه يف معاجلة ه ذه املوض وعات البياني ة ليس ت طريق ة ع امل البالغ ة املع ّين‬
‫بدقائقها وتفاصيلها ‪ ،‬وإمنا هي طريقة من ميزج البالغة باألدب والنقد ‪ ،‬وإذا القارىء أمام‬
‫م زيج ترت اح إلي ه نفس ه ‪ ،‬ويس تدرجه إىل االسرتس ال يف حتص يله طلب ا للمزي د من املتع ة‬
‫العقلية واألدبية‪.‬‬
‫***‬
‫وبعد فلعلنا أدركنا من ثنايا عرضنا التارخيي للبيان منذ نشأة البحث فيه حىت اآلن‬
‫كيف تطور على م ّر العصور ‪ ،‬وكيف تضافرت جهود الباحثني فيه تدرجييا على كشف‬
‫أص وله من تش بيه وحقيق ة وجماز واس تعارة وكناي ة ‪ ،‬وكي ف أخ ذت مع امل ه ذه األص ول‬
‫تتضح وتتالحق واحدة بعد األخرى‪.‬‬
‫وقد ظ ّل األمر كذلك حىت ظهر عبد القاهر اجلرجاين يف القرن اخلامس اهلجري‬
‫فاقتطف مثار هذه اجلهود واخّت ذ منها مادة استعان هبا يف وضع نظرية علم البيان‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫عبد القاهر الجرجاني ‪:‬‬
‫ه و أب و بك ر عب د الق اهر بن عب د ال رمحن اجلرج اين اإلم ام النح وي وأح د علم اء‬
‫الكالم على م ذهب األش اعرة‪ .‬ول د وع اش جبرج ان ومل يفارقه ا ح ىت ت ويف س نة ‪471‬‬
‫للهجرة ‪ ،‬وله مؤلفات فّيمة يف النحو والصرف والعروض ‪ ،‬وإعجاز القرآن ‪ ،‬والتفسري ‪،‬‬
‫والبالغة ‪ ،‬ولكنه اشتهر أكثر ما اشتهر بكتابه «أسرار البالغة» الذي وضع فيه نظرية علم‬
‫البيان ‪ ،‬وكتابه «دالئل اإلعجاز» الذي وضع فيه نظرية علم املعاين‪.‬‬
‫وه و هلذا يع ّد حبق واض ع أس س البالغ ة العربي ة واملش يد ألركاهنا ‪ ،‬واملوض ح‬
‫ملشكالهتا ‪ ،‬والذي على هنجه سار املؤلفون من بعده ‪ ،‬وأمتوا البنيان الذي وضع أسسه‪.‬‬
‫ومن العجيب أّن الضعف بدأ يدب إىل اللغة يف القرن اخلامس وهي يف أوج هنضتها‬
‫‪ ،‬وكان أّو ل مرض أمّل هبا يف هذا العصر هو الوقوف عند ظواهر قوانني النحو ‪ ،‬ومدلول‬
‫األلفاظ املفردة واجلمل املركبة ‪ ،‬واالنصراف عن معاين األساليب ‪ ،‬وعدم االهتمام مبناحي‬
‫القول ‪ ،‬وضروب التجوز والكناية فيه‪.‬‬
‫وك ان ذل ك م ا أش فق من ه عب د الق اهر على اللغ ة ‪ ،‬فعك ف على ت أليف «دالئ ل‬
‫اإلعج از» و «أس رار البالغ ة» الل ذين دّو ن فيهم ا علم البالغ ة ‪ ،‬ووض ع ق وانني للبي ان‬
‫واملع اين ‪ ،‬كم ا وض عت ق وانني النح و عن د ظه ور اخلط أ يف اإلع راب‪ .‬ومن مقدم ة كتاب ه‬
‫«أسرار البالغة» يشعر القارىء أّن مدرسة األلفاظ كانت قد حتكمت يف عصره وغّطت‬
‫على مدرسة املعاين ‪ ،‬ومن أجل ذلك حاول هو بكتابه تأييد املعاين وبيان أثرها ودورها‬
‫يف بالغة القول‪.‬‬
‫وعلى هذا فالذي يعنينا من كتبه فيما حنن بسبيله هنا هو كتاب‬

‫‪22‬‬
‫«أس رار البالغ ة» ال ذي وض ع في ه نظري ة علم البي ان بقواع ده وش عبه وتفريعات ه الكث رية‪.‬‬
‫واحلق يقال إّنه فريد يف بابه ‪ ،‬فهو حبث يف البيان العريب غري مسبوق وال ملحوق ‪ ،‬وإّنه‬
‫لي دل فيم ا ي دل على أملعي ة ص احبه ‪ ،‬وغ زارة علم ه ‪ ،‬وس المة ذوق ه ‪ ،‬وعقليت ه اجلب ارة‬
‫املبتكرة‪.‬‬
‫و «أسرار البالغة» باستثناء ما ورد فيه عن اجلناس ‪ ،‬والسجع ‪ ،‬واالتفاق يف األخذ‬
‫والس رقة عن د الش عراء ‪ ،‬ه و حبث أص يل عمي ق يف أص ول علم البي ان من حقيق ة وجماز ‪،‬‬
‫واستعارة ‪ ،‬وتشبيه‪ .‬وإذا كان مل يتكلم فيه عن الكناية ‪ ،‬فإّنه قد استوىف الكالم عنها يف‬
‫كتاب ه اآلخ ر «دالئ ل اإلعج از» ‪ ،‬كم ا ع رض في ه أيض ا لبعض ج وانب من االس تعارة ‪،‬‬
‫وللمج از احلكمي «العقلي» ال ذي اهت دى إلي ه بذوق ه الكالمي وع ّد ه ض ربا جدي دا من‬
‫اجملاز‪.‬‬
‫وعب د الق اهر ينظ ر إىل اجملاز واالس تعارة والتش بيه والكناي ة على أهّن ا عم د اإلعج از‬
‫وأركانه ‪ ،‬واألقطاب اليت تدور البالغة عليها‪ .‬وعنها يقول ‪:‬‬
‫«ومل يتعاط أحد من الناس القول يف اإلعجاز إاّل ذكرها ‪ ،‬وجعلها العمد واألركان‬
‫فيما يوجب الفضل واملزية ‪ ،‬وخصوصا االستعارة واجملاز ‪ ،‬فإّنك تراهم جيعلوهنما عنوان‬
‫ما يذكرون ‪ ،‬وأّو ل ما يوردون» (‪.)1‬‬
‫وليس من غرضنا هنا التوسع بعرض جممل آراء عبد القاهر يف مباحث علم البيان‬
‫فهذا أمر يطول شرحه ‪ ،‬وإن كّن ا سنعرض فيما بعد لبعض آرائه عند دراستنا التفصيلية‬
‫لفنون البيان من جماز واستعارة وتشبيه وكناية‪.‬‬
‫إمّن ا الغرض اآلن أن نبني املنهاج الذي رمسه لنفسه يف البحث‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر دالئل اإلعجاز‪ .‬ص ‪ 329 :‬ـ ‪.330‬‬

‫‪23‬‬
‫والذي يكاد يكون أّو ل منهاج علمي منظم يف البالغة ‪ّ ،‬مث نشفع ذلك بذكر اجلوانب اليت‬
‫تط رق لبحثه ا يف ك ل موض وع ‪ ،‬األم ر ال ذي ي دل على س عة علم ه وتفوق ه على غ ريه ‪،‬‬
‫وأخريا نشري بإجياز إىل طريقته يف التأليف‪.‬‬
‫أّم ا عن منهاجه يف البحث فاستمع إليه يعرضه يف كلماته ‪« :‬واعلم أّن الذي يوجبه‬
‫ظاهر األمر ‪ ،‬وما يسبق إليه الفكر ‪ :‬أن نبدأ جبملة من القول يف احلقيقة واجملاز ‪ ،‬ونتبع‬
‫ذلك القول يف التشبيه والتمثيل ‪ّ ،‬مث ننسق ذكر االستعارة عليهما ‪ ،‬ونأيت هبا يف أثرمها ‪،‬‬
‫وذل ك أّن اجملاز أعم من االس تعارة ‪ ،‬وال واجب يف قض ايا املراتب ‪ :‬أن نب دأ بالع ام قب ل‬
‫اخلاص‪ .‬والتش بيه كاألص ل يف االس تعارة ‪ ،‬وهي ش بيهة ب الفرع ل ه أو ص ورة مقتض بة من‬
‫صوره‪ .‬إاّل أّن ههنا أمورا اقتضت أن تقع البداية باالستعارة وبيان صدر منها ‪ ،‬والتنبيه‬
‫على طريق االنقسام فيها ‪ ،‬حىت إذا ع ّر ف بعض ما يكشف عن حاهلا ‪ ،‬ويقف على سعة‬
‫جماهلا ‪ ،‬عطف عنان الشرح إىل الفصلني اآلخرين ‪ ،‬فويّف حقوقهما ‪ ،‬وبنّي فروقهما ‪ّ ،‬مث‬
‫ننصرف إىل استقصاء القول يف االستعارة» (‪.)1‬‬
‫ذل ك ه و املنه اج ال ذي أخ ذ ب ه نفس ه ‪ ،‬ومجع في ه ألّو ل م رة مب احث علم البي ان‬
‫بعضها إىل بعض ‪ ،‬ورّتبها من حيث الكالم عنها ترتيبا منطقيا منظما ‪ ،‬يبدأ فيه بالعام قبل‬
‫اخلاص ‪ ،‬وباألصل يتلوه الفرع ‪ ،‬مع العناية بتوضيح ما بني التشبيه والتمثيل من فروق ‪،‬‬
‫وباستقصاء القول يف االستعارة‪.‬‬
‫أّم ا اجلوانب اليت تطرق لبحثها يف كل مبحث من مباحث علم البيان فال سبيل هنا‬
‫إىل سردها مجلة لكثرهتا ‪ ،‬ولكنا نكتفي بذكر طائفة منها‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أسرار البالغة ص ‪ 21 :‬ـ ‪.22‬‬

‫‪24‬‬
‫لبيان أمهيتها والداللة هبا على عقلية عبد القاهر اليت تنحو منحى االبتكار واإلبداع‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الحقيق ة والمج از ‪ :‬ح ّد ك ّل منهم ا ‪ ،‬اجملاز العقلي واللغ وي والف رق بينهم ا ‪،‬‬
‫معىن اجملاز وحقيقته ‪ ،‬وكونه أعم من االستعارة ‪ ،‬ومكان االستعارة منه ‪ ،‬تقسيم اجملاز إىل‬
‫لغوي وعقلي ‪ ،‬واللغوي إىل االستعارة ‪ ،‬واجملاز املرسل ‪ ،‬كون اجملاز العقلي يف اجلمل ال‬
‫املفردات ‪ ،‬احلذف والزيادة ‪ ،‬وهل مها من اجملاز أم ال‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التشبيه ‪ :‬التشبيه وأقسامه ‪ ،‬وجوه الشبه املنتزعة من شيء أو أشياء ‪ ،‬التشبيه‬
‫املتوق ف على دّق ة الفك ر ‪ ،‬التفص يل ل دقائق التش بيه املركب ‪ ،‬التش بيه يف اهليئ ة ال يت تق ع‬
‫عليها احلركات ‪ ،‬اجلمع بني الشكل وهيئة احلرك ة يف التشبيه ‪ ،‬قلب التشبيه ‪ ،‬القلب أو‬
‫العكس يف طرق التشبيه ‪ ،‬القياس يف التشبيه ‪ ،‬تشبيه احلقيقة واجملاز ‪ ،‬جعل الفرع أصال يف‬
‫التشبيه وعكسه ‪ ،‬تأثري اختالف اجلنس بني املشبه واملشبه به‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التمثيل ‪ :‬الفرق بني التشبيه والتمثيل ‪ :‬التشبيه عام والتمثيل أخص منه ‪ ،‬فكل‬
‫متثيل تشبيه ‪ ،‬وليس كل تشبيه متثيال ‪ ،‬وجوه الشبه يف مجل من التمثيل ‪ ،‬التمثيل يف املدح‬
‫والذم واحلجاج واالفتخار واالعتذار والوعظ ‪ ،‬الفرق بني تأثر الكالم يف التمثيل وعدمه ‪،‬‬
‫أسباب ق ّو ة تأثري التمثيل وعلله النفسية بسبب تأثري التمثيل يف ضربيه ‪ ،‬تعليل يف فلسفة‬
‫التمثيل ‪ ،‬جعل التمثيل الشيء كضده أو عدمه ‪ ،‬مآخذ التمثيل من املوجودات ‪ ،‬الفرق‬
‫بني التمثيل الدقيق والتعقيد‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ االستعارة ‪ :‬حدها ‪ ،‬أقسامها ‪ ،‬االستعارة املفيدة وأقسامها ‪ ،‬االستعارة املختلفة‬
‫اجلنس واألنواع ‪ ،‬االستعارة القريبة من احلقيقة ‪ ،‬التفرقة‬

‫‪25‬‬
‫بني نوعي االستعارة يف اجلنس ‪ ،‬وجه الشبه العقلي يف االستعارة ‪ ،‬االستعارة واملبالغة يف‬
‫التش بيه ‪ ،‬وق وع االس م مس تعارا حبس ب احلس وه و ليس ك ذلك ‪ ،‬بي ان أّن االس تعارة‬
‫ليس ت من التخيي ل ‪ ،‬بن اء االس تعارة والتخيي ل على تناس ي التش بيه ‪ ،‬الف رق بني التش بيه‬
‫واالستعارة‪.‬‬
‫ومن ج وانب االس تعارة األخ رى ال يت ذكره ا يف كتاب ه دالئ ل (‪ )1‬اإلعج از ‪ :‬ش رح‬
‫مع ىن االس تعارة ‪ ،‬االس تعارة التمثيلي ة ‪ ،‬فض ل االس تعارة والتمثي ل ‪ ،‬أمثل ة من ب ديع‬
‫االس تعارات ‪ ،‬املس تعار ه و مع ىن اللف ظ ال اللف ظ نفس ه ‪ ،‬ال يع ار اللف ظ إاّل بع د أن يع ار‬
‫املعىن‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ الكناي ة ‪ :‬تكّلم عب د الق اهر يف كتابه «دالئ ل (‪ )2‬اإلعج از» عن اجلوانب التالي ة‬
‫من الكناية ‪ :‬الكناية واالستعارة ‪ ،‬السبب يف قبح الكناية ‪ ،‬شعب الكناية وصورها ليس‬
‫هلا حد وال غاية ‪ ،‬يف الكناية إثبات يصحبه الربهان ‪ ،‬االستعارة والكناية واجملاز من عمد‬
‫البالغة وأركاهنا‪.‬‬
‫أّم ا الطريقة اليت سار عليها عبد القاهر يف تأليف كتابيه «أسرار البالغة» و «دالئل‬
‫اإلعجاز» وامتاز هبا على كتب البيان األخرى فهي طريقة جتمع بني العلم والعمل الذي‬
‫يثّبت به العلم‪.‬‬
‫أما العلم فيتمثل يف القواعد الكلية ‪ ،‬وأّم ا العمل فيتمثل يف األمثلة والشواهد‪ .‬فإذا‬
‫كانت القاعدة الكلية هي صورة إمجالية للمعلومات اجلزئية ‪ ،‬فإّن األمثلة والشواهد صور‬
‫تفصيلية هلا‪.‬‬
‫تلك هي طريقة عبد القاهر ‪ :‬يذكر القاعدة الكلية ّمث يردفها‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬دالئل اإلعجاز‪ .‬ص ‪ 45 :‬ـ ‪.49‬‬
‫(‪ )2‬انظر الدالئل ص ‪.330 ، 280 ، 272 ، 205 ، 176 ، 44 :‬‬

‫‪26‬‬
‫باألمثلة والشواهد اليت تفّص لها وتوضحها ‪ ،‬إدراكا منه بأّن التعليم النافع إمنا يكون بقرن‬
‫الصور املفصلة بالصورة اجململة ‪ ،‬إذ بالتفصيل تعرف املسائل ‪ ،‬وباإلمجال حتفظ يف العقل‪.‬‬
‫وهبذه الطريق ة امت از كتاب اه على كتب البالغ ة األخ رى ال يت اقتص رت على س رد‬
‫القواعد بعبارات اصطالحية تأباها بالغة األساليب العربية ‪ ،‬واليت ال تذكر من الشواهد‬
‫واألمثلة إاّل القليل النادر الذي أدىل به السابق إىل الالحق‪.‬‬

‫الزمخشري ‪:‬‬
‫ّمث ظه ر بع د عب د الق اهر اجلرج اين ع امل آخ ر ك ان ل ه أث ر كب ري يف مي دان البالغ ة‬
‫العربية وهنضتها‪.‬‬
‫ذل ك ه و الع امل املع تزيل ج ار اهلل حمم ود بن عم ر الزخمش ري املت وىف س نة ‪538‬‬
‫للهجرة ‪ ،‬والذي ضرب بسهم وافر يف علوم العربية والتفسري ‪ ،‬وله فيها املؤلفات القّيمة‬
‫اليت تشهد بفطنته وسعة علمه‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته اليت وصلت إلينا «املفصل» يف علم النحو ‪ ،‬و «مقات الزخمشري» يف‬
‫التص وف ‪ ،‬و «أس اس البالغ ة» وه و معجم لغ وي ي ورد في ه املع اين اللغوي ة للكلم ة ‪،‬‬
‫موضحا إياها يف عبارات ‪ ،‬ومردفا ذلك مبعانيها اجملازية ‪ ،‬ولكن أهم كتاب اشتهر به منذ‬
‫عصره هو «الكشاف» الذي ق ّد م فيه صورة رائعة لتفسري القرآن ‪ ،‬وأشاد به حىت أهل‬
‫السنة على الرغم من اعتزال مؤلفه‪.‬‬
‫واهتمام املعتزل ة بتفسري اإلعجاز البالغي للقرآن اهتمام قدمي ‪ ،‬فق د كتب فيه من‬
‫رج اهلم اجلاح ظ والرم اين وعب د اجلب ار املع تزيل ّمث الزخمش ري ال ذي أقب ل بش غف على‬
‫الدراسات البالغية وال سيما كتابات عبد القاهر‬

‫‪27‬‬
‫اجلرجاين يف «دالئل اإلعجاز» و «أسرار البالغة»‪.‬‬
‫أجل لقد تتلمذ على عبد القاهر يف هذين الكتابني وعمق يف فهمهما واستيعاهبما‬
‫إىل احلد ال ذي جعل ه ي ؤمن ب أّن املعرف ة بالبالغ ة وأس اليبها ال تكش ف فق ط عن وج وه‬
‫اإلعجاز البالغي يف القرآن ‪ ،‬بل تكشف أيضا عن خفايا معانيه وأسرارها‪.‬‬
‫ويف مقدم ة «الكش اف» يق رر أّن تفس ري الق رآن ال يكفي في ه أن يك ون املفس ر من‬
‫أئم ة الفق ه ‪ ،‬أو النح و ‪ ،‬أو اللغ ة ‪ ،‬أو علم الكالم ‪ ،‬أو القص ص واإلخب ار‪ .‬وإمّن ا ينبغي‬
‫فيمن يتصدى له أن يكون بارعا يف علمني خمتصني بالقرآن مها ‪ :‬علم املعاين ‪ ،‬وعلم البيان‬
‫‪ ،‬وه ذان ‪ ،‬يف نظ ره ‪ ،‬أهم ع ّد ة ملن يري د أن يفس ر الق رآن ‪ ،‬إذ ب دوهنما ال تس تقيم ل ه‬
‫الدالالت ‪ ،‬وال تتضح له اإلشارات ‪ ،‬وال لطائف ما يف الذكر احلكيم من اجلمال املعجز‬
‫الذي عنت له وجوه العرب وخروا له ساجدين‪.‬‬
‫إذن فالتفسري عنده ليس قاصرا على معرفة معاين القرآن فحسب ‪ ،‬وإمّن ا هو أيضا‬
‫بي ان ألس رار إعج ازه ‪ ،‬ب ل إّن معرف ة معاني ه ال تتم إاّل ملن ّمتت ل ه آل ة البالغ ة ‪ ،‬وع رف‬
‫وج وه األس اليب وخصائص ها املعنوي ة ‪ ،‬وأدرك األس باب املعين ة على متي يز ص ور الكالم‬
‫البيانية‪.‬‬
‫***‬
‫والذي يدرس بإمعان تفسري «الكشاف» خيرج منه حبقيقتني ‪ :‬إحدامها أّنه استوعب‬
‫ك ل م ا كتب ه عب د الق اهر يف «دالئ ل اإلعج از» و «أس رار البالغ ة» قب ل أن يش رع يف‬
‫تفسريه‪ .‬واحلقيقة الثانية أّن «الكشاف» هو يف الواقع خري تطبيق على كل ما اهتدى إليه‬
‫عب د الق اهر من قواع د املع اين والبي ان ‪ ،‬فق د اخّت ذ الزخمش ري من آي ال ذكر احلكيم أمثل ة‬
‫وشواهد يوضح‬

‫‪28‬‬
‫هبا كل قواعد عبد القاهر البالغية ‪ ،‬سواء ما اتصل منها بعلم املعاين أو علم البيان‪.‬‬
‫ومل تقف جهود الزخمشري يف البالغة عند حد تطبيق آراء عبد القاهر يف تفسريه‬
‫تطبيقا مستقصيا ‪ ،‬ولكنه وصل هذا التطبيق بكثري من آرائه اليت تدل على تعمقه ‪ ،‬وفطنته‬
‫يف تصوير الداللة البالغية ‪ ،‬وإحاطته خبواص العبارات واألساليب‪.‬‬
‫ولو أّنه اكتفى بذلك لكان حسبه مسامهة يف تطوير علمي املعاين والبيان ‪ ،‬ولكنا‬
‫ن راه يض يف إىل مب احث ه ذين العلمني م ا عّن ل ه من آراء ‪ ،‬ويس تكمل كث ريا من ش عبها‬
‫ودقائقها ومقاييسها‪.‬‬
‫وملا ك ان حبثن ا هن ا ه و يف احملل األول عن علم البي ان ‪ ،‬ف إّن اجلدي د ال ذي أض افه‬
‫الزخمش ري إىل مباحث ه كث ري‪ .‬وتتمث ل إض افاته إلي ه يف اس تكمال ص ور الكناي ة واالس تعارة‬
‫واجملاز املرسل واجملاز العقلي ‪ ،‬وإحكام وضع قواعدها إحكاما دقيقا‪ .‬وإذا كان عبد القاهر‬
‫ه و مؤس س علم املع اين وعلم البي ان ‪ ،‬وه و من اس تنبط من جزئي ات كال العلمني أك ثر‬
‫قواعده فإّن الزخمشري هو الذي أكمل قواعدمها ‪ ،‬وهي وإن جاءت مفرقة يف تضاعيف‬
‫تفسريه ‪ ،‬فإهّن ا دائما مقرونة بأمثلة من القرآن الكرمي توضحها وتكشف عن دقائقها‪.‬‬
‫وهك ذا مبنه اج عب د الق اهر ال ذي أمجلت أهم عناص ره آنف ا ‪ ،‬وبطريقت ه التعليمي ة‬
‫الواض حة ‪ ،‬وك ذلك بتط بيق الزخمش ري آلراء عب د الق اهر يف تفس ريه «الكش اف»‬
‫وباإلضافات اجلديدة اليت استكمل هبا قواعده ـ أقول بكل ذلك استطاع الرجالن أن يضعا‬
‫ويكمال قواعد علم املعاين وعلم البيان ‪ ،‬وكل ما هناك أّنه بقي من يستقصي هذه القواعد‬
‫عندمها وينظمها يف كتاب جيمع متفرقها ويضم منثورها‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫وك ان ذل ك العم ل على ي د الس كاكي ال ذي دخلت البالغ ة ب ه يف ط ور اجلم ود ‪،‬‬
‫كما سنرى‪.‬‬

‫السكاكي ‪:‬‬
‫هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن حممد السكاكي املتوىف سنة ‪ 626‬للهجرة‬
‫‪ ،‬اح رتف ص ناعة املع ادن ح ىت الثالثني من عم ره ‪ّ ،‬مث خط ر ل ه أن خيلص للعلم فتف ّر غ ل ه‬
‫وأكّب على دراسة الفلسفة واملنطق واالعتزال والفقه وأصوله ‪ ،‬وعلوم اللغة والبالغة حىت‬
‫أتقنها‪.‬‬
‫وللسكاكي مؤلفات خمتلفة ‪ ،‬منها كتاب «مفتاح العلوم» الذي يع ّد أهم كتبه ‪،‬‬
‫وق د قّس مه ثالث ة أقس ام رئيس ية ‪ ،‬خص األول منه ا بعلم الص رف واالش تقاق بأنواع ه ‪،‬‬
‫والثاين بعلم النحو ‪ ،‬وخص القسم الثالث بعلم املعاين وعلم البيان وأحلق هبما مبحثا عن‬
‫البالغة والفصاحة ‪ ،‬وآخر عن احملسنات البديعية اللفظية منها واملعنوية‪.‬‬
‫وشهرة السكاكي العلمية ترجع يف الواقع إىل هذا القسم من كتابه الذي أعطى فيه‬
‫للمعاين والبيان والفصاحة والبالغة والبديع الصيغة النهائية اليت عكف عليها العلماء من‬
‫بعده يدرسوهنا ويشرحوهنا مرارا وتكرارا‪ .‬وما أعطاه لعلوم البالغة ليس ابتكارا خالصا له‬
‫‪ ،‬وإمّن ا هو تلخيص دقيق جيمع بني أفكاره اخلاصة وأفكار البالغيني من قبله‪.‬‬
‫وقد صاغ ذلك كله صياغة مضبوطة حمكمة بقدرته املنطقية يف التعليل والتجريد‬
‫والتعريف والتقسيم والتفريع والتشعيب‪ .‬وأهم الكتب اليت اعتمد عليها يف النهوض هبذا‬
‫العمل كتاب «هناية اإلجياز يف دراية اإلعجاز» للفخر الرازي املتوىف سنة ‪ 606‬للهجرة ‪،‬‬
‫وكتابا «دالئل‬

‫‪30‬‬
‫اإلعجاز» و «أسرار البالغة» لعبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬وكتاب «الكشاف» للزخمشري‪.‬‬
‫وقد سبقه الفخر الرازي إىل تلخيص كتايب عبد القاهر ‪ ،‬ولكن تلخيص السكاكي‬
‫أدق وأمشل‪ .‬واملقارنة بني التلخيص تظهر أّن السكاكي كان أكثر ضبطا وتنظيما للمسائل‬
‫‪ ،‬مع ترتيب املقدمات وإحكام القياس‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد خال تلخيصه من حتليالت عبد القاهر والزخمشري اليت تبهر القارىء‬
‫‪ ،‬وحتولت البالغ ة يف تلخيص ه إىل علم طغت في ه القواع د والق وانني على روح البي ان‬
‫وومض اته ال يت متت ع النفس‪ .‬وه و يف س بيل اس تنباط القواع د والق وانني ق د اس تخدم املنط ق‬
‫بأص وله وألفاظ ه وأس لوبه اجلاف ال ذي ال حيوي أي مجال‪ .‬وال عجب يف ذل ك فق د ك ان‬
‫مهه أن يقنن البالغة ويقّعدها كسائر العلوم األخرى ‪ ،‬وهذا أمر يستعان عليه باملنطق‪.‬‬
‫وما يعنينا هنا هو كالم السكاكي عن علم البيان ‪ ،‬وقد عرفه بقوله ‪« :‬إيراد املعىن‬
‫الواحد بطرق خمتلفة بالزيادة يف وضوح الداللة عليه»‪ .‬ويف مقدمة تلخيصه لقضايا علم‬
‫البيان تعرض للكالم عن الدالالت وكان يف كالمه عنها متأثرا برأي الفخر الرازي فيها‪.‬‬
‫وق د قس مها إىل الدالل ة الوض عية لأللف اظ ‪ ،‬والدالل ة العقلي ة أو االلتزامي ة ‪ ،‬وعن الدالل ة‬
‫األوىل يقول إّنه ال جيوز إرجاع الفصاحة والبالغة إىل الداللة اللفظية ‪ ،‬غري أّنه قد يالبسها‬
‫ما يفيد الكالم مجاال وزينة‪.‬‬
‫أّم ا الدالل ة العقلي ة أو االلتزامي ة فهي ال يت جتري يف الص ور البياني ة وهي ختتل ف عن‬
‫الداللة الوضعية‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫وه ذه الدالل ة العقلي ة أو االلتزامي ة إّم ا أن تك ون من ب اب دالل ة الالزم على امللزوم‬
‫كداللة كثرة الرماد على الكرم يف الكناية ‪ ،‬وإما من باب داللة امللزوم على الالزم ‪ ،‬أي‬
‫داللة املسبب على السبب كقوله تعاىل ‪َ( :‬و ُيَنِّزُل َلُك ْم ِم َن الَّس ماِء ِر ْز ق ًا) فالرزق ال ينزل‬
‫من السماء ولكن الذي ينزل مطر ينشأ عنه النبات الذي منه طعامنا ورزقنا ‪ ،‬فالرزق هو‬
‫املس بب أو املل زوم ال ذي دّل على الس بب أو الالزم ‪ ،‬وذل ك على حنو م ا ه و مع روف يف‬
‫اجملاز املرسل‪.‬‬
‫ّمث خيلص من هذه املقدمة اليت يغلب عليها أسلوب املنطق إىل أن علم البيان يتناول‬
‫التشبيه واجملاز والكناية‪.‬‬
‫ومباحث التشبيه عند السكاكي تتناول أربعة موضوعات هي ‪ :‬طرفاه ‪ ،‬ووجهه ‪،‬‬
‫والغرض منه ‪ ،‬وأحواله يف القرب والغرابة ‪ ،‬والقبول والرفض‪.‬‬
‫فطرفا التشبيه إما أن يدركا باحلس كتشبيه الوجه بالقمر ‪ ،‬وإما أن يدركا باخليال‬
‫كتش بيه ش قائق النعم ان (‪ )1‬على أغص اهنا ب أعالم ي اقوت على رم اح من زبرج د‪ .‬فالتش بيه‬
‫اخلي ايل ه و املع دوم ال ذي ف رض جمتمع ا من أم ور ك ل واح د منه ا ي درك ب احلس ‪ ،‬ف إّن‬
‫األعالم الياقوتية املنشورة على الرماح الزبرجدية مما ال يدرك باحلس ‪ ،‬ألّنه ال وجود هلا يف‬
‫ع امل الواق ع ‪ ،‬ولكن املادة ال يت ت ركب منه ا التش بيه ‪ ،‬أي األعالم والي اقوت والرم اح‬
‫والزبرجد كل منها حمسوس بالبصر‪ .‬وإما أن يدرك طرفا التشبيه بالوهم كما إذا قدرنا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬شقائق النعمان ‪ :‬نور وزهر أمحر ‪ ،‬أضيف إىل النعمان بن املنذر آخر ملوك احلرية ‪ ،‬ألّنه خرج مرة إىل‬
‫ظاهر احلرية فرأى هذا النوع من الزهر ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أحسنه! امحوه ‪ ،‬فكان أول من محاه فنسب إليه‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫صورة ومهية للموت وشبهناها باملخلب أو الناب ‪ ،‬وإما أن يدركا بالعقل كتشبيه العلم‬
‫باحلياة ‪ ،‬وإما أن يدركا بالوجدان كاللذة واألمل والشبع واجلوع‪ .‬وهذه تقسيمات للتشبيه‬
‫واستحدثها السكاكي متأثرا بكالم الفالسفة وعلماء الكالم يف صور اإلدراك‪.‬‬
‫***‬
‫وأقسام وجه الشبه عند السكاكي كثرية ‪:‬‬
‫فوجه الشبه عنده إّم ا أن يكون واحدا أو غري واحد ‪ ،‬وغري الواحد إما أن يكون يف‬
‫حكم الواحد لكونه هيئة مركبة أو ال يكون‪ .‬والواحد إما أن يكون حسيا أو عقليا ‪ ،‬وال‬
‫بد يف احلسي من أن يكون طرفاه حسيني‪.‬‬
‫أما وجه الشبه العقلي فيجري يف مجيع صور التشبيه ‪ ،‬فقد يكون طرفاه حسيني‪.‬‬
‫كتشبيه الشجاع باألسد يف اجلراءة ‪ ،‬وقد يكون طرفاه عقليني كتشبيه اجلهل باملوت يف‬
‫عدم النفع ‪ ،‬وقد يكون أحدمها حسيا واآلخر عقليا كتشبيه العلم بالنور يف النفع والفائدة‪.‬‬
‫وهك ذا ميض ي الس كاكي يف تقس يم وج ه الش به أقس اما أخ رى ق د نع رض هلا عن د‬
‫الكالم عن التشبيه تفصيليا‪.‬‬
‫***‬
‫ّمث يتحّد ث السكاكي عن أغراض التشبيه ‪ ،‬ويقسمها إىل ما يعود إىل املشبه أو إىل‬
‫املشبه به‪ .‬ويقسم األول إىل بيان حال ‪ ،‬وبيان مقدار حال ‪ ،‬وبيان إمكان حال ‪ ،‬وزيادة‬
‫تقرير حال ‪ ،‬وتزيني ‪ ،‬وتقبيح واستطراف‪.‬‬
‫أما األغراض اليت تعود إىل املشبه به فمرجعها إىل إيهام كونه أمت من املشبه يف وجه‬
‫الشبه ‪ ،‬أو بيان أّنه أهم عند مريد التشبيه‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫وال يفوته هنا أن يبدي رأيه يف التشبيه التمثيلي مقررا أّن وجه الشبه فيه ينبغي أن‬
‫يك ون مركب ا ‪ ،‬أي ص ورة منتزع ة من متع دد وأن يك ون ومهي ا اعتباري ا ‪ ،‬وه و يف ذل ك‬
‫خيالف عبد القاهر الذي يشرتط أن يكون وجه الشبه يف التشبيه التمثيلي مركبا وأن يكون‬
‫عقليا ‪ ،‬والعقلي عنده يشمل الومهي‪.‬‬
‫***‬
‫وعن أح وال التش بيه من حيث الق رب والغراب ة ‪ ،‬والقب ول وال رفض ‪ ،‬يس توحي‬
‫السكاكي يف ذلك رأي عبد القاهر ‪ ،‬فيقول ‪ :‬إن إدراك الشيء جممال أسهل من إدراكه‬
‫مفص ال ‪ ،‬وإّن حض ور م ا ي رتدد على احلس أق رب من حض ور م ا ال ي رتدد علي ه ‪ ،‬وإّن‬
‫الشيء مع ما يناسبه أقرب حضورا منه مع ما ال يناسبه ‪ ،‬وإّن استحضار األمر الواحد‬
‫أيسر من استحضار غري الواحد ‪ ،‬وإّن ميل النفس إىل احلسيات أمت من ميلها إىل العقليات‬
‫‪ ،‬وإّن النفس ملا تع رف أقب ل منه ا ملا ال تع رف ‪ ،‬وإّن اجلدي د املس تطرف عن دها أل ذ من‬
‫املعاد املكرر‪.‬‬
‫وعلى ضوء هذه األصول يقول ‪ :‬إّن من أسباب قرب التشبيه أن يكون وجهه أمرا‬
‫واحدا ‪ ،‬أو يكون املشبه به قريبا يف الصورة من املشبه ‪ ،‬أو يكون حاضرا يف اخليال جبهة‬
‫من اجلهات‪.‬‬
‫أّم ا غرابته فمن أسباهبا أن يكون وجه الشبه مركبا ‪ ،‬أو يكون املشبه به بعيد الشبه‬
‫عن املش به ‪ ،‬أو يك ون ومهي ا أو مركب ا عقلي ا‪ .‬أّم ا التش بيه املقب ول فاألص ل في ه أن يك ون‬
‫صحيحا ‪ ،‬وأاّل يكون مبتذال‪.‬‬
‫وكذلك يعرض السكاكي لصور التشبيه البليغ ‪ ،‬ويتابع عبد القاهر يف إدخال صور‬
‫التجريد املختلفة يف التشبيه كقولك عن صديق أنست حبديثه «وجدت يف حديثه نسمة‬
‫عطرة» فقد جردت من حديث الصديق‬

‫‪34‬‬
‫نسمة متصفة بالعطر كأهّن ا غريه ‪ ،‬مع أّن حديث الصديق هو هي‪ .‬وكقول الشاعر ‪:‬‬
‫أع انق غص ن الب ان من لني ق دها وأج ين ج ىن ال ورد من وجناهتا‬
‫فالشاعر هنا ج ّر د من ق ّد احلبيبة غصن بان لني ‪ ،‬ومن وجنتيها وردا‪ .‬فهو بدل أن‬
‫يعرب بالتشبيه الصريح فيقول ‪ :‬ق ّد احلبيبة كغصن البان لينا ‪ ،‬ووجناهتا كالورد ‪ ،‬عرّب عنه‬
‫بأسلوب التجريد الذي عّد ه السكاكي صورة من صور التشبيه‪.‬‬
‫وأخريا خيتم السكاكي كالمه عن التشبيه ذاكرا أّنه قد يشّبه الضد بضده على سبيل‬
‫التهكم ‪ ،‬كتشبيه اجلبان باألسد ‪ ،‬والبخيل حبامت مثال‪.‬‬
‫***‬
‫بع د ذل ك ينتق ل الس كاكي إىل احلديث عن اجملاز وجيره ذل ك أوال إىل تعري ف‬
‫احلقيقة بأهّن ا ‪« :‬الكلمة املستعملة فيما هي موضوعة له من غري تأويل يف الوضع» واحرتز‬
‫بقوله ‪« :‬من غري تأويل يف الوضع» حىت ال تدخل االستعارة‪.‬‬
‫ّمث خيلص من ذل ك إىل تعري ف اجملاز بأّن ه ‪« :‬الكلم ة املس تعملة يف غ ري م ا هي‬
‫موضوعة له بالتحقيق استعماال يف الغري بالنسبة إىل نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة‬
‫معناها يف ذلك النوع»‪.‬‬
‫وحيرتز بقيد «التحقيق» من خروج االستعارة ‪ ،‬وبقيد «استعماال يف الغري بالنسبة‬
‫إىل نوع حقيقتها» من استعمال الكلمة لغة أو شرعا أو عرفا ‪ ،‬وبقيد «مع قرينة مانعة عن‬
‫إرادة معناها» من الكناية‪.‬‬
‫ويفرق بني اجملاز واملشرتك اللغوي ‪ ،‬بأّن اجملاز يالحظ فيه املعىن‬

‫‪35‬‬
‫األصلي ‪ ،‬أّم ا املشرتك فيدل على املعنيني معا ‪ ،‬ويتخصص بالقرائن وهي داللة وضعية‪.‬‬
‫ومن تعري ف اجملاز ينتق ل إىل أقس امه ‪ ،‬فيقس مه قس مني أساس يني ‪ :‬جمازا لغوي ا يف‬
‫املفرد ‪ ،‬وجمازا عقليا يف اجلملة ّمث يف ّر ع هذين القسمني أقساما أخرى ‪ ،‬منها املفيد اخلايل‬
‫عن املبالغة يف التشبيه وهو اجملاز املرسل ‪ ،‬ومنها املفيد املتضمن للمبالغة يف التشبيه ‪ ،‬وهو‬
‫االستعارة ‪ ،‬وهي أن تذكر أحد طريف التشبيه وتريد به الطرف اآلخر مدعيا دخول املشبه‬
‫يف جنس املشبه به داال على ذلك بإثباتك للمشبه ما خيص املشبه به‪.‬‬
‫***‬
‫بع د ذل ك يأخ ذ الس كاكي يف تقس يم االس تعارة إىل تص رحيية وهي م ا ص ّر ح في ه‬
‫بلفظ املشبه به ‪ ،‬وإىل مكنية وهي ما ذكر فيها لفظ املشبه ‪ّ ،‬مث يقسمها إىل أصلية أو تبعية‬
‫‪ ،‬وإىل مرشحة أو جمردة‪.‬‬
‫وبع د الكالم مفص ال عن ك ل ن وع من أن واع االس تعارة ‪ ،‬يع ود إىل اس تيفاء بقي ة‬
‫أنواع اجملاز فيتكلم عن جماز احلذف من مثل «وجاء ربك» أي أمر ربك ‪ ،‬وجماز الزيادة‬
‫من مث ل «ليس كمثل ه ش يء» إذ زي دت الك اف يف اآلي ة ‪ ،‬واجملاز العقلي ‪ ،‬وه و إس ناد‬
‫الفع ل أو م ا يف معن اه إىل غ ري م ا ه و ل ه لعالق ة مانع ة من إرادة اإلس ناد احلقيقي ‪ ،‬كق ول‬
‫املتنيب يف وصف ملك الروم بعد هزمية سيف الدولة له ‪:‬‬
‫وق د ك ان ي أىب مش ي أش قر أج ردا‬ ‫وميش ي ب ه العك از يف ال دير تائب ا‬
‫فالفع ل «ميش ي» هن ا ق د أس ند إىل «العك از» أي إىل غ ري فاعل ه ‪ ،‬ألّن العك از ال‬
‫ميشي وإمّن ا الذي ميشي هو صاحب العكاز ‪ ،‬ولكن ملا كان‬

‫‪36‬‬
‫العكاز سببا يف املشي جاز إسناد الفعل إليه‪.‬‬
‫***‬
‫وأخريا ينتقل السكاكي إىل الكناية فيعّر فها بأهّن ا ‪« :‬ترك التصريح بذكر الشيء إىل‬
‫ذك ر م ا يلزم ه ‪ ،‬لينتق ل من املذكور إىل املرتوك»‪ .‬ويالح ظ أّن املرتوك ق د يك ون قريب ا‬
‫ظ اهرا ‪ ،‬وقد يكون بعيدا خفيا ‪ ،‬وهلذا قال إّن الكتاب ة تتف اوت من تع ريض إىل تلويح ‪،‬‬
‫ورمز ‪ ،‬وإحياء وإشارة‪.‬‬
‫ّمث يع رض إىل التفري ق بني الكناي ة واجملاز من وجهني ‪ :‬أح دمها أّن الكتاب ة ال تن ايف‬
‫إرادة احلقيقة بلفظها ‪ ،‬فاخلنساء عند ما ترثي أخاها صخرا «بأّنه كثري الرماد» كناية عن‬
‫جوده وكرمه ‪ ،‬فإّن هذه الكناية ال متنع من إرادة املعىن احلقيقي بأّن أخاها صخرا كثري‬
‫الرم اد حقيق ة ومن غ ري تأوي ل‪ .‬أّم ا اجملاز فيمن ع من إرادة املع ىن احلقيقي ‪ ،‬فال جيوز أن‬
‫يكون املراد من قولك ‪« :‬كلمت أس دا» األس د احلقيقي‪ .‬والوجه الثاين أّن الكناي ة بنيت‬
‫على االنتقال من الالزم إىل امللزوم على حني بين اجملاز على االنتقال من امللزوم إىل الالزم‪.‬‬
‫ويقس م الس كاكي الكناي ة حبس ب املراد منه ا إىل ثالث ة أقس ام ‪ :‬كناي ة عن ص فة ‪،‬‬
‫وكناية عن موصوف ‪ ،‬وكناية عن نسبة‪.‬‬
‫تلك خالصة ملا أورده السكاكي يف كتابه «مفتاح العلوم» عن مباحث علم البيان‬
‫اليت أكثر فيها من التقسيمات والتفريعات ‪ ،‬وخرج هبا من جو البالغة الواضحة السمحاء‬
‫إىل ميدان املنطق املعقد اجلاف‪.‬‬
‫***‬
‫وعلى طريق تتبعنا لنشأة علم البيان وتطوره نلتقي بعد السكاكي‬

‫‪37‬‬
‫بطائفة من علماء البالغة الذين احنرفوا يف دراستها عن طريقة السكاكي ‪ ،‬أو ساروا عليها‬
‫تلخيصا جملهوده فيها‪.‬‬
‫***‬

‫ابن مالك ‪:‬‬


‫ومن أولئ ك العلم اء ب در ال دين بن مال ك املت وىف س نة ‪ 686‬للهج رة ‪ ،‬وص احب‬
‫كت اب «املص باح يف عل وم املع اين والبي ان والب ديع» ‪ ،‬وكتاب ه ه ذا ه و يف الواق ع تلخيص‬
‫لكتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي ‪ ،‬مع جتريده من تعقيداته املنطقية والكالمية والفلسفية‬
‫‪ ،‬ولعّل التغيري الوحيد الذي أحدثه هو نقل مبحث البالغة والفصاحة من ذيل علم البيان‬
‫إىل فاحتة خمتصرة أو تلخيصه‪.‬‬
‫وقد جرى على رأي السكاكي يف النظر إىل علمي املعاين والبيان على أهّن ما مرجع‬
‫البالغ ة ‪ ،‬وإىل الفص احة على أهّن ا مرج ع احملس نات البديعي ة ‪ ،‬وم ع اعرتاف ه ب أّن ه ذه‬
‫احملسنات توابع للمعاين والبيان فإّنه جعلها علما مستقال مساه «علم البديع» وبذلك مّه د‬
‫ألن تصبح البالغة العربية متضمنة ثالثة علوم‪.‬‬

‫التنوخي ‪:‬‬
‫ومنهم التن وخي حمم د بن حمم د بن عم رو املت وىف س نة ‪ 692‬للهج رة ‪ ،‬وص احب‬
‫كتاب «األقصى القريب يف علم البيان»‪ .‬والتنوخي هذا ممن احنرفوا عن طريقة السكاكي‬
‫والزخمشري وعبد القاهر اجلرجاين يف تقسيم البالغة إىل علوم ‪ ،‬لكل منها مباحثه اخلاصة‬
‫ال يت متيزه عن غ ريه‪ .‬وق د حنا التن وخي يف كتاب ه منحى ابن األث ري من حيث إطالق اس م‬
‫البيان على مجيع‬

‫‪38‬‬
‫مباحث البالغة من غري فصل بينها‪.‬‬
‫أّم ا من حيث مب احث علم البي ان ال يت ع رض هلا يف كتاب ه فلم تتج اوز االس تعارة‬
‫والتش بيه‪ .‬وكالم ه عن االس تعارة م وجز يق ف في ه عن د م ا مساه الس كاكي االس تعارة‬
‫التصرحيية ‪ ،‬وهي ما صرح فيها بلفظ املشبه به دون املشبه‪ .‬أّم ا االستعارة املكنية واليت هي‬
‫قسيم التصرحيية فلم يتعرض هلا يف كتابه‪.‬‬
‫وقد أطال يف سرد أمثلة التشبيه وبيان أنواعه ‪ ،‬وهبذا نال من اهتمامه أكثر مما نالت‬
‫منه االستعارة‪.‬‬

‫ابن األثير ‪:‬‬


‫ومن أولئ ك العلم اء أيض ا ض ياء ال دين بن األث ري املت وىف س نة ‪ 637‬من اهلج رة ‪،‬‬
‫وصاحب كتاب «املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر»‪.‬‬
‫وهو ممن احنرفوا يف دراسة البالغة عن طريقة السكاكي ‪ ،‬والذي تتسع عنده كلمة‬
‫«علم البيان» لتشمل كذلك مباحث املعاين والبديع‪.‬‬
‫وقد بىن ابن األثري كتابه على مقدمة ومقالتني ‪ :‬املقدمة تعاجل أصول علم البيان ‪،‬‬
‫واملقالة األوىل يف الصناعة اللفظية ‪ ،‬واملقالة الثانية يف الصناعة املعنوية‪.‬‬
‫وما يعنينا هنا من كتابه هو حماولة التعرف على املسامهة العلمية اليت أسهم هبا يف‬
‫تط وير مب احث علم البي ان ‪ ،‬وه ذه املب احث ال يت عاجله ا يف كتاب ه وع ّد ها من الص ناعة‬
‫املعنوية هي ‪ :‬االستعارة واجملاز والتشبيه والكناية والتعريض‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫وجتدر اإلشارة إىل أّن كالمه عن هذه املباحث ينقصه التنظيم والتبويب ‪ ،‬فاحلديث‬
‫عن هذه الفنون البيانية يأيت عنده متداخال على حسب ما تستدعيه طبيعة البحث‪ .‬ومع‬
‫هذا فإّن الدارس ملباحث علم البيان يف كتاب املثل السائر خيرج منه بصورة شاملة واضحة‬
‫هلذه املب احث البياني ة ‪ ،‬وبص ورة أخ رى ملنه اج ابن األث ري يف البحث ‪ ،‬ه ذا املنه اج ال ذي‬
‫جيمع فيه بني علمه الدقيق بأصول البيان العريب وبني النقد والتحليل‪.‬‬
‫وإذا انتقلنا اآلن إىل عرض كالمه يف مباحث علم البيان فإننا نراه بدأ أّو ل ما بدأ‬
‫باالس تعارة ممه دا هلا حبديث عن اجملاز ‪ ،‬فاالس تعارة عن ده من أوص اف الفص احة والبالغ ة‬
‫العام ة ال يت ترج ع إىل املع ىن ‪ ،‬وهي ض رب من اجملاز ال ذي ه و قس مان ‪ :‬توس ع يف الكالم‬
‫وتش بيه‪ .‬وال يك اد ي ذكر التش بيه ح ىت يس تطرد إىل الكالم عن ه فيقس مه تقس يما أولي ا إىل‬
‫تشبيه تام وتشبيه حمذوف مع تعريف كليهما وتوضيحه باألمثلة‪.‬‬
‫وال ينتهي من ذل ك ح ىت يب دأ فيقس م التش بيه تقس يما آخ ر ‪ ،‬من حيث ذك ر أداة‬
‫التش بيه وح ذفها ‪ ،‬إىل تش بيه مظه ر وتش بيه مض مر‪ .‬وهن ا يض طره البحث إىل التفري ق بني‬
‫التشبيه املضمر واالستعارة ‪ ،‬فالتشبيه املضمر حيسن إظهار أداة التشبيه فيه ‪ ،‬أّم ا االستعارة‬
‫فال حيسن إظهار أداة التشبيه فيها ‪ ،‬أي أهّن ا ال تكون إاّل حبيث يطوي ذكر املستعار له‪.‬‬
‫فالتشبيه املضمر من مثل «زيد أسد» إذا أظهرت األداة فيه وقيل ‪ :‬زيد كاألسد ‪،‬‬
‫حس ن ظهوره ا ‪ ،‬ومل تق دح يف الكالم ال ذي أظه رت في ه ‪ ،‬وال تزي ل عن ه فص احة وال‬
‫بالغ ة‪ .‬وه ذا خبالف االس تعارة فإّن ه ال حيس ن فيه ا ظه ور أداة التش بيه ‪ ،‬وم ىت أظه رت‬
‫أزالت عن ذلك الكالم ما كان متصفا به من جنس فصاحة وبالغة‪ .‬فقول الشاعر ‪:‬‬

‫‪40‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ف أمطرت لؤل ؤا من ن رجس وس قت وردا ‪ ،‬وعض ت على العّن اب ب الربد‬
‫علي ه من احلس ن والرون ق م ا ال خف اء ب ه ‪ ،‬وه و من ب اب االس تعارة‪ .‬ف إذا أظهرن ا‬
‫املستعار له واألداة صرنا إىل كالم غث ‪ ،‬وذاك أنا نقول ‪ :‬فأمطرت دمعا كاللؤلؤ ‪ ،‬من‬
‫عينني كالنرجس ‪ ،‬وسقت خدا كالورد ‪ ،‬وعضت على أنامل خمضوبة كالعناب ‪ ،‬بأسنان‬
‫كالربد‪.‬‬
‫وينتقل من ذلك إىل ذكر سبب تسمية االستعارة ‪ ،‬وبيان حقيقتها ‪ ،‬وميزهتا على‬
‫التشبيه املضمر‪.‬‬
‫ّمث يعود إىل التشبيه استيفاء للكالم عنه ‪ ،‬فيقسم املضمر منه مخسة أقسام من حيث‬
‫تق دير أداة التش بيه‪ .‬ف إذا م ا ف رغ من ذل ك ن راه يش ري إىل تفرق ة علم اء البي ان بني التش بيه‬
‫والتمثي ل ‪ ،‬م ع أهنم ا يف رأي ه ش يء واح د ‪ ،‬ال ف رق بينهم ا يف أص ل الوض ع ‪ ،‬إذ يق ال ‪:‬‬
‫شبهت هذا الشيء هبذا الشيء ‪ ،‬كما يقال مثلته به‪.‬‬
‫وينتق ل بع د ذل ك إىل بي ان فائ دة التش بيه من الكالم مق ررا أّن من حماس نه جميئ ه‬
‫مصدريا ‪ ،‬كقولنا ‪ :‬أقدم إقدام األسد ‪ ،‬وفاض فيض البحر ‪ ،‬وكقول أيب نواس يف وصف‬
‫اخلمر ‪:‬‬
‫اجلراد‬ ‫وثب‬ ‫وثبت‬ ‫ا‬ ‫ا مزجوه‬ ‫وإذا م‬
‫اد‬ ‫ذ الرق‬ ‫ذت أخ‬ ‫أخ‬ ‫ربوها‬ ‫اش‬ ‫وإذا م‬
‫أي وثبت كوثب اجلراد ‪ ،‬وأخذت بشاربيها كأخذ الرقاد‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬العناب بضم العني وتشديد النون ‪ :‬نوع من الثمر أمحر اللون‪ .‬والربد بفتح الباء والراء ‪ :‬شيء أبيض ينزل‬
‫من السحاب يشبه احلصى ‪ ،‬ويسمى حب الغمام ‪ ،‬وحب املزن ‪ ،‬وتشبه به األسنان عادة لشدة صفاء بياضه‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ومن بيان فائدة التشبيه يستطرد إىل القول بأّن تشبيه الشيئني أحدمها باآلخر ال خيلو‬
‫من أربع ة أقس ام ‪ :‬إم ا تش بيه مع ىن مبع ىن ‪ ،‬كقولن ا ‪ :‬زي د كاألس د ‪ ،‬وإّم ا تش بيه ص ورة‬
‫بص ورة ‪ ،‬كقول ه تع اىل ‪َ( :‬و ِع ْن َد ُه ْم قاِص راُت الَّط ْر ِف ِع يٌن َك َأَّنُه َّن َبْيٌض َمْك ُن وٌن ‪ )،‬وإّم ا‬
‫تش بيه مع ىن بص ورة ‪ ،‬كقول ه تع اىل ‪َ( :‬و اَّل ِذ يَن َكَف ُر وا َأْع م اُلُه ْم َك َس راٍب ِبِق يَع ٍة ‪ )1()،‬وإّم ا‬
‫تشبيه صورة مبعىن ‪ ،‬كقول أيب متام ‪:‬‬
‫رم‬ ‫احملب املغ‬ ‫بابة ب‬ ‫ك الص‬ ‫فت‬ ‫دا‬ ‫ل وبالع‬ ‫وفتكت باملال اجلزي‬
‫فشبه فتكه باملال واألعداء ‪ ،‬وذلك صورة مرثية ‪ ،‬بفتك الصبابة وهو فتك معنوي‪.‬‬
‫وعنده أن أبلغ هذه األقسام األربعة هو تشبيه معىن بصورة لتمثيله املعاين املوهومة‬
‫أو املتخيلة بالصور املشاهدة ‪ ،‬وأّن ألطف هذه األقسام هو تشبيه صورة مبعىن ‪ ،‬ألّن فيه‬
‫نقل صورة إىل غري صورة‪.‬‬
‫وتقسيمه السابق للتشبيه هو تقسيم له من حديث املعىن ‪ ،‬وهلذا نراه يقسمه مرة‬
‫أخ رى من حيث اللف ظ أقس اما أربع ة أيض ا هي ‪ :‬تش بيه مف رد مبف رد ‪ ،‬وتش بيه م ركب‬
‫مبركب ‪ ،‬وتشبيه مفرد مبركب ‪ ،‬وتشبيه مركب مبفرد ‪ ،‬موضحا كل ذلك باألمثلة‪.‬‬
‫وهو يعين بتشبيه مفرد مبفرد تشبيه شيء واحد بشيء واحد ‪ ،‬كما يعين باملركب‬
‫تشبيه شيئني بشيئني فما فوقهما ‪ ،‬كقول بعضهم يف اخلمر ‪:‬‬
‫دماء‬ ‫ا على الن‬ ‫ام جيلوه‬ ‫إذ ق‬ ‫ها‬ ‫ل كأس‬ ‫أن حام‬ ‫وكأهّن ا وك‬
‫واكب اجلوزاء‬ ‫دجى بك‬ ‫در ال‬ ‫ب‬ ‫مشس الض حى رقص ت فنق ط وجهه ا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬القاع والقيعة بكسر القاف ‪ :‬املستوى من األرض الذي ال ينبت‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫فقد شبه الشاعر هنا ثالثة أشياء بثالثة أشياء ‪ :‬شبه الساقي بالبدر ‪ ،‬وشبه اخلمر‬
‫بالشمس ‪ ،‬وشبه احلبب الذي فوقها بالكواكب‪.‬‬
‫***‬
‫بع د ذل ك ينتق ل ابن األث ري إىل احلديث عن الكناي ة والتع ريض يف موض ع آخ ر من‬
‫كتاب ه ذاك را يف مس تهل حديث ه أّن علم اء البي ان من أمث ال الغ امني وأيب هالل العس كري‬
‫وابن سنان اخلفاجي قد خلطوا الكناية بالتعريض ‪ ،‬ومل يفرقوا بينهما ‪ ،‬ومل يعّر فوا كليهما‬
‫بتعريف مييزه عن اآلخر‪.‬‬
‫وقبل أن يتعرض هو لتعريف كل منهما يورد تعريف علماء أصول الفقه للكناية‬
‫وهو «أهّن ا اللفظ احملتمل» ‪ ،‬أي أهنا اللفظ الذي حيتمل الداللة على املعىن وعلى خالفه‪.‬‬
‫ويعقب ابن األثري على هذا التعريف بأّنه تعريف فاسد ‪ ،‬إذ ليس كل لفظ يدل على املعىن‬
‫وعلى خالفه بكناية ‪ ،‬فقد يدل اللفظ على املعىن وعلى خالفه ‪ ،‬وليس بكناية‪.‬‬
‫ومتهي دا لتحدي د مفه وم الكناي ة عن ده يق ول ابن األث ري ‪« :‬إّن الكناي ة إذا وردت‬
‫جتاذهبا جانب ا حقيق ة وجماز ‪ ،‬وج از محله ا على اجلانبني ‪ ....‬وأّم ا التش بيه فليس ك ذلك ‪،‬‬
‫وال غريه من أقسام اجملاز ‪ ،‬ألّنه ال جيوز محله إاّل على جانب اجملاز خاصة ‪ ،‬ولو محل على‬
‫جانب احلقيقة الستحال املعىن‪.‬‬
‫أال ترى أنا إذا قلنا ‪ :‬زيد أسد ‪ ،‬ال يصح إاّل على جانب اجملاز خاصة ‪ ،‬وذاك أّنا‬
‫ش بهنا زي دا باألس د يف ش جاعته ‪ ،‬ول و محلن اه على ج انب احلقيق ة الس تحال املع ىن ‪ ،‬ألّن‬
‫زي دا ليس ذل ك احلي وان ذا األرب ع ‪ ،‬وال ذنب ‪ ،‬وال وبر ‪ ،‬واألني اب واملخ الب ‪ ،‬وإذا ك ان‬
‫األم ر ك ذلك فح ّد الكناي ة اجلامع هلا ه و أهّن ا ك ل لفظ ة دّلت على مع ىن جيوز محل ه على‬
‫جانب احلقيقة‬

‫‪43‬‬
‫ِخ‬
‫‪ ،‬مثال ذلك قوله تعاىل ‪ِ( :‬إَّن ه ذا َأ ي َل ُه‬ ‫واجملاز بوصف جامع بني احلقيقة واجملاز»‬
‫( ‪)1‬‬

‫ِتْس ٌع َو ِتْس ُعوَن َنْع َج ًة َو ِلَي َنْع َج ٌة واِح َد ٌة ‪ )،‬فكين بذلك عن النساء والوصف اجلامع بينهما‬
‫هو التأنيث ‪ ،‬فاملعىن هنا جيوز محله على جانب احلقيقة ‪ ،‬كما جيوز محله على اجملاز‪.‬‬
‫ّمث يعرض ابن األثري بعد ذلك الشتقاق لفظة «الكناية» مقررا أهّن ا قد تكون مشتقة‬
‫من لفظة «الكنية» أو من السرت ‪ ،‬إذ يقال كنيت الشيء إذا سرتته‪.‬‬
‫كما يقرر أّن الكناية ليست نوعا مستقال من اجملاز ‪ ،‬وإمّن ا هي جزء من االستعارة ‪،‬‬
‫ألّن االستعارة ال تكون إاّل حبيث يطوى املستعار له ‪ ،‬وكذلك الكناية فإهّن ا ال تكون إاّل‬
‫حبيث يطوى ذكر املكىّن عنه‪.‬‬
‫ونسبتها إىل االستعارة نسبة خاص إىل عام ‪ ،‬فيقال ‪ :‬كل كناية استعارة وليس كل‬
‫استعارة كناية‪ .‬هذا فرق بينهما ‪ ،‬وفرق آخر هو أّن االستعارة لفظها صريح ‪ ،‬والصريح‬
‫هو ما دّل عليه ظاهر لفظه ‪ ،‬والكناية ض ّد الصريح ‪ ،‬ألهّن ا عدول عن ظاهر اللفظ‪ .‬فهذه‬
‫ف روق ثالث ة بني االس تعارة والكناي ة ذكرمها ابن األث ري ‪ :‬أح دمها اخلص وص والعم وم ‪،‬‬
‫واآلخر الصريح ‪ ،‬والثالث احلمل على جانب احلقيقة واجملاز‪.‬‬
‫وكما ف ّر ق بني الكناية واالستعارة ‪ ،‬ف ّر ق أيضا بني الكناية والتعريض الذي عرفه‬
‫بقول ه ‪« :‬ه و اللف ظ ال دال على الش يء عن طري ق املفه وم ‪ ،‬ال بالوض ع احلقيقي وال‬
‫اجملازي» ‪ ،‬فإذا قال قائل ملن يتوقع صلته ومعروفه بغري طلب ‪« :‬واهلل إين حملتاج ‪ ،‬وليس‬
‫يف يدي شيء ‪ ،‬وأنا عريان ‪ ،‬والربد‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب املثل السائر ص ‪.247‬‬

‫‪44‬‬
‫قد آذاين» فإّن هذا القول وأشباهه تعريض بالطلب ‪ ،‬وليس هذا القول موضوعا يف مقابلة‬
‫الطلب ال حقيق ة وال جمازا ‪ ،‬وإمّن ا دّل علي ه من طري ق املفه وم‪ .‬وعن ده أّن التع ريض مسي‬
‫تعريضا ألّن املعىن يفهم فيه من عرضه ‪ ،‬أي من جانبه ‪ ،‬وعرض كل شيء جانبه‪.‬‬
‫وكما ف ّر ق بني الكناية والتعريض من جهة خفاء الداللة ووضوحها ‪ ،‬ف ّر ق بينهما‬
‫من جه ة اللف ظ ‪ ،‬فالكناي ة تش مل املف رد واملركب مع ا ‪ ،‬فت أيت على ه ذا ت ارة وعلى ه ذا‬
‫أخرى ‪ ،‬أّم ا التعريض فيختص باللفظ املركب ‪ ،‬وال يأيت يف اللفظ املفرد البتة‪.‬‬
‫ودليله على ذلك أّن املعىن يف التعريض ال يفهم من جهة احلقيقة وال من جهة اجملاز‬
‫‪ ،‬وإمّن ا يفهم من جهة التلويح واإلشارة ‪ ،‬وذلك ال ينهض به اللفظ املفرد ‪ ،‬ولكنه حيتاج‬
‫يف الداللة عليه إىل اللفظ املركب‪.‬‬
‫وعند ابن األثري أّن الكناية تنقسم قسمني ‪ :‬أحدمها ما حيسن استعماله ‪ ،‬واآلخر ما‬
‫ال حيس ن اس تعماله ‪ ،‬وه و عيب يف الكالم ف احش‪ .‬وق د ع رض هن ا إىل تقس يم بعض‬
‫البالغيني هلا فقال ‪« :‬وقد ذهب قوم إىل أّن الكناية تنقسم أقساما ثالثة ‪ :‬متثيال ‪ ،‬وإردافا‬
‫‪ ،‬وجماورة» (‪ّ )1‬مث بني ما يقصدونه من كل قسم ‪ ،‬وعقب عليه بأّنه تقسيم غري صحيح ‪،‬‬
‫ولكن تعليقه يبدو فيه شيء من االضطراب والتناقض‪.‬‬
‫وأخ ريا خيتم ابن األث ري كالم ه عن الكناي ة والتع ريض بض رب األمثل ة عليهم ا ن ثرا‬
‫ونظما حىت يزيد ما ذكره عنهما وضوحا‪.‬‬
‫ذلك عرض موجز جلانب من كتاب املثل السائر البن األثري ‪ ،‬وهو‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب املثل السائر ص ‪.251‬‬

