Professional Documents
Culture Documents
Elm Albayan
Elm Albayan
2
3
4
مقّد مة
ه ذا الكت اب يض م بني دفتي ه حماض رات يف «علم البي ان» ألقيته ا على طلب ة الص ف
الثاين يف قسم اللغة العربية وآداهبا جبامعة بريوت العربية.
والقسم األول من هذه احملاضرات يعاجل تاريخ علم البيان ويتابع نشأته وتطوره يف
العصور املختلفة ،أي منذ بدأت مباحثه يف صورة مالحظات بالغية حىت صارت علما
واضح املعامل قائما بذاته على يد عبد القاهر اجلرجاين والزخمشري والسكاكي ومن بع دهم
من رجال البالغة.
وق د حرص نا يف ه ذا الع رض الت ارخيي على التعري ف بعلم اء البالغ ة وأعم اهلم ،
مس لطني الض وء بوج ه خ اص على م ا ورد يف كتبهم متص ال بفن ون علم البي ان موض وع
حبنن ا .ك ذلك حرص نا على بي ان منه اج ك ل منهم يف حبث ة وم دى ت أثره مبن قبل ه وت أثريه
فيمن بع ده ،م ع اإلش ارة إىل من أّدت مس امهته منهم يف ه ذا املي دان إىل هنض ة البالغ ة
العربية أو مجودها.
أما القسم الثاين من احملاضرات فدراسة مفص لة حتليلية تعززها النماذج والشواهد
لفنون علم البيان من التشبيه ،واحلقيقة واجملاز بأنواعه ،والكناية.
واهلل أسأل أن ينفع هبذه احملاضرات مبقدار اجلهد الذي بذل فيها.
املؤلف
5
6
نشأة علم البيان وتطّو ره
ـ 1ـ ترتبط «البالغة العربية» يف األذهان عند ذكرها بعلومها الثالثة املعروفة لنا
اليوم وهي :علم املعاين ،وعلم البيان ،وعلم البديع.
وقد يتبادر إىل بعض األذهان أّن هذه العلوم الثالثة البالغية قد نشأ كل واحد منها
مستقال عن اآلخر مبباحثه ونظرياته ،ولكن الواقع غري ذلك.
ف الواقع أّن البالغ ة العربي ة ق د م ّر ت بت اريخ طوي ل من التط ور ح ىت انتهت إىل م ا
انتهت إليه ،وكانت مباحث علومها خمتلطا بعضها ببعض منذ نشأة الكالم عنها يف كتب
السابقني األولني من علماء العربية ،وكانوا يطلقون عليها «البيان».
وقد أخذت املالحظات البيانات تنشأ عند العرب منذ العصر اجلاهلي ّ ،مث مضت
هذه املالحظات تنمو بعد ظهور اإلسالم ألسباب شىّت ،منها حتضر العرب ،واستقرارهم
يف املدن واألقط ار املفتوح ة ،وهنض تهم العقلي ة ّ ،مث اجلدل الش ديد ال ذي ق ام بني الف رق
الدينية املختلفة
7
يف شؤون العقيدة والسياسة .فكان طبيعيا لذلك كله أن تكثر املالحظات البيانية والنقدية
تل ك ال يت نلتقي هبا يف ت راجم بعض الش عراء اجلاهليني واإلس الميني يف كت اب مث ل كت اب
األغاين.
وإذا انتقلن ا إىل العص ر العباس ي فإنن ا جند باإلض افة إىل منو املالحظ ات البالغي ة
حماوالت أولية لتدوين هذه املالحظات وتسجيلها ،كما هو الشأن يف كتب اجلاحظ ،
وخباص ة كت اب «البي ان والتب يني» .وق د أّدى إىل ه ذه النقل ة اجلدي دة عوام ل منه ا تط ور
الشعر والنثر بتأثري احلضارة العباسية ،ورقي احلياة العقلية فيها ،ومنها ظهور طائفتني من
العلماء املعلمني عنيتا بشؤون اللغة والبيان ،إحدامها طائفة حمافظة هي طائفة اللغويني ،
وهؤالء كانوا يعلمون رواية األدب وأصوله اللغوية والنحوية ،وكان اهتمامهم بالشعر
اجلاهلي واإلسالمي أكثر من اهتمامهم بالشعر العباسي ،وقد هداهم البحث يف أساليب
الشعر القدمي من ناحيتيها اللغوية والنحوية إىل استنباط بعض اخلصائص األسلوبية على حنو
م ا جند يف كت اب س يبويه من مث ل كالم ه عن التق دمي والت أخري ،واحلذف وال ذكر ،
والتعريف والتنكري ،وحنو ذلك.
كذلك نلتقي بكتاب «معاين القرآن» للفّر اء « 207ه» ،والذي يعىن فيه بالتأويل
وتص وير خص ائص بعض ال رتاكيب ،واإلش ارة إىل م ا يف آي ال ذكر احلكيم من الص ور
البيانية.
ّمث نلتقي بكتاب «جماز القرآن» أليب عبيدة معمر بن املثىن « 211ه» الذي كان
معاص را للف راء ،وه ذا الكت اب ال يبحث يف جماز الق رآن من اجلانب البالغي ،وإمّن ا ه و
حبث يف تأوي ل بعض اآلي ات القرآني ة ،وأب و عبي دة ه ذا ه و أّو ل من تكلم بلف ظ اجملاز ،
كما ذكر ابن تيمية يف كتابه «اإلميان» ولكنه مل يتكّلم عن اجملاز الذي هو قسيم احلقيقة ،
وإمّن ا اجملاز
8
عنده يع ين بيان املع ىن .وم ع ه ذا فق د وردت يف كتابه «جماز الق رآن» إشارات إىل بعض
األساليب البيانية كالتشبيه واالستعارة والكناية ،وبعض خصائص التعبري النحوية اليت هلا
دالالت معنوية من مثل الذكر واحلذف وااللتفات والتقدمي والتأخري.
ومع ما اهتدى إليه كل من الفراء وأيب عبيدة من السمات واخلصائص البيانية فإّن
م دلوالهتا البالغي ة مل تتبل ور وحتدد يف ذهن أي منهم ا أو أي من اللغ ويني والنح اة
املعاصرين هلما.
أما طائفة العلماء املعلمني األخرى اليت ظهرت يف العصر العباسي فهي طائفة علماء
الكالم ويف طليعتهم املعتزل ة ال ذين ك انوا ي دربون تالمي ذهم على فن ون اخلطاب ة واجلدل
والبحث واملن اظرة يف املوض وعات املتص لة بفك رهم االع تزايل .وك ان ه ذا الت دريب يعم ق
وميتد حىت يشمل الكالم وصناعته وقيمته البالغية واجلمالية.
وق د حف ظ لن ا كت اب البي ان والتب يني للجاح ظ ق درا كب ريا من مالحظ ات املعتزل ة
املتصلة بالبالغة العربية ،وهذه قد استقوها من مصدرين مها :التقاليد العربية ،والثقافات
األجنبية اليت شاعت يف عصرهم واطلعوا عليها .فالثقافات األجنبية اليت أخذوا أنفسهم
بدراس تها وتعّم ق وا يف فلس فتها ومنطقه ا ق د ع ادت عليهم بفائ دتني هلم ا أثرمها يف ش ؤون
البالغة :فائدة عقلية حبتة مصدرها دراسة الفلسفة اإلغريقية اليت نظمت عقوهلم تنظيما
دقيقا أعاهنم على استنباط القضايا البالغية ،وفائدة أخرى ترجع إىل طلبهم معرفة ما يف
ثقافات األمم األخرى اليت وصلت إليهم من قواعد البالغة والبيان.
ويتض ح ذل ك حني جند اجلاح ظ املع تزيل ي ورد يف كتاب ه البي ان والتب يني تع اريف
اليونان والفرس واهلند للبالغة وهذا يعين أّن املعتزلة
9
أخذوا يضيفون إىل مالحظات العرب اخلاصة يف البالغة مالحظات األمم األجنبية وخاصة
اليون ان ،ومض وا من خالل ذل ك ينف ذون إىل وض ع املق دمات األوىل لقواع د البالغ ة
العربية.
وأّو ل معتزيل خطا خطوة ملحوظة يف هذا السبيل هو رئيس املعتزلة ببغداد بشر بن
املعتمر املتوىف سنة 210للهجرة ،فعنه نقل اجلاحظ صفحات نثر فيها بشر مالحظات
دقيق ة يف البالغ ة ،تلقفه ا من ج اء بع ده من العلم اء ،واس تعانوا هبا على بل ورة بعض
أصول البالغة وقواعدها.
ولعّل أكرب معتزيل جاء بعد بشر بن املعتمر وأوىل البالغة العربية عناية فائقة هو أبو
عثمان عمرو بن حبر اجلاحظ املتوىف سنة 255للهجرة .فقد أّلف يف البالغة كتابه «البيان
والتب يني» يف أربع ة جمل دات ض خام مجع فيه ا معظم م ا انتهى إىل عص ره من مالحظ ات
بالغية ،سواء ما اهتدى إليه علماء العربية بأنفسهم أو ما جاء إليهم منقوال عن آداب
الف رس واهلن د واليون ان وغ ريهم أو عن طري ق م ا قاله بشر ( )1بن املعتمر وك ان به س ابقا
لعص ره يف مي دان البالغ ة .ه ذا باإلض افة إىل آراء اجلاح ظ ومالحظات ه اخلاص ة يف القض ايا
البالغية ،وال سيما ما يتصل بالتشبيهات واالستعارات واجملازات اليت هي موضوع «علم
البيان».
وقد خطا اجلاحظ خطوة غري مسبوقة يف مالحظاته البالغية ،وذلك بالكالم عن
التشبيه واالستعارة عن طريق النماذج ،مع التفريق بينهما ،كما استعمل «املثل» مرادفا
للمج از ،وجعل ه مق ابال للحقيق ة ،وذل ك إذ يق ول عن د حديث ه عن «ن ار احلرب» (: )2
«ويذكرون نارا أخرى ،وهي على طريق
__________________
( )1كتاب البيان والتبيني ج 1 :ص .135 :
( )2أي غري النار احلقيقية ،وهي اليت كان يوقدها العرب ليال على جبل إذا توقعوا جيشا عظيما يف حرب
وأرادوا االجتماع إلبالغ اخلرب إىل أصحاهبم.
10
املثل ال على طريق احلقيقة .قال ابن ميادة :
وأخ رى ش ديد باألع ادي ض ريرها ي داه ي د تنه ّل ب اخلري والن دى
( )1
وأخ رى يص يب اجملرمني س عريها» ون اراه :ن ار ن ار ك ل م دّفع
فاملثل املرادف عنده للمجاز قد استعمله مقابال للحقيقة ،وهبذا كان أّو ل من فطن
إلى تقس يم اللف ظ إلى حقيق ة ومج از .وال شك أّن هذا ينفي ما زعمه ابن تيمية يف كتابه
«اإلميان» ( )2من أّن تقس يم اللف ظ إىل حقيق ة وجماز تقس يم ح ادث بع د الق رن الث الث
اهلجري.
ولع ّل خري من أفاد من مالحظات اجلاحظ البالغية وبىن عليها وطورها هو ضياء
ال دين بن األث ري املت وىف س نة 637للهج رة ،يف كتاب ه «املث ل الس ائر يف أدب الك اتب
والشاعر» ،كما سنرى فيما بعد.
وجمم ل الق ول يف اجلاح ظ من جه ة البالغ ة أّن ه أمّل يف كتب ه باألس اليب البياني ة من
تشبيه واستعارة وكناية وحقيقة وجماز ،ولكنه مل يوردها يف تعريفات اصطالحية ،وإمّن ا
جاء تعريفه هلا والداللة عليها عن طريق األمثلة والنماذج ال عن طريق القواعد البالغية.
واملقارنة بينه وبني من تقدموه يف هذا امليدان تظهر أّنه كان بال شك أقدرهم على
إدراك أسرار البالغة ،وأكثرهم اهتداء عن طريق النماذج إىل شىت العناصر أو األساليب
البيانية اليت عرفت وح ّد دت فيما بعد ،وأصبحت تؤلف مباحث البالغة وموضوعاهتا.
وهلذا فهو يعّد حبق مؤسس
__________________
( )1كتاب احليوان للجاحظ ج .5 :ص 133الضرير :الشدة والبأس .الكل بفتح الكاف :من يعوله غريه
،أو اليتيم .املدفع بفتح الدال وتشديد الفاء :الفقري الذليل.
( )2اإلميان .ص .34
11
البالغة العربية األول ،ومعّبد الطريق أمام من أتى بعده من رجاهلا.
ّمث ج اء من بع ده مت أثرا خط اه وإن مل يكن معتزلي ا ( )1مثل ه ابن قتيب ة ال دينوري «
276ه» ففي كتابه «تأويل مشكل القرآن» يتح ّد ث أوال عن إعجاز القرآن كرد على
الطاعنني يف أسلوبه ،جهال منهم بأساليب البيان العريب ّ ،مث ينتقل من ذلك إىل احلديث
املبوب عن موضوعات «علم البيان» من حقيقة وجماز وتشبيه واستعارة وكناية.
وبعد ابن قتيبة يأيت معاصره أبو العباس املربد « 285ه» بكتابه «الكامل» الذي
جيمع بني الشعر والنثر ،ويع ّد من كتب اللغة املمهدة للمعاجم مبا تضمنه من تفسري كل
ما يقع يف نصوصه من كالم غريب أو معىن مغلق.
ومع أّن «الكامل» يف األصل كتاب لغة فإّن املربد تعرض فيه عند شرح النصوص
األدبي ة لبعض موض وعات البي ان مث ل اجملاز واالس تعارة والكناي ة والتش بيه ال ذي توس ع يف
حبثه وقسمه إىل أربعة أقسام :تشبيه مفرط ،وتشبيه مصيب ،وتشبيه مقارب ،وتشبيه
بعي د .وق د اس توحى ه ذا التقس يم مما كتب ه اجلاح ظ عن التش بيه دون أن يض يف ه و إلي ه
جديدا من عنده.
***
وأّو ل كتاب يلقانا من كتب علماء الكالم الذين اهتموا باملباحث البالغية من أجل
تفسري اإلعجاز البالغي للقرآن هو كتاب «النكت يف
__________________
( )1هو أبو حممد عبد اهلل بن مسلم بن قتيبة الكويف املولد ،ومسي الدينوري ألّنه كان قاضي الدينور .وكان
ألهل السنة مثل اجلاحظ للمعتزلة ،فإّنه خطيب أهل السنة ،كما كان احلاحظ خطيب املعتزلة.
12
إعجاز القرآن» للرماين املعتزيل « 386ه».
وقد حتّد ث الرماين فيه عن البالغة وجعلها يف عشرة أبواب يعنينا منها هنا اثنان من
أبواب «علم البيان» ،مها التشبيه واالستعارة .أّم ا التشبيه فقد قّس مه إىل حسي وعقلي ،
ّمث فّص ل الق ول يف العقلي من ه تفص يال أف اد من ه فيم ا بع د عب د الق اهر اجلرج اين يف كت اب
«أسرار البالغة» .وكذلك توسع يف الكالم عن االستعارة مبينا قيمتها البيانية ،وأهّن ا أبلغ
يف الداللة على املعىن من احلقيقة .وكل ما قاله الرماين عن االستعارة كان رصيدا جديدا
انتفع به أيضا فيما بعد عبد القاهر وغريه من البالغيني إىل حد كبري.
وكتاب «النكت يف إعجاز القرآن» مبشتمالته ومضمونه واجلديد فيه له أثر واضح
يف تاريخ البالغة العربية ،فقد عّر ف فيه بعض ألواهنا تعريفا هنائيا ،ومّي ز أقسامها وأفاض
يف شرحها.
***
تلك نبذة عن مسائل «علم البيان» اليت وردت يف كتب بعض املتكلمني ممن عنوا
بدراس ة بالغ ة الق رآن وأس رار إعج ازه .وباإلض افة إلى ذل ك ظه رت في الق رن الراب ع
الهج ري دراس ات نقدي ة على أس س بالغي ة تع ّر ض فيه ا أص حاهبا إىل مب احث من علم
البيان.
13
بني مذهبني يف الشعر متقابلني من حيث صنع الشعر ونقده .واملذهب األول هو مذهب
أيب عب ادة البح رتي ودع اة البالغ ة العربي ة «ممن يفض لون س هل الكالم وقريب ه ،وي ؤثرون
صحة السبك ،وحسن العبارة ،وحلو اللفظ ،وكثرة املاء والرونق» ( .)1واملذهب الثاين
ه و م ذهب أيب متام وأص حابه ممن «مييل ون إىل الص نعة ،واملع اين الغامض ة ال يت تس تخرج
بالغوص والفكرة ،وال تلوي على غري ذلك» (.)2
ومنه اج اآلم دي يف املوازن ة أال يفص ح بتفض يل أح د الش اعرين على اآلخ ر ،وإمّن ا
يعرض بالنقد حلجج املتعصبني لكل منهما ّ ،مث يقارن بني قصيدتني من شعرمها إذا اّتفقتا
يف ال وزن والقافي ة وإع راب القافي ة ،وبني مع ىن ومع ىن ،م ع بي ان أيهم ا أش عر يف تل ك
القصيدة ،ويف ذلك املعىن ّ ،مث برتك احلكم حينئذ للقارىء على مجلة ما لكل واحد منهما
،إذا أحاط علما باجليد والرديء ( .)3فاملوازنة يف الواقع دراسة تطبيقية للصورة واحملسنات
يف شعر الشاعرين.