‫‪45‬‬
‫اجلانب ال ذي تكّلم في ه عن مب احث علم البي ان من جماز واس تعارة وتش بيه وكناي ة‪ .‬وق د‬
‫قص دنا من وراء ه ذا الع رض املوجز إىل بي ان أم رين ‪ :‬م دى مس امهة ابن األث ري يف تط وير‬
‫هذه املباحث البيانية عن طريق املادة البالغية اليت ق ّد مها لنا فيها ‪ ،‬وكذلك الطريقة اليت‬
‫سلكها يف معاجلة هذه املادة وعرضها ‪ ،‬وهي طريقة ختالف بال شك طريقة السكاكي اليت‬
‫قص د هبا إىل تأص يل قواع د البالغ ة وص بها يف ق والب منطقي ة جاف ة‪ .‬ورمبا التقي ا يف ك ثرة‬
‫التقس يمات والتفريع ات ‪ ،‬ولكن ش تان بني تقس يمات وتفريع ات يغلب عليه ا املنط ق‬
‫وأخرى جيليها الفن وحيببها إىل النفس‪.‬‬

‫يحيى بن حمزة ‪:‬‬


‫ومن علم اء البالغ ة أيض ا حيىي بن محزة العل وي اليم ين املت وىف س نة ‪ 749‬للهج رة‬
‫وصاحب املصنفات املختلفة يف النحو والفقه وأصول الدين والبالغة‪ .‬ومما صنفه يف البالغة‬
‫كتاب «الطراز املتضمن ألسرار البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز» ‪ ،‬ويقع يف ثالثة أجزاء‪.‬‬
‫وهو متأثر يف كتابه هذا خبمسة كتب هي ‪ :‬املفتاح للسكاكي واملثل السائر البن‬
‫األث ري ‪ ،‬وكت اب التبي ان يف علم البي ان البن الزملك اين ‪ ،‬وكت اب هناي ة اإلجياز يف دراي ة‬
‫اإلعجاز للفخر الرازي ‪ ،‬وكتاب املصباح يف املعاين والبيان والبديع لبدر الدين بن مالك‪.‬‬
‫وكتابه ال تبدو فيه طريقة مميزة لصاحبه ‪ ،‬وإمّن ا هو موزع بني طريقة السكاكي ‪،‬‬
‫وطريق ة ال رازي ‪ ،‬وطريق ة ابن األث ري ومب احثهم وم ا أّص لوه من قواع د البالغ ة‪ .‬وق د بن اه‬
‫على مقدمات ومقاصد وتكمالت ومسي كل جانب من هذه اجلوانب فنا‪.‬‬
‫ويف الفن الثاين من الكتاب يتحّد ث عن موضوعات البيان بادئا‬

‫‪46‬‬
‫باجملاز ومدخاّل فيه االستعارة والتمثيل والكناية‪ .‬وهو يف إدخاله الكناية يف اجملاز خيالف ابن‬
‫األثري الذي قرر أّن الكناية ليست نوعا مستقال من اجملاز ‪ ،‬وإمّن ا هي جزء من االستعارة‪.‬‬
‫ّمث يعرض بالقول لالستعارة فيفّص ل القول فيها ذاكرا تعريف الرماين والرازي وابن‬
‫األثري هلا ‪ ،‬وهو يدخل فيها التشبيه البليغ أو التشبيه املضمر األداة كما يسميه ابن األثري‪.‬‬
‫ويس وق على االس تعارة ش واهد كث رية من الق رآن الك رمي وأح اديث الرس ول ومن كالم‬
‫الع رب ن ثرا وش عرا‪ .‬وأخ ريا يتكلم عن أقس ام االس تعارة مستأنس ا يف ذل ك بكالم ال رازي‬
‫وبدر الدين بن مالك‪.‬‬
‫ومن االستعارة ينتقل إىل التشبيه فيطيل الكالم فيه مفيدا من كل ما ذكره الرازي‬
‫وبدر الدين بن مالك وابن األثري‪.‬‬
‫وأخ ريا يتح ّد ث عن الكناي ة ويس وق فيه ا تعري ف عب د الق اهر اجلرج اين وه و ‪:‬‬
‫«واملراد بالكناية أن يريد املتكلم إثبات معىن من املعاين فال يذكره باللفظ املوضوع له يف‬
‫اللغة ‪ ،‬ولكن جييء إىل معىن هو تاليه وردفه يف الوجود فيومىء إليه وجيعله دليال عليه» ‪،‬‬
‫مثال ذلك قوهلم «هو طويل النجاد» يريدون طويل القامة ‪ ،‬ويف املرأة «نؤوم الضحى»‬
‫واملراد أهّن ا مرتفة خمدومة هلا من يكفيها أمرها ‪ ،‬فقد أرادوا يف هذا كله ‪ ،‬كما ترى ‪ ،‬معىن‬
‫ّمث مل يذكروه بلفظه اخلاص به ‪ ،‬ولكنهم توصلوا إليه بذكر معىن آخر من شأنه أن يردفه‬
‫يف الوجود ‪ ،‬وأن يكون إذا كان‪ .‬أفال ترى أّن القامة إذا طالت طال النجاد ‪ ،‬وإذا كانت‬
‫املرأة مرتفة هلا من يكفيها أمرها ردف (‪ )1‬ذلك أن تنام إىل الضحى (‪)2‬؟‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬ردف بكسر الدال ‪ :‬تبع‪.‬‬
‫(‪ )2‬دالئل اإلعجاز ص ‪.44‬‬

‫‪47‬‬
‫كذلك ساق تفريعات بدر الدين بن مالك وابن األثري وبعض علماء أصول الفقه‬
‫يف الكناية ‪ ،‬وحتّد ث عن أقسامها كما حتّد ث عن التعريض ‪ ،‬وأخريا ختم كالمه يف البيان‬
‫عن التمثيل‪.‬‬

‫الخطيب القزويني (‪: )1‬‬


‫وّممن استفاض ت ش هرته يف عص ره وبع د عص ره يف مي دان البالغ ة العاّل م ة قاض ي‬
‫القض اة جالل ال دين حمم د بن عب د ال رمحن القزوي ين املت وىف س نة ‪ 739‬للهج رة ‪ ،‬ولّق ب‬
‫باخلطيب ألّنه ويّل خطابة دمشق يف املسجد األموي الكبري‪ .‬كان عاملا بارعا مفتنا يف علوم‬
‫كثرية ‪ ،‬منها أصول الفقه والبالغة ‪ ،‬وله مصنفات يف عدة فنون‪ .‬وكان معجبا بالشاعر‬
‫األّر جاين ويقول ‪ :‬إنه مل يكن للعجم نظريه ‪ ،‬واختصر ديوانه فس ّم اه «الشذر املرجاين من‬
‫شعر األرجاين»‪.‬‬
‫والكت اب ال ذي عّم ت ش هرته ويعنين ا هن ا ه و كتاب ه «التلخيص» ‪ ،‬ه ذا الكت اب‬
‫الذي ّخلص فيه القسم الثالث من كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي ‪ ،‬وغطى به على كل‬
‫من ّخلصوه قبله وبعده من أمثال بدر الدين بن مالك ‪ ،‬وعبد الرمحن الشريازي‪.‬‬
‫واخلطيب القزوي ين يف تلخيص ه مل يق ف من كت اب «مفت اح العل وم» موق ف املل تزم‬
‫كم ا فع ل غ ريه ‪ ،‬وإمنا تص رف في ه ف رتك م ا مل يستحس نه وأبقى على م ا استحس نه من ه‬
‫وأضاف إليه من آرائه وآراء من سبقوه‪.‬‬
‫فه و يف تلخيص ه ق د اس تبعد من ه تعقي د الس كاكي وحش وه وتطويل ه كم ا وّض ح‬
‫غامضه بالشرح واألمثلة ‪ ،‬واستبدل ببعض مصطلحاته وتعريفاته‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬له ترمجة يف كتاب النجوم الزاهرة ح ‪ 9‬ص ‪ ، 318‬وترمجة أخرى يف كتاب الدرر الكامنة يف أعيان املائة‬
‫الثامنة ج ‪ 4‬ص ‪.120‬‬

‫‪48‬‬
‫امللتوي ة مص طلحات وتعريف ات أخ رى أك ثر وض وحا ودق ة ‪ ،‬ومسح لنفس ه ف رتب مباحث ه‬
‫ترتيبا قريبا جيعلها أيسر مناال‪ .‬ومل يكتف بذلك وإمنا أضاف إليه فوائد عثر عليه ا يف كتب‬
‫املتقدمني ‪ ،‬وزوائد مل يظفر هبا يف كالم أحد ال بالتص ريح وال باإلشارة‪ .‬وكل ذلك قد‬
‫صاغه صياغة حسنة العبارة واضحة الداللة‪.‬‬
‫ولع ّل ك ل ه ذا ه و م ا هي أ لتلخيص ه س بيل الش هرة ‪ ،‬ولفت األنظ ار إلي ه ‪ ،‬فأقب ل‬
‫الناس عليه يف عصره وإىل اليوم ما بني دارس وشارح وملّخ ص وناظم‪.‬‬
‫و «تلخيص املفت اح» يش تمل على مقدم ة يف الفص احة والبالغ ة ‪ ،‬وثالث ة فن ون ‪:‬‬
‫الفن األول عقده ملباحث «علم املعاين» والثاين ملباحث «علم البيان» ‪ ،‬والثالث ملباحث‬
‫«علم البديع»‪.‬‬
‫وملا كانت دراستنا يف هذا الكتاب قاصرة على «علم البيان» ‪ ،‬فإن ما يهّم نا هنا‬
‫من كتاب «تلخيص املفتاح» للقزويين هو التعريف إمجاال مبباحث البيان اليت وردت فيه ‪،‬‬
‫تاركني الكالم عنها تفصيال إىل ما بعد الفراغ من هذه املقدمة‪.‬‬
‫***‬
‫وإذا ع دنا إىل «علم البي ان» يف كت اب «تلخيص املفت اح» فإنن ا جند القزوي ين يب دأ‬
‫أول ما يبدأ فيع ّر ف علم البيان بأّنه «علم يعرف به إيراد املعىن الواحد بطرق خمتلف ة يف‬
‫وض وح الدالل ة علي ه» وجيّر ه ه ذا التعري ف إىل دالل ة اللف ظ فيقس مها إىل دالل ة وض عية‬
‫وأخ رى عقلي ة ‪ ،‬مث خيلص من ش رح ه اتني ال داللتني إىل أن مب احث علم البي ان ثالث ة ‪:‬‬
‫التشبيه ‪ ،‬واجملاز والكناية‪.‬‬
‫وينتقل إىل «التشبيه» فيعرفه مث يتكلم عن أركانه ‪ ،‬وهي ‪ :‬طرفاه ووجهه وأداته ‪،‬‬
‫وعن الغرض منه ‪ ،‬وعن تقسيم طرفيه إىل حسيني وعقليني‬

‫‪49‬‬
‫أو خمتلفني‪ .‬كذلك يتكلم عن وجه الشبه وأنواعه ‪ ،‬وأدواته ‪« :‬الكاف ‪ ،‬وكأن ‪ ،‬ومثل»‬
‫وما يف معناها ‪ ،‬وعن أغراض التشبيه وما يعود منها إىل املشبه أو املشبه به‪.‬‬
‫بعد ذلك يقسم التشبيه باعتبار طرفيه إىل تشبيه مفرد مبفرد ومها غري مقيدين ‪ ،‬أو‬
‫مقي دان ‪ ،‬أو خمتلف ان ‪ ،‬وتش بيه م ركب مبركب ‪ ،‬وتش بيه مف رد مبركب ‪ ،‬وتش بيه م ركب‬
‫مبفرد‪.‬‬
‫مث يقسم طريف التشبيه من حيث تعددمها إىل أربعة أقسام ‪ :‬تشبيه مكفوف ‪ ،‬كقوله‬
‫‪:‬‬
‫ل دى وكره ا العن اب واحلش ف الب ايل‬ ‫ك أن قل وب الط ري رطب ا ويابس ا‬
‫وتشبيه مفروق ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ف عنم‬ ‫راف األك‬ ‫ري ‪ ،‬وأط‬ ‫ن‬ ‫النش ر مس ك ‪ ،‬والوج وه دن ا‬
‫وتشبيه التسوية أن تعّد د طرفه األول ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫ايل‬ ‫كالمها كاللي‬ ‫ايل‬ ‫دغ احلبيب وح‬ ‫ص‬
‫وتشبيه اجلمع أن تعّد د طرفه الثاين ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫اح‬ ‫رد أو أق‬ ‫د ‪ ،‬أو ب‬ ‫منض‬ ‫ؤ‬ ‫م عن لؤل‬ ‫كأمنا يبس‬
‫ويقسمه باعتبار وجه الشبه إىل تشبيه متثيل ‪ ،‬وتشبيه غري متثيل ‪ ،‬وتشبيه جممل ‪،‬‬
‫وتش بيه مفّص ل‪ .‬ك ذلك يقسمه باعتبار أداته إىل مؤك د وه و م ا حذفت أداته ‪ ،‬ومرسل‬
‫وهو ما ذكرت فيه األداة‪ .‬وأخريا يقسمه‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬النش ر ‪ :‬الرائح ة الطيب ة ‪ ،‬أو رائح ة فم املرأة وأعطافه ا بع د الن وم‪ .‬العنم ‪ :‬ش جر لّني األغص ان تش به ب ه‬
‫أصابع النساء‪.‬‬
‫(‪ )2‬األقاح ‪ :‬مجع أقحوان ‪ ،‬وهو ورد له نور‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫باعتبار الغرض إىل مقبول أو مسلم احلكم فيه ‪ ،‬أو مردود‪.‬‬
‫مث خيتم كالم ه باحلديث عن التش بيه البلي غ على أن ه أعلى م راتب التش بيه يف ق وة‬
‫املبالغة حلذف وجهه وأداته‪.‬‬
‫***‬
‫ومن الكالم عن التش بيه ينتق ل إىل احلديث عن مبحث «احلقيق ة واجملاز» وهن ا يب دأ‬
‫أول م ا يب دأ بتعري ف «احلقيق ة واجملاز» اللغ ويني‪ .‬فاحلقيق ة اللغوي ة «هي الكلم ة املس تعملة‬
‫فيم ا وض عت ل ه يف اص طالح التخ اطب» ‪ ،‬وه و يع ين بالوض ع تع يني اللف ظ للدالل ة على‬
‫مع ىن بنفسه ‪ ،‬وهبذا خيرج اجملاز اللغ وي ألنه يدّل على مع ىن بقرين ة مانع ة من إرادة املع ىن‬
‫احلقيقي‪.‬‬
‫مث يقسم اجملاز أوال إىل مفرد ومركب ‪ ،‬وثانيا إىل جماز مرسل إن كانت العالقة فيه‬
‫غ ري املش اهبة ‪ ،‬وإىل اس تعارة إن ك انت العالق ة في ه املش اهبة ‪ ،‬ويس تطرد من ه ذا إىل بي ان‬
‫عالقات اجملاز املرسل وهي ‪ :‬السببية ‪ ،‬واملسببية ‪ ،‬واجلزئية ‪ ،‬والكلية ‪ ،‬واعتبار ما كان ‪،‬‬
‫واعتبار ما سيكون ‪ ،‬واحمللية واحلالية‪.‬‬
‫ومن اجملاز املرسل يستطرد إىل االستعارة فيذكر ‪ :‬أهنا قد تقيد أو توصف باألصلية‬
‫أو لتحّق ق معناها حّس ا أو عقال ‪ ،‬كقول زهري ‪:‬‬
‫افره مل تقلم‬ ‫د أظ‬ ‫ه لب‬ ‫ل‬ ‫ل دى أس د ش اكي الس الح مق ذف‬
‫فاالستعارة هنا يف لفظ «أسد» الذي استعري للرجل الشجاع ‪ ،‬وهو أمر متحقق‬
‫حّس ا ‪ ،‬وكقوله تعاىل ‪( :‬اْه ِد َنا الِّص راَط اْلُمْس َتِق يَم) فقد استعري «الصراط املستقيم» للدين‬
‫احلق ‪ ،‬وهو أمر متحّق ق عقال‪.‬‬
‫ويعرض بالتفصيل لقرينة االستعارة اليت متنع من إرادة املعىن‬

‫‪51‬‬
‫احلقيقي ‪ ،‬وهي عنده إما أمر واحد أو أكثر أو معان ملتئمة ‪ ،‬مع التمثيل لكل نوع‪.‬‬
‫مث ينتقل إىل تقسيم االستعارة باعتبار الطرفني قسمني ألن اجتماعهما يف شيء إما‬
‫ممكن حنو «أحييناه» يف قوله تعاىل ‪َ( :‬أَو َمْن ك اَن َمْيت ًا َفَأْح َيْين اُه) أي ض ااّل فهديناه ‪ ،‬وإما‬
‫ممتنع كاستعارة اسم املعدوم للموجود لعدم غنائه وجدواه ‪ ،‬وهو يسمى االستعارة اليت‬
‫من النوع األول «وفاقية» (‪ )1‬واليت من النوع الثاين «عنادية»‪.‬‬
‫ك ذلك يقّس م االس تعارة باعتب ار الط رفني واجلامع ‪ ،‬أي باعتب ار املس تعار من ه‬
‫واملستعار له والصفة اجلامعة بينهما ستة أقسام‪ .‬وتفصيل ذلك أن الطرفني إن كانا حسيني‬
‫فالصفة اجلامعة بينهما إما حسّية أو عقلية أو خمتلفة ‪ ،‬وإن كان الطرفان عقليني أو خمتلفني‬
‫واحلس ّي هو املستعار منه ‪ ،‬أو خمتلفني واحلس ّي هو املستعار له ‪ ،‬فالصفة اجلامع ة يف كل‬
‫ذلك عقلية‪ .‬فهذه ستة أقسام‪.‬‬
‫ومن هذا التقسيم ينتقل إىل تقسيم آخر وهو تقسيم االستعارة باعتبار لفظها إىل‬
‫أصلية وتبعية‪ .‬فاالستعارة تكون أصلية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه امسا جامدا ‪ ،‬أعين‬
‫اسم جنس دااّل على ذات حمّس ة مثل لفظة «أسد» ‪ ،‬أو اسم جنس دااّل على معىن ‪ ،‬مثل‬
‫لفظة «قتل» املصدر‪ .‬واالستعارة تكون تبعية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه فعال أو ما‬
‫اشتق منه أو حرفا‪.‬‬
‫وأخ ريا يقّس م القزوي ين االس تعارة إىل مطلق ة ‪ ،‬وجمردة ‪ ،‬ومرش حة‪ .‬فاالس تعارة‬
‫املطلقة هي ما خلت من مالئمات املستعار منه واملستعار له ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الوفاقية ‪ :‬نسبة إىل الوفاق بكسر الواو ‪ ،‬مبعىن املوافقة‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫واالس تعارة اجملردة هي م ا ذك ر معه ا مالئم املس تعار ل ه ‪ ،‬أم ا االس تعارة املرش حة فهي م ا‬
‫ذكر معها مالئم املستعار منه‪.‬‬
‫وقد جيتمع التجريد والرتشيح يف االستعارة كقول زهري السابق ‪:‬‬
‫افره مل تقّلم‬ ‫د أظ‬ ‫ه لب‬ ‫ل‬ ‫ل دى أس د ش اكي الس الح مق ّذ ف‬
‫فاالس تعارة هن ا يف لفظ ة «أس د» و «ش اكي الس الح» جتري د ألن ه وص ف يالئم‬
‫املس تعار ل ه أي املش ّبه ‪ ،‬وه و الرج ل الش جاع ‪ ،‬وب اقي ال بيت «ل ه لب د أظ افره مل تقلم»‬
‫ترشيح ‪ ،‬ألنه وصف يالئم املستعار منه أي املشّبه به ‪ ،‬وهو األسد احلقيقي‪.‬‬
‫وبع د أن يس تويف القزوي ين الكالم عن االس تعارة على النح و الس ابق ن راه يع ود إىل‬
‫القسم الثاين من اجملاز ‪ ،‬وهو اجملاز املركب فيعرفه بأنه «اللفظ املستعمل فيما ش ّبه مبعناه‬
‫األص لي تش بيه التمثي ل للمبالغ ة» ‪ ،‬كم ا يق ال للم رتدد يف أم ر ‪« :‬إين أراك تق دم رجال‬
‫وتؤخر أخرى»‪ .‬وهذا التمثيل على سبيل االستعارة ‪ ،‬مبعىن أن حال املرتدد يف أمره يشبه‬
‫ح ال من يق دم رجال وي ؤخر أخ رى‪ .‬إذن ه ذا ال رتكيب «إيّن أراك تق ّد م رجال وت ؤخر‬
‫أخرى» قد استعمل استعماال جمازيا ال حقيقيا ‪ ،‬ألن املرتدد يف أمره ‪ ،‬قد يبدو عليه الرتدد‬
‫دون أن يقدم رجال ويؤخر أخرى فعال‪ .‬والعالقة هنا هي عالقة املشاهبة بني حال املرتدد‬
‫وحال من يقدم رجال ويؤخر أخرى‪.‬‬
‫وه ذا الن وع ال ذي ّمساه القزوي ين «التمثي ل على س بيل االس تعارة» ع رف فيم ا بع د‬
‫باسم «االستعارة التمثيلية»‪ .‬وقد اقرتب القزويين من هذا التعريف عند ما قال ‪« :‬وقد‬
‫يسمى التمثيل مطلقا ‪ ،‬ومىت فشا استعماله كذلك ّمسي مثال»‪.‬‬
‫بعد ذلك عقد اخلطيب القزويين فصال خاّص ا لالستعارة املكنية قال‬

‫‪53‬‬
‫فيه ‪« :‬قد يضمر التشبيه يف النفس فال يصّر ح بشيء من أركانه سوى املشبه ‪ ،‬ويدل عليه‬
‫بأن يثبت للمشبه أمر خيتّص باملشبه به فيسمى التشبيه استعارة بالكناية أو مكنيا عنها ‪،‬‬
‫وإثبات ذلك األمر للمشبه استعارة ختييلية ‪ ،‬وقد مّثل هلذه االستعارة بقول اهلذيل ‪:‬‬
‫ع‬ ‫ة ال تنف‬ ‫ّل متيم‬ ‫ألفيت ك‬ ‫ا‬ ‫بت أظفاره‬ ‫ة أنش‬ ‫وإذا املنّي‬
‫ش ّبه هن ا املنّي ة بالس بع يف اغتي ال النف وس ب القهر والغلب ة من غ ري تفرق ة بني نّف اع‬
‫وضّر ار‪ .‬وإثبات األظفار للمنّية اليت هي املشبه هو من قبيل االستعارة التخييلية‪.‬‬
‫وأخريا خيتم القزويين عرضه لالستعارة بثالثة فصول جيمل فيها كالم السكاكي عن‬
‫احلقيق ة اللغوي ة واجملاز اللغ وي واالس تعارة تعريف ا وتقس يما وتفريع ا م ع مناقش ته يف بعض‬
‫آرائه‪ .‬كما يشري إىل رأي السكاكي يف أن حسن االستعارة التمثيلية واالستعارة التحقيقية‬
‫‪ ،‬وهي ال يت يتحق ق معناه ا حّس ا وعقال ‪ ،‬إمنا يك ون برعاي ة حس ن التش بيه ‪ ،‬مبع ىن أن ال‬
‫يشم رائحته لفظا ‪ ،‬وأن حسن االستعارة املكنية إمنا يكون حبسب حسن املكىّن عنه‪.‬‬
‫كذلك يشري يف النهاية إىل اجملاز العقلي مبّينا أنه ال يكون يف اللفظ كما هو الشأن‬
‫يف االستعارة واجملاز املرسل ‪ ،‬وإمنا يكون يف اإلسناد ‪ ،‬أي إسناد الفعل أو ما يف معناه إىل‬
‫غري ما هو له مع قرينة مانعة من إرادة اإلسناد احلقيقي ‪ ،‬وهذا أمر يدرك بالعقل ‪ ،‬وهلذا‬
‫مسي اجملاز العقلي‪.‬‬
‫***‬
‫ومن احلقيقة واجملاز ينتقل اخلطيب القزويين للكالم عن املبحث الثالث واألخري من‬
‫مباحث علم البيان ‪ ،‬وأعين به «الكناية» فيعرفها بأهنا‬

‫‪54‬‬
‫«لفظ أريد به الزم معناه مع جواز إرادته معه» ‪ ،‬ويوّض ح الفرق بينها وبني اجملاز الذي ال‬
‫جيوز إرادة املع ىن احلقيقي مع ه ‪ ،‬إذ ال جيوز أن يك ون املراد من قول ك ‪« :‬كّلمت أس دا»‬
‫األسد احلقيقي‪.‬‬
‫مث يقّس م الكناية باعتبار املكىّن عنه ثالثة أقسام ‪ :‬ألن املكىّن عنه قد يكون موصوفا‬
‫‪ ،‬وقد يكون صفة ‪ ،‬وقد يكون نسبة‪ .‬ومل تفته اإلشارة هنا إىل أنواع أخرى من الكناية‬
‫ذكرها السكاكي كالتعريض والتلويح والرمز واإلشارة واإلحياء‪.‬‬
‫ذل ك ع رض م وجز ملب احث علم البي ان كم ا وردت يف كت اب «تلخيص املفت اح»‬
‫للخطيب القزوي ين وال ذي أهنى الكالم في ه بفص ل عن بالغ ة اجملاز والكناي ة واحلقيق ة‬
‫واالستعارة ‪ ،‬مق ّر را أن البلغاء أمجعوا على أن اجملاز واجلناية أبلغ من احلقيق ة والتصريح ‪،‬‬
‫ألن االنتقال فيهما من امللزوم إىل الالزم ‪ ،‬فهو كدعوى الشيء بّينة ‪ ،‬وأن االستعارة أبلغ‬
‫من التشبيه ألهنا نوع من اجملاز‪.‬‬
‫***‬
‫وعلى الرغم من اجلهد العلمي الذي أفرغه القزويين يف «التلخيص» فإنه ‪ ،‬على ما‬
‫يبدو ‪ ،‬مل يكن راضيا عنه كل الرضاء‪ .‬نقول ذلك ألننا رأيناه يعود فيضع له شرحا ّمساه‬
‫«اإليضاح» يفّص ل فيه بعض ما أمجله يف «التلخيص» مضيفا إليه زوائد مما استوحاه من‬
‫كتابات عبد القاهر اجلرجاين والزخمشري والسكاكي ‪ ،‬وكذلك مما هداه إليه تفكريه ومل‬
‫جيده لغريه‪.‬‬
‫ويف ذلك يقول يف مقدمة اإليضاح ‪« :‬هذا كتاب يف علم البالغة وتوابعها ترمجته‬
‫باإليض اح وجعلت ه على ت رتيب خمتص ري ال ذي ّمسيته «تلخيص املفت اح» ‪ ،‬وبّس طت في ه‬
‫القول ليكون كالشرح له ‪ ،‬فأوضحت‬

‫‪55‬‬
‫مواضعه املشكلة ‪ ،‬وفّص لت معانيه اجململة ‪ ،‬وعمدت إىل ما خال منه املختصر مما تضمنه‬
‫«مفتاح العلوم» وإىل ما خال عنه املفتاح من كالم الشيخ اإلمام عبد القاهر اجلرجاين يف‬
‫كتابي ه دالئ ل اإلعج از وأس رار البالغ ة ‪ ،‬وإىل م ا تيس ر النظ ر في ه من كالم غريمها‬
‫فاستخرجت زبدة ذلك كله وهّذ بتها ورتبتها حىت استقر كل شيء يف حمله ‪ ،‬وأضفت إىل‬
‫ذلك ما أدى إليه فكري ومل أجده لغريي»‪.‬‬
‫وم ع م ا يتخل ل «التلخيص» و «التوض يح» من اعرتاض ات على الس كاكي‬
‫ومناقشات كثرية آلرائه فإن القزويين مدين له مبادة الكتابني األساسية ‪ ،‬ألنه استقاها من‬
‫كتابه مفتاح العلوم مع زوائد من كتابات عبد القاهر والزخمشري ومن آرائه اخلاصة اليت‬
‫مل جيدها لغريه‪.‬‬
‫ويبقى بعد ذلك أنه خري من تأثر بالسكاكي وجنا منحاه يف تلخيص قواعد البالغة‬
‫‪ ،‬ه ذا املنحى ال ذي أّدى االل تزام ب ه واالسرتس ال في ه فيم ا بع د إىل جف اف الدراس ات‬
‫البالغية ومجودها‪.‬‬
‫وكم ا أقب ل القزوي ين على مفت اح الس كاكي تلخيص ا وتوض يحا ‪ ،‬أقب ل ك ذلك‬
‫كثريون من رجال البالغة شرقا وغربا على «تلخيص» القزويين درسا وحفظا وتلخيصا‬
‫وشرحا ونظما ‪ ،‬كأهنم رأوا فيه خري مرجع لقواعد البالغة‪.‬‬
‫فمّم ن نظمه شعرا جالل الدين السيوطي ومسى نظمه «اجلمان» ووضع له شرحا‬
‫ّمساه «عق ود اجلم ان» ‪ ،‬وخض ر بن حمم د وّمسى نظم ه «أنب وب البالغ ة» ‪ ،‬وعب د ال رمحن‬
‫األخضري ‪ ،‬وّمسى نظمه «اجلوهر املكنون يف الثالثة الفنون»‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫وّممن قام باختصاره عّز الدين بن مجاعة ‪ ،‬وأبرويز الرومي ‪ ،‬وزكريا األنصاري‪.‬‬
‫وّممن شرحه حممد بن مظفر اخللخايل «‪‍ 745‬ه» ‪ ،‬ومسى شرحه «مفتاح تلخيص‬
‫املفتاح» وهباء الدين السبكي «‪‍ 773‬ه» ومسى شرحه «عروس األفراح يف شرح تلخيص‬
‫املفت اح» ‪ ،‬وحمم د بن يوس ف ن اظر اجليش «‪‍ 778‬ه» ومسى ش رحه «ش رح تلخيص‬
‫املفت اح» ‪ ،‬وحمم د الب ايريت «‪‍ 786‬ه» ‪ ،‬ومشس ال دين القون وي «‪‍ 788‬ه» ومسى كالمها‬
‫شرحه «شرح تلخيص املفتاح للقزويين» ‪ ،‬وسعد الدين التفتازاين «‪‍ 792‬ه» وقد وضع‬
‫له شرحني ‪ :‬الشرح الكبري ‪ ،‬والشرح الصغري للتلخيص‪.‬‬
‫وه ؤالء الش ّر اح كم ا يالح ظ هم من علم اء الق رن الث امن اهلج ري ‪ ،‬وق د اس تمر‬
‫االهتمام بشرح تلخيص القزويين متصال حىت لنجد من علماء القرن الثاين عشر اهلجري‬
‫من قام بشرحه مثل ابن يعقوب املغريب «‪‍ 1110‬ه» صاحب كتاب «مواهب الفتاح يف‬
‫شرح تلخيص املفتاح»‪.‬‬
‫وأطول هذه الشروح شرح هباء الدين السبكي والشرح الكبري للتفتازاين الذي ع ّد ه‬
‫الق دماء خ ري ش روح التلخيص‪ .‬ولع ّل مما يالح ظ على من ش رحوا «تلخيص» اخلطيب‬
‫القزويين أن معظمهم كانوا على اّطالع واسع بعلوم الفلسفة واملنطق وأصول الفقه والنحو‬
‫والبالغة‪ .‬ويبدو من شروحهم أهنم مل يكونوا يهدفون إىل توضيح ما يف «التلخيص» من‬
‫إهبام وغم وض وتعقي د مبق دار م ا ك انوا يه دفون إىل اإلعالن عن م دى إملامهم بالفلس فة‬
‫واملنطق وأصول الفقه والنحو وغريها‪ .‬ذلك أهنم أقحموا الكثري من قضايا هذه العلوم على‬
‫البالغة إقحاما ‪ ،‬وهبذا أضافوا إىل مرياث الصعوبات اليت وضعها من تقدمهم على طريق‬
‫البالغ ة العربي ة ص عوبات أخ رى أش اعت الي أس يف نف وس الراغ بني يف دراس تها واإلف ادة‬
‫منها‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫من كل ما تقدم ندرك أن البالغة العربية منذ أن تواّل ها يف القرن السابع اهلجري‬
‫أمث ال الفخ ر ال رازي والس كاكي مل ي دخل على مباحثه ا مب احث جدي دة تثريبه ا وتبقيه ا‬
‫مّط ردة النم و واالزده ار‪ .‬ولع ّل س بب ذلك ه و م ا ران وغلب على العص ور املت أخرة من‬
‫أعراض اجلمود الفكري اليت مل تصب البالغة وحدها وإمنا جتاوزهتا إىل األدب شعرا ونثرا‪.‬‬
‫لقد تلقف السكاكي البالغة العربية اليت صنعتها األجيال السابقة من عبد القاهر‬
‫والزخمشري وهي زاخرة باحليوية واحلياة مشرقة باجلمال ‪ ،‬وكان عليه أن يسلمها إىل من‬
‫بعده أكثر حيوية وحياة وإشراقا حىت يستمر منّو ها وازدهارها‪.‬‬
‫ولكنه بدل ذلك انكّب عليها بعقليته العلمية يصوغها ويص ّبها وحيصرها يف قوالب‬
‫فلسفية منطقية هادفا من وراء حماورته إىل مجع قواعدها وتبويب مباحثها ‪ ،‬ووضع املعامل‬
‫واحلدود املميزة لعلومها‪.‬‬
‫ولعّل ه ك ان يظن أن ه ب ذلك يس دي إىل البالغ ة أج ّل ص نيع ‪ ،‬وم ا درى أن حماولت ه‬
‫ك انت من أهم األس باب ال يت قي دت البالغ ة وح ّد ت من نش اطها وحيويته ا وانتهت هبا‬
‫تدرجييا إىل حال من الذبول واجلفاف‪.‬‬
‫ولو وقف األمر بالبالغة عند صنيع السكاكي لقلنا عثرة على طريقها ستنهض منها‬
‫‪ ،‬ولكن جاء بعده من نظروا إىل ما أتى به السكاكي على أنه البالغة فالتزموا به وعكفوا‬
‫علي ه درس ا وحفظ ا ‪ ،‬وتلخيص ا وش رحا ونظم ا ‪ ،‬مس تخدمني يف ك ل ذل ك طرائ ق تقي د‬
‫العق ول ب دل أن حترره ا ‪ ،‬وتقض ي على األذواق واملواهب وامللك ات ب دل أن ت رقى هبا‬
‫وتنّم يها ‪!!...‬‬
‫***‬
‫وبعد ‪ ...‬فهذا عرض لنشأة علم البيان وتطوره منذ بدأ يف العصر‬

‫‪58‬‬
‫اجلاهلي على ص ورة مالحظ ات بياني ة أخ ذت تنم و وتتك اثر على تع اقب العص ور ح ىت‬
‫صارت علما مستقال بذاته على يد عبد القاهر اجلرجاين ومن جاء بعده من البالغيني‪.‬‬
‫ومن خالل ه ذا الع رض الت ارخيي تعّر فن ا إىل الكث ريين من علم اء البالغ ة العربي ة‬
‫ومؤلف اهتم فيه ا‪ .‬واألم ل أن جيد طالب البالغ ة ودارس وها فيم ا ذكرن اه بإجياز من‬
‫موض وعات ه ذه املؤلف ات البالغي ة ومش تمالهتا م ا يغ ريهم ب الرجوع إليه ا ‪ ،‬وحيّببهم يف‬
‫قراءهتا واإلفادة منها‪.‬‬
‫واآلن نش رع يف تفص يل الكالم عن املبحث األول من مب احث علم البي ان ‪ ،‬وأع ين‬
‫به مبحث «التشبيه»‪.‬‬

‫‪59‬‬
60
‫المبحث األّو ل‬

‫فن التشبيه‬

‫حد التشبيه ‪:‬‬


‫التشبيه لغة ‪ :‬التمثيل ‪ ،‬وهو مصدر مشتق من الفعل «شّبه» بتضعيف الباء ‪ ،‬يقال ‪:‬‬
‫شّبهت هذا هبذا تشبيها ‪ ،‬أي مّثلته به‪.‬‬
‫والتشبيه يف اصطالح البالغيني له أكثر من تعريف ‪ ،‬وهذه التعاريف وإن اختلفت‬
‫لفظا فإهنا متفقة معىن‪.‬‬
‫فابن رشيق مثال يعرفه بقوله ‪« :‬التشبيه ‪ :‬صفة الشيء مبا قاربه وشاكله من جهة‬
‫واحدة أو جهات كثرية ‪ ،‬ال من مجيع جهاته ‪ ،‬ألنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه‪ .‬أال‬
‫ترى أن قوهلم «خ ّد كالورد» إمنا أرادوا محرة أوراق الورد وطراوهتا ‪ ،‬ال ما سوى ذلك‬
‫من صفرة وسطه وخضرة كمائمه» (‪.)1‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬العمدة ج ‪ 1‬ص ‪.256‬‬

‫‪61‬‬
‫وأبو هالل العسكري يعرّفه بقوله ‪« :‬التشبيه ‪ :‬الوصف بأن أحد املوصوفني ينوب‬
‫مناب اآلخر بأداة التشبيه ‪ ،‬ناب منابه أو مل ينب ‪ ،‬وقد جاء يف الشعر وسائر الكالم بغري‬
‫أداة التشبيه ‪ ،‬وذلك قولك ‪« :‬زيد شديد كاألسد» ‪ ،‬فهذا القول هو الصواب يف العرف‬
‫وداخل يف حممود املبالغة ‪ ،‬وإن مل يكن زيد يف شدته كاألسد على حقيقته» (‪.)1‬‬
‫ويعّر فه اخلطيب القزويين بقوله ‪« :‬التشبيه ‪ :‬هو الداللة على مشاركة أمر ألمر يف‬
‫معىن» (‪.)2‬‬
‫ويعّر فه التنوخي بقوله ‪« :‬التشبيه ‪ :‬هو اإلخبار بالشبه ‪ ،‬وهو اشرتاك الشيئني يف‬
‫صفة أو أكثر وال يستوعب مجيع الصفات» (‪.)3‬‬
‫وللتشبيه تعريفات أخرى كثرية ال خترج يف جوهرها ومضموهنا عما أوردناه منها‬
‫آنفا ‪ ،‬ومن جمموع هذه التعريفات نستطيع أن خنرج للتشبيه بالتعريف التايل ‪:‬‬
‫التش بيه ‪ :‬بي ان أن ش يئا أو أش ياء ش اركت غريه ا يف ص فة أو أك ثر ‪ ،‬ب أداة هي‬
‫الكاف أو حنوها ملفوظة أو مقدرة ‪ ،‬تقّر ب بني املشبه واملشبه به يف وجه الشبه‪.‬‬
‫وجتدر اإلش ارة هن ا إىل أن «التمثي ل» ن وع من أن واع التش بيه ‪ ،‬وه ذا رأي عب د‬
‫الق اهر اجلرج اين ال ذي يق ول ‪« :‬والتمثي ل ض رب من ض روب التش بيه ‪ ،‬والتش بيه ع ام‬
‫والتمثيل أخص منه ‪ ،‬فكل متثيل تشبيه ‪ ،‬وليس كل تشبيه متثيال» (‪.)4‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب الصناعتني ص ‪.239‬‬
‫(‪ )2‬انظر منت التلخيص يف «جمموع املتون الكربى» ص ‪.473‬‬
‫(‪ )3‬كتاب األقصى القريب للتنوخي ص ‪.41‬‬
‫(‪ )4‬كتاب أسرار البالغة ص ‪.75‬‬

‫‪62‬‬
‫ويوضح عبد القاهر رأيه هذا يف موضع آخر من كتابه بقوله ‪« :‬واعلم أن الشيئني‬
‫إذا ش ّبه أح دمها ب اآلخر ك ان ذل ك على ض ربني أح دمها ‪ :‬أن يك ون من جه ة أم ر بنّي ال‬
‫حيتاج فيه إىل تأويل ‪ ،‬واآلخر ‪ :‬أن يكون الشبه حمّص ال بضرب من التأويل» (‪.)1‬‬
‫مث يروح يشرح قوله هذا يف إسهاب مفاده أن التشبيه العام هو ما كان وجه الشبه‬
‫فيه مفردا ‪ ،‬أي صفة أو صفات اشرتكت بني شيئني ليس غري ‪ ،‬وأن تشبيه التمثيل هو ما‬
‫كان وجه الشبه فيه صورة مأخوذة أو منتزعة من أشياء عدة‪.‬‬
‫فقول البحرتي يف ممدوحه مثال ‪:‬‬
‫من ه قرب ا ت زدد من الفق ر بع دا‬ ‫ازدد‬ ‫ماح واجلود ف‬ ‫و حبر الس‬ ‫ه‬
‫هذا التشبيه على رأي عبد القاهر تشبيه عام ألن البحرتي فيه يشبه ممدوحه بالبحر‬
‫يف اجلود والسماح ‪ ،‬فوجه الشبه هنا مفرد وهو اشرتاك املمدوح والبحر يف صفة اجلود‪.‬‬
‫وقول املتنيب يف ممدوحه سيف الدولة ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫كم ا نفض ت جناحيه ا العق اب‬ ‫ه‬ ‫ك جانبي‬ ‫ز اجليش حول‬ ‫يه‬
‫هو عند عبد القاهر تشبيه متثيل ‪ ،‬ألن املتنيب يشبه صورة جانيب اجليش ‪ ،‬أي صورة‬
‫ميمن ة اجليش وميس رته وس يف الدول ة بينهم ا وم ا فيهم ا من حرك ة واض طراب بص ورة‬
‫عقاب تنفض جناحيها وحتركهما‪ .‬ووجه الشبه هنا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬نفس املرجع ص ‪ 70‬ـ ‪.71‬‬
‫(‪ )2‬العقاب بضم العني ‪ :‬من الطيور الكاسرة ‪ ،‬وهي طائر خفيف اجلناح سريع الطريان ‪ ،‬وهبا يضرب املثل يف‬
‫العزة واملنعة ‪ ،‬فيقال ‪« :‬أمنع من عقاب اجلو»‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ليس صفة مفردة ‪ ،‬ولكنه صورة منتزعة من متعدد ‪ ،‬وهي وجود جانبني لشيء يف حالة‬
‫حركة ومتوج‪.‬‬
‫عبد القاهر إذن يفرق بني التشبيه العام وتشبيه التمثيل على النحو الذي بسطناه ‪،‬‬
‫ويرى أن بني االثنني عموما وخصوصا مطلقا ‪ ،‬فكل متثيل عنده تشبيه وليس كل تشبيه‬
‫متثيال‪.‬‬
‫ولكّن كث ريا من البالغ يني ينظ رون إىل املع ىن اللغ وي للتش بيه ‪ ،‬وه و التمثي ل ‪،‬‬
‫فيجعل ون التش بيه والتمثي ل م رتادفني ‪ ،‬ومن ه ؤالء البالغ يني ض ياء ال دين بن األث ري ال ذي‬
‫يقول ‪« :‬وجدت علماء البيان قد فّر قوا بني التشبيه والتمثيل ‪ ،‬وجعلوا هلذا بابا وهلذا بابا‬
‫مفردا ‪ ،‬ومها شيء واحد ال فرق بينهما يف أصل الوضع ‪ ،‬يقال ش ّبهت هذا الشيء هبذا‬
‫الشيء ‪ ،‬كما يقال مثلته به‪ .‬وما أعلم كيف خفي ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره‬
‫ووضوحه» (‪.)1‬‬

‫أركان التشبيه‬
‫أركان التشبيه أربعة هي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ املشّبه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ املشبه به‪ .‬ويسميان «طريف التشبيه»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أداة التشبيه ‪ ،‬وهي الكاف أو حنوها ملفوظة أو مقدرة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وجه الشبه ‪ ،‬وهو الصفة أو الصفات اليت جتمع بني الطرفني‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب املثل السائر ص ‪.153‬‬

‫‪64‬‬
‫طرفا التشبيه‬
‫طرف ا التش بيه مها املش به واملش به ب ه ‪ ،‬ومها ركن اه األساس يان ‪ ،‬وب دوهنما ال يك ون‬
‫تشبيه‪.‬‬
‫ولع ل قدام ة بني جعف ر ه و أول من حبث التش بيه حبث ا أق رب إىل املنه اج العلمي ‪،‬‬
‫فأس اس التش بيه عن ده أن يق ع بني ش يئني بينهم ا اش رتاك يف مع ان تعّم هم ا ويوص فان هبا ‪،‬‬
‫وافرتاق يف أشياء ينفرد كل واحد منهما بصفتها‪.‬‬
‫وهو يبين قوله هذا على أساس أن الشيء ال يشّبه بنفسه وال بغريه من كل اجلهات‬
‫‪ ،‬ألن الشيئني إذا تشاهبا من مجيع الوجوه ‪ ،‬ومل يقع بينهما تغاير البتة احّت دا ‪ ،‬فصار االثنان‬
‫واحدا‪ .‬وإذا كان األمر كذلك ‪ ،‬فأحسن التشبيه عنده هو ما وقع بني الشيئني اشرتاكهما‬
‫يف الصفات أكثر من انفرادمها فيها ‪ ،‬حىت يدىن هبما إىل حال االحتاد (‪.)1‬‬
‫وقد تابع أبو هالل العسكري قدامة يف رأيه القائل بأن الشيئني إذا تشاهبا من مجيع‬
‫الوج وه ‪ ،‬ومل يق ع بينهم ا تغ اير البت ة احتدا ‪ ،‬فص ار االثن ان واح دا ‪ ،‬وذل ك إذ يق ول ‪:‬‬
‫«ويصح تشبيه الشيء بالشيء مجلة ‪ ،‬وإن شاهبه من وجه واحد ‪ ،‬مثل قولك ‪ :‬وجهك‬
‫مث ل الش مس ‪ ،‬ومث ل الب در ‪ ،‬وإن مل يكن مثلهم ا يف ض يائهما وال عظمهم ا ‪ ،‬وإمنا ش ّبه‬
‫هبم ا ملع ىن جيمعهم ا وإي اه وه و احلس ن‪ .‬وعلى ه ذا ق ول اهلل عزوجل ‪َ( :‬و َل ُه اْلَج واِر‬
‫اْلُم ْنَش آُت ِفي اْلَبْح ِر َك اَأْلْعالِم ‪ )،‬إمنا شّبه املراكب باجلبال من جهة عظمها ال من جهة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر نقد الشعر لقدامة ص ‪ 77‬ـ ‪.78‬‬

‫‪65‬‬
‫صالبتها ورسوخها ورزانتها ‪ ،‬ولو أشبه الشيء الشيء من مجيع جهاته لكان هو هو» (‪.)1‬‬
‫وما من شك يف أن ابن رشيق كان ينظر أيضا إىل قول قدامة اآلنف الذكر عند ما‬
‫قال يف كتابه العمدة ما معناه ‪ :‬إن املشبه لو ناسب املشبه به مناسبة كلية لكان إياه ‪،‬‬
‫كقوهلم «فالن كالبحر» ‪ ،‬إمنا يريدون كالبحر مساحة وعلما وليس يريدون ملوحة البحر‬
‫وزعوقته (‪.)2‬‬
‫ومما جيري جمرى الكالم الس ابق بالنس بة لط ريف التش بيه ق ول الس كاكي ‪« :‬ال خيفى‬
‫عليك أن التشبيه مستدع طرفني مشّبها ومشّبها به ‪ ،‬واشرتاكا بينهما من وجه وافرتاقا من‬
‫آخر ‪ ،‬مثل أن يش رتكا يف احلقيق ة وخيتلف ا يف الص فة أو ب العكس‪ .‬ف األول كاإلنسانني إذا‬
‫اختلف ا ط وال وقص را ‪ ،‬والث اين ك الطولني إذا اختلف ا حقيق ة ‪ :‬إنس انا وفرس ا ‪ ،‬وإال ف أنت‬
‫خب ري ب أن ارتف اع االختالف من مجي ع الوج وه ح ىت التعنّي ي أىب التع دد ‪ ،‬فيبط ل التش بيه ‪،‬‬
‫ألن تشبيه الشيء ال يكون إال وصفا له مبشاركته املش ّبه به يف أمر ‪ ،‬والشيء ال يتصف‬
‫بنفسه‪ .‬كما أن عدم االشرتاك بني الشيئني يف وجه من الوجوه مينعك حماولة التشبيه بينهما‬
‫‪ ،‬لرجوعه إىل طلب الوصف حيث ال وصف» (‪.)3‬‬

‫وطرفا التشبيه ‪ :‬إما ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ حسّيان ‪ :‬واملراد باحلسّي ما يدرك هو أو مادته بإحدى احلواس اخلمس الظاهرة‬
‫؛ ومعىن هذا أهنما قد يكونان من املبصرات ‪ ،‬أو‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب الصناعتني ص ‪.239‬‬
‫(‪ )2‬كتاب العمدة ج ‪ 1‬ص ‪.256‬‬
‫(‪ )3‬كتاب مفتاح العلوم للسكاكي ص ‪.177‬‬

‫‪66‬‬
‫املسموعات ‪ ،‬أو يف املذوقات ‪ ،‬أو املشمومات ‪ ،‬أو امللموسات ‪:‬‬
‫أ ـ فيكون ان من املبص رات ‪ ،‬أي مما ي درك بالبص ر من األل وان واألش كال واملق ادير‬
‫واحلرك ات وم ا يتص ل هبا ‪ ،‬كقول ه تع اىل ‪َ( :‬ك َأَّنُه َّن اْلي اُقوُت َو اْلَمْر ج اُن ) فاجلامع البي اض‬
‫واحلمرة‪ .‬وكقول الشاعر ‪:‬‬
‫ا‬ ‫رقا وغرب‬ ‫ون ش‬ ‫ك العي‬ ‫جتتلي‬ ‫ياء‬ ‫ة وض‬ ‫أنت جنم يف رفع‬
‫فاملخاطب املمدوح هنا شّبه بالنجم يف الرفعة والضياء‪.‬‬
‫وحنو تشبيه اخلد بالورد يف البياض املشرب حبمرة ‪ ،‬وتشبيه الوجه احلسن بالشمس‬
‫والقمر يف الضياء والبهاء ‪ ،‬والشعر بالليل يف السواد‪.‬‬
‫ب ـ ويكون ان من املس موعات ‪ ،‬أي مما ي درك بالس مع من األص وات الض عيفة‬
‫والقوية واليت بني بني ‪ ،‬حنو تشبيهك صوت بعض األشياء بصوت غريه ‪ ،‬كتشبيه صوت‬
‫املرأة اجلمي ل بص وت البلب ل ‪ ،‬وص وت الغاض ب اهلائج بنب اح الكالب ‪ ،‬وكق ول ام رىء‬
‫القيس ‪:‬‬
‫ال‬ ‫ين واملرء ليس بق ّت‬ ‫يغ ط غطي ط البك ر ش د خناق ه ليقتل‬
‫ف امرؤ القيس يص ور هن ا غض ب رج ل أظه رت امرأت ه ميال حنو الش اعر ‪ ،‬فيش به‬
‫غطيط أو صوت هذا الزوج املغيظ احملنق بغطيط البكر وهو الف ّيت من اإلبل الذي يشد‬
‫حبل يف خناقه لرتويضه وتذليله‪.‬‬
‫ج ـ ويكون ان يف املذوقات ‪ ،‬أي مما ي درك بال ذوق من املطع وم ‪ ،‬كتش بيه بعض‬
‫الفواكه احللوة بالعسل والسكر ‪ ،‬والريق بالشهد أو اخلمر ‪ ،‬وكقول الشاعر ‪:‬‬
‫ل‬ ‫وريح اخلزامى وذوب العس‬ ‫ام‬ ‫وب الغم‬ ‫أن املدام وص‬ ‫ك‬
‫إذا النجم وس ط الس ماء اعت دل‬ ‫رد أنياهبا ‪..‬‬ ‫هب‬ ‫لب‬ ‫يع‬

‫‪67‬‬
‫د ـ ويكون ان يف املش مومات ‪ ،‬أي مما ي درك حباس ة الش م من ال روائح ‪ ،‬وه ذا حنو‬
‫تش بيه رائح ة بعض الري احني برائح ة الك افور واملس ك ‪ ،‬وتش بيه الّنكه ة ب العنرب ‪ ،‬وتش بيه‬
‫أنفاس الطفل بعطر الزهر ‪ ،‬وتشبيه رائحة فم املرأة وأعطافها بعد النوم باملسك‪.‬‬
‫ه ـ ويكونان يف امللموسات ‪ ،‬أي يف كل ما يدرك باللمس من احلرارة والربودة ‪،‬‬
‫والرطوبة واليبوسة ‪ ،‬واخلشونة واملالسة ‪ ،‬واللني والصالبة ‪ ،‬واخلفة والثقل وما يتصل هبا‬
‫؛ كتشبيه اللني الناعم باخلز ‪ ،‬واجلسم باحلرير ‪ ،‬وكقول الشاعر ‪:‬‬
‫رخيم احلواش ي ال ه راء وال ن زر‬ ‫هلا بش ر مث ل احلري ر ومنط ق‬
‫‪ 2‬ـ أو عقلي ان ‪ :‬واملراد ب الطرفني العقل يني أهنم ا ال ي دركان ب احلس ب ل بالعق ل ‪،‬‬
‫وذلك كتشبيه العلم باحلياة ‪ ،‬واجلهل باملوت ‪ ،‬فقد شبه هنا معقول مبعقول ‪ ،‬أي أن كال‬
‫منهما ال يدرك إال بالعقل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أو خمتلف ان ‪ :‬وذل ك ب أن يك ون أح دمها عقلي ا واآلخ ر حس ّيا ‪ ،‬كتش بيه املنّي ة‬
‫بالسبع ‪ ،‬واملعقول هو املشبه ‪ ،‬واحملسوس هو املشبه به ‪ ،‬وكتشبيه العطر باخللق الكرمي ‪،‬‬
‫فاملشبه وهو العطر حمسوس بالشم ‪ ،‬واملشبه به وهو اخللق عقلّي ‪.‬‬
‫والتش بيه احلس ي ال ذي ي درك ه و أو مادت ه بإح دى احلواس اخلمس ي دخل في ه أو‬
‫يلحق به التشبيه «اخليايل»‪ .‬والتشبيه اخليايل هو املركب من أمور كل واحد منها موجود‬
‫يدرك باحلّس ‪ ،‬لكن هيئته الرتكيبية ليس هلا وجود حقيقي يف عامل الواقع ‪ ،‬وإمنا هلا وجود‬
‫متخّيل أو خيايل‪.‬‬
‫ولكن ألن أجزاء التشبيه اخليايل موجودة تدرك باحلس أحلق بالتشبيه‬

‫‪68‬‬
‫احلسي ‪ ،‬الشرتاك احلس واخليال يف أن املدرك هبما صورة ال معىن ‪ ،‬وذلك كقول الشاعر‬
‫‪:‬‬
‫ّعد‬ ‫ّو ب أو تص‬ ‫ق إذا تص‬ ‫قي‬ ‫ّر الش‬ ‫أّن حمم‬ ‫وك‬
‫( ‪)1‬‬
‫د‬ ‫اح من زبرج‬ ‫ن على رم‬ ‫ر‬ ‫اقوت نش‬ ‫أعالم ي‬
‫فاهليئة الرتكيبية اليت قصد التشبيه هبا هنا ‪ ،‬وهي نشر أعالم خملوقة من الياقوت على‬
‫رم اح خملوق ة من الزبرج د مل تش اهد ق ط لع دم وجوده ا يف ع امل احلس والواق ع ‪ ،‬ولكن‬
‫العناصر اليت تألفت منها هذه الصورة املتخيلة ‪ ،‬من األعالم والياقوت والرماح والزبرجد‬
‫موجودة يف عامل الواقع وتدرك باحلس‪.‬‬
‫ويدخل البالغيون يف التشبيه العقلي ما يسمونه بالتشبيه «الومهّي » ‪ ،‬وهو ما ليس‬
‫مدركا بإحدى احلواس اخلمس الظاهرة ‪ ،‬ولكنه لو وجد فأدرك ‪ ،‬لكان مدركا هبا ‪ ،‬كما‬
‫يف قول ه تع اىل يف ش جرة الزق وم ال يت خترج يف أص ل اجلحيم ‪َ( :‬طْلُعه ا َك َأَّن ُه ُر ُؤ ُس‬
‫الَّش ياِط يِن ) ‪ ،‬وكقول امرىء القيس ‪:‬‬
‫ومس نونة زرق كأني اب أع وال؟‬ ‫اجعي‬ ‫ريف مض‬ ‫ين واملش‬ ‫أيقتل‬
‫فالشياطني (‪ )2‬والغول وأنياهبا مما ال يدرك بإحدى احلواس اخلمس الظاهرة ‪ ،‬ولكنها‬
‫لو وجدت فأدركت لكان إدراكها عن طريق حاسة البصر‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الش قيق ‪ :‬ورد أمحر يف وس طه س واد ينبت يف اجلب ال ‪ ،‬وتص وب ‪ :‬م ال إىل أس فل ‪ ،‬وتص عد ‪ :‬م ال إىل‬
‫أعلى‪.‬‬
‫(‪ )2‬من ع ادة الع رب أن يش بهوا ك ل ق بيح الص ورة بالش يطان ألن ل ه ص ورة بش عة يف ت ومههم ‪ ،‬وأن يش بهوا‬
‫حسن الصورة بامللك بفتح الالم ‪ ،‬حلسن صورته يف تومههم‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫وي دخل يف العقلي أيض ا م ا ي درك بالوج دان ‪ ،‬كالل ذة واألمل ‪ ،‬والّش بع واجلوع ‪،‬‬
‫والفرح والغضب‪ .‬وما يدرك بالوجدان يعين ما يدرك بالقوى الباطنية مثل القوة اليت يدرك‬
‫هبا الّش بع ‪ ،‬وال يت ي درك هبا اجلوع ‪ ،‬وك القوة الغض بية ال يت ي درك هبا الغض ب ‪ ،‬وك ذلك‬
‫القوة اليت يدرك هبا الفرح واخلوف وغري ذلك من الغرائر‪.‬‬
‫فمثل هذه املعاين توجد بفعل قوى باطنية تدركها النفس هبا ‪ ،‬وتسمى تلك القوى‬
‫وج دانا ‪ ،‬واملدركات هبا وج دانيات‪ .‬وق د مسيت عقلي ة خلفائه ا وع دم إدراكه ا ب احلواس‬
‫الظاهرة ‪ ،‬كاأللوان املدركة بالعني ‪ ،‬والطعم املدرك بالذوق‪.‬‬

‫أجود التشبيه عند أبي هالل ‪:‬‬


‫وعند أيب هالل العسكري أن أجود التشبيه وأبلغه ما يقع على أربعة (‪ )1‬أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬إخراج ما ال تقع عليه احلاسة إىل ما تقع عليه ‪ ،‬وهو قول اهلل عزوجل ‪:‬‬
‫(َو اَّلِذ يَن َكَف ُر وا َأْعماُلُه ْم َك َس راٍب ِبِق يَعٍة)(‪ْ )2‬حَيَس ُبُه الَّظْم آُن ماًء ‪ ،‬فأخرج ما ال حيس إىل ما‬
‫حيس ‪ ،‬واملع ىن ال ذي جيمعهم ا بطالن املت وهم م ع ش دة احلاج ة وعظم الفاق ة ول و ق ال ‪:‬‬
‫«حيس به ال رائي م اء» مل يق ع موق ع قول ه ‪« :‬الظم آن» ؛ ألن الظم آن أش د فاق ة إىل املاء ‪،‬‬
‫وأعظم حرصا عليه‪.‬‬
‫وهكذا قوله تعاىل ‪َ( :‬م َثُل اَّلِذ يَن َكَف ُر وا ِبَر ِّبِه ْم َأْع ماُلُه ْم َك َر ماٍد اْش َتَّد ْت‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب الصناعتني ص ‪.240‬‬
‫(‪ )2‬القيعة بكسر القاف والقاع ‪ :‬املستوي من األرض الذي ال ينبت‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ِبِه الِّر يُح ِفي َيْو ٍم عاِصٍف ‪ ).‬واملعىن اجلامع بينهما بعد التالقي ‪ ،‬وعدم االنتفاع‪.‬‬
‫وك ذلك قوله تع اىل يف حال من كذب بآياته ورفض اإلميان يف ك ل حال «فمثله‬
‫كمثل الكلب إن حتمل عليه يلهث أو ترتكه يلهث» ‪ ،‬أخرج ما ال تقع عليه احلاسة إىل ما‬
‫تق ع علي ه من هلث الكلب‪ .‬واملع ىن أن الكلب ال يطيع ك يف ت رك اللهث على ح ال ‪،‬‬
‫وكذلك الكافر ال جييبك إىل اإلميان يف رفق وال عنف‪.‬‬
‫ومثل ه قول ه تع اىل ‪ ( :‬اَّل ِذ ي ْد ُعوَن ِم ُدوِنِه ال ِج ي وَن َل ِبَش ٍء ِإاَّل َك باِس ِط‬
‫َيْس َت ُب ُه ْم ْي‬ ‫ْن‬ ‫َو َن َي‬
‫َك َّف ْي ِه ِإَلى اْلم اِء ِلَيْبُل َغ ف اُه َو م ا ُه َو ِبباِلِغِه ‪ )،‬فاملعىن الذي جيمع بينهما احلاجة إىل املنفعة ‪،‬‬
‫واحلسرة ملا يفوت من درك احلاجة‪.‬‬

‫والوجه اآلخر ‪:‬‬


‫ما مل جتر به العادة إىل ما جرت به العادة ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪َ( :‬و ِإْذ َنَتْق َنا اْلَجَبَل َفْو َقُه ْم‬
‫َك َأَّنُه ُظَّلٌة َو َظُّنوا َأَّنُه واِقٌع ِبِه ْم ‪ )1()،‬واملعىن اجلامع بني املشبه واملشبه به االنتفاع بالصورة‪.‬‬
‫ومن هذا قوله تعاىل ‪ِ( :‬إَّنما َث اْل ي اِة ال ُّد ْنيا َك م اٍء َأ ْلن اُه ِم الَّس ماِء َفاْخ َلَط ِب ِه‬
‫َت‬ ‫َن‬ ‫ْنَز‬ ‫َم ُل َح‬
‫َنب اُت اَأْلْر ِض ِم َّم ا َيْأُك ُل الَّناُس َو اَأْلْنع اُم ‪َ ،‬ح َّتى ِإذا َأَخ َذ ِت اَأْلْرُض ُز ْخ ُر َفه ا َو اَّز َّيَنْت ‪َ ،‬و َظَّن‬
‫َأْه ُلها َأَّنُه ْم قاِد ُر وَن َعَلْيها َأتاه ا َأْم ُر ن ا َلْيًال َأْو َنه ارًا َفَجَعْلناه ا َح ِص يدًا ‪َ ،‬ك َأْن َلْم َتْغَن ِب اَأْلْم ِس‬
‫‪ )2()،‬هو بيان ما جرت به العادة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬النت ق ‪ :‬الزعزع ة والنقض والرف ع ‪ ،‬ومع ىن «نتقن ا اجلب ل» زعزعن اه ورفعن اه ‪ ،‬والظل ة ‪ :‬الغمام ة ‪ ،‬واملراد‬
‫باجلبل ‪ :‬جبل الطور‪.‬‬
‫(‪ )2‬سورة يونس ‪ ، 24‬اختلط به نبات األرض ‪ :‬اختلط النبات بعضه ببعض بسبب املاء وجودة األرض ‪،‬‬
‫أخ ذت األرض زخرفه ا ‪ :‬ص ار منظره ا هبيج ا ‪ ،‬وازينت ‪ :‬أي بأش كال ـ النب ات وألوان ه ‪ ،‬ق ادرون عليه ا ‪:‬‬
‫ق ادرون على التمت ع هبا ‪ ،‬أتاه ا أمرن ا ‪ :‬ن زل هبا م ا أمرن ا ب ه من إهالكه ا ‪ ،‬جعلناه ا حص يدا ‪ :‬جعلن ا م ا على‬
‫األرض كاحملصود ‪ ،‬أي هالكا ‪ ،‬كأن مل تغن باألمس ‪ :‬كأن مل يكن نباهتا موجودا باألمس‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫إىل ما مل جتر به ‪ ،‬واملعىن الذي جيمع األمرين الزينة والبهجة ‪ ،‬مث اهلالك ‪ ،‬وفيه العربة ملن‬
‫اعترب واملوعظة ملن تذكر‪.‬‬
‫ِم‬
‫ومن ه قول ه تع اىل ‪ِ( :‬إَّن ا َأْرَس ْلنا َعَلْيِه ْم ِر يح ًا َص ْر َص رًا ِفي َيْو َنْح ٍس ُمْس َتِم ٍّر ‪َ ،‬تْن ِز ُع‬
‫الَّن اَس َك َأَّنُه ْم َأْعج اُز َنْخ ٍل ُمْنَق ِع ٍر ‪ )،‬ف اجتمع األم ران يف قل ع ال ريح هلم ا وإهالكهم ا ‪،‬‬
‫والتخوف من تعجيل العقوبة‪.‬‬
‫ومن ه قول ه تع اىل ‪َ( :‬ف ِإ َذا اْنَش َّق ِت الَّس ماُء َفك اَنْت َو ْر َدًة َك ال ِّدهاِن ‪ )1()،‬واجلامع‬
‫للمعنيني احلمرة ولني اجلوهر ‪ ،‬وفيه الداللة على عظم الشأن ‪ ،‬ونفوذ السلطان‪.‬‬
‫ِع‬
‫ومنه قوله تعاىل ‪( :‬اْع َلُم وا َأَّنَم ا اْلَح ياُة الُّد ْنيا َل ٌب َو َلْه ٌو َو ِز يَنٌة َو َتف اُخ ٌر َبْيَنُك ْم َو َتك اُثٌر‬
‫ِفي اَأْلْم واِل َو اَأْلْو الِد َك َم َث ِل َغْيٍث َأْع َج َب اْلُك َّف اَر َنباُت ُه ‪ُ ،‬ثَّم َيِه يُج َفَت راُه ُمْص َفًّر ا ُثَّم َيُك وُن‬
‫ُح طام ًا ‪ )،‬واجلامع بني األمرين اإلعجاب ‪ ،‬مث سرعة االنقالب ‪ ،‬وفيه االحتقار ‪ ،‬للدنيا ‪،‬‬
‫والتحذير من االغرتار هبا‪.‬‬