وليس يعنينا من املوازنة هنا إاّل ما جاء فيها متصال بعلم البيان ،وهو الباب الذي
عق ده اآلم دي ملا عيب من االس تعارة عن د أيب متام ،فه و يف ه ذا الب اب ي ذكر الق بيح من
استعارات أيب متام ،ومص در هذا القبح يف نظره هو غل ّو أيب متام وإغراقه يف استعاراته ،
ويق ول « :إّن لالس تعارة ح دا تص لح في ه ،ف إذا جاوزت ه فس دت وقبحت»ّ .مث يش ري إىل
االستعارة إشارات عامة من غري حتديد هلا كقوله « :وإمّن ا استعارت العرب املعىن ملا ليس
له إذا
__________________
( )1املوازنة :ص 4ـ .5
( )2نفس املرجع ص .5 :
( )3املوازنة ص .5 :
14
كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه يف بعض أحواله ،أو كان سببا من أسبابه ،فتكون اللفظة
املستعارة حينئذ الئقة بالشيء الذي استعريت له ومالئمة ملعناه».
وكان يعنينا من املوازنة أيضا باب آخر متصل بعلم البيان ذكره اآلمدي يف منهاج
حبث ه ،ولكن ه مفق ود من الكت اب ،وأع ين ب ه الب اب ال ذي أف رده ملا وق ع يف ش عر أيب متام
والبحرتي من التشبيه واملفاضلة بينهما فيه.
وإذا كان هدفنا األول من وراء هذا التمهيد هو تتبع فنون علم البيان منذ نشأهتا
ح ىت أص بحت علم ا مس تقال بذات ه ،ف إّن ذل ك ال مين ع من التعلي ق على رأي اآلم دي يف
االس تعارة ب أّن التمي يز بني االس تعارة اجلي دة واالس تعارة القبيح ة أم ر يرج ع إىل ال ذوق
املكتسب باملران والنظر يف أقوال الشعراء اجمليدين أكثر مما يرجع إىل القواعد اليت وضعها
لذلك علماء البيان.
15
هنج منها قريب من االقتصاد ،حىت اسرتسل فيها أبو متام ومال إىل الرخصة فأخرجه إىل
التع دي ،وتبع ه أك ثر احملدثني بع ده ،فوقف وا عن د م راتبهم من اإلحس ان واإلس اءة ،
والتقصري واإلصابة .وأكثر هذا الصنف من الباب الذي قدمت لك القول فيه ،وأقمت
لك الشواهد عليه ،وأعلمتك أّنه مما مييز بقبول النفس ونفورها ،وينتقد بسكون القلب
ونب وه ،ورمبا متكنت احلجج من إظه ار بعض ه ،واهت دت إىل الكش ف عن ص وابه أو
غلطه» (.)1
ولعّلن ا ن درك من ه ذا الق ول أّن م رّد احلكم على ج ودة االس تعارة أو قبحه ا عن د
اجلرج اين ه و «قب ول النفس أو نفوره ا» وأّن ذل ك أك ثر من احلجج الدال ة على ج ودة
االستعارة أو قبحها ،فقد جيد الناقد حججا يستدل هبا على جودة االستعارة ،ومع ذلك
تنفر منها النفس ،أو جيد حججا يستدل هبا على قبح االستعارة ،ومع ذلك تقبل عليها
النفس.
وال ريب أّن ه يف ذل ك يلتقي م ع اآلم دي يف أّن احلكم على ج ودة االس تعارة أو
رداءهتا يرجع أكثر ما يرجع إىل الذوق الذي هو وليد املران والدربة وإطالة النظر والتأمل
يف أقوال الشعراء اجمليدين.
16
على تصنيفه فيقول ....« :فقد وجدت الشعر أكرب علوم العرب ،وأوفر حظوظ األدب
،وأحرى أن تقبل شهادته ،وتتمثل إرادته ،لقول رسول اهلل صلىهللاعليهوسلم « :إّن
من الشعر حلكما» وروي «حلكمة» ،وقول عمر بن اخلطاب رضيهللاعنه « :نعم ما
تعلمت ه الع رب األبي ات من الش عر يق دمها الرج ل أم ام حاجت ه ،فيس تنزل هبا الك رمي
ويس تعطف هبا الل ئيم» ،م ع م ا للش عر من عظم املزي ة ،وش رف األبي ة ،وع ز األنف ة ،
وسلطان القدرة».
«وجدت الناس خمتلفني فيه ،متخلفني عن كثري منه :يقدمون ويؤخرون ،ويقلون
ويكثرون ،قد بّو بوه أبوابا مبهمة ،ولقبوه ألقابا متهمة ( ، )1وكل واحد منهم قد ضرب
يف جهة ،وانتحل مذهبا هو فيه إمام نفسه ،وشاهد دعواه ،فجمعت أحسن ما قاله كل
واحد منهم يف كتابه ،ليكون «العمدة يف حماسن الشعر وآدابه» «إن شاء اهلل تعاىل».
«وع ولت يف أك ثره على قرحية نفس ي ونتيج ة خ اطري خ وف التك رار ورج اء
االختصار ،إاّل ما تعلق باخلرب ،وضبطته الرواية ،فإّنه ال سبيل إىل تغيري شيء من لفظه
وال معناه ،ليؤتى باألمر على وجهه».
«فك ل م ا مل أس نده إىل رج ل مع روف بامسه ،وال أحلت في ه على كت اب بعين ه ،
فهو من ذلك ،إاّل أن يكون متداوال بني العلماء ،ال خيتص به واحد منهم دون اآلخر ،
ورمبا حنلت ه أح د الع رب ،وبعض أه ل األدب ،تس رتا بينهم ،ووقوع ا دوهنم ،بع د أن
ق رنت ك ل ش كل بش كله ورددت ك ل ف رع إىل أص له ،وبينت للناش ىء املبت دىء وج ه
الصواب فيه ،وكشفت عنه لبس االرتياب به ،حىت أع ّر ف باطله من حقه وأميز كذبه
من صدقه» (.)2
__________________
( )1متهمة بفتح اهلاء :مشكوك فيها.
( )2كتاب العمدة :ج 1ص 4ـ .5
17
تلك نبذة من مقدم ة كتاب «العمدة يف حماسن الشعر وآدابه» توضح غرض ابن
رشيق من وراء تصنيفه ،واملنهاج الذي رمسه لنفسه يف إخراجه ،مع بيان مقدار ما له
وما لغريه فيه.
وم ا دمن ا نتح دث عن نش أة علم البي ان واجله ود ال يت أس همت يف تط ويره من
مالحظات بيانية متناثرة هنا وهناك إىل علم بالغي قائم بذاته ،فإّن موضع اهتمامنا من
كتاب العمدة معّلق باألبواب اليت عرض فيها بشيء من التفصيل لفنون علم البيان ،من
جماز واستعارة وتشبيه وكناية.
حقا إّنه مجع حتت كل باب من هذه األبواب أقوال السابقني فيه وعرضها عرضا
حسنا ييسرها للطالبني ،وليس هذا اجلهد يف حد ذاته بقليل .ولكن من احلق أيضا أّن له
إض افات جدي دة يف ه ذه األب واب ت دل على غ زارة علم ه ،ودّق ة فهم ه ،وس المة ذوق ه
األديب.
18
البالغة وحدودها ،وباب يف متييز جيد الكالم من رديئه ،وباب يف معرفة صنعة الكالم
وت رتيب األلف اظ ،وب اب يف البي ان عن حس ن النظم وج ودة الرص ف ،وب اب يف ذك ر
اإلجياز واإلطناب ،وباب يف حسن األخذ وحل املنظوم ،وباب يف التش بيه ،وباب يف
ذك ر االس جاع واالزدواج ،وب اب يف ش رح الب ديع ،وب اب يف ذك ر مب ادىء الكالم
ومقاطع ه .وين درج حتت ك ل ب اب من ه ذه األب واب فص ول ت رتاوح من فص ل إىل مخس ة
وثالثني فصال.
ويف الباب األول الذي عقده أبو هالل لإلبانة عن موضوع البالغة وحدودها ين ّو ه
بشأن البالغة ،ويقرر أّن العلم هبا ضروري ملعرفة إعجاز القرآن الكرمي ،ولرتبية الذوق
األديب ،والتمييز بني جّيد الكالم ورديئه.
وأبو هالل ال خيفي تأثره باجلاحظ وإعجابه بكتابه البيان والتبيني ،واقتباسه الكثري
من ه ،ولكن ه م ع ذل ك يش ري إىل م ا يأخ ذه على منهج ه الت أليفي بقول ه « :إّن اإلبان ة عن
حدود البالغة ،وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة يف تضاعيفه ،ومنتشرة يف أثنائه ،فهي
ض الة بني األمثل ة ال توج د إاّل بالتأم ل الطوي ل والتص فح الكث ري ،ف رأيت أن أعم ل كت ايب
هذا مشتمال على مجيع ما حيتاج إليه يف صنعة الكالم نثره ونظمه» (.)1
فه ذا املأخ ذ على منه اج اجلاح ظ الت أليفي ورغبت ه يف تالفي ه وعالج ه ك ان أح د
األسباب اليت دفعت أبا هالل على تأليف كتاب الصناعتني ،أّم ا األسباب األخرى فهي
معرفته بقيمة علم صناعة الكالم ،وشعوره بش ّد ة احلاجة إليه ،وختبط العلماء وختليطهم
فيم ا رام وا من ه ّ ،مث قّل ة الكتب املص نفة في ه ،وال يت ك ان أكربه ا وأش هرها كت اب البي ان
والتبيني أليب عثمان عمرو بن حبر اجلاحظ.
__________________
( )1كتاب الصناعتني ص .5 :
19
وقد صّر ح بأّنه مل يؤلف كتابه على طريقة املتكلمني ،وإمّن ا أّلفه على طريقة ص ّناع
الكالم من الشعراء والكتاب.
واملتصفح لكتاب الصناعتني يرى أّن املؤلف قد أمّل فيه تقريبا بكل مباحث علوم
البالغة الثالثة :املعاين والبيان والبديع ،ولكن مباحث كل علم ال تأيت يف موضع معني
من الكتاب ،وإمّن ا تأيت يف ثناياه وتضاعيفه على حسب مقتضيات املنهاج الذي رمسه أبو
هالل لنفسه يف تأليفه.
وملا كنا نعرض هنا بإجياز لتاريخ البيان وتطوره حىت صار علما قائما بذاته ،فإّن
ما يعنينا من كتاب الصناعتني هو معرفة ما ورد فيه من موضوعات علم البيان وطريق ة
املؤلف يف معاجلتها ،وهذه املوضوعات هي التشبيه ،واالستعارة ،والكناية.
وقد عقد أبو هالل للتشبيه يف كتابه بابا ( )1من فصلني ،حتّد ث يف أوهلما عن حد
التش بيه ،ووج وه التش بيه املختلف ة ،وأدوات التش بيه ،والطريق ة املس لوكة يف التش بيه ،
وإخراج ما ال يعرف بالبديهة إىل ما يعرف هبا ،وإخراج ما ال ق ّو ة له إىل ما له قوة ،
وتشبيه ما يرى بالعيان مبا ينال بالفكر ،وغريب التشبيه وبديعه ومليحه ،وشرف التشبيه
وموقعه من البالغة.
ويف الفص ل الث اين حتّد ث عن قبح التش بيه وعيوب ه ،مث ل خط أ التش بيه ،والتش بيه
الكريه ،والتشبيه الرديء اللفظ ،وبعيد التشبيه ،والتشبيه املتنافر.
أّم ا االستعارة فعقد هلا فصال ( )2تكّلم فيه عن :االستعارة واجملاز ،
__________________
( )1كتاب الصناعتني :ص 238 :ـ .259
( )2كتاب الصناعتني :ص 268ـ .288
20
والغرض من االستعارة ،واالستعارة املصيبة ووقعها ،وفضل االستعارة على احلقيقة ،وال
بّد لكل استعارة وجماز من حقيقة ،وال ب ّد من معىن مشرتك بني املستعار واملستعار منه ،
واالس تعارة أبل غ من احلقيق ة ،واالس تعارة يف كالم الع رب والن يب والص حابة واألع راب ،
واالستعارة يف أشعار املتقدمني ،ويف كالم احملدثني.
وقد ع ّد أبو هالل الكناية ضمن فنون البديع ،وعقد هلا فصال عّر فها فيه وذكر
مناذج من اجليد واملعيب منها ،مع أهّن ا من مباحث علم البيان ،وليس املهم إىل أي علوم
البالغة قد نسبها ،وإمّن ا املهم أّنه أتى على ذكرها يف كتابه.
وطريقت ه يف معاجلة ه ذه املوض وعات البياني ة ليس ت طريق ة ع امل البالغ ة املع ّين
بدقائقها وتفاصيلها ،وإمنا هي طريقة من ميزج البالغة باألدب والنقد ،وإذا القارىء أمام
م زيج ترت اح إلي ه نفس ه ،ويس تدرجه إىل االسرتس ال يف حتص يله طلب ا للمزي د من املتع ة
العقلية واألدبية.
***
وبعد فلعلنا أدركنا من ثنايا عرضنا التارخيي للبيان منذ نشأة البحث فيه حىت اآلن
كيف تطور على م ّر العصور ،وكيف تضافرت جهود الباحثني فيه تدرجييا على كشف
أص وله من تش بيه وحقيق ة وجماز واس تعارة وكناي ة ،وكي ف أخ ذت مع امل ه ذه األص ول
تتضح وتتالحق واحدة بعد األخرى.
وقد ظ ّل األمر كذلك حىت ظهر عبد القاهر اجلرجاين يف القرن اخلامس اهلجري
فاقتطف مثار هذه اجلهود واخّت ذ منها مادة استعان هبا يف وضع نظرية علم البيان.
21
عبد القاهر الجرجاني :
ه و أب و بك ر عب د الق اهر بن عب د ال رمحن اجلرج اين اإلم ام النح وي وأح د علم اء
الكالم على م ذهب األش اعرة .ول د وع اش جبرج ان ومل يفارقه ا ح ىت ت ويف س نة 471
للهجرة ،وله مؤلفات فّيمة يف النحو والصرف والعروض ،وإعجاز القرآن ،والتفسري ،
والبالغة ،ولكنه اشتهر أكثر ما اشتهر بكتابه «أسرار البالغة» الذي وضع فيه نظرية علم
البيان ،وكتابه «دالئل اإلعجاز» الذي وضع فيه نظرية علم املعاين.
وه و هلذا يع ّد حبق واض ع أس س البالغ ة العربي ة واملش يد ألركاهنا ،واملوض ح
ملشكالهتا ،والذي على هنجه سار املؤلفون من بعده ،وأمتوا البنيان الذي وضع أسسه.
ومن العجيب أّن الضعف بدأ يدب إىل اللغة يف القرن اخلامس وهي يف أوج هنضتها
،وكان أّو ل مرض أمّل هبا يف هذا العصر هو الوقوف عند ظواهر قوانني النحو ،ومدلول
األلفاظ املفردة واجلمل املركبة ،واالنصراف عن معاين األساليب ،وعدم االهتمام مبناحي
القول ،وضروب التجوز والكناية فيه.
وك ان ذل ك م ا أش فق من ه عب د الق اهر على اللغ ة ،فعك ف على ت أليف «دالئ ل
اإلعج از» و «أس رار البالغ ة» الل ذين دّو ن فيهم ا علم البالغ ة ،ووض ع ق وانني للبي ان
واملع اين ،كم ا وض عت ق وانني النح و عن د ظه ور اخلط أ يف اإلع راب .ومن مقدم ة كتاب ه
«أسرار البالغة» يشعر القارىء أّن مدرسة األلفاظ كانت قد حتكمت يف عصره وغّطت
على مدرسة املعاين ،ومن أجل ذلك حاول هو بكتابه تأييد املعاين وبيان أثرها ودورها
يف بالغة القول.
وعلى هذا فالذي يعنينا من كتبه فيما حنن بسبيله هنا هو كتاب
22
«أس رار البالغ ة» ال ذي وض ع في ه نظري ة علم البي ان بقواع ده وش عبه وتفريعات ه الكث رية.
واحلق يقال إّنه فريد يف بابه ،فهو حبث يف البيان العريب غري مسبوق وال ملحوق ،وإّنه
لي دل فيم ا ي دل على أملعي ة ص احبه ،وغ زارة علم ه ،وس المة ذوق ه ،وعقليت ه اجلب ارة
املبتكرة.
و «أسرار البالغة» باستثناء ما ورد فيه عن اجلناس ،والسجع ،واالتفاق يف األخذ
والس رقة عن د الش عراء ،ه و حبث أص يل عمي ق يف أص ول علم البي ان من حقيق ة وجماز ،
واستعارة ،وتشبيه .وإذا كان مل يتكلم فيه عن الكناية ،فإّنه قد استوىف الكالم عنها يف
كتاب ه اآلخ ر «دالئ ل اإلعج از» ،كم ا ع رض في ه أيض ا لبعض ج وانب من االس تعارة ،
وللمج از احلكمي «العقلي» ال ذي اهت دى إلي ه بذوق ه الكالمي وع ّد ه ض ربا جدي دا من
اجملاز.
وعب د الق اهر ينظ ر إىل اجملاز واالس تعارة والتش بيه والكناي ة على أهّن ا عم د اإلعج از
وأركانه ،واألقطاب اليت تدور البالغة عليها .وعنها يقول :
«ومل يتعاط أحد من الناس القول يف اإلعجاز إاّل ذكرها ،وجعلها العمد واألركان
فيما يوجب الفضل واملزية ،وخصوصا االستعارة واجملاز ،فإّنك تراهم جيعلوهنما عنوان
ما يذكرون ،وأّو ل ما يوردون» (.)1
وليس من غرضنا هنا التوسع بعرض جممل آراء عبد القاهر يف مباحث علم البيان
فهذا أمر يطول شرحه ،وإن كّن ا سنعرض فيما بعد لبعض آرائه عند دراستنا التفصيلية
لفنون البيان من جماز واستعارة وتشبيه وكناية.
إمّن ا الغرض اآلن أن نبني املنهاج الذي رمسه لنفسه يف البحث
__________________
( )1انظر دالئل اإلعجاز .ص 329 :ـ .330
23
والذي يكاد يكون أّو ل منهاج علمي منظم يف البالغة ّ ،مث نشفع ذلك بذكر اجلوانب اليت
تط رق لبحثه ا يف ك ل موض وع ،األم ر ال ذي ي دل على س عة علم ه وتفوق ه على غ ريه ،
وأخريا نشري بإجياز إىل طريقته يف التأليف.