‫والوجه الثالث ‪:‬‬


‫إخ راج م ا ال يع رف بالبديه ة إىل م ا يع رف هبا ‪ ،‬فمن ه ذا قول ه عزوج ل ‪:‬‬
‫(َو ساِر ُعوا ِإلى َمْغِف َر ٍة ِم ْن َر ِّبُك ْم َو َج َّنٍة َعْر ُضَه ا الَّس ماواُت َو اَأْلْرُض ‪ )،‬فقد أخرج ما ال يعلم‬
‫بالبديهة وهو عرض اجلنة إىل ما يعلم‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬وردة ‪ :‬كوردة ‪ ،‬كالدهان ‪ :‬أصله ما يدهن به ‪ ،‬واملراد كالزيت الذي يغلى ‪ ،‬فهو تشبيه آخر قصد به أن‬
‫وجه الشبه هو الذوبان واحلرارة‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫هبا ‪ ،‬واجلامع بني األمرين العظم ‪ ،‬والفائدة فيه التشويق إىل اجلنة حبسن الصفة‪.‬‬
‫ِم‬ ‫ِح‬ ‫ِم‬ ‫َّلِذ‬
‫ومثله قوله تعاىل ‪َ( :‬م َثُل ا يَن ُح ِّم ُلوا الَّتْو راَة ُثَّم َلْم َيْح ُلوها ‪َ ،‬ك َم َثِل اْل ماِر َيْح ُل‬
‫َأْس فارًا) واجلامع بني األم رين اجله ل ب احملمول ‪ ،‬والفائ دة في ه ال رتغيب يف حتف ظ العل وم ‪،‬‬
‫وترك االتكال على الرواية دون الدراية‪.‬‬
‫ومنه قوله تعاىل ‪َ ( :‬أَّما عاٌد َفُأْه ِلُك وا ِبِر يٍح َص َص ٍر عاِتَيٍة ‪َ ،‬س َّخ ها َعَلْيِه َس ْبَع َلي اٍل‬
‫ْم‬ ‫َر‬ ‫ْر‬ ‫َو‬
‫َو َثماِنَيَة َأَّياٍم ُح ُس ومًا ‪َ ،‬فَتَر ى اْلَق ْو َم ِفيها َص ْر عى َك َأَّنُه ْم َأْعج اُز َنْخ ٍل خاِو َيٍة ‪ )،‬واجلامع بني‬
‫( ‪)1‬‬

‫األمرين خلو األجساد من األرواح ‪ ،‬والفائدة احلث على احتقار ما يؤول به احلال‪.‬‬
‫وهك ذا قول ه تع اىل ‪َ ( :‬ث اَّل ِذ ي اَّتَخ ُذ وا ِم ُدوِن اِهلل َأ ِلي ا َك َث ِل اْل ْنَك وِت‬
‫َع ُب‬ ‫ْو َء َم‬ ‫ْن‬ ‫َم ُل َن‬
‫اَّتَخ َذ ْت َبْيت ًا َو ِإَّن َأْو َه َن اْلُبُي وِت َلَبْيُت اْلَعْنَك ُب وِت َل ْو ك اُنوا َيْع َلُم وَن ‪ )،‬فاجلامع بني األمرين‬
‫ضعف املعتمد ‪ ،‬والفائدة التحذير من محل النفس على التغرير بالعمل على غري أس‪.‬‬

‫والوجه الرابع ‪:‬‬


‫إخ راج م ا ال ق وة ل ه يف الص فة على م ا ل ه ق وة فيه ا ‪ ،‬كقول ه عزوجل ‪َ( :‬و َل ُه‬
‫اْلَج واِر اْلُم ْنَش آُت ِفي اْلَبْح ِر َك اَأْلْعالِم ‪ )،‬واجلامع بني األمرين العظم ‪ ،‬والفائدة البيان عن‬
‫القدرة يف تسخري األجسام العظام يف أعظم ما‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬ريح صرصر ‪ :‬أي شديدة الصوت مزعجة ‪ ،‬عاتية ‪ :‬بالغة منتهى الشدة يف التدمري ‪ ،‬حسوما ‪ :‬مجع حاسم‬
‫‪ ،‬أي ق اطع ب وزن ش هود وش اهد ‪ ،‬واملراد قاطع ات ل دابرهم ‪ ،‬ص رعى ‪ :‬مجع ص ريع أي هال ك ‪ ،‬أعج از خنل‬
‫خاوية ‪ :‬أي جذوع خنل خالية تناثر كل ما يف جوفها‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫يكون من املاء‪ .‬وعلى هذا الوجه جيري أكثر تشبيهات القرآن ‪ ،‬وهي الغاية يف اجلودة ‪،‬‬
‫والنهاية يف احلسن‪.‬‬
‫وقد جاء يف أشعار احملدثني تشبيه ما يرى بالعيان مبا ينال بالفكر ‪ ،‬وهو رديء ‪،‬‬
‫وإن كان بعض الناس يستحسنه ملا فيه من اللطافة والدقة ‪ ،‬وهو مثل قول الشاعر ‪:‬‬
‫وأف ق اللي ل مرتف ع الّس جوف‬ ‫ون دمان س قيت ال راح ص رفا‬
‫ف‬ ‫ىن دّق يف ذهن لطي‬ ‫كمع‬ ‫ص فت وص فت زجاجته ا عليه ا‬
‫فأخرج ما تقع عليه احلاسة إىل ما ال تقع عليه ‪ ،‬وما يعرف بالعيان إىل ما يعرف‬
‫بالفكر‪ .‬ومثله كثري يف أشعارهم‪.‬‬

‫أقسام التشبيه عند المبرد ‪:‬‬


‫واملربد من أوائل العلماء الذين درسوا فن التشبيه ‪ ،‬وهو يقسمه إىل أربعة أضرب ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ التش بيه املف رط ‪ :‬وه و التش بيه املب الغ في ه ‪ ،‬أو املب الغ يف الص فة ال يت جتم ع بني‬
‫املشبه واملشبه به ‪ ،‬كقول اخلنساء يف أخيها صخر ‪:‬‬
‫ار‬ ‫هن‬ ‫ه علم يف رأس‬ ‫كأن‬ ‫ه‬ ‫أمت اهلداة ب‬ ‫خرا لت‬ ‫وإن ص‬
‫فجعلت املهتدي يأمت به ‪ ،‬وجعلته كأنه نار يف رأس علم ‪ ،‬والعلم اجلبل‪.‬‬
‫ومن هذا النوع يف شعر احملدثني قول بشار ‪:‬‬
‫ع احلذار‬ ‫بني إن نف‬ ‫ذار ال‬ ‫ح‬ ‫نّز ي‬ ‫رة ت‬ ‫ؤاده ك‬ ‫أن ف‬ ‫ك‬
‫وقول أيب نواس احلسن بن هاىنء يف صفة اخلمر ‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫متن ع الك ّف م ا ت بيح العيون ا‬
‫( ‪)1‬‬
‫اء‬ ‫ا فهب‬ ‫ا اجتليته‬ ‫إذا م‬ ‫ف‬
‫ا‬ ‫وتبّق ى لباهبا املكنون‬ ‫أك ل ال دهر م ا جتّس م منه ا‬
‫ا‬ ‫ىن خمرّي أن يكون‬ ‫يتم‬ ‫فهي بك ر كأهنا ك ل ش يء‬
‫دينا‬ ‫ا أي‬ ‫ات بروجه‬ ‫جاري‬ ‫أهنن جنوم‬ ‫ؤوس ك‬ ‫يف ك‬
‫ربن فين ا‬ ‫ربن يغ‬ ‫اغ‬ ‫ف إذا م‬ ‫ا‬ ‫قاة علين‬
‫ات من ال ّس‬ ‫طالع‬
‫فهذا تشبيه مفرط يصفه املربد بأنه غاية على سخف كالم احملدثني!‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التشبيه املصيب ‪ :‬ويفهم من األمثلة اليت أوردها املربد أنه يعين به ما خال من‬
‫املبالغة وأخرج األغمض إىل األوضح ‪ ،‬كقول امرىء القيس يف طول الليل ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫ك أن الثري ا عّلقت يف مص امها ب أمراس كت ان إىل ص ّم جن دل‬
‫فهذا التشبيه يف ثبات الليل ‪ ،‬ألنه خييل إليه من طوله كأن جنومه مشدودة حبب ال من‬
‫الكت ان إىل ص خور ص لبة ‪ ،‬وإمنا اس تطال اللي ل ملعانات ه اهلم وم ومقاس اته األح زان في ه‪.‬‬
‫وكقوله يف ثبات الليل ‪:‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫بك ل مغ ار الفت ل ش دت بي ذبل‬ ‫في ا ل ك من لي ل ك أن جنوم ه‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬اهلب اء ‪ :‬ال ذرات املنبث ة ال يت ت رى يف ض وء الش مس ‪ ،‬وجتس م ‪ :‬ص ار جس ما ‪ ،‬أي مل يب ق من اخلم ر إال‬
‫روحها ‪ ،‬ألن اخلمر إذا عتقت صفت ورقت وكاد خيفى جسمها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الثريا ‪ :‬من الكواكب ‪ ،‬ومسيت بذلك لكثرة كواكبها مع صغر مرآهتا ‪ ،‬يف مصامها ‪ :‬يف مكاهنا الذي ال‬
‫تربح منه كمصام الفرس ‪ ،‬وهو مربطه ‪ ،‬واألمراس ‪ :‬مجع مرس وهو احلبل ‪ ،‬وصم ‪ :‬مجع أصم ‪ ،‬وهو الصلب‬
‫‪ ،‬واجلندل ‪ :‬الصخرة ‪ ،‬واجلمع جنادل‪.‬‬
‫(‪ )3‬مغار الفتل ‪ :‬شديد الفتل ‪ ،‬ويذبل ‪ :‬اسم جبل‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫فهو هنا يشبه جنوم الليل يف ثباهتا وعدم حتركها كما لو كانت قد شدت بشيء‬
‫مفتول قوي إىل جانب هذا اجلبل‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن رشيق أمثلة للتشبيه املصيب منها قول النابغة يف وصف املتجردة ‪:‬‬
‫نظ ر الس قيم إىل وج وه الع ّو د‬ ‫نظ رت إلي ك حباج ة مل تقض ها‬
‫وقول عدي بن الرقاع العاملي ‪:‬‬
‫عيني ه أح ور من ج آذر جاس م‬ ‫ا‬ ‫اء أعاره‬ ‫ط النس‬ ‫وكأهنا وس‬
‫ائم‬ ‫نة وليس بن‬ ‫هس‬ ‫يف عين‬ ‫وس نان أقص ده النع اس ف رّنقت‬
‫وقول صريع الغواين ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫كأي دي األس ارى أثقلته ا اجلوام ع‬ ‫ا‬ ‫ديها مثار حنوره‬ ‫فغطت بأي‬
‫‪ 3‬ـ التشبيه املقارب ‪ :‬كقول ذي الرمة ‪:‬‬
‫وق د جللت ه املظلم ات احلن ادس‬ ‫ورم ل ك أوراك الع ذارى قطعت ه‬
‫وهذا من نوع التشبيه املقلوب الذي جيعل فيه املشبه مشبها به فالعادة أن أعجاز‬
‫النس اء أو أوراك الع ذارى تش به بكثب ان الرم ال ولكن الش اعر هن ا قلب التش بيه طلب ا‬
‫للمبالغة‪.‬‬
‫ومن املقارب احلسن قول الشماخ ‪:‬‬
‫خالف النص ل س يط ب ه مش يج‬ ‫ه‬ ‫رخني من‬ ‫أن املنت والش‬ ‫ك‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب العمدة ج ‪ 1‬ص ‪ ، 270‬واجلوامع ‪ :‬األكبال‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫يريد سهما رمى به فأنفذ الرمّي ة وقد اتصل به دمها ‪ ،‬واملنت منت السهم ‪ ،‬وشرخ‬
‫كل شيء حده ‪ ،‬فأراد شرخي الفوق (‪ )1‬ومها حرفاه ‪ ،‬واملشيج املختلط‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ التش بيه البعي د ‪ :‬وه و ال ذي حيت اج إىل تفس ري ‪ ،‬وعن د املربد أن ه ذا الن وع ه و‬
‫أخشن الكالم ‪ ،‬كقول الشاعر ‪:‬‬
‫أين محار‬ ‫دار ك‬ ‫ا يف ال‬ ‫إذ أن‬ ‫ا‬ ‫ين أخت جريانن‬ ‫و رأت‬ ‫لل‬ ‫ب‬
‫فإن الشاعر أراد الصحة ‪ ،‬وهذا بعيد ‪ ،‬ألن السامع إمنا يستدل عليه بغريه‪ .‬وقال‬
‫اهلل عزوجل ـ وهو من البني الواضح ـ ‪َ( :‬م َثُل اَّلِذ يَن ُح ِّم ُل وا الَّتْو راَة ُثَّم َلْم َيْح ِم ُلوه ا َك َم َث ِل‬
‫اْلِح ماِر َيْح ِم ُل َأْس فارًا) يف أهنم قد تعاموا عن التوراة وأضربوا عن حدودها وأمرها وهنيها‬
‫حىت صاروا كاحلمار الذي حيمل الكتب وال يعلم ما فيها‪.‬‬
‫ويالحظ على هذا التقسيم الذي أورده املربد للتشبيه أمور منها ‪ :‬أن هذه األنواع‬
‫األربع ة هي ص فات لبعض التش بيهات ‪ ،‬وأن ه مل يض ع ح دودا متيز ك ل ن وع عم ا ع داه‪.‬‬
‫وترك هذا حلدس القارىء وختمينه ‪ ،‬وأنه قد حكم على بعض األمثلة اليت أوردها باحلسن‬
‫أو القبح دون أن يعل ل ملا استحس نه أو اس تقبحه‪ .‬ولكن ه يف عص ره املبك ر ويف املراح ل‬
‫األوىل للبالغة والنقد مل يكن ينتظر منه أن يتوسع يف دراسة التشبيه بأكثر مما فعل‪.‬‬

‫أداة التشبيه‬
‫وأداة التشبيه كل لفظ يدل على املماثلة واالشرتاك ‪ ،‬وهي حرفان وأمساء ‪ ،‬وأفعال‬
‫‪ ،‬وكلها تفيد قرب املشبه من املشبه به يف صفته‪ .‬واحلرفان مها ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الفوق بضم الفاء ‪ :‬فوق السهم ‪ ،‬وهو موضع الوتر‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫‪ 1‬ـ الك اف ‪ :‬وهي األص ل لبس اطتها ‪ ،‬واألص ل فيه ا أن يليه ا املش به ب ه ‪ ،‬كق ول‬
‫الشاعر ‪:‬‬
‫ا‬ ‫خطت كنت هليب‬ ‫اس‬ ‫وإذا م‬ ‫أن ا كاملاء ـ إن رض يت ـ ص فاء‬
‫وقول آخر ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وب‬ ‫راع اخلط‬ ‫يف يف ق‬ ‫والس‬ ‫أنت ك الليث يف الش جاعة واإلق دام‬
‫وقد يليها مفرد ال يتأتى التشبيه به ‪ ،‬وذلك إذا كان املشبه به مركبا ‪ ،‬كقوله تعاىل‬
‫ِبِه‬ ‫ِء‬ ‫ِم‬ ‫ٍء‬ ‫ِة‬
‫‪َ( :‬و اْض ِرْب َلُه ْم َم َثَل اْلَح يا الُّد ْنيا َك ما َأْنَز ْلناُه َن الَّس ما َفاْخ َتَلَط َنباُت اَأْلْر ِض َفَأْص َبَح‬
‫َه ِش يمًا َت ْذ ُر وُه الِّر ي اُح ) إذ ليس املراد تش بيه ح ال ال دنيا باملاء ‪ ،‬وال مبف رد آخ ر يتعم ل‬
‫ويتمحل لتقديره ‪ ،‬بل املراد تشبيه حاهلا يف نضارهتا وهبجتها وما يعقبها من اهلالك والفناء‬
‫‪ ،‬حبال النبات يكون أخضر وارفا مث يهيج فتطرّي ه الرياح كأن مل يكن‪ .‬وحنو قول لبيد ‪:‬‬
‫هبا ي وم حّلوه ا وبع د بالق ع‬ ‫وم ا الن اس إال كال ديار وأهله ا‬
‫فلبيد مل يشبه الناس بالديار ‪ ،‬وإمنا شبه وجودهم يف الدنيا وسرعة زواهلم وفنائهم‬
‫حبلول أهل الديار فيها وسرعة هنوضهم عنها وتركها خالية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ كأن ‪ :‬وتدخل على املشبه أو يليها املشبه ‪ ،‬كقول الشاعر ‪:‬‬
‫باح‬ ‫يم الص‬ ‫ا نس‬ ‫ة فيه‬ ‫ورق‬ ‫ا‬ ‫ك يف لطفه‬ ‫أن أخالق‬ ‫ك‬
‫وقول آخر ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫ّر اب‬ ‫د الّض‬ ‫ه حدائ‬ ‫رجلت‬ ‫ا‬ ‫رية دين‬ ‫مس املن‬ ‫أّن الش‬ ‫وك‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬قراع اخلطوب ‪ :‬مصارعة الشدائد والتغلب عليها‪.‬‬
‫(‪ )2‬جلته ‪ :‬صقلته‪ .‬والضراب ‪ :‬الذي يطبع النقود‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫و «كأن» حرف مركب عند أكثر علماء اللغة من الكاف وإن‪ .‬قالوا ‪ :‬واألصل‬
‫يف «كأن زيدا أسد» «إن زيدا كأسد» مث قدم حرف التشبيه اهتماما به ‪ ،‬ففتحت مهزة‬
‫«إن» لدخول اجلار ‪ ،‬وما بعد الكاف جّر هبا‪.‬‬
‫و «ك أن» للتش بيه على اإلطالق ‪ ،‬وه ذا ه و اس تعماهلا الغ الب واملتف ق علي ه من‬
‫مجه ور النح اة ‪ ،‬وزعم مجاع ة من النح اة أهنا ال تك ون للتش بيه إال إذا ك ان خربه ا امسا‬
‫جامدا ‪ ،‬حنو ‪ :‬كأن زيدا أسد‪ .‬خبالف كأن زيدا قائم ‪ ،‬أو يف الدار ‪ ،‬أو عندك ‪ ،‬أو يقوم‬
‫‪ ،‬فإهنا يف ذل ك كل ه للظن والش ك‪ .‬أي مبنزل ة ظننت وت ومهت‪ .‬ومع ىن ه ذا أن ه إذا ك ان‬
‫خربها وصفا أو مجلة أو شبه مجلة فهي فيهن للظن ‪ ،‬وال تكون للتشبيه إال إذا كان اخلرب‬
‫مما يتمث ل ب ه‪ .‬ف إن قلت ‪ :‬ك أن زي دا ق ائم ‪ ،‬ال يك ون تش بيها ألن الش يء ال يش به نفس ه‪.‬‬
‫ولكن مجه ور النح اة على ال رأي األول القائ ل بأهنا للتش بيه على اإلطالق ‪ ،‬وعلى ه ذا‬
‫يقولون ‪ :‬إن معىن كأن زيدا قائم ‪ ،‬تشبيه حالته غري قائم حبالته قائما‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ مثل ‪ :‬ومن أدوات التشبيه مثل وما يف معىن مثل كلفظ ة «حنو» ‪ ،‬وما يشتق‬
‫من لفظة مثل وشبه ‪ ،‬حنو مماثل ومشابه وما رادفهما‪ .‬وأما أدوات التشبيه الفعلية فنحو ‪:‬‬
‫يشبه ويشابه ومياثل ويضارع وحياكي ويضاهي‪.‬‬
‫وق د ي ذكر فع ل ين ىبء عن التش بيه كالفع ل «علم» يف قول ك ‪ :‬علمت زي دا أس دا‬
‫وحنوه ‪ ،‬ه ذا إذا قرب التش بيه مبع ىن أن يك ون وجه الش به ق ريب اإلدراك ‪ ،‬فيحق ق ب أدىن‬
‫التفات إليه‪ .‬وذلك ألن العلم معناه التحقق ‪ ،‬وذلك مما يناسب األمور الظاهرة البعيدة عن‬
‫اخلفاء‪.‬‬
‫أما إن بعد التشبيه أدىن تبعيد قيل ‪ :‬خلته وحسبته وحنومها لبعد الوجه عن التحقق‬
‫‪ ،‬وخفائه عن اإلدراك العلمي ‪ ،‬وذلك ألن احلسبان‬

‫‪79‬‬
‫ليس فيه الرجحان ‪ ،‬ومن شأن البعيد عن اإلدراك أن يكون إدراكه كذلك دون التحقق‬
‫املشعر بالظهور وقرب اإلدراك‪.‬‬

‫التشبيه باعتبار األداة ‪:‬‬


‫والبالغيون يقسمون التشبيه باعتبار األداة إىل مرسل ومؤكد ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ فالتشبيه املرسل ‪ :‬هو ما ذكرت فيه أداة التشبيه ‪ ،‬حنو ‪:‬‬
‫املالب‬ ‫العبري أو ك‬ ‫ك أو ك‬ ‫مس‬ ‫ا ال‬ ‫ق كاملدام أو كرض‬ ‫خل‬
‫وقول الشاعر ‪:‬‬
‫ة‬ ‫ه إقام‬ ‫الطيف ليس ل‬ ‫ك‬ ‫يف أو‬ ‫ل الض‬ ‫ر مث‬ ‫العم‬
‫وقول املتنيب يف هجاء إبراهيم بن إسحاق األعور بن كيغلغ ‪:‬‬
‫وز تلطم‬ ‫ه أو عج‬ ‫رد يقهق‬ ‫ق‬ ‫ه‬ ‫ار حمدثا فكأن‬ ‫وإذا أش‬
‫‪ 2‬ـ والتشبيه املؤكد ‪ :‬هو ما حذفت منه أداة التشبيه ‪ ،‬وتأكيد التشبيه حاصل من‬
‫ادعاء أن املشبه عني املشبه به ‪ ،‬وذلك حنو قوله تعاىل تصويرا لبعض ما يرى يوم القيامة ‪:‬‬
‫(َو َتَر ى اْلِج باَل َتْح َس ُبها جاِم َد ًة ‪َ ،‬و ِه َي َتُم ُّر َم َّر الَّس حاِب ) أي أن اجلبال ترى يوم ينفخ يف‬
‫الصور متر كمر السحاب ‪ ،‬أي تسري يف اهلواء كسري السحاب الذي تسوقه الرياح‪.‬‬
‫ومنه شعرا قول املتنيب مادحا ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ام‬ ‫ا وأنت الغم‬ ‫حنن نبت الّر ب‬ ‫ام‬ ‫ذا اهلم‬ ‫أين أزمعت أيه‬
‫( ‪)2‬‬
‫ا ظالم‬ ‫ا مل تكنه‬ ‫ل مشس م‬ ‫ك‬ ‫ه محام‬ ‫ا مل تطب‬ ‫ل عيش م‬ ‫ك‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أزمعت ‪ :‬وطدت عزمك ‪ ،‬والربا مجع ربوة ‪ :‬األراضي العالية‪.‬‬
‫(‪ )2‬املعىن ‪ :‬كل عيش مل تطبه وتؤنسه هو كاحلمام أي املوت ‪ ،‬وكل مشس إذا مل تكن أنت إياها كالظالم‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫والتش بيه املؤك د أبل غ من التش بيه املرس ل وأوج ز ‪ ،‬أم ا كون ه أبل غ فلجع ل املش به‬
‫مشبها به من غري واسطة أداة فيكون هو إياه ‪ ،‬فإنك إن قلت ‪ :‬زيد أسد كنت قد جعلته‬
‫أسدا من غري إظهار أداة التشبيه ‪ ،‬وأما كونه أوجز فلحذف أداة التشبيه منه‪.‬‬
‫ومن التشبيه املؤكد ما أضيف فيه املشبه به إىل املشبه ‪ ،‬حنو قول الشاعر ‪:‬‬
‫يل على جلني املاء‬ ‫ذهب األص‬ ‫وال ريح تعبث بالغص ون وق د ج رى‬
‫فالصورة هنا أن الريح تعبث بغصون األشجار املخضرة فتميلها ميينا ومشاال وأعلى‬
‫وأس فل ‪ ،‬واحلال أن ه ق د ج رى «ذهب األص يل» أي األص يل ال ذي كال ذهب يف الص فرة‬
‫على «جلني املاء» ‪ ،‬أي على ماء كاللجني أي كالفضة يف الصفاء والبياض‪.‬‬
‫وقول الشريف الرضي ‪:‬‬
‫حوام ل املزن يف أج داثكم تض ع‬ ‫أرس ى النس يم ب واديكم وال ب رحت‬
‫( ‪)1‬‬
‫ع‬ ‫ة اهلم‬ ‫وركم العّر اص‬ ‫على قب‬ ‫عه‬ ‫نني النبت ترض‬ ‫زال ج‬ ‫وال ي‬
‫فهو يريد «حبوامل املزن» املزن أو السحب اليت هي كاحلوامل من احليوان ‪ ،‬جبامع‬
‫ما يف كل من املنفعة ‪ ،‬كما يريد «جبنني النبت» النبت الذي كاجلنني‪ .‬فاملشبه به يف ه ذين‬
‫التشبيهني قد أضيف إىل املشبه‪ .‬وهذا تشبيه مؤكد‪.‬‬
‫وقد يسمى التشبيه املرسل «مظهرا» كما يسمى التشبيه املؤكد‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬األجداث ‪ :‬القبور ‪ ،‬والعراصة ‪ :‬السحابة اليت صارت كالسقف ذات رعد وبرق ‪ ،‬واهلمع ‪ :‬اسم ملا يهمع‬
‫أي يسيل ‪ ،‬واملاطر‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫«مضمرا»‪ .‬وهذا التشبيه املؤكد أو املضمر ينقسم أقساما ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫ـ ما يقع فيه املشبه واملشبه به موقع املبتدأ وخربه املفرد ‪ ،‬حنو ‪ :‬أنت أسد ‪ ،‬وكرمك‬
‫حبر ‪ ،‬وقولك شعر ‪ ،‬وحديثك شهد‪ .‬ففي هذه األمثلة وأشباهها ال يصعب تقدير األداة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وما يقع فيه املشبه موقع املبتدأ واملشبه به موقع اخلرب املفرد املكون من مضاف‬
‫ومضاف إليه ‪ ،‬حنو ‪ :‬أنت حصن الضعفاء‪ .‬وهذا القسم بدوره يأيت على نوعني ‪:‬‬
‫أ ـ إذا كان املضاف إليه معرفة ‪ ،‬كما يف املثال السابق ‪ ،‬جاز لنا عند تقدير أداة‬
‫التش بيه اإلبق اء على املض اف إلي ه كم ا ه و أو تقدميه على املض اف ‪ ،‬فنق ول مثال ‪ :‬أنت‬
‫كحصن الضعفاء ‪ ،‬أو أنت للضعفاء كحصن‪.‬‬
‫ب ـ وإذا كان املضاف إليه نكرة تعني تقدميه عند تقدير األداة ‪ ،‬فنقول يف مثل ‪:‬‬
‫فالن حبر بالغة ‪« ،‬فالن يف البالغة كبحر»‪.‬‬
‫ومن ذلك قول البحرتي مادحا ‪:‬‬
‫ومس عر ح رب م ا يض يع ل ه وت ر‬ ‫غم ام س حاب م ا يغّب ل ه حي ا‬
‫فإذا شئنا تقدير األداة هنا قلنا ‪« :‬مساح كالغمام» ‪ ،‬وال يقدر إال هكذا واملبتدأ هنا‬
‫حمذوف وهو اإلشارة إىل املمدوح ‪ ،‬وكأن التقدير ‪ :‬هو غمام مساح‪ .‬وعند تقدير األداة‬
‫يقدم املضاف إليه فيقال ‪ :‬هو مساح كالغمام ‪ ،‬أو هو يف السماح كالغمام (‪.)1‬‬
‫ومه قول أيب متام ‪:‬‬
‫وب‬ ‫ام يف ملح‬ ‫ه األي‬ ‫حلبت‬ ‫يب‬ ‫رعى عني ووادي نس‬ ‫أّي م‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬املثل السائر البن األثري ص ‪.153‬‬

‫‪82‬‬
‫ومراد أيب متام أن يصف هذا املكان بأنه كان حسنا مث زال عنه حسنه فقال بأن‬
‫العني كانت تلتذ بالنظر إليه كالتذاذ السائمة باملرعى ‪ ،‬فإنه كان يشبب به يف األشعار‬
‫حلسنه وطيبه‪ .‬وإذا قدرنا األداة هنا قلنا ‪ :‬كأنه كان للعني مرعى وللنسيب منزال ومألفا‪.‬‬

‫وجه الشبه‬
‫وج ه الش به ه و املع ىن ال ذي يش رتك في ه طرف ا التش بيه حتقيق ا أو ختييال‪ .‬واملراد‬
‫بالتحقيق هنا أن يتقرر املعىن املشرتك يف كل من الطرفني على وجه التحقيق‪ .‬وذلك حنو‬
‫تشبيه الرجل باألسد‪ .‬فالشجاعة هي املعىن املشرتك أو الصفة اجلامعة بينهما ‪ ،‬وهي على‬
‫حقيقتها موجودة يف اإلنسان‪ .‬وإمنا يقع الفرق بينه وبني األسد الذي ش ّبه به من جهة قوة‬
‫الشجاعة وضعفها‪ .‬وزيادهتا ونقصاهنا‪.‬‬
‫ومثل ذلك تشبيه الشعر بالليل ووجه الشبه هنا هو السواد وهو مأخوذ من صفة‬
‫موجودة يف كل واحد من الطرفني وجودا حقيقيا ‪ ،‬وإن كان من فرق يف الصفة فهو يف‬
‫درجة قوهتا وضعفها‪.‬‬
‫واملراد بالتخيي ل أن ال ميكن وج وده يف املش به ب ه إال على س بيل التأوي ل والتخيي ل‬
‫كقول القاضي التنوخي ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫داع‬ ‫نن الح بينهّن ابت‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫وم بني دجاه‬ ‫أن النج‬ ‫وك‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬البدعة واالبتداع ‪ :‬غلب استعماهلما فيما هو نقص يف الدين أو زيادة ‪ ،‬لكن قد يكون بعض البدعة غري‬
‫مكروه ‪ ،‬فيسمى بدعة مباحة ‪ ،‬وهو ما شهد جلنسه أصل الشرع ‪ ،‬أو اقتضته مصلحة يندفع هبا مفسدة‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫فإن وجه الشبه يف هذا التشبيه أو اجلامع بني الطرفني هو اهليئة احلاصلة من حصول‬
‫أشياء مشرقة بيض يف جوانب شيء مظلم أسود‪.‬‬
‫فهذه اهليئة غري موجودة يف املشبه به إال على طريق التخييل ‪ ،‬وذلك أنه ملا كانت‬
‫البدع ة والض اللة وك ل م ا ه و جه ل جيع ل ص احبها يف حكم من ميش ي يف الظلم ة فال‬
‫يهتدي إىل الطريق وال يفصل الشيء من غريه ـ شبهت بالظلمة ‪ ،‬ولزم على عكس ذلك‬
‫أن تشّبه السنة واهلدى وكّل ما هو علم بالنور‪.‬‬
‫وأص ل ذل ك قول ه تع اىل ‪ُ( :‬يْخ ِرُجُه ْم ِم َن الُّظُلم اِت ِإَلى الُّنوِر ‪ )،‬وش اع ذل ك ح ىت‬
‫وصف الصنف األول بالسواد ‪ ،‬كما يف قول القائل ‪« :‬شاهدت سواد الكفر من جبني‬
‫فالن» ‪ ،‬وحىت وصف الصنف الثاين بالبياض ‪ ،‬كما يف قول النيب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪:‬‬
‫«أتيتكم باحلنيفية البيضاء» ؛ وذلك لتخيل أن السنن وحنوها من اجلنس الذي هو إشراق‬
‫أو ابيضاض يف العني ‪ ،‬وأن البدعة وحنوها على خالف ذلك‪.‬‬
‫وهلذا صار تشبيه النجوم بني الدجى بالسنن بني البدع ‪ ،‬كتشبيه النجوم يف الظالم‬
‫ببياض الشيب يف سواد الشباب ‪ ،‬أو باألزهار مؤتلقة بني النبات الشديد اخلضرة‪ .‬فالتأويل‬
‫فيه أنه ختّيل ما ال لون له ذا لون‪.‬‬
‫ومن التشبيه التخييلي قول ابن بابك ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وق د كح ل اللي ل الس ماك فأبص را‬ ‫وأرض ك أخالق الك رام قطعته ا‬
‫ف إن األخالق ملا ك انت توص ف بالس عة والض يق تش بيها هلا باألم اكن الواس عة‬
‫والضيقة ‪ ،‬ختّيل أخالق الكرام شيئا له سعة ‪ ،‬وجعله أصال فيها ‪ ،‬فشّبه األرض بالسعة‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬السماك ‪ :‬أحد السماكني أو النجمني النريين ‪ :‬األعزل ‪ ،‬والسماك الرامح‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫ومنه قول أيب طالب الرقي ‪:‬‬
‫ي وم الن وى وف ؤاد من مل يعش ق‬ ‫ه‬ ‫ك والظالم كأن‬ ‫د ذكرت‬ ‫ولق‬
‫فإن ه ملا ك انت أي ام املك اره توص ف بالس واد توس عا ‪ ،‬فيق ال اس وّد النه ار يف عي ين‬
‫وأظلمت ال دنيا علّي ‪ ،‬وملا ك ان احملب الغ زل يف رتض القس وة فيمن مل يعش ق ‪ ،‬وك ان‬
‫القلب القاس ي يوص ف بالس واد توس عا ‪ ،‬ختّي ل الش اعر العاش ق ي وم الن وى وف ؤاد من مل‬
‫يعشق شيئني هلما سواد ‪ ،‬وجعلهما أعرف به ‪ ،‬وأشهر من الظالم فشبهه هبما‪.‬‬

‫وجه الشبه من حيث اإلفراد والتعدد ‪:‬‬


‫ووجه الشبه قد يكون واحدا حسيا كاحلمرة واخلفاء وطيب الرائحة ولذة الطعم‬
‫ولني امللمس ‪ ،‬يف تش بيه اخلد ب الورد ‪ ،‬والص وت الض عيف ب اهلمس ‪ ،‬والنكه ة ب العنرب ‪،‬‬
‫والريق بالعنرب ‪ ،‬والريق باخلمر ‪ ،‬واجللد الناعم باحلرير‪.‬‬
‫وقد يكون وجه الشبه واحدا عقليا ‪ ،‬كاجلراءة يف تشبيه الرجل الشجاع باألسد ‪،‬‬
‫وكمطل ق اهلداي ة يف قول ه صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪« :‬أص حايب ك النجوم ب أيهم اقت ديتم‬
‫اهتديتم»‪.‬‬
‫وقد يكون وجه الشبه متعددا حسيا ‪ ،‬واملراد بالتعدد هنا أن يذكر يف التشبيه عدد‬
‫من أوجه الشبه من اثنني فأكثر على وجه صحة االستقالل ‪ ،‬مبعىن أن كل واحد منها لو‬
‫اقتصر عليه كفى يف التشبيه‪ .‬مثال ذلك أن يقال ‪ :‬الربتقالة كالتفاحة يف شكلها ويف لوهنا‬
‫ويف حالوهتا ‪ ،‬ويف رائحته ا‪ .‬فل و أس قط وجه ان من أوج ه الش به ه ذه لكفى الب اقي يف‬
‫التشبيه لإلبانة عن قصد املتكلم‪ .‬وهذا هو وجه الشبه املتعدد‪.‬‬
‫واملتعدد العقلي حنو ‪ :‬البنت كأمها حنانا وعطفا وعقال ولطفا‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫واملتع دد املختل ف حنو ‪ :‬الول د كأبي ه يف طول ه ومش يته وص وته ‪ ،‬وخلق ه وكرم ه‬
‫وعلمه‪.‬‬

‫التشبيه باعتبار وجهه ‪:‬‬


‫وللتشبيه باعتبار وجه الشبه ثالث تقسيمات ‪:‬‬
‫متثيل وغري متثيل‪.‬‬
‫مفصل وجممل‪.‬‬
‫قريب وبعيد‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ تشبيه التمثيل ‪:‬‬


‫وهو ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد أمرين أو أمور‪.‬‬
‫هذا هو مذهب مجهور البالغيني يف تعريفه ‪ ،‬وال يشرتطون فيه غري تركيب الصورة‬
‫‪ ،‬سواء أكانت العناصر اليت تتألف منها صورته أو تركيبه حسية أو معنوية‪ .‬وكلما كانت‬
‫عناصر الصورة أو املركب أكثر كان التشبيه أبعد وأبلغ‪.‬‬
‫ومن أمثلته قول شاعر ميدح فارسا ‪:‬‬
‫وت راه يف ظلم ال وغى فتخال ه قم را يك ّر على الرج ال بك وكب‬
‫فاملش به هن ا ه و ص ورة املم دوح الف ارس وبي ده س يف ال م ع يش ق ب ه ظالم غب ار‬
‫احلرب ‪ ،‬واملشبه به ص ورة قمر يشق ظلم ة الفض اء ويتص ل به كوكب مض يء ‪ ،‬ووجه‬
‫الشبه هو الصورة املركبة من ظهور شيء مضيء يلوح بشيء متألىلء يف وسط الظالم‪.‬‬
‫ومنه قول ابن املعتز يصف السماء بعد تقشع سحابة ‪:‬‬
‫باح‬ ‫د الص‬ ‫ا عن‬ ‫خالل جنومه‬ ‫أن مساءنا ملا جتّلت‬ ‫ك‬

‫‪86‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫اح‬ ‫ور األق‬ ‫هن‬ ‫تفّتح بين‬ ‫داه‬ ‫لن‬ ‫ج خض‬ ‫اض بنفس‬ ‫ري‬
‫فاملشبه صورة السماء والنجوم منثورة فيها وقت الصباح واملشبه به صورة رياض‬
‫من أزهار البنفسج ختللتها أزهار األقاحي ‪ ،‬ووجه الشبه هو الصورة احلاص لة من شيء‬
‫أزرق انتشرت يف أثنائه صور صغرية بيضاء‪.‬‬
‫ومنه قول أيب متام يف مغنية تغين بالفارسية ‪:‬‬
‫ورت كب دي فلم أجه ل ش جاها‬ ‫ا ولكن‬ ‫ومل أفهم معانيه‬
‫( ‪)2‬‬
‫ا‬ ‫ا يراه‬ ‫ات وم‬
‫حبّب الغاني‬ ‫أنين أعمى معىّن‬ ‫فبّت ك‬
‫فاملشبه هنا حال الشاعر يثري نغم املغنية بالفارسية يف نفسه كوامن الشوق وهو ال‬
‫يفهم لغته ا ‪ ،‬واملش به ب ه ح ال األعمى يعش ق الغاني ات وه و ال ي رى ش يئا من حس نهن ‪،‬‬
‫ووجه الشبه هو صورة قلب يتأثر وينفعل بأشياء ال يدركها كل اإلدراك‪.‬‬
‫ومنه قول شاعر يف صديق عاق ‪:‬‬
‫ا‬ ‫ى هبا التلف‬ ‫ّو ة خيش‬ ‫هه‬ ‫ودون‬ ‫ادي رأى هنال‬ ‫اك كالص‬ ‫إين وإي‬
‫رفا‬ ‫ك دون املاء منص‬ ‫وليس ميل‬ ‫ورده‬
‫رأى بعيني ه م اء ع ّز م‬
‫فاملش به ح ال الش اعر م ع ص ديقه الع اق ي دعوه الوف اء إىل اإلبق اء على مودت ه ‪،‬‬
‫ويدعوه ما يراه فيه من العقوق إىل قطعه ‪ ،‬وهو بني األمرين حائر ‪ ،‬ولكنه يصغي أخريا‬
‫إىل داعي الوفاء ‪ ،‬واملشبه به حال عطشان رأى ماء‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬اخلضل ‪ :‬الرطب ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬بعد أن انقشعت السحابة صارت السماء بني النجوم املنتشرة وقت الفجر‬
‫كرياض من البنفسج املبتل باملاء تفتحت يف أثنائه أزهار األقاحي‪.‬‬
‫(‪ )2‬ورت كب دي ‪ :‬أهلبت ه ‪ ،‬والش جا ‪ :‬احلزن والط رب ‪ ،‬واملع ىن ‪ :‬مل أجه ل م ا بعثت ه يف نفس ي من احلزن ‪،‬‬
‫واملعىن ‪ :‬املتعب احلزين‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫حتول بينه وبني الشرب منه ه ّو ة خيشى منها اهلالك على نفسه لو دنا منه ‪ ،‬فوقف حائرا‬
‫ولكن ه ال يس تطيع االنص راف عن املاء ‪ ،‬ووج ه الش به ه و ص ورة من يري د ش يئا فتح ول‬
‫العقبات دونه فتدركه احلرية ولكنه ال ييئس‪.‬‬
‫ٍة‬ ‫ِهلل‬ ‫ِف‬ ‫ِذ ِف‬
‫ومنه قوله تعاىل ‪َ( :‬م َثُل اَّل يَن ُيْن ُق وَن َأْم واَلُه ْم ي َس ِبيِل ا َك َم َث ِل َح َّب َأْنَبَتْت َس ْبَع‬
‫َس ناِبَل ِفي ُك ِّل ُس ْنُبَلٍة ِم اَئُة َح َّبٍة َو اُهلل ُيضاِع ُف ِلَمْن َيشاُء ‪َ ،‬و اُهلل واِس ٌع َعِليٌم‪).‬‬
‫فاملش به ح ال من ينف ق قليال يف س بيل اهلل مث يلقى علي ه ج زاء ج زيال ‪ ،‬واملش به ب ه‬
‫حال من بذر حبة فأنبتت سبع سنابل يف كّل سنبلة مائة حبة ‪ ،‬ووجه الشبه هو صورة من‬
‫يعمل قليال فيجين من مثار عمله كثريا‪.‬‬
‫***‬
‫أم ا وجه الشبه عند م ا يكون غ ري متثيل فه و عكس ذلك ‪ ،‬أي عند م ا ال يكون‬
‫صورة منتزعة من متعدد ‪ ،‬وبعبارة أخرى هو ما يكون غري مركب أي مفردا ‪ ،‬وكونه‬
‫مفردا ال مينع من تعدد الصفات املشرتكة بني طريف التشبيه‪.‬‬
‫ومن أمثلة التشبيه عند ما يكون وجه الشبه فيه غري متثيل قول البحرتي ‪:‬‬
‫من ه قرب ا ت زدد من الفق ر بع دا‬ ‫ازدد‬ ‫ماح واجلود ف‬ ‫و حبر الس‬ ‫ه‬
‫فاملش به هن ا ه و املم دوح واملش به ب ه ه و البح ر ‪ ،‬ووج ه الش به ال ذي يش رتك في ه‬
‫املمدوح والبحر هو صفة اجلود‪.‬‬
‫وقول امرىء القيس ‪:‬‬
‫وم ليبتلي‬ ‫أنواع اهلم‬ ‫علّي ب‬ ‫ولي ل كم وج البح ر أرخى س دوله‬

‫‪88‬‬
‫فاملشبه يف هذا البيت هو الليل يف ظالمه وهوله ‪ ،‬واملشبه به هو موج البحر ‪ ،‬وأن‬
‫هذا الليل أرخى عليه حجبه وسدوله مصحوبة بكل أنواع اهلموم واألحزان ليخترب صربه‬
‫وق وة احتمال ه ‪ ،‬ووج ه الش به ال ذي يش رتك في ه اللي ل وم وج البح ر ص فتان مها ‪ :‬الظلم ة‬
‫والروعة‪.‬‬
‫وقول أيب بكر اخلالدي ‪:‬‬
‫اال‬ ‫ياء ومن‬ ‫وض‬ ‫نا‬ ‫در حس‬ ‫بيه الب‬ ‫اش‬ ‫ي‬
‫داال‬ ‫ا واعت‬ ‫وقوام‬ ‫ا‬ ‫ن لين‬ ‫بيه الغص‬ ‫وش‬
‫يما ومالال‬ ‫ونس‬ ‫ا‬ ‫ورد لون‬ ‫ل ال‬ ‫أنت مث‬
‫القرب زاال‬ ‫ّر نا ب‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫ىت إذا م‬ ‫اح‬ ‫زارن‬
‫فاملشبه يف هذا املثال هو احلبيب ‪ ،‬واملشبه به هو البدر مرة ‪ ،‬والغصن مرة ثانية ‪،‬‬
‫والورد مرة ثالثة ‪ ،‬ووجه الشبه الذي يشرتك فيه الطرفان صفات متعددة ال يرتبط بعضها‬
‫ببعض ‪ ،‬وكل صفة منها ميكن االكتفاء هبا كوجه شبه ‪ ،‬مبعىن أنه لو حذف بعضها دون‬
‫بعض أو قّد م بعضها على بعض ما اختل التشبيه‪.‬‬
‫ولعلنا اآلن أدركنا من هذه األمثلة أن تشبيه غري التمثيل هو ما كان وجه الشبه فيه‬
‫غري صورة أي غري مركب‪ .‬وبعبارة أخرى هو ما كان مفردا مهما تعددت الصفات اليت‬
‫يش رتك فيه ا الطرف ان ‪ ،‬وأن ه ذه الص فات املش رتكة إن وج دت ال يش رتط فيه ا نظ ام أو‬
‫ت رتيب معني ‪ ،‬مبع ىن أن ه جيوز فيه ا التق دمي والت أخري ‪ ،‬كم ا جيوز اإلبق اء عليه ا أو على‬
‫بعضها كوجه شبه من غري إخالل بالتشبيه‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ويكون وجه الشبه مفصال ومجمال ‪:‬‬


‫أ ـ فالتشبيه املفصل ‪ :‬هو ما ذكر فيه وجه الشبه ‪ ،‬وذلك حنو قول الشاعر ‪:‬‬

‫‪89‬‬
‫ل يف اإلظالم‬ ‫وس كاللي‬ ‫لنف‬ ‫ياء‬ ‫ار ض‬ ‫ل النه‬ ‫وه مث‬ ‫كم وج‬
‫ف البيت هن ا في ه تش بيهان وج ه الش به يف األول «ض ياء» ويف الث اين «اإلظالم»‬
‫وكالمها مذكور يف التشبيه‪.‬‬
‫قول ابن الرومي ‪:‬‬
‫ال‬ ‫د املن‬ ‫ن ويف بع‬ ‫در يف احلس‬ ‫بيه الب‬ ‫اش‬ ‫ي‬
‫زالل‬ ‫رة يف املاء ال‬ ‫خ‬ ‫ر الص‬ ‫د تنفج‬ ‫د فق‬ ‫ج‬
‫فاملش به ه و احلبيب واملش به ب ه الب در ووج ه الش به ه و اش رتاك الط رفني يف ص فيت‬
‫احلسن وبعد املنال ‪ ،‬وكلتامها مذكورة يف التشبيه‪.‬‬
‫وقول آخر ‪:‬‬
‫مس عل وا ‪ ،‬والب در يف اإلش راق‬ ‫ماحة ‪ ،‬والش‬ ‫البحر يف الس‬ ‫أنت ك‬
‫فه ذا ال بيت يش تمل على ثالث ة تش بيهات ذكر يف ك ل منه ا وجه الش به ‪ ،‬وه و يف‬
‫التشبيه األول «السماحة» ويف الثاين «العلو» ويف الثالث «اإلشراق»‪.‬‬
‫فكل تشبيه من التشبيهات اليت تضمنتها هذه األمثلة تشبيه مفّص ل ‪ ،‬ألن وجه الشبه‬
‫قد ذكر فيه‪.‬‬
‫ب ـ والتشبيه اجململ ‪ :‬هو ما حذف منه وجه الشبه ‪ ،‬وذلك حنو قول الشاعر ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫حاب مظلم‬ ‫اج خيلهم س‬ ‫وعج‬ ‫وارق‬ ‫يوف ب‬ ‫أن إمياض الس‬ ‫وك‬
‫ففي ال بيت تش بيهان ‪ :‬تش بيه إمياض الس يوف ب الربق يف الظه ور وس رعة اخلف اء ‪،‬‬
‫وتشبيه عجاج اخليل بالسحاب املظلم يف سواده وانعقاده‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬اإلمياض ‪ :‬اللمعان ‪ ،‬والبوارق ‪ :‬مجع بارق وهو الربق ‪ ،‬والعجاج ‪ :‬الغبار‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫يف اجلو‪ .‬ووجه الشبه يف كليهما حمذوف ‪ ،‬وهلذا فهو تشبيه جممل‪.‬‬
‫ومن التشبيه اجململ ما وجه شبهه ظاهر يفهمه كل أحد حىت العامة كاملثال السابق‬
‫‪ ،‬وكقولنا ‪ :‬زيد أسد ‪ ،‬إذ ال خيفى على أحد أن املراد به التشبيه يف الشجاعة دون غريها‪.‬‬
‫ومن التشبيه اجململ ما وجهه خفّي ال يدركه إاّل من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة‬
‫‪ ،‬كقول فاطمة بنت اخلرشب عند ما سئلت عن بنيها أيهم أفضل فقالت ‪« :‬عمارة ‪ ،‬ال‬
‫بل فالن ‪ ،‬ال بل فالن‪ .‬مث قالت ‪ :‬ثكلتهم إن كنت أعلم أّيهم أفضل‪ .‬هم كاحللقة املفرغة‬
‫ال يدرى أين طرفاها»‪.‬‬
‫فمعىن ذلك أن أبناءها لتناسب أصوهلم وفروعهم وتساويهم يف الشرف ميتنع تعيني‬
‫بعض هم فاض ال وبعض هم أفض ل من ه ‪ ،‬كم ا أن احللق ة املفرغ ة لتناس ب أجزائه ا وتس اويها‬
‫ميتنع تعيني بعضها طرفا وبعضها وسطا‪.‬‬
‫فتشبيه أبناء بنت اخلرشب باحللقة املفرغة تشبيه جممل ‪ ،‬ووجه شبهه احملذوف هو‬
‫تعذر بل استحالة تعيني أولّية أو أفضلية أشياء متناسبة متساوية ‪ ،‬أو هو التناسب املانع من‬
‫متييز يصح معه التفاوت‪ .‬فهذا الوجه احملذوف والذي يشرتك فيه طرفا التشبيه أمر خفّي ال‬
‫يستطيع إدراكه إال من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة ‪ ،‬كما ذكرت آنفا‪.‬‬
‫ومن التش بيه اجملم ل م ا مل ي ذكر في ه وص ف املش به وال وص ف املش به ب ه ‪ ،‬أي‬
‫الوصف املشعر بوجه الشبه ‪ ،‬ومن هذا النوع ‪ :‬تشبيه إمياض السيوف بالبوارق ‪ ،‬وتشبيه‬
‫زيد باألسد السابقني‪.‬‬
‫ومنه ما يذكر فيه وصف املشبه به وحده ‪ ،‬كتشبيه عجاج اخليل بالسحاب املظلم‬
‫‪ ،‬وتشبيه أبناء بنت اخلرشب باحللقة املفرغة ال يدري أين طرفاها‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫ومن هذا النوع أيضا ‪ ،‬أي التشبيه اجململ الذي ذكر فيه وصف املشبه به وحده‬
‫قول زياد األعجم ‪:‬‬
‫لك البحر مهم ا تل ق يف البح ر يغ رق‬ ‫وأن ا وم ا تلقي لن ا إن هجوتن ا‬
‫وقول النابغة الذبياين ‪:‬‬
‫وكب‬ ‫د منهن ك‬ ‫إذا طلعت مل يب‬ ‫واكب‬ ‫وك ك‬ ‫ك مشس واملل‬ ‫فإن‬
‫ومن التشبيه اجململ ما ذكر فيه وصف كل من املشبه واملشبه به ‪ ،‬كقول أيب متام‬
‫يف مدح احلسن بن سهل ‪:‬‬
‫ين فلم خيب‬ ‫اوده ظ‬ ‫ّين ‪ ،‬وع‬ ‫ع‬ ‫ص دفت عن ه ومل تص دف مواهب ه‬
‫( ‪)1‬‬
‫ه ّجل يف الطلب‬ ‫رحلت عن‬ ‫وإن ت‬
‫ك الغيث إن جئت ه واف اك رّيق ه‬
‫فالتشبيه هنا هو ‪« :‬املمدوح كالغيث» والبيت األول مشتمل على وصف املشبه‬
‫وهو املمدوح ‪ ،‬والبيت الثاين مشتمل على وصف املشبه به وهو الغيث ‪ ،‬وكال الوصفني‬
‫مشعر بوجه الشبه احملذوف ‪ ،‬وهو عدم التخلص من كليهما على أي حال‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ويكون قريبا وبعيدا ‪:‬‬
‫كذلك يكون التشبيه باعتبار الوجه قريبا وبعيدا‪ .‬واملراد بالقريب القريب املتبذل ‪،‬‬
‫وبالبعيد البعيد الغريب‪.‬‬
‫فالقريب املتبذل ‪ :‬هو ما ينتقل فيه من املشبه إىل املشبه به من غري‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬صدفت عنه ‪ :‬أعرضت عنه ‪ ،‬مل تصدف مواهبه ‪ :‬مل تنقطع عين عطاياه ‪ ،‬الغيث ‪ :‬املطر الواسع املقبل‬
‫الذي يغيث أه ل األرض ‪ ،‬واف اك ريق ه ‪ :‬ج اءك والق اك وأقب ل علي ك أوله وأحس نه ‪ ،‬وإن ت رحلت عنه ‪ :‬أي‬
‫فررت من الغيث ‪ ،‬جل يف الطلب ‪ :‬أحل وبالغ يف إدراكك مع فرارك منه‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫تدقيق نظر ‪ ،‬وذلك لظهور وجهه يف بادىء الرأي‪.‬‬
‫وس بب ظه وره أم ران ‪ :‬األول ك ون الش يء مجلي ا ‪ ،‬ف إن اجلمل ة أس بق دائم ا إىل‬
‫النفس من التفص يل‪ .‬أال ترى أن الرؤية ال تص ل يف أول أمرها إىل الوص ف على التفص يل‬
‫لكن على اجلمل ة ‪ ،‬مث على التفص يل؟ ول ذلك قي ل النظ رة األوىل محق اء ‪ ،‬وفالن مل ميعن‬
‫النظ ر‪ .‬وك ذلك الش أن بالنس بة لس ائر احلواس ‪ ،‬فإنه ي درك من تفاص يل الص وت وال ذوق‬
‫والشم واللمس يف املرة الثانية ما مل يدرك يف املرة األوىل‪.‬‬
‫فمن يروم التفصيل كمن يبتغي الشيء من بني مجلة أشياء يريد متييزه مما اختلط به‬
‫‪ ،‬ومن يريد اإلمجال كمن يريد أخذ الشيء جزافا من غري تدقيق نظر‪ .‬وكذلك حكم ما‬
‫ي درك بالعق ل ‪ ،‬ت رى الش يء يس بق دائم ا إىل ال ذهن إمجاال ‪ ،‬أم ا التفاص يل فمغم ورة يف‬
‫اإلمجال ال حتضر وتنكشف إال بعد إعمال الرؤية‪.‬‬
‫واألم ر الثاين يف ظه ور وجه الش به يف ب ادىء ال رأي كونه قلي ل التفص يل م ع غلب ة‬
‫حضور املشبه به يف الذهن ‪ ،‬إما عند حضور املشبه لقرب املناسبة بينهما ‪ ،‬كتشبيه العنبة‬
‫الكب رية الس وداء باإلجاص ة يف الش كل ويف املق دار ‪ ،‬وإم ا مطلق ا لتك رره على احلس ‪،‬‬
‫كتشبيه الشمس باملرآة اجملل ّو ة يف االستدارة واالستنارة ؛ فإن قرب املناسبة والتكرر كل‬
‫واحد منهما يعارض التفصيل القتضائه سرعة االنتقال‪.‬‬
‫والبعيد الغريب ‪ :‬هو ما ال ينتقل فيه من املشبه إىل املشبه به إال بعد فكر ‪ ،‬وذلك‬
‫خلفاء وجهه يف بادىء الرأي‪.‬‬
‫وسبب خفائه أمران ‪ :‬أحدمها كونه كثري التفصيل ‪ ،‬كقول الراجز ‪« :‬والشمس‬
‫كاملرآة يف كف األشل»‪ .‬فوجه الشبه يف هذا التشبيه هو اهليئة‬

‫‪93‬‬
‫احلاصلة من االستدارة مع اإلشراق واحلركة السريعة املتصلة مع متّو ج اإلشراق واضطرابه‬
‫بس بب تل ك احلرك ة ح ىت ي رى الش عاع كأن ه يهّم ب أن ينبس ط ح ىت يفيض من ج وانب‬
‫ال دائرة مث يب دو ل ه ف ريجع من االنبس اط إىل االنقب اض‪ .‬فالش مس إذا أح ّد اإلنس ان النظ ر‬
‫إليه ا ليت بني جرمه ا وج دها مؤدي ة إىل ه ذه اهليئ ة ‪ ،‬وك ذلك املرآة إذا ك انت يف ك ف‬
‫األش ل‪ .‬فاهليئ ة ال يت ي رتكب منه ا وج ه الش به هن ا ال تق وم يف نفس ال رائي للم رآة الدائم ة‬
‫االضطراب إال بعد تأمل وطول نظر ومتهل‪.‬‬
‫واألمر الثاين خلفاء وجه الشبه يف بادىء الرأي هو ندرة حضور املشبه به يف الذهن‬
‫‪ ،‬أما عند حضور املشبه لبعد املناسبة بينهما كتشبيه البنفسج بنار الكربيت يف قول الشاعر‬
‫‪:‬‬
‫واقيت‬ ‫اض على محر الي‬ ‫بني الري‬ ‫ا‬ ‫و بزرقته‬ ‫ة تزه‬ ‫وال زوردّي‬
‫أوائ ل الن ار يف أط راف ك ربيت‬ ‫عفن هبا‬ ‫ات ض‬ ‫كأهنا ف وق قام‬
‫فإن الزوردّية وهي البنفسجة شبهت بالنار يف أطراف كربيت ‪ ،‬ومعلوم أن الشيء‬
‫الط بيعي ال ذي يتب ادر إىل ال ذهن بس رعة عن د حض ور «الالزوردي ة» في ه ه و األزه ار‬
‫والرياحني اليت هي من جنسها ال أوائل النار يف أطراف الكربيت‪ .‬وملا كان االنتقال من‬
‫البنفسج إىل النار املذكورة بعد التأمل وطول النظر كان التشبيه غريبا‪.‬‬
‫وإم ا أن حتص ل ن درة املش به ب ه حص وال مطلق ا من غ ري تقي د ب وقت حض ور املش به‬
‫لكون ه ومهي ا ‪ ،‬كم ا مض ى من تش بيه نص ال الس هام بأني اب األغ وال ‪ ،‬أو لكون ه مركب ا‬
‫خياليا كتشبيه أزهار الشقيق بأعالم ياقوت منشورة على رماح من الزبرجد ‪ ،‬أو لكونه‬
‫مركبا عقليا كتشبيه مثل أحبار اليهود مبثل احلمار حيمل أسفارا‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫ف إن كاّل س بب لن درة حض ور املش به ب ه يف ال ذهن ‪ ،‬أو لقل ة تك رره على احلس ‪،‬‬
‫كما مر من تشبيه الشمس باملرآة يف كف األشل ‪ ،‬فقد يقضي الرجل دهره وال يتفق له‬
‫أن ي رى م رآة يف ي د األش ل‪ .‬فالغراب ة يف ه ذا التش بيه من وجهني مها ‪ :‬ك ثرة التفص يل يف‬
‫وجه الشبه ‪ ،‬وقلة التكرار أو الورود على احلس‪.‬‬

‫التشبيه المقلوب‬
‫التشبيه املقلوب هو جعل املشبه مشبها به بادعاء أن وجه الشبه فيه أقوى وأظهر‪.‬‬
‫وأب و الفتح عثم ان بن ج ين يف كتاب ه اخلص ائص (‪ )1‬يس مي ه ذا الن وع من التش بيه‬
‫«غلبة الفروع على األصول» ويقول ‪« :‬هذا فص ل من فصول العربية طريف ‪ ،‬جتده يف‬
‫معاين العرب ‪ ،‬كما جتده يف معاين األعراب‪ .‬وال تكاد جتد شيئا من ذلك إال والغرض فيه‬
‫املبالغة‪.‬‬
‫فمها جاء فيه ذلك للعرب قول ذي الرمة ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫إذا ألبس ته املظلم ات احلن ادس‬ ‫ورم ل ك أوراك الع ذارى قطعت ه‬
‫أفال ترى ذا الرمة كيف جعل األصل فرعا والفرع أصال؟ وذلك أن العادة والعرف‬
‫يف حنو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان األنقاء أي الرمال ‪ ،‬أال ترى إىل قوله ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب اخلصائص البن جىن ج ‪ 1‬ص ‪ ، 300‬مطبعة دار الكتب املصرية‪.‬‬
‫(‪ )2‬ألبسته ‪ :‬غطته ‪ ،‬واحلنادس ‪ :‬مجع حندس ‪ ،‬واحلندس ‪ :‬اشتداد الظلمة ‪ ،‬وقد ذهب هبا مذهب الوصف‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫أ ربيب (‪)1‬؟‬ ‫ويف القالد رش‬ ‫ثيب‬ ‫هك‬ ‫يب حتت‬ ‫ليلى قض‬
‫وهلل البحرتي فما أعذب وأظرف وأدمث قوله ‪:‬‬
‫كفال ومن ن ور األق احي مبس ما؟‬ ‫ا‬ ‫تعري من النق‬ ‫زال املس‬ ‫أين الغ‬
‫فقلب ذو الرمة العادة والعرف يف هذا ‪ ،‬فش ّبه كثبان األنقاء ‪ ،‬أي الرمال بأعجاز‬
‫النس اء‪ .‬وه ذا كأن ه خيرج خمرج املبالغ ة ‪ ،‬أي ق د ثبت ه ذا املوض ع وه ذا املع ىن ألعج از‬
‫النساء ‪ ،‬وصار كأنه األصل فيه ‪ ،‬حىت شبه به كثبان األنقاء»‪.‬‬
‫وقد عرض ابن األثري يف كتابه املثل السائر هلذا النوع من التشبيه ‪ ،‬ومساه «الطرد‬
‫والعكس» ‪ ،‬وذلك إذ يقول ‪« :‬واعلم أن من التشبيه ضربا يسمى الطرد والعكس ‪ ،‬وهو‬
‫أن جيعل املشبه به مشبها ‪ ،‬واملشبه مشبها به ‪ ،‬وبعضهم يسميه غلبة الفروع على األصول‬
‫‪ ...‬ومما جاء منه قول البحرتي ‪:‬‬
‫ا‬ ‫يب من تثنيه‬ ‫يب نص‬ ‫وللقض‬ ‫يف طلع ة الب در ش يء من حماس نها‬
‫وقول عبد اهلل بن املعتز يف تشبيه اهلالل ‪:‬‬
‫مث ل القالم ة ق د ق ّد ت من الّظف ر‬ ‫والح ض وء قم ري ك اد يفض حنا‬
‫وملا ش اع ذل ك يف كالم الع رب واتس ع ص ار كأن ه األص ل ‪ ،‬وه و موض ع من علم‬
‫البيان حسن املوقع لطيف املأخذ‪ .‬وهذا قد ذكره أبو الفتح ابن جين يف كتاب اخلصائص‪.‬‬
‫وملا نظرت أنا يف ذلك وأنعمت نظري فيه تبني يل ما أذكره ‪ ،‬وهو‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬القالد ‪ :‬واحدها قالدة ‪ ،‬والرشأ ‪ :‬الظيب إذا حترك وقوي ومشى مع أمه‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫أنه قد تقرر يف أصل الفائدة املستنتجة من التشبيه أن يشّبه الشيء مبا يطلق عليه لفظة أفعل‬
‫‪ ،‬أي يش به مبا ه و أبني وأوض ح ‪ ،‬أو مبا ه و أحس ن من ه أو أقبح ‪ ،‬وك ذلك يش به األق ل‬
‫باألكثر ‪ ،‬واألدىن باألعلى‪.‬‬
‫وه ذا املوض ع ال ينقض ه ذه القاع دة ألن ال ذي ق دمنا ذك ره مط رد يف باب ه وعلي ه‬
‫مدار االستعمال‪ .‬وهذا غري مطرد وإمنا حيسن يف عكس املعىن املتعارف ‪ ،‬وذاك أن جتعل‬
‫املشبه به مشبها ‪ ،‬واملشبه مشبها به‪ .‬وال حيسن يف غري ذلك مما ليس مبتعارف ؛ أال ترى‬
‫أن من العادة والعرف أن تشبه األعجاز بالكثبان ‪ ،‬فلما عكس ذو الرمة هذه القضية يف‬
‫شعره جاء حسنا الئقا ‪ ،‬وكذلك فعل البحرتي ‪ ،‬فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه‬
‫احلسن بالبدر ‪ ،‬والقد احلسن بالقضيب ‪ ،‬فلما عكس البحرتي القضية يف ذلك جاء أيضا‬
‫حسنا الئقا‪.‬‬
‫ولو شبه ذو الرمة الكثبان مبا هو أصغر منها غري األعجاز ملا حسن ذلك ‪ ،‬وهكذا‬
‫ل و ش به البح رتي طلع ة الب در بغ ري طلع ة احلس ناء ‪ ،‬والقض يب بغ ري ق ّد ها ملا حس ن ذل ك‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وهكذا القول يف تشبيه عبد اهلل بن املعتز صورة اهلالل بالقالمة ؛ ألن من العادة أن‬
‫تشبه القالمة باهلالل ‪ ،‬فلما صار ذلك مشهورا متعارفا حسن عكس القضية فيه» (‪.)1‬‬
‫***‬
‫ومن أمثلة التشبيه املقلوب قول ابن املعتز ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫قر‬ ‫ر أش‬ ‫ّر ة مه‬ ‫هغ‬ ‫كأن‬ ‫فر‬ ‫ل مس‬ ‫ّر ة لي‬ ‫بح يف ط‬ ‫والص‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب املثل السائر ص ‪.164‬‬
‫(‪ )2‬ط رة الش يء ‪ :‬طرف ه ‪ ،‬ولي ل مس فر ‪ :‬دخ ل يف اإلس فار وه و ظه ور الفج ر ‪ ،‬والغ ّر ة ‪ :‬بي اض يف ـ جبه ة‬
‫الفرس ‪ ،‬واملهر األشقر ‪ :‬األمحر الشعر‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫فاملشبه هنا هو الصبح واملشبه به هو غ ّر ة مهر أشقر ‪ ،‬وهذا تشبيه مقلوب ‪ ،‬ألن‬
‫العادة يف عرف األدباء أن تشّبه غّر ة املهر بالصبح ‪ ،‬ألن وجه الشبه وهو البياض أقوى يف‬
‫الصبح منه يف املهر‪ .‬ولكن الشاعر عدل عن املألوف ‪ ،‬وقلب التشبيه للمبالغة ‪ ،‬باّدعاء أن‬
‫وجه الشبه أقوى يف غّر ة املهر منه يف الصبح‪.‬‬
‫ومنه قول حممد بن وهيب احلمريي (‪ )1‬يف ذات التشبيه ‪:‬‬
‫دح‬ ‫ة حني ميت‬ ‫ه اخلليف‬ ‫وج‬ ‫ه‬ ‫أن غّر ت‬ ‫باح ك‬ ‫دا الص‬ ‫وب‬
‫فاملشّبه هنا أيضا هو ضوء الصباح يف أول تباشريه ‪ ،‬واملشبه به هو وجه اخلليفة عند‬
‫مساعه املديح‪ .‬فالتش بيه كم ا ت رى مقل وب ‪ ،‬واألص ل في ه ه و العكس ‪ ،‬ألن املألوف أن‬
‫يشّبه الشيء دائما مبا هو أقوى وأوضح منه يف وجه الشبه ؛ ليكتسب منه قوة ووضوحا‪.‬‬
‫ولكن الشاعر تفننا منه يف التعبري عكس القضية وقلب التشبيه للمبالغة واإلغراق باّدعاء أن‬
‫الشبه أقوى يف املشّبه‪.‬‬
‫ومنه قول البحرتي مادحا ‪:‬‬
‫ك أن س ناها بالعش ّي لص بحها تبّس م عيس ى حني يلف ظ بالوع د‬
‫ش ّبه البحرتي برق السحابة الذي ظ ّل ّلماعا طوال الليل بتبسم املمدوح حني يعد‬
‫بالعط اء ‪ ،‬وال ش ك أن ملع ان ال ربق أق وى من بري ق االبتس ام ‪ ،‬فك ان املألوف أن يش ّبه‬
‫االبتسام بالربق على عادة الشعراء ‪ ،‬ولكن البحرتي قلب التشبيه تفننا يف التعبري والتماسا‬
‫للمبالغة باّدعاء أن وجه الشبه أقوى يف املشّبه‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬شاعر شيعي عباسي انقطع ملدح املأمون‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫ومنه قول شاعر آخر ‪:‬‬
‫در احلليم‬ ‫يحها ص‬ ‫أن فس‬ ‫ك‬ ‫فالة‬ ‫ودوهنم‬ ‫هلم‬ ‫أحّن‬
‫فالشاعر يف هذا البيت شّبه فسيح الفالة بصدر احلليم ‪ ،‬فالتشبيه كما ترى مقلوب‬
‫‪ ،‬إذ املعهود تشبيه صدر احلليم بالفالة‪ .‬ولكن الشاعر رغبة منه يف املبالغة باّدعاء أن صدر‬
‫احلليم أفسح من الصحراء عكس التشبيه‪.‬‬
‫***‬
‫وفيم ا يلي طائف ة أخ رى من أمثل ة التش بيه املقل وب ت رتك لل ّد ارس أم ر التع ّر ف إىل‬
‫املشبه واملشبه به يف كّل منها‪.‬‬
‫قال أبو نواس يف وصف النرجس ‪:‬‬
‫إذا م ا منحن اه العي ون عي ون‬ ‫ل دى ن رجس غّض القط اف كأن ه‬
‫وقال البحرتي يف املدح ‪:‬‬
‫دي‬ ‫ه وأّو هلا عن‬ ‫ا في‬ ‫أواخره‬ ‫ه‬ ‫ّد اب مزن‬ ‫جلّر علّي الغيث ه‬
‫أب و ص احل ق د بت من ه على وع د‬ ‫ه‬ ‫ه فكأن‬ ‫ل عن ميقات‬ ‫تع ّج‬
‫وقال ابن املعتز يصف سحابة ويشبه الربق بالسيوف املنتضاة ‪:‬‬
‫ج رى دمعه ا يف خ دود ال ثرى‬ ‫ا‬ ‫ارية ال متّل البك‬ ‫وس‬
‫( ‪)1‬‬
‫ى‬ ‫ة تنتض‬ ‫ربق كهندي‬ ‫ب‬ ‫س رت تق دح الص بح يف ليله ا‬
‫وقال البحرتي يف تشبيه محرة الورد حبمرة خدي حمبوبته ‪ ،‬وتشبيه ميالن الغصن إذا‬
‫هّز ه النسيم بتثين قّد ها ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الس ارية ‪ :‬الس حابة متط ر ليال ‪ ،‬وال ثرى ‪ :‬ال رتاب الن دي ‪ ،‬واألرض ‪ ،‬كهندي ة تنتض ى ‪ :‬أي مث ل س يوف‬
‫هندية تسّل من أغمادها‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ا‬ ‫يب من تثنيه‬ ‫يب نص‬ ‫وللقض‬ ‫ا‬ ‫يء من تلّه به‬ ‫ورد ش‬ ‫يف محرة ال‬
‫وقال أيضا يف وصف بركة املتوكل ‪ ،‬وتشبيه الربكة يف تدفق مائها بيد املتوكل يف‬
‫العطاء ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ي د اخلليف ة ملا س ال واديه ا‬ ‫دفقها‬ ‫كأهنا حني ّجلت يف ت‬
‫وقال يف تشبيه الندى على شقائق النعمان بدموع الشوق على خدود احلسان ‪:‬‬
‫دم وع التص ايب يف خ دود اخلرائ د‬ ‫ه‬ ‫دى فكأن‬ ‫قائق حيملن الن‬ ‫ش‬
‫***‬
‫واخلالصة أن األصل يف التشبيه أن جيري على الّس نن املعروف عند العرب والذي‬
‫يتمث ل يف أن يلتمس املش به ب ه مما ه و مع روف وم ألوف يف حي اهتم ح ىت ول و ك ان املش به‬
‫أقوى وأعظم يف الصفة اليت يشرتك فيها مع املشبه به‪ .‬فالعرب مثال قد اشتهر بينهم عمرو‬
‫بن مع ّد يك رب باإلق دام ‪ ،‬وح امت ب اجلود ‪ ،‬وأحن ف بن قيس ب احللم ‪ ،‬وإي اس بال ذكاء ‪،‬‬
‫وأصبح كل واحد من هؤالء مثال عاليا يف الصفة اليت اشتهر هبا‪ .‬فاألسلوب العريب يقضي‬
‫على الشاعر أن جيعل كل واحد من هؤالء األعالم مش ّبها به ‪ ،‬سواء أوجد بعده من هو‬
‫أعظم منه يف الصفة وأقوى أم مل يوجد‪.‬‬
‫وقد سلك القرآن الكرمي هذا الّس نن فش ّبه نور اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وهو بال شك‬
‫أق وى األن وار ‪ ،‬بن ور املص باح يف مش كاة ‪ ،‬ألّن الع رب ج روا على ع ادة أن جيعل وا ن ور‬
‫املصباح أكرب األنوار وأعظم األضواء‪.‬‬
‫كذلك اّطردت العادة يف البالغة على تشبيه األدىن باألعلى ‪ ،‬فإذا جاء‬
‫__________________‬
‫(‪ّ )1‬جل يف األمر ‪ :‬متادى واستمر‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫األم ر على خالف ذل ك فه و التش بيه املعك وس أو املقل وب طلب ا للمبالغ ة باّدع اء أن وج ه‬
‫الشبه يف املشبه أقوى منه يف املشبه به‪.‬‬
‫وقد شاع ذلك ‪ ،‬كما يقول ابن األثري ‪ ،‬يف كالم العرب واّتسع حىت صار كأنه‬
‫األصل يف التشبيه‪ .‬والواقع أن هذا الضرب من التشبيه حسن املوقع لطيف املأخذ ‪ ،‬وهو‬
‫مظهر من مظاهر االفتنان واإلبداع يف التعبري‪.‬‬
‫والشرط يف استعمال التشبيه املقلوب أاّل يرد إال فيما جرى عليه العرف واإللف‬
‫لدى العرب ‪ ،‬وذلك حىت تظهر فيه بوضوح صورة القلب واالنعكاس‪.‬‬
‫على ه ذا األس اس حيس ن التش بيه املقل وب ويقب ل ‪ ،‬أم ا إذا ورد يف غ ري املعه ود‬
‫املألوف فإنه يكون معيبا ألن املبالغة فيه تصيبه بالغموض ‪ ،‬وتؤدي إىل التداخل بني طرفيه‬
‫‪ ،‬فال يعرف أّيهما املشّبه ‪ ،‬وأّيهما املشبه به‪.‬‬
‫ويقرب من هذا النوع ما أطلق عليه «تشبيه التفضيل» ‪ ،‬وهو أن يشّبه شيء بشيء‬
‫لفظ ا أو تق ديرا ‪ ،‬مث يع دل عن التش بيه الّدع اء أن املش به أفض ل من املش به ب ه‪ .‬ومن ذل ك‬
‫قول الشاعر ‪:‬‬
‫ال؟‬ ‫در من ذاك اجلم‬ ‫وأين الب‬ ‫ريا‬ ‫درا من‬ ‫هب‬ ‫بت مجال‬ ‫حس‬
‫وقول شاعر آخر ‪:‬‬
‫دحك‬ ‫أم‬ ‫حب أخط‬ ‫بالس‬ ‫ا‬ ‫دواك يوم‬ ‫اس ج‬ ‫من ق‬
‫حك‬ ‫وأنت تعطي وتض‬ ‫ّح ب تعطي وتبكي‬ ‫الس‬

‫التشبيه الضمني‬
‫التشبيه الضمين ‪ :‬تشبيه ال يوضع فيه املشبه واملشبه به يف صورة من صور التشبيه‬
‫املعروفة ‪ ،‬بل يلمحان يف الرتكيب‪ .‬وهذا الضرب من التشبيه‬

‫‪101‬‬
‫يؤتى به ليفيد أن احلكم الذي أسند إىل املشبه ممكن‪.‬‬
‫وبيان ذلك أن الكاتب أو الشاعر قد يلجأ عند التعبري عن بعض أفكاره إىل أسلوب‬
‫يوحي بالتشبيه من غري أن يصّر ح به يف صورة من صوره املعروفة‪.‬‬
‫ومن ب واعث ذل ك التفّنن يف أس اليب التعب ري ‪ ،‬وال نزوع إىل االبتك ار والتجدي د ‪،‬‬
‫وإقامة الربهان على احلكم املراد إسناده إىل املشبه ‪ ،‬والرغبة يف إخفاء معامل التشبيه ‪ ،‬ألنه‬
‫كلما خفي ودّق كان أبلغ يف النفس‪.‬‬
‫ولنأخذ مثاال لذلك ‪ ،‬وهو قول أيب فراس احلمداين ‪:‬‬
‫ويف الليل ة الظلم اء يفتق د الب در‬ ‫س يذكرين ق ومي إذا ج ّد ج ّد هم‬
‫فهو هنا يريد أن يقول ‪ :‬إن قومه سيذكرونه عند اشتداد اخلطوب واألهوال عليهم‬
‫ويطلبونه فال جيدونه ‪ ،‬وال عجب يف ذلك ألن البدر يفتقد ويطلب عند اشتداد الظالم‪.‬‬
‫فهذا الكالم يوحي بأنه تضمن تشبيها غري مص ّر ح به ؛ فالشاعر يش ّبه ضمنا حاله‬
‫وق د ذك ره قوم ه وطلب وه فلم جيدوه عن د م ا أّلمت هبم اخلط وب حبال الب در يطلب عن د‬
‫اشتداد الظالم‪ .‬فهو مل يص ّر ح هبذا التشبيه وإمنا أورده يف مجلة مستقلة وضمنه هذا املعىن‬
‫يف صورة برهان‪.‬‬
‫ولنأخذ مثاال آخر وهو قول البحرتي ‪:‬‬
‫ض حوك إىل األبط ال وه و ي روعهم وللس يف ح ّد حني يس طو ورون ق‬
‫فممدوح البحرتي يلقى الشجعان بوجه ضاحك وهو يروعهم ويفزعهم يف الوقت‬
‫ذاته ببأسه وسطوته ‪ ،‬وكذلك السيف له عند القتال والضرب رونق وفتك‪ .‬وهذا كالم‬
‫يشّم منه رائحة التشبيه الضمين‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫فالبحرتي مل يأت بالتشبيه صرحيا فيقول ‪ :‬إن حال املمدوح يضحك يف غري مباالة‬
‫عند مالقاة الشجعان ويفزعهم ببأسه وسطوته تشبه حال السيف عند الضرب له رونق‬
‫وفتك ‪ ،‬ولكنه أتى بذلك ضمنا ‪ ،‬لباعث من البواعث السابقة‪.‬‬
‫ولنأخذ مثاال ثالثا وهو قول ابن الرومي ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ق د يش يب الف ىت وليس عجيب ا أن ي رى الّن ور يف القض يب ال رطيب‬
‫فابن الرومي يوّد أن يقول هنا ‪ :‬قد يعرتي الفىت الشيب يف ريعان شبابه ‪ ،‬وليس‬
‫ذلك باألمر العجيب ألن الغصن الغّض الندي قد يظهر فيه الزهر األبيض قبل أوانه‪.‬‬
‫فاألسلوب الذي عرّب به ابن الرومي عن فكرته هنا يتضمن تشبيها مل يص ّر ح به ‪،‬‬
‫فإنه مل يقل مثال ‪ :‬إن الفىت وقد شاب مبكرا كالغصن الغّض الرطيب وقد أزهر قبل أوانه‬
‫‪ ،‬ولكنه أتى بالتشبيه ضمنا ‪ ،‬إلفادة أن احلكم الذي أسند للمشّبه أمر ممكن الوقوع‪.‬‬
‫ولنأخذ مثال أخريا وهو قول أيب متام ‪:‬‬
‫الس يل ح رب للمك ان الع ايل‬ ‫ال تنك ري عط ل الك رمي من الغ ىن‬
‫يريد أبو متام أن يقول ملن خياطبها ‪ :‬ال تنكري خل ّو الرجل الكرمي من الغين ‪ ،‬فإن‬
‫ذلك ليس غريبا ‪ ،‬ألن قمم اجلبال وهي أعلى األماكن ال يستقر فيها ماء السيل‪.‬‬
‫فالكالم يوحي بتشبيه ضمين ‪ ،‬ولو ص ّر ح به لقال مثال ‪ :‬إن الرجل الكرمي احملروم‬
‫الغىن يشبه قمة اجلبل وقد خلت من ماء السيل‪ .‬ولكن‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬النور ‪ :‬الزهر األبيض‪ .‬والقضيب الرطيب ‪ :‬الغصن الغّض الندي‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫الشاعر مل يقل ذلك صراحة ‪ ،‬وإمنا أتى جبملة مستقلة وضّم نها هذا املعىن يف صورة برهان‬
‫على إمكان وقوع ما أسنده للمشّبه‪.‬‬
‫***‬
‫وفيما يلي طائفة من أمثلة التشبيه الضمىن ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال المتنبي ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ام‬ ‫ذهب الرغ‬ ‫دن ال‬ ‫ولكن مع‬ ‫العيش فيهم‬ ‫ا منهم ب‬ ‫ا أن‬ ‫وم‬
‫املشبه حال الشاعر ال يع ّد نفسه من أهل دهره وإن عاش بينهم ‪ ،‬واملشبه به حال‬
‫الذهب خيتلط بالرتاب ‪ ،‬مع أنه ليس من جنسه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وقال أيضا ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫أس رع الس حب يف املس ري اجله ام‬ ‫ين‬ ‫يبك ع‬ ‫ومن اخلري بطء س‬
‫املشبه حال العطاء يتأخر وصوله ويكون ذلك دليال على كثرته ‪ ،‬واملش ّبه به حال‬
‫السحب تبطىء يف السري ويكون ذلك دليال على غزارة مائها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وقال أبو العتاهية ‪:‬‬
‫فينة ال جتري على اليبس‬ ‫إن الس‬ ‫ترج و النج اة ومل تس لك مس الكها؟‬
‫املشبه حال من يرجو النجاة من عذاب اآلخرة وال يسلك مسالك النجاة ‪ ،‬واملشبه‬
‫به حال السفينة اليت حتاول اجلري على األرض اليابسة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وقال ابن الرومي ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الرغام ‪ :‬الرتاب‪.‬‬
‫(‪ )2‬السيب ‪ :‬العطاء ‪ ،‬واجلهام ‪ :‬السحاب ال ماء فيه‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫وياله إن نظ رت وإن هي أعرض ت وق ع الس هام ون زعهّن أليم‬
‫املش به ح ال احملبوب ة إذا نظ رت وإذا أعرض ت ‪ ،‬واملش به ب ه ح ال الس هام ت ؤمل إذا‬
‫وقعت وتؤمل إذا نزعت‪.‬‬
‫التشبيه البليغ ‪ :‬والتشبيه إذا ما حذفت منه األداة ووجه الشبه فهو «التشبيه البليغ»‬
‫وه و أعلى م راتب التش بيه يف البالغ ة وق وة املبالغ ة ‪ ،‬ملا في ه من اّدع اء أن املش ّبه ه و عني‬
‫املشبه به ‪ ،‬وملا فيه من اإلجياز الناشىء عن حذف األداة والوجه معا ‪ ،‬هذا اإلجياز الذي‬
‫جيع ل نفس الس امع ت ذهب ك ل م ذهب ‪ ،‬وي وحي هلا بص ور ش ىت من وج وه التش بيه ‪،‬‬
‫كقول أيب فراس ‪:‬‬
‫وك ل ال ذي ف وق ال رتاب ت راب‬ ‫إذا نلت من ك ال وّد فالك ل هّني‬

‫أغراض التشبيه‬
‫ق د يلج أ الك اتب أو الش اعر يف التعب ري إىل أس لوب التش بيه لش عوره بأن ه أك ثر من‬
‫غريه يف إصابة الغرض ووضوح الداللة على املعىن‪.‬‬
‫وأغراض التشبيه منوعة ‪ ،‬وهي تعود يف الغالب إىل املشّبه ‪ ،‬وقد تعود إىل املشّبه به‪.‬‬
‫وهذه األغراض هي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان إمكان وجود املش ّبه ‪ :‬وذلك حني يسند إىل املشبه أمر مستغرب ال تزول‬
‫غرابته إال بذكر شبيه له‪.‬‬
‫مثال ذلك قول املتنيب ‪:‬‬
‫زال‬ ‫ك بعض دم الغ‬ ‫إن املس‬ ‫ف‬ ‫ام وأنت منهم‬ ‫ق األن‬ ‫إن تف‬ ‫ف‬
‫فالتش بيه هن ا ض مين ‪ ،‬وفي ه اّدعى الش اعر أن املش ّبه وه و املم دوح مب اين ألص له‬
‫بصفات وخصائص جعلته حقيقة منفردة‪ .‬وملا رأى غرابة دعواه وأن هناك من قد ينكر‬
‫وجودها احتّج على صحتها بتشبيه املمدوح‬

‫‪105‬‬
‫باملسك الذي أصله دم الغزال‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك أيضا قول البحرتي ‪:‬‬
‫عن ك ل ن ّد يف الن دى وض ريب‬ ‫ع‬ ‫اة وشاس‬ ‫دي العف‬ ‫دان إىل أي‬
‫للعص بة الس ارين ج ّد ق ريب‬ ‫كالب در أف رط يف العل و وض وؤه‬
‫ففي البيت األول وصف الشاعر ممدوحه بأنه قريب للمحتاجني ‪ ،‬بعيد املنزلة ‪ ،‬بينه‬
‫وبني نظرائه يف الكرم والندى بون شاسع‪ .‬ولكن الشاعر حينما أحّس أنه وصف ممدوحه‬
‫بوصفني متضادين ‪ ،‬مها القرب والبعد يف وقت واحد ‪ ،‬أراد أن يبّني أن ذلك ممكن ‪ ،‬وأن‬
‫ليس يف األمر تناقض ‪ ،‬وهلذا شّبه املمدوح يف البيت الثاين بالبدر الذي هو بعيد يف الس ماء‬
‫‪ ،‬ولكن ضوءه قريب جدا للسارين بالليل‪ .‬فالغرض من التشبيه يف هذين املثالني هو بيان‬
‫إمكان وجود املشّبه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ بيان حال املشبه ‪ :‬وذلك حينما يكون املشبه جمهول الصفة غري معروفها قبل‬
‫التشبيه ‪ ،‬فيفيده التشبيه الوصف‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك قول النابغة الذبياين ‪:‬‬
‫وكب‬ ‫فإن ك مشس واملل وك ك واكب إذا طلعت مل يب د منهّن ك‬
‫فالنابغ ة يشبه ممدوحه بالشمس ‪ ،‬ويش ّبه غريه من امللوك بالكواكب ‪ ،‬ألن عظم ة‬
‫ممدوح ه تغّض من عظم ة ك ل مل ك كم ا ختفي الش مس الك واكب‪ .‬وملا ك انت ح ال‬
‫املمدوح وغريه من امللوك ‪ ،‬وك ّل منهما مش ّبه ‪ ،‬جمهولة غري معروفة ‪ ،‬فقد أتى باملش ّبه به‬
‫لبي ان أن ح ال املم دوح م ع غ ريه من املل وك كح ال الش مس م ع الك واكب ‪ ،‬ف إذا ظه ر‬
‫أخفاهم كما ختفي الشمس الكواكب بطلوعها‪.‬‬
‫ومن أمثلته أيضا قول ابن الرومي ‪:‬‬

‫‪106‬‬
‫يل‬ ‫وان أّي س‬ ‫يل لإلخ‬ ‫ح رب أيب حفص لع اب اللي ل يس‬
‫فاملش ّبه هنا هو حرب أيب حفص أو مداده ‪ ،‬واملش ّبه به هو لعاب الليل أي سواده‪.‬‬
‫فاملش به وه و احلرب جمه ول احلال أو الص فة ألن للح رب أك ثر من ل ون‪ .‬ول ذلك التمس ابن‬
‫الرومي له مشبها به هو لعاب الليل األسود لبيان حاله‪ .‬فبيان حال املشبه إذن غرض من‬
‫أغراض التشبيه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ بيان مقدار حال املشبه ‪ :‬أي مقدار حاله يف القوة والضعف والزيادة والنقصان‬
‫‪ ،‬وذلك إذا كان املشبه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إمجالية ‪ ،‬مث يأيت التشبيه لبيان‬
‫مقدار هذه الصفة‪ .‬وذلك حنو قول عنرتة ‪:‬‬
‫س ودا كخافي ة الغ راب األس ود‬ ‫ة‬ ‫ون حلوب‬ ‫ان وأربع‬ ‫ا اثنت‬ ‫فيه‬
‫فعنرتة خيرب يف هذا البيت بأن محولة أهل حمبوبته تتألف من اثنتني وأربعني ناقة حتلب‬
‫‪ ،‬مث وصف هذه النوق بأهنا سود ‪ ،‬والنوق السود هي أنفس اإلبل وأعّز ها عند العرب‪.‬‬
‫ولبيان مقدار سواد هذه النوق شّبهها خبافية الغراب األسحم ‪ ،‬أي جناحه األسود‪.‬‬
‫فالغرض من التشبيه بيان مقدار حال املشّبه‪.‬‬
‫ومن قول املتنيب يف وصف أسد ‪:‬‬
‫حتت ال دجى ن ار الفري ق حل وال‬ ‫ا‬ ‫م ا ق وبلت عين اه إال ظّنن‬
‫ف املتنيب يص ف عي ّين األس د يف اللي ل بأهنم ا حممّر ت ان ‪ ،‬ولبي ان مق دار امحرارمها ملن‬
‫يرامها يف الليل عن بعد يشبههما بنار لفريق من الناس حلول مقيمني‪ .‬وقد اضطر املتنيب إىل‬
‫التشبيه ليبّني هذا االمحرار وعظمه ‪ ،‬أي ليبّني مقدار حال املشبه‪ .‬وهذا غرض من أغراض‬
‫التشبيه‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫أهل‬
‫ّي ّي‬ ‫‪.‬‬ ‫زجن‬ ‫ود‬ ‫«أس‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬ ‫برغوث‬ ‫ف‬ ‫يص‬ ‫ي‬ ‫األندلس‬ ‫( ‪)1‬‬
‫ومن ه ك ذلك ق ول ابن ش هيد‬
‫وحشّي ‪ ...‬كأنه جزء ال يتجزأ من ليل ‪ ،‬أو نقطة مداد ‪ ،‬أو سويداء فؤاد ‪ »...‬فالغرض‬
‫من التشبيهات الثالثة هنا هو بيان مقدار حال املشبه ‪ ،‬ألنه ملا وصف الربغوث بالسواد‬
‫أراد أن يبنّي مقدار هذا السواد‪.‬‬
‫فالغرض من التشبيه عند عنرتة واملتنيب وابن شهيد هو بيان مقدار حال املشبه ‪ ،‬أي‬
‫بيان مقدار صفته املعروفة فيه قبل التشبيه معرفة إمجالية‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تقرير حال املشبه ‪ :‬أي تثبيت حاله يف نفس السامع وتقوية شأنه لديه ‪ ،‬كما‬
‫إذا كان ما أسند إىل املشبه حيتاج إىل التأكيد واإليضاح باملثال ؛ وذلك حنو قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(َو اَّلِذ يَن َيْد ُعوَن ِم ْن ُدوِنِه ال َيْس َتِج يُبوَن َلُه ْم ِبَش ْي ٍء ِإاَّل َك باِس ِط َك َّف ْيِه ِإَلى اْلماِء ِلَيْبُل َغ ف اُه َو م ا‬
‫ُه َو ِبباِلِغِه‪).‬‬
‫فاآلية الكرمية تتحدث يف شأن عّباد األوثان الذين يتخذون آهلة غري اهلل ‪ ،‬وتصفهم‬
‫بأهنم إذا دعوا آهلتهم ال يستجيبون هلم ‪ ،‬وال يعود عليهم دعاؤهم إياهم بفائدة‪ .‬وقد أراد‬
‫اهلل سبحانه أن يقّر ر هذه احلال ويثبتها يف األذهان ‪ ،‬فش ّبه هؤالء الوثنيني مبن يبسط كّف يه‬
‫إىل املاء ليش رب فال يص ل املاء إىل فم ه بداه ة ‪ ،‬ألن ه خيرج من خالل أص ابعه م ا دامت‬
‫كّف اه مبسوطتني‪ .‬فالغرض من التشبيه هنا تقرير حال املشبه‪.‬‬
‫ومن أمثلة هذا الغرض أيضا قول الشاعر ‪:‬‬
‫على املاء خانت ه ف روج األص ابع‬ ‫وأص بحت من ليلى الغ داة كق ابض‬
‫فحال الشاعر مع صاحبته ليلى هي حال من كلما دنا منها بعدت عنه ‪ ،‬أو حال‬
‫من كلما أوشك أن يظفر هبا أفلتت منه ‪ ،‬وقد أراد الشاعر أن‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬من أدباء األندلس وشعرائهم ‪ ،‬له شعر جيد ومؤلفات قّيمة‪ .‬تويف سنة ‪‍ 426‬ه‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫يق رر ه ذه احلال ة ويوّض حها فش ّبهها حبال الق ابض على املاء حياول إمس اكه والظف ر ب ه‬
‫فيسيل وخيرج من بني أصابعه‪.‬‬
‫فالغرض من هذا التشبيه أيضا تقرير حال املشبه‪ .‬ومما يالحظ على هذا الغرض أنه‬
‫ال ي أيت إال حينم ا يك ون املش به أم را معنوي ا ‪ ،‬ألن النفس ال تس ّلم باملعنوي ات تس ليمها‬
‫باحلسّيات ‪ ،‬ومن أجل ذلك تكون يف حاجة إىل اإلقناع‪.‬‬
‫وأغراض التشبيه األربعة السابقة ‪ ،‬وهي ‪ :‬بيان إمكان وجود املش ّبه ‪ ،‬وبيان حاله ‪،‬‬
‫وبيان مقداره ‪ ،‬وتقرير حاله ‪ ،‬تقتضي أن يكون وجه الشبه يف املش ّبه به أمت وهو به أشهر‬
‫؛ إذ على متام وجه الشبه يف املشبه به واشتهاره به يكون حظ التشبيه يف حتقيق الغرض‬
‫بالنسبة للمشّبه‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 5‬ـ تزيني املش ّبه ‪ :‬ويقصد به حتسني املش ّبه والرتغيب فيه عن طريق تشبيهه بشيء‬
‫حسن الصورة أو املعىن‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك قول الشريف الرضي ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ا‬ ‫ا يف القلب والعني توأم‬ ‫رأيتكم‬ ‫أحّب ك ي ا ل ون الش باب ألن ين‬
‫ا؟‬ ‫فلم أدر من ع ّز من القلب منكم‬ ‫س كنت س واد القلب إذ كنت ش بهه‬
‫فالش ريف الرض ي يف قول ه ‪« :‬س كنت س واد القلب إذ كنت ش بهه» يش ّبه حبيبت ه‬
‫حببة القلب السوداء اليت هي مناط احلياة يف اإلنسان‪ .‬فالغرض من التشبيه هنا تزيني املشبه‬
‫وبيان أن منزلته يف نفس الشاعر منزلة املشّبه به‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬التوأم من مجيع احليوان ‪ :‬املولود مع غريه يف بطن إىل ما زاد ‪ ،‬ذكرا كان أو أنثى ‪ ،‬أو ذكرا مع أنثى‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬مها توأمان ‪ ،‬ومها توأم ‪ ،‬واملراد بالتوأم يف هذا البيت النظريان‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫ومن أمثلته أيضا قول أيب احلسن األنباري (‪ )1‬يف رثاء مصلوب ‪:‬‬
‫ات‬ ‫ّد مها إليهم باهلب‬ ‫كم‬ ‫اء‬ ‫ديك حنوهم احتف‬ ‫ددت ي‬ ‫م‬
‫فاألنباري يش ّبه م ّد ذراعي املصلوب على اخلشبة والناس حوله مبّد ذراعيه بالعطاء‬
‫للسائلني أيام حياته‪ .‬فاملشّبه وهو هنا الصلب أمر قبيح تشمئز منه النفوس ‪ ،‬ولكن صورة‬
‫املشّبه به وهي مّد اليدين بالعطاء للسائلني قد أزالت قبحه وزينته‪.‬‬
‫فالغرض من التشبيه يف هذين املثالني هو التزيني ‪ ،‬وأكثر ما يكون هذا الغرض يف‬
‫املدح والرثاء والفخر ووصف ما متيل إليه النفوس‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 6‬ـ تقبيح املشبه ‪ :‬وذلك إذا كان املش ّبه قبيحا قبحا حقيقيا أو اعتباريا فيؤتى له‬
‫مبشّبه به أقبح منه يوّلد يف النفس صورة قبيحة عن املشّبه تدعو إىل التنفري عنه‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك قول الشاعر املتنيب يف اهلجاء ‪:‬‬
‫وز تلطم‬ ‫ه أو عج‬ ‫رد يقهق‬ ‫ق‬ ‫ه‬ ‫ار حمّد ثا فكأن‬ ‫وإذا أش‬
‫فاملتنيب يش ّبه املهجو عند ما يتحدث بالقرد يقهقه أو العجوز تلطم‪ .‬والغرض من‬
‫التشبيه تقبيح املشّبه ألن قهقهة القرد ولطم العجوز أمران مستكرهان تنفر منهما النفس‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أحد الشعراء اجمليدين ‪ ،‬عاش يف بغداد ‪ ،‬وتويف سنة ‪‍ 328‬ه‪ .‬وقد اشتهر مبرثيته اليت رثى هبا أبا طاهر بن‬
‫بقية ‪ ،‬وزير ع ّز الدولة بن بويه ‪ ،‬ملا قتل وصلب‪ .‬واملرثية اليت منها هذا البيت من أعظم املراثي ‪ ،‬ومل يسمع‬
‫مبثلها يف مصلوب‪ .‬قيل إن عضد الدولة الذي أمر بصلبه ملا مسعها متىن لو كان هو املصلوب وقيلت فيه‪ .‬انظر‬
‫املختصر يف أخبار البشر أليب الفداء ج ‪ 4‬ص ‪.8‬‬

‫‪110‬‬
‫وقول ابن الرومي يف وصف حلية طويلة ‪:‬‬
‫ة‬ ‫هباء حتكي ذنب املذ ّب‬ ‫ّبة ش‬ ‫ائلة منص‬ ‫ةس‬ ‫وحلي‬
‫فابن الرومي يشّبه حلية طويلة شهباء خيتلط فيها السواد بالبياض بذنب املذبة ‪ ،‬أي‬
‫املنشة اليت يذب هبا الذباب ويطرد‪ .‬والغرض هو تقبيح هذه اللحية والسخرية بصاحبها‪.‬‬
‫وقول أعرايب يف ذم امرأته ‪:‬‬
‫ار يفتح‬ ‫ا من الن‬ ‫ه باب‬ ‫تومهت‬ ‫وتفتح ـ ال ك انت ـ فم ا ل و رأيت ه‬
‫فاألعرايب الساخط على امرأته بعد أن يدعو عليها باحلرمان من الوجود يشبه فمها‬
‫عند ما تفتحه بباب من أبواب جهنم‪ .‬والغرض من هذا التشبيه هو التقبيح‪.‬‬
‫والتشبيه بغرض التقبيح أكثر ما يستعمل يف اهلجاء والسخرية والتهكم ووصف ما‬
‫تنفر منه النفس‪.‬‬
‫وفيما يلي بعض أمثلة أخرى للتشبيه عند ما يكون الغرض منه التقبيح ‪:‬‬
‫قال ابن الرومي يف وصف لؤم شخص ذي حلية ‪:‬‬
‫ال تك ذبن ف إن لؤم ك ناص ل كنص ول تل ك اللّم ة الش مطاء‬
‫شّبه لؤمه الظاهر بظهور اللحية املخضوبة حني يزول اخلضاب عنها‪.‬‬
‫وقال السري الرفاء يف وصف منزله ‪:‬‬
‫ض نك تق ارب قط راه فق د ض اقا‬ ‫ه‬ ‫ار الكلب أنزل‬ ‫نزل كوج‬ ‫يل م‬

‫‪111‬‬
‫فهو يشّبه منزله الضيق الذي تقارب قطراه أي جانباه بوجار الكلب وجحره‪.‬‬
‫وقال ابن الرومي ‪:‬‬
‫وب‬ ‫ك املطل‬ ‫ه نيل‬ ‫من دون تاف‬ ‫أب دئت ص فحة قس وة وخش ونة‬
‫ه عن اخلروب‬ ‫ذود ب‬ ‫وكا ي‬ ‫ش‬ ‫ه‬ ‫وت يف إبدائ‬ ‫ك الينب‬ ‫فكأن‬
‫يشّبه ابن الرومي هنا شخصا فّظا غليظ القلب حني يطلب منه أقل معروف بشجر‬
‫اخلروب الذي ال يعادل شوكه ما جيىن من مثره األسود املعوّج الصلب‪.‬‬
‫وقال أيضا يف وصف قينة ‪:‬‬
‫رب‬ ‫ا أليم الض‬ ‫رب واس توجبت مّن‬ ‫ّل ك‬ ‫غّنت فمّس القلب ك‬
‫( ‪)1‬‬
‫هلا فم مثل اتساع الّد رب‬
‫شّبه فم هذه القينة وهي تغين بالدرب أي الباب الواسع‪.‬‬
‫ومن فوائ د التش بيه أن ه ميكن عن طريق ه حتس ني الش يء وتقبيح ه يف وقت واح د‬
‫كقول ابن الرومي يف مدح العسل وذّم ه ‪:‬‬
‫ابري‬ ‫وإن تعب قلت ‪ :‬ذا قيء الزن‬ ‫تق ول ‪ :‬ه ذا جماج النح ل متدح ه‬
‫ف ابن ال رومي ق د م دح وذّم الش يء الواح د بتص ريف التش بيه اجملازي املض مر األداة‬
‫الذي خّيل به إىل السامع خياال حيّس ن الشيء عنده تارة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الدرب ‪ :‬املدخل بني جبلني ‪ ،‬والعرب تستعمله يف معىن الباب ‪ ،‬فيقال لباب السكة ‪ :‬درب ‪ ،‬وللمدخل‬
‫الضيق درب ‪ ،‬ألنه كالباب ملا يفضي إليه‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫ويقّبحه أخرى ‪ ،‬ولو ال التوصل بطريق التشبيه إىل هذا الوجه ملا أمكنه ذلك‪.‬‬
‫***‬
‫وبعد فمن حبثنا السابق ألغراض التشبيه يتضح أن للتشبيه أغراضا شىت نلخص ما‬
‫ذكرناه منها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بيان إمكان وجود املشبه ‪ :‬وذلك حني يسند إىل املش ّبه أمر مستغرب ال تزول‬
‫غرابته إال بذكر شبيه له‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ بي ان ح ال املش ّبه ‪ :‬وذل ك حينم ا يك ون املش به جمه ول الص فة قب ل التش بيه ‪،‬‬
‫فيفيده التشبيه الوصف‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ بي ان مق دار ح ال املش به ‪ :‬وذل ك إذا ك ان املش ّبه مع روف الص فة قب ل التش بيه‬
‫معرفة إمجالية ‪ ،‬مث يأيت التشبيه لبيان مقدار هذه الصفة من جهة القوة والضعف والزيادة‬
‫والنقصان‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تقري ر ح ال املش ّبه ‪ :‬وذل ك بتث بيت ح ال املش ّبه يف نفس الس امع وتقوي ة ش أنه‬
‫لدي ه ‪ ،‬كم ا إذا ك ان م ا أس ند إىل املش ّبه حيت اج إىل التأكي د واإليض اح باملث ال‪ .‬وأغ راض‬
‫التشبيه األربعة السابقة تقتضي أن يكون وجه الشبه يف املشّبه به أّمت وهو به أشهر ‪ ،‬وذلك‬
‫لكي تتحقق هذه األغراض بالنسبة للمشّبه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ت زيني املش ّبه ‪ :‬وذل ك ب أن يلتمس للمش ّبه مش ّبه ب ه حس ن الص ورة أو حس ن‬
‫املعىن يرغب فيه‪ .‬وأكثر ما يكون هذا الغرض يف املدح والرثاء والفخر ووصف ما متيل‬
‫إليه النفس‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ تقبيح املشّبه ‪ :‬وذلك إذا كان املشّبه قبيحا حقيقيا أو اعتباريا ‪ ،‬فيؤتى له مبشبه‬
‫أقبح منه للتنفري منه‪ .‬وأكثر ما يكون هذا الغرض يف اهلجاء‬

‫‪113‬‬
‫ووصف ما تنفر منه النفس‪.‬‬
‫وجتدر اإلشارة أخريا إىل أن مجيع هذه األغراض ترجع يف الغالب إىل املش ّبه ‪ ،‬وقد‬
‫ترجع إىل املشّبه به وذلك يف حالة التشبيه املقلوب‪.‬‬
‫***‬

‫غرائب التشبيه وبديعه‬


‫التشبيه أسلوب من األساليب البيانية ‪ ،‬وهو ميدان واسع تتبارى فيه قرائح الشعراء‬
‫والبلغ اء‪ .‬ولعّل ه ه و وأسلوب االس تعارة من أك ثر أساليب البيان دالل ة على عق ل األديب‬
‫وقدرته على اخللق واإلبداع‪.‬‬
‫والتش بيه ال ذي ه و يف ال وقت ذات ه أس اس االس تعارة ي دّل فيم ا ي دّل على خص ب‬
‫اخليال ومسّو ه وسعته وعمقه ‪ ،‬كما يظهر كذلك مدى القدرة على متثيل املعاين والتعبري‬
‫عنها يف صور رائعة خاّل بة‪.‬‬
‫من أجل ذلك كله يفّنت الشعراء والبلغاء يف صور التشبيه وألوانه ‪ ،‬ويتنافس ذوو‬
‫املواهب يف طرق تناوله واإلتيان فيه بكل غريب وبديع طريف‪.‬‬
‫وملا كان التشبيه على هذا الوضع يعّد مقياسا يقاس به بالغة البليغ وأصالته ‪ ،‬فإننا‬
‫ن رى من البلغ اء من ال يق ف يف الدالل ة على براعت ه يف التش بيه عن د ح ّد إجادت ه ‪ ،‬وإمنا‬
‫يتجاوز ذلك إىل اإلتيان بأكثر من تشبيه يف بيت واحد‪.‬‬
‫فمنهم مثال من شّبه شيئني بشيئني يف بيت واحد ‪ ،‬كقول امرىء القيس ‪:‬‬
‫ل دى وكره ا العّن اب واحلش ف الب ايل‬ ‫ك أن قل وب الط ري رطب ا ويابس ا‬

‫‪114‬‬
‫فقد ش ّبه الرطب من قلوب الطري بالعناب ‪ ،‬واليابس منها باحلشف البايل ‪ ،‬فجاء‬
‫تشبيهه يف غاية اجلودة‪.‬‬
‫وكقول الطرماح يف وصف ثور وحشي ‪:‬‬
‫يب دو وتض مره البالد كأن ه س يف على ش رف يس ّل ويغم د‬
‫ف الثور الوحش ي حني يظه ر كأن ه س يف يس ّل من غم ده على مك ان ع ال ‪ ،‬وه و‬
‫حني خيفى كأنه سيف يغمد يف غمده‪.‬‬
‫وكقول البحرتي يف وصف الندى حتمله شقائق النعمان ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫دم وع التص ايب يف خ دود اخلرائ د‬ ‫ه‬ ‫دى فكأن‬ ‫قائق حيملن الن‬ ‫ش‬
‫فقطرات الندى مشبهة بدموع التصايب ‪ ،‬وشقائق النعمان خبدود احلسان‪.‬‬
‫وكقول بشار بن برد ‪:‬‬
‫ه‬ ‫ل هتاوى كواكب‬ ‫يافنا لي‬ ‫وأس‬ ‫ك أن مث ار النق ع ف وق رؤوس نا‬
‫شّبه مثار النقع والغبار فوق الرؤوس بظلمة الليل ‪ ،‬وش ّبه السيوف بالكواكب وقد‬
‫كثر تشبيههم شيئني بشيئني حىت مل يصر عجبا‪.‬‬
‫وكقول آخر ‪:‬‬
‫وتغيب في ه وه و جث ل أس حم‬ ‫بيض اء تس حب من قي ام فرعه ا‬
‫ا مظلم‬ ‫ل عليه‬ ‫ه لي‬ ‫وكأن‬ ‫اطع‬ ‫ه هنار س‬ ‫فكأهنا في‬
‫ش ّبه ام رأة بيض اء يف ش عرها األس ود املسرتس ل إىل األرض بالنه ار الس اطع وش ّبه‬
‫شعرها الكثيف امللتف على رأسها بالليل املظلم‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬اخلرائد ‪ :‬مجع خريدة ‪ ،‬وهي من النساء البكر اليت مل متّس قّط ‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ومنهم من شّبه ثالثة أشياء بثالثة أشياء ‪ ،‬كقول البحرتي أيضا ‪:‬‬
‫وت راه يف ظلم ال وغى فتخال ه قم را يك ّر على الرج ال بك وكب‬
‫ش ّبه وغى احلرب وعجاجه ا وجلب ة أص واهتا ب الظلم ‪ ،‬وش ّبه املم دوح ب القمر ‪،‬‬
‫والسنان بالكوكب‪.‬‬
‫وكقول شاعر آخر ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ح ذر الكواش ح والع دو املوي ق‬ ‫عرها‬ ‫دائرا من ش‬ ‫رت إّيل غ‬ ‫نش‬
‫ص بحان بات ا حتت لي ل مطب ق‬ ‫ه‬ ‫أنين وكأهنا وكأن‬ ‫فك‬
‫شّبه الشاعر نفسه وشّبه صاحبته بصبحني ‪ ،‬وشّبه شعر صاحبته األسود بليل مطبق‬
‫الظالم‪.‬‬
‫وكقول املرقش ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫ّف عنم‬ ‫راف األك‬ ‫ري وأط‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫وه دن‬ ‫ك والوج‬ ‫ر مس‬ ‫النش‬
‫شّبه الرائحة باملسك ‪ ،‬والوجوه بالدنانري ‪ ،‬وأطراف األكّف بالعنم‪.‬‬
‫وكقول ابن الرومي ‪:‬‬
‫رجس على ورد‬ ‫ر من ن‬ ‫يقط‬ ‫ك أن تل ك ال دموع قط ر ن دى‬
‫ش ّبه الدموع بقطر الندى ‪ ،‬والعيون بالنرجس ‪ ،‬واخلدود بالورد وكقول ابن املعتز‬
‫‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الكواشح ‪ :‬مجع كاشح وهو العدو الذي يضمر العداوة ويطوي عليها كشحه أي باطنه ‪ ،‬والكشح بفتح‬
‫الكاف وسكون الشني ‪ :‬اخلصر ‪ ،‬ومسي العدو كاشحا ألنه خيىبء العداوة يف كشحه ويف كبده ‪ ،‬والكبد بيت‬
‫الع داوة والبغض اء ‪ ،‬ومن ه قي ل للع دو ‪ :‬أس ود الكب د ‪ ،‬ك أّن الع داوة أح رقت الكب د‪ .‬والع دو املوب ق ‪ :‬املهل ك‬
‫واملظهر العداوة‪.‬‬
‫(‪ )2‬العنم ‪ :‬شجر له مثر أمحر يشّبه به البنان أو األصابه املخضوبة‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫ّد‬ ‫عر وق‬ ‫ه وش‬ ‫وج‬ ‫ن‬ ‫ل وغص‬ ‫در ولي‬ ‫ب‬
‫ّد‬ ‫ر وخ‬ ‫ق وثغ‬ ‫وورد ري‬ ‫ودّر‬ ‫مخر‬
‫يف ال بيت األول ش ّبه الب در بالوج ه ‪ ،‬واللي ل بالش عر ‪ ،‬والغص ن بالق د ‪ ،‬ويف ال بيت‬
‫الثاين ش ّبه اخلمر بالريق ‪ ،‬والدّر بالثغر ‪ ،‬والورد باخلد‪ .‬ويالحظ يف مجيع هذه التشبيهات‬
‫أهنا من التشبيه املقلوب‪.‬‬
‫ومنهم من شّبه أربعة أشياء بأربعة أشياء كقول امرىء القيس ‪:‬‬
‫وإرخ اء س رحان ‪ ،‬وتق ريب تتف ل‬ ‫ة‬ ‫اقا نعام‬ ‫يب وس‬ ‫ه أيطال ظ‬ ‫ل‬
‫شّبه خاصريت الفرس خباصريت الظيب ‪ ،‬وشّبه ساقيه بساقي النعامة ‪ ،‬وش ّبه إرخاءه ‪،‬‬
‫أي م ّد عنق ه يف اسرتس ال عن د الس ري بإرخ اء الس رحان أي ال ذئب ‪ ،‬وليس داب ة بأحس ن‬
‫إرخ اء من ه ‪ ،‬وش ّبه تقريب ه ‪ ،‬أي مجع يدي ه ووثب ه عن د اجلري بتق ريب التتف ل ‪ ،‬أي ول د‬
‫الثعلب ‪ ،‬واملعىن يوحي بأنه أراد الثعلب بعينه مشّبها به‪.‬‬
‫وكقول املتنيب ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫زاال‬ ‫ربا ورنت غ‬ ‫احت عن‬ ‫وف‬ ‫ب دت قم را وم الت خ وط ب ان‬
‫شّبه املتغّز ل فيها بالقمر حسنا ‪ ،‬وشّبه متايلها وتثنيها يف مشيتها بغصن البان ‪ ،‬وش ّبه‬
‫طيب رائحتها بالعنرب ‪ ،‬وشّبه سواد مقلتيها عند ما ترنو وتنظر مبقليت الغزال‪.‬‬
‫ومثله قول شاعر آخر ‪:‬‬
‫آذرا‬ ‫ونا والتفنت ج‬ ‫ن غص‬ ‫ومس‬ ‫ة‬ ‫دورا وانتقنب أهّل‬ ‫فرن ب‬ ‫س‬
‫وكقول ابن حاجب وزير القادر باهلل ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬اخلوط ‪ :‬الغصن الناعم ‪ ،‬ورنت ‪ :‬نظرت‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ك الطلع وال ورد والرم ان والبلح‬ ‫ثغ ر وخ د وهند واختض اب ي د‬
‫شّبه الثغر بالطلع ‪ ،‬واخلد بالورد ‪ ،‬والنهد بالرمان ‪ ،‬واليد املخضوبة بالبلح‪.‬‬
‫وكقول ابن رشيق ‪:‬‬
‫كلي ل وب در وغص ن وحق ف‬ ‫بف رع ووج ه وق ّد وردف‬
‫( ‪)2‬‬
‫شّبه الشعر األسود بالليل ‪ ،‬والوجه بالبدر ‪ ،‬والق ّد أو القامة بالغصن ‪ ،‬والردف‬
‫باحلقف وهو كثري الرمل‪.‬‬
‫ومنهم من شّبه مخسة أشياء خبمسة أشياء كقول أيب الفرج الوأواء الدمشقي ‪:‬‬
‫كم ذا أم ا لقتي ل اللح ظ من ق ود (‪)3‬؟‬ ‫ق الت وق د فتكت فين ا لواحظه ا‬
‫وردا وعّض ت على العّن اب ب الربد‬ ‫وأمط رت لؤل ؤا من ن رجس وس قت‬
‫من بع د رؤيته ا يوم ا على أح د‬ ‫إنس انة ل و ب دت للش مس م ا طلعت‬
‫أس د احلم ام مقيم ات على رص د‬ ‫ون هلا‬ ‫ات اجلف‬ ‫كأمنا بني غاب‬
‫ففي البيت الثاين ش ّبه دموع هذه اإلنسانة باللؤلؤ ‪ ،‬وعينيها بالنرجس ‪ ،‬وخ ّد يها‬
‫بالورد ‪ ،‬واألنامل املخضوبة بالعناب ‪ ،‬وثناياها بالربد‪.‬‬
‫ويقول أبو هالل العسكري ‪« :‬وال أعرف هلذا البيت ثانيا يف‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الطلع ‪ ،‬ما يطلع من النخلة مث يصري مثرا إن كانت أنثى ‪ ،‬وإن كانت ذكرا مل يصر مترا بل يؤكل طريا ‪،‬‬
‫ويرتك على النخلة أياما معلومة حىت يصري فيه شيء أبيض مثل الدقيق ‪ ،‬وله رائحة ذكّية فيلقح به األنثى‪.‬‬
‫(‪ )2‬ردف املرأة ‪ :‬عجزها‪.‬‬
‫(‪ )3‬القود بفتح القاف والواو ‪ :‬القصاص‪ .‬وهو قتل القاتل بالقتيل‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫أشعارهم» ومعىن هذا أن أقصى ما وصل إليه الشعراء هو تشبيه مخسة أشياء خبمسة أشياء‬
‫يف بيت واحد ‪ ،‬وأن هذا النوع نادر يف الشعر العريب‪.‬‬
‫وهك ذا ن رى أن بعض الش عراء ق د أك ثروا من التش بيهات يف ال بيت الواح د ولكن‬
‫الول ع هبذا الل ون من التش بيه وحماول ة إظه ار الرباع ة واالفتن ان في ه من ش أنه أن ي ؤدي إىل‬
‫التكّل ف ال ذي ي ذهب برون ق التش بيه ونض ارته وت أثريه كم ا يب دو على بعض ه ذه‬
‫التشبيهات‪.‬‬

‫محاسن التشبيه‬
‫من بالغ ة التش بيه أن يش ّبه الش يء مبا ه و أك رب من ه وأعظم ‪ ،‬ألن التش بيه ال يعم د‬
‫إليه إال لضرب من املبالغة ‪ ،‬فإما أن يكون مدحا أو ذّم ا أو بيانا وإيضاحا ‪ ،‬وال خيرج عن‬
‫هذه املعاين الثالثة‪.‬‬
‫وإذا كان األمر كذلك فال بّد فيه من تقدير لفظة «أفعل» ‪ ،‬فإن مل تق ّد ر فيه لفظة‬
‫«أفع ل» فليس بتشبيه بليغ‪ .‬أال ترى أّن ا نقول يف التشبيه املضمر األداة «زيد أسد» فق د‬
‫شّبهنا زيدا بأسد الذي هو أشجع منه ‪ ،‬فإن مل يكن املشّبه به يف هذا املقام أشجع من زيد‬
‫الذي هو املشّبه كان التشبيه ناقصا إذ ال مبالغة‪.‬‬
‫ومن التشبيه املظهر لألداة قوله تعاىل ‪َ( :‬و َل ُه اْلَج واِر اْلُم ْنَش آُت ِفي اْلَبْح ِر َك اَأْلْع الِم‬
‫‪ )،‬وهذا تشبيه كبري مبا هو أكرب ألن السفن البحرية وإن كانت كبرية فإن اجلبال أكرب‬
‫منها‪.‬‬
‫وك ذلك إذا ش ّبه ش يء حس ن بش يء حس ن ‪ ،‬فإن ه إذا مل يش به مبا ه و أحس ن من ه‬
‫فليس بوارد على طريق البالغة ‪ ،‬وإن شّبه قبيح بقبيح فينبغي أن يكون املشّبه به أقبح‪.‬‬
‫وإن قصد البيان واإليضاح فينبغي أن يكون املشبه به أبني وأوضح‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫ومن ذلك يرى أن تقدير لفظة «أفعل» ال ب ّد منه فيما يقصد به بالغة التشبيه وإال كان‬
‫التشبيه ناقصا‪.‬‬
‫وق د عرفن ا مما س بق أن تش بيه الش يئني أح دمها ب اآلخر ال خيل و من أن يك ون تش بيه‬
‫مع ىن مبع ىن ‪ ،‬أو تش بيه ص ورة بص ورة ‪ ،‬أو تش بيه مع ىن بص ورة ‪ ،‬أو تش بيه ص ورة مبع ىن‪.‬‬
‫وأبلغ هذه األنواع تشبيه معىن بصورة ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪َ( :‬و اَّلِذ يَن َكَف وا َأْع م اُلُه ْم َك راٍب‬
‫َس‬ ‫ُر‬
‫ِبِق يَعٍة) ووجه بالغة هذا النوع تأيت من متثيله للمعاين املوهومة بالصور املشاهدة‪.‬‬
‫ومن حماس ن التش بيه املض مر األداة قول ه تع اىل ‪َ( :‬و َجَعْلَن ا الَّلْي َل ِلباس ًا) فش ّبه اللي ل‬
‫باللباس ‪ ،‬ألن الليل من شأنه أن يسرت الناس بعضهم عن بعض ملن أراد هربا من عدو أو‬
‫ثباتا لعدو أو إخفاء ما ال جيب االّطالع عليه من أمره‪ .‬وهذا من التشبيهات اليت مل يأت‬
‫هبا إال القرآن الكرمي ‪ ،‬فإن تشبيه الليل بلباس مما اختّص به القرآن دون غريه من الكالم‬
‫املنثور واملنظوم‪.‬‬
‫ومن هذا األسلوب قوله تعاىل ‪َ( :‬و آَيٌة َلُه ُم الَّلْيُل َنْس َلُخ ِم ْنُه الَّنهاَر ) فش ّبه ت ّربؤ الليل‬
‫من النهار بانسالخ اجللد عن اجلسم املسلوخ ‪ ،‬وذلك أنه ملا كانت هوادي الصبح وأوائله‬
‫عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ ‪ ،‬وكان ذلك أوىل من أن‬
‫يقال ‪« :‬خيرج» ألن السلخ أدّل على االلتحام من اإلخراج‪.‬‬
‫ومن حماسن التشبيه املضمر يف األمثال «الليل جنة اهلارب» ‪ ،‬ومنه يف الشعر قول‬
‫املتنيب ‪:‬‬
‫وإذا اه تز لل وغى ك ان نص ال‬ ‫ان حبرا‬ ‫دى ك‬ ‫وإذا اه تّز للن‬
‫ان وبال‬ ‫وإذا األرض أحملت ك‬ ‫ا‬ ‫ان مشس‬ ‫وإذا األرض أظلمت ك‬

‫‪120‬‬
‫فهنا أربعة تشبيهات ‪ ،‬كّل واحد منها تشبيه صورة بصورة وحسن يف معناه‪.‬‬
‫ومن تشبيه املركب باملركب مع إضمار األداة ‪ ،‬ما رواه معاذ بن جبل عن الرسول‬
‫عند ما قال له ‪« :‬أمسك عليك هذا» وأشار إىل لسانه ‪ ،‬فقال معاذ ‪« :‬أو حنن مؤاخذون‬
‫مبا نتكلم»؟ فقال له الرسول ‪« :‬ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكّب الناس على مناخرهم يف‬
‫نار جهنم إال حصائد ألسنتهم؟»‪ .‬فقوله ‪ :‬حصائد ألسنتهم ‪ ،‬من تشبيه املركب باملركب‬
‫‪ ،‬فإنه شّبه األلسنة وما متضي فيه من األحاديث اليت يؤاخذ هبا باملناجل اليت حتصد النبات‬
‫من األرض‪ .‬وهذا تشبيه بليغ عجيب مل يسمع إال من النيب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم‪.‬‬
‫ومنه قول أيب متام ‪:‬‬
‫راض‬ ‫اب واألع‬ ‫ودروع األحس‬ ‫معش ر أص بحوا حص ون املع ايل‬
‫فقوله «حصون املعايل» من التشبيه املركب ‪ ،‬ألنه ش ّبه املعشر املمدوح يف منعهم‬
‫املعايل ومحايتها من أن يناهلا أحد سواهم باحلصون يف منعها من هبا ومحايته‪.‬‬
‫وكذلك الشأن يف تشبيههم بدروع األحساب واألعراض‪.‬‬
‫ومن تش بيه املركب ب املركب م ع إظه ار األداة ق ول الن يب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪:‬‬
‫«مث ل املؤمن ال ذي يق رأ الق رآن كمث ل األترج ة (‪ )1‬طعمه ا طيب ورحيه ا طيب ‪ ،‬ومث ل‬
‫املؤمن الذي ال يق رأ الق رآن كمثل التمرة طعمه ا طيب وال ريح هلا ‪ ،‬ومثل املنافق الذي‬
‫يقرأ القرآن كمثل الرحيانة رحيها طيب وال طعم له ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬األترجة بضم اهلمزة وسكون التاء وضم الراء وتشديد اجليم ‪ :‬مثرة ذهبية اللون طيبة الرائحة والطعم‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫ومثل املنافق الذي ال يقرأ القرآن كمثل احلنظلة ال ريح هلا وطعمها مّر »‪.‬‬
‫فالرسول قد شّبه املؤمن القارىء وهو مّتصف بصفتني مها اإلميان والقراءة باألترجة‬
‫وهي ذات وصفني مها الطعم والريح ‪ ،‬وش ّبه املؤمن غري القارىء ‪ ،‬وهو مّتصف بصفتني‬
‫مها اإلميان وع دم الق راءة ب التمرة ‪ ،‬وهي ذات وص فني مها الطعم وع دم ال ريح ‪ ،‬ووص ف‬
‫املنافق القارىء ‪ ،‬وهو مّتصف بصفتني مها النفاق والقراءة بالرحيانة وهي ذات وصفني مها‬
‫الريح وعدم الطعم ‪ ،‬ووصف املنافق غري القارىء ‪ ،‬وهو مّتصف بصفتني مها النفاق وعدم‬
‫القراءة باحلنظلة ‪ ،‬وهي ذات وصفني مها عدم الريح ومرارة الطعم‪.‬‬
‫ومما ورد من هذا النوع شعرا قول البحرتي ‪:‬‬
‫ابة‬ ‫ابة عن عص‬ ‫ه عص‬ ‫وليت‬ ‫رّدد فيهم‬ ‫وت‬ ‫ق منهم‬ ‫خل‬
‫( ‪)1‬‬
‫ر ‪ ،‬ويف ىن يف ك ل حني قراب ه‬ ‫ده‬ ‫ام اجلراز يبقى على ال‬ ‫كاحلس‬
‫وقول ابن الرومي ‪:‬‬
‫ة العنب‬ ‫ه ابن‬ ‫رجس مع‬ ‫يف ن‬ ‫وا‬ ‫ك أهنم وقع‬ ‫أدرك ثقات‬
‫ّبحت من عجب ومن عجب‬ ‫س‬ ‫رت هبا‬ ‫و بص‬ ‫و حبال ل‬ ‫فهم‬
‫راهبم دّر على ذهب‬
‫( ‪)2‬‬
‫درر وش‬ ‫على‬ ‫ذهب‬ ‫رحياهنم‬
‫ويقارن ابن األثري بني هذا التشبيه وسابقه مقررا أن تشبيه البحرتي أصنع ‪ ،‬وذلك‬
‫أن تشبيه ابن الرومي صدر عن صورة مشاهدة ‪ ،‬على حني‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬احلسام اجلراز ‪ :‬السيف املاضي النافذ املستأصل ‪ ،‬وقراب السيف ‪ :‬غمده‪.‬‬
‫(‪ )2‬أدرك ثقاتك ‪ :‬أحلق مبن تثق هبم فهم بني رحيان وراح ‪ ،‬والعجب بضم فسكون ‪ :‬الزهو ‪ ،‬والعجب بفتح‬
‫العني واجليم ‪ :‬إنكار الشيء ألنه خالف املألوف‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫استنبط البحرتي تشبيهه استنباطا من خاطره‪.‬‬
‫مث يوّض ح ابن األثري رأيه بقوله ‪« :‬وإذا شئت أن تفّر ق بني صناعة التشبيه فانظر إىل‬
‫ما أشرت إليه ههنا ‪ ،‬فإن كان أحد التشبيهني عن صورة مشاهدة واآلخر عن صورة غري‬
‫مش اهدة ‪ ،‬ف اعلم أن ال ذي ه و عن ص ورة غ ري مش اهدة أص نع‪ .‬ولعم ري أن التش بيهني‬
‫كليهم ا ال ب ّد فيهم ا من ص ورة حتكى ‪ ،‬لكن أح دمها ش وهدت الص ورة في ه فحكيت‬
‫واآلخر استنبطت له صورة مل تشاهد يف تلك احلال وإمنا الفكر استنبطها‪.‬‬
‫أال ت رى أن ابن ال رومي نظ ر إىل ال نرجس وإىل اخلم ر فش ّبه ‪ ،‬وأم ا البح رتي فإن ه‬
‫م دح قوم ا ب أن خل ق الس ماح ب اق فيهم ينتق ل عن األول إىل اآلخ ر ‪ ،‬مث اس تنبط ل ذلك‬
‫تشبيها فأّداه فكره إىل السيف وقرابه الذي يفىن يف كل حني وهو باق ال يفىن بفنائه‪ .‬ومن‬
‫أجل ذلك كان البحرتي أصنع يف تشبيهه» (‪.)1‬‬
‫واألصل يف حسن التشبيه أن يشبه الغائب اخلفي غري املعتاد بالظاهر املعتاد ‪ ،‬وهذا‬
‫ي ؤدي إىل إيض اح املع ىن وبي ان املراد ‪ ،‬وذل ك كق ول الرس ول ‪« :‬كن يف ال دنيا كأن ك‬
‫غ ريب أو ع ابر س بيل» ففي ه ذا احلديث إرش اد إىل خف ة احلال وع دم االرتب اط والتعّل ق‬
‫الش ديد بال دنيا ؛ ف إن الغ ريب ال ارتب اط ل ه يف بالد الغرب ة ‪ ،‬وابن الس بيل ال وج ود ل ه يف‬
‫مكان إال مبقدار العبور وقطع املسافة‪ .‬فهذا املعىن أظهره التشبيه هناية الظهور‪.‬‬
‫ويؤك د أب و هالل العس كري ه ذا األص ل من أص ول التش بيه احلس ن بقول ه ‪:‬‬
‫«والتش بيه يزي د املع ىن وض وحا ويكس به تأكي دا ‪ ،‬وهلذا أطب ق مجي ع املتكلمني من الع رب‬
‫والعجم عليه ‪ ،‬ومل يستغن أحد منهم عنه‪ .‬وقد جاء‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب املثل السائر ص ‪ 159‬ـ ‪.160‬‬