أّم ا عن منهاجه يف البحث فاستمع إليه يعرضه يف كلماته « :واعلم أّن الذي يوجبه
ظاهر األمر ،وما يسبق إليه الفكر :أن نبدأ جبملة من القول يف احلقيقة واجملاز ،ونتبع
ذلك القول يف التشبيه والتمثيل ّ ،مث ننسق ذكر االستعارة عليهما ،ونأيت هبا يف أثرمها ،
وذل ك أّن اجملاز أعم من االس تعارة ،وال واجب يف قض ايا املراتب :أن نب دأ بالع ام قب ل
اخلاص .والتش بيه كاألص ل يف االس تعارة ،وهي ش بيهة ب الفرع ل ه أو ص ورة مقتض بة من
صوره .إاّل أّن ههنا أمورا اقتضت أن تقع البداية باالستعارة وبيان صدر منها ،والتنبيه
على طريق االنقسام فيها ،حىت إذا ع ّر ف بعض ما يكشف عن حاهلا ،ويقف على سعة
جماهلا ،عطف عنان الشرح إىل الفصلني اآلخرين ،فويّف حقوقهما ،وبنّي فروقهما ّ ،مث
ننصرف إىل استقصاء القول يف االستعارة» (.)1
ذل ك ه و املنه اج ال ذي أخ ذ ب ه نفس ه ،ومجع في ه ألّو ل م رة مب احث علم البي ان
بعضها إىل بعض ،ورّتبها من حيث الكالم عنها ترتيبا منطقيا منظما ،يبدأ فيه بالعام قبل
اخلاص ،وباألصل يتلوه الفرع ،مع العناية بتوضيح ما بني التشبيه والتمثيل من فروق ،
وباستقصاء القول يف االستعارة.
أّم ا اجلوانب اليت تطرق لبحثها يف كل مبحث من مباحث علم البيان فال سبيل هنا
إىل سردها مجلة لكثرهتا ،ولكنا نكتفي بذكر طائفة منها
__________________
( )1أسرار البالغة ص 21 :ـ .22
24
لبيان أمهيتها والداللة هبا على عقلية عبد القاهر اليت تنحو منحى االبتكار واإلبداع.
1ـ الحقيق ة والمج از :ح ّد ك ّل منهم ا ،اجملاز العقلي واللغ وي والف رق بينهم ا ،
معىن اجملاز وحقيقته ،وكونه أعم من االستعارة ،ومكان االستعارة منه ،تقسيم اجملاز إىل
لغوي وعقلي ،واللغوي إىل االستعارة ،واجملاز املرسل ،كون اجملاز العقلي يف اجلمل ال
املفردات ،احلذف والزيادة ،وهل مها من اجملاز أم ال.
2ـ التشبيه :التشبيه وأقسامه ،وجوه الشبه املنتزعة من شيء أو أشياء ،التشبيه
املتوق ف على دّق ة الفك ر ،التفص يل ل دقائق التش بيه املركب ،التش بيه يف اهليئ ة ال يت تق ع
عليها احلركات ،اجلمع بني الشكل وهيئة احلرك ة يف التشبيه ،قلب التشبيه ،القلب أو
العكس يف طرق التشبيه ،القياس يف التشبيه ،تشبيه احلقيقة واجملاز ،جعل الفرع أصال يف
التشبيه وعكسه ،تأثري اختالف اجلنس بني املشبه واملشبه به.
3ـ التمثيل :الفرق بني التشبيه والتمثيل :التشبيه عام والتمثيل أخص منه ،فكل
متثيل تشبيه ،وليس كل تشبيه متثيال ،وجوه الشبه يف مجل من التمثيل ،التمثيل يف املدح
والذم واحلجاج واالفتخار واالعتذار والوعظ ،الفرق بني تأثر الكالم يف التمثيل وعدمه ،
أسباب ق ّو ة تأثري التمثيل وعلله النفسية بسبب تأثري التمثيل يف ضربيه ،تعليل يف فلسفة
التمثيل ،جعل التمثيل الشيء كضده أو عدمه ،مآخذ التمثيل من املوجودات ،الفرق
بني التمثيل الدقيق والتعقيد.
4ـ االستعارة :حدها ،أقسامها ،االستعارة املفيدة وأقسامها ،االستعارة املختلفة
اجلنس واألنواع ،االستعارة القريبة من احلقيقة ،التفرقة
25
بني نوعي االستعارة يف اجلنس ،وجه الشبه العقلي يف االستعارة ،االستعارة واملبالغة يف
التش بيه ،وق وع االس م مس تعارا حبس ب احلس وه و ليس ك ذلك ،بي ان أّن االس تعارة
ليس ت من التخيي ل ،بن اء االس تعارة والتخيي ل على تناس ي التش بيه ،الف رق بني التش بيه
واالستعارة.
ومن ج وانب االس تعارة األخ رى ال يت ذكره ا يف كتاب ه دالئ ل ( )1اإلعج از :ش رح
مع ىن االس تعارة ،االس تعارة التمثيلي ة ،فض ل االس تعارة والتمثي ل ،أمثل ة من ب ديع
االس تعارات ،املس تعار ه و مع ىن اللف ظ ال اللف ظ نفس ه ،ال يع ار اللف ظ إاّل بع د أن يع ار
املعىن.
5ـ الكناي ة :تكّلم عب د الق اهر يف كتابه «دالئ ل ( )2اإلعج از» عن اجلوانب التالي ة
من الكناية :الكناية واالستعارة ،السبب يف قبح الكناية ،شعب الكناية وصورها ليس
هلا حد وال غاية ،يف الكناية إثبات يصحبه الربهان ،االستعارة والكناية واجملاز من عمد
البالغة وأركاهنا.
أّم ا الطريقة اليت سار عليها عبد القاهر يف تأليف كتابيه «أسرار البالغة» و «دالئل
اإلعجاز» وامتاز هبا على كتب البيان األخرى فهي طريقة جتمع بني العلم والعمل الذي
يثّبت به العلم.
أما العلم فيتمثل يف القواعد الكلية ،وأّم ا العمل فيتمثل يف األمثلة والشواهد .فإذا
كانت القاعدة الكلية هي صورة إمجالية للمعلومات اجلزئية ،فإّن األمثلة والشواهد صور
تفصيلية هلا.
تلك هي طريقة عبد القاهر :يذكر القاعدة الكلية ّمث يردفها
__________________
( )1دالئل اإلعجاز .ص 45 :ـ .49
( )2انظر الدالئل ص .330 ، 280 ، 272 ، 205 ، 176 ، 44 :
26
باألمثلة والشواهد اليت تفّص لها وتوضحها ،إدراكا منه بأّن التعليم النافع إمنا يكون بقرن
الصور املفصلة بالصورة اجململة ،إذ بالتفصيل تعرف املسائل ،وباإلمجال حتفظ يف العقل.
وهبذه الطريق ة امت از كتاب اه على كتب البالغ ة األخ رى ال يت اقتص رت على س رد
القواعد بعبارات اصطالحية تأباها بالغة األساليب العربية ،واليت ال تذكر من الشواهد
واألمثلة إاّل القليل النادر الذي أدىل به السابق إىل الالحق.
الزمخشري :
ّمث ظه ر بع د عب د الق اهر اجلرج اين ع امل آخ ر ك ان ل ه أث ر كب ري يف مي دان البالغ ة
العربية وهنضتها.
ذل ك ه و الع امل املع تزيل ج ار اهلل حمم ود بن عم ر الزخمش ري املت وىف س نة 538
للهجرة ،والذي ضرب بسهم وافر يف علوم العربية والتفسري ،وله فيها املؤلفات القّيمة
اليت تشهد بفطنته وسعة علمه.
ومن مؤلفاته اليت وصلت إلينا «املفصل» يف علم النحو ،و «مقات الزخمشري» يف
التص وف ،و «أس اس البالغ ة» وه و معجم لغ وي ي ورد في ه املع اين اللغوي ة للكلم ة ،
موضحا إياها يف عبارات ،ومردفا ذلك مبعانيها اجملازية ،ولكن أهم كتاب اشتهر به منذ
عصره هو «الكشاف» الذي ق ّد م فيه صورة رائعة لتفسري القرآن ،وأشاد به حىت أهل
السنة على الرغم من اعتزال مؤلفه.
واهتمام املعتزل ة بتفسري اإلعجاز البالغي للقرآن اهتمام قدمي ،فق د كتب فيه من
رج اهلم اجلاح ظ والرم اين وعب د اجلب ار املع تزيل ّمث الزخمش ري ال ذي أقب ل بش غف على
الدراسات البالغية وال سيما كتابات عبد القاهر
27
اجلرجاين يف «دالئل اإلعجاز» و «أسرار البالغة».
أجل لقد تتلمذ على عبد القاهر يف هذين الكتابني وعمق يف فهمهما واستيعاهبما
إىل احلد ال ذي جعل ه ي ؤمن ب أّن املعرف ة بالبالغ ة وأس اليبها ال تكش ف فق ط عن وج وه
اإلعجاز البالغي يف القرآن ،بل تكشف أيضا عن خفايا معانيه وأسرارها.
ويف مقدم ة «الكش اف» يق رر أّن تفس ري الق رآن ال يكفي في ه أن يك ون املفس ر من
أئم ة الفق ه ،أو النح و ،أو اللغ ة ،أو علم الكالم ،أو القص ص واإلخب ار .وإمّن ا ينبغي
فيمن يتصدى له أن يكون بارعا يف علمني خمتصني بالقرآن مها :علم املعاين ،وعلم البيان
،وه ذان ،يف نظ ره ،أهم ع ّد ة ملن يري د أن يفس ر الق رآن ،إذ ب دوهنما ال تس تقيم ل ه
الدالالت ،وال تتضح له اإلشارات ،وال لطائف ما يف الذكر احلكيم من اجلمال املعجز
الذي عنت له وجوه العرب وخروا له ساجدين.
إذن فالتفسري عنده ليس قاصرا على معرفة معاين القرآن فحسب ،وإمّن ا هو أيضا
بي ان ألس رار إعج ازه ،ب ل إّن معرف ة معاني ه ال تتم إاّل ملن ّمتت ل ه آل ة البالغ ة ،وع رف
وج وه األس اليب وخصائص ها املعنوي ة ،وأدرك األس باب املعين ة على متي يز ص ور الكالم
البيانية.
***
والذي يدرس بإمعان تفسري «الكشاف» خيرج منه حبقيقتني :إحدامها أّنه استوعب
ك ل م ا كتب ه عب د الق اهر يف «دالئ ل اإلعج از» و «أس رار البالغ ة» قب ل أن يش رع يف
تفسريه .واحلقيقة الثانية أّن «الكشاف» هو يف الواقع خري تطبيق على كل ما اهتدى إليه
عب د الق اهر من قواع د املع اين والبي ان ،فق د اخّت ذ الزخمش ري من آي ال ذكر احلكيم أمثل ة
وشواهد يوضح
28
هبا كل قواعد عبد القاهر البالغية ،سواء ما اتصل منها بعلم املعاين أو علم البيان.
ومل تقف جهود الزخمشري يف البالغة عند حد تطبيق آراء عبد القاهر يف تفسريه
تطبيقا مستقصيا ،ولكنه وصل هذا التطبيق بكثري من آرائه اليت تدل على تعمقه ،وفطنته
يف تصوير الداللة البالغية ،وإحاطته خبواص العبارات واألساليب.
ولو أّنه اكتفى بذلك لكان حسبه مسامهة يف تطوير علمي املعاين والبيان ،ولكنا
ن راه يض يف إىل مب احث ه ذين العلمني م ا عّن ل ه من آراء ،ويس تكمل كث ريا من ش عبها
ودقائقها ومقاييسها.
وملا ك ان حبثن ا هن ا ه و يف احملل األول عن علم البي ان ،ف إّن اجلدي د ال ذي أض افه
الزخمش ري إىل مباحث ه كث ري .وتتمث ل إض افاته إلي ه يف اس تكمال ص ور الكناي ة واالس تعارة
واجملاز املرسل واجملاز العقلي ،وإحكام وضع قواعدها إحكاما دقيقا .وإذا كان عبد القاهر
ه و مؤس س علم املع اين وعلم البي ان ،وه و من اس تنبط من جزئي ات كال العلمني أك ثر
قواعده فإّن الزخمشري هو الذي أكمل قواعدمها ،وهي وإن جاءت مفرقة يف تضاعيف
تفسريه ،فإهّن ا دائما مقرونة بأمثلة من القرآن الكرمي توضحها وتكشف عن دقائقها.
وهك ذا مبنه اج عب د الق اهر ال ذي أمجلت أهم عناص ره آنف ا ،وبطريقت ه التعليمي ة
الواض حة ،وك ذلك بتط بيق الزخمش ري آلراء عب د الق اهر يف تفس ريه «الكش اف»
وباإلضافات اجلديدة اليت استكمل هبا قواعده ـ أقول بكل ذلك استطاع الرجالن أن يضعا
ويكمال قواعد علم املعاين وعلم البيان ،وكل ما هناك أّنه بقي من يستقصي هذه القواعد
عندمها وينظمها يف كتاب جيمع متفرقها ويضم منثورها.
29
وك ان ذل ك العم ل على ي د الس كاكي ال ذي دخلت البالغ ة ب ه يف ط ور اجلم ود ،
كما سنرى.
السكاكي :
هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن حممد السكاكي املتوىف سنة 626للهجرة
،اح رتف ص ناعة املع ادن ح ىت الثالثني من عم ره ّ ،مث خط ر ل ه أن خيلص للعلم فتف ّر غ ل ه
وأكّب على دراسة الفلسفة واملنطق واالعتزال والفقه وأصوله ،وعلوم اللغة والبالغة حىت
أتقنها.
وللسكاكي مؤلفات خمتلفة ،منها كتاب «مفتاح العلوم» الذي يع ّد أهم كتبه ،
وق د قّس مه ثالث ة أقس ام رئيس ية ،خص األول منه ا بعلم الص رف واالش تقاق بأنواع ه ،
والثاين بعلم النحو ،وخص القسم الثالث بعلم املعاين وعلم البيان وأحلق هبما مبحثا عن
البالغة والفصاحة ،وآخر عن احملسنات البديعية اللفظية منها واملعنوية.
وشهرة السكاكي العلمية ترجع يف الواقع إىل هذا القسم من كتابه الذي أعطى فيه
للمعاين والبيان والفصاحة والبالغة والبديع الصيغة النهائية اليت عكف عليها العلماء من
بعده يدرسوهنا ويشرحوهنا مرارا وتكرارا .وما أعطاه لعلوم البالغة ليس ابتكارا خالصا له
،وإمّن ا هو تلخيص دقيق جيمع بني أفكاره اخلاصة وأفكار البالغيني من قبله.
وقد صاغ ذلك كله صياغة مضبوطة حمكمة بقدرته املنطقية يف التعليل والتجريد
والتعريف والتقسيم والتفريع والتشعيب .وأهم الكتب اليت اعتمد عليها يف النهوض هبذا
العمل كتاب «هناية اإلجياز يف دراية اإلعجاز» للفخر الرازي املتوىف سنة 606للهجرة ،
وكتابا «دالئل
30
اإلعجاز» و «أسرار البالغة» لعبد القاهر اجلرجاين ،وكتاب «الكشاف» للزخمشري.
وقد سبقه الفخر الرازي إىل تلخيص كتايب عبد القاهر ،ولكن تلخيص السكاكي
أدق وأمشل .واملقارنة بني التلخيص تظهر أّن السكاكي كان أكثر ضبطا وتنظيما للمسائل
،مع ترتيب املقدمات وإحكام القياس.
ومع ذلك فقد خال تلخيصه من حتليالت عبد القاهر والزخمشري اليت تبهر القارىء
،وحتولت البالغ ة يف تلخيص ه إىل علم طغت في ه القواع د والق وانني على روح البي ان
وومض اته ال يت متت ع النفس .وه و يف س بيل اس تنباط القواع د والق وانني ق د اس تخدم املنط ق
بأص وله وألفاظ ه وأس لوبه اجلاف ال ذي ال حيوي أي مجال .وال عجب يف ذل ك فق د ك ان
مهه أن يقنن البالغة ويقّعدها كسائر العلوم األخرى ،وهذا أمر يستعان عليه باملنطق.
وما يعنينا هنا هو كالم السكاكي عن علم البيان ،وقد عرفه بقوله « :إيراد املعىن
الواحد بطرق خمتلفة بالزيادة يف وضوح الداللة عليه» .ويف مقدمة تلخيصه لقضايا علم
البيان تعرض للكالم عن الدالالت وكان يف كالمه عنها متأثرا برأي الفخر الرازي فيها.
وق د قس مها إىل الدالل ة الوض عية لأللف اظ ،والدالل ة العقلي ة أو االلتزامي ة ،وعن الدالل ة
األوىل يقول إّنه ال جيوز إرجاع الفصاحة والبالغة إىل الداللة اللفظية ،غري أّنه قد يالبسها
ما يفيد الكالم مجاال وزينة.
أّم ا الدالل ة العقلي ة أو االلتزامي ة فهي ال يت جتري يف الص ور البياني ة وهي ختتل ف عن
الداللة الوضعية.
31
وه ذه الدالل ة العقلي ة أو االلتزامي ة إّم ا أن تك ون من ب اب دالل ة الالزم على امللزوم
كداللة كثرة الرماد على الكرم يف الكناية ،وإما من باب داللة امللزوم على الالزم ،أي
داللة املسبب على السبب كقوله تعاىل َ( :و ُيَنِّزُل َلُك ْم ِم َن الَّس ماِء ِر ْز ق ًا) فالرزق ال ينزل
من السماء ولكن الذي ينزل مطر ينشأ عنه النبات الذي منه طعامنا ورزقنا ،فالرزق هو
املس بب أو املل زوم ال ذي دّل على الس بب أو الالزم ،وذل ك على حنو م ا ه و مع روف يف
اجملاز املرسل.