‫‪123‬‬
‫عن الق دماء وأه ل اجلاهلي ة من ك ل جي ل م ا يس تدل ب ه على ش رفه وفض له وموقع ه من‬
‫البالغ ة بك ل لس ان‪ .‬فمن ذل ك م ا قال ه ص احب كليل ة ودمن ة ‪ :‬ال دنيا كاملاء امللح كلم ا‬
‫ازددت منه شربا ازددت عطشا‪ .‬وقال ‪ :‬ال خيفى فضل ذو العلم وإن أخفاه كاملسك خيبا‬
‫ويسرت ‪ ،‬مث ال مينع ذلك رائحته أن تفوح‪ .‬وقال ‪ :‬األدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد‬
‫األمحق سكرا ‪ ،‬كالنهار يزيد البصري بصرا ويزيد اخلفاش سوء بصر» (‪.)1‬‬
‫ومن مقاصد التشبيه إفادة املبالغة ‪ ،‬وهلذا قّلما خال تشبيه مصيب عن هذا القصد‪.‬‬
‫ولكن ينبغي أاّل ي ؤدي اإلغ راق يف املبالغ ة إىل البع د بني املش به واملش به ب ه أو إىل ع دم‬
‫املالءمة بينهما ‪ ،‬وإاّل ارتّد التشبيه قبيحا‪.‬‬
‫ويعرّب عبد القاهر اجلرجاين عن مدى أثر التشبيه يف التعبري عن املعاين املختلفة بقوله‬
‫‪« :‬ف إن ك ان ـ التش بيه ـ م دحا ك ان أهبى وأفخم وأنب ل يف النف وس وأعظم ‪ ،‬وأه ّز‬
‫( ‪)2‬‬

‫للعط ف وأسرع لإلل ف ‪ ،‬وأجلب للف رح وأغلب على املمتدح ‪ ، ...‬وأسري على األلسن‬
‫وأذكر ‪ ،‬وأوىل بأن تعلقه القلوب وأجدر‪.‬‬
‫وإن كان ذّم ا كان مسه أوجع وميسمه (‪ )3‬ألذع ‪ ،‬ووقعه أش ّد وح ّد ه أح ّد ‪ .‬وإن‬
‫كان حجاجا كان برهانه أنور ‪ ،‬وسلطانه أقهر ‪ ،‬وبيانه أهبر‪ .‬وإن كان افتخارا كان شأوه‬
‫(‪ )4‬أبعد ‪ ،‬وشرفه أجّد ولسانه ألّد ‪ .‬وإن كان اعتذارا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب الصناعتني ص ‪ 243‬ـ ‪.244‬‬
‫(‪ )2‬أسرار البالغة ص ‪ 93‬ـ ‪.96‬‬
‫(‪ )3‬امليسم بكسر امليم ‪ :‬اآللة اليت يكوى هبا ويعلم‪.‬‬
‫(‪ )4‬الشأو ‪ :‬األمد والغاية ‪ ،‬وشرفه أجد ‪ :‬أعظم ‪ ،‬واأللد ‪ :‬الشديد اخلصومة‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫كان إىل القبول أقرب ‪ ،‬وللقلوب أخلب ‪ ،‬وللسخائم (‪ )1‬أس ّل ‪ ،‬ولغرب (‪ )2‬الغضب أف ّل‪.‬‬
‫وإن كان وعظا كان أشفى للصدر ‪ ،‬وأدعى للفكر ‪ ،‬وأبلغ يف التنبيه والزجر ‪ ...‬وهكذا‬
‫احلكم إذا استقصيت فنون القول وضروبه ‪.»...‬‬
‫ويرجع عبد القاهر تأثري التشبيه يف النفس إىل علل وأسباب‪ .‬فأول ذلك وأظهره أن‬
‫أنس النف وس موق وف على أن خترجه ا من خفّي إىل جلّي ‪ ،‬وتأتيه ا بص ريح بع د مك ين ‪،‬‬
‫وأن ترّده ا يف الش يء تعلمه ا إي اه إىل ش يء آخ ر هي بش أنه أعلم ‪ ،‬وثقته ا ب ه يف املعرف ة‬
‫أحكم ‪ ،‬حنو أن تنقله ا عن العق ل إىل اإلحس اس ‪ ،‬وعّم ا يعلم ب الفكر إىل م ا يعلم‬
‫باالض طرار والطب ع ‪ ،‬ألن العلم املس تفاد من ط رق احلواس ‪ ...‬يفّض ل املس تفاد من جه ة‬
‫النظر والفكر ‪ ، ...‬كم ا ق الوا ‪« :‬ليس اخلرب كاملعاين ة وال الظن ك اليقني» ‪ ،‬فاالنتق ال يف‬
‫الش يء عن الص فة واخلرب إىل العي ان ورؤي ة البص ر ليس ل ه س بب س وى زوال الش ك‬
‫والريب‪.‬‬
‫فاملش اهدة هلا أثره ا يف حتري ك النفس ومتكني املع ىن من القلب ‪ ،‬ول و ال أن األم ر‬
‫كذلك ملا كان هناك معىن لنحو قول أيب متام ‪:‬‬
‫دد‬ ‫اغرتب تتج‬ ‫هف‬ ‫لدياجتي‬ ‫وط ول مق ام املرء يف احلي خمل ق‬
‫إىل الن اس أن ليس ت عليهم بس رمد‬ ‫ف إين رأيت الش مس زي دت حمب ة‬
‫وذلك أن هذا التجّد د ال معىن له إن كانت الرؤية ال تفيد أنسا من‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬السخائم ‪ :‬الضغائن ‪ ،‬وسل السخائم ‪ :‬نزعها واستخراجها‪.‬‬
‫(‪ )2‬غرب السيف ‪ :‬حّد ه ‪ ،‬وفل السيف ‪ :‬ثلمه ‪ ،‬واملعىن أن االعتذار يضعف من حّد ة الغضب الذي يكون له‬
‫وقع السيف على النفس‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫حيث هي رؤية ‪ ،‬وكان اإلنس لنفيها الشك وال ّر يب ‪ ،‬أو لوقوع العلم بأمر زائد مل يعلم‬
‫من قبل‪.‬‬
‫ول و أن رجال أراد أن يض رب ل ك مثال يف تن ايف الش يئني فق ال ‪ :‬ه ذا وذاك ه ل‬
‫جيتمعان؟ وأشار إىل ماء ونار حاضرين ‪ ،‬وجدت لتمثيله من التأثري ما ال جتده إذا أخربك‬
‫بالقول فقال ‪ :‬هل جيتمع املاء والنار؟‬
‫وسبب آخر من أسباب بالغة التشبيه وتأثريه يف النفس عند عبد القاهر هو التماس‬
‫شبه للشيء يف غري جنسه وشكله ‪ ،‬ألن التشبيه ال يكون له موقع من السامعني وال يه ّز‬
‫وال حيّر ك حىت يكون الشبه مقررا بني شيئني خمتلفني يف اجلنس ‪ ،‬كتشبيه العني بالنرجس‬
‫وتشبيه الثريا مبا شّبهت به من عنقود الكرم املنّو ر‪.‬‬
‫ويف ذل ك يق ول ‪« :‬وهك ذا إذا اس تقريت التش بيهات وج دت التباع د بني الش يئني‬
‫كلم ا ك ان أش ّد ك انت إىل النف وس أعجب ‪ ،‬وك انت النف وس هلا أطرب ‪ ،‬وك ان مكاهنا‬
‫إىل أن حتدث األرحيية أقرب»‪.‬‬
‫«وذلك أن موضع االستحسان ‪ ،‬ومكان االستظراف ‪ ،‬واملثري للدفني من االرتياح‬
‫‪ ،‬واملت ألف للن افر من املس ّر ة ‪ ،‬واملؤل ف ألط راف البهج ة ‪ ،‬أن ك ت رى هبا ـ التش بيهات ـ‬
‫الشيئني مثلني متباينني ‪ ،‬ومؤتلفني خمتلفني ‪ ،‬وترى الصورة الواحدة يف السماء واألرض ‪،‬‬
‫ويف خلقة اإلنسان وخالل الروض ‪.»...‬‬
‫«ومبىن الطباع وموضوع اجلبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان مل يعهد ظهوره‬
‫منه ‪ ،‬وخرج من موضع ليس مبعدن له كانت صبابة النفوس به أكثر ‪ ،‬وكان الشغف منها‬
‫أكثر وأجدر‪ .‬فسواء يف إثارة التعجب ‪ ،‬وإخراجك إىل روعة املستغرب وجودك الشيء‬
‫يف مكان ليس من أمكنته ‪،‬‬

‫‪126‬‬
‫ووجود شيء مل يوجد ومل يعرف من أصله يف ذاته وصفته ‪.»...‬‬
‫«وإذا ثبت هذا األصل وهو أن تصوير الشبه بني املختلفني يف اجلنس مما حيّر ك ق وى‬
‫االستحسان ‪ ،‬ويثري الكامن من االستظراف فإن التمثيل ـ أي التشبيه ـ أخّص شيء هبذا‬
‫الشأن»‪.‬‬
‫فالتش بيه عن ده «يعم ل عم ل الس حر يف ت أليف املتب اينني ح ىت خيتص ر بع د م ا بن‬
‫املشرق واملغرب ‪ ،‬وجيمع ما بني املشئم واملعرق (‪ .)1‬وهو يريك للمعاين املمثلة باألوهام‬
‫شبها يف األشخاص املاثلة واألشباح القائمة ‪ ،‬وينطق لك األخرى ‪ ،‬ويعطيك البيان من‬
‫األعجم ‪ ،‬ويري ك احلي اة يف اجلم اد ويري ك التئ ام عني األض داد ‪ ،‬فيأتي ك باحلي اة واملوت‬
‫جمموعني ‪ ،‬واملاء والنار جمتمعني‪ .‬كما يقال يف املمدوح هو حياة ألوليائه ‪ ،‬موت ألعدائه‬
‫‪ ،‬وجيعل الشيء من جهة ماء ومن أخرى نار ‪ ،‬كقول الشاعر ‪:‬‬
‫س د م اء ج ار م ع اإلخ وان‬ ‫ر احلا‬ ‫رتقى نظ‬ ‫ار يف م‬ ‫ان‬ ‫أن‬
‫وكم ا جيع ل الش يء حل وا م ّر ا ‪ ،‬وص ابا عس ال ‪ ،‬وقبيح ا حس نا ‪ ،‬وأس ود أبيض يف‬
‫حال كقول الشاعر ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫ولكن ه يف القلب أس ود أس فع‬ ‫ع‬ ‫ر يف العني أبيض ناص‬ ‫ه منظ‬ ‫ل‬
‫وجيعل الشيء قريبا بعيدا معا ‪ ،‬كقول البحرتي ‪:‬‬
‫عن ك ل ن ّد يف الن دى وض ريب‬ ‫ع‬ ‫اة وشاس‬ ‫دي العف‬ ‫دان على أي‬
‫للعص بة الس ارين ج ّد ق ريب‬ ‫كالب در أف رط يف العل و وض وؤه‬
‫وجيعله حاضرا غائبا ‪ ،‬كقول الشاعر ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬املشئم ‪ :‬من أتى من الشام ‪ ،‬واملعرق ‪ :‬من أتى من العراق‪.‬‬
‫(‪ )2‬األسفع ‪ :‬األسود املشرب حبمرة ‪ ،‬واالسم السفعة بضم السني‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ائب‬ ‫ر الغ‬ ‫الم على احلاض‬ ‫س‬ ‫ؤاد‬ ‫را يف الف‬ ‫ا حاض‬ ‫ا غائب‬ ‫أي‬
‫مث خيلص عبد القاهر من كل ذلك إىل القول بأن الشاعر الص ّناع يبلغ بتصرفه يف‬
‫التش بيه إىل غاي ات االبت داع ‪ ،‬فيق ول ‪« :‬وكفى دليال على تص رفه بالي د الص ناع وإيفائ ه‬
‫على غاي ات االبت داع أن يري ك الع دم وج ودا والوج ود ع دما ‪ ،‬وامليت حّي ا واحلّي ميت ا ‪،‬‬
‫أع ين جعلهم الرج ل إذا بقي ل ه ذك ر مجي ل وثن اء حس ن بع د موت ه كأن ه مل ميت ‪ ،‬وجع ل‬
‫ال ذكر حي اة ل ه ‪ ،‬كم ا ق ال ‪« :‬ذك رة (‪ )2‬الف ىت عم ره الث اين» ‪ ،‬وحكمهم على اخلام ل‬
‫الساقط القدر اجلاهل الدينء باملوت ‪ ...‬ولطيفة أخرى له وهي ‪ :‬جعل املوت نفسه حياة‬
‫مس تأنفة حىت يق ال إنه باملوت اس تكمل احلياة يف قوهلم ‪« :‬فالن ع اش حني م ات» يراد‬
‫الرج ل حتمل ه النفس األبّي ة واألنف ة من الع ار أن يس خو بنفس ه يف اجلود والب أس وقت ال‬
‫األعداء ‪ ،‬حىت يكون له يوم ال يزال يذكر ‪ ،‬وحديث يعاد على مّر الدهور ويشهر ‪ ،‬كما‬
‫قال ابن نباتة ‪:‬‬
‫رة‬ ‫يم م‬ ‫اف الض‬ ‫نفس تع‬ ‫ل ذي‬ ‫أيب وأمي ك‬ ‫ب‬
‫( ‪)3‬‬
‫ره»‬ ‫ا ويعيش ذك‬ ‫فيميته‬ ‫ردى‬ ‫رّد ال‬ ‫أن ي‬ ‫ىب‬ ‫يرض‬
‫***‬

‫عيوب التشبيه‬
‫لعّل التشبيه من بني األساليب البيانية أكثرها داللة على قدرة البليغ وأصالته يف فن‬
‫القول‪ .‬وذلك ألن التشبيه هو يف الواقع ضرب من التصوير‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أسرار البالغة ص ‪ 102‬ـ ‪.114‬‬
‫(‪ )2‬الذكرة بضم الذال ‪ :‬الّصيت‪.‬‬
‫(‪ )3‬أسرار البالغة ص ‪ 102‬ـ ‪.114‬‬

‫‪128‬‬
‫ال تتأتى اإلجادة أو اإلبداع فيه إال ملن توافرت له أدواته ‪ ،‬من لفظ ومعىن وصياغة ‪ ،‬ومن‬
‫مسّو خيال ورهافة حّس ‪ ،‬ومن براعة يف تشكيل صور التشبيه على حنو يبّث فيها احلركة‬
‫ومينحها اجلمال والتأثري‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك يقال ‪ :‬إن التشبيه بني ألوان البالغة ممعن يف الرتف ‪ ،‬كثري األناقة ‪،‬‬
‫شديد احلساسية ‪ ،‬رقيق املزاج ‪ ،‬وأّي هتاون فيه يعيبه ‪ ،‬وخيرجه من احلسن إىل القبح‪.‬‬
‫وهذا القبح أنواع كثرية ‪ ،‬منها ما يرجع إىل اللفظ أو املعىن أو الصياغة أو اخليال‬
‫أو األصول البالغية اليت يبىن عليها التشبيه‪.‬‬
‫فمن األصول البالغية أن يش ّبه الشيء مبا هو أكرب وأقوى منه ‪ ،‬فيشبه احلسن مثال‬
‫باألحسن ‪ ،‬والقبيح باألقبح ‪ ،‬والبّني الواضح مبا هو أبني وأوضح منه ‪ ،‬وإال كان التشبيه‬
‫ناقصا‪.‬‬
‫وطبق ا ل ذلك يق ول ابن األثري ‪« :‬ومن ههنا غلط بعض الكتاب من أه ل مصر يف‬
‫( ‪)1‬‬
‫ذكر حصن من حصون اجلبال مشّبها له فقال ‪ :‬هامة عليها من الغمامة عمامة ‪ ،‬وأمنلة‬
‫خضبها األصيل فكان اهلالل منها قالمة‪ .‬وهذا الكاتب حفظ شيئا وغابت عنه أشياء ‪،‬‬
‫فإنه أخطأ يف تشبيه احلصن باألمنلة ‪ ،‬أي مقدار لألمنلة بالنسبة إىل تشبيه حصن على رأس‬
‫جبل؟»‪.‬‬
‫مث يستطرد ابن األثري ‪« :‬فإن قيل إن هذا الكاتب تأسى فيما ذكره بكالم اهلل تعاىل‬
‫حيث قال ‪ :‬والقمر ق ّد رناه منازل حىت عاد كالعرجون القدمي‪ .‬فمثل اهلالل بأصل عذق‬
‫النخلة‪ .‬واجلواب أنه شّبه اهلالل يف‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬األمنلة بتثليث اهلمزة مع تثليث امليم ‪ :‬مفصل اإلصبع الذي فيه الظفر ‪ ،‬وقيل األنامل ‪ :‬رؤوس األصابع ‪،‬‬
‫والقالمة ‪ :‬طرف الظفر املقلوم‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫اآلية بالعرجون القدمي ‪ ،‬وذلك يف هيئة حنوله واستدارته ال يف مقداره ‪ ،‬فإن مقدار اهلالل‬
‫عظيم وال نسبة للعرجون إليه ‪ ،‬لكنه يف مرأى النظر كالعرجون هيئة ال مقدارا‪ .‬وأما هذا‬
‫الكاتب فإن تشبيهه ليس على هذا النسق ‪ ،‬ألنه ش ّبه صورة احلصن بأمنلة يف املقدار ال يف‬
‫اهليئة والشكل ‪ ،‬وهذا غري حسن وال مناسب‪.‬‬
‫ومن بالغة التشبيه أن يثبت للمش ّبه حكم من أحكام املش ّبه به ‪ ،‬فإذا مل يكن هبذه‬
‫الصفة أو كان بني املشبه به بعد فإن ذلك مما يعيب التشبيه ويضع من قيمته البالغية‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك قول أيب متام ‪:‬‬
‫ال تس قين م اء املالم ف إنين ص ّب ق د اس تعذبت م اء بك ائي‬
‫فالشاعر جعل للمالم ماء ‪ ،‬وذلك تشبيه بعيد ‪ ،‬وسبب بعده أن املاء مستلذ واملالم‬
‫مستكره فحصل بينهما املخالفة والبعد من هذه اجلهة‪.‬‬
‫ومنه قول املّر ار ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫س نا الب در يف دعج اء ب اد دجوهنا‬ ‫وخ ال على خ ديك يب دو كأّن ه‬
‫فاملتع ارف علي ه أّن اخلدود بيض واخلال أس ود ‪ ،‬ولكّن الش اعر رغم ذل ك يش به‬
‫اخلال بض وء الب در واخلدين بالليل ة املظلم ة‪ .‬فالتش بيه هن ا ليس بعي دا فحس ب ‪ ،‬ب ل ه و‬
‫مناقض للعادة ‪ ،‬ومن أجل ذلك فهو تشبيه رديء‪.‬‬
‫ومن بعيد التشبيه أيضا قول الفرزدق ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الدعجاء ‪ :‬السوداء ‪ ،‬وهي هنا صفة ملوصوف حمذوف ‪ ،‬والتقدير ‪ :‬ليلة دعجاء ‪ ،‬ودجوهنا ‪ :‬سوادها‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ج رب اجلم ال هبا الكحي ل املش عل‬ ‫ميش ون يف حل ق احلدي د كم ا مش ت‬
‫فالفرزدق ش ّبه الرجال يف دروع الزرد باجلمال اجلرب ‪ ،‬وهذا من التشبيه البعيد ؛‬
‫ألّنه إن أراد السواد فال مقاربة بينهما يف اللون ألّن لون احلديد أبيض ‪ ،‬ومن أجل ذلك‬
‫مسيت السيوف بالبيض‪ .‬ومع كون هذا التشبيه بعيدا فإّنه تشبيه سخيف‪.‬‬
‫ومنه كذلك قول أعرايب ‪:‬‬
‫وتبع د ح ىت ابيض من ك املس ائح‬ ‫وم ا زلت ترج و ني ل س لمى ووده ا‬
‫( ‪)2‬‬
‫ظب اء ج رت منه ا س نيح وب ارح‬ ‫مال حاجبي ك الش يب ح ىت كأّن ه‬
‫فشبه شعرات بيضا يف حاجبيه بظباء سوانح وبوارح متر بني يديه ميينا ومشاال‪ .‬فهذا‬
‫كما ترى من بعيد التشبيه‪.‬‬
‫ومنه قول أيب نواس يف اخلمر ‪:‬‬
‫زل‬ ‫كال من الغ‬ ‫رت ش‬ ‫أظه‬ ‫ا‬ ‫ا املاء واقعه‬ ‫وإذا م‬
‫ل‬ ‫ذّر من جب‬ ‫درن هبا كاحندار ال‬ ‫ؤات ينح‬ ‫لؤل‬
‫فشّبه اجلب يف احنداره بنمل صغار ينحدر من جبل ‪ ،‬وهذا من‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الكحيل ‪ :‬النفط أو القطران يطلى به اإلبل ‪ ،‬وأشعل إبله بالكحيل أو القطران طالها به وكثره عليها‪.‬‬
‫(‪ )2‬مال ‪ :‬مأل ‪ ،‬وسهلت اهلمزة لضرورة الشعر ‪ ،‬املسائح ‪ :‬جوانب الرأس أو الشعر ‪ ،‬مجع مسيحة ‪ ،‬والسنيح‬
‫أو السانح من الظباء والطري خالف البارح ‪ ،‬وهو ما مير بني يديك من جهة يسارك إىل ميينك ‪ ،‬والعرب تتيمن‬
‫به ‪ ،‬ألّن ه أمكن لل رمي والصيد ‪ ،‬والب ارح من الظب اء والطري ‪ :‬م ا م ر منه ا بني ي ديك من ميين ك إىل يس ارك ‪،‬‬
‫والعرب تتطري به ‪ ،‬ألّنه ال ميكنك أن ترميه حىت تنحرف‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫البعيد ‪ ،‬كما يقول ابن األثري ‪ ،‬على غاية ال حيتاج فيها إىل بيان وإيضاح‪.‬‬
‫***‬
‫وقد يكون التشبيه مصيبا ولكّن وقع املشبه به على النفس صورة كان أو صفة أو‬
‫ح اال ق د يث ري فيه ا ح اال من البش اعة أو االس تنكار ‪ ،‬وهبذا يفق د التش بيه روعت ه وس حره‬
‫وتنتفي عنه صفة البالغة ‪ ،‬ويضحى تشبيها قبيحا معيبا‪ .‬ومن أمثلة ذلك قول شاعر يصف‬
‫روضا ‪:‬‬
‫دماء‬ ‫د روين من ال‬ ‫اب ق‬ ‫ثي‬ ‫ه‬ ‫ان في‬ ‫قائق النعم‬
‫ك أّن ش‬
‫فتشبيه شقائق النعمان بالثياب املرتوية بالدماء قد يكون هذا تشبيها مصيبا ولكن‬
‫فيه بشاعة ذكر الدماء ‪ ،‬ولو شبه الشقائق مثال بالعصفر األمحر اللون أو ما شاكله لكان‬
‫أوقع يف النفس وأقرب إىل األنس‪.‬‬
‫وقول امرىء القيس ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫أس اريع ظ يب أو مس اويك أس حل‬ ‫وتعط و ب رخص غ ري ش ثن كأّن ه‬
‫فامرؤ القيس يقول إّن صاحبته تتناول األشياء ببنان أو أصابع رخصة لّينة ناعمة ‪،‬‬
‫ّمث يش به تل ك األنام ل ب دود الرم ل أو املس اويك املتخ ذة من ش جر األس حل‪ .‬فق د يك ون‬
‫تش بيه البن ان هبذا الض رب من ال دود مص يبا من جه ة اللني والبي اض والط ول واالس تواء‬
‫والدقة ‪ ،‬ولكنه يف الوقت ذاته حيضر إىل الذهن صورة الدود ويف ذلك ما فيه من نفور‬
‫النفس وامشئزازها‪ .‬ومن‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬تعطو ‪ :‬تتناول ‪ ،‬برخص ‪ :‬أراد به بنانا أو أصابع رخصة لينة ‪ ،‬غري شثن ‪ :‬ليس خبشن ‪ ،‬األساريع ‪ :‬دود‬
‫يكون يف الرمل تشبه أنامل النساء به ‪ ،‬الظيب ‪ :‬اسم رملة بعينها ‪ ،‬واألسحل ‪ :‬شجر تتخذ من أغصانه الدقيقة‬
‫املستوية مساويك كاألراك ‪ ،‬وتشبه به األصابع يف الدقة واالستواء‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫هنا يتطرق القبح إىل هذا التشبيه على إصابته‪ .‬أّم ا تشبيه البنان مبساويك األسحل فجار‬
‫جمرى غريه من تشبيهاهتم ‪ ،‬ألهّن م يصفوهنا باألقالم والعنم وما أشبه ذلك‪ .‬والبنان قريب‬
‫الشبه من أعواد املساويك يف القدر واالستواء ونعومة امللمس‪.‬‬
‫وقول العرجي يف دبيب اهلوى ‪:‬‬
‫كم ا دب يف امللس وع س م العق ارب‬ ‫ي دب هواه ا يف عظ امي وحبه ا‬
‫فتشبيه دبيب اهلوى يف العظام بدبيب سم العقارب يف امللسوع غاية يف البشاعة‪.‬‬
‫ومنه قول أيب حمجن الثقفي يف وصف قينة ‪:‬‬
‫كم ا يطن ذب اب الروض ة الغ رد‬ ‫وترف ع الص وت أحيان ا وختفض ه‬
‫فق د ش ّبه القين ة وهي ترف ع ص وهتا أحيان ا وختفض ه بالغن اء بط نني ال ذباب الغ رد يف‬
‫الروض ة‪ .‬فه ذا التش بيه وإن ك ان مص يبا لعني الش به فإّن ه غ ري طيب يف النفس وال مس تقر‬
‫على القلب‪ .‬فأي قينة حتب أن تشبه بالذباب ‪ ،‬وأن يشبه غناؤها بطنني الذباب؟‬
‫ومع هذا فقد سرق أبو حمجن هذا التشبيه ومل حيسن استخدامه فقلبه وأفسده‪ .‬أجل‬
‫لقد سرقه من قول عنرتة العبسي يصف ذباب روضة ‪:‬‬
‫ارب املرتمن‬ ‫ل الش‬ ‫ردا كفع‬ ‫غ‬ ‫ارح‬ ‫ذباب هبا فليس بب‬ ‫وخال ال‬
‫وشتان بني تشبيه وتشبيه‪.‬‬
‫وأين قول أيب حمجن من قول بشار يف وصف قينة ‪:‬‬
‫وب دواعي‬ ‫ا والقل‬ ‫ا التقين‬ ‫إذا م‬ ‫ا‬ ‫ا وعيونن‬ ‫لى هلا آذانن‬ ‫تص‬

‫‪133‬‬
‫اوس داعي‬ ‫ا للوس‬ ‫ا دعاه‬ ‫قلوب‬ ‫إذا قّل دت أطرافه ا الع ود زل زلت‬
‫اع‬ ‫ة وبق‬ ‫نها من روض‬ ‫حماس‬ ‫د تالحقت‬ ‫ةق‬ ‫أهّن م يف جن‬ ‫ك‬
‫( ‪)1‬‬
‫نش اوى وم ا تس قيهم بص واع‬ ‫ديثها‬ ‫دها وح‬ ‫ون من تغري‬ ‫يروح‬
‫وبع د ف اجلوانب ال يت تعيب التش بيه ويتط رق منه ا القبح إلي ه أك ثر من أن حتص ى أو‬
‫تستقصى ؛ فمنها ما أوردناه ومثلنا له ‪ ،‬ومنها ما يتطرق إليه من جوانب أخرى كاللفظ‬
‫أو املعىن أو رداءة الصياغة والنسج أو قلق القافية يف الشعر ‪ ،‬وما أشبه ذلك‪.‬‬
‫وكم ا ذك رت آنف ا أّن التش بيه من أك ثر األس اليب البياني ة دالل ة على مق درة البلي غ‬
‫ومدى أصالته يف فن القول‪ .‬فالبلغاء كانوا ـ وما زالوا ـ يف كل زمان ومكان يتنافسون يف‬
‫اصطياده ‪ ،‬ويلقون بشباك خياهلم يف حميطه ‪ّ ،‬مث ينزعوهنا وإذا بعضها ملؤه الآلىلء والدرر!‬
‫وإذا بعضها اآلخر ملؤه احلصى واحلجر!‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الصواع بضم الصاد ‪ :‬املكيال‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫الحقيقة والمجاز‬
‫إذا تتبعن ا نش أة الكالم عن «احلقيق ة واجملاز» فإنن ا جند أّن اجلاح ظ من أوائ ل من‬
‫عرضوا هلذا املوضوع بالبحث‪.‬‬
‫واجلاحظ إذ يتناول قضايا البيان العريب ال يهتم كثريا بصبها يف قوالب التعريفات‬
‫والتحديدات على عادة رجال البالغة من بعده‪ .‬وإمّن ا نراه يسوق النماذج عليها من بليغ‬
‫القول نثرا وشعرا ‪ ،‬مع شرح بعضها أحيانا أو التعليق عليه ‪ ،‬تاركا ملن يهمهم أن يعرفوا‬
‫مفهومه ألي موضوع بالغي طرقه أن يستنبطوه من خالل شرحه له‪.‬‬
‫ففي كالمه عن احلقيقة واجملاز يقول ‪« :‬وإذا قالوا ‪ :‬أكله األسد ‪ ،‬فإمّن ا يذهبون إىل‬
‫األكل املعروف ‪ ،‬وإذا قالوا ‪ :‬أكله األسود ‪ ،‬فإمّن ا يعنون النهش واللدغ والعض فقط‪ .‬وقد‬
‫قال اهلل عزوجل (َأُيِح ُّب َأَح ُد ُك ْم َأْن‬

‫‪135‬‬
‫َيْأُك َل َلْح َم َأِخ يِه َمْيتًا؟) ويقولون يف باب آخر ‪ :‬فالن يأكل الناس ‪ ،‬وإن مل يكن يأكل من‬
‫طعامهم شيئا ‪ ،‬وكذلك قول دمهان النهري ‪:‬‬
‫ل‬ ‫دهر عليهم وأك‬ ‫رب ال‬ ‫ش‬ ‫وا‬ ‫اس أكل‬ ‫ألتين عن أن‬ ‫س‬
‫فهذا كله خمتلف ‪ ،‬وهو كله جماز» (‪.)1‬‬
‫فاألك ل يف قول ه ‪« :‬أكل ه األس د» حقيقي ‪ ،‬أّم ا يف األمثل ة األخ رى فاألك ل على‬
‫اختالف أنواعه جمازي كما ذكر‪.‬‬
‫فمن ه ذه األمثل ة يتض ح أّن اجملاز عن د اجلاح ظ مقاب ل للحقيق ة ‪ ،‬وأّن احلقيق ة يف‬
‫مفهومه تعين «استعمال اللفظ فيما وضع له أصال» ‪ ،‬كما أّن اجملاز عنده هو «استعمال‬
‫اللفظ يف غري ما وضع له لعالقة مع قرينة مانعة من إرادة املعىن احلقيقي»‪.‬‬
‫ومن معاص ري اجلاحظ ال ذين عرض وا ل ذات املوض وع من زاوي ة خاص ة أب و حمم د‬
‫عبد اهلل بن مسلم بن قتيبة الدينوري «‪‍ 276‬ه» ‪ ،‬فقد اهتّم ابن قتيبة فقط بالرد على من‬
‫أنكروا اجملاز وزعموا أّن الكالم كله حقيقة وال جماز فيه‪ .‬ويف ذلك يقول ‪« :‬لو كان اجملاز‬
‫ك ذبا لك ان أك ثر كالمن ا ب اطال ‪ ،‬ألّن ا نق ول ‪ :‬نبت البق ل ‪ ،‬وط الت الش جرة ‪ ،‬وأينعت‬
‫الثمرة ‪ ،‬وأقام اجلبل ورخص السعر ‪ ، ...‬وتقول ‪ :‬كان اهلل ‪ ،‬وكان مبعىن حدث ‪ ،‬واهلل‬
‫قبل كل شيء‪ .‬وقال اهلل عزوجل ‪َ( :‬فَو َج دا ِفيها ِج دارًا ُيِريُد َأْن َيْنَق َّض َفَأقاَمُه ‪ )،‬لو قلنا‬
‫ملنكر هذا كيف تقول يف جدار رأيته على شفا اهنيار؟ مل جيد بدا من أن يقول ‪ :‬يهّم أن‬
‫ينقض ‪ ،‬أو يكاد أو يقارب ‪ ،‬فإن فعل فقد جعله فاعال ‪ ،‬وال أحسبه يصل إىل هذا املعىن‬
‫يف شيء من ألسنة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب احليوان ج ‪ 5‬ص ‪ 27‬ـ ‪ ، 28‬واألسود هنا ‪ :‬نوع خبيث من األفاعي‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫العجم إاّل مبثل هده األلفاظ» (‪.)1‬‬
‫وبع د ابن قتيب ة ج اء أب و احلس ني أمحد بن ف ارس «‪‍ 396‬ه» فع رف احلقيق ة واجملاز‬
‫بقوله ‪« :‬احلقيقة هي الكالم املوضوع موضعه الذي ليس باستعارة وال متثيل وال تقدمي وال‬
‫تأخري كقول القائل ‪ :‬احلمد هلل على نعمه وإحسانه ‪ ،‬وهذا أكثر الكالم ‪ ،‬أي أّن الكالم‬
‫احلقيقي ميضي لسنته ال يعرتض عليه‪ .‬وقد يكون غريه وجيوز جوازه لقربه منه إاّل أّن فيه‬
‫من تشبيه واستعارة وكف ما ليس يف األول‪ .‬كقولك ‪ :‬عطاء فالن مزن واكف ‪ ،‬فهذا‬
‫التشبيه‪ .‬وقد جاز جماز قوله ‪ :‬عطاؤه كثري واف» (‪ .)2‬فاجملاز عند ما كان قريبا من احلقيقة‬
‫وفيه تشبيه أو استعارة‪.‬‬
‫وعن د ابن رش يق الق ريواين «‪‍ 456‬ه» أّن «اجملاز يف كث ري من الكالم أبل غ من‬
‫احلقيق ة ‪ ،‬وأحس ن موقع ا يف القل وب واألمساع ‪ ،‬وم ا ع دا احلق ائق من مجي ع األلف اظ ّمث مل‬
‫يكن حماال حمض ا فه و جماز ‪ ،‬الحتمال ه وج وه التأوي ل ‪ ،‬فص ار التش بيه واالس تعارة وغريمها‬
‫من حماسن الكالم داخلة حتت اجملاز ‪ ،‬إاّل أهّن م خصوا باجملاز ‪ ،‬بابا بعينه ‪ ،‬وذلك أن يس ّم ى‬
‫الشيء باسم ما قاربه أو كان منه بسبب ‪ ،‬كما قال جرير بن عطية ‪:‬‬
‫ابا‬ ‫انوا غض‬ ‫اه وإن ك‬ ‫رعين‬ ‫إذا س قط الس ماء ب أرض ق وم‬
‫أراد املط ر لقرب ه من الس ماء ‪ ،‬وجيوز أن تري د «بالس ماء» الس حاب ‪ ،‬ألّن ك ل م ا‬
‫أظّلك مساء ‪ ،‬وقال «سقط» يريد سقوط املطر الذي فيه ‪ ،‬وقال‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب العمدة ج ‪ 1‬ص ‪.236‬‬
‫(‪ )2‬كتاب الصاحيب البن فارس ‪ 196‬ـ ‪.198‬‬

‫‪137‬‬
‫«رعيناه» واملطر ال يرعى ‪ ،‬ولكنه أراد «النبت» الذي يكون عنه فهذا كله جماز» (‪.)1‬‬
‫ك ذلك أش ار إىل ول ع الع رب باجملاز فق ال ‪« :‬والع رب كث ريا م ا تس تعمل اجملاز ‪،‬‬
‫وتع ده من مف اخر كالمه ا ‪ ،‬فإّن ه دلي ل الفص احة ‪ ،‬ورأس البالغ ة ‪ ،‬وب ه ب انت لغته ا عن‬
‫سائر اللغات» (‪.)2‬‬
‫ويعرف عبد القاهر اجلرجاين «‪‍ 471‬ه» احلقيقة يف املفرد بقوله ‪« :‬كل كلمة أريد‬
‫هبا ما وقعت له يف وضع واضع وقوعا ال يستند فيه إىل غريه‪ .‬وهذه عبارة تنتظم الوضع‬
‫األول وم ا ت أخر عن ه كلغ ة حتدث يف قبيل ة أو يف مجي ع الع رب أو يف مجي ع الن اس مثال أو‬
‫حتدث اليوم‪ .‬ويدخل فيها األعالم منقولة كانت كزيد وعمرو أو مرجتلة كغطفان ‪ ،‬وكل‬
‫كلمة استؤنف هبا على اجلملة مواضعة أو اّدعي االستثناف فيها‪.‬‬
‫وإمّن ا اشرتطت هذا كله ألّن وصف اللفظة بأهّن ا حقيقة أو جماز حكم فيها من حيث‬
‫أّن هلا دالل ة على اجلمل ة ال من حيث هي عربي ة أو فارس ية أو س ابقة يف الوض ع أو حمدث ة‬
‫مولدة»‪.‬‬
‫ويع رف اجملاز بقول ه ‪« :‬أّم ا اجملاز فك ل كلم ة أري د هبا غ ري م ا وقعت ل ه يف وض ع‬
‫واضعها ملالحظة بني الثاين واألول‪ .‬وإن شئت قلت ‪ :‬كل كلمة جزت هبا ما وقعت له‬
‫يف وضع الواضع إىل ما مل توضع له ‪ ،‬من غري أن تستأنف فيها وضعا ملالحظة بني ما جتّو ز‬
‫هبا إليه وبني أصلها الذي وضعت له يف وضع واضعها فهي جماز» (‪.)3‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب العمدة البن رشيق ج ‪ 1‬ص ‪.236‬‬
‫(‪ )2‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫(‪ )3‬كتاب أسرار البالغة ‪ 302‬ـ ‪.305‬‬

‫‪138‬‬
‫ك ذلك ع رض الس كاكي «‪‍ 626‬ه» للحقيق ة واجملاز وعرفهم ا بقول ه ‪« :‬احلقيق ة‬
‫اللغوية هي الكلمة املستعملة فيما وضعت له ‪ ،‬واجملاز هو الكلمة املستعملة يف غري ما هي‬
‫موضوعة له بالتحقيق استعماال يف الغري بالنسبة إىل نوع حقيقتها مع قرينة مانعة من إرادة‬
‫معناها يف ذلك النوع» (‪.)1‬‬
‫وممن توس ع يف موض وع «احلقيق ة واجملاز» ض ياء ال دين األث ري «‪‍ 637‬ه» فق د‬
‫عرفهم ا أوال بقول ه ‪« :‬احلقيق ة اللغوي ة ‪ :‬هي حقيق ة األلف اظ يف داللته ا على املع اين ‪،‬‬
‫وليست باحلقيقة اليت هي ذات الشيء ‪ ،‬أي نفسه وعينه ‪ ،‬فاحلقيقة اللفظية إذن هي داللة‬
‫اللفظ على املعىن املوضوع له يف أصل اللغة ‪ ،‬واجملاز هو نقل املعىن عن اللفظ املوضوع له‬
‫إىل لفظ آخر غريه‪.‬‬
‫وتقرير ذلك أّن أقوال املخلوقات كلها تفتقر إىل أمساء يستدل هبا عليها ليعرف كل‬
‫منها بامسه من أجل التفاهم بني الناس وهذا يقع ضرورة ال بّد منها‪.‬‬
‫فاالسم املوضوع بإزاء املسمى هو حقيقة له ‪ ،‬فإذا نقل إىل غريه صار جمازا‪ .‬ومثال‬
‫ذلك أنا إذا قلنا «مشس» أردنا به هذا الكوكب العظيم الكثري الضوء ‪ ،‬وهذا االسم له‬
‫حقيق ة ألّنه وض ع بإزائه‪ .‬وكذلك إذا قلنا «حبر» أردنا به هذا املاء العظيم اجملتمع الذي‬
‫طعمه ملح ‪ ،‬وهذا االسم له حقيقة ألّنه وضع بإزائه‪.‬‬
‫ف إذا نقلن ا «الش مس» إىل الوج ه املليح اس تعارة ك ان ذل ك ل ه جمازا ال حقيق ة ‪،‬‬
‫وكذلك إذا نقلنا «البحر» إىل الرجل اجلواد استعارة كان ذلك له جمازا ال حقيقة» (‪.)2‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب التلخيص للقزويين ص ‪.328‬‬
‫(‪ )2‬كتاب املثل السائر ص ‪.24‬‬

‫‪139‬‬
‫ويوضح ابن األثري كالمه هذا مبا معناه أّن إطالق لفظ «الشمس» على الوجه املليح‬
‫جماز ‪ ،‬وإطالق لف ظ «البح ر» على الرج ل اجلواد جماز أيض ا‪ .‬ومن ه ذا ي رى أّن لف ظ‬
‫«الش مس» ل ه داللت ان ‪ ،‬إح دامها حقيقي ة وهي ه ذا الك وكب العظيم الكث ري الض وء ‪،‬‬
‫واألخرى جمازية وهي الوجه املليح ‪ ،‬وأّن لفظ «البحر» له داللتان أيضا ‪ ،‬إحدامها هذا‬
‫املاء العظيم امللح وهي حقيقية ‪ ،‬واألخرى هذا الرجل اجلواد وهي جمازية‪.‬‬
‫وال ميكن أن يق ال إّن ه اتني ال داللتني س واء ‪ ،‬وإّن الش مس حقيقي ة يف الك واكب‬
‫والوجه املليح ‪ ،‬وإّن البحر حقيقية يف املاء العظيم امللح والرجل اجلواد‪ .‬ألّن ذلك لو قيل‬
‫لكان اللفظ مشرتكا حبيث إذا ورد أحد هذين اللفظني مطلقا بغري قرينة ختصصه مل يفهم‬
‫املراد ب ه م ا ه و من أح د املعن يني املش رتكني املن درجني حتت ه ‪ ،‬على حني أّن األم ر خبالف‬
‫ذل ك ‪ ،‬ألنن ا إذا قلن ا «مشس» أو «حبر» وأطلقن ا الق ول مل يفهم من ذل ك وج ه مليح وال‬
‫رجل جواد ‪ ،‬وإمّن ا يفهم منه ذلك الكوكب املعلوم وذلك املاء املعلوم ال غري‪.‬‬
‫واملرج ع يف ه ذا وم ا جيري جمراه إىل أص ل اللغ ة ال يت هي وض ع األمساء على‬
‫املسميات ‪ ،‬ومل يوجد فيها أّن الوجه املليح يسمى مشسا وال أّن الرجل اجلواد يسمى حبرا‬
‫‪ ،‬وإمنا أهل اخلطابة والشعر هم الذين توسعوا يف األساليب املعنوية فنقلوا احلقيقة إىل اجملاز‬
‫‪ ،‬ومل يكن ذلك من واضع اللغة يف أصل الوضع ‪ ،‬وهلذا اختص كل منهم بشيء اخرتعه‬
‫يف التوسعات اجملازية‪.‬‬
‫ه ذا ام رؤ القيس ق د اخ رتع ش يئا مل يكن قبل ه ‪ ،‬فمن ذل ك أّن ه أّو ل من عرّب عن‬
‫الفرس بقوله ‪« :‬قيد األوابد» (‪ )1‬ومل يسمع ذلك ألحد من‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬وردت هذه العبارة يف بيت من معلقة امرىء القيس هو ‪ :‬ـ‬

‫‪140‬‬
‫قبل ه‪ .‬وق د روي عن الن يب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم أّن ه ق ال ي وم غ زوة ح نني ‪« :‬اآلن محي‬
‫الوطيس» ‪ ،‬وأراد بذلك شّد ة احلرب ‪ ،‬فإّن «الوطيس» يف الوضع هو «التنور» (‪ ، )1‬فنقل‬
‫إىل احلرب اس تعارة ‪ ،‬ومل يس مع ه ذا اللف ظ على ه ذا الوج ه من غ ري الن يب‬
‫صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬وواضع اللغ ة ما ذكر شيئا من ذلك ‪ ،‬فعلمنا حينئذ أّن من اللغ ة‬
‫حقيقة بوضعه وجمازات بتوسعات أهل اخلطابة والشعر‪ .‬ويف زماننا هذا قد خيرتعون أشياء‬
‫من اجملاز على حكم االس تعارة مل تكن من قب ل ‪ ،‬ول و ك ان ه ذا موقوف ا من جه ة واض ع‬
‫اللغة ملا اخرتعه أحد من بعده وال زيد فيه وال نقص منه‪.‬‬
‫ّمث يس تطرد ابن األث ري إىل الكالم عّم ا بني اجملاز واحلقيق ة من عم وم وخص وص‬
‫وكذلك إىل الكالم عن قيمة اجملاز البالغية فيقول ‪« :‬واعلم أّن كل جماز له حقيقة ألّنه مل‬
‫يصح أن يطلق عليه اسم اجملاز إاّل لنقله عن حقيقة موضوعة له ‪ ،‬إذ اجملاز اسم للموضوع‬
‫الذي ينتقل فيه من مكان إىل مكان ‪ ،‬فجعل ذلك لنقل األلفاظ من احلقيقة إىل غريها ‪،‬‬
‫وإذا ك ان ك ل جماز ال ب ّد ل ه من حقيق ة نق ل عنه ا إىل حالت ه اجملازي ة ‪ ،‬فك ذلك ليس من‬
‫ضرورة كل حقيقة أن يكون هلا جماز ‪ ،‬فإّن من األمساء ما ال جماز له كأمساء األعالم ألهّن ا‬
‫وضعت للفرق بني الذوات ال للفرق بني الصفات‪.‬‬
‫__________________‬
‫ل‬ ‫د» هيك‬ ‫د األواب‬ ‫رد «قي‬ ‫مبنج‬ ‫ري يف وكناهتا‬ ‫دي والط‬ ‫د اغت‬ ‫وق‬
‫األوابد ‪ :‬الوحوش ‪ ،‬واهليكل ‪ :‬العظيم اجلرم واجلسم‪ .‬واملعىن ‪ :‬قد أباكر الصيد قبل هنوض الطري من أوكارها‬
‫على ف رس قلي ل الشعر عظيم اجلسم م اض يف الس ري يقيد الوحوش بس رعة حلاقه إياه ا‪ .‬وقوله «قيد األواب د»‬
‫جعل الفرس لسرعة إدراكه الصيد كالقيد هلا ألهنا ال ميكنها الفوت منه ‪ ،‬كما أّن املقيد غري متمكن من الفوت‬
‫واهلرب‪.‬‬
‫(‪ )1‬التنور ‪ :‬نوع من الكوانني ‪ ،‬والتنور ‪ :‬كل ما خيبز فيه ‪ ،‬والتنور ‪ :‬نبع املاء كالقدر حني يفور ‪ ،‬قال تعاىل‬
‫‪َ( :‬ح َّتى ِإذا جاَء َأْم ُر نا َو فاَر الَّتُّنوُر‪).‬‬

‫‪141‬‬
‫وكذلك فاعلم أّن اجملاز أوىل باالستعمال من احلقيقة يف باب الفصاحة والبالغة ‪،‬‬
‫ألّنه لو مل يكن كذلك لكانت احلقيقة اليت هي األصل أوىل منه حيث هو فرع عليها ‪،‬‬
‫ول ييس األم ر ك ذلك ‪ ،‬ألّن ه ق د ثبت وحتق ق أّن فائ دة الكالم اخلط ايب هي إثب ات الغ رض‬
‫املقصود يف نفس السامع بالتخييل والتصور حىت يكاد ينظر إليه عيانا‪.‬‬
‫أال ت رى أّن حقيق ة قولن ا ‪« :‬زي د أس د» هي قولن ا ‪« :‬زي د ش جاع» ‪ ،‬لكّن هن اك‬
‫فرقا بني القولني يف التصوير والتخييل وإثبات الغرض املقصود يف نفس السامع ‪ ،‬ألّن قولنا‬
‫‪« :‬زيد شجاع» ال يتخيل منه السامع سوى رجل جريء مقدام ‪ ،‬فإذا قلنا ‪« :‬زيد أسد»‬
‫خييل عند ذلك صورة األسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة ودق الفرائس ‪ ،‬وهذا ال‬
‫نزاع فيه» (‪.)1‬‬
‫ف أعجب م ا يف العب ارة اجملازي ة عن ده أهّن ا تنق ل الس امع عن خلق ه الط بيعي يف بعض‬
‫األحوال ‪ ،‬فإذا البخيل مسح جواد ‪ ،‬واجلبان شجاع ‪ ،‬والطائش حكيم حىت إذا قطع عنه‬
‫ذل ك الكالم وأف اق من نش وته ع اد إىل حالت ه األوىل ‪ ،‬وه ذا ه و فح وى الس حر احلالل‬
‫املستغين عن إلقاء العصا واحلبال‪.‬‬
‫وأخ ريا يش ري ابن األث ري إىل ض رورة الع دول عن اجملاز إىل احلقيق ة إن مل يكن في ه‬
‫زي ادة فائ دة عليه ا ‪ ،‬ويف ذل ك يق ول ‪« :‬واعلم أّن ه إذا ورد علي ك كالم جيوز أن حيم ل‬
‫معناه على طريق احلقيقة وعلى طريق اجملاز باختالف لفظه فانظر ‪ ،‬فإن كان ال مزية ملعناه‬
‫يف محل ه على طري ق اجملاز ‪ ،‬فال ينبغي أن حيم ل إاّل على طري ق احلقيق ة ألهّن ا هي األص ل‬
‫واجملاز هو الفرع ‪ ،‬وال يعدل عن األصل إىل الفرع إاّل لفائدة ‪ ...‬وهكذا كل ما جييء من‬
‫الكالم‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬املثل السائر ص ‪ 25‬ـ ‪.26‬‬

‫‪142‬‬
‫اجلاري هذا اجملرى ‪ ،‬فإّنه إن مل يكن يف اجملاز زيادة فائدة على احلقيقة ال يعدل إليه» (‪.)1‬‬
‫وبعد فتلك نبذة عن آراء بعض العلماء يف مفهوم احلقيقة واجملاز ‪ ،‬وقد كثر كالم‬
‫رجال البالغة يف حتديد هذا املفهوم ‪ ،‬وال خيرج كالمهم يف الواقع عن معىن ما أسلفناه‪.‬‬
‫***‬

‫أقسام المجاز ‪:‬‬


‫يقسم علماء البالغة اجملاز قسمني ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اجملاز العقلي ‪ :‬ويكون يف اإلسناد ‪ ،‬أي يف إسناد الفعل أو ما يف معناه إىل غري‬
‫ما هو له‪ .‬ويسمى اجملاز احلكمي ‪ ،‬واإلسناد اجملازي ‪ ،‬وال يكون إاّل يف الرتكيب‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اجملاز اللغ وي ‪ :‬ويك ون يف نق ل األلف اظ من حقائقه ا اللغوي ة إىل مع ان أخ رى‬
‫بينها صلة ومناسبة‪ .‬وهذا اجملاز يكون يف املفرد ‪ ،‬كما يكون يف الرتكيب املستعمل يف غ ري‬
‫ما وضع له‪ .‬وهذا اجملاز اللغوّي نوعان ‪:‬‬
‫أ ـ االستعارة ‪ :‬وهي جماز لغوّي تكون العالقة فيه بني املعىن احلقيقي واملعىن اجملازي‬
‫املشاهبة‪.‬‬
‫ب ـ اجملاز املرسل ‪ :‬وهو جماز تكون العالقة فيه غري املشاهبة‪.‬‬
‫وّمسي مرسال ألّنه مل يقّيد بعالقة املشاهبة ‪ ،‬أو ألّن له عالقات شىت‪.‬‬

‫المجاز العقلي‬
‫عّر ف السكاكي اجملاز العقلّي بأّنه الكالم املفاد به خالف ما عند‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬املثل السائر ص ‪.26‬‬

‫‪143‬‬
‫املتكلم من احلكم في ه لض رب من التأوي ل إف ادة للخالف ال بواس طة وض ع ‪ ،‬كقول ك ‪:‬‬
‫أنبت الربيع البقل ‪ ،‬وشفى الطبيب املريض ‪ ،‬وكسا اخلليفة الكعبة ‪ ،‬وهزم األمري اجلند ‪،‬‬
‫وبىن الوزير القصر (‪.)1‬‬
‫وعرف اخلطيب القزويين هذا اجملاز بقوله ‪« :‬هو إسناد الفعل أو معناه إىل مالبس‬
‫ل ه غ ري م ا ه و ل ه بتأوي ل»‪ .‬وللفع ل مالبس ات ش ىت ‪ ،‬فه و يالبس الفاع ل واملفع ول ب ه‬
‫واملصدر والزمان واملكان والسبب ‪ ،‬فإسناد الفعل إىل الفاعل إذا كان مبنيا له حقيقة ‪،‬‬
‫وكذا إسناده إىل املفعول إذا كان مبنيا له‪ .‬أّم ا إسناد الفعل إىل غريمها ملشاهبته ملا هو له يف‬
‫مالبسة الفعل فمجاز ‪ ،‬كقوهلم يف املفعول به ‪ :‬عيشة راضية ‪ ،‬وماء دافق ‪ ،‬وكقوهلم يف‬
‫عكسه ‪ :‬سيل مفعم ‪ ،‬ويف املصدر ‪ :‬شعر شاعر ‪ ،‬ويف الزمان ‪ :‬هناره صائم وليله قائم ‪،‬‬
‫ويف املكان ‪ :‬طريق سائر ‪ ،‬وهنر جار ‪ ،‬ويف السبب ‪ :‬بىن األمري املدينة (‪.)2‬‬
‫أّم ا عب د الق اهر اجلرج اين فيس مي ه ذا الض رب من اجملاز «اجملاز احلكمي»‪ .‬ويفهم‬
‫من كالمه أّنه يقصد به اجملاز الذي ال يكون يف ذات الكلمة ونفس اللفظ ‪ ،‬ففي قولك ‪:‬‬
‫«هنارك صائم وليلك قائم» ليس اجملاز يف نفس «صائم وقائم» ولكن يف إجرائهما خربين‬
‫على «النهار والليل»‪ .‬وكذلك يف قوله تعاىل ‪َ( :‬فما َر ِبَح ْت ِتج اَر ُتُه ْم ) ليس اجملاز يف لفظ ة‬
‫«رحبت» نفسها ولكن يف إسنادها إىل «التجارة»‪ .‬فكل لفظة هنا أريد هبا معناها الذي‬
‫وضعت له على وجهه وحقيقته ـ فلم يرد بصائم غري الصوم ‪ ،‬وال بقائم غري القيام ‪ ،‬وال‬
‫برحبت غري الربح (‪.)3‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬مفتاح العلوم للسكاكي ص ‪.208‬‬
‫(‪ )2‬اإليضاح ملختصر تلخيص املفتاح ص ‪.20‬‬
‫(‪ )3‬دالئل اإلعجاز ص ‪.194‬‬

‫‪144‬‬
‫وملا كان الكالم السابق جممال فإّنا نورد فيما يلي طائفة من األمثلة ّمث نعقب عليها‬
‫بالشرح والتحليل توضيحا حلقيقة هذا الضرب من اجملاز‪.‬‬
‫األمثلة ‪:‬‬
‫ر‬ ‫ايل واختالف األعص‬ ‫ّر اللي‬ ‫م‬ ‫‪ 1‬ـ أعم ري إّن أب اك غرّي رأس ه‬
‫‪ 2‬ـ بىن خوفو اهلرم األكرب‪.‬‬
‫زود‬ ‫ار من مل ت‬ ‫ك باألخب‬ ‫ويأتي‬ ‫‪ 3‬ـ س تبدي ل ك األي ام م ا كنت ج اهال‬
‫ا‬ ‫بح أطياره‬ ‫ه الص‬ ‫د نّب‬ ‫وق‬ ‫‪ 4‬ـ يغيّن كم ا ص دحت أيك ة‬
‫‪ 5‬ـ قال تعاىل ‪َ( :‬أَو َلْم ُنَم ِّك ْن َلُه ْم َح َر مًا آِم نًا؟‪).‬‬
‫‪ 6‬ـ قال تعاىل ‪ِ( :‬إَّنُه كاَن َو ْعُدُه َمْأِتًّيا‪).‬‬
‫الب‬ ‫ةط‬ ‫ا برقي‬ ‫إذا مل يعّو ذه‬ ‫‪ 7‬ـ تك اد عطاي اه جيّن جنوهنا‬

‫ف إذا تأملن ا املث ال األول رأين ا أّن اجملاز العقلي ه و ق ول الش اعر ‪« :‬غرّي رأس ه م ّر‬
‫اللي ايل» ‪ ،‬ومع ىن غ ري رأس ه ‪ ،‬أي ل ّو ن ش عر رأس ه فحول ه من الس واد إىل البي اض ‪ ،‬وق د‬
‫أسند تغيري لون الرأس إىل مرور الليايل وتواليها وهذا ال يشيب ‪ ،‬وإمّن ا الشيب حيدث عادة‬
‫من ضعف يف أصول الشعر ومواطن غذائه‪ .‬ولكن ملا كان مر الليايل وتعاقبها سببا يف هذا‬
‫الضعف أسند تغيري لون الشعر إىل مر الليايل‪ .‬ففي اإلسناد جماز عقلي عالقته السببية‪.‬‬
‫كذلك إذا تأملنا املثال الثاين وجدنا أّن الفعل «بىن» قد أسند إىل غري فاعله ‪ ،‬فإّن‬
‫خوفو مل ينب وإمنا الذين بنوا هم عماله ‪ ،‬وملا كان خوفو سببا يف البناء أسند الفعل إليه‪.‬‬
‫ففي اإلسناد هنا جماز عقلي عالقته السببية أيضا‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إىل املثال الثالث وجدنا الفعل «ستبدي» أسند إىل «األيام» أي أسند‬
‫إىل غري فاعله احلقيقي‪ .‬ألّن فاعله احلقيقي هو «حوادث‬

‫‪145‬‬
‫األيام» ‪ ،‬والذي سوغ هذا اإلسناد أّن املسند إليه «األيام» زمان الفعل‪ .‬فإسناد اإلبداء إىل‬
‫األيام جماز عقلي عالقته الزمانية‪.‬‬
‫ويف املث ال الراب ع األيك ة الش جرة وهي ال تغ ين وال تص دح ‪ ،‬فالفع ل «ص دحت»‬
‫أس ند إىل «األيك ة» أي إىل غ ري فاعل ه ‪ ،‬ألّن فاعل ه احلقيقي ه و «الطي ور» ال يت تتخ ذ من‬
‫األيكة مكانا هلا تصدح من فوقه‪ .‬وعلى هذا فإسناد الّص دح إىل األيكة جماز عقلي عالقته‬
‫«املكانية» ألهنا مكان الطيور اليت تصدح‪.‬‬
‫ويف املثال اخلامس يقول اهلل تعاىل ‪َ( :‬أَو َلْم ُنَم ِّك ْن َلُه ْم َح َر مًا آِم نًا؟‪ ).‬فاحلرم ال يكون‬
‫آمنا ألّن اإلحساس باألمن صفة من صفات األحياء وإمّن ا احلرم مأمون مبعىن يؤمن ‪ ،‬وهلذا‬
‫أس ند الوص ف املب ين للفاع ل «آمن» إىل ض مري املفع ول‪ .‬وه ذا جماز عقلي عالقت ه‬
‫«املفعولية»‪.‬‬
‫وإذا تدبرنا املثال السادس وهو قوله تعاىل ‪ِ( :‬إَّنُه كاَن َو ْع ُدُه َمْأِتًّي ا ‪ )،‬جند أّن كلمة‬
‫«مأتيا» جاءت بدل كلمة «آت» ‪ ،‬فاستعمل هنا اسم املفعول مكان اسم الفاعل ‪ ،‬أو‬
‫بعب ارة أخ رى أس ند الوص ف املب ين للمفع ول إىل الفاع ل ‪ ،‬وه ذا جماز عقلي عالقت ه‬
‫«الفاعلية»‪.‬‬
‫ويف املث ال الس ابع واألخ ري جند أّن اجملاز العقلي ه و يف ق ول الش اعر «جيّن جنوهنا»‬
‫فالفع ل «جيّن » أس ند إىل مص دره ومل يس ند إىل فاعل ه ‪ ،‬وإس ناد الفع ل إىل مص دره جماز‬
‫عقلي عالقته «املصدرية»‪.‬‬
‫فمن معاجلة هذه األمثلة نرى أّن أفعاال أو ما يشبهها مل تسند إىل فاعلها احلقيقي ‪،‬‬
‫بل أسندت إىل سبب الفعل أو زمانه أو مكانه ‪ ،‬أو مصدره ‪ ،‬وأّن صفات كان من حقها‬
‫أن تسند إىل املفعول أسندت إىل الفاعل ‪ ،‬وأخرى كان جيب أن تسند إىل الفاعل أسندت‬
‫إىل املفعول‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫كذلك رأينا أّن هذا النوع من اإلسناد غري حقيقي ‪ ،‬ألّن اإلسناد احلقيقي هو إسناد‬
‫الفعل إىل فاعله احلقيقي‪ .‬فاإلسناد إذن هنا إسناد جمازي ويسمى باجملاز العقلي ‪ ،‬ألّن اجملاز‬
‫ليس يف اللفظ كاالستعارة واجملاز املرسل ‪ ،‬بل يف اإلسناد وهذا يدرك بالعقل‪.‬‬
‫***‬
‫على ضوء هذا الشرح نستطيع أن نستنبط القواعد التالية ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اجملاز العقلي ‪ :‬هو إسناد الفعل أو ما يف معناه إىل غري ما هو له لعالقة مع قرينة‬
‫مانعة من إرادة اإلسناد احلقيقي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اإلس ناد اجملازي ‪ :‬يك ون إىل س بب الفع ل أو زمان ه أو مكان ه أو مص دره ‪ ،‬أو‬
‫بإسناد املبين للفاعل إىل املفعول أو املبين للمفعول إىل الفاعل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ من القاع دة الس ابقة يتض ح أّن عالق ات اجملاز العقلي هي الس ببية أو الزماني ة أو‬
‫املكانية أو املصدرية أو املفعولية أو الفاعلية‪.‬‬
‫***‬
‫وملزيد من اإليضاح نقدم طائفة أخرى من األمثلة مع بيان اجملاز العقلي يف كل منها‬
‫وعالقته‪.‬‬
‫أ ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة السببية ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال تعاىل ‪( :‬يا هاماُن اْبِن ِلي َص ْر حًا َلَعِّلي َأْبُلُغ اَأْلْس باَب َأْس باَب الَّس ماواِت ‪).‬‬
‫ففي إس ناد بن اء الص رح إىل هام ان وزي ر فرع ون جماز عقلي عالقت ه الس ببية ‪ ،‬ألّن‬
‫هامان مل ينب الصرح بنفسه ‪ ،‬وإمّن ا بناه عماله ‪ ،‬ولكن ملا كان‬