ّمث خيلص من هذه املقدمة اليت يغلب عليها أسلوب املنطق إىل أن علم البيان يتناول
التشبيه واجملاز والكناية.
ومباحث التشبيه عند السكاكي تتناول أربعة موضوعات هي :طرفاه ،ووجهه ،
والغرض منه ،وأحواله يف القرب والغرابة ،والقبول والرفض.
فطرفا التشبيه إما أن يدركا باحلس كتشبيه الوجه بالقمر ،وإما أن يدركا باخليال
كتش بيه ش قائق النعم ان ( )1على أغص اهنا ب أعالم ي اقوت على رم اح من زبرج د .فالتش بيه
اخلي ايل ه و املع دوم ال ذي ف رض جمتمع ا من أم ور ك ل واح د منه ا ي درك ب احلس ،ف إّن
األعالم الياقوتية املنشورة على الرماح الزبرجدية مما ال يدرك باحلس ،ألّنه ال وجود هلا يف
ع امل الواق ع ،ولكن املادة ال يت ت ركب منه ا التش بيه ،أي األعالم والي اقوت والرم اح
والزبرجد كل منها حمسوس بالبصر .وإما أن يدرك طرفا التشبيه بالوهم كما إذا قدرنا
__________________
( )1شقائق النعمان :نور وزهر أمحر ،أضيف إىل النعمان بن املنذر آخر ملوك احلرية ،ألّنه خرج مرة إىل
ظاهر احلرية فرأى هذا النوع من الزهر ،فقال :ما أحسنه! امحوه ،فكان أول من محاه فنسب إليه.
32
صورة ومهية للموت وشبهناها باملخلب أو الناب ،وإما أن يدركا بالعقل كتشبيه العلم
باحلياة ،وإما أن يدركا بالوجدان كاللذة واألمل والشبع واجلوع .وهذه تقسيمات للتشبيه
واستحدثها السكاكي متأثرا بكالم الفالسفة وعلماء الكالم يف صور اإلدراك.
***
وأقسام وجه الشبه عند السكاكي كثرية :
فوجه الشبه عنده إّم ا أن يكون واحدا أو غري واحد ،وغري الواحد إما أن يكون يف
حكم الواحد لكونه هيئة مركبة أو ال يكون .والواحد إما أن يكون حسيا أو عقليا ،وال
بد يف احلسي من أن يكون طرفاه حسيني.
أما وجه الشبه العقلي فيجري يف مجيع صور التشبيه ،فقد يكون طرفاه حسيني.
كتشبيه الشجاع باألسد يف اجلراءة ،وقد يكون طرفاه عقليني كتشبيه اجلهل باملوت يف
عدم النفع ،وقد يكون أحدمها حسيا واآلخر عقليا كتشبيه العلم بالنور يف النفع والفائدة.
وهك ذا ميض ي الس كاكي يف تقس يم وج ه الش به أقس اما أخ رى ق د نع رض هلا عن د
الكالم عن التشبيه تفصيليا.
***
ّمث يتحّد ث السكاكي عن أغراض التشبيه ،ويقسمها إىل ما يعود إىل املشبه أو إىل
املشبه به .ويقسم األول إىل بيان حال ،وبيان مقدار حال ،وبيان إمكان حال ،وزيادة
تقرير حال ،وتزيني ،وتقبيح واستطراف.
أما األغراض اليت تعود إىل املشبه به فمرجعها إىل إيهام كونه أمت من املشبه يف وجه
الشبه ،أو بيان أّنه أهم عند مريد التشبيه.
33
وال يفوته هنا أن يبدي رأيه يف التشبيه التمثيلي مقررا أّن وجه الشبه فيه ينبغي أن
يك ون مركب ا ،أي ص ورة منتزع ة من متع دد وأن يك ون ومهي ا اعتباري ا ،وه و يف ذل ك
خيالف عبد القاهر الذي يشرتط أن يكون وجه الشبه يف التشبيه التمثيلي مركبا وأن يكون
عقليا ،والعقلي عنده يشمل الومهي.
***
وعن أح وال التش بيه من حيث الق رب والغراب ة ،والقب ول وال رفض ،يس توحي
السكاكي يف ذلك رأي عبد القاهر ،فيقول :إن إدراك الشيء جممال أسهل من إدراكه
مفص ال ،وإّن حض ور م ا ي رتدد على احلس أق رب من حض ور م ا ال ي رتدد علي ه ،وإّن
الشيء مع ما يناسبه أقرب حضورا منه مع ما ال يناسبه ،وإّن استحضار األمر الواحد
أيسر من استحضار غري الواحد ،وإّن ميل النفس إىل احلسيات أمت من ميلها إىل العقليات
،وإّن النفس ملا تع رف أقب ل منه ا ملا ال تع رف ،وإّن اجلدي د املس تطرف عن دها أل ذ من
املعاد املكرر.
وعلى ضوء هذه األصول يقول :إّن من أسباب قرب التشبيه أن يكون وجهه أمرا
واحدا ،أو يكون املشبه به قريبا يف الصورة من املشبه ،أو يكون حاضرا يف اخليال جبهة
من اجلهات.
أّم ا غرابته فمن أسباهبا أن يكون وجه الشبه مركبا ،أو يكون املشبه به بعيد الشبه
عن املش به ،أو يك ون ومهي ا أو مركب ا عقلي ا .أّم ا التش بيه املقب ول فاألص ل في ه أن يك ون
صحيحا ،وأاّل يكون مبتذال.
وكذلك يعرض السكاكي لصور التشبيه البليغ ،ويتابع عبد القاهر يف إدخال صور
التجريد املختلفة يف التشبيه كقولك عن صديق أنست حبديثه «وجدت يف حديثه نسمة
عطرة» فقد جردت من حديث الصديق
34
نسمة متصفة بالعطر كأهّن ا غريه ،مع أّن حديث الصديق هو هي .وكقول الشاعر :
أع انق غص ن الب ان من لني ق دها وأج ين ج ىن ال ورد من وجناهتا
فالشاعر هنا ج ّر د من ق ّد احلبيبة غصن بان لني ،ومن وجنتيها وردا .فهو بدل أن
يعرب بالتشبيه الصريح فيقول :ق ّد احلبيبة كغصن البان لينا ،ووجناهتا كالورد ،عرّب عنه
بأسلوب التجريد الذي عّد ه السكاكي صورة من صور التشبيه.
وأخريا خيتم السكاكي كالمه عن التشبيه ذاكرا أّنه قد يشّبه الضد بضده على سبيل
التهكم ،كتشبيه اجلبان باألسد ،والبخيل حبامت مثال.
***
بع د ذل ك ينتق ل الس كاكي إىل احلديث عن اجملاز وجيره ذل ك أوال إىل تعري ف
احلقيقة بأهّن ا « :الكلمة املستعملة فيما هي موضوعة له من غري تأويل يف الوضع» واحرتز
بقوله « :من غري تأويل يف الوضع» حىت ال تدخل االستعارة.
ّمث خيلص من ذل ك إىل تعري ف اجملاز بأّن ه « :الكلم ة املس تعملة يف غ ري م ا هي
موضوعة له بالتحقيق استعماال يف الغري بالنسبة إىل نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة
معناها يف ذلك النوع».
وحيرتز بقيد «التحقيق» من خروج االستعارة ،وبقيد «استعماال يف الغري بالنسبة
إىل نوع حقيقتها» من استعمال الكلمة لغة أو شرعا أو عرفا ،وبقيد «مع قرينة مانعة عن
إرادة معناها» من الكناية.
ويفرق بني اجملاز واملشرتك اللغوي ،بأّن اجملاز يالحظ فيه املعىن
35
األصلي ،أّم ا املشرتك فيدل على املعنيني معا ،ويتخصص بالقرائن وهي داللة وضعية.
ومن تعري ف اجملاز ينتق ل إىل أقس امه ،فيقس مه قس مني أساس يني :جمازا لغوي ا يف
املفرد ،وجمازا عقليا يف اجلملة ّمث يف ّر ع هذين القسمني أقساما أخرى ،منها املفيد اخلايل
عن املبالغة يف التشبيه وهو اجملاز املرسل ،ومنها املفيد املتضمن للمبالغة يف التشبيه ،وهو
االستعارة ،وهي أن تذكر أحد طريف التشبيه وتريد به الطرف اآلخر مدعيا دخول املشبه
يف جنس املشبه به داال على ذلك بإثباتك للمشبه ما خيص املشبه به.
***
بع د ذل ك يأخ ذ الس كاكي يف تقس يم االس تعارة إىل تص رحيية وهي م ا ص ّر ح في ه
بلفظ املشبه به ،وإىل مكنية وهي ما ذكر فيها لفظ املشبه ّ ،مث يقسمها إىل أصلية أو تبعية
،وإىل مرشحة أو جمردة.
وبع د الكالم مفص ال عن ك ل ن وع من أن واع االس تعارة ،يع ود إىل اس تيفاء بقي ة
أنواع اجملاز فيتكلم عن جماز احلذف من مثل «وجاء ربك» أي أمر ربك ،وجماز الزيادة
من مث ل «ليس كمثل ه ش يء» إذ زي دت الك اف يف اآلي ة ،واجملاز العقلي ،وه و إس ناد
الفع ل أو م ا يف معن اه إىل غ ري م ا ه و ل ه لعالق ة مانع ة من إرادة اإلس ناد احلقيقي ،كق ول
املتنيب يف وصف ملك الروم بعد هزمية سيف الدولة له :
وق د ك ان ي أىب مش ي أش قر أج ردا وميش ي ب ه العك از يف ال دير تائب ا
فالفع ل «ميش ي» هن ا ق د أس ند إىل «العك از» أي إىل غ ري فاعل ه ،ألّن العك از ال
ميشي وإمّن ا الذي ميشي هو صاحب العكاز ،ولكن ملا كان
36
العكاز سببا يف املشي جاز إسناد الفعل إليه.
***
وأخريا ينتقل السكاكي إىل الكناية فيعّر فها بأهّن ا « :ترك التصريح بذكر الشيء إىل
ذك ر م ا يلزم ه ،لينتق ل من املذكور إىل املرتوك» .ويالح ظ أّن املرتوك ق د يك ون قريب ا
ظ اهرا ،وقد يكون بعيدا خفيا ،وهلذا قال إّن الكتاب ة تتف اوت من تع ريض إىل تلويح ،
ورمز ،وإحياء وإشارة.
ّمث يع رض إىل التفري ق بني الكناي ة واجملاز من وجهني :أح دمها أّن الكتاب ة ال تن ايف
إرادة احلقيقة بلفظها ،فاخلنساء عند ما ترثي أخاها صخرا «بأّنه كثري الرماد» كناية عن
جوده وكرمه ،فإّن هذه الكناية ال متنع من إرادة املعىن احلقيقي بأّن أخاها صخرا كثري
الرم اد حقيق ة ومن غ ري تأوي ل .أّم ا اجملاز فيمن ع من إرادة املع ىن احلقيقي ،فال جيوز أن
يكون املراد من قولك « :كلمت أس دا» األس د احلقيقي .والوجه الثاين أّن الكناي ة بنيت
على االنتقال من الالزم إىل امللزوم على حني بين اجملاز على االنتقال من امللزوم إىل الالزم.
ويقس م الس كاكي الكناي ة حبس ب املراد منه ا إىل ثالث ة أقس ام :كناي ة عن ص فة ،
وكناية عن موصوف ،وكناية عن نسبة.
تلك خالصة ملا أورده السكاكي يف كتابه «مفتاح العلوم» عن مباحث علم البيان
اليت أكثر فيها من التقسيمات والتفريعات ،وخرج هبا من جو البالغة الواضحة السمحاء
إىل ميدان املنطق املعقد اجلاف.
***
وعلى طريق تتبعنا لنشأة علم البيان وتطوره نلتقي بعد السكاكي
37
بطائفة من علماء البالغة الذين احنرفوا يف دراستها عن طريقة السكاكي ،أو ساروا عليها
تلخيصا جملهوده فيها.
***
التنوخي :
ومنهم التن وخي حمم د بن حمم د بن عم رو املت وىف س نة 692للهج رة ،وص احب
كتاب «األقصى القريب يف علم البيان» .والتنوخي هذا ممن احنرفوا عن طريقة السكاكي
والزخمشري وعبد القاهر اجلرجاين يف تقسيم البالغة إىل علوم ،لكل منها مباحثه اخلاصة
ال يت متيزه عن غ ريه .وق د حنا التن وخي يف كتاب ه منحى ابن األث ري من حيث إطالق اس م
البيان على مجيع
38
مباحث البالغة من غري فصل بينها.
أّم ا من حيث مب احث علم البي ان ال يت ع رض هلا يف كتاب ه فلم تتج اوز االس تعارة
والتش بيه .وكالم ه عن االس تعارة م وجز يق ف في ه عن د م ا مساه الس كاكي االس تعارة
التصرحيية ،وهي ما صرح فيها بلفظ املشبه به دون املشبه .أّم ا االستعارة املكنية واليت هي
قسيم التصرحيية فلم يتعرض هلا يف كتابه.
وقد أطال يف سرد أمثلة التشبيه وبيان أنواعه ،وهبذا نال من اهتمامه أكثر مما نالت
منه االستعارة.
39
وجتدر اإلشارة إىل أّن كالمه عن هذه املباحث ينقصه التنظيم والتبويب ،فاحلديث
عن هذه الفنون البيانية يأيت عنده متداخال على حسب ما تستدعيه طبيعة البحث .ومع
هذا فإّن الدارس ملباحث علم البيان يف كتاب املثل السائر خيرج منه بصورة شاملة واضحة
هلذه املب احث البياني ة ،وبص ورة أخ رى ملنه اج ابن األث ري يف البحث ،ه ذا املنه اج ال ذي
جيمع فيه بني علمه الدقيق بأصول البيان العريب وبني النقد والتحليل.
وإذا انتقلنا اآلن إىل عرض كالمه يف مباحث علم البيان فإننا نراه بدأ أّو ل ما بدأ
باالس تعارة ممه دا هلا حبديث عن اجملاز ،فاالس تعارة عن ده من أوص اف الفص احة والبالغ ة
العام ة ال يت ترج ع إىل املع ىن ،وهي ض رب من اجملاز ال ذي ه و قس مان :توس ع يف الكالم
وتش بيه .وال يك اد ي ذكر التش بيه ح ىت يس تطرد إىل الكالم عن ه فيقس مه تقس يما أولي ا إىل
تشبيه تام وتشبيه حمذوف مع تعريف كليهما وتوضيحه باألمثلة.
وال ينتهي من ذل ك ح ىت يب دأ فيقس م التش بيه تقس يما آخ ر ،من حيث ذك ر أداة
التش بيه وح ذفها ،إىل تش بيه مظه ر وتش بيه مض مر .وهن ا يض طره البحث إىل التفري ق بني
التشبيه املضمر واالستعارة ،فالتشبيه املضمر حيسن إظهار أداة التشبيه فيه ،أّم ا االستعارة
فال حيسن إظهار أداة التشبيه فيها ،أي أهّن ا ال تكون إاّل حبيث يطوي ذكر املستعار له.
فالتشبيه املضمر من مثل «زيد أسد» إذا أظهرت األداة فيه وقيل :زيد كاألسد ،
حس ن ظهوره ا ،ومل تق دح يف الكالم ال ذي أظه رت في ه ،وال تزي ل عن ه فص احة وال
بالغ ة .وه ذا خبالف االس تعارة فإّن ه ال حيس ن فيه ا ظه ور أداة التش بيه ،وم ىت أظه رت
أزالت عن ذلك الكالم ما كان متصفا به من جنس فصاحة وبالغة .فقول الشاعر :
40
( )1
ف أمطرت لؤل ؤا من ن رجس وس قت وردا ،وعض ت على العّن اب ب الربد
علي ه من احلس ن والرون ق م ا ال خف اء ب ه ،وه و من ب اب االس تعارة .ف إذا أظهرن ا
املستعار له واألداة صرنا إىل كالم غث ،وذاك أنا نقول :فأمطرت دمعا كاللؤلؤ ،من
عينني كالنرجس ،وسقت خدا كالورد ،وعضت على أنامل خمضوبة كالعناب ،بأسنان
كالربد.
وينتقل من ذلك إىل ذكر سبب تسمية االستعارة ،وبيان حقيقتها ،وميزهتا على
التشبيه املضمر.
ّمث يعود إىل التشبيه استيفاء للكالم عنه ،فيقسم املضمر منه مخسة أقسام من حيث
تق دير أداة التش بيه .ف إذا م ا ف رغ من ذل ك ن راه يش ري إىل تفرق ة علم اء البي ان بني التش بيه
والتمثي ل ،م ع أهنم ا يف رأي ه ش يء واح د ،ال ف رق بينهم ا يف أص ل الوض ع ،إذ يق ال :
شبهت هذا الشيء هبذا الشيء ،كما يقال مثلته به.
وينتق ل بع د ذل ك إىل بي ان فائ دة التش بيه من الكالم مق ررا أّن من حماس نه جميئ ه
مصدريا ،كقولنا :أقدم إقدام األسد ،وفاض فيض البحر ،وكقول أيب نواس يف وصف
اخلمر :
اجلراد وثب وثبت ا ا مزجوه وإذا م
اد ذ الرق ذت أخ أخ ربوها اش وإذا م
أي وثبت كوثب اجلراد ،وأخذت بشاربيها كأخذ الرقاد.
__________________
( )1العناب بضم العني وتشديد النون :نوع من الثمر أمحر اللون .والربد بفتح الباء والراء :شيء أبيض ينزل
من السحاب يشبه احلصى ،ويسمى حب الغمام ،وحب املزن ،وتشبه به األسنان عادة لشدة صفاء بياضه.