‫‪147‬‬
‫هامان سببا يف البناء أسند الفعل إليه‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫قي ل الكم اة أال أين احملامون ا؟‬ ‫‪ 2‬ـ إن ا ملن معش ر أف ىن أوائلهم‬
‫فإسناد اإلفناء إىل قول الكماة جماز عقلي عالقته السببية ‪ ،‬ألّن قول الكماة ‪« :‬أال‬
‫أين احملامون؟» سبب يف هجوم هؤالء احملامني وقتلهم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ يفعل املال ما تعجز عنه القوة‪.‬‬
‫فإسناد الفعل إىل املال إسناد غري حقيقي ألّن املال ال يفعل وإمّن ا صاحبه هو الذي‬
‫يفعل ‪ ،‬فهنا جماز عقلي عالقته السببية ‪ ،‬ألّن املال هو الذي يدفع صاحبه إىل الفعل‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ هلا وجه يصف احلسن‪.‬‬
‫فإسناد وصف احلسن إىل الوجه هو إسناد الفعل إىل غري فاعله احلقيقي ألّن الذي‬
‫يصف حسن الوجه إمّن ا هو من يراه ‪ ،‬وملا كان الوجه وما أودع فيه من مجال هو السبب‬
‫يف دفع الناس إىل وصفه أسند الوصف إليه‪ .‬وهذا جماز عقلي عالقته السببية‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ قال املتنيب ‪:‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫ة ويش يب ناص ية الص ّيب ويه رم‬ ‫يم حناف‬ ‫واهلّم خيرتم اجلس‬
‫الفعل «خيرتم» مبعىن يهلك وقد أسند «اهلم» أي إىل غري فاعله‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الكماة ‪ :‬مجع كمي وهو الشجاع املتكمي يف سالحه أي املتغطي املتسرت به ‪ ،‬والقيل ‪ :‬القول‪.‬‬
‫(‪ )2‬خيرتم ‪ :‬يهل ك ‪ ،‬والناص ية ‪ :‬ش عر مق دم ال رأس ‪ :‬إّن اهلم إذا اس توىل على اجلس م هزل ه ح ىت يهل ك ‪ ،‬وق د‬
‫يشيب به الصيب ويصري كاهلرم من الضعف‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫احلقيقي ‪ ،‬ألّن اهلم ال يهل ك اجلس م وإمّن ا ال ذي يهلك ه ه و املرض ال ذي س ببه اهلم ‪،‬‬
‫وكذلك الفعل «يشيب» أسند إىل ضمري اهلم ‪ ،‬أي إىل غري فاعله احلقيقي أيضا ‪ ،‬ألّن اهلم‬
‫ال يشيب الرأس وإمّن ا الذي يشيبه هو الضعف يف جذور الشعر الناشىء عن اهلم‪ .‬وعلى‬
‫هذا فإسناد االخرتام واإلشابة إىل اهلم جماز عقلي عالقته «السببية»‪.‬‬
‫***‬
‫ب ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة الزمانية ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ هنار الزاهد صائم وليله قائم‪.‬‬
‫إذا تأملنا هذا املثال وجدنا أن «الصوم» أسند إىل ضمري «النهار» ‪ ،‬وأن «القيام»‬
‫أسند إىل ضمري «الليل» ‪ ،‬مع أن النهار ال يصوم ‪ ،‬بل يصوم من فيه ‪ ،‬وأن الليل ال يقوم‬
‫بل يقوم من فيه‪ .‬وعلى هذا فكل من الوصفني «صائم وقائم» أسند إىل غري ما هو له ‪،‬‬
‫والذي سوغ ذلك اإلسناد أن املسند إليه زمان الفعل‪ .‬وعلى هذا فإسناد الصوم إىل ضمري‬
‫النهار وإسناد القيام إىل ضمري الليل جماز عقلي عالقته «الزمانية»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ضرب الدهر بينهم وفرق مشلهم‪.‬‬
‫يف هذا املثال أسند الضرب والتفريق إىل الدهر مع أن الدهر يف حقيقته ال يضرب‬
‫وال يفرق ‪ ،‬وعلى هذا فإسناد الضرب والتفريق إليه هو إسناد لكل من هذين الفعلني إىل‬
‫غ ري فاعل ه احلقيقي ‪ ،‬ألن ال ذي ض رب بينهم وف رق مشلهم ه و احلوادث واملص ائب ال يت‬
‫حدثت يف الدهر‪ .‬فاجملاز هنا جماز عقلي عالقته «الزمانية»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ضّر سهم الزمان وطحنتهم األيام‪.‬‬
‫يف إسناد فعل التضريس إىل الزمان وفعل الطحن إىل األيام إسناد‬

‫‪149‬‬
‫إىل غ ري الفاع ل احلقيقي ألن ال ذي يض رس ويطحن ه و احلوادث والك وارث ال يت تق ع يف‬
‫الزم ان واألي ام‪ .‬فإس ناد التض ريس إىل الزم ان والطحن إىل األي ام إذن جماز عقلي عالقت ه‬
‫«الزمانية»‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قال املتنيب ‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا عنان‬ ‫ره م‬ ‫اهم من أم‬ ‫وعن‬ ‫ص حب الن اس قبلن ا ذا الزمان ا‬
‫ا‬ ‫هم أحيان‬ ‫ر بعض‬ ‫ه وإن س‬ ‫ة كلهم من‬ ‫وا بغص‬ ‫وتول‬
‫انا‬ ‫در اإلحس‬ ‫ه ولكن تك‬ ‫ايل‬ ‫نيع لي‬ ‫ن الص‬ ‫رمبا حتس‬
‫( ‪)1‬‬
‫نانا‬ ‫اة س‬ ‫ركب املرء يف القن‬ ‫اة‬ ‫ان قن‬ ‫ا أنبت الزم‬ ‫كلم‬
‫يف البيت الثاين الفعل «س ّر » فاعله ضمري يعود على «الزمان» قبله ‪ ،‬وإسناد هذا‬
‫الفعل إىل ضمري الزمان إسناد للفعل إىل غري فاعله احلقيقي ‪ ،‬ألن الزمان وهو الوقت ال‬
‫يس ر وإمنا تس ر احلوادث ال يت ب ه‪ .‬وإذن فإس ناد الس رور إىل الزم ان جماز عقلي عالقت ه‬
‫«الزمانية»‪ .‬كذلك يف كل من «حتسن الصنيع لياليه» ويف «تكدر اإلحسانا» جماز عقلي‬
‫عالقته «الزمانية» ‪ ،‬فإسناد إحسان الصنيع وتكدير اإلحسان إىل الليايل إسناد غري حقيقي‬
‫‪ ،‬ألن الذي يفعل ذلك هو احلوادث اليت تق ع يف الليايل اليت هي زم ان‪ .‬ومن أجل ذلك‬
‫قلنا إن إسناد إحسان الصنيع وتكدير اإلحسان إىل الليايل إسناد غري حقيقي ‪ ،‬ألن الذي‬
‫يفعل ذلك هو احلوادث اليت تقع يف الليايل اليت هي زمان‪ .‬ومن أجل ذلك قلنا إن إسناد‬
‫إحسان الصنيع وتكدير اإلحسان إىل الليايل جماز عقلي عالقته «الزمانية»‪.‬‬
‫ويف البيت األخري «كلما أنبت الزمان قناة» أسند إنبات القناة إىل الزمان أي إىل‬
‫غري فاعله األصلي ‪ ،‬ألن الزمان ليس يف قدرته وطبيعته‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬القناة ‪ :‬عود الرمح ‪ ،‬والسنان ‪ :‬نعله‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫اإلنبات ‪ ،‬وإمنا الذي يفعل إنبات القناة حقيقة حوادث جتّد يف الزمان‪ .‬وعلى هذا فإسناد‬
‫إنبات القناة إىل الزمان جماز عقلي عالقته «الزمانية»‪.‬‬
‫***‬
‫ج ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة املكانية ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال الشاعر ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫فلم ا ملكتم س ال بال دم أبطح‬ ‫ملكن ا فك ان العف و من ا س جية‬
‫يف ق ول الش اعر ‪« :‬س ال بال دم أبطح» جماز عقلي‪ .‬وتفص يله أن س يالن ال دم أس ند‬
‫إىل أبطح ‪ ،‬أي إىل غري فاعله ‪ ،‬ألن األبطح مكان سيالن الدم ‪ ،‬وهو ال يسيل وإمنا يسيل‬
‫ما فيه وهو الدم‪ .‬فإسناد سيل الدم إىل األبطح جماز عقلي عالقته «املكانية»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ جيري النهر‪.‬‬
‫يف هذا املثال أسند اجلري إىل النهر ‪ ،‬أي إىل غري فاعله احلقيقي ‪ ،‬ألن النهر مكان‬
‫جري املاء ‪ ،‬وهو ال جيري ‪ ،‬وإمنا جيري ما فيه وهو املاء‪.‬‬
‫فإس ناد اجلري إىل النه ر إس ناد جمازي غ ري حقيقي ‪ ،‬وه و هلذا جماز عقلي عالقت ه‬
‫«املكانية»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ذهبنا إىل حديقة غناء‪.‬‬
‫ولفظة «غّناء» مشتقة من الغّن ‪ ،‬واحلديقة اليت هي مكان ال تغّن ‪ ،‬وإمنا الذي يغّن‬
‫عصافريها أو ذباهبا ‪ ،‬ففي الكالم جماز عقلي عالقته «املكانية»‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬األبطح بفتح الطاء ‪ :‬مسيل واسع فيه دقاق احلصى‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫‪ 4‬ـ جلسنا إىل مشرب عذب‪.‬‬
‫«املشرب» وهو مكان الشرب ال يكون عذبا ‪ ،‬وإمنا يعذب املاء الذي يكون فيه ‪،‬‬
‫فإسناد العذوبة إىل مكان الشرب إسناد جمازي غري حقيقي ‪ ،‬وهو هلذا جماز عقلي عالقته‬
‫«املكانية»‪.‬‬
‫***‬
‫د ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة املفعولية ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ كان املنزل «عامرا» وكانت حجره «مضيئة»‪.‬‬
‫يف هذا املثال املنزل ال يعمر غريه وإمنا هو معمور بغريه ‪ ،‬واحلجرة ليست مضيئة‬
‫ألن اإلض اءة ال تق ع منه ا يف حقيق ة األم ر وإمنا تق ع عليه ا ‪ ،‬فهي هلذا مض اءة‪ .‬وإذن ففي‬
‫كل من «عامر» و «مضيئة» جماز عقلي عالقته «املفعولية»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قال الشاعر ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ائم‬ ‫ل املطي بن‬ ‫ا لي‬ ‫ومنت وم‬ ‫لق د ملتن ا ي ا أم غيالن يف الس رى‬
‫فاجملاز ه و يف ق ول الش اعر ‪« :‬وم ا لي ل املطي بن ائم» فإس ناد الن وم إىل لي ل املطي‬
‫جمازي غري حقيقي ‪ ،‬ألن ليل املطي ال حيدث منه النوم على احلقيقة ‪ ،‬وإمنا يقع فيه الفعل‬
‫‪ ،‬أي ينام فيه‪ .‬إذن الليل ليس بنائم وإمنا هو منوم فيه ‪ ،‬وعلى هذا ففي كلمة «نائم» جماز‬
‫عقلي عالقته «املفعولية»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ من أقوال العرب ‪« :‬عجب عاجب»‪.‬‬
‫فالعجب األمر الذي يتعّج ب منه خلفاء سببه ‪ ،‬وهو هلذا ال ميكن أن‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬السرى ‪ :‬السري ليال ‪ ،‬واملطي ‪ :‬مجع مطية وهي الدابة متطو ‪ :‬أي تسرع يف مشيها‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫يعجب ‪ ،‬أي أن يسند إليه العجب على احلقيقة ‪ ،‬ألن العجب صفة من صفات العقالء ‪،‬‬
‫ولكن العجب يدعو إىل تعجب الناس ‪ ،‬فاستعمل اسم الفاعل «عاجب» هنا مكان اسم‬
‫املفعول «متعّج ب منه»‪ .‬وهذا جماز عقلي عالقته «املفعولية»‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قال النابغة الذبياين ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫من ال ّر قش يف أنياهبا الس م ن اقع‬ ‫ئيلة‬ ‫اورتين ض‬ ‫أين س‬
‫فبّت ك‬
‫فاجملاز ه و يف ق ول الش اعر ‪« :‬الس م ن اقع» وإس ناد النق ع إىل ض مري الس م إس ناد‬
‫جمازي غري حقيقي‪ .‬ألن السم ال يفعل النقع على احلقيقة ‪ ،‬وإمنا هو الذي يفعل به النقع ‪،‬‬
‫ومبعىن آخر أن السم ال يكون ناقعا وإمنا يكون منقوعا يف ماء أو حنوه‪ .‬ففي كلمة «ناقع»‬
‫جماز عقلي عالقته «املفعولية»‪.‬‬
‫***‬
‫ه ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة الفاعلية ‪:‬‬
‫وذل ك فيم ا ب ين للمفع ول وأس ند للفاع ل احلقيقي ‪ ،‬حنو ‪ :‬س يل مفعم بض م امليم‬
‫األوىل وفتح العني ‪ ،‬ألن السيل هو الذي يفعم أي ميأل ‪ ،‬وأصله أفعم السيل الوادي ‪ ،‬أي‬
‫مأله‪ .‬فالفاعل احلقيقي الذي أسند إليه اإلفعام هو السيل‪ .‬فلو أريد اإلسناد احلقيقي لقيل ‪:‬‬
‫سيل مفعم بكسر العني‪.‬‬
‫ولكن الذي حدث أنه جيء باملسند مبنيا للمفعول «مفعم» بفتح العني ‪ ،‬مث أسند‬
‫إىل غري فاعله احلقيقي وقيل «سيل مفعم» بفتح العني‪ .‬فاإلسناد‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬ساورتين ‪ :‬واثبتين ‪ ،‬والضئيلة ‪ :‬احلية الدقيقة الضعيفة ‪ ،‬والرقش ‪ :‬مجع رقشاء وهي احلية فيها نقط سوداء‬
‫وبيضاء ‪ ،‬والسم الناقع ‪ :‬املنقوع ‪ ،‬وإذا نقع السم كان شديد التأثري‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫هنا جمازي ‪ ،‬وهو جماز عقلي عالقته «الفاعلية»‪.‬‬
‫***‬
‫و ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة املصدرية‪.‬‬
‫ويف الليل ة الظلم اء يفتق د الب در‬ ‫‪ 1‬ـ س يذكرين ق ومي إذا ج ّد ج ّد هم‬
‫فاجملاز يف ال بيت ه و يف «ج ّد ج ّد هم» حيث مل يس ند الفع ل «ج ّد » إىل فاعل ه‬
‫احلقيقي وإمنا أس ند إىل مص دره «ج دهم» ‪ ،‬وذل ك جبع ل م ا ه و مص در يف املع ىن ف اعال‬
‫لفظيا على سبيل اجملاز‪ .‬ومن هذا يرى أن الفعل أسند إىل غري ما هو له لعالقة مع قرينة‬
‫مانعة من اإلسناد احلقيقي‪ .‬فهنا جماز عقلي عالقته «املصدرية»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قال تعاىل ‪َ( :‬فِإ ذا ُنِفَخ ِفي الُّصوِر َنْف َخ ٌة واِح َد ٌة‪).‬‬
‫فالفع ل «نفخ» املب ين للمجه ول مل يس ند إىل ن ائب فاعل ه احلقيقي وإمنا أس ند إىل‬
‫مصدره «نفخة» أي أسند إىل غري ما هو له لعالقة املصدرية‪.‬‬
‫فهذا جماز عقلي عالقته «املصدرية»‪.‬‬
‫‪3‬ـ‬
‫أوط اهنم بال دم الغ ايل إذا طلب ا‬ ‫ق د ع ز ع ّز األىل ال يبخل ون على‬
‫فالفعل «عّز » مل يسند إىل فاعله احلقيقي وإمنا أسند إىل مصدره «ع ّز » وذلك جبعل‬
‫ما هو مصدر يف املعىن فاعال لفظيا على سبيل اجملاز‪ .‬فالفعل يف البيت قد أسند إىل غري ما‬
‫هو له لعالقة املصدرية ‪ ،‬وهذا جماز عقلي عالقته «املصدرية»‪.‬‬
‫***‬
‫هذا وقد أشار عبد القاهر اجلرجاين إىل نقطة جديرة بالنظر بالنسبة هلذا اجملاز وذلك‬
‫إذ يقول ‪« :‬واعلم أنه ليس بواجب يف هذا ـ أي اجملاز‬

‫‪154‬‬
‫احلكمي أو العقلي ـ أن يكون للفعل فاعل يف التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به‬
‫إىل احلقيق ة ‪ ،‬مث ل إن ك تق ول يف «رحبت جتارهتم» ‪ :‬رحبوا يف جتارهتم ‪ ...‬ف إن ذل ك ال‬
‫يتأتى يف كل شيء‪.‬‬
‫أال ت رى أن ه ال ميكن ك أن تثبت للفع ل يف قول ك ‪« :‬أق دمين بل دك ح ّق يل على‬
‫إنسان» فاعال سوى «احلق»‪ .‬وكذلك ال تستطيع يف قوله ‪:‬‬
‫ل‬ ‫رب املث‬ ‫ين يض‬ ‫حلي‬ ‫واك ويب‬ ‫رّي ين ه‬ ‫وص‬
‫ويف قول أيب نواس ‪:‬‬
‫را‬ ‫ه نظ‬ ‫ا زدت‬ ‫إذا م‬ ‫نا‬ ‫ه حس‬ ‫دك وجه‬ ‫يزي‬
‫أن تزعم أن ل «صريين» فاعال قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى كما فعل ذلك يف‬
‫«رحبت جتارهتم» ‪ ...‬وال تستطيع كذلك أن تقدر ل «يزيد» يف قولك ‪« :‬يزيدك وجهه»‬
‫فاعال غري الوجه‪.‬‬
‫فاالعتب ار إذن ب أن يك ون املع ىن ال ذي يرج ع إلي ه الفع ل موج ودا يف الكالم على‬
‫حقيقته‪ .‬معىن ذلك أن «القدوم» يف قولك ‪« :‬أقدمين بلدك ح ّق يل على إنسان» موجود‬
‫على احلقيق ة‪ .‬وك ذلك «الص ريورة» يف قول ه ‪« :‬ص ريين ه واك» ‪ ،‬و «الزي ادة» يف قول ه ‪:‬‬
‫«يزيدك وجهه» موجودتان على احلقيقة‪.‬‬
‫وإذا ك ان مع ىن اللف ظ موج ودا على احلقيق ة مل يكن اجملاز فيه نفسه ‪ ،‬وإذا مل يكن‬
‫يف نفس اللفظ كان ال حمالة يف احلكم‪ .‬فاعرف هذه اجلملة وأحسن ضبطها حىت تكون‬
‫على بصرية من األمر» (‪.)1‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب دالئل اإلعجاز ص ‪ 193‬ـ ‪.194‬‬

‫‪155‬‬
‫المجاز المرسل‬
‫ذكرنا عند كالمنا على اجملاز اللغوي أنه قسمان ‪ :‬جماز استعاري ‪ ،‬وهو ما كانت‬
‫عالقته املشاهبة ‪ ،‬وجماز مرسل وهو ما كانت عالقته غري املشاهبة‪.‬‬
‫كم ا ذكرن ا أن اجملاز اللغ وي بقس ميه ي أيت يف املركب واملف رد على الس واء ‪ ،‬وأن‬
‫جميئه يف املركب يكون باستعمال الرتكيب يف غري ما وضع له ‪ ،‬كقولك ملن يسيء إليك‬
‫وينتظر منك حسن اجلزاء ‪« :‬إنك ال جتين من الشوك العنب»‪.‬‬
‫أما جميئه يف اللفظ املفرد فيكون باستعمال الكلمة يف غري ما وضعت له أصال لعالقة‬
‫مع قرينة متنع من إرادة املعىن األصلي‪.‬‬
‫ويع رف البالغي ون «العالق ة» بأهنا األم ر ال ذي يق ع ب ه االرتب اط بني املع ىن احلقيقي‬
‫واملع ىن اجملازي فيص ح االنتق ال من األول إىل الث اين‪ .‬وه ذه العالق ة ال يت تربط يف اجملاز بني‬
‫املعنيني ‪ :‬احلقيقي واجملازي قد تكون «املشاهبة» حنو ‪ :‬رأيت زهرة حتملها أمها ‪ ،‬تريد ‪:‬‬
‫طفل ة ك الزهرة يف نض ارهتا ومجاهلا‪ .‬وق د تك ون العالق ة «غ ري املش اهبة» كاجلزئي ة يف قول ه‬
‫تعاىل ‪َ( :‬و اْر َك ُعوا َمَع ال َّر اِكِعيَن ) يريد ‪« :‬وصلوا» ألن الركوع جزء من الصالة ‪ ،‬فأطلق‬
‫اجلزء وأراد به الكل جمازا‪.‬‬
‫أم ا «القرين ة» فعرفه ا البالغي ون أيض ا بأهنا األم ر ال ذي يص رف ال ذهن عن املع ىن‬
‫احلقيقي إىل املع ىن اجملازي ‪ ،‬وهي إم ا قرين ة عقلي ة أي حالي ة حنو ‪« :‬أقب ل حبر» والس امع‬
‫يرى رجال ‪ ،‬وإما قرينة لفظية حنو ‪« :‬رأيت حبرا يعظ الناس من فوق املنرب» فعبارة «يعظ‬
‫الناس من فوق املنرب» قرينة لفظية ‪ ،‬تدل على أن لفظة «حبر» استعملت استعماال جمازيا‬
‫ومتنع يف‬

‫‪156‬‬
‫الوقت ذاته من إرادة املعىن احلقيقي هلذه اللفظة‪.‬‬
‫***‬
‫واجملاز املرسل ‪ ،‬كما عرفه اخلطيب القزويين ‪ ،‬هو ما كانت العالقة بني ما استعمل‬
‫في ه وم ا وض ع ل ه مالبس ة غ ري التش بيه ‪ ،‬وذل ك مث ل لفظ ة «الي د» إذا اس تعملت يف مع ىن‬
‫«النعمة» ‪ ،‬ألن من شأهنا أن تصدر عن اجلارحة ومنها تصل إىل املقصود هبا (‪ .)1‬وقد مساه‬
‫البالغيون «جمازا مرسال» إلرساله عن التقييد بعالقة املشاهبة‪.‬‬
‫وق د اش رتط عب د الق اهر اجلرج اين يف ذل ك أن يك ون يف الكالم إش ارة إىل مص در‬
‫تلك النعمة وإىل املويل هلا ‪ ،‬فال يقال ‪ :‬اتسعت «اليد» يف البلد ‪ ،‬أو اقتنيت «يدا» ‪ ،‬كما‬
‫يق ال ‪ :‬اتس عت النعم ة يف البل د أو اقت نيت نعم ة ‪ ،‬وإمنا يق ال ‪ :‬جّلت «ي ده» عن دي ‪،‬‬
‫وكثرت أياديه لدّي وحنو ذلك‪.‬‬
‫ونظري هذا «اليد» يف معىن «القدرة» ألن أكثر ما يظهر سلطان القدرة يف اليد ‪،‬‬
‫وهبا يكون البطش والض رب والقط ع واألخذ والدفع والوض ع والرفع ‪ ،‬إىل سائر األفع ال‬
‫اليت تنىبء عن وجوه القدرة ومكاهنا‪.‬‬
‫ونظ ري ه ذا أيض ا ق وهلم يف ص فة راعي اإلب ل ‪« :‬إن ل ه عليه ا إص بعا» ‪ ،‬أرادوا أن‬
‫يقولوا ‪ :‬له عليها أثر حذق ‪ ،‬فدّلوا عليها باإلصبع ‪ ،‬ألنه ما من حذق يف عمل يد إال‬
‫وه و مس تفاد من حس ن تص ريف األص ابع ‪ ،‬واللط ف يف رفعه ا ووض عها كم ا يف اخلط‬
‫والنقش‪.‬‬
‫وعلى ذل ك قي ل يف تفس ري قول ه تع اىل ‪َ( :‬بلى ق اِد ِر يَن َعلى َأْن ُنَس ِّو َي َبناَن ُه ‪ )،‬أي‬
‫جنعلها كخّف البعري ‪ ،‬فال يتمكن من األعمال اللطيفة ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب التلخيص للقزويين ص ‪.295‬‬

‫‪157‬‬
‫فأرادوا باإلصبع األثر احلسن ‪ ،‬حيث يقصد اإلشارة إىل حذق يف الصنعة ال مطلقا ‪ ،‬حىت‬
‫يقال رأيت أصابع الدار ‪ ،‬وله إصبع حسنة وإصبع قبيحة ‪ ،‬على معىن أثر حسن وأثر قبيح‬
‫وحنو ذلك‪.‬‬
‫***‬
‫هذا وللمجاز املرسل عالقات شىت منها ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الس ببية ‪ :‬وذل ك ب أن يطل ق لف ظ الس بب وي راد املس بب ‪ ،‬حنو ق وهلم ‪« :‬رعين ا‬
‫الغيث» أي املطر ‪ ،‬وهو ال يرعى ‪ ،‬وإمنا يرعى «النبات» الذي كان املطر سبب ظهوره‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك مسى النبات غيثا ‪ ،‬ألن الغيث سبب وجود النبات وظهوره‪ .‬فالعالقة اليت‬
‫متنع من إرادة املعىن احلقيقي يف هذا اجملاز املرسل هي «السببية»‪.‬‬
‫ومنه قوله تعاىل ‪َ( :‬فَمْن َش ِه َد ِم ْنُك ُم الَّش ْه َر َفْلَيُصْم ُه ‪ )،‬فاجملاز هنا يف لفظة «الشهر»‬
‫‪ ،‬والشهر ال يشاهد ‪ ،‬وإمنا الذي يشاهد هو «اهلالل» الذي يظهر أول ليلة يف الشهر ‪،‬‬
‫واهلالل سبب يف وجود الشهر ‪ ،‬فإطالق الشهر عليه جماز مرسل عالقته «السببية»‪.‬‬
‫ومنه كذلك قول السموأل ‪:‬‬
‫وليس ت على غ ري الس يوف تس يل‬ ‫تس يل على ح د الس يوف نفوس نا‬
‫فالشاعر السموأل أراد بالنفوس الدماء ‪ ،‬ألهنا هي اليت تسيل على ح ّد السيوف ‪،‬‬
‫ووجود النفس يف اجلس م سبب يف وجود الدم فيه ‪ ،‬ف إطالق النف وس على الدم اليت هي‬
‫سبب يف وجوده جماز مرسل عالقته «السببية»‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 2‬ـ املسببية ‪ :‬وذلك بأن يطلق لفظ املسبب ويراد السبب ‪ ،‬حنو ‪« :‬أمطرت السماء‬
‫نباتا» ‪ ،‬فذكر النبات وأريد الغيث ‪ ،‬والنبات مسبب عن‬

‫‪158‬‬
‫الغيث أي املطر‪ .‬فهذا جماز مرسل عالقته «املسّببية»‪.‬‬
‫ومن هذا النوع من اجملاز قوله تعاىل ‪َ( :‬و ُيَنِّزُل َلُك ْم ِم َن الَّس ماِء ِر ْز ق ًا ‪ )،‬فاجملاز هنا‬
‫هو يف كلم ة «رزقا» ‪ ،‬والرزق ال ينزل من السماء ‪ ،‬ولكن الذي ينزل منها مطر ينشأ‬
‫عنه النبات الذي منه طعامنا ورزقنا ‪ ،‬فالرزق مسبب عن املطر ‪ ،‬فهو جماز مرسل عالقته‬
‫«املسببية»‪.‬‬
‫ِن‬ ‫ِف‬ ‫ِذ‬
‫ومنه قوله تعاىل ‪ِ( :‬إَّن اَّل يَن َي ْأُك ُلوَن َأْم واَل اْلَيت امى ُظْلم ًا ِإَّنم ا َي ْأُك ُلوَن ي ُبُط و ِه ْم‬
‫نارًا‪ ).‬فاجملاز يف اآلية الكرمية هو يف لفظة «نارا» أي ‪ :‬ما ال تتسبب عنه النار عقابا ‪ ،‬فهنا‬
‫أطل ق لف ظ املس بب «الن ار» وأري د ب ه الس بب «املال» ‪ ،‬وه ذا أيض ا جماز مرس ل عالقت ه‬
‫«املسببية»‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 3‬ـ اجلزئية ‪ :‬وهي تسمية الشيء باسم جزئه ‪ ،‬وذلك بأن يطلق اجلزء ويراد الكل‬
‫‪ ،‬حنو قول ه تع اىل يف ش أن موس ى عليه‌السالم ‪َ( :‬فَر َج ْع ن اَك ِإلى ُأِّم َك َك ْي َتَق َّر َعْيُنه ا)‪.‬‬
‫وتقر عينها ‪ :‬أي هتدأ ‪ ،‬ولفظة اجملاز هنا هي «عينها» ‪ ،‬والذي يهدأ هو النفس واجلسم ال‬
‫العني وحدها ‪ ،‬وهلذا أطلق اجلزء وهو «العني» وأريد به الك ّل وهو النفس واجلسم‪ .‬وهذا‬
‫جماز مرسل عالقته «اجلزئية»‪.‬‬
‫ومن ه ق وهلم ‪« :‬اإلس الم حيث على حتري ر الرق اب» ‪ ،‬فاملقص ود من «الرق اب»‬
‫أشخاص العبيد ألرقاهبم ليس غري ‪ ،‬ولكن ملا كانت الرقاب عادة موضع وضع األغالل يف‬
‫العبيد املأسورين أطلقت عليهم‪ .‬ففي كلمة الرقاب جماز مرسل عالقته «اجلزئية»‪.‬‬
‫ومنه استعمال «العني يف الربيئة» ‪ ،‬والربيئة الشخص الذي يستطلع حتركات العدّو‬
‫يف مكان عال ‪ ،‬فإطالق العني عليه ألن العني هي املقصودة‬

‫‪159‬‬
‫يف كون الرجل ربيئة ‪ ،‬إذ ما عداها من أعضاء اجلسم ال يغين شيئا مع فقدها ‪ ،‬فصارت‬
‫كأهنا الشخص كله‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك قال البالغيون ‪« :‬ال بد يف اجلزء املطلق على الكل من أن يكون له‬
‫مزي د اختص اص ب املعىن ال ذي قص د بالك ل ‪ ،‬فمثال ال جيوز إطالق الي د أو اإلص بع على‬
‫الربيئة وإن كان كل منهما جزءا منه» (‪.)1‬‬
‫***‬
‫‪ 4‬ـ الكلية ‪ :‬وهذا يعين تسمية الشيء باسم كله ‪ ،‬وذلك فيما إذا ذكر الكل وأريد‬
‫اجلزء ‪ ،‬حنو قول ه تع اىل على لس ان ن وح عليه‌السالم ‪( :‬ق اَل َر ِّب ِإِّني َدَع ْو ُت َقْو ِم ي َلْيًال‬
‫َو َنه ارًا ‪َ ،‬فَلْم َي ِز ْد ُه ْم ُدع اِئي ِإاَّل ِف رارًا َو ِإِّني ُك َّلم ا َدَع ْو ُتُه ْم ِلَتْغِف َر َلُه ْم َجَعُل وا َأصاِبَعُه ْم ِفي‬
‫آذاِنِه ْم ‪ )،‬فالكلمة موضع اجملاز يف هذه اآلية الكرمية هي «أصابعهم» فقد أطلقت وأريد‬
‫أناملها أو أطرافها ‪ ،‬ألن اإلنسان ال يستطيع أن يضع إصبعه كلها يف أذنه‪ .‬وكل جماز من‬
‫هذا النوع يطلق فيه الكل ويراد اجلزء هو جماز مرسل عالقته «الكلية»‪ .‬والغرض منه هنا‬
‫هو املبالغة يف اإلصرار على عدم مساع احلق بدليل وضع أصابعهم يف آذاهنم‪.‬‬
‫ومنه قوله تعاىل ‪َ( :‬يُقوُلوَن ِب َأْفواِه ِه ْم م ا َلْيَس ِفي ُقُل وِبِه ْم ) فاإلنسان ال يتكلم بفمه‬
‫وإمنا يتكلم بلسانه فإطالق األفواه على األلسنة جماز مرسل عالقته «الكلية»‪.‬‬
‫ومنه كذلك ‪ :‬أقام أبو الطيب املتنيب يف مصر فرتة من حياته‪ .‬فاملراد أن املتنيب أقام‬
‫يف بعض بالد مص ر ومل يقم يف القط ر مجيع ه ‪ ،‬ف إطالق «مص ر» وإرادة بعض بالده ا جماز‬
‫مرسل عالقته «الكلية»‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب التلخيص للقزويين ص ‪.298‬‬

‫‪160‬‬
‫‪ 5‬ـ اعتب ار م ا ك ان ‪ :‬أي تس مية الش يء باس م م ا ك ان علي ه ‪ ،‬حنو قول ه تع اىل ‪:‬‬
‫(َو آُت وا اْلَيت امى َأْم واَلُه ْم ‪ )،‬أي ال ذين ك انوا يت امى‪ .‬وتفص يل ذل ك أن الي تيم يف اللغ ة ه و‬
‫الص غري ال ذي م ات أب وه ‪ ،‬واألم ر ال وارد يف اآلي ة الكرمية ليس املراد ب ه إعط اء اليت امى‬
‫الص غار أم وال آب ائهم ‪ ،‬وإمنا الواق ع أن اهلل ي أمر بإعط اء األم ول من وص لوا س ن الرش د‬
‫والبل وغ بع د أن ك انوا يت امى‪ .‬فكلم ة «اليت امى» هن ا جماز مرس ل اس تعملت وأري د هبا‬
‫الراشدون ممن كانوا يتامى‪ .‬وعالقة هذا اجملاز «اعتبار ما كان»‪.‬‬
‫ومنه قولك ‪« :‬من الناس من يأكل القمح ومنهم من يأكل الذرة والشعري» وأنت‬
‫تريد بالقمح والذرة والشعري «اخلبز» الذي كان يف األصل قمحا أو ذرة أو شعريا‪ .‬فعالقة‬
‫اجملاز املرسل هنا «اعتبار ما كان»‪.‬‬
‫ومثله أيضا قولك ‪« :‬شربت النب» تريد بذلك ‪ :‬شربت «قهوة» كان أصلها بّن ا‪.‬‬
‫فإطالق النب على القهوة جماز مرسل عالقته أيضا «اعتبار ما كان»‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 6‬ـ اعتبار ما يكون ‪ :‬وهو تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه‪ .‬حنو قوله تعاىل على‬
‫ِن ِص‬ ‫ِإ‬
‫لس ان أح د الفت يني الل ذين دخال الس جن م ع يوس ف عليه‌السالم ‪ِّ ( :‬ني َأرا ي َأْع ُر‬
‫َخ ْم رًا‪ ).‬فاجملاز هنا يف كلمة «مخرا» ‪ ،‬واخلمر ال تعصر ألهنا سائل ‪ ،‬وإمنا الذي يعصر هو‬
‫«العنب» الذي يؤول ويتحول بالعصر إىل مخر‪ .‬فإطالق اخلمر وإرادة العنب جماز مرسل‬
‫عالقته «اعتبار ما يكون»‪.‬‬
‫وحنو قول ه تع اىل على لس ان ن وح عليه‌الس الم ‪َ( :‬و ق اَل ُن وٌح َر ِّب ال َت َذ ْر َعَلى‬
‫اَأْلْر ِض ِم َن اْلكاِفِر يَن َدَّيارًا‪ِ .‬إَّنَك ِإْن َت َذ ْر ُه ْم ُيِض ُّلوا ِع ب اَدَك َو ال َيِل ُد وا ِإاَّل ف اِج رًا َك َّف ارًا) ففي‬
‫كلميت «فاجرا وكفارا» من قوله تعاىل ‪َ( :‬و ال َيِلُد وا‬

‫‪161‬‬
‫ِإاَّل فاِج رًا َك َّف ارًا) جمازان ‪ ،‬ألن املولود حينما يولد ال يكون فاجرا وال كفارا ‪ ،‬ولكنه قد‬
‫يكون كذلك بعد الطفولة ‪ ،‬أي بعد أن يتحول من مرحلة الطفولة إىل مرحلة الرجولة‪.‬‬
‫وهلذا ف إطالق املول ود الف اجر الكف ار ‪ ،‬وإرادة الرج ل الف اجر الكف ار جماز مرس ل عالقت ه‬
‫أيضا اعتبار «ما يكون» ‪ ،‬أي اعتبار ما يؤول ويتحول إليه يف املستقبل‪.‬‬
‫ومن ه ك ذلك ‪( :‬ي ا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ُك ِتَب َعَلْيُك ُم اْلِق ص اُص ِفي اْلَق ْتلى اْلُح ُّر ِب اْلُح ِّر‬
‫َو اْلَعْبُد ِباْلَعْبِد َو اُأْلْنثى ِباُأْلْنثى ‪ )،‬فالقصاص وهو املساواة يف العقاب واجلزاء مل يفرض فيمن‬
‫قت ل قب ل ن زول اآلي ة الكرمية ‪ ،‬وإمنا ف رض فيمن س يقتل بع د نزوهلا‪ .‬فاجملاز يف كلم ة‬
‫«القتلى» أي ال ذين س يقتلون بع د ن زول اآلي ة‪ .‬ف إطالق القتلى وإرادة من س يقتلون بع د‬
‫نزول آية القصاص جماز مرسل عالقته «اعتبار ما يكون»‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 7‬ـ احمللي ة ‪ :‬وذل ك فيم ا إذا ذك ر لف ظ احملّل وأري د احلاّل في ه ‪ ،‬حنو قول ه تع اىل يف‬
‫زج ر أيب جه ل ال ذي ك ان ينهى الن يب عن الص الة ‪َ( :‬ك اَّل َلِئْن َلْم َيْنَت ِه َلَنْس َف عًا ِبالَّناِص َيِة‪.‬‬
‫ناِص َيٍة كاِذ َبٍة خاِط َئ ٍة‪َ .‬فْلَي ْد ُع ناِد َيُه‪َ .‬س َنْد ُع الَّز باِنَي َة‪َ .‬ك اَّل ال ُتِط ْع ُه َو اْس ُج ْد َو اْقَت ِرْب ‪ ).‬فاألمر‬
‫يف قوله تعاىل ‪َ( :‬فْلَيْد ُع ناِد َيُه) خرج إىل السخرية واالستخفاف بشأن أيب جهل ‪ ،‬واجملاز‬
‫ه و يف كلم ة «نادي ه» ‪ ،‬فإنن ا نع رف أن الن ادي مك ان االجتم اع ‪ ،‬ولكن املقص ود ب ه يف‬
‫اآلي ة الكرمية من يف ه ذا املك ان من عش ريته وأنص اره ‪ ،‬فه و جماز مرس ل أطل ق في ه احملّل‬
‫وأريد احلاّل ‪ ،‬فالعالقة «احمللية»‪.‬‬
‫ومنه قول الشاعر ‪:‬‬
‫اطب‬ ‫ه املع‬ ‫اف من‬ ‫أخ‬ ‫ر إين‬ ‫ال أركب البح‬
‫ذائب‬ ‫املاء‬ ‫يف‬ ‫والطني‬ ‫اء‬ ‫وم‬ ‫ا وه‬ ‫طني أن‬

‫‪162‬‬
‫فاجملاز يف كلم ة «البح ر» حيث أراد هبا الشاعر «السفن» اليت جتري فيه ‪ ،‬ف البحر‬
‫ه و حمل جري ان الس فن ‪ ،‬ف إطالق احملل «البح ر» وإرادة احلال في ه «الس فن» جماز مرس ل‬
‫عالقته «احمللية»‪ .‬ويف كلمة «طني» يف البيت الثاين جماز مرسل عالقته «اعتبار ما كان»‪.‬‬
‫ومنه قول احلجاج من خطبته املشهورة يف أهل العراق ‪« :‬وإن أمري املؤمنني أطال‬
‫اهلل بقاءه نثر كنانته بني يديه فعجم عيداهنا فوجدين أمّر ها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم‬
‫يب» ‪ ،‬فاجملاز هنا يف كلمة «كنانته» والكنانة لغة وعاء توضع فيه السهام ‪ ،‬والوعاء ال ين ثر‬
‫‪ ،‬وإمنا ين ثر م ا ح ل في ه‪ .‬ف إطالق احملل «الكنان ة» وإرادة احلاّل فيه ا وه و «الس هام» جماز‬
‫مرسل عالقته «احمللية»‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 8‬ـ احلاّلي ة ‪ :‬وهي عكس العالق ة الس ابقة ‪ ،‬وذلك فيم ا إذ ذكر لف ظ احلاّل وأريد‬
‫احملل ملا بينهما من مالزمة‪.‬‬
‫ومن أمثل ة ذل ك قول ه تع اىل ‪ِ( :‬إَّن اَأْلْب راَر َلِف ي َنِعيٍم ) فاجملاز يف كلم ة «نعيم» ‪،‬‬
‫والنعيم ال حيل فيه اإلنسان ألنه معىن من املعاين ‪ ،‬وإمنا حيل اإلنسان يف مكانه‪ .‬فاستعمال‬
‫النعيم يف مكانه جماز مرسل أطلق فيه احلاّل وأريد احملل ‪ ،‬فعالقته «احلاّلية»‪.‬‬
‫ومن ه أيض ا قول ه تع اىل ‪َ( :‬و َأَّم ا اَّل ِذ يَن اْبَيَّض ْت ُوُج وُهُه ْم َفِف ي َر ْح َم ِت اِهلل ُه ْم ِفيه ا‬
‫خاِل ُد وَن ‪ )،‬فاجملاز يف كلم ة «رمحة» والرمحة ال حيل فيه ا ال ذين ابيض ت وج وههم ألهنا‬
‫مع ىن من املع اين ‪ ،‬وإمنا هم حيل ون يف مك ان الرمحة ال ذي ي راد ب ه يف اآلي ة اجلن ة‪ .‬ف إطالق‬
‫احلاّل «الرمحة» وإرادة حملها «اجلنة» جماز مرسل عالقته «احلاّلية»‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫ومن أمثلته شعرا قول شاعر يرثي معن بن زائدة ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫س قتك الغ وادي مربع ا مث مربع ا‬ ‫ربه‬ ‫وال لق‬ ‫ا على «معن» وق‬ ‫أّلم‬
‫فاجملاز يف كلمة «معن» يراد به قربه ‪ ،‬فقد أطلق الشاعر احلاّل وهو «معن» وأراد‬
‫احملل ال ذي ح ل فيه بع د وفاته وه و «الق رب» ب دليل قوله «وقوال لق ربه»‪ .‬فاجملاز هن ا جماز‬
‫مرسل عالقته «احلاّلية»‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 9‬ـ اآللية ‪ :‬وذلك إذا ذكر اسم اآللة وأريد األثر الذي ينتج عنها ‪ ،‬حنو قوله تعاىل‬
‫‪َ( :‬و اْجَع ْل ِلي ِلس اَن ِص ْد ٍق ِفي اآْل ِخ ِريَن ‪ ).‬فاجملاز يف كلم ة «لس ان» ‪ ،‬واملراد واجع ل يل‬
‫قول صدق أي ذكرا حسنا ‪ ،‬فأطلق اللسان الذي هو آلة القول على القول نفسه وهو‬
‫األث ر ال ذي ينتج عن ه‪ .‬ف إطالق «اللس ان» آل ة الق ول وأدات ه وإرادة األث ر الن اتج عن ه وه و‬
‫«القول أو الكالم» جماز مرسل عالقته «اآللية»‪.‬‬
‫وحنو قول ه تع اىل أيض ا ‪َ( :‬ف ْأُتوا ِب ِه َعلى َأْع ُيِن الَّن اِس ‪ )،‬أي على م رأى منهم ‪،‬‬
‫واألعني هي آل ة الرؤي ة‪ .‬فاجملاز يف كلم ة «أعني» حيث أطلقت وأري د األث ر الن اتج عنه ا‬
‫وهو الرؤية‪ .‬فهذا جماز مرسل عالقته «اآللية»‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 10‬ـ اجملاورة ‪ :‬وذلك فيما إذا ذكر الشيء وأريد جماوره‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك قول عنرتة ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أملا عليه ‪ :‬أن زال به ‪ ،‬والغ وادي ‪ :‬مجع غادية وهي الس حابة تنشأ غدوة أو مطرة الغ داة ‪ ،‬واملربع ‪ :‬اسم‬
‫مشتق من أربعة ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬سقتك الغوادي أربعة أيام متوالية مث أربعة أخرى متوالية ‪ :‬فهو دعاء بكثرة السقيا‬
‫للقرب‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ا مبح ّر م‬ ‫رمي على القن‬ ‫ليس الك‬ ‫فش ككت ب الرمح األص ّم «ثياب ه»‬
‫فالشاعر يعين بقوله ‪« :‬شككت ثيابه» شككت قلبه ‪ :‬وأي مكان آخر من جسمه‬
‫يص يب من ه ال رمح مقتال‪ .‬فاجملاز يف كلم ة «ثياب ه» ال يت أطلقت وأري د هبا م ا جياوره ا من‬
‫القلب أو أي مك ان آخ ر يف اجلس م يص يب ال رمح من ه مقتال‪ .‬ف إطالق الثي اب وإرادة م ا‬
‫جياورها من مقاتل اجلسم بأي سالح كان كالرمح جماز مرسل عالقته «اجملاورة»‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الرمح األصم ‪ :‬الصلب األصم ‪ ،‬واملراد بالثياب هنا القلب ‪ ،‬والشاعر يصف نفسه هنا باإلقدام قائال ‪ :‬إن‬
‫الكرمي ليس مبحرم وال عزيز على الرماح‪.‬‬

‫‪165‬‬
166
‫المبحث الثالث‬

‫االستعارة‬
‫االستعارة لغة رفع الشيء وحتويله من مكان إىل آخر ‪ ،‬يقال استعار فالن سهما من‬
‫كنانته ‪ :‬رفعه وحّو له منها إىل يده‪.‬‬
‫وعلى هذا يصح أن يقال استعار إنسان من آخر شيئا ‪ ،‬مبعىن أن الشيء املستعار قد‬
‫انتقل من يد املعري إىل املستعري لالنتفاع به‪ .‬ومن ذلك يفهم ضمنا أن عملية االستعارة ال‬
‫تتّم إال بني متعارفني جتمع بينهما صلة ما‪.‬‬
‫ويؤكد هذا املعىن ويوضحه قول ابن األثري ‪« :‬األصل يف االستعارة اجملازية مأخوذ‬
‫من العاري ة احلقيقي ة ال يت هي ض رب من املعامل ة ‪ :‬وهي أن يس تعري بعض الن اس من بعض‬
‫شيئا من األشياء ‪ ،‬وال يقع ذلك إال من شخصني بينهما سبب معرفة ما يقتضي استعارة‬
‫أح دمها من اآلخ ر ش يئا ‪ ،‬وإذا مل يكن بينهم ا س بب معرف ة بوج ه من الوج وه فال يس تعري‬
‫أحدمها من اآلخر شيئا إذ ال يعرفه حىت يستعري منه‪ .‬وهذا احلكم جار يف استعارة‬

‫‪167‬‬
‫األلف اظ بعض هما من بعض ‪ ،‬فاملش اركة بني اللفظني يف نق ل املع ىن من أح دمها إىل اآلخ ر‬
‫كاملعرفة بني الشخصني يف نقل الشيء املستعار من أحدمها إىل اآلخر» (‪.)1‬‬
‫ولعلنا نلحظ من ذلك صلة بني املعىن اللغوي أو احلقيقي لالستعارة ومعناها اجملازي‬
‫‪ ،‬إذ ال يس تعار أح د اللفظني لآلخ ر يف واق ع األم ر إال إذا ك ان هن اك ص لة معنوي ة جتم ع‬
‫بينهما‪.‬‬
‫وإذا شئنا التعرف على تاريخ «االستعارة» لدى البالغيني فإننا جند اجلاحظ «‪255‬‬
‫‍ه» من أوائل من التفتوا إليها وعّر فوها وّمسوها وأفاضوا بعض الشيء يف احلديث عنها‪.‬‬
‫فاالس تعارة عن ده ‪« :‬هي تس مية الش يء باس م غ ريه إذا ق ام مقام ه» ‪ ،‬ورد ذل ك‬
‫التعريف يف تعليقه على البيت الثالث من األبيات التالية ‪:‬‬
‫ا ‪..‬‬ ‫كأمنا بقلم حماه‬ ‫ا‬ ‫ا باله‬ ‫د غرّي ه‬ ‫ا دار ق‬ ‫ي‬
‫ا‬ ‫ناها على مغناه‬ ‫وك ّر ممس‬ ‫ا‬ ‫ران من بناه‬ ‫أخرهبا عم‬
‫ا‬ ‫ها عيناه‬ ‫تبكي على عراص‬ ‫اها‬ ‫حابة تغش‬ ‫وطفقت س‬
‫فق د عل ق اجلاح ظ على ال بيت الث الث هن ا بقول ه ‪« :‬وطفقت ‪ ،‬يع ين ظلت‪ .‬تبكي‬
‫على عراص ها عيناه ا ‪ ،‬عيناه ا ه ا هن ا للس حاب ‪ ،‬وجع ل املط ر بك اء من الس حاب على‬
‫طريق االستعارة ‪ ،‬وتسمية الشيء باسم غريه إذا قام مقامه» (‪.)2‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬املثل السائل ص ‪.143‬‬
‫(‪ )2‬كتاب البيان والتبيني ج ‪ 1‬ص ‪ ، 153‬والعراص ‪ :‬مجع عرصة بسكون الراء ‪ ،‬وهي كما يقول اجلاحظ ‪:‬‬
‫كل جوبة منفتقة ليس فيها بناء ‪ ،‬واجلوبة ‪ :‬فجوة ما بني البيوت‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫وكث ريا م ا يس تعمل اجلاح ظ يف تعليقات ه على النص وص عب ارات «على التش بيه» ‪:‬‬
‫«وعلى املث ل» ‪« ،‬وعلى االش تقاق» وه و يع ين هبا االس تعارة أو اجملاز مبعن اه الع ام ال ذي‬
‫تن درج حتت ه االس تعارة‪ .‬وليس يف ذل ك من غراب ة ‪ ،‬فاالس تعارة جماز عالقت ه املش اهبة ‪،‬‬
‫وكلمة التشبيه ترد عند حتليل االستعارة أو إجرائها ‪ ،‬مث هي يف حقيقتها تشبيه حذف أحد‬
‫طرفيه‪.‬‬
‫***‬
‫وجاء بعد اجلاحظ ابن املعتز «‪‍ 296‬ه» فتحدث عن االستعارة وعدها أول باب‬
‫يف كتاب ه «الب ديع» وأورد هلا أمثل ة من الكالم الب ديع من حنو قول ه تع اىل ‪َ( :‬و ِإَّن ُه ِفي ُأِّم‬
‫اْلِكت اِب َل َد ْينا َلَعِلٌّي َح ِكيٌم) وقوله تعاىل أيضا ‪َ( :‬و اْخ ِف ْض َلُه م ا َج ن اَح ال ُّذِّل ِم َن الَّر ْح َم ِة ‪)،‬‬
‫وقول الشاعر ‪ ...« :‬والصبح بالكوكب الدرّي منحور»‪.‬‬
‫وقد علق على هذا الكالم بقوله ‪« :‬وإمنا هو استعارة الكلم ة لشيء مل يعرف هبا‬
‫من شيء قد عرف هبا مثل أم الكتاب ‪ ،‬ومثل جناح الذل ‪ ،‬ومثل قول القائل «الفكرة‬
‫مخ العم ل» فل و ك ان ق ال «لب العم ل» مل يكن ب ديعا» (‪ .)1‬ومن ه ذا التعلي ق ميكن‬
‫استشفاف مفهوم ابن املعتز لالستعارة‪.‬‬
‫وكم ا أورد أمثل ة ش ىت لالس تعارة البديع ة وعل ق على بعض ها مبا يؤك د مفهوم ه‬
‫السابق لالستعارة أورد كذلك أمثلة لالستعارة املعيبة يف نظره من مثل قول أيب متام ‪:‬‬
‫ارك‬ ‫ري الظلم والظلم ب‬ ‫رمت بع‬ ‫أث‬ ‫كل وا الص رب غض ا واش ربوه ف إنكم‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب البديع ص ‪.2‬‬

‫‪169‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ولكن زم ان غ ال مثل ك هال ك‬ ‫م ىت يأت ك املق دار ال ت ك هالك ا‬
‫***‬
‫مث نلتقي بع د ابن املع تز بقدام ة بن جعف ر املت ويف س نة ‪ 337‬للهج رة ‪ ،‬فق د عق د‬
‫قدام ة يف كتاب ه «نق د الن ثر» باب ا لالس تعارة حتدث في ه عن احلاج ة إليه ا يف كالم الع رب‬
‫ومفهومها عنده ‪ ،‬كما حتدث عن االستعارة املكنية وإن مل يسمها االسم الذي عرفت به‬
‫فيما بعد‪.‬‬
‫فعن األم رين األولني يق ول قدام ة ‪« :‬وأم ا االس تعارة فإمنا اح تيج إليه ا يف كالم‬
‫العرب ألن ألفاظهم أكثر من معانيهم ‪ ،‬وليس هذا يف لسان غري لساهنم ‪ ،‬فهم يعربون عن‬
‫املعىن الواحد بعبارات كثرية رمبا كانت مفردة له ‪ ،‬ورمبا كانت مشرتكة بينه وبني غريه ‪،‬‬
‫ورمبا استعاروا بعض ذلك يف موضع بعض على التوسع واجملاز ‪ ،‬فيقولون إذا سأل الرجل‬
‫الرجل شيئا فبخل به عليه ‪« :‬لقد ّخبله فالن» ‪ ،‬وهو مل يسأله ليبخل وإمنا سأله ليعطيه ؛‬
‫لكن البخل ا ظهر منه عند مسألته إياه ‪ ،‬جاز يف توسعهم وجماز قوهلم أن ينسب ذلك‬
‫ّمل‬
‫إليه‪.‬‬
‫ومن ه ق ول الش اعر ‪ ...« :‬فللم وت م ا تل د الوال دة» ‪ ،‬والوال دة إمنا تطلب الول د‬
‫ليعيش ال ليموت ‪ ،‬لكن ملا كان مصريه إىل املوت جاز أن يقال ‪ :‬للموت ولدته» (‪.)2‬‬
‫فاالس تعارة يف نظ ر قدام ة تتمث ل يف اس تعارة بعض األلف اظ يف موض ع بعض على‬
‫سبيل التوسع واجملاز‪.‬‬
‫وعن االستعارة املكنية اليت التفت إليها ومل يسمها بامسها‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب البديع ص ‪.23‬‬
‫(‪ )2‬كتاب نقد النثر لقدامة ص ‪.64‬‬

‫‪170‬‬
‫االص طالحي املع روف يق ول ‪« :‬ومن االس تعارة م ا ق دمناه من إنط اق الرب ع وك ل م ا ال‬
‫ينطق إذا ظهر من حاله ما يشاكل النطق‪ .‬ومما جاء من هذا النوع يف القرآن قوله ‪َ( :‬يْو َم‬
‫َنُق وُل ِلَجَه َّنَم َه ِل اْمَتْأَلِت َو َتُق وُل َه ْل ِم ْن َم ِزي ٍد ‪ ).‬ملا ج از أن حتتم ل مزي دا من الك افرين‬
‫ِء ِه‬ ‫ِإ‬
‫حس ن أن يق ال ‪ :‬ق الت وه ل من مزي د؟ وك ذلك قول ه ‪ُ( :‬ثَّم اْس َتوى َلى الَّس ما َو َي‬
‫ُدخاٌن َفقاَل َلها َو ِلَأْلْر ِض اْئِتيا َطْو عًا َأْو َك ْر هًا قاَلتا َأَتْينا طاِئِعيَن ‪ )،‬وذلك ملا كانتا عن إرادته‬
‫من غري استصعاب عليه وال عصيان له ‪ ،‬جاز أن يقال إهنما قالتا أتينا طائعني‪.‬‬
‫وكذلك قوله ‪َ( :‬فَو َج دا ِفيه ا ِج دارًا ُيِري ُد َأْن َيْنَق َّض َفَأقاَم ُه ‪ )،‬ملا كانت اإلرادة من‬
‫أس باب الفع ل وك ان وق وع الفع ل يتلوه ا ‪ ،‬ج از ملا ق د ك اد أن يق ع وق رب وقوع ه ‪ ،‬أن‬
‫يقال أراد أن يقع‪.‬‬
‫ومث ل ذل ك ق ول الش اعر ‪ ...« :‬امتأل احلوض وق ال قط ين» ‪ ،‬أي ملا مل تكن في ه ـ‬
‫احلوض ـ سعة لغري ما قد وقع فيه من املاء ‪ ،‬جاز على االستعارة أن يقال ‪ :‬قد قال حسيب‬
‫‪ ،‬وهذا شائع يف اللغة كثري» (‪.)1‬‬
‫وإذا ك انت االس تعارة املكني ة هي م ا ح ذف فيه ا املش به ب ه ورم ز إلي ه بش يء من‬
‫لوازم ه ف إن يف ك ل من «جهنم ‪ ،‬والس ماء ‪ ،‬واألرض ‪ ،‬واحلوض» ال واردة يف األمثل ة‬
‫الس ابقة اس تعارة مكني ة ح ذف يف ك ل منه ا املش به ب ه وه و ش خص أو إنس ان ورم ز إلي ه‬
‫بشيء من لوازمه هو «النطق والقول»‪.‬‬
‫ومن البالغ يني من يس مي ه ذا الن وع من االس تعارة «التش خيص» حيث متث ل في ه‬
‫املع اين واجلم ادات إىل أش خاص تكتس ب ك ل ص فات الكائن ات احلي ة أي ا ك انت وتص در‬
‫عنها أفعاهلا‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب نقد النثر ص ‪ 65‬ـ ‪.66‬‬

‫‪171‬‬
‫وهم يع دون ه ذا الن وع من أمجل الص ور البياني ة ملا في ه من التش خيص والتجس يد‬
‫وبث احلياة واحلركة يف اجلمادات وتصوير املعنويات يف صورة حمسة حية‪.‬‬
‫وبع د فق د عرض نا يف مس تهل ه ذا الكت اب وعلى التحدي د يف مبحث «نش أة علم‬
‫البيان وتطوره» لتاريخ االستعارة مبينني كيف نشأ البحث فيها وتطور لدى رجال البالغة‬
‫يف العصور املختلفة‪.‬‬
‫وليس من قصدنا أن نعيد هنا ما سبق أن ذكرناه عن االستعارة ‪ ،‬فهذا أمر ميكن‬
‫الرجوع إليه وتتبعه تارخييا يف مكانه من الكتاب‪ .‬وإمنا القصد أن نلقي مزيدا من الضوء‬
‫على أوائ ل من فطن وا إىل االس تعارة وق اموا باحملاول ة األوىل يف حبثه ا ‪ ،‬تل ك احملاول ة ال يت‬
‫التقطه ا البالغي ون من بع دهم وتوس عوا يف دراس تها ‪ ،‬ح ىت وص لت االس تعارة بفض ل‬
‫جهودهم إىل ما وصلت إليه من التفريع والتقسيم‪.‬‬
‫ذلك هو القصد ‪ ،‬وقصد آخر هو أن نتخذ من ذلك مدخال إىل دراسة االستعارة‬
‫دراسة موسعة تعززها األمثلة والشواهد الكثرية ‪ ،‬وذلك ألمهيتها يف باب البيان العريب ‪،‬‬
‫تلك األمهية اليت جعلت إماما من أئم ة البالغ ة هو عبد القاهر اجلرجاين ينظر إليها وإىل‬
‫اجملاز والتش بيه والكناي ة على أهنا عم د اإلعج از وأركان ه ‪ ،‬واألقط اب ال يت ت دور البالغ ة‬
‫عليه ا ‪ ،‬وذل ك إذ يق ول ‪« :‬ومل يتع اط أح د من الن اس الق ول يف اإلعج از إال ذكره ا ‪،‬‬
‫وجعلها العمد واألركان فيما يوجب الفضل واملزية ‪ ،‬وخصوصا االستعارة واجملاز ‪ ،‬فإنك‬
‫تراهم جيعلوهنما عنوان ما يذكرون وأول ما يوردون» (‪.)1‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر دالئل اإلعجاز ص ‪ 329‬ـ ‪.330‬‬

‫‪172‬‬
‫تعريف االستعارة‬
‫‪ 1‬ـ عّر فها اجلاحظ بقوله ‪« :‬االستعارة تسمية الشيء باسم غريه إذا قام مقامه»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وعّر فها ابن املعتز بقوله ‪« :‬هي استعارة الكلمة لشيء مل يعرف هبا من شيء‬
‫قد عرف هبا»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وعّر فها قدامة بن جعفر بقوله ‪« :‬هي استعارة بعض األلفاظ يف موضع بعض‬
‫على التوسع واجملاز»‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وعّر فها القاضي اجلرجاين (‪ )1‬بقوله ‪« :‬فأما االستعارة فهي أحد أعمدة الكالم‬
‫‪ ،‬وعليه ا املع ول يف التوّس ع والتص ّر ف ‪ ،‬وهبا يتوّص ل إىل ت زيني اللف ظ ‪ ،‬وحتس ني النظم‬
‫والنثر»‪ .‬وعّر فها مرة أخرى بقوله ‪« :‬ما اكتفي فيها باالسم املستعار عن األصلي ونقلت‬
‫العبارة فجعلت يف مكان غريها ‪ ،‬ومالكها بقرب التشبيه ‪ ،‬ومناسبة املستعار للمستعار له‬
‫‪ ،‬وام تزاج اللف ظ ب املعىن ح ىت ال يوج د بينهم ا من افرة ‪ ،‬وال يت بني يف أح دمها إع راض عن‬
‫اآلخر» (‪.)2‬‬
‫‪ 5‬ـ وعّر فها أبو احلسن الرماين (‪ )3‬بقوله ‪« :‬االستعارة استعمال العبارة على غري ما‬
‫وضعت له يف أصل اللغة» ومثل هلا بقول احلجاج ‪« :‬إين أرى رؤوسا قد أينعت وحان‬
‫قطافها»‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬ه و أب و احلس ن علي بن عب د العزي ز الش هري بالقاض ي اجلرج اين «‪‍ 366‬ه» ص احب كت اب الوس اطة بني‬
‫املتنيب وخصومه‪.‬‬
‫(‪ )2‬العمدة ج ‪ 1‬ص ‪.240‬‬
‫(‪ )3‬كت اب العم دة البن رش يق ج ‪ 1‬ص ‪ ، 241‬والرم اين «‪‍ 386‬ه» ص احب كت اب «النكت يف إعج از‬
‫القرآن»‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫‪ 6‬ـ وعّر فها اآلمدي (‪ )1‬مبا معناه ‪« :‬هي استعارة املعىن ملا ليس له إذا كان يقاربه أو‬
‫يدانيه أو يشبهه يف بعض أحواله أو كان سببا من أسبابه»‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ وعّر فه ا أب و هالل العس كري بقول ه ‪« :‬االس تعارة نق ل العب ارة عن موض ع‬
‫استعماهلا يف أصل اللغة إىل غريه لغرض»‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ وعّر فه ا عب د الق اهر اجلرج اين بقول ه ‪« :‬االس تعارة يف اجلمل ة أن يك ون لف ظ‬
‫األص ل يف الوض ع اللغ وي معروف ا ت دّل الش واهد على أن ه اختّص ب ه حني وض ع ‪ ،‬مث‬
‫يس تعمله الشاعر أو غ ري الشاعر يف غ ري ذلك األص ل ‪ ،‬وينقله إليه نقال غ ري الزم فيكون‬
‫هناك كالعارية (‪.)2‬‬
‫‪ 9‬ـ وعّر فها السكاكي بقوله ‪« :‬االستعارة أن تذكر أحد طريف التشبيه وتريد به‬
‫الطرف اآلخر م ّد عيا دخول املشبه يف جنس املشبه به دااّل على ذلك بإثباتك للمشبه ما‬
‫خيّص املشبه به» (‪.)3‬‬
‫‪ 10‬ـ وعّر فها ضياء الدين بن األثري بقوله ‪« :‬االستعارة هي طّي ذكر املستعار له‬
‫الذي هو املنقول إليه ‪ ،‬واالكتفاء بذكر املستعار الذي هو املنقول» (‪.)4‬‬
‫وعّر فها ابن األثري تعريفا آخر بقوله ‪« :‬االستعارة نقل املعىن من لفظ‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬هو أبو القاسم احلسن بن بشر اآلمدي «‪‍ 371‬ه» صاحب كتاب املوازنة بني أيب متام والبحرتي‪.‬‬
‫(‪ )2‬أسرار البالغة ص ‪.22‬‬
‫(‪ )3‬اإليضاح للقزويين ص ‪.226‬‬
‫(‪ )4‬املثل السائر ص ‪.142‬‬