41
ومن بيان فائدة التشبيه يستطرد إىل القول بأّن تشبيه الشيئني أحدمها باآلخر ال خيلو
من أربع ة أقس ام :إم ا تش بيه مع ىن مبع ىن ،كقولن ا :زي د كاألس د ،وإّم ا تش بيه ص ورة
بص ورة ،كقول ه تع اىل َ( :و ِع ْن َد ُه ْم قاِص راُت الَّط ْر ِف ِع يٌن َك َأَّنُه َّن َبْيٌض َمْك ُن وٌن )،وإّم ا
تش بيه مع ىن بص ورة ،كقول ه تع اىل َ( :و اَّل ِذ يَن َكَف ُر وا َأْع م اُلُه ْم َك َس راٍب ِبِق يَع ٍة )1()،وإّم ا
تشبيه صورة مبعىن ،كقول أيب متام :
رم احملب املغ بابة ب ك الص فت دا ل وبالع وفتكت باملال اجلزي
فشبه فتكه باملال واألعداء ،وذلك صورة مرثية ،بفتك الصبابة وهو فتك معنوي.
وعنده أن أبلغ هذه األقسام األربعة هو تشبيه معىن بصورة لتمثيله املعاين املوهومة
أو املتخيلة بالصور املشاهدة ،وأّن ألطف هذه األقسام هو تشبيه صورة مبعىن ،ألّن فيه
نقل صورة إىل غري صورة.
وتقسيمه السابق للتشبيه هو تقسيم له من حديث املعىن ،وهلذا نراه يقسمه مرة
أخ رى من حيث اللف ظ أقس اما أربع ة أيض ا هي :تش بيه مف رد مبف رد ،وتش بيه م ركب
مبركب ،وتشبيه مفرد مبركب ،وتشبيه مركب مبفرد ،موضحا كل ذلك باألمثلة.
وهو يعين بتشبيه مفرد مبفرد تشبيه شيء واحد بشيء واحد ،كما يعين باملركب
تشبيه شيئني بشيئني فما فوقهما ،كقول بعضهم يف اخلمر :
دماء ا على الن ام جيلوه إذ ق ها ل كأس أن حام وكأهّن ا وك
واكب اجلوزاء دجى بك در ال ب مشس الض حى رقص ت فنق ط وجهه ا
__________________
( )1القاع والقيعة بكسر القاف :املستوى من األرض الذي ال ينبت.
42
فقد شبه الشاعر هنا ثالثة أشياء بثالثة أشياء :شبه الساقي بالبدر ،وشبه اخلمر
بالشمس ،وشبه احلبب الذي فوقها بالكواكب.
***
بع د ذل ك ينتق ل ابن األث ري إىل احلديث عن الكناي ة والتع ريض يف موض ع آخ ر من
كتاب ه ذاك را يف مس تهل حديث ه أّن علم اء البي ان من أمث ال الغ امني وأيب هالل العس كري
وابن سنان اخلفاجي قد خلطوا الكناية بالتعريض ،ومل يفرقوا بينهما ،ومل يعّر فوا كليهما
بتعريف مييزه عن اآلخر.
وقبل أن يتعرض هو لتعريف كل منهما يورد تعريف علماء أصول الفقه للكناية
وهو «أهّن ا اللفظ احملتمل» ،أي أهنا اللفظ الذي حيتمل الداللة على املعىن وعلى خالفه.
ويعقب ابن األثري على هذا التعريف بأّنه تعريف فاسد ،إذ ليس كل لفظ يدل على املعىن
وعلى خالفه بكناية ،فقد يدل اللفظ على املعىن وعلى خالفه ،وليس بكناية.
ومتهي دا لتحدي د مفه وم الكناي ة عن ده يق ول ابن األث ري « :إّن الكناي ة إذا وردت
جتاذهبا جانب ا حقيق ة وجماز ،وج از محله ا على اجلانبني ....وأّم ا التش بيه فليس ك ذلك ،
وال غريه من أقسام اجملاز ،ألّنه ال جيوز محله إاّل على جانب اجملاز خاصة ،ولو محل على
جانب احلقيقة الستحال املعىن.
أال ترى أنا إذا قلنا :زيد أسد ،ال يصح إاّل على جانب اجملاز خاصة ،وذاك أّنا
ش بهنا زي دا باألس د يف ش جاعته ،ول و محلن اه على ج انب احلقيق ة الس تحال املع ىن ،ألّن
زي دا ليس ذل ك احلي وان ذا األرب ع ،وال ذنب ،وال وبر ،واألني اب واملخ الب ،وإذا ك ان
األم ر ك ذلك فح ّد الكناي ة اجلامع هلا ه و أهّن ا ك ل لفظ ة دّلت على مع ىن جيوز محل ه على
جانب احلقيقة
43
ِخ
،مثال ذلك قوله تعاىل ِ( :إَّن ه ذا َأ ي َل ُه واجملاز بوصف جامع بني احلقيقة واجملاز»
( )1
ِتْس ٌع َو ِتْس ُعوَن َنْع َج ًة َو ِلَي َنْع َج ٌة واِح َد ٌة )،فكين بذلك عن النساء والوصف اجلامع بينهما
هو التأنيث ،فاملعىن هنا جيوز محله على جانب احلقيقة ،كما جيوز محله على اجملاز.
ّمث يعرض ابن األثري بعد ذلك الشتقاق لفظة «الكناية» مقررا أهّن ا قد تكون مشتقة
من لفظة «الكنية» أو من السرت ،إذ يقال كنيت الشيء إذا سرتته.
كما يقرر أّن الكناية ليست نوعا مستقال من اجملاز ،وإمّن ا هي جزء من االستعارة ،
ألّن االستعارة ال تكون إاّل حبيث يطوى املستعار له ،وكذلك الكناية فإهّن ا ال تكون إاّل
حبيث يطوى ذكر املكىّن عنه.
ونسبتها إىل االستعارة نسبة خاص إىل عام ،فيقال :كل كناية استعارة وليس كل
استعارة كناية .هذا فرق بينهما ،وفرق آخر هو أّن االستعارة لفظها صريح ،والصريح
هو ما دّل عليه ظاهر لفظه ،والكناية ض ّد الصريح ،ألهّن ا عدول عن ظاهر اللفظ .فهذه
ف روق ثالث ة بني االس تعارة والكناي ة ذكرمها ابن األث ري :أح دمها اخلص وص والعم وم ،
واآلخر الصريح ،والثالث احلمل على جانب احلقيقة واجملاز.
وكما ف ّر ق بني الكناية واالستعارة ،ف ّر ق أيضا بني الكناية والتعريض الذي عرفه
بقول ه « :ه و اللف ظ ال دال على الش يء عن طري ق املفه وم ،ال بالوض ع احلقيقي وال
اجملازي» ،فإذا قال قائل ملن يتوقع صلته ومعروفه بغري طلب « :واهلل إين حملتاج ،وليس
يف يدي شيء ،وأنا عريان ،والربد
__________________
( )1كتاب املثل السائر ص .247
44
قد آذاين» فإّن هذا القول وأشباهه تعريض بالطلب ،وليس هذا القول موضوعا يف مقابلة
الطلب ال حقيق ة وال جمازا ،وإمّن ا دّل علي ه من طري ق املفه وم .وعن ده أّن التع ريض مسي
تعريضا ألّن املعىن يفهم فيه من عرضه ،أي من جانبه ،وعرض كل شيء جانبه.
وكما ف ّر ق بني الكناية والتعريض من جهة خفاء الداللة ووضوحها ،ف ّر ق بينهما
من جه ة اللف ظ ،فالكناي ة تش مل املف رد واملركب مع ا ،فت أيت على ه ذا ت ارة وعلى ه ذا
أخرى ،أّم ا التعريض فيختص باللفظ املركب ،وال يأيت يف اللفظ املفرد البتة.
ودليله على ذلك أّن املعىن يف التعريض ال يفهم من جهة احلقيقة وال من جهة اجملاز
،وإمّن ا يفهم من جهة التلويح واإلشارة ،وذلك ال ينهض به اللفظ املفرد ،ولكنه حيتاج
يف الداللة عليه إىل اللفظ املركب.
وعند ابن األثري أّن الكناية تنقسم قسمني :أحدمها ما حيسن استعماله ،واآلخر ما
ال حيس ن اس تعماله ،وه و عيب يف الكالم ف احش .وق د ع رض هن ا إىل تقس يم بعض
البالغيني هلا فقال « :وقد ذهب قوم إىل أّن الكناية تنقسم أقساما ثالثة :متثيال ،وإردافا
،وجماورة» (ّ )1مث بني ما يقصدونه من كل قسم ،وعقب عليه بأّنه تقسيم غري صحيح ،
ولكن تعليقه يبدو فيه شيء من االضطراب والتناقض.
وأخ ريا خيتم ابن األث ري كالم ه عن الكناي ة والتع ريض بض رب األمثل ة عليهم ا ن ثرا
ونظما حىت يزيد ما ذكره عنهما وضوحا.
ذلك عرض موجز جلانب من كتاب املثل السائر البن األثري ،وهو
__________________
( )1كتاب املثل السائر ص .251
45
اجلانب ال ذي تكّلم في ه عن مب احث علم البي ان من جماز واس تعارة وتش بيه وكناي ة .وق د
قص دنا من وراء ه ذا الع رض املوجز إىل بي ان أم رين :م دى مس امهة ابن األث ري يف تط وير
هذه املباحث البيانية عن طريق املادة البالغية اليت ق ّد مها لنا فيها ،وكذلك الطريقة اليت
سلكها يف معاجلة هذه املادة وعرضها ،وهي طريقة ختالف بال شك طريقة السكاكي اليت
قص د هبا إىل تأص يل قواع د البالغ ة وص بها يف ق والب منطقي ة جاف ة .ورمبا التقي ا يف ك ثرة
التقس يمات والتفريع ات ،ولكن ش تان بني تقس يمات وتفريع ات يغلب عليه ا املنط ق
وأخرى جيليها الفن وحيببها إىل النفس.
46
باجملاز ومدخاّل فيه االستعارة والتمثيل والكناية .وهو يف إدخاله الكناية يف اجملاز خيالف ابن
األثري الذي قرر أّن الكناية ليست نوعا مستقال من اجملاز ،وإمّن ا هي جزء من االستعارة.
ّمث يعرض بالقول لالستعارة فيفّص ل القول فيها ذاكرا تعريف الرماين والرازي وابن
األثري هلا ،وهو يدخل فيها التشبيه البليغ أو التشبيه املضمر األداة كما يسميه ابن األثري.
ويس وق على االس تعارة ش واهد كث رية من الق رآن الك رمي وأح اديث الرس ول ومن كالم
الع رب ن ثرا وش عرا .وأخ ريا يتكلم عن أقس ام االس تعارة مستأنس ا يف ذل ك بكالم ال رازي
وبدر الدين بن مالك.
ومن االستعارة ينتقل إىل التشبيه فيطيل الكالم فيه مفيدا من كل ما ذكره الرازي
وبدر الدين بن مالك وابن األثري.
وأخ ريا يتح ّد ث عن الكناي ة ويس وق فيه ا تعري ف عب د الق اهر اجلرج اين وه و :
«واملراد بالكناية أن يريد املتكلم إثبات معىن من املعاين فال يذكره باللفظ املوضوع له يف
اللغة ،ولكن جييء إىل معىن هو تاليه وردفه يف الوجود فيومىء إليه وجيعله دليال عليه» ،
مثال ذلك قوهلم «هو طويل النجاد» يريدون طويل القامة ،ويف املرأة «نؤوم الضحى»
واملراد أهّن ا مرتفة خمدومة هلا من يكفيها أمرها ،فقد أرادوا يف هذا كله ،كما ترى ،معىن
ّمث مل يذكروه بلفظه اخلاص به ،ولكنهم توصلوا إليه بذكر معىن آخر من شأنه أن يردفه
يف الوجود ،وأن يكون إذا كان .أفال ترى أّن القامة إذا طالت طال النجاد ،وإذا كانت
املرأة مرتفة هلا من يكفيها أمرها ردف ( )1ذلك أن تنام إىل الضحى ()2؟.
__________________
( )1ردف بكسر الدال :تبع.
( )2دالئل اإلعجاز ص .44
47
كذلك ساق تفريعات بدر الدين بن مالك وابن األثري وبعض علماء أصول الفقه
يف الكناية ،وحتّد ث عن أقسامها كما حتّد ث عن التعريض ،وأخريا ختم كالمه يف البيان
عن التمثيل.
48
امللتوي ة مص طلحات وتعريف ات أخ رى أك ثر وض وحا ودق ة ،ومسح لنفس ه ف رتب مباحث ه
ترتيبا قريبا جيعلها أيسر مناال .ومل يكتف بذلك وإمنا أضاف إليه فوائد عثر عليه ا يف كتب
املتقدمني ،وزوائد مل يظفر هبا يف كالم أحد ال بالتص ريح وال باإلشارة .وكل ذلك قد
صاغه صياغة حسنة العبارة واضحة الداللة.
ولع ّل ك ل ه ذا ه و م ا هي أ لتلخيص ه س بيل الش هرة ،ولفت األنظ ار إلي ه ،فأقب ل
الناس عليه يف عصره وإىل اليوم ما بني دارس وشارح وملّخ ص وناظم.
و «تلخيص املفت اح» يش تمل على مقدم ة يف الفص احة والبالغ ة ،وثالث ة فن ون :
الفن األول عقده ملباحث «علم املعاين» والثاين ملباحث «علم البيان» ،والثالث ملباحث
«علم البديع».
وملا كانت دراستنا يف هذا الكتاب قاصرة على «علم البيان» ،فإن ما يهّم نا هنا
من كتاب «تلخيص املفتاح» للقزويين هو التعريف إمجاال مبباحث البيان اليت وردت فيه ،
تاركني الكالم عنها تفصيال إىل ما بعد الفراغ من هذه املقدمة.
***
وإذا ع دنا إىل «علم البي ان» يف كت اب «تلخيص املفت اح» فإنن ا جند القزوي ين يب دأ
أول ما يبدأ فيع ّر ف علم البيان بأّنه «علم يعرف به إيراد املعىن الواحد بطرق خمتلف ة يف
وض وح الدالل ة علي ه» وجيّر ه ه ذا التعري ف إىل دالل ة اللف ظ فيقس مها إىل دالل ة وض عية
وأخ رى عقلي ة ،مث خيلص من ش رح ه اتني ال داللتني إىل أن مب احث علم البي ان ثالث ة :
التشبيه ،واجملاز والكناية.
وينتقل إىل «التشبيه» فيعرفه مث يتكلم عن أركانه ،وهي :طرفاه ووجهه وأداته ،
وعن الغرض منه ،وعن تقسيم طرفيه إىل حسيني وعقليني
49
أو خمتلفني .كذلك يتكلم عن وجه الشبه وأنواعه ،وأدواته « :الكاف ،وكأن ،ومثل»
وما يف معناها ،وعن أغراض التشبيه وما يعود منها إىل املشبه أو املشبه به.
بعد ذلك يقسم التشبيه باعتبار طرفيه إىل تشبيه مفرد مبفرد ومها غري مقيدين ،أو
مقي دان ،أو خمتلف ان ،وتش بيه م ركب مبركب ،وتش بيه مف رد مبركب ،وتش بيه م ركب
مبفرد.
مث يقسم طريف التشبيه من حيث تعددمها إىل أربعة أقسام :تشبيه مكفوف ،كقوله
:
ل دى وكره ا العن اب واحلش ف الب ايل ك أن قل وب الط ري رطب ا ويابس ا
وتشبيه مفروق ،كقوله :
( )1
ف عنم راف األك ري ،وأط ن النش ر مس ك ،والوج وه دن ا
وتشبيه التسوية أن تعّد د طرفه األول ،كقوله :
ايل كالمها كاللي ايل دغ احلبيب وح ص
وتشبيه اجلمع أن تعّد د طرفه الثاين ،كقوله :
( )2
اح رد أو أق د ،أو ب منض ؤ م عن لؤل كأمنا يبس
ويقسمه باعتبار وجه الشبه إىل تشبيه متثيل ،وتشبيه غري متثيل ،وتشبيه جممل ،
وتش بيه مفّص ل .ك ذلك يقسمه باعتبار أداته إىل مؤك د وه و م ا حذفت أداته ،ومرسل
وهو ما ذكرت فيه األداة .وأخريا يقسمه
__________________
( )1النش ر :الرائح ة الطيب ة ،أو رائح ة فم املرأة وأعطافه ا بع د الن وم .العنم :ش جر لّني األغص ان تش به ب ه
أصابع النساء.
( )2األقاح :مجع أقحوان ،وهو ورد له نور.
50
باعتبار الغرض إىل مقبول أو مسلم احلكم فيه ،أو مردود.
مث خيتم كالم ه باحلديث عن التش بيه البلي غ على أن ه أعلى م راتب التش بيه يف ق وة
املبالغة حلذف وجهه وأداته.
***
ومن الكالم عن التش بيه ينتق ل إىل احلديث عن مبحث «احلقيق ة واجملاز» وهن ا يب دأ
أول م ا يب دأ بتعري ف «احلقيق ة واجملاز» اللغ ويني .فاحلقيق ة اللغوي ة «هي الكلم ة املس تعملة
فيم ا وض عت ل ه يف اص طالح التخ اطب» ،وه و يع ين بالوض ع تع يني اللف ظ للدالل ة على
مع ىن بنفسه ،وهبذا خيرج اجملاز اللغ وي ألنه يدّل على مع ىن بقرين ة مانع ة من إرادة املع ىن
احلقيقي.
مث يقسم اجملاز أوال إىل مفرد ومركب ،وثانيا إىل جماز مرسل إن كانت العالقة فيه
غ ري املش اهبة ،وإىل اس تعارة إن ك انت العالق ة في ه املش اهبة ،ويس تطرد من ه ذا إىل بي ان
عالقات اجملاز املرسل وهي :السببية ،واملسببية ،واجلزئية ،والكلية ،واعتبار ما كان ،
واعتبار ما سيكون ،واحمللية واحلالية.
ومن اجملاز املرسل يستطرد إىل االستعارة فيذكر :أهنا قد تقيد أو توصف باألصلية
أو لتحّق ق معناها حّس ا أو عقال ،كقول زهري :
افره مل تقلم د أظ ه لب ل ل دى أس د ش اكي الس الح مق ذف
فاالستعارة هنا يف لفظ «أسد» الذي استعري للرجل الشجاع ،وهو أمر متحقق
حّس ا ،وكقوله تعاىل ( :اْه ِد َنا الِّص راَط اْلُمْس َتِق يَم) فقد استعري «الصراط املستقيم» للدين
احلق ،وهو أمر متحّق ق عقال.
ويعرض بالتفصيل لقرينة االستعارة اليت متنع من إرادة املعىن
51
احلقيقي ،وهي عنده إما أمر واحد أو أكثر أو معان ملتئمة ،مع التمثيل لكل نوع.
مث ينتقل إىل تقسيم االستعارة باعتبار الطرفني قسمني ألن اجتماعهما يف شيء إما
ممكن حنو «أحييناه» يف قوله تعاىل َ( :أَو َمْن ك اَن َمْيت ًا َفَأْح َيْين اُه) أي ض ااّل فهديناه ،وإما
ممتنع كاستعارة اسم املعدوم للموجود لعدم غنائه وجدواه ،وهو يسمى االستعارة اليت
من النوع األول «وفاقية» ( )1واليت من النوع الثاين «عنادية».
ك ذلك يقّس م االس تعارة باعتب ار الط رفني واجلامع ،أي باعتب ار املس تعار من ه
واملستعار له والصفة اجلامعة بينهما ستة أقسام .وتفصيل ذلك أن الطرفني إن كانا حسيني
فالصفة اجلامعة بينهما إما حسّية أو عقلية أو خمتلفة ،وإن كان الطرفان عقليني أو خمتلفني
واحلس ّي هو املستعار منه ،أو خمتلفني واحلس ّي هو املستعار له ،فالصفة اجلامع ة يف كل
ذلك عقلية .فهذه ستة أقسام.
ومن هذا التقسيم ينتقل إىل تقسيم آخر وهو تقسيم االستعارة باعتبار لفظها إىل
أصلية وتبعية .فاالستعارة تكون أصلية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه امسا جامدا ،أعين
اسم جنس دااّل على ذات حمّس ة مثل لفظة «أسد» ،أو اسم جنس دااّل على معىن ،مثل
لفظة «قتل» املصدر .واالستعارة تكون تبعية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه فعال أو ما
اشتق منه أو حرفا.
وأخ ريا يقّس م القزوي ين االس تعارة إىل مطلق ة ،وجمردة ،ومرش حة .فاالس تعارة
املطلقة هي ما خلت من مالئمات املستعار منه واملستعار له ،
__________________
( )1الوفاقية :نسبة إىل الوفاق بكسر الواو ،مبعىن املوافقة.
52
واالس تعارة اجملردة هي م ا ذك ر معه ا مالئم املس تعار ل ه ،أم ا االس تعارة املرش حة فهي م ا
ذكر معها مالئم املستعار منه.
وقد جيتمع التجريد والرتشيح يف االستعارة كقول زهري السابق :
افره مل تقّلم د أظ ه لب ل ل دى أس د ش اكي الس الح مق ّذ ف
فاالس تعارة هن ا يف لفظ ة «أس د» و «ش اكي الس الح» جتري د ألن ه وص ف يالئم
املس تعار ل ه أي املش ّبه ،وه و الرج ل الش جاع ،وب اقي ال بيت «ل ه لب د أظ افره مل تقلم»
ترشيح ،ألنه وصف يالئم املستعار منه أي املشّبه به ،وهو األسد احلقيقي.
وبع د أن يس تويف القزوي ين الكالم عن االس تعارة على النح و الس ابق ن راه يع ود إىل
القسم الثاين من اجملاز ،وهو اجملاز املركب فيعرفه بأنه «اللفظ املستعمل فيما ش ّبه مبعناه
األص لي تش بيه التمثي ل للمبالغ ة» ،كم ا يق ال للم رتدد يف أم ر « :إين أراك تق دم رجال
وتؤخر أخرى» .وهذا التمثيل على سبيل االستعارة ،مبعىن أن حال املرتدد يف أمره يشبه
ح ال من يق دم رجال وي ؤخر أخ رى .إذن ه ذا ال رتكيب «إيّن أراك تق ّد م رجال وت ؤخر
أخرى» قد استعمل استعماال جمازيا ال حقيقيا ،ألن املرتدد يف أمره ،قد يبدو عليه الرتدد
دون أن يقدم رجال ويؤخر أخرى فعال .والعالقة هنا هي عالقة املشاهبة بني حال املرتدد
وحال من يقدم رجال ويؤخر أخرى.
وه ذا الن وع ال ذي ّمساه القزوي ين «التمثي ل على س بيل االس تعارة» ع رف فيم ا بع د
باسم «االستعارة التمثيلية» .وقد اقرتب القزويين من هذا التعريف عند ما قال « :وقد
يسمى التمثيل مطلقا ،ومىت فشا استعماله كذلك ّمسي مثال».
بعد ذلك عقد اخلطيب القزويين فصال خاّص ا لالستعارة املكنية قال
53
فيه « :قد يضمر التشبيه يف النفس فال يصّر ح بشيء من أركانه سوى املشبه ،ويدل عليه
بأن يثبت للمشبه أمر خيتّص باملشبه به فيسمى التشبيه استعارة بالكناية أو مكنيا عنها ،
وإثبات ذلك األمر للمشبه استعارة ختييلية ،وقد مّثل هلذه االستعارة بقول اهلذيل :
ع ة ال تنف ّل متيم ألفيت ك ا بت أظفاره ة أنش وإذا املنّي
ش ّبه هن ا املنّي ة بالس بع يف اغتي ال النف وس ب القهر والغلب ة من غ ري تفرق ة بني نّف اع
وضّر ار .وإثبات األظفار للمنّية اليت هي املشبه هو من قبيل االستعارة التخييلية.
وأخريا خيتم القزويين عرضه لالستعارة بثالثة فصول جيمل فيها كالم السكاكي عن
احلقيق ة اللغوي ة واجملاز اللغ وي واالس تعارة تعريف ا وتقس يما وتفريع ا م ع مناقش ته يف بعض
آرائه .كما يشري إىل رأي السكاكي يف أن حسن االستعارة التمثيلية واالستعارة التحقيقية
،وهي ال يت يتحق ق معناه ا حّس ا وعقال ،إمنا يك ون برعاي ة حس ن التش بيه ،مبع ىن أن ال
يشم رائحته لفظا ،وأن حسن االستعارة املكنية إمنا يكون حبسب حسن املكىّن عنه.
كذلك يشري يف النهاية إىل اجملاز العقلي مبّينا أنه ال يكون يف اللفظ كما هو الشأن
يف االستعارة واجملاز املرسل ،وإمنا يكون يف اإلسناد ،أي إسناد الفعل أو ما يف معناه إىل
غري ما هو له مع قرينة مانعة من إرادة اإلسناد احلقيقي ،وهذا أمر يدرك بالعقل ،وهلذا
مسي اجملاز العقلي.
***
ومن احلقيقة واجملاز ينتقل اخلطيب القزويين للكالم عن املبحث الثالث واألخري من
مباحث علم البيان ،وأعين به «الكناية» فيعرفها بأهنا
54
«لفظ أريد به الزم معناه مع جواز إرادته معه» ،ويوّض ح الفرق بينها وبني اجملاز الذي ال
جيوز إرادة املع ىن احلقيقي مع ه ،إذ ال جيوز أن يك ون املراد من قول ك « :كّلمت أس دا»
األسد احلقيقي.
مث يقّس م الكناية باعتبار املكىّن عنه ثالثة أقسام :ألن املكىّن عنه قد يكون موصوفا
،وقد يكون صفة ،وقد يكون نسبة .ومل تفته اإلشارة هنا إىل أنواع أخرى من الكناية
ذكرها السكاكي كالتعريض والتلويح والرمز واإلشارة واإلحياء.
ذل ك ع رض م وجز ملب احث علم البي ان كم ا وردت يف كت اب «تلخيص املفت اح»
للخطيب القزوي ين وال ذي أهنى الكالم في ه بفص ل عن بالغ ة اجملاز والكناي ة واحلقيق ة
واالستعارة ،مق ّر را أن البلغاء أمجعوا على أن اجملاز واجلناية أبلغ من احلقيق ة والتصريح ،
ألن االنتقال فيهما من امللزوم إىل الالزم ،فهو كدعوى الشيء بّينة ،وأن االستعارة أبلغ
من التشبيه ألهنا نوع من اجملاز.
***
وعلى الرغم من اجلهد العلمي الذي أفرغه القزويين يف «التلخيص» فإنه ،على ما
يبدو ،مل يكن راضيا عنه كل الرضاء .نقول ذلك ألننا رأيناه يعود فيضع له شرحا ّمساه
«اإليضاح» يفّص ل فيه بعض ما أمجله يف «التلخيص» مضيفا إليه زوائد مما استوحاه من
كتابات عبد القاهر اجلرجاين والزخمشري والسكاكي ،وكذلك مما هداه إليه تفكريه ومل
جيده لغريه.
ويف ذلك يقول يف مقدمة اإليضاح « :هذا كتاب يف علم البالغة وتوابعها ترمجته
باإليض اح وجعلت ه على ت رتيب خمتص ري ال ذي ّمسيته «تلخيص املفت اح» ،وبّس طت في ه
القول ليكون كالشرح له ،فأوضحت
55
مواضعه املشكلة ،وفّص لت معانيه اجململة ،وعمدت إىل ما خال منه املختصر مما تضمنه
«مفتاح العلوم» وإىل ما خال عنه املفتاح من كالم الشيخ اإلمام عبد القاهر اجلرجاين يف
كتابي ه دالئ ل اإلعج از وأس رار البالغ ة ،وإىل م ا تيس ر النظ ر في ه من كالم غريمها
فاستخرجت زبدة ذلك كله وهّذ بتها ورتبتها حىت استقر كل شيء يف حمله ،وأضفت إىل
ذلك ما أدى إليه فكري ومل أجده لغريي».
وم ع م ا يتخل ل «التلخيص» و «التوض يح» من اعرتاض ات على الس كاكي
ومناقشات كثرية آلرائه فإن القزويين مدين له مبادة الكتابني األساسية ،ألنه استقاها من
كتابه مفتاح العلوم مع زوائد من كتابات عبد القاهر والزخمشري ومن آرائه اخلاصة اليت
مل جيدها لغريه.
ويبقى بعد ذلك أنه خري من تأثر بالسكاكي وجنا منحاه يف تلخيص قواعد البالغة
،ه ذا املنحى ال ذي أّدى االل تزام ب ه واالسرتس ال في ه فيم ا بع د إىل جف اف الدراس ات
البالغية ومجودها.
وكم ا أقب ل القزوي ين على مفت اح الس كاكي تلخيص ا وتوض يحا ،أقب ل ك ذلك
كثريون من رجال البالغة شرقا وغربا على «تلخيص» القزويين درسا وحفظا وتلخيصا
وشرحا ونظما ،كأهنم رأوا فيه خري مرجع لقواعد البالغة.
فمّم ن نظمه شعرا جالل الدين السيوطي ومسى نظمه «اجلمان» ووضع له شرحا
ّمساه «عق ود اجلم ان» ،وخض ر بن حمم د وّمسى نظم ه «أنب وب البالغ ة» ،وعب د ال رمحن
األخضري ،وّمسى نظمه «اجلوهر املكنون يف الثالثة الفنون».
56
وّممن قام باختصاره عّز الدين بن مجاعة ،وأبرويز الرومي ،وزكريا األنصاري.
وّممن شرحه حممد بن مظفر اخللخايل « 745ه» ،ومسى شرحه «مفتاح تلخيص
املفتاح» وهباء الدين السبكي « 773ه» ومسى شرحه «عروس األفراح يف شرح تلخيص
املفت اح» ،وحمم د بن يوس ف ن اظر اجليش « 778ه» ومسى ش رحه «ش رح تلخيص
املفت اح» ،وحمم د الب ايريت « 786ه» ،ومشس ال دين القون وي « 788ه» ومسى كالمها
شرحه «شرح تلخيص املفتاح للقزويين» ،وسعد الدين التفتازاين « 792ه» وقد وضع
له شرحني :الشرح الكبري ،والشرح الصغري للتلخيص.
وه ؤالء الش ّر اح كم ا يالح ظ هم من علم اء الق رن الث امن اهلج ري ،وق د اس تمر
االهتمام بشرح تلخيص القزويين متصال حىت لنجد من علماء القرن الثاين عشر اهلجري
من قام بشرحه مثل ابن يعقوب املغريب « 1110ه» صاحب كتاب «مواهب الفتاح يف
شرح تلخيص املفتاح».
وأطول هذه الشروح شرح هباء الدين السبكي والشرح الكبري للتفتازاين الذي ع ّد ه
الق دماء خ ري ش روح التلخيص .ولع ّل مما يالح ظ على من ش رحوا «تلخيص» اخلطيب
القزويين أن معظمهم كانوا على اّطالع واسع بعلوم الفلسفة واملنطق وأصول الفقه والنحو
والبالغة .ويبدو من شروحهم أهنم مل يكونوا يهدفون إىل توضيح ما يف «التلخيص» من
إهبام وغم وض وتعقي د مبق دار م ا ك انوا يه دفون إىل اإلعالن عن م دى إملامهم بالفلس فة
واملنطق وأصول الفقه والنحو وغريها .ذلك أهنم أقحموا الكثري من قضايا هذه العلوم على
البالغة إقحاما ،وهبذا أضافوا إىل مرياث الصعوبات اليت وضعها من تقدمهم على طريق
البالغ ة العربي ة ص عوبات أخ رى أش اعت الي أس يف نف وس الراغ بني يف دراس تها واإلف ادة
منها.
57
من كل ما تقدم ندرك أن البالغة العربية منذ أن تواّل ها يف القرن السابع اهلجري
أمث ال الفخ ر ال رازي والس كاكي مل ي دخل على مباحثه ا مب احث جدي دة تثريبه ا وتبقيه ا
مّط ردة النم و واالزده ار .ولع ّل س بب ذلك ه و م ا ران وغلب على العص ور املت أخرة من
أعراض اجلمود الفكري اليت مل تصب البالغة وحدها وإمنا جتاوزهتا إىل األدب شعرا ونثرا.
لقد تلقف السكاكي البالغة العربية اليت صنعتها األجيال السابقة من عبد القاهر
والزخمشري وهي زاخرة باحليوية واحلياة مشرقة باجلمال ،وكان عليه أن يسلمها إىل من
بعده أكثر حيوية وحياة وإشراقا حىت يستمر منّو ها وازدهارها.
ولكنه بدل ذلك انكّب عليها بعقليته العلمية يصوغها ويص ّبها وحيصرها يف قوالب
فلسفية منطقية هادفا من وراء حماورته إىل مجع قواعدها وتبويب مباحثها ،ووضع املعامل
واحلدود املميزة لعلومها.
ولعّل ه ك ان يظن أن ه ب ذلك يس دي إىل البالغ ة أج ّل ص نيع ،وم ا درى أن حماولت ه
ك انت من أهم األس باب ال يت قي دت البالغ ة وح ّد ت من نش اطها وحيويته ا وانتهت هبا
تدرجييا إىل حال من الذبول واجلفاف.
ولو وقف األمر بالبالغة عند صنيع السكاكي لقلنا عثرة على طريقها ستنهض منها
،ولكن جاء بعده من نظروا إىل ما أتى به السكاكي على أنه البالغة فالتزموا به وعكفوا
علي ه درس ا وحفظ ا ،وتلخيص ا وش رحا ونظم ا ،مس تخدمني يف ك ل ذل ك طرائ ق تقي د
العق ول ب دل أن حترره ا ،وتقض ي على األذواق واملواهب وامللك ات ب دل أن ت رقى هبا
وتنّم يها !!...
***
وبعد ...فهذا عرض لنشأة علم البيان وتطوره منذ بدأ يف العصر
58
اجلاهلي على ص ورة مالحظ ات بياني ة أخ ذت تنم و وتتك اثر على تع اقب العص ور ح ىت
صارت علما مستقال بذاته على يد عبد القاهر اجلرجاين ومن جاء بعده من البالغيني.
ومن خالل ه ذا الع رض الت ارخيي تعّر فن ا إىل الكث ريين من علم اء البالغ ة العربي ة
ومؤلف اهتم فيه ا .واألم ل أن جيد طالب البالغ ة ودارس وها فيم ا ذكرن اه بإجياز من
موض وعات ه ذه املؤلف ات البالغي ة ومش تمالهتا م ا يغ ريهم ب الرجوع إليه ا ،وحيّببهم يف
قراءهتا واإلفادة منها.
واآلن نش رع يف تفص يل الكالم عن املبحث األول من مب احث علم البي ان ،وأع ين
به مبحث «التشبيه».
59
60
المبحث األّو ل
فن التشبيه
61
وأبو هالل العسكري يعرّفه بقوله « :التشبيه :الوصف بأن أحد املوصوفني ينوب
مناب اآلخر بأداة التشبيه ،ناب منابه أو مل ينب ،وقد جاء يف الشعر وسائر الكالم بغري
أداة التشبيه ،وذلك قولك « :زيد شديد كاألسد» ،فهذا القول هو الصواب يف العرف
وداخل يف حممود املبالغة ،وإن مل يكن زيد يف شدته كاألسد على حقيقته» (.)1
ويعّر فه اخلطيب القزويين بقوله « :التشبيه :هو الداللة على مشاركة أمر ألمر يف
معىن» (.)2
ويعّر فه التنوخي بقوله « :التشبيه :هو اإلخبار بالشبه ،وهو اشرتاك الشيئني يف
صفة أو أكثر وال يستوعب مجيع الصفات» (.)3
وللتشبيه تعريفات أخرى كثرية ال خترج يف جوهرها ومضموهنا عما أوردناه منها
آنفا ،ومن جمموع هذه التعريفات نستطيع أن خنرج للتشبيه بالتعريف التايل :
التش بيه :بي ان أن ش يئا أو أش ياء ش اركت غريه ا يف ص فة أو أك ثر ،ب أداة هي
الكاف أو حنوها ملفوظة أو مقدرة ،تقّر ب بني املشبه واملشبه به يف وجه الشبه.