‫‪174‬‬
‫إىل لفظ ملشاركة بينهما مع طّي ذكر املنقول إليه (‪.)1‬‬
‫‪ 11‬ـ وعّر فه ا اخلطيب القزوي ين بقول ه ‪« :‬االس تعارة جماز عالقت ه تش بيه معن اه مبا‬
‫وضع له‪ .‬وكثريا ما تطلق االستعارة على استعمال اسم املشّبه به يف املشّبه ‪ ،‬فيسمى املشبه‬
‫به مستعارا منه ‪ ،‬واملشبه مستعارا له ‪ ،‬واللفظ مستعارا» (‪.)2‬‬
‫***‬
‫تلك طائفة من تعريفات االستعارة تبنّي مفهومها لدى كبار رجال البالغة العربية‬
‫يف عصورها املختلفة ‪ ،‬وهي وإن اختلفت عباراهتا فإهنا تكاد تكون متفقة مضمونا‪.‬‬
‫ومن كل التعريفات السابقة تتجلى احلقائق التالية بالنسبة لالستعارة ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ االس تعارة ض رب من اجملاز اللغ وي عالقت ه املش اهبة دائم ا بني املع ىن احلقيقي‬
‫واملعىن اجملازي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وهي يف حقيقتها تشبيه حذف أحد طرفيه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تطل ق االس تعارة على اس تعمال اس م املش ّبه ب ه يف املش ّبه ‪ ،‬فيس مى املش ّبه ب ه‬
‫مستعارا منه ‪ ،‬واملشبه مستعارا له ‪ ،‬واللفظ مستعارا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وقرينة االستعارة اليت متنع من إرادة املعىن احلقيقي قد تكون لفظية أو حالية‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب املثل السائر ص ‪.145‬‬
‫(‪ )2‬اإليضاح للقزويين ص ‪ 194‬ـ ‪.200‬‬

‫‪175‬‬
‫أقسام االستعارة‬

‫‪ 1‬ـ االستعارة التصريحية والمكنية‬


‫يقّس م البالغيون االستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها إىل ‪ :‬تصرحيية ومكنية‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ فاالستعارة التصرحيية ‪ :‬وهي ما ص ّر ح فيها بلفظ املشبه به ‪ ،‬أو ما استعري فيها‬
‫لفظ املشبه به للمشبه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ واالستعارة املكنية ‪ :‬هي ما حذف فيها املشبه به أو املستعار منه ‪ ،‬ورمز له‬
‫بشيء من لوازمه‪.‬‬
‫ولبيان هذين النوعني من االستعارة نورد فيما يلي طائفة من األمثلة مث نعّق ب عليها‬
‫بالشرح والتفصيل‪.‬‬
‫األمثلة ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال املتنيب يف وصف دخول رسول الروم على سيف الدولة ‪:‬‬
‫إىل البح ر يس عى أم إىل الب در ي رتقي‬ ‫وأقب ل ميش ي يف البس اط فم ا درى‬
‫يف ه ذا ال بيت جماز لغ وي ‪ ،‬أي كلم ة اس تعملت يف غ ري معناه ا احلقيقي وهي‬
‫«البح ر» واملقص ود هبا س يف الدول ة املمدوح ‪ ،‬والعالق ة املشاهبة ‪ ،‬والقرين ة اليت متنع من‬
‫إرادة املعىن احلقيقي لفظية وهي «فأقبل ميشي يف البساط»‪.‬‬
‫ويف ال بيت جماز لغ وي آخ ر ‪ ،‬أي كلم ة اس تعملت يف غ ري معناه ا احلقيقي وهي‬
‫«البدر» واملقصود هبا أيضا سيف الدولة املمدوح ‪ ،‬والعالقة بني البدر واملمدوح املشاهبة‬
‫يف الرفع ة ‪ ،‬والقرين ة املانع ة من إرادة املع ىن احلقيقي لفظي ة أيض ا وهي «فأقب ل ميش ي يف‬
‫البساط»‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫‪ 2‬ـ وقال تعاىل ‪ِ( :‬كتاٌب َأْنَز ْلناُه ِإَلْيَك ِلُتْخ ِر َج الَّناَس ِم َن الُّظُلماِت ِإَلى الُّنوِر ‪).‬‬
‫ففي اآلي ة الكرمية جمازان لغوي ان يف كلم يت «الظلم ات والن ور» قص د ب األوىل‬
‫«الضالل» وبالثانية «اهلدى واإلميان»‪ .‬فقد استعري «الظلمات» للضالل ‪ ،‬لعالقة املشاهبة‬
‫بينهما يف عدم اهتداء صاحبهما‪ .‬كذلك استعري «النور» للهدى واإلميان ‪ ،‬لعالقة املشاهبة‬
‫بينهم ا يف اهلداي ة ‪ ،‬والقرين ة ال يت متن ع من إرادة املع ىن احلقيقي يف كال اجملازين قرين ة حالي ة‬
‫تفهم من سياق الكالم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وقال املتنيب يف مدح سيف الدولة أيضا ‪:‬‬
‫تص افحت في ه بيض اهلن د ب اللمم (‪)1‬؟‬ ‫أم ا ت رى ظف را حل وا س وى الظف ر‬
‫ففي ال بيت هن ا جماز لغ وي يف كلم ة «تص افحت» ي راد منه ا «تالقت» لعالق ة‬
‫املشاهبة ‪ ،‬والقرينة لفظية هي «بيض اهلند واللمم»‪.‬‬
‫وإذا تأملنا اجملاز اللغوي يف كل هذه األمثلة الثالثة رأينا أنه تضمن تشبيها حذف‬
‫منه لفظ املشبه واستعري بدله لفظ املشبه به ليقوم مقامه باّدعاء أن املشبه به هو عني املشبه‬
‫مبالغة‪.‬‬
‫فكل جماز من هذا النوع يسمى «استعارة» ‪ ،‬وملا كان املشبه به مص ّر حا به يف هذا‬
‫اجملاز مسي «استعارة تصرحيية»‪.‬‬
‫***‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬بيض اهلند ‪ :‬الس يوف ‪ ،‬واللمم ‪ :‬مجع ة بكس ر الالم وتشديد امليم ‪ ،‬وهي الشعر اجملاور ش حمة األذن ‪،‬‬
‫ّمل‬
‫واملراد هبا هنا الرؤوس ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬ال ترى انتصارا حلوا لذيذا إال بعد معركة تتالقى فيها السيوف بالرؤوس‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫‪ 4‬ـ قال الشاعر دعبل اخلزاعي ‪:‬‬
‫ض حك «املش يب» برأس ه فبكى‬ ‫ال تعج يب ي ا س لم من رج ل‬
‫فاجملاز هنا يف كلمة «املشيب» حيث ش ّبه بإنسان على ختيل أن املشيب قد متثل يف‬
‫صورة إنسان ‪ ،‬مث حذف املشبه به «اإلنسان» ورمز له بشيء من لوازمه هو «ضحك»‬
‫الذي هو القرينة‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ قال الشاعر ‪:‬‬
‫ان‬ ‫اوف كلهّن أم‬ ‫وإذا «العناي ة» ال حظت ك عيوهنا من فاملخ‬
‫اجملاز اللغوي يف كلمة «العناية» ‪ ،‬فالذي يفهم من البيت أن الشاعر يريد أن يش ّبه‬
‫«العناية» بإنسان ‪ ،‬وأصل الكالم ‪ :‬العناية كامرأة الحظتك عيوهنا ‪ ،‬مث حذف املشبه به‬
‫«املرأة» فصار ‪ :‬العناية الحظتك عيوهنا ‪ ،‬على ختيل أن العناية قد متثلت يف صورة امرأة ‪،‬‬
‫مث رم ز للمش به ب ه احملذوف بش يء من لوازم ه ه و «الحظت ك عيوهنا» وال ذي ه و القرين ة‬
‫اليت متنع من إرادة املعىن احلقيقي‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ وقال احلجاج من خطبته يف أهل العراق ‪« :‬إين ألرى رؤوسا قد أينعت وحان‬
‫قطافها وإين لصاحبها»‪.‬‬
‫فاجملاز اللغ وي هن ا يف كلم ة «رؤوس ا» ‪ ،‬وأص ل الكالم على التش بيه «إين ألرى‬
‫رؤوسا كالثمرات قد أينعت وحان قطافها» مث حذف املشبه به وهو «الثمرات» ‪ ،‬فصار‬
‫الكالم «إين ألرى رؤوس ا ق د أينعت وح ان قطافه ا» على ختي ل أن ال رؤوس ق د متثلت يف‬
‫صورة مثار ‪ ،‬مث رمز للمشّبه به احملذوف بشيء من لوازمه هو «قد أينعت وحان قطافها»‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫وملا كان املشبه به يف هذا النوع من االستعارة حمتجبا مسيت «استعارة مكنية»‪.‬‬
‫من ه ذه األمثل ة وش رحها يتض ح م ا س بق أن ذكرن اه من أن االس تعارة من حيث‬
‫ذكر أحد طرفيها نوعان ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ االستعارة التصرحيية ‪ :‬وهي ما ص ّر ح فيها بلفظ املش ّبه به ‪ ،‬أو ما استعري فيها‬
‫لفظ املشبه به للمشبه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االستعارة املكنية ‪ :‬وهي ما حذف فيها املشبه به أو املستعار منه ‪ ،‬ورمز له‬
‫بشيء من لوازمه‪.‬‬

‫إجراء االستعارة‬
‫يقص د ب إجراء االس تعارة حتليله ا إىل عناص رها األساس ية ال يت تت ألف منه ا‪ .‬وه ذا‬
‫التحليل يتطلب تعيني ك ّل من املشبه واملشبه به يف االستعارة ‪ ،‬وعالقة املشاهبة أو الصفة‬
‫اليت جتمع بني طريف التشبيه ‪ ،‬ونوع االستعارة ‪ ،‬وكذلك نوع القرينة اليت متنع من إرادة‬
‫املعىن احلقيقي ‪ ،‬واليت تكون أحيانا لفظية وأحيانا حالية تفهم من سياق الكالم‪.‬‬
‫وفيم ا يلي إج راء لبعض االس تعارات حيّلله ا ويوّض ح العناص ر الرئيس ية ال يت تت ألف‬
‫منها ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال ابن املعتز ‪:‬‬
‫ماحا‬ ‫ا الس‬ ‫ل وأحي‬ ‫ل البخ‬ ‫قت‬ ‫ام‬ ‫ا يف إم‬ ‫مجع احلق لن‬
‫يف ال بيت اس تعارتان األوىل منهم ا يف «قت ل البخ ل» حيث ش ّبه جتنب ك ل مظ اهر‬
‫البخل ‪ ،‬وهو املشبه ‪ ،‬بالقتل ‪ ،‬وهو املشبه به ‪ ،‬جبامع الزوال يف كل ‪ ،‬والقرينة اليت متنع‬
‫من إرادة املعىن احلقيقي هي لفظة «البخل»‪ .‬وألن‬

‫‪179‬‬
‫املشّبه به وهو «القتل» مصّر ح به تسمى هذه االستعارة «تصرحيية»‪.‬‬
‫واالستعارة الثانية يف البيت هي «أحيا السماحا» ‪ ،‬حيث ش ّبه جتديد وانبعاث ما‬
‫اندثر من عادة الكرم ‪ ،‬وهو املشبه ‪ ،‬باإلحياء ‪ ،‬وهو املشبه به ‪ ،‬جبامع اإلجياد بعد العدم‬
‫يف ك ل ‪ ،‬والقرين ة هن ا لفظي ة وهي «الس ماحا»‪ .‬وألن املش به ب ه «اإلحي اء» مص ّر ح ب ه‬
‫فاالستعارة «تصرحيية»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وقال الشاعر يف وصف مزين ‪:‬‬
‫اء النعيم‬ ‫هم‬ ‫اض على الوج‬ ‫أف‬ ‫ه‬ ‫ربق يف كف‬ ‫إذا ملع ال‬
‫يف هذا البيت شّبه املوسى بالربق جبامع اللمعان يف كل ‪ ،‬واستعري اللفظ الداّل على‬
‫املشبه به وهو «الربق» للمشبه وهو «املوسى» ‪ ،‬والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي‬
‫لفظية وهي «يف كفه»‪ .‬وملا كان املشبه به «الربق» مصّر حا به فاالستعارة تصرحيية‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 3‬ـ قال أبو خراش اهلذيل ‪:‬‬
‫ع‬ ‫ة ال تنف‬ ‫ل متيم‬ ‫رت ك‬ ‫أبص‬ ‫ا‬ ‫بت أظفاره‬ ‫ة أنش‬ ‫وإذا املني‬
‫يف ه ذا ال بيت ش ّبهت «املني ة» حبي وان مف رتس جبامع إزه اق روح من يق ع علي ه‬
‫كالمها ‪ ،‬مث حذف املشبه به «احليوان املفرتس» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «أنشبت‬
‫أظفاره ا» ‪ ،‬والقرين ة لفظي ة وهي إثب ات األظف ار للمنّي ة‪ .‬واالس تعارة هن ا «مكني ة» ألن‬
‫املشبه به قد حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وقال أبو العتاهية يهىنء املهدي باخلالفة ‪:‬‬
‫ه جتّر ر أذياهلا‬ ‫إلي‬ ‫ادة‬ ‫ة منق‬ ‫ه اخلالف‬ ‫أتت‬

‫‪180‬‬
‫ش ّبهت «اخلالفة» هنا بغادة ترتدي ثوبا طويل الذيل جبامع هباء املنظر واحلسن يف‬
‫كل ‪ ،‬مث حذف املشبه به «الغادة» ورمز إليها بشيء من لوازمها وهو «أتته منقادة» ‪،‬‬
‫والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي لفظية ‪ ،‬وهي «جترر أذياهلا» أو إثبات جترير األذيال‬
‫للخالفة‪ .‬ونوع االستعارة «مكنية» وذلك حلذف املشبه به والرمز إليه بشيء من لوازمه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ وقال السري الرفاء ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وكم للع وايل بينه ا من مس احب‬ ‫م واطن مل يس حب هبا الغّي ذيل ه‬
‫ففي هذا البيت ش ّبه «الغّي » بإنسان جبامع أن كليهما يقود إىل الزلل ‪ ،‬مث حذف‬
‫املشبه به «اإلنسان» ورمز إليه بشيء من لوازمه ‪ ،‬وهو «يسحب ذّيله» ‪ ،‬والقرينة املانعة‬
‫من إرادة املعىن األصلي لفظية ‪ ،‬وهي «إثبات سحب الذيل للغي»‪.‬‬
‫وملا كان املشبه به قد حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه فاالستعارة «مكنية»‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ االستعارة األصلية والتبعية‬


‫ويقسم البالغيون االستعارة تقسيما آخر باعتبار لفظها إىل أصلية وتبعية‪.‬‬
‫أ ـ فاالستعارة األصلية ‪ :‬هي ما كان اللفظ املستعار أو اللفظ الذي جرت فيه امسا‬
‫جامدا غري مشتق‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الع وايل ‪ :‬مجع عالي ة وهي الرم اح ‪ ،‬واملع ىن ‪ :‬إن ه ذه األم اكن ط اهرة من ش رور الغواي ة ‪ ،‬وإهنا من ازل‬
‫شجعان طاملا جرت فيها الرماح‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫‪ 1‬ـ مثال ذلك لفظة «كوكبا» يف قول التهامي الشاعر راثيا ابنا صغريا له ‪:‬‬
‫وك ذاك عم ر ك واكب األس حار‬ ‫ي ا «كوكب ا» م ا ك ان أقص ر عم ره‬
‫ففي إجراء هذه االستعارة يقال ‪ :‬شّبه االبن «بالكوكب» جبامع صغر اجلسم وعلو‬
‫الشأن يف كل ‪ ،‬مث استعري اللفظ ال ّد ال على املشبه به «الكوكب» للمشبه «االبن» على‬
‫سبيل االستعارة التصرحيية ‪ ،‬وذلك للتصريح فيها بلفظ املشبه به‪ .‬والقرينة نداؤه‪.‬‬
‫وإذا تأملن ا اللف ظ املس تعار وه و «الك وكب» رأين اه امسا جام دا غ ري مش تق ‪ ،‬ومن‬
‫أجل ذلك يسمى هذا النوع من االستعارة «استعارة أصلية»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ومثاله أيضا لفظة «القيان» يف قول الشاعر ‪:‬‬
‫ين‬ ‫ان» وهي تغ‬ ‫د مسعن «القي‬ ‫ق‬ ‫جار‬ ‫ها على األش‬ ‫ول أعشاش‬ ‫ح‬
‫ويف إج راء ه ذه االس تعارة أيض ا يق ال ‪ :‬ش ّبهت الطي ور املغ ردة على األش جار‬
‫«بالقيان» أي املغنيات جبامع حسن الصوت يف كل ‪ ،‬مث استعري اللفظ الّد ال على املشبه به‬
‫«القي ان» للمش به «الطي ور» على س بيل االس تعارة التص رحيية ‪ ،‬والقرين ة املانع ة من إرادة‬
‫املعىن األصلي قوله ‪« :‬حول أعشاشها على األشجار»‪.‬‬
‫وإذا تأملن ا اللف ظ املس تعار وه و «القي ان» مجع قين ة رأين اه امسا جام دا غ ري مش تق‪.‬‬
‫وهلذا يسمى هذا النوع من االستعارة اليت يكون فيها اللفظ املستعار امسا جامدا «استعارة‬
‫أصلية»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ومن االستعارة األصلية كذلك لفظة «حديقة» يف قول املتنيب ‪:‬‬
‫س قاها احلج ا س قي الري اض الس حائب‬ ‫محلت إلي ه من لس اين «حديق ة»‬

‫‪182‬‬
‫فاالس تعارة هن ا يف لفظ ة «حديق ة» ‪ ،‬ويف إج راء االس تعارة يق ال ‪ :‬ش ّبه الش عر‬
‫«باحلديقة» جبامع اجلمال يف كل ‪ ،‬مث استعري اللفظ الّد ال على املشبه به «احلديقة» للمشبه‬
‫«الشعر» على سبيل االستعارة التصرحيية ‪ ،‬وذلك للتصريح فيها بلفظ املشبه به‪ .‬والقرينة‬
‫«من لساين وسقاها احلجا»‪.‬‬
‫وإذا تأملنا اللفظ املستعار وهو «احلديق ة» رأيناه كذلك امسا جام دا غري مشتق ‪،‬‬
‫ومن أجل ذلك تسمى «استعارة أصلية»‪.‬‬
‫ومن إجراء هذه االستعارات وحتليلها يتجلى لنا أمران ‪ :‬األول أنه قد صّر ح يف كل‬
‫استعارة بلفظ املشبه به ‪ ،‬وهلذا تسمى االستعارة «تصرحيية» ‪ ،‬والثاين أن اللفظ املستعار‬
‫اسم جامد غري مشتق ‪ ،‬وبسبب ذلك تسمى االستعارة «أصلية»‪.‬‬
‫ومن أج ل ذل ك تس مى ه ذه االس تعارات وأمثاهلا مما يت وافر ل ه ه ذا األم ر أن‬
‫«استعارة تصرحيية أصلية»‪.‬‬
‫***‬
‫ب ـ االس تعارة التبعي ة ‪ :‬وهي م ا ك ان اللف ظ املس تعار أو اللف ظ ال ذي ج رت في ه‬
‫االستعارة امسا مشتقا أو فعال‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ مثال ذلك لفظة «سكت» من قوله تعاىل ‪َ( :‬و َلَّم ا َس َك َت َعْن ُموَس ى اْلَغَض ُب‬
‫َأَخ َذ اَأْلْلواَح َو ِفي ُنْس َخ ِتها ُه دًى َو َر ْح َم ٌة‪).‬‬
‫ففي ه ذه اآلي ة الكرمية اس تعارة تص رحيية ‪ ،‬وذلك للتص ريح فيه ا بلف ظ املشبه به ‪،‬‬
‫ويف إجرائها نقول ‪ :‬شبه انتهاء الغضب عن موسى «بالسكوت» جبامع اهلدوء يف كل ‪،‬‬
‫مث استعري اللفظ الّد ال على املشبه به وهو «السكوت» للمشبه وهو «انتهاء الغضب» ‪ ،‬مث‬
‫اشتق من «السكوت» مبعىن انتهاء الغضب «سكت» الفعل مبعىن انتهى‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫‪ 2‬ـ ومثاهلا أيضا لفظة «عانقت» يف قول البحرتي يصف قصرا ‪:‬‬
‫ش رفاته قط ع الس حاب املمط ر‬ ‫مألت جوانب ه الفض اء وع انقت‬
‫ففي هذا البيت استعارة تصرحيية ‪ ،‬وذلك للتصريح فيها بلفظ املش ّبه به ‪ ،‬واللفظ‬
‫املستعار هو فعل «عانقت» ‪ ،‬ويف إجراء االستعارة نقول ‪:‬‬
‫ش بهت املالمس ة «باملعانق ة» جبامع االتص ال يف ك ل ‪ ،‬مث اس تعري اللف ظ ال دال على‬
‫املشبه به وهو «املعانقة» للمشبه وهو «املالمسة» ‪ ،‬مث اشتق من «املعانقة» مبعىن املالمسة‬
‫الفع ل «ع انقت» مبع ىن المس ت‪ .‬والقرين ة ال يت متن ع من إرادة املع ىن األص لي لفظي ة وهي‬
‫«شرفاته»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ومن أمثلتها كذلك لفظ «لبس» من قول ابن الرومي ‪:‬‬
‫ولبس ت ث وب الله و وه و جدي د‬ ‫بل د ص حبت ب ه الش بيبة والّص با‬
‫ففي لفظة «لبس» أوال استعارة تصرحيية ‪ ،‬وذلك للتصريح فيها بلفظ املشبه به ‪،‬‬
‫واللف ظ املس تعار هن ا ه و فع ل «لبس» ‪ ،‬ويف إج راء االس تعارة نق ول ‪ :‬ش ّبه فيه ا التمت ع‬
‫باللهو «باللبس» للثوب اجلديد جبامع السرور يف كل ‪ ،‬مث استعري اللفظ ال ّد ال على املشبه‬
‫به وهو «اللبس» للمشبه وهو التمتع باللهو ‪ ،‬مث اشتق من «اللبس» الفعل «لبس» مبعىن‬
‫متتع‪ .‬والقرينة اليت متنع من إرادة املعىن األصلي لفظية وهي «ثوب اللهو»‪.‬‬
‫***‬
‫وإذا وازّن ا بني إج راء االس تعارات الثالث األخ رية وإج راء االس تعارات الثالث‬
‫األوىل ‪ ،‬رأين ا أن اإلج راء هن ا ال ينتهي عن د اس تعارة املش به ب ه للمش به كم ا انتهى يف‬
‫االستعارات الثالث األوىل ‪ ،‬بل يزيد عمال‬

‫‪184‬‬
‫آخ ر ‪ ،‬وه و اش تقاق كلم ة من املش به ب ه ‪ ،‬وأن ألف اظ االس تعارة هن ا مش تقة ال جام دة‪.‬‬
‫وهذا النوع من االستعارة يسمى «باالستعارة التبعية» ‪ ،‬ألن جرياهنا يف املشتق كان تابعا‬
‫جلرياهنا يف املصدر‪.‬‬
‫***‬
‫وإذا رجعنا إىل املثال األول من األمثلة الثالثة األخرية وهو «وملا سكت عن موسى‬
‫الغضب» فإننا نرى أنه جيوز أن يشّبه «الغضب» بإنسان ‪ ،‬مث حيذف املشبه به «اإلنسان»‬
‫ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «سكت» ‪ ،‬فتكون يف «الغضب» استعارة «مكنية»‪.‬‬
‫وإذا رجعنا إىل املثال الثاين منها وهو «وعانقت شرفاته قطع السحاب املمطر» فإننا‬
‫ن رى أن ه جيوز أيض ا أن تش به «ش رفات القص ر» بإنس ان مث حيذف املش به ب ه «اإلنس ان»‬
‫ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «عانقت» ‪ ،‬فتكون يف «شرفاته» استعارة «مكنية»‪.‬‬
‫وإذا رجعنا إىل املثال الثالث واألخري منها وهو «ولبست ثوب اللهو» فإننا نرى‬
‫كذلك أنه جيوز أن يشبه «اللهو» بإنسان له ثوب أعاره الشاعر مث حيذف املشبه به وهو‬
‫«اإلنسان» ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «الثوب»‪.‬‬
‫ومن ذل ك ن رى أن ك ل اس تعارة «تبعي ة» يص ّح أن يك ون يف قرينته ا اس تعارة‬
‫«مكنية» ‪ ،‬غري أنه ال جيوز لنا إجراء االستعارة إال يف واحدة منهما ال يف كلتيهما معا‪.‬‬
‫وبع د ‪ ...‬فلع ّل من املفي د هن ا أن نع ود فنلخص القواع د اخلاص ة هبذا القس م من‬
‫االستعارة زيادة يف اإليضاح ومتكينا من اإلملام هبا‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫‪ 1‬ـ يقّس م البالغيون االستعارة تقسيما آخر باعتبار لفظها إىل أصلية وتبعية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االستعارة األصلية ‪ :‬هي ما كان اللفظ املستعار أو اللفظ الذي جرت فيه امسا‬
‫جامدا غري مشتق‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ االستعارة التبعية ‪ :‬هي ما كان اللفظ املستعار أو اللفظ الذي جرت فيه امسا‬
‫مشتقا أو فعال‪ .‬وتسمى تبعية ألن جرياهنا يف املشتق يكون تابعا جلرياهنا يف املصدر‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ كل استعارة تبعية قرينتها استعارة مكنية ‪ ،‬وإذا أجريت االستعارة يف واحدة‬
‫منهما امتنع إجراؤها يف األخرى‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ االستعارة باعتبار المالئم‬


‫ذكرن ا فيم ا س بق أن االس تعارة تنقس م باعتب ار طرفيه ا إىل تص رحيية ومكني ة ‪،‬‬
‫وباعتبار اللف ظ املس تعار إىل أص لية وتبعي ة ‪ ،‬وهنا نذكر أهنا تقسم باعتبار املالئم تقس يما‬
‫ثالثا إىل مرشحة ‪ ،‬وجمردة ‪ ،‬ومطلقة‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ فاالستعارة المرشحة ‪ :‬هي ما ذكر معها مالئم املشبه به ‪ ،‬أي املستعار منه‪.‬‬
‫ومن أمثل ة ه ذا الن وع قول ه تع اىل ‪ُ( :‬أولِئ َك اَّل ِذ يَن اْش َتَرُو ا الَّض الَلَة ِباْلُه دى َفم ا‬
‫َر ِبَح ْت ِتجاَر ُتُه ْم ‪).‬‬
‫ففي هذه اآلية الكرمية استعارة تصرحيية يف لفظة «اشرتوا» فقد استعري «االشرتاء»‬
‫«لالختيار» جبامع أحسن الفائدة يف كل ‪ ،‬والقرينة اليت متنع من إرادة املعىن األصلي لفظية‬
‫وهي «الضاللة»‪.‬‬
‫وإذا تأملنا هذه االستعارة رأينا أنه قد ذكر معها شيء يالئم املشبه‬

‫‪186‬‬
‫به «االشرتاء» ‪ ،‬وهذا الشيء هو «فما رحبت جتارهتم»‪ .‬ومن أجل ذلك تسمى «استعارة‬
‫مرشحة» ‪..‬‬
‫ومن أمثلة االستعارة املرشحة أيضا قول الشاعر ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ا‬ ‫اخ بآخرين‬ ‫ه أن‬ ‫كالكل‬ ‫إذا م ا ال دهر ج ّر على أن اس‬
‫ففي هذا البيت استعارة مكنية يف «الدهر» فقد شبه الدهر جبمل مث حذف املشبه‬
‫ب ه «اجلم ل» ورم ز إلي ه بش يء من لوازم ه وه و «الكالك ل» ‪ ،‬وق د متت هلذه االس تعارة‬
‫قرينتها وهي «إثبات الكالكل للدهر»‪.‬‬
‫وإذا تأملنا هذه االستعارة املكنية اليت استوفت قرينتها رأينا أهنا قد ذكر معها شيء‬
‫يالئم املش به ب ه «اجلم ل» ‪ ،‬وه ذا الش يء ه و «أن اخ بآخرين ا»‪ .‬وهلذا تس مى اس تعارة‬
‫«مرشحة»‪.‬‬
‫من ذلك يتضح أن االستعارة سواء أكانت تصرحيية أم مكنية إذا استوفت قرينتها‬
‫وذكر معها ما يالئم املشبه به فإهنا تسمى استعارة «مرشحة»‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 2‬ـ واالستعارة المجردة ‪ :‬هي ما ذكر معها مالئم املشبه ‪ ،‬أي املستعار له‪.‬‬
‫أ ـ ومن أمثلة ذلك قول القائل ‪« :‬ال تتفكهوا بأعراض الناس ‪ ،‬فشّر اخللق الغيبة»‪.‬‬
‫ففي قوله ‪« :‬ال تتفكهوا» استعارة تصرحيية تبعية ‪ ،‬فقد شّبه فيها‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الكالكل ‪ :‬مجع كلكل وهو الصدر ‪ ،‬واملعىن ‪ :‬أن عادة الدهر تكدير العيش ‪ ،‬فهو يصيب قوما بأذاه ‪ ،‬مث‬
‫ينتقل إىل إصابة غريهم‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫«التكلم يف األعراض» «بالتفكه» جبامع أن بعض النفوس قد متيل إىل كل ‪ ،‬مث اشتق من‬
‫«التفكه» تفكه مبعىن تكلم يف العرض ‪ ،‬والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي لفظية وهي‬
‫«بأعراض الناس»‪.‬‬
‫وإذا تأملن ا االس تعارة رأين ا أن ه ق د ذك ر معه ا ش يء يالئم املش به «التكلم يف‬
‫األع راض» ‪ ،‬وه ذا الش يء ه و «فش ّر اخلل ق الغيب ة» وهلذا الس بب يق ال إن االس تعارة‬
‫«جمردة»‪.‬‬
‫ب ـ ومن أمثلة االستعارة اجملردة أيضا قول سعيد بن محيد ‪:‬‬
‫ف إذا م ا وىف قض يت ن ذوري‬ ‫ارة ليال‬ ‫در» بالزي‬ ‫د «الب‬ ‫وع‬
‫ففي ال بيت اس تعارة تص رحيية أص لية يف كلم ة «الب در» حيث ش بهت احملبوب ة‬
‫«بالبدر» جبامع احلسن يف كل ‪ ،‬مث استعري املشبه به «البدر» للمشبه «احملبوبة» على سبيل‬
‫االس تعارة التص رحيية األص لية‪ .‬والقرين ة املانع ة من إرادة املع ىن األص لي هن ا لفظي ة ‪ ،‬وهي‬
‫«وعد»‪.‬‬
‫فاالستعارة قد استوفت قرينتها ‪ ،‬ولكن إذا تأملناها رأينا أنه قد ذكر معها شيء‬
‫يالئم املشبه «احملبوبة» ‪ ،‬وهذا الشيء هو «الزيارة والوفاء هبا»‪ .‬ولذكر مالئم املشبه مع‬
‫االستعارة تسمى استعارة «جمردة»‪.‬‬
‫ج ـ ومن أمثله ا ك ذلك ق ول القائ ل ‪« :‬رحم اهلل ام رأ أجلم نفس ه بإبعاده ا عن‬
‫شهواهتا»‪.‬‬
‫ففي لفظة «نفسه» استعارة مكنية ‪ ،‬فقد ش ّبهت «النفس» «جبواد» جبامع أن كاّل‬
‫منهم ا يكبح ‪ ،‬مث ح ذف املش به ب ه «اجلواد» ورم ز إلي ه بش يء من لوازم ه وه و «أجلم»‪.‬‬
‫والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي هي «إثبات اإلجلام للنفس»‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫وإذا تأملنا هذه االستعارة اليت استوفت قرينتها رأينا أهنا تشتمل باإلضافة إىل ذلك‬
‫على شيء يالئم املشبه «النفس» وذلك الشيء هو «إبعادها عن شهواهتا»‪ .‬فذكر اإلبعاد‬
‫عن الشهوات وهو مالئم املشبه جتريد‪ .‬ومن أجل ذلك تسمى االستعارة «جمردة»‪.‬‬
‫وهك ذا يتض ح من حتلي ل االس تعارات الثالث الس ابقة ‪ ،‬أن االس تعارة مطلق ا إذا‬
‫استوفت قرينتها وذكر معها ما يالئم املشبه فإن االستعارة بسبب ذلك تسمى استعارة‬
‫«جمردة»‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 3‬ـ واالس تعارة المطلق ة ‪ :‬هي م ا خلت من مالئم ات املش به ب ه واملش به ‪ ،‬وهي‬
‫كذلك ما ذكر معها ما يالئم املشبه به واملشبه معا‪.‬‬
‫أ ـ فمن أمثل ة االس تعارة املطلق ة قول ه تع اىل ‪ِ( :‬إَّن ا َلَّم ا َطَغى اْلم اُء َحَم ْلن اُك ْم ِفي‬
‫اْلجاِر َي ِة‪ ).‬ففي لفظ ة «طغى» اس تعارة تص رحيية تبعي ة ‪ ،‬فق د ش ّبه فيه ا «الزي ادة»‬
‫«بالطغيان» جبامع جتاوز احلد يف كل ‪ّ ،‬مث اشتّق من «الطغيان» الفعل طغى مبعىن زاد على‬
‫س بيل االس تعارة التص رحيية التبعي ة‪ .‬والقرين ة املانع ة من إرادة املع ىن األص لي لفظي ة وهي‬
‫«املاء»‪.‬‬
‫وإذا تأملن ا ه ذه االس تعارة بع د اس تيفاء قرينته ا رأيناه ا خالي ة مما يالئم املش به ب ه‬
‫واملشبه‪ .‬وهلذا تسمى استعارة «مطلقة»‪.‬‬
‫ب ـ ومن أمثلتها أيضا قول املتنيب خياطب ممدوحه ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ليث الش رى ي ا محام ي ا رج ل‬ ‫ي ا ب در ي ا حبر ي ا غمام ة ي ا‬
‫ففي هذا البيت استعارة تصرحيية يف كل من ‪« :‬بدر» و «حبر»‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الشرى ‪ :‬مكان يف جزيرة العرب يوصف بكثرة األسود ‪ ،‬واحلمام بكسر احلاء ‪ :‬املوت‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫و «غمامة» و «ليث الشرى» و «محام»‪ .‬فاملشبه هنا املمدوح ‪ ،‬واملشبه به هو «البدر»‬
‫مرة ‪ ،‬و «البحر» مرة ثانية ‪ ،‬و «الغمامة» مرة ثالثة ‪ ،‬و «ليث الشرى» مرة رابعة ‪ ،‬و‬
‫«احلمام» مرة خامسة‪ .‬والقرينة يف كل استعارة هي النداء‪.‬‬
‫إذا تأملن ا ك ل اس تعارة من ه ذه االس تعارات بع د اس تيفاء قرينته ا رأيناه ا ك ذلك‬
‫خالية مما يالئم املشبه به واملشبه‪ .‬وهلذا السبب تسمى استعارة «مطلقة»‪.‬‬
‫ج ـ ومن أمثلة االستعارة املطلقة كذلك قول قريظ بن أنيف ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ط اروا إلي ه زراف ات ووح دانا‬ ‫ق وم إذا الش ر أب دى ناجذي ه هلم‬
‫ففي لفظ ة «الش ر» اس تعارة مكني ة ‪ ،‬ويف إجرائه ا يق ال ‪ :‬ش به الش ر «حبي وان‬
‫مفرتس» ‪ّ ،‬مث حذف املشبه به «احليوان املفرتس» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «أبدى‬
‫ناجذيه»‪ .‬والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي هي «إثبات إبداء الناجذين للشر»‪.‬‬
‫وهذه االستعارة اليت استوفت قرينتها قد خلت من كل ما يالئم املشبه واملشبه به ‪،‬‬
‫ومن أجل ذلك تسمى استعارة «مطلقة»‪.‬‬
‫د ـ ومن أمثلتها كذلك قول كثري عزة ‪:‬‬
‫ظ واهر جل دي وه و للقلب ج ارح‬ ‫رمت ين «بس هم» ريش ه الكح ل مل يض ر‬
‫ففي لفظة «سهم» استعارة تصرحيية أصلية ‪ ،‬ويقال يف إجرائها ‪ :‬شبه «الطرف»‬
‫بسكون الطاء «بالسهم» جبامع اإلصابة بالضرر واألذى ‪ّ ،‬مث‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الناجذان ‪ :‬النابان ‪ ،‬وإبداء الشر ناجذيه كناية عن شدته وحدته‬

‫‪190‬‬
‫اس تعري اللف ظ ال دال على املش به ب ه وه و «الس هم» للمش به وه و «الط رف» على س بيل‬
‫االس تعارة التص رحيية األص لية‪ .‬والقرين ة املانع ة من إرادة املع ىن األص لي لفظي ة وهي‬
‫«الكحل»‪.‬‬
‫وإذا تدبرنا هذه االستعارة اليت استوفت قرينتها رأينا أّنه قد اقرتن هبا مالئم للمشبه‬
‫به «السهم» وهو «الريش» ‪ ،‬وكذلك مالئم للمشبه «الطرف» وهو «الكحل»‪ .‬وهلذا‬
‫السبب الذي يتمثل يف اقرتان االستعارة مبا يالئم املشبه به واملشبه معا تسمى االستعارة‬
‫أيضا «مطلقة»‪.‬‬
‫وهكذا يتضح من حتليل االستعارة يف األمثلة السابقة أيضا أّن االستعارة مطلقا إذا‬
‫اس توفت قرينته ا يق ال هلا اس تعارة «مطلق ة» يف ح الني ‪ :‬األوىل إذا خلت من مالئم ات‬
‫املشبه به واملشبه ‪ ،‬والثانية إذا ذكر معها ما يالئمها معا‪.‬‬
‫هذا وجتدر اإلشارة هنا إىل أّن الرتشيح أبلغ من التجريد واإلطالق ‪ ،‬الشتماله على‬
‫حتقيق املبالغة يف االستعارة ‪ ،‬وهلذا كان مبىن الرتشيح على أساس تناسي التشبيه والتصميم‬
‫على إنك اره إىل درج ة اس تعارة الص فة احملسوس ة للمعن وي وجعله ا كأهّن ا ثابت ة ل ذلك‬
‫املعنوي حقيقة ‪ ،‬وكأّن االستعارة مل توجد أصال ‪ ،‬وذلك كقول أيب متام ‪:‬‬
‫ماء‬ ‫ة يف الس‬ ‫ه حاج‬ ‫ويص عد ح ىت يظن اجله ول ب أّن ل‬
‫فقد استعار لفظ العلو احملسوس لعلو املنزلة ‪ ،‬ووضع الكالم وضع من يذكر علوا‬
‫مكاني ا ‪ ،‬ول و ال أّن قص ده أن يتناس ى التش بيه ويص مم على إنك اره فيجعل ه ص اعدا يف‬
‫السماء من حيث املسافة املكانية ملا كان هلذا الكالم وجه (‪.)1‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر كتاب اإليضاح للقزويين ص ‪ 217‬ـ ‪.219‬‬

‫‪191‬‬
‫ه ذا وفيم ا يلي جتمي ع للمتف رق هن ا من القواع د البالغي ة املتص لة هبذا الن وع من‬
‫االستعارة ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تنقسم االستعارة باعتبار املالئم إىل مرشحة وجمردة ومطلقة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االستعارة املرشحة ‪ :‬ما ذكر معها مالئم املشبه به ‪ ،‬أي املستعار منه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ االستعارة اجملردة ‪ :‬ما ذكر معها مالئم املشبه ‪ ،‬أي املستعار له‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ االستعارة املطلقة ‪ :‬ما خلت من مالئمات املشبه به واملشبه ‪ ،‬وكذلك ما ذكر‬
‫معها ما يالئمهما معا‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ال يعترب الرتشيح أو التجريد إاّل بعد استيفاء االستعارة لقرينتها لفظية أو حالية‬
‫‪ ،‬ومن أجل ذلك ال تسمى قرينة التصرحيية جتريدا ‪ ،‬وال قرينة املكنية ترشيحا‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ االستعارة التمثيلية‬


‫تنقسم االس تعارة من حيث اإلفراد وال رتكيب إىل مف ردة ومركبة‪ .‬ف املفردة هي م ا‬
‫كان املستعار فيها لفظا مفردا كما هو الشأن يف االستعارة التصرحيية واملكنية‪.‬‬
‫أّم ا املركبة فهي ما كان املستعار فيها تركيبا ‪ ،‬وهذا النوع من االستعارة يطلق عليه‬
‫البالغيون اسم «االستعارة التمثيلية»‪ .‬وهم يعرفوهنا بقوهلم ‪« :‬االستعارة التمثيلية تركيب‬
‫استعمل يف غري ما وضع له لعالقة املشاهبة مع قرينة مانعة من إرادة املعىن األصلي»‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫واس تجالء حلقيق ة ه ذه االس تعارة ن ورد فيم ا يلي بعض األمثل ة هلا معّق بني عليه ا‬
‫بالشرح والتحليل‪.‬‬
‫***‬
‫األمثلة ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال املتنيب ‪:‬‬
‫زالال‬ ‫ه املاء ال‬ ‫ّر ا ب‬ ‫جيد م‬ ‫ريض‬ ‫ومن ي ك ذا فم م ّر م‬
‫«يقال ملن مل يرزق الذوق لفهم الشعر الرائع»‪.‬‬
‫فه ذا ال بيت ي دل وض عه احلقيقي على أّن املريض ال ذي يص اب مبرارة يف فم ه إذا‬
‫ش رب املاء الع ذب وج ده م را‪ .‬ولكن املتن يب مل يس تعمله يف ه ذا املع ىن ب ل اس تعمله فيمن‬
‫يعيبون شعره لعيب يف ذوقهم الشعري ‪ ،‬وضعف يف إدراكهم األديب ‪ ،‬فهذا الرتكيب جماز‬
‫قرينته حالية ‪ ،‬وعالقته املشاهبة ‪ ،‬واملشبه هنا حال املولعني بذمه واملشبه به حال املريض‬
‫الذي جيد املاء الزالل مرا يف فمه‪.‬‬
‫ولذلك يقال يف إجراء هذه االستعارة ‪ :‬شبهت حال من يعيبون شعر املتنيب لعيب‬
‫يف ذوقهم الشعري حبال املريض الذي جيد املاء العذب الزالل مرا يف فمه جبامع الّس قم يف‬
‫ك ّل منهم ا ‪ّ ،‬مث اس تعري ال رتكيب ال دال على املش به ب ه للمش به على س بيل االس تعارة‬
‫التمثيلية‪ .‬والقرينة اليت متنع من إرادة املعىن األصلي قرينة حالية تفهم من سياق الكالم‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 2‬ـ قال الشاعر ‪:‬‬
‫ليم البالد‬ ‫ه تس‬ ‫ون علي‬ ‫يه‬ ‫رب‬ ‫ري ح‬ ‫ك البالد بغ‬ ‫ومن مل‬

‫‪193‬‬
‫«يقال ملن يبعثر فيما ورثه عن والديه»‪.‬‬
‫فاملعىن احلقيقي للبيت هنا هو أّن من يستويل على بالد بغري تعب وقتال يهون عليه‬
‫تسليمها ألعدائه‪ .‬والشاعر مل يستعمل البيت يف هذا املعىن احلقيقي ‪ ،‬وإمّن ا استعمله جمازيا‬
‫للوارث الذي يبعثر فيما ورثه عن والديه لعالقة مشاهبة بينهما ولقرينة متنع من إرادة املعىن‬
‫احلقيقي‪.‬‬
‫إذن يف هذا الرتكيب الذي اشتمل عليه البيت استعارة ‪ ،‬وإذا شئنا إجراءها قلنا ‪:‬‬
‫ش بهت ح ال ال وارث ال ذي يبع ثر فيم ا ورث ه عن والدي ه حبال من اس توىل على بالد بغ ري‬
‫تعب وقتال فهان عليه تسليمها ألعدائه ‪ ،‬جبامع التفريط فيما ال يتعب يف حتصيله يف كل ‪،‬‬
‫ّمث اس تعري ال رتكيب ال دال على املش به ب ه للمش به على س بيل االس تعارة التمثيلي ة‪ .‬والقرين ة‬
‫حالية‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 3‬ـ ال تنثر الدر أمام اخلنازير‪.‬‬
‫«يقال ملن يقدم النصح ملن ال يفهمه أو ملن ال يعمل به»‪.‬‬
‫املعىن احلقيقي هلذا الرتكيب هو النهي عن نثر الدر أمام اخلنازير‪ .‬وهذا الرتكيب مل‬
‫يس تعمل للدالل ة على ه ذا املع ىن احلقيقي ‪ ،‬وإمّن ا اس تعمل جمازي ا ملن يق دم النص ح ملن ال‬
‫يفهمه أو ملن ال يعمل به ‪ ،‬لعالقة مشاهبة بينهما‪ .‬والقرينة متنع من إرادة املعىن احلقيقي‪.‬‬
‫فالرتكيب هنا استعاري ويف إجراء استعارته يقال ‪ :‬شبهت حال من يقدم النصح‬
‫ملن ال يفهم ه أو ملن ال يعم ل ب ه حبال من ين ثر ال دّر أم ام اخلن ازير ‪ ،‬جبامع أّن كليهم ا ال‬
‫ينتف ع بالش يء النفيس ال ذي ألقي إلي ه ‪ّ ،‬مث اس تعري ال رتكيب ال دال على املش به ب ه للمش به‬
‫على سبيل االستعارة‬

‫‪194‬‬
‫التمثيلية‪ .‬والقرينة اليت متنع من إرادة املعىن احلقيقي قرينة حالية تفهم من سياق الكالم‪.‬‬
‫***‬
‫‪ 4‬ـ قال املتنيب ‪:‬‬
‫تص يده الض رغام فيم ا تص يدا‬ ‫ومن جيع ل الض رغام للص يد ب ازه‬
‫«يقال مثال للتاجر اختار مشرفا على متجره فنهبه واغتاله»‪.‬‬
‫ف املعىن احلقيقي لل بيت أّن من اخّت ذ األس د وس يلة للص يد افرتس ه األس د يف مجل ة م ا‬
‫افرتس‪ .‬واملتنيب مل يستعمل البيت يف هذا املعىن احلقيقي ‪ ،‬وإمّن ا استعمله جمازيا للتاجر اختار‬
‫مشرفا على متجره فنهبه واغتاله ‪ ،‬لعالقة مشاهبة بني احلالني ‪ ،‬ولقرينة متنع من إرادة املعىن‬
‫احلقيقي‪.‬‬
‫وعلى هذا يكون البيت برتكيبه قد اشتمل على استعارة يقال يف إجرائها ‪ :‬شبهت‬
‫ح ال الت اجر اخت ار مش رفا على متج ره فنهب ه واغتال ه حبال من اخّت ذ األس د وس يلة للص يد‬
‫فافرتسه يف مجلة ما افرتس من الصيد ‪ ،‬جبامع سوء البصر مبا يستخدم ورجاء اخلري مما طبع‬
‫على الشر‪ّ .‬مث استعري الرتكيب الدال على املشبه به للمشبه على سبيل االستعارة التمثيلية‪.‬‬
‫والقرينة هنا كالقرائن السابقة حالية تفهم من سياق الكالم‪.‬‬
‫***‬
‫من ه ذا التحلي ل يتض ح أّن ك ل مث ال من األمثل ة الس ابقة ق د ت ألف من ت ركيب‬
‫استعمل يف غري معناه احلقيقي ‪ ،‬وأّن العالقة بني معناه اجملازي ومعناه احلقيقي هي املشاهبة‬
‫‪ ،‬وأّن هناك دائما قرينة متنع من إرادة املعىن‬

‫‪195‬‬
‫احلقيقي ‪ ،‬وأّن الرتكيب الذي تتوافر له كل هذه احلقائق يسمى استعارة متثيلية‪.‬‬
‫وما من شك يف أّن كل ذلك يوضح ويؤكد ما سبق أن ذكرناه يف مستهل هذا‬
‫املوضوع من أّن االستعارة التمثيلية هي تركيب استعمل يف غري ما وضع له لعالقة املشاهبة‬
‫مع قرينة مانعة من إرادة املعىن احلقيقي‪.‬‬

‫مكان االستعارة من البالغة‬


‫االستعارة صورة من صور التوسع واجملاز يف الكالم ‪ ،‬وهي من أوصاف الفصاحة‬
‫والبالغة العامة اليت ترجع إىل املعىن‪.‬‬
‫وإذا كان البالغيون ينظرون إىل اجملاز والتشبيه واالستعارة والكناية على أهّن ا عمد‬
‫اإلعجاز وأركانه ‪ ،‬وعلى أهّن ا األقطاب اليت تدور البالغة عليها ‪ ،‬وتوجب الفضل واملزية‬
‫‪ ،‬فإهّن م جيعلون اجملاز واالستعارة عنوان ما يذكرون وأّو ل ما يوردون‪.‬‬
‫وكم ا يق ول عب د الق اهر اجلرج اين إّن فض يلة االس تعارة اجلامع ة تتمث ل يف أهّن ا ت ربز‬
‫البي ان أب دا يف ص ورة مس تجدة تزي د ق دره نبال ‪ ،‬وت وجب ل ه بع د الفض ل فض ال ‪ ،‬وإّن ك‬
‫لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد ‪ ،‬حىت تراها مكررة يف مواضع ‪ ،‬وهلا يف كل‬
‫واحد من تلك املواضع شأن مفرد ‪ ،‬وشرف منفرد ‪...‬‬
‫ومن خصائصها اليت تذكر هبا ‪ ،‬وهي عنوان مناقبها ‪ :‬أهّن ا تعطيك الكثري من املعاين‬
‫باليس ري من اللف ظ ‪ ،‬ح ىت خترج من الص دفة الواح دة ع ّد ة من ال درر ‪ ،‬وجتين من الغص ن‬
‫الواحد أنواعا من الثمر ‪.)1( ...‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أسرار البالغة ص ‪ 32‬ـ ‪.33‬‬

‫‪196‬‬
‫ومن خصائصها كذلك التشخيص والتجسيد يف املعنويات ‪ ،‬وبث احلركة واحلياة‬
‫والنط ق يف اجلم اد ‪ ،‬وق د التفت اجلرج اين إىل ش يء من ذل ك بقول ه ‪« :‬فإّن ك ل رتى هبا‬
‫اجلماد حيا ناطقا ‪ ،‬واألعجم فصيحا ‪ ،‬واألجسام اخلرس مبينة ‪ ،‬واملعاين اخلفية بادية جلية‬
‫‪ ...‬وجتد التشبيهات على اجلملة غري معجبة ما مل تكنها ‪ ،‬إن شئت أرتك املعاين اللطيفة‬
‫ال يت هي من خباي ا العق ل كأهّن ا ق د جس مت ح ىت رأهتا العي ون ‪ ،‬وإن ش ئت لطفت‬
‫األوصاف اجلسمانية حىت تعود روحانية ال تناهلا إاّل الظنون ‪ ،‬وهذه إشارات وتلوحيات يف‬
‫بدائعها» (‪.)1‬‬
‫ِب‬ ‫ِل ِذ‬
‫يقول اهلل تعاىل يف تصوير العذاب الذي أع ّد ه للكافرين به ‪َ( :‬و َّل يَن َكَف ُر وا َر ِّبِه ْم‬
‫ِم‬ ‫ِه‬ ‫ِم‬ ‫ِف‬ ‫ِص‬ ‫ِب‬
‫َع ذاُب َجَه َّنَم َو ْئَس اْلَم يُر ‪ِ .‬إذا ُأْلُق وا يه ا َس ُعوا َله ا َش ِه يقًا َو َي َتُف وُر ‪َ .‬تك اُد َتَم َّيُز َن‬
‫( ‪)2‬‬
‫اْلَغْيِظ ُك َّلما ُأْلِق َي ِفيها َفْو ٌج َس َأَلُه ْم َخ َز َنُتها َأَلْم َيْأِتُك ْم َنِذ يٌر ؟‪).‬‬
‫«فالش هيق» يف اآلي ة الكرمية ق د اس تعري «للص وت الفظي ع» ومها لفظت ان و‬
‫«الشهيق» لفظة واحدة ‪ ،‬فهو أوجز على ما فيه من زيادة البيان‪ .‬و «متيز» استعري للفعل‬
‫«تنشق من غري تباين» واالستعارة أبلغ ‪ ،‬ألّن التميز يف الشيء هو أن يكون كل نوع منه‬
‫مباينا لغريه وصائرا على حّد ته ‪ ،‬وهو‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أسرار البالغة ص ‪.33‬‬
‫(‪ )2‬الشهيق ‪ :‬أصله الصوت املزعج كصوت احلمار ‪ ،‬واملراد به هنا «احلسيس» وهو الصوت اخلفي الناشىء‬
‫عن الف وران ‪ ،‬وه ذا الص وت حيدث ه اهلل س بحانه يف الن ار لش دة ازع اج الك افرين ‪ ،‬ومتيز ‪ :‬أص له تتم يز ‪ ،‬أي‬
‫تتقطع وينفصل بعضها عن بعض ‪ ،‬من الغيظ ‪ :‬أي من غيظها منهم ‪ ،‬والكالم كله متثيل لشدة غلياهنا انتظارا‬
‫هلم ‪ ،‬فوج ‪ :‬املراد هنا مجاعة من الكفرة ‪ ،‬واخلزنة ‪ :‬مجع خازن ‪ ،‬وهم املالئكة املوكلون جبهنم ‪ ،‬وقد وصفهم‬
‫اهلل يف آية أخرى بأهّن م مالئكة غالظ شداد ال يعصون اهلل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫أبل غ من االنش قاق ‪ ،‬ألّن االنش قاق ق د حيدث يف الش يء من غ ري تب اين‪ .‬واس تعارة‬
‫«الغيض» لش ّد ة الغلي ان أوج ز وأبل غ يف الدالل ة على املع ىن املراد ‪ ،‬ألّن مق دار ش ّد ته على‬
‫النفس مدرك حمسوس ‪ ،‬وألّن االنتقام الصادر عن املغيظ يقع على قدر غيظه ‪ ،‬ففيه بيان‬
‫عجيب وزجر شديد ال تقوم مقامه احلقيقة البتة (‪.)1‬‬
‫فاالس تعارات هن ا ق د حققت غرض ني من أغ راض االس تعارة مها اإلجياز والبي ان ‪،‬‬
‫كم ا تض افرت مع ا يف رسم نار جهنم وإبرازه ا يف ص ورة تنخلع القلوب من هوهلا رعبا‬
‫وفزع ا ‪ ،‬ص ورة خمل وق ض خم بط اش ‪ ،‬هائ ل جب ار ‪ ،‬مكفه ر الوج ه ع ابس يغلي ص دره‬
‫غيظا وحقدا‪.‬‬
‫فاالستعارة هي اليت لّو نت املعاين احلقيقية يف اآلية كل هذا التلوين ‪ ،‬وهي اليت بّثت‬
‫فيها كل هذا القدر من التأثري الذي ارتفع ببالغتها إىل حد اإلعجاز‪.‬‬
‫ومن خصائص االستعارة املبالغة يف إبراز املعىن املوهوم إىل الصورة املشاهدة كقوله‬
‫تعاىل يف اإلخبار عن الظاملني ومقاومتهم لرسالة رسوله ‪َ ( :‬ق ْد َك وا ْك ُه ِع ْنَد اِهلل‬
‫َو َم ُر َم َر ْم َو‬
‫َمْك ُر ُه ْم َو ِإْن كاَن َمْك ُر ُه ْم ِلَتُز وَل ِم ْنُه اْلِج باُل ) على قراءة من نصب «لتزول» بالم كي‪.‬‬
‫«فاجلبال» ههنا استعارة طوي فيه ذكر املستعار له وهو أمر الرسول ‪ ،‬ومعىن هذا‬
‫أّن أم ر الرس ول وم ا ج اء ب ه من اآلي ات املعج زات ق د ش به باجلب ال ‪ ،‬أي أهّن م مك روا‬
‫مكرهم لكي تزول منه هذه اآليات املعجزات اليت هي يف ثباهتا واستقرارها كاجلبال‪.‬‬
‫فجمال املبالغة الناشئة عن االستعارة هنا هو يف إخراج ما ال يدرك‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر كتاب الصناعتني ص ‪.271‬‬

‫‪198‬‬
‫إىل م ا ي درك باحلاس ة تعالي ا ب املخرب عن ه وتفخيم ا ل ه إذ ص ري مبنزل ة م ا ي درك ويش اهد‬
‫ويعاين‪.‬‬
‫وعلى ه ذا ورد قول ه تع اىل ‪ ( :‬الُّش را َّتِب اْلغا وَن َأَل َأَّن ِفي ُك ِّل واٍد‬
‫ْم َتَر ُه ْم‬ ‫َو َع ُء َي ُعُه ُم ُو‬
‫َيِه يُم وَن َو َأَّنُه ْم َيُقوُلوَن م ا ال َيْف َعُل وَن ‪ ).‬فاس تعار «األودي ة» للفن ون واألغ راض من املع اين‬
‫الشعرية اليت يقصدوهنا ‪ ،‬وإمّن ا خص األودية باالستعارة ومل يستعر الطرق واملسالك أو ما‬
‫جرى جمراها ‪ ،‬ألّن معاين الشعر تستخرج بالفكر والروية ‪ ،‬والفكر والروية فيهما خفاء‬
‫وغم وض ‪ ،‬فك ان اس تعارة األودي ة هلا أش به وألي ق إلب راز م ا ال حيس يف ص ورة م ا حيس‬
‫مبالغة وتأكيدا‪.‬‬
‫ومما ورد من االس تعارة يف األح اديث النبوي ة قول ه صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪« :‬ال‬
‫تستضيئوا بنار املشركني» فاستعار «النار» للرأي واملشورة ‪ ،‬أي ال هتتدوا برأي املشركني‬
‫وال تأخذوا مبشورهتم‪.‬‬
‫فرأي املشركني أمر معنوي يدرك بالعقل ومتثيله بالنار هو إظهار له يف صورة حمسة‬
‫خميف ة يب دو فيه ا رأي املش ركني ن ارا حترق ك ل من يالمس ها أو يأخ ذ هبا‪ .‬فالس ر يف ق ّو ة‬
‫تأثري هذه الصورة ومجاهلا راجع إىل مفعول االستعارة ‪ ،‬هذا املفعول الذي انتقل بالفكرة‬
‫من عامل املعاين إىل عامل املدركات مبالغة‪.‬‬
‫ومن خصائص االستعارة أيضا بث احلياة والنطق يف اجلماد كما ذكرنا آنفا كقوله‬
‫تعاىل ‪ُ( :‬ثَّم اْسَتوى ِإَلى الَّس ماِء َو ِه َي ُدخاٌن َفقاَل َلها َو ِلَأْلْر ِض اْئِتيا َطْو عًا َأْو َك ْر هًا قاَلتا َأَتْينا‬
‫ط اِئِعيَن ) فك ل من الس ماء واألرض مجاد حتول بالتوس ع ال ذي هيأت ه االس تعارة إىل إنس ان‬
‫حي ناطق‪.‬‬
‫وكقول الرسول وقد نظر يوما إىل «أحد» ‪« :‬هذا جبل حيبنا وحنبه» ‪،‬‬

‫‪199‬‬
‫فجبل أحد هذا اجلماد قد استحال بسحر االستعارة إىل إنسان جييش قلبه بعاطفة احلب‪.‬‬
‫ك ذلك من خصائص ها جتس يم األم ور املعنوي ة وذل ك بإبرازه ا للعي ان يف ص ورة‬
‫ش خوص وكائن ات حي ة يص در عنه ا ك ل م ا يص در عن الكائن ات احلي ة من حرك ات‬
‫وأعمال‪.‬‬
‫فأبو العتاهية يف هتنئة املهدي باخلالفة يقول من قصيدة ‪:‬‬
‫ه جترر أذياهلا‬ ‫إلي‬ ‫ادة‬ ‫ة منق‬ ‫ه اخلالف‬ ‫أتت‬
‫فاخلالف ة هن ا تس تحيل بفع ل االس تعارة إىل غ ادة هيف اء مدلل ة تع رض عن مجي ع من‬
‫فتنوا هبا إاّل املهدي فإهّن ا تقبل عليه طائعة يف دالل ومجال جتر أذياهلا تيها وخفرا‪.‬‬
‫وأبو فراس احلمداين عند ما يقول ‪:‬‬
‫مهمت ب أمر هم يل من ك زاج ر!‬ ‫وي ا «عف يت» م ايل؟ ومال ك؟ كلم ا‬
‫فما شأن عّف ة أيب فراس؟ وما شأن الصراع الناشب بينها وبينه؟ إهّن ا تستحيل بلمسة‬
‫من ملسات االستعارة السحرية إىل إنسان يقف موقف الزاجر كلما هم الشاعر بأمر تراه‬
‫العفة غري الئق به!‬
‫فهذه الصورة الرائعة اخلالبة املؤثرة ما كانت لتكون لو أّن الشاعر التزم يف التعبري‬
‫حدود احلقيقة وقال مثال ‪« :‬أنا ال أحاول ما يشني ألين رجل عفيف»‪.‬‬
‫واألفالك وهي مجاد وال دهر وه و أم ر معن وي م ا خربمها يف بيت الب ارودي ال ذي‬
‫يقول فيه ‪:‬‬
‫دهر‬ ‫ّر عت األفالك والتفت ال‬ ‫تف‬ ‫إذا اس تّل منهم س يد غ رب س يفه‬

‫‪200‬‬
‫فكل من «األفالك» و «الدهر» قد حتّو ل باالستعارة إىل كائن حي حساس‪ .‬فهاتان‬
‫االستعارتان قد أعانتا الشاعر على أن يرينا صورة األجرام السماوية حية حساسة ترتعد‬
‫خوفا وفزعا ‪ ،‬وصورة الدهر إنسانا يلتفت عجبا وذهوال كلما استّل سيد من قبيل الشاعر‬
‫املشهود هلم بالشجاعة والفروسية سيفه من غمده!‬
‫ه ذه الص ورة ال يت متوج باحلرك ة واالض طراب واحليوي ة واملش اعر املختلف ة من ف زع‬
‫وخوف ودهشة هي وليدة االستعارة اليت بالغ الشاعر يف استخدامها إىل حد جيعل املتملي‬
‫هلا يتواله الذهول من هول املنظر الذي يراه ماثال أمام عينيه!‬
‫***‬
‫وبعد ‪ ...‬فليس من قصدنا أن نعرض لكل صور االستعارة وخصائصها وأغراضها‬
‫‪ ،‬فهذا أمر يطول شرحه ويضيق املقام عنه هنا‪.‬‬
‫وحس بنا م ا ذكرن ا من خصائص ها لإلبان ة عن مكانته ا يف البالغ ة‪ .‬ولع ّل يف ه ذا‬
‫القدر ما يشوق الدارس ويستحثه للكشف بنفسه عن خصائصها األخرى ‪ ،‬والدور الذي‬
‫تؤديه يف صناعة الكالم وأثرها فيه‪.‬‬

‫‪201‬‬
202
‫المبحث الّر ابع‬

‫الكناية‬
‫الكناية يف اللغة مصدر كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به‪ .‬والكناية يف‬
‫اصطالح أهل البالغة ‪ :‬لفظ أطلق وأريد به الزم معناه ‪ ،‬مع جواز إرادة ذلك املعىن‪.‬‬
‫ومثال ذلك لفظ «طويل النجاد» املراد به طول القام ة م ع جواز أن يراد حقيق ة‬
‫طول النجاد أيضا‪ .‬فالنجاد محائل السيف ‪ ،‬وطول النجاد يستلزم طول القامة ‪ ،‬فإذا قيل ‪:‬‬
‫فالن طوي ل النج اد ‪ ،‬ف املراد أّن ه طوي ل القام ة ‪ ،‬فق د اس تعمل اللف ظ يف الزم معن اه ‪ ،‬م ع‬
‫ج واز أن ي راد ب ذلك الكالم اإلخب ار بأّن ه طوي ل محائ ل الس يف وطوي ل القام ة ‪ ،‬أي ي راد‬
‫بطويل النجاد معناه احلقيقي والالزمي‪.‬‬
‫وإذا تتبعن ا ت اريخ «الكناي ة» بقص د التع رف على مفهومه ا ل دى علم اء العربي ة‬
‫والبالغيني على تعاقب األجيال والعصور فإننا جند أبا عبيدة معمر ابن املثىن «‪‍ 209‬ه»‬
‫أول من عرض هلا يف كتابه «جماز القرآن»‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫فهو ميثل للكناية يف كتابه هذا بأمثلة من حنو قوله تعاىل ‪ُ( :‬ك ُّل َمْن َعَلْيه ا ف اٍن ‪)،‬‬
‫وقوله ‪َ( :‬ح َّتى َت واَر ْت ِباْلِح ج اِب ‪ )،‬وقوله ‪َ( :‬ك اَّل ِإذا َبَلَغِت الَّتراِقَي ) ّمث يعقب عليها بأّن‬
‫اهلل س بحانه كىّن بالض مري يف األول عن األرض ‪ ،‬ويف الثاني ة عن الش مس‪ .‬ويف الثالث ة عن‬
‫الروح‪.‬‬
‫فه و يس تعمل الكناي ة اس تعمال اللغ ويني والنحاة مبع ىن «الض مري» ‪ ،‬ومع ىن ه ذا أّن‬
‫الكناية عنده هي كل ما فهم من سياق الكالم من غري أن يذكر امسه صرحيا يف العبارة‪.‬‬
‫ّمث نلتقي بعد أيب عبيدة باجلاحظ «‪‍ 255‬ه» فقد وردت الكناية عنده مبعناها العام‬
‫وهو التعبري عن املعىن تلميحا ال تصرحيا وإفصاحا كلما اقتضى احلال ذلك‪.‬‬
‫يفهم ذلك من قوله ‪« :‬رب كناية ترىب على إفصاح» كما تفهم من إيراده لتعريف‬
‫البالغ ة عن د بعض اهلن ود وذل ك إذ يق ول ‪« :‬وق ال بعض اهلن ود ‪ :‬مجاع البالغ ة البص ر‬
‫باحلج ة واملعرف ة مبواض ع الفرص ة‪ .‬ومن البص ر باحلج ة واملعرف ة مبواض ع الفرص ة أن ت دع‬
‫اإلفصاح هبا إىل الكناية ‪ ،‬إذا كان اإلفصاح أوعر طريقة» (‪ .)1‬من ذلك يتضح أّن الكناية‬
‫عنده تقابل اإلفصاح والتصريح إذا اقتضى احلال ذلك‪.‬‬
‫ويف حديثه عن بالغة اخلطابة واخلطب يسلك الكناية مع بعض األساليب البالغية‬
‫اليت يقتضيها احلال أحيانا من إطناب وإجياز يأيت كالوحي واإلشارة ‪ ،‬ويف ذلك يقول يف‬
‫معرض احلديث عن تناسب األلفاظ مع األغراض ‪« :‬ولكل ضرب من احلديث ضرب من‬
‫اللف ظ ‪ ،‬ولك ل ن وع من املع اين ن وع من األمساء ‪ :‬فالس خيف للس خيف ‪ ،‬واخلفي ف‬
‫للخفيف ‪،‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب البيان والتبيني ج ‪ 1‬ص ‪.88‬‬

‫‪204‬‬
‫واجلزل للج زل ‪ ،‬واإلفص اح يف موض ع اإلفص اح ‪ ،‬والكناي ة يف موض ع الكناي ة ‪،‬‬
‫واالسرتسال يف موضع االسرتسال» (‪.)1‬‬
‫فالكناية عند اجلاحظ كما نرى هنا معدودة من األساليب البالغية اليت قد يتطلبها‬
‫املع ىن للتعب ري عن ه وال جيوز إاّل فيه ا ‪ ،‬وأّن الع دول عنه ا إىل ص ريح اللف ظ يف املواطن ال يت‬
‫تتطلبها أمر خمل بالبالغة‪.‬‬
‫وال ذي يتتب ع اجلاح ظ فيم ا قال ه عن الكناي ة وفيم ا أورده من أمثل ة هلا ي رى أّن ه‬
‫استعملها استعماال عاما يشمل مجيع أضرب اجملاز والتشبيه واالستعارة والتعريض دون أن‬
‫يفرق بينها وبني هذه األساليب‪.‬‬
‫ومن علماء العربية الذين جاءوا بعد اجلاحظ وحبثوا يف «الكناية» تلميذه حممد بن‬
‫يزيد املربد «‪‍ 285‬ه» ‪ ،‬فقد عرض هلا يف اجلزء الثاين من كتابه «الكامل» ذاكرا أهّن ا تأيت‬
‫على ثالثة أوجه ‪ ،‬فهي ‪ :‬إّم ا للتعمية والتغطية ‪ ،‬كقول النابغة اجلعدي ‪:‬‬
‫ل مكتتم‬ ‫ات ك‬ ‫ه خفي‬ ‫أك ين بغ ري امسها وق د علم ال ل‬
‫وإما للرغبة عن اللفظ اخلسيس املفحش إىل ما يدل على معناه من غريه ‪ :‬كقوله‬
‫تعاىل يف قصة سيدنا عيسى وأمه عليهما‌السالم ‪:‬‬
‫ُأُّم ُه ِص ِّديَقٌة كان ا ْأُك الِن‬ ‫ِم ِلِه‬ ‫ِس‬
‫َي‬ ‫(َما اْلَم يُح اْبُن َمْر َيَم ِإاَّل َرُس وٌل َقْد َخ َلْت ْن َقْب الُّر ُس ُل َو‬
‫الَّطعاَم‪ ).‬كناية عما ال بّد آلكل الطعام منه (‪.)2‬‬
‫وأّم ا للتفخيم والتعظيم والتبجيل كقوهلم ‪« :‬أبو فالن» صيانة المسه عن االبتذال ‪،‬‬
‫ومن هذا الوجه اشتقت الكنية‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب احليوان ج ‪ 3‬ص ‪.39‬‬
‫(‪ )2‬كتاب الكامل للمربد ص ‪ 290‬حتقيق حممد أبو الفضل إبراهيم‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫فاملربد كما نرى مل يع ّر ف الكناية وإمنا التفت إىل ما تؤديه بعض صورها من فائدة‬
‫يف ص ناعة الكالم ‪ ،‬وكأّن ه ب ذلك ي وحي ب أّن ه ذا االجتاه ه و األهم يف دراس ة األس اليب‬
‫البالغية ‪ ،‬وأّنه ينبغي الرتكيز عليه أكثر من الرتكيز على القواعد‪.‬‬
‫وابن املعتز «‪‍ 296‬ه» قد ع ّد الكناية والتعريض من حماسن البديع ومثل هلما من‬
‫منظوم الكالم ومنثوره ‪ ،‬ومن األمثلة اليت أوردها ‪« :‬كان عروة بن الزبري إذا أسرع إليه‬
‫إنسان بسوء مل جيبه ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إين ألتركك رفعا لنفسي عنك‪ّ .‬مث جرى بينه وبني علي‬
‫بن عب د اهلل بن عب اس كالم ‪ ،‬فأس رع إلي ه ع روة بس وء ‪ ،‬فق ال علي بن عب د اهلل ‪ :‬إين‬
‫ألتركك ملا ترتك الناس له‪ .‬فاشتد ذلك على عروة (‪.)1‬‬
‫وقدام ة بن جعف ر «‪‍ 337‬ه» ع رض هلا يف «ب اب املع اين ال دال عليه ا الش عر» من‬
‫كتاب ه نق د الش عر ‪ ،‬وع ّد ها نوع ا من أن واع ائتالف اللف ظ واملع ىن ‪ ،‬وأطل ق عليه ا اس م‬
‫«اإلرداف» وعرفه بقوله ‪« :‬اإلرداف أن يريد الشاعر داللة على معىن من املعاين فال يأيت‬
‫باللفظ الدال على ذلك املعىن بل بلفظ يدل على معىن هو ردفه وتابع له ‪ ،‬فإذا دّل على‬
‫التابع أبان عن املتبوع مبنزلة قول الشاعر ‪:‬‬
‫بعي دة مه وى الق رط إّم ا لنوف ل أبوه ا وإّم ا عب د مشس وهاش م»‬
‫( ‪)2‬‬

‫ّمث أورد بعض أمثل ة أخ رى عليه ا‪ .‬والكناي ة أو اإلرداف على رأي قدام ة ه و يف‬
‫«بعيدة مهوى القرط» وهذا كناية عن طول العنق ‪ ،‬فمهوى‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب البديع ص ‪.64‬‬
‫(‪ )2‬كتاب نقد الشعر لقدامة ص ‪.113‬‬

‫‪206‬‬
‫الق رط ه و املس افة من ش حمة األذن إىل الكت ف ‪ ،‬وإذا ك انت ه ذه املس افة بعي دة ل زم أن‬
‫يكون العنق طويال‪.‬‬
‫***‬
‫ك ذلك ع رض للكناي ة أب و احلس ني أمحد بن ف ارس «‪‍ 395‬ه» يف كتاب ه‬
‫«الص احيب» ‪ ،‬وعق د هلا باب ا خاص ا تكلم في ه أوال عن ص ورتني من ص ورها ‪ ،‬إح دامها‬
‫كناي ة التغطي ة ‪ ،‬وذل ك ب أن يكىّن عن الش يء في ذكر بغ ري امسه حتس ينا للف ظ أو إكرام ا‬
‫للمذكور ‪ ،‬والثانية كناية التبجيل حنو قوهلم ‪« :‬أبو فالن» صيانة المسه عن االبتذال ‪ ،‬وأّن‬
‫الكىن مما كان للعرب خصوصا ّمث تشبه غريهم هبم يف ذلك‪ .‬وال ريب أّنه يف ذلك متأثر‬
‫برأي املربد السابق‪.‬‬
‫ّمث تكّلم ثانيا عن الكناية مبفهومها عند النحاة فقال ‪« :‬االسم يكون ظاهرا مثل ‪:‬‬
‫زيد وعمرو ‪ ،‬ويكون مكنيا ‪ ،‬وبعض النحويني يسميه «مضمرا» وذلك مثل ‪ :‬هو وهي‬
‫ومها وهن‪.‬‬
‫وزعم بعض أه ل العربي ة أّن أّو ل أح وال االس م الكناي ة ّمث يك ون ظ اهرا ‪ ،‬ق ال ‪:‬‬
‫وذل ك أّن أول ح ال املتكلم أن خيرب عن نفس ه أو خماطب ه فيق ول ‪ :‬أن ا وأنت ‪ ،‬وه ذان ال‬
‫ظاهر هلما ‪ ،‬وسائر األمساء تظهر مرة ويكىن عنها مرة‪.‬‬
‫والكناي ة متص لة ومنفص لة ومس تجّنة ‪ ،‬فاملتص لة كالت اء يف «محلت وقمت» ‪،‬‬
‫واملنفصلة كقولنا ‪ :‬إياه أردت ‪ ،‬واملستجنة قولنا «قام زيد» فإذا كنينا عنه فقلنا ‪« :‬قام»‬
‫فتسرت االسم يف الفعل»‪.‬‬
‫ّمث يستطرد فيقول ‪« :‬ورمبا كيّن عن الشيء مل جير له ذكر ‪ ،‬يف مثل قوله ج ّل ثناؤه‬
‫‪ُ( :‬يْؤ َف ُك َعْن ُه) أي يؤف ك عن ال دين أو عن الن يب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم‪ .‬ق ال أه ل العلم‬
‫وإمّن ا جاز هذا ألّنه قد جرى الذكر يف القرآن‪ .‬وقال حامت ‪:‬‬

‫‪207‬‬
‫إذا حش رجت يوم ا وض اق هبا الص در‬ ‫أم اوّي ال يغ ين ال ثراء عن الف ىت‬
‫ويقولون ‪ :‬إذا أغرب أفق وهبت مشاال‪ .‬أضمر الريح ومل جير هلا ذكر» (‪.)1‬‬
‫فابن فارس يشري هبذا إىل قول النحاة بأّن ضمري الغائب إذا كان عائده غري لفظ‬
‫فإن عائده هو «الغائب املعلوم»‪ .‬فالضمري يف «هبت مشاال» يعود على الغائب املعلوم وه و‬
‫ال ريح ‪ ،‬ألّن ه معل وم أّن ال يت هتب مشاال هي ال ريح‪ .‬وهلذا فالض مري املس تجن أو املس ترت يف‬
‫«هبت» هو كناية عن ذلك الغائب املعلوم ومثل ذلك قوله تعاىل ‪ِ( :‬إَّنا َأ ْلن اُه ِفي َل َل ِة‬
‫ْي‬ ‫ْنَز‬
‫اْلَق ْد ِر ‪ ).‬فاهلاء يف «أنزلناه» كناية عن الغائب املعلوم وهو «القرآن الكرمي»‪.‬‬
‫***‬
‫وأبو هالل العسكري يقرن الكناية بالتعريض كأمّن ا يعتربمها أمرا واحدا ‪ّ ،‬مث يعرفهما‬
‫بقوله ‪« :‬الكناية والتعريض أن يكىّن عن الشيء ويع ّر ض به وال يص ّر ح ‪ ،‬على حسب ما‬
‫عملوا بالتورية عن الشيء» ّمث يورد أمثلة هلما ‪ ،‬وكذلك للتعريض اجليد والكناية املعيبة‪.‬‬
‫ومن األمثلة اليت أوردها أبو هالل قوله ‪ :‬ومن مليح ما جاء يف هذا الباب قول أيب‬
‫العيناء وقيل له ‪ :‬ما تقول يف ابين وهب؟ قال ‪« :‬وما يستوي البحران هذان عذب فرات‬
‫سائغ شرابه وهذا ملح أجاج» سليمان أفضل‪ .‬قيل ‪ :‬وكيف؟ قال ‪َ( :‬أَفَمْن َيْم ِش ي ُمِكًّب ا‬
‫( ‪)2‬‬
‫َعلى َو ْج ِه ِه َأْه دى َأَّمْن َيْم ِش ي َس ِو ًّيا َعلى ِص راٍط ُمْس َتِق يٍم ‪).‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب الصاحيب يف فقه اللغة وسنن العرب يف كالمها ص ‪ 260‬ـ ‪.263‬‬
‫(‪ )2‬كتاب الصناعتني ص ‪.268‬‬

‫‪208‬‬
‫وأب و علي احلس ن بن رش يق الق ريواين «‪‍ 456‬ه» عق د يف كتاب ه «العم دة» فص ال‬
‫خاصا باإلشارة أشاد يف مستهله بفضلها وأثرها يف الكالم قائال ‪« :‬واإلشارة من غرائب‬
‫الشعر وملحه ‪ ،‬وهي بالغة عجيبة تدل على بعد املرمى وفرط املقدرة ‪ ،‬وليس يأيت هبا إاّل‬
‫الش اعر املربز واحلاذق املاهر ‪ ،‬وهي يف ك ل ن وع من الكالم حملة دال ة ‪ ،‬واختص ار وتل ويح‬
‫يعرف جممال ‪ ،‬ومعناه بعيد من ظاهر لفظه»‪.‬‬
‫ّمث يس تطرد إىل بي ان أنواعه ا والتمثي ل هلا فيع د منه ا ‪ :‬اإلمياء والتفخيم والتل ويح‬
‫والتمثيل والرمز والتعريض والكناية‪ .‬ويف كالمه عن الكناية نراه متأثرا برأي املربد السابق‬
‫يف أهّن ا تأيت على ثالثة أوجه هي ‪ :‬كناية التعظيم والتفخيم ممثلة يف الكنية ‪ ،‬وكناية الرغبة‬
‫عن اللفظ اخلسيس ‪ ،‬وكناية التغطية والتعمية‪.‬‬
‫وعن هذا الوجه األخري من الكناية يقول ‪ :‬إّنه هو التورية يف أشعار العرب حيث‬
‫يكنون عن الشجر بالناس كقول املسّيب بن علس ‪:‬‬
‫اب‬ ‫در واألث‬ ‫ره الّس‬ ‫دع ا ش جر األرض داعيهم و لينص‬
‫فك ىن بالش جر عن الن اس ‪ ،‬وهم يقول ون يف الكالم املنث ور ‪ :‬ج اء فالن بالش وك‬
‫والشجر ‪ ،‬إذا جاء جبيش عظيم‪.‬‬
‫كذلك يكنون عن املرأة بالشجرة والنخلة والسرحة والبيضة والناقة واملهرة والشاة‬
‫والنعجة أو ما شاكل ذلك‪.‬‬
‫ّمث أورد على ذل ك بعض أمثل ة منه ا ق ول محي د بن ث ور اهلاليل عن د م ا حظ ر عم ر‬
‫على الشعراء ذكر املرأة ‪:‬‬
‫جنون ا هبا ي ا ط ول ه ذا التج ّر م‬ ‫عرا‬ ‫ا ألن كنت مش‬ ‫جتّر م أهلوه‬
‫س وى أن ين ق د قلت ي ا س رحة اس لمي‬ ‫ه‬ ‫ايل من ذنب إليهم علمت‬ ‫وم‬

‫‪209‬‬
‫ات وإن مل تكّلمي‬ ‫ثالث حتي‬ ‫بلى فاس لمي ّمث اس لمي مثت اس لمي‬
‫ومنها قول امرىء القيس ‪:‬‬
‫ل‬ ‫ري مع ّج‬ ‫متتعت من هلو هبا غ‬ ‫وبيض ة خ در ال ي رام خباؤه ا‬
‫كناية بالبيضة عن املرأة‪.‬‬
‫وقول عنرتة ‪:‬‬
‫ا مل حترم‬ ‫رمت علّي وليته‬ ‫ح‬ ‫ي ا ش اة م ا قنص ملن حّلت ل ه‬
‫فتجّس س ي أخباره ا يل واعلمي‬ ‫يب‬ ‫ارييت فقلت هلا اذه‬ ‫فبعثت ج‬
‫والش اة ممكن ة ملن ه و م رمت‬ ‫ّر ة‬ ‫ادي غ‬ ‫الت رأيت من األع‬ ‫ق‬
‫فالشاة هنا كناية عن امرأة أبيه وكان يهواها ويتمىن لو مل يتزوجها أبوه حىت كان‬
‫حيل له تزوجها‪.‬‬
‫ّمث يق ول وعلى ه ذا املتع ارف يف الكناي ة ج اء ق ول اهلل عزوجل يف إخب اره عن‬
‫خص م داود عليه‌السالم ‪ِ( :‬إَّن ه ذا َأِخ ي َل ُه ِتْس ٌع َو ِتْس ُعوَن َنْع َج ًة َو ِلَي َنْع َج ٌة واِح َد ٌة ‪)،‬‬
‫كناية بالنعجة عن املرأة (‪.)1‬‬
‫***‬
‫وممن عرضوا للكناية غري هؤالء ونظروا إليها من زوايا وجوانب خمتلفة عبد القاهر‬
‫اجلرجاين وأبو يعقوب يوسف السكاكي وضياء الدين ابن األثري واخلطيب القزويين وحيىي‬
‫بن محزة صاحب كتاب الطراز املتضمن ألسرار البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز‪.‬‬
‫وقد سبق أن أتينا يف املبحث األول من هذا الكتاب واخلاص «بنشأة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب العمدة ج ‪ 1‬ص ‪ 271‬ـ ‪.282‬‬

‫‪210‬‬
‫علم البي ان وتط وره» على ملخص آرائهم وأق واهلم يف الكناي ة ‪ ،‬وهلذا فال داعي لتكراره ا‬
‫هنا ولريجع إليها هناك‪.‬‬

‫أقسام الكناية‬
‫ذكرنا فيما سبق أّن الكناية يف عرف اللغة أن تتكلم بشيء وتريد غريه ‪ ،‬ويقال ‪:‬‬
‫كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به‪ .‬كما ذكرنا أهنا يف اصطالح علماء البيان ‪:‬‬
‫لف ظ أطل ق وأري د ب ه الزم معن اه م ع ج واز إرادة ذل ك املع ىن ‪ ،‬أي املع ىن احلقيقي للف ظ‬
‫الكناية (‪.)1‬‬
‫وق د عرّب اإلم ام عب د الق اهر اجلرج اين عن ه ذا املع ىن االص طالحي بص ورة أخ رى‬
‫فقال ‪« :‬الكناية أن يريد املتكلم إثبات معىن من املعاين فال يذكره باللفظ املوضوع له يف‬
‫اللغ ة ‪ ،‬ولكن جييء إىل مع ىن ه و تالي ه وردف ه يف الوج ود في ومي إلي ه وجيعل ه دليال علي ه ‪،‬‬
‫مثال ذلك قوهلم ‪« :‬هو طويل النجاد» يريدون طول القامة ‪« ،‬وكثري رماد القدر» يعنون‬
‫كثري القرى ‪ ،‬ويف املرأة «نؤوم الضحى» واملراد أهّن ا مرتفة خمدومة هلا من يكفيها أمرها‪.‬‬
‫فقد أرادوا يف هذا كله كما ترى معىن ّمث مل يذكروه بلفظه اخلاص به ‪ ،‬ولكنهم توصلوا‬
‫إلي ه ب ذكر مع ىن آخ ر من ش أنه أن يردف ه يف الوج ود ‪ ،‬وأن يك ون إذا ك ان‪ .‬أفال ت رى أّن‬
‫القامة إذا طالت طال النجاد ‪ ،‬وإذا كثر القرى كثر رماد القدر ‪ ،‬وإذا كانت املرأة مرتفة‬
‫هلا من يكفيها أمرها ردف ذلك أن تنام إىل الضحى؟ (‪.)2‬‬
‫كذلك عرب ابن األثري عن معناها االصطالحي بصورة ثالثة ومثل هلا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب التلخيص ص ‪.338‬‬
‫(‪ )2‬كتاب دالئل اإلعجاز ص ‪.44‬‬

‫‪211‬‬
‫فقال ‪« :‬ح ّد الكناية اجلامع هلا هو أهنا كل لفظة دّلت على معىن جيوز محله على جانب‬
‫ِخ‬
‫احلقيقة واجملاز بوصف جامع بني احلقيقة واجملاز ‪ ،‬حنو قوله تعاىل ‪ِ( :‬إَّن هذا َأ ي َل ُه ِتْس ٌع‬
‫َو ِتْس ُعوَن َنْع َج ًة َو ِلَي َنْع َج ٌة واِح َد ٌة‪ ).‬فقد كىّن بذلك ـ يقصد لفظة النعجة ـ عن النساء ‪،‬‬
‫والوص ف اجلامع بينهم ا ه و الت أنيث‪ .‬ف املعىن هن ا جيوز محل ه على احلقيق ة كم ا جيوز محل ه‬
‫على اجملاز (‪.)1‬‬
‫وق د انتهى البحث يف «الكناي ة» إىل الس كاكي والقزوي ين ومدرس تهما البالغي ة‬
‫فتوسعوا يف حبثها وحددوا أقسامها على النحو الذي فصلته يف مبحث «نشأة علم البيان‬
‫وتطوره» ‪ّ ،‬مث جاء البالغيون من بعدهم فأخذوا بتقسيمهم الذي ال يزال مّتبعا إىل اليوم‬
‫يف دراسة «الكناية»‪.‬‬
‫***‬
‫وإذا ع دنا إىل تقس يم الس كاكي والقزوي ين وج دنا أّن املطل وب بالكناي ة عن دهم ال‬
‫خيرج عن ثالثة أقسام هي ‪ :‬طلب نفس الصفة ‪ ،‬وطلب نفس املوصوف ‪ ،‬وطلب النسبة‪.‬‬
‫ومعىن هذا أهّن م يقسمون الكناية باعتبار املكىن عنه ثالثة أقسام تتمثل يف أّن املكىن‬
‫عنه عندهم ‪ :‬قد يكون صفة ‪ ،‬وقد يكون موصوفا ‪ ،‬وقد يكون نسبة‪.‬‬
‫ولع ّل األمثلة والتعقيب عليها بالشرح والتحليل خري وسيلة لتوضيح أقسام الكناية‬
‫وبيان أثر صورها املختلفة يف بالغة الكالم‪.‬‬
‫كناية الصفة ‪ :‬وهي اليت يطلب هبا نفس الصفة ‪ ،‬واملراد بالصفة هنا الصفة املعنوية‬
‫كاجلود والكرم والشجاعة وأمثاهلا ال النعت‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬املثل السائر ص ‪.248‬‬

‫‪212‬‬
‫‪ 1‬ـ ومن أمثلة ذلك قول عمر بن أيب ربيعة يف صاحبته هند ‪:‬‬
‫ويل نظ ر ل و ال التح ّر ج ع ارم‬ ‫نظ رت إليه ا باحملّص ب من م ىن‬
‫ب دت ل ك حتت الّس جف أم أنت ح امل؟‬ ‫ة‬ ‫ابيح بيع‬ ‫فقلت ‪ :‬أمشس أم مص‬

‫بعي دة مه وى الق رط إّم ا لنوف ل أبوه ا وإّم ا عب ّد مشس وهاش ّم‬


‫( ‪)1‬‬

‫فالكناية هنا يف البيت الثالث ‪ ،‬هي «بعيدة مهوى القرط» ‪ ،‬ومهوى القرط املسافة‬
‫من ش حمة األذن إىل الكت ف‪ .‬ف ابن أيب ربيع ة يص ف ص احبته بأهنا بعي دة مه وى الق رط ‪،‬‬
‫وه و هبذه الص فة يري د أن ي دل على أن هن دا ص احبته «طويل ة اجلي د»‪ .‬وهلذا ع دل عن‬
‫التصريح هبذه الصفة إىل الكناية عنها ‪ ،‬ألن بعد املسافة بني شحمة األذن والكتف يستلزم‬
‫طول اجليد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وقال املتنيب يف إيقاع سيف الدولة ببين كالب ‪:‬‬
‫راب‬ ‫طهمو ت‬ ‫بحهم وبس‬ ‫وص‬ ‫ر‬ ‫طهمو حري‬ ‫اهم وبس‬ ‫فمس‬
‫فاملتنيب هنا يصف بين كالب الذين أوقع هبم سيف الدولة بأن بسطهم يف املساء‬
‫وقبل اإليقاع هبم كانت من احلرير مث صارت يف الصباح من الرتاب بسبب ما أصاهبم من‬
‫األمري سيف الدولة‪.‬‬
‫وقصد الشاعر من وراء هذا التعبري يف الواقع أن يصف بين كالب بأهنم يف املساء‬
‫كانوا سادة أعزاء مث صاروا يف الصباح وبعد اإليقاع هبم فقراء أذالء‪ .‬وقد عدل الشاعر‬
‫بتعبريه عن التصريح إىل أسلوب الرمز‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬دي وان عم ر بن أيب ربيع ة ص ‪ ، 207‬ونظ ر ع ارم ‪ :‬خ ارج عن القص د ‪ ،‬والبيع ة بكس ر الب اء ‪ :‬متعب د‬
‫النص ارى ‪ ،‬والس جف بكس ر الس ني ‪ :‬الس رت ‪ ،‬وبعي دة مه وى الق رط ‪ :‬كناي ة عن ط ول عنقه ا ‪ ،‬ونظ ريه ق ول‬
‫احلماسي ‪:‬‬
‫ر‬ ‫ة النش‬ ‫رط طيب‬ ‫وى الق‬ ‫دة مه‬ ‫بعي‬ ‫رة‬ ‫ك بض‬ ‫ا إن مل أرع‬ ‫أكلت دم‬

‫‪213‬‬
‫والكناي ة ‪ ،‬ألن بسط احلرير اليت ك انت هلم يف املساء تس تلزم السيادة والع زة ‪ ،‬وإن ه ذه‬
‫البسط اليت حتولت يف الصباح إىل تراب تستلزم الفقر واحلاجة والذلة‪ .‬فالبيت كما نرى‬
‫كناي ة عن ص فة‪ .‬ه ذا وجيوز محل املع ىن على ج انب احلقيق ة ‪ ،‬مبع ىن أن ه يص ح هن ا إرادة‬
‫املعىن املفهوم من ص ريح اللفظ ‪ ،‬أي أهنم يف املساء ك انوا جيلسون على بسط من احلرير‬
‫فعال مث صاروا يف الصباح جيلسون على الرتاب حقيقة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وقالت اخلنساء يف أخيها صخرا ‪:‬‬
‫تا‬ ‫اش‬ ‫اد إذا م‬ ‫ري الرم‬ ‫كث‬ ‫اد‬ ‫ع العم‬ ‫اد رفي‬ ‫ل النج‬ ‫طوي‬
‫فاخلنساء يف هذا البيت تصف أخاها صخرا بثالث صفات هي ‪ :‬إنه طويل النجاد‬
‫‪ ،‬رفيع العماد ‪ ،‬كثري الرماد‪.‬‬
‫وهي هبذه الصفات تريد أن تدل على أن أخاها شجاع ‪ ،‬عظيم يف قومه ‪ ،‬كرمي‪.‬‬
‫ولكنه ا ع دلت عن التص ريح هبذه الص فات إىل الكناي ة عنه ا ‪ ،‬ألن ه يل زم من ط ول محال ة‬
‫السيف طول صاحبه ‪ ،‬ويلزم من طول اجلسم الشجاعة عادة ‪ ،‬مث إنه يلزم من كونه رفيع‬
‫العم اد أن يك ون س يدا عظيم الق در واملكان ة يف قوم ه وعش ريته ‪ ،‬كم ا أنه يلزم من ك ثرة‬
‫الرماد كثرة إحراق احلطب حتت القدور ‪ ،‬مث كثرة الضيفان ‪ ،‬مث كثرة الكرم‪ .‬وهنا أيضا‬
‫جيوز محل املع ىن على ج انب احلقيق ة ‪ ،‬فمن اجلائز باإلض افة إىل املع ىن الكن ائي أن يك ون‬
‫أخوها حقيقة طويل النجاد ‪ ،‬رفيع العماد ‪ ،‬كثري الرماد‪.‬‬
‫فرتاكيب الكناية يف األمثلة السابقة هي «بعيدة مهوى القرط» و «كون بسطهم‬
‫حريرا» و «كون بسطهم ترابا» و «طويل النجاد» و «رفيع العماد» و «كثري الرماد»‪.‬‬
‫وملا كان كل تركيب من هذه الرتاكيب قد كين به عن صفة الزمة‬

‫‪214‬‬
‫ملعناه ‪ ،‬كان كل تركيب من هذه وما يشبهه «كناية عن صفة»‪ .‬وهذا هو القسم األول‬
‫من أقسام الكناية‪.‬‬
‫***‬
‫كناي ة املوص وف ‪ :‬وهي ال يت يطلب هبا نفس املوص وف والش رط هن ا أن تك ون‬
‫الكناية خمتصة باملكّين عنه ال تتعداه ‪ ،‬وذلك ليحصل االنتقال منها إليه‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ ومن أمثلة ذلك قول البحرتي يف قصيدته اليت يذكر فيها قتله للذئب ‪:‬‬
‫فأقب ل مث ل ال ربق يتبع ه الرع د‬ ‫ع وى مث أقعى ف ارجتزت فهجت ه‬
‫على ك وكب ينقض واللي ل مس وّد‬ ‫فأوجرت ه خرق اء حتس ب ريش ها‬
‫( ‪)1‬‬

‫وأيقنت أن األم ر من ه ه و اجلد‬ ‫رامة‬ ‫رأة وص‬ ‫ا ازداد إال ج‬ ‫فم‬


‫حبيث يك ون اللب وال رعب واحلق د‬ ‫فأتبعته ا أخ رى فأض للت نص لها‬
‫ففي ق ول البح رتي يف ال بيت األخ ري «حبيث يك ون اللب وال رعب واحلق د» ثالث‬
‫كنايات ال كناية واحدة ‪ ،‬الستقالل كل واحدة منها بإفادة املقصود‪.‬‬
‫فالبحرتي يريد أن خيربنا أنه طعن الذئب أوال برحمه طعنة خرقاء مل تزده إال جرأة‬
‫وصرامة وهلذا أتبع الطعنة األوىل طعنة أخرى استقر نصلها يف قلب الذئب‪.‬‬
‫ولكنه بدل أن يعرب هذا التعبري احلقيقي الصريح نراه يعدل عنه إىل ما هو أبلغ وأشد‬
‫تأثريا يف النفس ‪ ،‬وذلك بالكناية عن القلب ببعض‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أوجره الرمح ‪ :‬طعنه به يف فيه أو صدره‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫الص فات ال يت يك ون ه و موض عها ‪ ،‬وهي اللب وال رعب واحلق د‪ .‬وه ذا كناي ة عن‬
‫«موصوف» هو القلب ألن القلب موضع هذه الصفات وغريها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وقال أبو نواس يف وصف اخلمر ‪:‬‬
‫رار قلت هلا ‪ :‬قفي‬ ‫وطن األس‬ ‫إىل م‬ ‫ا‬ ‫ربناها ودب دبيبه‬ ‫اش‬ ‫فلم‬
‫فيطل ع ن دماين على س ّر ي اخلفي‬ ‫عاعها‬
‫خماف ة أن يس طو علّي ش‬
‫فالكناية يف البيت األول وهي «موطن األسرار»‪ .‬يريد أبو نواس أن يقول ‪« :‬فلما‬
‫ش ربنا اخلم ر ودب دبيبه ا ‪ ،‬أي س رى مفعوهلا إىل القلب أو ال دماغ قلت هلا ‪ :‬قفي»‪.‬‬
‫ولكنه انصرف عن التعبري بالقلب أو الدماغ هذا التعبري احلقيقي الصريح إىل ما هو أملح‬
‫وأوقع يف النفس وهو «موطن األسرار» ‪ ،‬ألن القلب أو الدماغ يفهم منه أنه مكان السر‬
‫وغ ريه من الص فات‪ .‬فالكناي ة «مبوطن األس رار» عن القلب أو ال دماغ كناي ة عن‬
‫«موصوف» ‪ ،‬ألن كليهما يوصف بأنه موطن األسرار‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وقال شاعر يف رثاء من مات بعلة يف صدره ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ودّبت ل ه يف م وطن احللم عّل ة هلا كالّص الل ال رقش ش ّر دبيب‬
‫فلف ظ الكناي ة هن ا ه و «م وطن احللم» ‪ ،‬ومن ع ادة الع رب أن ينس بوا احللم إىل‬
‫الصدر ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬فالن فسيح الصدر ‪ ،‬أو فالن ال يتسع صدره ملثل هذا ‪ ،‬أي ال حيلم‬
‫على مثل هذا‪.‬‬
‫ولو شاء الشاعر أن يعرب عن معناه هنا تعبريا حقيقيا صرحيا لقال ‪« :‬ودبت له يف‬
‫الصدر علة» ‪ ،‬ولكنه مل يشأ ذلك وآثر التعبري عنه كنائيا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الصالل بكسر الصاد ‪ :‬ضرب من احليات صغري أسود ال جناة من لدغته ‪ ،‬والرقش ‪ :‬مجع رقشاء ‪ ،‬وهي‬
‫اليت فيها نقط سوداء يف بيضاء ‪ ،‬واحلية الرقشاء من أشد احليات أذى‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫بقوله ‪« :‬ودبت له يف موطن احللم علة» ملا له من تأثري بليغ يف النفس ‪ ،‬إذ الصدر موضع‬
‫احللم وغريه من الصفات‪ .‬فالكناية «مبوطن احللم» عن الصدر كناية عن «موصوف» ألن‬
‫الصدر يوصف بأنه موطن احللم وغريه‪.‬‬
‫وإذا تأملن ا ت راكيب الكناي ة يف ه ذه األمثل ة وهي «حبيث يك ون اللب وال رعب‬
‫واحلق د» و «م وطن األس رار» و «م وطن احللم» رأين ا أن ك ل ت ركيب منه ا ك ين ب ه عن‬
‫ذات الزمة ملعناه ‪ ،‬لذلك كان كل منها «كناية عن موصوف» ‪ ،‬وكذلك كل تركيب‬
‫مياثلها‪.‬‬
‫***‬
‫كناية النسبة ‪ :‬ويراد هبا إثبات أمر ألمر أو نفيه عنه ‪ ،‬أو بعبارة أخرى يطلب هبا‬
‫ختصيص الصفة باملوصوف‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ ومن أمثلة ذلك قول زياد األعجم يف مدح ابن احلشرج ‪:‬‬
‫يف قب ة ض ربت على ابن احلش رج‬ ‫دى‬ ‫ماحة واملروءة والن‬ ‫إن الس‬
‫فزياد هبذا البيت أراد ‪ ،‬كما ال خيفى ‪ ،‬أن يثبت هذه املعاين واألوصاف للممدوح‬
‫واختصاصه هبا‪ .‬ولو شاء أن يعرب عنها بصريح اللفظ لقال ‪ :‬إن السماحة واملروءة والندى‬
‫جملموع ة يف املم دوح أو مقص ورة علي ه ‪ ،‬أو م ا ش اكل ذل ك مما ه و ص ريح يف إثب ات‬
‫األوصاف للمذكورين هبا‪.‬‬
‫ولكنه عدل عن التصريح إىل ما ترى من الكناية والتلويح ‪ ،‬فجعل كوهنا يف القبة‬
‫املضروبة عليه عبارة عن كوهنا فيه ‪ ،‬فخرج كالمه إىل ما خرج إليه من اجلزالة وظهر فيه‬
‫ما أنت ترى من الفخامة‪ .‬ولو أن الشاعر خطر له أن يعرب عن معناه هنا بصريح اللفظ ‪،‬‬
‫ملا كان له ذلك القدر من اجلمال الذي تطالعنا به هذه الصورة املبهجة من خالل البيت‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫‪ 2‬ـ ومن أمثلة كناية النسبة أيضا قول أيب نواس مادحا ‪:‬‬
‫ري‬ ‫ري اجلود حيث يس‬ ‫ولكن يس‬ ‫فم ا ج ازه ج ود وال ح ل دون ه‬
‫فالشاعر هنا يريد أن ينسب إىل ممدوحه الكرم أو أن يثبت له هذه الصفة ‪ ،‬ولكنه‬
‫بدل أن ينسب إليه الكرم بصريح اللفظ فيقول ‪« :‬هو كرمي» كىن عن نسبة الكرم إليه‬
‫بقوله ‪« :‬يسري اجلود حيث يسري» ‪ ،‬ألنه يلزم من ذلك اتصافه به‪.‬‬
‫وشتان بني الصورتني يف اجلمال والتأثري ‪ :‬الصورة الصرحية اليت نرى فيها املمدوح‬
‫كرميا وحس ب ‪ ،‬والص ورة املقنع ة املدعاة ال يت يرين ا فيه ا الش اعر الك رم إنس انا يراف ق‬
‫املمدوح ويالزمه ويسري معه حيث سار‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ومن أمثلتها كذلك قول الشاعر ‪:‬‬
‫ه‬ ‫ي يف ركاب‬ ‫واجملد ميش‬ ‫ه‬ ‫ع ظل‬ ‫اليمن يتب‬
‫فالشاعر يف هذا البيت بدل أن يصف املمدوح بأنه ميمون الطلعة ‪ ،‬قال إن اليمن‬
‫يتبعه أينما سار ‪ ،‬واتباع اليمن ظله يستلزم نسبته إليه‪.‬‬
‫فكناية النسبة كما يتضح من األمثلة السابقة تتمثل يف العدول عن نسبة الصفة إىل‬
‫املوصوف مباشرة ونسبتها إىل ما له اتصال به‪ .‬وأظهر عالمة هلذه الكناية أن يصرح فيها‬
‫بالصفة كما رأينا يف األمثلة السابقة ‪ ،‬أو مبا يستلزم الصفة كقول شاعر معاصر ‪:‬‬
‫وق‬ ‫ر معش‬ ‫اء معط‬ ‫من نق‬ ‫نز‬ ‫بية ك‬ ‫اص‬ ‫كي‬ ‫بني بردي‬
‫ربيق‬ ‫تطار ال‬ ‫اهم اللمح مس‬ ‫س‬ ‫جو‬ ‫بية ش‬ ‫اص‬ ‫كي‬ ‫وبعيني‬
‫ففي قول ه ‪« :‬بني بردي ك ي ا ص بية ك نز من نق اء» كناي ة عن نس بة «الطه ارة»‬
‫للمخاطبة مبا يستلزم هذه الصفة وهو «كنز من نقاء»‪ .‬أما‬

‫‪218‬‬
‫الكناية يف البيت الثاين «بني عينيك يا صبية شجو» فهي من النوع األول الذي عدل فيه‬
‫عن نسبة صفة الشجو أي احلزن إىل املوصوف مباشرة ونسبتها إىل ما له اتصال به ‪ ،‬وهو‬
‫هنا «العينان»‪.‬‬
‫وإذا رجعن ا إىل أمثل ة الكناي ة الس ابقة يف مجي ع أقس امها وأنواعه ا رأين ا أن منه ا م ا‬
‫يدل على معىن جيوز محله على احلقيقة واجملاز ‪ ،‬أو بعبارة أخرى رأينا أن منها ما جيوز فيه‬
‫إرادة املعىن احلقيقي الذي يفهم من صريح اللفظ ‪ ،‬ومنها ما ال جيوز فيه ذلك‪.‬‬

‫بين الكناية والتعريض‬


‫لعل ضياء الدين ابن األثري أوضح من حبث أسلويب الكناية والتعريض وفّر ق بينهما‪.‬‬
‫ففي مستهل حديثه عنهما يف كتابه املثل السائر يقول ‪« :‬هذا النوع مقصور على‬
‫امليل مع املعىن وترك اللفظ جانبا‪ .‬وقد تكلم علماء البيان فيه فوجدهتم قد خلطوا الكناية‬
‫بالتعريض ومل يفرقوا بينهما ‪ ،‬وال حدوا كال منهما حبد يفصله عن صاحبه ‪ ،‬بل أوردوا‬
‫هلما أمثلة من النثر والنظم وأدخلوا أحدمها يف اآلخر ‪ ،‬فذكروا للكناية أمثلة من التعريض‬
‫وللتعريض أمثلة من الكناية ‪ ،‬فمن فعل ذلك الغامني وابن سنان اخلفاجي والعسكري»‪.‬‬
‫ويف حماول ة لتحدي د مفه وم «الكناي ة» ف رق ابن األث ري بينه ا وبني غريه ا من أقس ام‬
‫اجملاز بقول ه ‪« :‬إن الكناي ة إذا وردت جتاذهبا جانب ا حقيق ة وجماز ‪ ،‬وج از محله ا على‬
‫اجلانبني معا‪.‬‬
‫أال ت رى أن اللمس يف قول ه تع اىل ‪َ( :‬أْو الَمْس ُتُم الِّنس اَء) جيوز محل ه على احلقيق ة‬
‫واجملاز ‪ ،‬وكل منهما يصح به املعىن وال خيتل؟ وهلذا ذهب‬

‫‪219‬‬
‫الشافعي إىل أن اللمس هو مصافحة اجلسد اجلسد ‪ ،‬فأوجب الوضوء على الرجل إذا ملس‬
‫املرأة ‪ ،‬وذلك هو احلقيقة يف اللمس‪.‬‬
‫وذهب غريه إىل أن املراد باللمس هو اجلماع ‪ ،‬وذلك جماز فيه وهو الكناية ‪ ،‬وكل‬
‫موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا حقيقة وجماز ‪ ،‬وجيوز محله على كليهما معا‪.‬‬
‫أم ا التش بيه فليس ك ذلك وال غ ريه من أقس ام اجملاز ‪ ،‬ألن ه ال جيوز محل ه إال على‬
‫جانب اجملاز خاص ة ‪ ،‬ولو محل على جانب احلقيق ة الستحال املعىن‪ .‬أال ترى أنا إذا قلنا‬
‫«زي د أس د» ال يص ح إال على ج انب اجملاز خاص ة ‪ ،‬وذاك أن ا ش بهنا زي دا باألس د يف‬
‫شجاعته ‪ ،‬ولو محلناه على جانب احلقيقة الستحال املعىن ‪ ،‬ألن زيدا ليس ذلك احلي وان ذا‬
‫األربع والذنب والوبر واألنياب واملخالب‪.‬‬
‫وقد خلص من هذا النقاش إىل تعريف الكناية بقوله ‪« :‬حد الكناية اجلامع هلا هو‬
‫أهنا ك ل لفظ ة دلت على مع ىن جيوز محل ه على ج انيب احلقيق ة واجملاز بوص ف ج امع بني‬
‫ِخ‬
‫احلقيق ة واجملاز» وطبق ا هلذا التعري ف فمثاهلا عن ده قول ه تع اىل ‪ِ( :‬إَّن ه ذا َأ ي َل ُه ِتْس ٌع‬
‫َو ِتْس ُعوَن َنْع َج ًة َو ِلَي َنْع َج ٌة واِح َد ٌة) فك ىن ب ذلك عن النس اء ‪ ،‬والوص ف اجلامع بني املع ىن‬
‫احلقيقي واجملازي ه و الت أنيث‪ .‬ول و ال ذل ك لقي ل يف ه ذا املوض ع إن ه ذا أخي ل ه تس ع‬
‫وتس عون كبش ا ويل كبش واح د ‪ ،‬وقي ل ه ذه كناي ة عن النس اء‪ .‬فالوص ف اجلامع بني‬
‫احلقيقة واجملاز شرط يف صحة تعريف الكناية عنده‪.‬‬
‫***‬
‫بعد ذلك انتقل ابن األثري إىل بيان ما بني الكناية واالستعارة من صلة فقال ‪« :‬أما‬
‫الكناية فإهنا جزء من االستعارة ‪ ،‬وال تأيت إال على حكم‬

‫‪220‬‬
‫االستعارة خاصة ‪ ،‬ألن االستعارة ال تكون إال حبيث يطوى ذكر املستعار له ‪ ،‬أي املشبه‬
‫‪ ،‬وكذلك الكناية فإهنا ال تكون إال حبيث يطوى ذكر املكىن عنه ‪ ،‬أي الزم املعىن‪.‬‬
‫ونس بة الكناي ة إىل االس تعارة نس بة خ اص إىل ع ام ‪ ،‬فيق ال ك ل كناي ة اس تعارة ‪،‬‬
‫وليس ك ل اس تعارة كناي ة ‪ ،‬وه ذا ف رق بينهم ا‪ .‬ويف رق بينهم ا من وج ه آخ ر ‪ ،‬وه و أن‬
‫االستعارة لفظها صريح ‪ ،‬والصريح هو ما دل عليه ظاهر لفظه ‪ ،‬والكناية ضد الصريح ‪،‬‬
‫ألهنا ع دول عن ظ اهر اللف ظ‪ .‬وه ذه ف روق ثالث ة ‪ :‬أح دها اخلص وص والعم وم ‪ ،‬واآلخ ر‬
‫الص ريح ‪ ،‬والث الث احلم ل على ج انب احلقيق ة واجملاز‪ .‬وإذا ك انت الكناي ة ج زءا من‬
‫االستعارة ‪ ،‬وكانت االستعارة جزءا من اجملاز ‪ ،‬فإن نسبة الكناية إىل اجملاز هي نسبة جزء‬
‫اجلزء وخاص اخلاص‪.‬‬
‫***‬
‫ومن بي ان الص لة بني الكناي ة واالس تعارة والتفرق ة بينهم ا انتق ل ابن األث ري لبحث‬
‫الصلة بني التعريض والكناية‪ .‬وقد بدأ بتعريف التعريض فقال ‪« :‬أما التعريض فهو اللفظ‬
‫الدال على الشيء من طريق املفهوم ال بالوضع احلقيقي وال اجملازي» ‪ ،‬فإنك إذا قلت ملن‬
‫تتوقع صلته ومعروفه بغري طلب ‪« :‬واهلل إين حملتاج ‪ ،‬وليس يف يدي شيء ‪ ،‬وأنا عريان ‪،‬‬
‫وال ربد ق د آذاين» ‪ ،‬ف إن ه ذا وأش باهه تع ريض ب الطلب ‪ ،‬وليس ه ذا اللف ظ موض وعا يف‬
‫مقابلة الطلب ال حقيقة وال جمازا ‪ ،‬إمنا دل عليه من طريق املفهوم ‪ ،‬خبالف داللة اللمس‬
‫على اجلماع‪ .‬وعنده أن التعريض إمنا مسي تعريضا ألن املعىن فيه يفهم من عرضه أي من‬
‫جانبه ‪ ،‬وعرض كل شيء جانبه‪.‬‬
‫وكما فرق بني الكناية والتعريض من جهة خفاء الداللة ووضوحها ‪ ،‬فرق بينهما‬
‫كذلك من جهة اللفظ فقال ‪« :‬واعلم أن الكناية تشمل اللفظ‬

‫‪221‬‬
‫املف رد واملركب مع ا ‪ ،‬فت أيت على ه ذا ت ارة وعلى ه ذا أخ رى‪ .‬وأم ا التع ريض فإن ه خيتص‬
‫باللفظ املركب ‪ ،‬وال يأيت يف اللفظ املفرد البّت ة‪ .‬والدليل على ذلك أن التع ريض ال يفهم‬
‫املع ىن في ه من جه ة احلقيق ة وال من جه ة اجملاز ‪ ،‬وإمنا يفهم من جه ة التل ويح واإلش ارة ‪،‬‬
‫وذلك ال يستقل به اللفظ املفرد ‪ ،‬ولكنه حيتاج يف الداللة عليه إىل اللفظ املركب»‪.‬‬
‫ومن أمثلة التعريض ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعاىل يف شأن قوم نوح ‪َ( :‬فقاَل اْلَم ُأَل اَّلِذ يَن َكَف ُر وا ِم ْن َقْو ِم ِه م ا َنراَك ِإاَّل‬
‫َبَش رًا ِم ْثَلنا َو ما َنراَك اَّتَبَعَك ِإاَّل اَّلِذ يَن ُه ْم َأراِذ ُلنا ب اِد َي ال َّر ْأِي َو م ا َنرى َلُك ْم َعَلْين ا ِم ْن َفْض ٍل‬
‫َبْل َنُظُّنُك ْم كاِذ ِبيَن ‪).‬‬
‫فقوله ‪« :‬ما نراك إال بشرا مثلنا» تعريض بأهنم أحق بالنبوة منه ‪ ،‬وأن اهلل لو أراد‬
‫أن جيعلها يف أحد من البشر جلعلها فيهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هب أنك واحد من املأل ومواز هلم يف‬
‫املنزل ة فم ا جعل ك أح ق منهم هبا؟ ومما يؤك د ذل ك ق وهلم ‪« :‬وم ا ن رى لكم علين ا من‬
‫فضل»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ كان عمر بن اخلطاب خيطب يوم مجعة ‪ ،‬فدخل عثمان فقال عمر ‪ :‬أية ساعة‬
‫هذه؟ فقال عثمان ‪ :‬يا أمري املؤمنني انقلبت من أمر السوق فسمعت النداء ‪ ،‬فما زدت‬
‫على أن توض أت‪ .‬فق ال عم ر ‪ :‬والوض وء أيض ا وق د علمت أن رس ول اهلل ك ان يأمرن ا‬
‫بالغسل؟ فقوله ‪« :‬أية ساعة هذا؟» تعريض باإلنكار عليه لتأخره عن اجمليء إىل الصالة‬
‫وترك السبق إليها‪ .‬وهو من التعريض املعرب عن األدب‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وقفت ام رأة على قيس بن عب ادة فق الت ‪« :‬أش كو إلي ك قل ة الف أر يف بي يت»‪.‬‬
‫فق ال ‪« :‬م ا أحس ن م ا وردت عن حاجته ا ‪ ،‬امألوا هلا بيته ا خ بزا ومسنا وحلم ا»‪ .‬فه ذا‬
‫تعريض من املرأة حسن املوقع‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫‪ 4‬ـ كتب عمرو بن مسعدة الكاتب إىل املأمون يف أمر بعض أصحابه وهو ‪« :‬أما‬
‫بعد فقد استشفع يب فالن إىل أمري املؤمنني ليتطول يف إحلاقة بنظر أنه من اخلاصة ‪ ،‬فأعلمته‬
‫أن أمري املؤمنني مل جيعلين يف مراتب املستشفعني ‪ ،‬ويف ابتدائه بذلك تعدى طاعته»‪ .‬فوقع‬
‫املأمون يف ظهر كتابه قد عرفت تص رحيك له وتعريضك لنفسك ‪ ،‬وقد أجبناك إليهما‪.‬‬
‫وهذا من أحسن التعريضات (‪.)1‬‬

‫بالغة الكناية‬
‫الكناية من أساليب البيان اليت ال يقوى عليها إال كل بليغ متمرس بفن القول‪ .‬وما‬
‫من شك يف أن الكناية أبلغ من اإلفصاح والتعريض أوقع يف النفس من التصريح‪.‬‬
‫وإذا كان للكناية مزية على التصريح فليست تلك املزية يف املعىن املكىن عنه ‪ ،‬وإمنا‬
‫هي يف إثب ات ذل ك املع ىن لل ذي ثبت ل ه‪ .‬فمع ىن ط ول القام ة وك ثرة الق رى مثال ال يتغ ري‬
‫بالكناية عنهما بطول النجاد وكثرة رماد القدر ‪ ،‬وإمنا يتغري بإثبات شاهده ودليله وما هو‬
‫علم على وجوده ‪ ،‬وذلك ال حمالة يكون أثبت من إثبات املعىن بنفسه‪.‬‬
‫فاملبالغة اليت تولدها الكناية وتضفي هبا على املعىن حسنا وهباء هي يف اإلثبات دون‬
‫املثبت ‪ ،‬أو يف إعطاء احلقيقة مصحوبة بدليلها ‪ ،‬وعرض القضية ويف طيها برهاهنا‪.‬‬
‫ه ذا أب و ف راس احلم داين وه و أس ري يف بالد ال روم خياطب ابن عم ه س يف الدول ة‬
‫بقوله ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬ارجع يف ذلك إىل املثل السائر ص ‪ 247‬ـ ‪.258‬‬

‫‪223‬‬
‫ويف ك ل ي وم لقي ة وخط اب‬ ‫وق د كنت أخش ى اهلج ر والش مل ج امع‬
‫وللبح ر ح ويل زخ رة وعب اب؟‬ ‫فكي ف وفيم ا بينن ا مل ك قيص ر‬
‫ففي البيت الثاين يريد أبو فراس أن يقول ‪« :‬فكيف وفيما بيننا بعد شاسع» ولكنه‬
‫ك ىن عن ه ذا املع ىن بقول ه ‪« :‬مل ك قيص ر وللبح ر ح ويل زخ رة وعب اب» فجم ال ه ذه‬
‫الكناية ليس يف املعىن املكىن عنه وهو «البعد الشاسع الذي يفصل بني الرجلني» وإمنا هو‬
‫يف اإلتيان مبلك قيصر والبحر الزاخر العباب وإثباته للمكىن عنه يف صورة برهان حمسوس‬
‫عليه‪ .‬والكناية كاالستعارة من حيث قدرهتا على جتسيم املعاين وإخراجها صورا حمسوسة‬
‫تزخر باحلياة واحلركة وتبهر العيون منظرا‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك قوله تعاىل تصويرا حلال صاحب اجلنة عند ما رأى جنته اليت كان‬
‫ِف ِه‬ ‫ِّل َّف ِه‬
‫يعتز هبا قد أهلكها اهلل عقابا له على شركه ‪َ( :‬فَأْص َبَح ُيَق ُب َك ْي َعلى م ا َأْنَف َق يه ا َو َي‬
‫خاِو َيٌة َعلى ُعُر وِش ها َو َيُقوُل يا َلْيَتِني َلْم ُأْش ِرْك ِبَر ِّبي َأَح دًا‪).‬‬
‫فالكناي ة يف اآلي ة الكرمية هي يف قول ه تع اىل ‪ُ( :‬يَق ِّلُب َك َّف ْي ِه) والص فة ال يت تل زم من‬
‫تقليب الكفني هي الن دم واحلزن ‪ ،‬ألن الن ادم واحلزين يعمالن ذل ك ع ادة‪ .‬فتقليب الكفني‬
‫يف مثل هذا املوقف كناية عن الندم واحلزن‪.‬‬
‫فاملعىن الصريح هنا هو «فأصبح نادما حزينا» وهذا أمر معنوي تدخلت فيه الكناية‬
‫فجسمته وأظهرته للعيان يف صورة رجل اعرتاه الذهول من هول ما أصاب اجلنة اليت كان‬
‫يع تز هبا ‪ ،‬فوق ف يقلب كفي ه ن دما وحزن ا على أمل ه املنه ار أم ام عيني ه! وه ذا س بب من‬
‫أسباب بالغة الكناية‪.‬‬
‫ومن صور الكناية الرائعة تفخيم املعىن يف نفوس السامعني ‪ ،‬حنو‬

‫‪224‬‬
‫قول ه تع اىل ‪( :‬اْلقاِر َع ُة‪َ .‬م ا اْلقاِر َع ُة؟ َو م ا َأْد راَك َم ا اْلقاِر َع ُة؟) «فالقارع ة» كناي ة عن‬
‫«القيام ة» وق د ع دل عن التص ريح بلف ظ «القيام ة» إىل الكناي ة عن ه بلف ظ «القارع ة» ال‬
‫إلثبات ذلك املعىن للقيامة ‪ ،‬وإمنا إلثبات شاهده ودليله وهو أهنا تقرع القلوب وتزعجها‬
‫بأهواهلا ‪ ،‬وذلك تفخيما لشأن القيامة ىف النفوس‪.‬‬
‫ومن ص ورها ك ذلك التعمي ة والتغطي ة حرص ا على املك ىن عن ه أو خوف ا من ه ‪،‬‬
‫كالكناية عن أمساء النساء أو أمساء األعداء ‪ ،‬كقول عمر بن أيب ربيعة ‪:‬‬
‫إذا ن ام ح راس النخي ل جناكم ا‬ ‫ذا‬ ‫ة حب‬ ‫يت وادي بوان‬ ‫ا خنل‬ ‫أي‬
‫ا‬ ‫اء فتاكم‬ ‫ول الفت‬ ‫وزاد على ط‬ ‫فطيبكم ا أرىب على النخ ل هبج ة‬
‫فق د ك ىن «بنخل يت وادي بوان ة» عن اثن تني من ص واحبه ‪ ،‬حرص ا على مسعتهما ‪،‬‬
‫كما كىن «حبراس النخيل» عن ذويهما خوفا منهم‪.‬‬
‫وكقوله أيضا ‪:‬‬
‫على العه د ب اق وده ا أم تص رما‬ ‫ا‬ ‫تطلعا لن‬ ‫ذات اخلال فاس‬ ‫املا ب‬
‫ا‬ ‫د خفت أن تتيمم‬ ‫ا وبكم ق‬ ‫بن‬ ‫ة‬ ‫وى أجنبي‬ ‫وال هلا ‪ :‬إن الن‬ ‫وق‬
‫فق د ك ىن «ب ذات اخلال» عن اس م إح دى ص واحبه حرص ا على مسعتها وص ونا‬
‫المسها عن االبتذال‪.‬‬
‫ويظه ر أن من الش عراء من ك انوا يض يقون ذرع ا بالكناي ة عن أمساء ص واحبهم‬
‫ويودون ـ لو استطاعوا ـ التصريح بأمسائهن تلذذا برتديدها ‪ ،‬يدلنا على ذلك قول ذي الرمة‬
‫‪:‬‬
‫ري معجم!‬ ‫ىن بامسها غ‬ ‫ه أتغ‬ ‫ب‬ ‫أحب املك ان القف ر من أج ل أن ين‬

‫‪225‬‬
‫ولعل أسلوب الكناية من بني أساليب البيان هو األسلوب الوحيد الذي يستطيع به‬
‫املرء أن يتجنب التص ريح باأللف اظ اخلسيس ة أو الكالم احلرام‪ .‬ففي اللغ ات ‪ ،‬وليس يف‬
‫اللغة العربية وحدها ‪ ،‬ألفاظ وعبارات تع ّد «غري الئقة» ويرى يف التصريح هبا جفوة أو‬
‫غلظة أو قبح أو سوء أدب أو ما هو من ذلك بسبيل‪.‬‬
‫وعدم اللياقة يف النطق أو التصريح هبذه األلفاظ اخلسيسة والعبارات املستهجنة اليت‬
‫ت دخل يف دائ رة الكالم احلرام كم ا يق ول علم اء االجتم اع ق د يك ون باعث ه االمشئزاز ‪،‬‬
‫االمشئزاز مما تولده يف النفس من مشاعر وانفعاالت غري سارة ‪ ،‬وقد يكون باعثه اخلوف ‪،‬‬
‫اخلوف من اللوم والنقد والتعنيف ‪ ،‬واخلوف من أن يدمغ املرء باخلروج على آداب اجملتمع‬
‫الذي يعيش فيه‪.‬‬
‫لكل ذلك كانت الكناية هي الوسيلة الوحيدة اليت تيسر للمرء أن يقول كل شيء‬
‫‪ ،‬وأن يعرب بالرمز واإلحياء عن كل ما جيول خباطره حراما كان أو حالال ‪ ،‬حسنا كان أو‬
‫قبيحا ‪ ،‬وهو غري حمرج أو ملوم‪ .‬وتلك مزية للكناية على غريها من أساليب البيان‪.‬‬
‫***‬
‫وبعد ‪ ...‬فلعل خري ما خنتم به هنا توضيحا لبعض ما ذكرناه عن الكناية أن نورد‬
‫نص ا جلأ الش اعر في ه أك ثر م ا جلأ إىل ه ذا األس لوب الرم زي س رتا لبعض م ا ال يري د أن‬
‫يصرح به‪ .‬وهذا النص من قصيدة أليب فراس احلمداين بعث هبا وهو أسري يف بالد الروم‬
‫إىل ابن عمه األمري سيف الدولة يسأله املفاداة‪ .‬قال ‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ل دي ‪ ،‬وللن وم القلي ل املش رد‬ ‫هد‬ ‫ريح املس‬ ‫ك للجفن الق‬ ‫دعوت‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬القريح ‪ :‬اجلريح‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫د‬ ‫ذول ألول جمت‬ ‫ألول مب‬ ‫اة ‪ ،‬وإهنا‬ ‫ا ذاك خبال باحلي‬ ‫وم‬
‫( ‪)2‬‬
‫وم ا اخلطب مما أن أق ول ل ه ‪ :‬ق د‬ ‫وم ا األس ر مما ض قت ذرع ا حبمل ه‬
‫( ‪)3‬‬
‫على ص هوات اخلي ل غ ري موس د‬ ‫ولكن ين أخت ار م وت ب ين أيب‬
‫( ‪)4‬‬
‫ولكن ين مل أنض ث وب التجل د‬ ‫نض وت على األي ام ث وب جالديت‬
‫فكن خ ري م دعو وأك رم منج د‬ ‫دعوت ك واألب واب ت رتج بينن ا‬
‫د‬ ‫وم إىل غ‬ ‫أخري ي‬ ‫وال أرجتي ت‬ ‫أنادي ك ال أين أخ اف من ال ردى‬
‫( ‪)5‬‬
‫بأي دي النص ارى الغل ف ميت ة أكم د‬ ‫ة‬ ‫ولكن أنفت املوت يف دار غرب‬
‫د‬ ‫اء املخل‬ ‫ب الثن‬ ‫وأرغب يف كس‬ ‫فال ك ان كلب ال روم أرأف منكم و‬
‫طوي ل جناد الس يف رحب املقل د؟‬ ‫م ىت ختل ف األي ام مثلي لكم ف ىت‬
‫ود‬ ‫ا مع‬ ‫واد إليه‬ ‫رع ع‬ ‫وأس‬ ‫ف إن تفق دوين تفق دوا ش رف العال‬
‫ف ىت غ ري م ردود اللس ان وال الي د‬ ‫و‬ ‫دوا لعالكم‬ ‫دوين تفق‬ ‫وإن تفق‬
‫د‬ ‫ام املهن‬ ‫رب عنكم باحلس‬ ‫ويض‬ ‫انه‬ ‫كم بلس‬ ‫دافع عن أعراض‬ ‫ي‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬ألول جمتد ‪ :‬ألول سائل أو طالب‪.‬‬
‫(‪ )2‬ق د هن ا ‪ :‬اس م مبع ىن حس يب ‪ ،‬وتس تعمل للمخ اطب ك ذلك فتق ول ‪« :‬ق دك» بس كون ال دال مبع ىن‬
‫«حسبك»‪.‬‬
‫(‪ )3‬صهوات ‪ :‬مجع صهوة ‪ ،‬وصهوة كل شيء أعاله ‪ ،‬وهي هنا مقعد الفارس من ظهر الفرس‪.‬‬
‫(‪ )4‬نضا الثوب ينضوه ‪ :‬خلعه وألقاه‪.‬‬
‫(‪ )5‬الغل ف ‪ :‬مجع أغل ف ‪ ،‬يق ال قلب أغل ف ‪ ،‬أي أص م أو علي ه غش اء عن مساع احلق وقبول ه ‪ ،‬وه و قلب‬
‫الكافر‪.‬‬

‫‪227‬‬
228
‫فهرس‬
‫مقدمة ‪5..................................................................‬‬
‫نشأة علم البيان وتطوره ‪7.................................................‬‬
‫المبحث األول‬
‫فن التشبيه‬
‫أركان التشبيه ‪64.........................................................‬‬
‫طرفا التشبيه ‪65...........................................................‬‬
‫أداة التشبيه ‪77............................................................‬‬
‫وجه الشبه ‪83............................................................‬‬
‫التشبيه املقلوب ‪95........................................................‬‬
‫التشبيه الضمين ‪101......................................................‬‬
‫أغراض التشبيه ‪105.......................................................‬‬
‫غرائب التشبيه وبديعه ‪114................................................‬‬
‫حماسن التشبيه ‪119.......................................................‬‬
‫عيوب التشبيه ‪128.......................................................‬‬

‫‪229‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫الحقيقة والمجاز‬
‫أقسام اجملاز‬
‫اجملاز العقلي ‪143.........................................................‬‬
‫اجملاز املرسل ‪156.........................................................‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫االستعارة‬
‫االستعارة ‪167...........................................................‬‬
‫تعريف االستعارة ‪173....................................................‬‬
‫أقسام االستعارة ‪:‬‬
‫االستعارة التصرحيية واملكنية ‪176..........................................‬‬
‫إجراء االستعارة ‪179.....................................................‬‬
‫االستعارة األصلية والتبعية‪181.............................................‬‬
‫االستعارة باعتبار املالئم ‪186..............................................‬‬
‫االستعارة التمثيلية ‪192....................................................‬‬
‫مكان االستعارة من البالغة ‪196...........................................‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫الكناية‬
‫أقسام الكناية ‪211........................................................‬‬
‫كناية الصفة ‪212.........................................................‬‬
‫كناية املوصوف ‪215......................................................‬‬
‫كناية النسبة ‪217.........................................................‬‬
‫بني الكناية والتعريض ‪219................................................‬‬
‫بالغة الكناية ‪223........................................................‬‬

‫‪230‬‬

You might also like