وجتدر اإلش ارة هن ا إىل أن «التمثي ل» ن وع من أن واع التش بيه ،وه ذا رأي عب د
الق اهر اجلرج اين ال ذي يق ول « :والتمثي ل ض رب من ض روب التش بيه ،والتش بيه ع ام
والتمثيل أخص منه ،فكل متثيل تشبيه ،وليس كل تشبيه متثيال» (.)4
__________________
( )1كتاب الصناعتني ص .239
( )2انظر منت التلخيص يف «جمموع املتون الكربى» ص .473
( )3كتاب األقصى القريب للتنوخي ص .41
( )4كتاب أسرار البالغة ص .75
62
ويوضح عبد القاهر رأيه هذا يف موضع آخر من كتابه بقوله « :واعلم أن الشيئني
إذا ش ّبه أح دمها ب اآلخر ك ان ذل ك على ض ربني أح دمها :أن يك ون من جه ة أم ر بنّي ال
حيتاج فيه إىل تأويل ،واآلخر :أن يكون الشبه حمّص ال بضرب من التأويل» (.)1
مث يروح يشرح قوله هذا يف إسهاب مفاده أن التشبيه العام هو ما كان وجه الشبه
فيه مفردا ،أي صفة أو صفات اشرتكت بني شيئني ليس غري ،وأن تشبيه التمثيل هو ما
كان وجه الشبه فيه صورة مأخوذة أو منتزعة من أشياء عدة.
فقول البحرتي يف ممدوحه مثال :
من ه قرب ا ت زدد من الفق ر بع دا ازدد ماح واجلود ف و حبر الس ه
هذا التشبيه على رأي عبد القاهر تشبيه عام ألن البحرتي فيه يشبه ممدوحه بالبحر
يف اجلود والسماح ،فوجه الشبه هنا مفرد وهو اشرتاك املمدوح والبحر يف صفة اجلود.
وقول املتنيب يف ممدوحه سيف الدولة :
( )2
كم ا نفض ت جناحيه ا العق اب ه ك جانبي ز اجليش حول يه
هو عند عبد القاهر تشبيه متثيل ،ألن املتنيب يشبه صورة جانيب اجليش ،أي صورة
ميمن ة اجليش وميس رته وس يف الدول ة بينهم ا وم ا فيهم ا من حرك ة واض طراب بص ورة
عقاب تنفض جناحيها وحتركهما .ووجه الشبه هنا
__________________
( )1نفس املرجع ص 70ـ .71
( )2العقاب بضم العني :من الطيور الكاسرة ،وهي طائر خفيف اجلناح سريع الطريان ،وهبا يضرب املثل يف
العزة واملنعة ،فيقال « :أمنع من عقاب اجلو».
63
ليس صفة مفردة ،ولكنه صورة منتزعة من متعدد ،وهي وجود جانبني لشيء يف حالة
حركة ومتوج.
عبد القاهر إذن يفرق بني التشبيه العام وتشبيه التمثيل على النحو الذي بسطناه ،
ويرى أن بني االثنني عموما وخصوصا مطلقا ،فكل متثيل عنده تشبيه وليس كل تشبيه
متثيال.
ولكّن كث ريا من البالغ يني ينظ رون إىل املع ىن اللغ وي للتش بيه ،وه و التمثي ل ،
فيجعل ون التش بيه والتمثي ل م رتادفني ،ومن ه ؤالء البالغ يني ض ياء ال دين بن األث ري ال ذي
يقول « :وجدت علماء البيان قد فّر قوا بني التشبيه والتمثيل ،وجعلوا هلذا بابا وهلذا بابا
مفردا ،ومها شيء واحد ال فرق بينهما يف أصل الوضع ،يقال ش ّبهت هذا الشيء هبذا
الشيء ،كما يقال مثلته به .وما أعلم كيف خفي ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره
ووضوحه» (.)1
أركان التشبيه
أركان التشبيه أربعة هي :
1ـ املشّبه.
2ـ املشبه به .ويسميان «طريف التشبيه».
3ـ أداة التشبيه ،وهي الكاف أو حنوها ملفوظة أو مقدرة.
4ـ وجه الشبه ،وهو الصفة أو الصفات اليت جتمع بني الطرفني.
__________________
( )1كتاب املثل السائر ص .153
64
طرفا التشبيه
طرف ا التش بيه مها املش به واملش به ب ه ،ومها ركن اه األساس يان ،وب دوهنما ال يك ون
تشبيه.
ولع ل قدام ة بني جعف ر ه و أول من حبث التش بيه حبث ا أق رب إىل املنه اج العلمي ،
فأس اس التش بيه عن ده أن يق ع بني ش يئني بينهم ا اش رتاك يف مع ان تعّم هم ا ويوص فان هبا ،
وافرتاق يف أشياء ينفرد كل واحد منهما بصفتها.
وهو يبين قوله هذا على أساس أن الشيء ال يشّبه بنفسه وال بغريه من كل اجلهات
،ألن الشيئني إذا تشاهبا من مجيع الوجوه ،ومل يقع بينهما تغاير البتة احّت دا ،فصار االثنان
واحدا .وإذا كان األمر كذلك ،فأحسن التشبيه عنده هو ما وقع بني الشيئني اشرتاكهما
يف الصفات أكثر من انفرادمها فيها ،حىت يدىن هبما إىل حال االحتاد (.)1
وقد تابع أبو هالل العسكري قدامة يف رأيه القائل بأن الشيئني إذا تشاهبا من مجيع
الوج وه ،ومل يق ع بينهم ا تغ اير البت ة احتدا ،فص ار االثن ان واح دا ،وذل ك إذ يق ول :
«ويصح تشبيه الشيء بالشيء مجلة ،وإن شاهبه من وجه واحد ،مثل قولك :وجهك
مث ل الش مس ،ومث ل الب در ،وإن مل يكن مثلهم ا يف ض يائهما وال عظمهم ا ،وإمنا ش ّبه
هبم ا ملع ىن جيمعهم ا وإي اه وه و احلس ن .وعلى ه ذا ق ول اهلل عزوجل َ( :و َل ُه اْلَج واِر
اْلُم ْنَش آُت ِفي اْلَبْح ِر َك اَأْلْعالِم )،إمنا شّبه املراكب باجلبال من جهة عظمها ال من جهة
__________________
( )1انظر نقد الشعر لقدامة ص 77ـ .78
65
صالبتها ورسوخها ورزانتها ،ولو أشبه الشيء الشيء من مجيع جهاته لكان هو هو» (.)1
وما من شك يف أن ابن رشيق كان ينظر أيضا إىل قول قدامة اآلنف الذكر عند ما
قال يف كتابه العمدة ما معناه :إن املشبه لو ناسب املشبه به مناسبة كلية لكان إياه ،
كقوهلم «فالن كالبحر» ،إمنا يريدون كالبحر مساحة وعلما وليس يريدون ملوحة البحر
وزعوقته (.)2
ومما جيري جمرى الكالم الس ابق بالنس بة لط ريف التش بيه ق ول الس كاكي « :ال خيفى
عليك أن التشبيه مستدع طرفني مشّبها ومشّبها به ،واشرتاكا بينهما من وجه وافرتاقا من
آخر ،مثل أن يش رتكا يف احلقيق ة وخيتلف ا يف الص فة أو ب العكس .ف األول كاإلنسانني إذا
اختلف ا ط وال وقص را ،والث اين ك الطولني إذا اختلف ا حقيق ة :إنس انا وفرس ا ،وإال ف أنت
خب ري ب أن ارتف اع االختالف من مجي ع الوج وه ح ىت التعنّي ي أىب التع دد ،فيبط ل التش بيه ،
ألن تشبيه الشيء ال يكون إال وصفا له مبشاركته املش ّبه به يف أمر ،والشيء ال يتصف
بنفسه .كما أن عدم االشرتاك بني الشيئني يف وجه من الوجوه مينعك حماولة التشبيه بينهما
،لرجوعه إىل طلب الوصف حيث ال وصف» (.)3
66
املسموعات ،أو يف املذوقات ،أو املشمومات ،أو امللموسات :
أ ـ فيكون ان من املبص رات ،أي مما ي درك بالبص ر من األل وان واألش كال واملق ادير
واحلرك ات وم ا يتص ل هبا ،كقول ه تع اىل َ( :ك َأَّنُه َّن اْلي اُقوُت َو اْلَمْر ج اُن ) فاجلامع البي اض
واحلمرة .وكقول الشاعر :
ا رقا وغرب ون ش ك العي جتتلي ياء ة وض أنت جنم يف رفع
فاملخاطب املمدوح هنا شّبه بالنجم يف الرفعة والضياء.
وحنو تشبيه اخلد بالورد يف البياض املشرب حبمرة ،وتشبيه الوجه احلسن بالشمس
والقمر يف الضياء والبهاء ،والشعر بالليل يف السواد.
ب ـ ويكون ان من املس موعات ،أي مما ي درك بالس مع من األص وات الض عيفة
والقوية واليت بني بني ،حنو تشبيهك صوت بعض األشياء بصوت غريه ،كتشبيه صوت
املرأة اجلمي ل بص وت البلب ل ،وص وت الغاض ب اهلائج بنب اح الكالب ،وكق ول ام رىء
القيس :
ال ين واملرء ليس بق ّت يغ ط غطي ط البك ر ش د خناق ه ليقتل
ف امرؤ القيس يص ور هن ا غض ب رج ل أظه رت امرأت ه ميال حنو الش اعر ،فيش به
غطيط أو صوت هذا الزوج املغيظ احملنق بغطيط البكر وهو الف ّيت من اإلبل الذي يشد
حبل يف خناقه لرتويضه وتذليله.
ج ـ ويكون ان يف املذوقات ،أي مما ي درك بال ذوق من املطع وم ،كتش بيه بعض
الفواكه احللوة بالعسل والسكر ،والريق بالشهد أو اخلمر ،وكقول الشاعر :
ل وريح اخلزامى وذوب العس ام وب الغم أن املدام وص ك
إذا النجم وس ط الس ماء اعت دل رد أنياهبا .. هب لب يع
67
د ـ ويكون ان يف املش مومات ،أي مما ي درك حباس ة الش م من ال روائح ،وه ذا حنو
تش بيه رائح ة بعض الري احني برائح ة الك افور واملس ك ،وتش بيه الّنكه ة ب العنرب ،وتش بيه
أنفاس الطفل بعطر الزهر ،وتشبيه رائحة فم املرأة وأعطافها بعد النوم باملسك.
ه ـ ويكونان يف امللموسات ،أي يف كل ما يدرك باللمس من احلرارة والربودة ،
والرطوبة واليبوسة ،واخلشونة واملالسة ،واللني والصالبة ،واخلفة والثقل وما يتصل هبا
؛ كتشبيه اللني الناعم باخلز ،واجلسم باحلرير ،وكقول الشاعر :
رخيم احلواش ي ال ه راء وال ن زر هلا بش ر مث ل احلري ر ومنط ق
2ـ أو عقلي ان :واملراد ب الطرفني العقل يني أهنم ا ال ي دركان ب احلس ب ل بالعق ل ،
وذلك كتشبيه العلم باحلياة ،واجلهل باملوت ،فقد شبه هنا معقول مبعقول ،أي أن كال
منهما ال يدرك إال بالعقل.
3ـ أو خمتلف ان :وذل ك ب أن يك ون أح دمها عقلي ا واآلخ ر حس ّيا ،كتش بيه املنّي ة
بالسبع ،واملعقول هو املشبه ،واحملسوس هو املشبه به ،وكتشبيه العطر باخللق الكرمي ،
فاملشبه وهو العطر حمسوس بالشم ،واملشبه به وهو اخللق عقلّي .
والتش بيه احلس ي ال ذي ي درك ه و أو مادت ه بإح دى احلواس اخلمس ي دخل في ه أو
يلحق به التشبيه «اخليايل» .والتشبيه اخليايل هو املركب من أمور كل واحد منها موجود
يدرك باحلّس ،لكن هيئته الرتكيبية ليس هلا وجود حقيقي يف عامل الواقع ،وإمنا هلا وجود
متخّيل أو خيايل.
ولكن ألن أجزاء التشبيه اخليايل موجودة تدرك باحلس أحلق بالتشبيه
68
احلسي ،الشرتاك احلس واخليال يف أن املدرك هبما صورة ال معىن ،وذلك كقول الشاعر
:
ّعد ّو ب أو تص ق إذا تص قي ّر الش أّن حمم وك
( )1
د اح من زبرج ن على رم ر اقوت نش أعالم ي
فاهليئة الرتكيبية اليت قصد التشبيه هبا هنا ،وهي نشر أعالم خملوقة من الياقوت على
رم اح خملوق ة من الزبرج د مل تش اهد ق ط لع دم وجوده ا يف ع امل احلس والواق ع ،ولكن
العناصر اليت تألفت منها هذه الصورة املتخيلة ،من األعالم والياقوت والرماح والزبرجد
موجودة يف عامل الواقع وتدرك باحلس.
ويدخل البالغيون يف التشبيه العقلي ما يسمونه بالتشبيه «الومهّي » ،وهو ما ليس
مدركا بإحدى احلواس اخلمس الظاهرة ،ولكنه لو وجد فأدرك ،لكان مدركا هبا ،كما
يف قول ه تع اىل يف ش جرة الزق وم ال يت خترج يف أص ل اجلحيم َ( :طْلُعه ا َك َأَّن ُه ُر ُؤ ُس
الَّش ياِط يِن ) ،وكقول امرىء القيس :
ومس نونة زرق كأني اب أع وال؟ اجعي ريف مض ين واملش أيقتل
فالشياطني ( )2والغول وأنياهبا مما ال يدرك بإحدى احلواس اخلمس الظاهرة ،ولكنها
لو وجدت فأدركت لكان إدراكها عن طريق حاسة البصر.
__________________
( )1الش قيق :ورد أمحر يف وس طه س واد ينبت يف اجلب ال ،وتص وب :م ال إىل أس فل ،وتص عد :م ال إىل
أعلى.
( )2من ع ادة الع رب أن يش بهوا ك ل ق بيح الص ورة بالش يطان ألن ل ه ص ورة بش عة يف ت ومههم ،وأن يش بهوا
حسن الصورة بامللك بفتح الالم ،حلسن صورته يف تومههم.
69
وي دخل يف العقلي أيض ا م ا ي درك بالوج دان ،كالل ذة واألمل ،والّش بع واجلوع ،
والفرح والغضب .وما يدرك بالوجدان يعين ما يدرك بالقوى الباطنية مثل القوة اليت يدرك
هبا الّش بع ،وال يت ي درك هبا اجلوع ،وك القوة الغض بية ال يت ي درك هبا الغض ب ،وك ذلك
القوة اليت يدرك هبا الفرح واخلوف وغري ذلك من الغرائر.
فمثل هذه املعاين توجد بفعل قوى باطنية تدركها النفس هبا ،وتسمى تلك القوى
وج دانا ،واملدركات هبا وج دانيات .وق د مسيت عقلي ة خلفائه ا وع دم إدراكه ا ب احلواس
الظاهرة ،كاأللوان املدركة بالعني ،والطعم املدرك بالذوق.
70
ِبِه الِّر يُح ِفي َيْو ٍم عاِصٍف ).واملعىن اجلامع بينهما بعد التالقي ،وعدم االنتفاع.
وك ذلك قوله تع اىل يف حال من كذب بآياته ورفض اإلميان يف ك ل حال «فمثله
كمثل الكلب إن حتمل عليه يلهث أو ترتكه يلهث» ،أخرج ما ال تقع عليه احلاسة إىل ما
تق ع علي ه من هلث الكلب .واملع ىن أن الكلب ال يطيع ك يف ت رك اللهث على ح ال ،
وكذلك الكافر ال جييبك إىل اإلميان يف رفق وال عنف.
ومثل ه قول ه تع اىل ( :اَّل ِذ ي ْد ُعوَن ِم ُدوِنِه ال ِج ي وَن َل ِبَش ٍء ِإاَّل َك باِس ِط
َيْس َت ُب ُه ْم ْي ْن َو َن َي
َك َّف ْي ِه ِإَلى اْلم اِء ِلَيْبُل َغ ف اُه َو م ا ُه َو ِبباِلِغِه )،فاملعىن الذي جيمع بينهما احلاجة إىل املنفعة ،
واحلسرة ملا يفوت من درك احلاجة.
71
إىل ما مل جتر به ،واملعىن الذي جيمع األمرين الزينة والبهجة ،مث اهلالك ،وفيه العربة ملن
اعترب واملوعظة ملن تذكر.
ِم
ومن ه قول ه تع اىل ِ( :إَّن ا َأْرَس ْلنا َعَلْيِه ْم ِر يح ًا َص ْر َص رًا ِفي َيْو َنْح ٍس ُمْس َتِم ٍّر َ ،تْن ِز ُع
الَّن اَس َك َأَّنُه ْم َأْعج اُز َنْخ ٍل ُمْنَق ِع ٍر )،ف اجتمع األم ران يف قل ع ال ريح هلم ا وإهالكهم ا ،
والتخوف من تعجيل العقوبة.
ومن ه قول ه تع اىل َ( :ف ِإ َذا اْنَش َّق ِت الَّس ماُء َفك اَنْت َو ْر َدًة َك ال ِّدهاِن )1()،واجلامع
للمعنيني احلمرة ولني اجلوهر ،وفيه الداللة على عظم الشأن ،ونفوذ السلطان.
ِع
ومنه قوله تعاىل ( :اْع َلُم وا َأَّنَم ا اْلَح ياُة الُّد ْنيا َل ٌب َو َلْه ٌو َو ِز يَنٌة َو َتف اُخ ٌر َبْيَنُك ْم َو َتك اُثٌر
ِفي اَأْلْم واِل َو اَأْلْو الِد َك َم َث ِل َغْيٍث َأْع َج َب اْلُك َّف اَر َنباُت ُه ُ ،ثَّم َيِه يُج َفَت راُه ُمْص َفًّر ا ُثَّم َيُك وُن
ُح طام ًا )،واجلامع بني األمرين اإلعجاب ،مث سرعة االنقالب ،وفيه االحتقار ،للدنيا ،
والتحذير من االغرتار هبا.
72
هبا ،واجلامع بني األمرين العظم ،والفائدة فيه التشويق إىل اجلنة حبسن الصفة.
ِم ِح ِم َّلِذ
ومثله قوله تعاىل َ( :م َثُل ا يَن ُح ِّم ُلوا الَّتْو راَة ُثَّم َلْم َيْح ُلوها َ ،ك َم َثِل اْل ماِر َيْح ُل
َأْس فارًا) واجلامع بني األم رين اجله ل ب احملمول ،والفائ دة في ه ال رتغيب يف حتف ظ العل وم ،
وترك االتكال على الرواية دون الدراية.
ومنه قوله تعاىل َ ( :أَّما عاٌد َفُأْه ِلُك وا ِبِر يٍح َص َص ٍر عاِتَيٍة َ ،س َّخ ها َعَلْيِه َس ْبَع َلي اٍل
ْم َر ْر َو
َو َثماِنَيَة َأَّياٍم ُح ُس ومًا َ ،فَتَر ى اْلَق ْو َم ِفيها َص ْر عى َك َأَّنُه ْم َأْعج اُز َنْخ ٍل خاِو َيٍة )،واجلامع بني
( )1
األمرين خلو األجساد من األرواح ،والفائدة احلث على احتقار ما يؤول به احلال.
وهك ذا قول ه تع اىل َ ( :ث اَّل ِذ ي اَّتَخ ُذ وا ِم ُدوِن اِهلل َأ ِلي ا َك َث ِل اْل ْنَك وِت
َع ُب ْو َء َم ْن َم ُل َن
اَّتَخ َذ ْت َبْيت ًا َو ِإَّن َأْو َه َن اْلُبُي وِت َلَبْيُت اْلَعْنَك ُب وِت َل ْو ك اُنوا َيْع َلُم وَن )،فاجلامع بني األمرين
ضعف املعتمد ،والفائدة التحذير من محل النفس على التغرير بالعمل على غري أس.
73
يكون من املاء .وعلى هذا الوجه جيري أكثر تشبيهات القرآن ،وهي الغاية يف اجلودة ،
والنهاية يف احلسن.
وقد جاء يف أشعار احملدثني تشبيه ما يرى بالعيان مبا ينال بالفكر ،وهو رديء ،
وإن كان بعض الناس يستحسنه ملا فيه من اللطافة والدقة ،وهو مثل قول الشاعر :
وأف ق اللي ل مرتف ع الّس جوف ون دمان س قيت ال راح ص رفا
ف ىن دّق يف ذهن لطي كمع ص فت وص فت زجاجته ا عليه ا
فأخرج ما تقع عليه احلاسة إىل ما ال تقع عليه ،وما يعرف بالعيان إىل ما يعرف
بالفكر .ومثله كثري يف أشعارهم.
74
متن ع الك ّف م ا ت بيح العيون ا
( )1
اء ا فهب ا اجتليته إذا م ف
ا وتبّق ى لباهبا املكنون أك ل ال دهر م ا جتّس م منه ا
ا ىن خمرّي أن يكون يتم فهي بك ر كأهنا ك ل ش يء
دينا ا أي ات بروجه جاري أهنن جنوم ؤوس ك يف ك
ربن فين ا ربن يغ اغ ف إذا م ا قاة علين
ات من ال ّس طالع
فهذا تشبيه مفرط يصفه املربد بأنه غاية على سخف كالم احملدثني!.
2ـ التشبيه املصيب :ويفهم من األمثلة اليت أوردها املربد أنه يعين به ما خال من
املبالغة وأخرج األغمض إىل األوضح ،كقول امرىء القيس يف طول الليل :
( )2
ك أن الثري ا عّلقت يف مص امها ب أمراس كت ان إىل ص ّم جن دل
فهذا التشبيه يف ثبات الليل ،ألنه خييل إليه من طوله كأن جنومه مشدودة حبب ال من
الكت ان إىل ص خور ص لبة ،وإمنا اس تطال اللي ل ملعانات ه اهلم وم ومقاس اته األح زان في ه.
وكقوله يف ثبات الليل :
( )3
بك ل مغ ار الفت ل ش دت بي ذبل في ا ل ك من لي ل ك أن جنوم ه
__________________
( )1اهلب اء :ال ذرات املنبث ة ال يت ت رى يف ض وء الش مس ،وجتس م :ص ار جس ما ،أي مل يب ق من اخلم ر إال
روحها ،ألن اخلمر إذا عتقت صفت ورقت وكاد خيفى جسمها.
( )2الثريا :من الكواكب ،ومسيت بذلك لكثرة كواكبها مع صغر مرآهتا ،يف مصامها :يف مكاهنا الذي ال
تربح منه كمصام الفرس ،وهو مربطه ،واألمراس :مجع مرس وهو احلبل ،وصم :مجع أصم ،وهو الصلب
،واجلندل :الصخرة ،واجلمع جنادل.
( )3مغار الفتل :شديد الفتل ،ويذبل :اسم جبل.
75
فهو هنا يشبه جنوم الليل يف ثباهتا وعدم حتركها كما لو كانت قد شدت بشيء
مفتول قوي إىل جانب هذا اجلبل.
وقد ذكر ابن رشيق أمثلة للتشبيه املصيب منها قول النابغة يف وصف املتجردة :
نظ ر الس قيم إىل وج وه الع ّو د نظ رت إلي ك حباج ة مل تقض ها
وقول عدي بن الرقاع العاملي :
عيني ه أح ور من ج آذر جاس م ا اء أعاره ط النس وكأهنا وس
ائم نة وليس بن هس يف عين وس نان أقص ده النع اس ف رّنقت
وقول صريع الغواين :
( )1
كأي دي األس ارى أثقلته ا اجلوام ع ا ديها مثار حنوره فغطت بأي
3ـ التشبيه املقارب :كقول ذي الرمة :
وق د جللت ه املظلم ات احلن ادس ورم ل ك أوراك الع ذارى قطعت ه
وهذا من نوع التشبيه املقلوب الذي جيعل فيه املشبه مشبها به فالعادة أن أعجاز
النس اء أو أوراك الع ذارى تش به بكثب ان الرم ال ولكن الش اعر هن ا قلب التش بيه طلب ا
للمبالغة.
ومن املقارب احلسن قول الشماخ :
خالف النص ل س يط ب ه مش يج ه رخني من أن املنت والش ك
__________________
( )1كتاب العمدة ج 1ص ، 270واجلوامع :األكبال.
76
يريد سهما رمى به فأنفذ الرمّي ة وقد اتصل به دمها ،واملنت منت السهم ،وشرخ
كل شيء حده ،فأراد شرخي الفوق ( )1ومها حرفاه ،واملشيج املختلط.
4ـ التش بيه البعي د :وه و ال ذي حيت اج إىل تفس ري ،وعن د املربد أن ه ذا الن وع ه و
أخشن الكالم ،كقول الشاعر :
أين محار دار ك ا يف ال إذ أن ا ين أخت جريانن و رأت لل ب
فإن الشاعر أراد الصحة ،وهذا بعيد ،ألن السامع إمنا يستدل عليه بغريه .وقال
اهلل عزوجل ـ وهو من البني الواضح ـ َ( :م َثُل اَّلِذ يَن ُح ِّم ُل وا الَّتْو راَة ُثَّم َلْم َيْح ِم ُلوه ا َك َم َث ِل
اْلِح ماِر َيْح ِم ُل َأْس فارًا) يف أهنم قد تعاموا عن التوراة وأضربوا عن حدودها وأمرها وهنيها
حىت صاروا كاحلمار الذي حيمل الكتب وال يعلم ما فيها.
ويالحظ على هذا التقسيم الذي أورده املربد للتشبيه أمور منها :أن هذه األنواع
األربع ة هي ص فات لبعض التش بيهات ،وأن ه مل يض ع ح دودا متيز ك ل ن وع عم ا ع داه.
وترك هذا حلدس القارىء وختمينه ،وأنه قد حكم على بعض األمثلة اليت أوردها باحلسن
أو القبح دون أن يعل ل ملا استحس نه أو اس تقبحه .ولكن ه يف عص ره املبك ر ويف املراح ل
األوىل للبالغة والنقد مل يكن ينتظر منه أن يتوسع يف دراسة التشبيه بأكثر مما فعل.
أداة التشبيه
وأداة التشبيه كل لفظ يدل على املماثلة واالشرتاك ،وهي حرفان وأمساء ،وأفعال
،وكلها تفيد قرب املشبه من املشبه به يف صفته .واحلرفان مها :
__________________
( )1الفوق بضم الفاء :فوق السهم ،وهو موضع الوتر.
77
1ـ الك اف :وهي األص ل لبس اطتها ،واألص ل فيه ا أن يليه ا املش به ب ه ،كق ول
الشاعر :
ا خطت كنت هليب اس وإذا م أن ا كاملاء ـ إن رض يت ـ ص فاء
وقول آخر :
( )1
وب راع اخلط يف يف ق والس أنت ك الليث يف الش جاعة واإلق دام
وقد يليها مفرد ال يتأتى التشبيه به ،وذلك إذا كان املشبه به مركبا ،كقوله تعاىل
ِبِه ِء ِم ٍء ِة
َ( :و اْض ِرْب َلُه ْم َم َثَل اْلَح يا الُّد ْنيا َك ما َأْنَز ْلناُه َن الَّس ما َفاْخ َتَلَط َنباُت اَأْلْر ِض َفَأْص َبَح
َه ِش يمًا َت ْذ ُر وُه الِّر ي اُح ) إذ ليس املراد تش بيه ح ال ال دنيا باملاء ،وال مبف رد آخ ر يتعم ل
ويتمحل لتقديره ،بل املراد تشبيه حاهلا يف نضارهتا وهبجتها وما يعقبها من اهلالك والفناء
،حبال النبات يكون أخضر وارفا مث يهيج فتطرّي ه الرياح كأن مل يكن .وحنو قول لبيد :
هبا ي وم حّلوه ا وبع د بالق ع وم ا الن اس إال كال ديار وأهله ا
فلبيد مل يشبه الناس بالديار ،وإمنا شبه وجودهم يف الدنيا وسرعة زواهلم وفنائهم
حبلول أهل الديار فيها وسرعة هنوضهم عنها وتركها خالية.
2ـ كأن :وتدخل على املشبه أو يليها املشبه ،كقول الشاعر :
باح يم الص ا نس ة فيه ورق ا ك يف لطفه أن أخالق ك
وقول آخر :
( )2
ّر اب د الّض ه حدائ رجلت ا رية دين مس املن أّن الش وك
__________________
( )1قراع اخلطوب :مصارعة الشدائد والتغلب عليها.
( )2جلته :صقلته .والضراب :الذي يطبع النقود.
78
و «كأن» حرف مركب عند أكثر علماء اللغة من الكاف وإن .قالوا :واألصل
يف «كأن زيدا أسد» «إن زيدا كأسد» مث قدم حرف التشبيه اهتماما به ،ففتحت مهزة
«إن» لدخول اجلار ،وما بعد الكاف جّر هبا.
و «ك أن» للتش بيه على اإلطالق ،وه ذا ه و اس تعماهلا الغ الب واملتف ق علي ه من
مجه ور النح اة ،وزعم مجاع ة من النح اة أهنا ال تك ون للتش بيه إال إذا ك ان خربه ا امسا
جامدا ،حنو :كأن زيدا أسد .خبالف كأن زيدا قائم ،أو يف الدار ،أو عندك ،أو يقوم
،فإهنا يف ذل ك كل ه للظن والش ك .أي مبنزل ة ظننت وت ومهت .ومع ىن ه ذا أن ه إذا ك ان
خربها وصفا أو مجلة أو شبه مجلة فهي فيهن للظن ،وال تكون للتشبيه إال إذا كان اخلرب
مما يتمث ل ب ه .ف إن قلت :ك أن زي دا ق ائم ،ال يك ون تش بيها ألن الش يء ال يش به نفس ه.
ولكن مجه ور النح اة على ال رأي األول القائ ل بأهنا للتش بيه على اإلطالق ،وعلى ه ذا
يقولون :إن معىن كأن زيدا قائم ،تشبيه حالته غري قائم حبالته قائما.
3ـ مثل :ومن أدوات التشبيه مثل وما يف معىن مثل كلفظ ة «حنو» ،وما يشتق
من لفظة مثل وشبه ،حنو مماثل ومشابه وما رادفهما .وأما أدوات التشبيه الفعلية فنحو :
يشبه ويشابه ومياثل ويضارع وحياكي ويضاهي.
وق د ي ذكر فع ل ين ىبء عن التش بيه كالفع ل «علم» يف قول ك :علمت زي دا أس دا
وحنوه ،ه ذا إذا قرب التش بيه مبع ىن أن يك ون وجه الش به ق ريب اإلدراك ،فيحق ق ب أدىن
التفات إليه .وذلك ألن العلم معناه التحقق ،وذلك مما يناسب األمور الظاهرة البعيدة عن
اخلفاء.
أما إن بعد التشبيه أدىن تبعيد قيل :خلته وحسبته وحنومها لبعد الوجه عن التحقق
،وخفائه عن اإلدراك العلمي ،وذلك ألن احلسبان
79
ليس فيه الرجحان ،ومن شأن البعيد عن اإلدراك أن يكون إدراكه كذلك دون التحقق
املشعر بالظهور وقرب اإلدراك.
80
والتش بيه املؤك د أبل غ من التش بيه املرس ل وأوج ز ،أم ا كون ه أبل غ فلجع ل املش به
مشبها به من غري واسطة أداة فيكون هو إياه ،فإنك إن قلت :زيد أسد كنت قد جعلته
أسدا من غري إظهار أداة التشبيه ،وأما كونه أوجز فلحذف أداة التشبيه منه.
ومن التشبيه املؤكد ما أضيف فيه املشبه به إىل املشبه ،حنو قول الشاعر :
يل على جلني املاء ذهب األص وال ريح تعبث بالغص ون وق د ج رى
فالصورة هنا أن الريح تعبث بغصون األشجار املخضرة فتميلها ميينا ومشاال وأعلى
وأس فل ،واحلال أن ه ق د ج رى «ذهب األص يل» أي األص يل ال ذي كال ذهب يف الص فرة
على «جلني املاء» ،أي على ماء كاللجني أي كالفضة يف الصفاء والبياض.
وقول الشريف الرضي :
حوام ل املزن يف أج داثكم تض ع أرس ى النس يم ب واديكم وال ب رحت
( )1
ع ة اهلم وركم العّر اص على قب عه نني النبت ترض زال ج وال ي
فهو يريد «حبوامل املزن» املزن أو السحب اليت هي كاحلوامل من احليوان ،جبامع
ما يف كل من املنفعة ،كما يريد «جبنني النبت» النبت الذي كاجلنني .فاملشبه به يف ه ذين
التشبيهني قد أضيف إىل املشبه .وهذا تشبيه مؤكد.
وقد يسمى التشبيه املرسل «مظهرا» كما يسمى التشبيه املؤكد
__________________
( )1األجداث :القبور ،والعراصة :السحابة اليت صارت كالسقف ذات رعد وبرق ،واهلمع :اسم ملا يهمع
أي يسيل ،واملاطر.
81
«مضمرا» .وهذا التشبيه املؤكد أو املضمر ينقسم أقساما ،منها :
ـ ما يقع فيه املشبه واملشبه به موقع املبتدأ وخربه املفرد ،حنو :أنت أسد ،وكرمك
حبر ،وقولك شعر ،وحديثك شهد .ففي هذه األمثلة وأشباهها ال يصعب تقدير األداة.
2ـ وما يقع فيه املشبه موقع املبتدأ واملشبه به موقع اخلرب املفرد املكون من مضاف
ومضاف إليه ،حنو :أنت حصن الضعفاء .وهذا القسم بدوره يأيت على نوعني :
أ ـ إذا كان املضاف إليه معرفة ،كما يف املثال السابق ،جاز لنا عند تقدير أداة
التش بيه اإلبق اء على املض اف إلي ه كم ا ه و أو تقدميه على املض اف ،فنق ول مثال :أنت
كحصن الضعفاء ،أو أنت للضعفاء كحصن.
ب ـ وإذا كان املضاف إليه نكرة تعني تقدميه عند تقدير األداة ،فنقول يف مثل :
فالن حبر بالغة « ،فالن يف البالغة كبحر».
ومن ذلك قول البحرتي مادحا :
ومس عر ح رب م ا يض يع ل ه وت ر غم ام س حاب م ا يغّب ل ه حي ا
فإذا شئنا تقدير األداة هنا قلنا « :مساح كالغمام» ،وال يقدر إال هكذا واملبتدأ هنا
حمذوف وهو اإلشارة إىل املمدوح ،وكأن التقدير :هو غمام مساح .وعند تقدير األداة
يقدم املضاف إليه فيقال :هو مساح كالغمام ،أو هو يف السماح كالغمام (.)1
ومه قول أيب متام :
وب ام يف ملح ه األي حلبت يب رعى عني ووادي نس أّي م
__________________
( )1املثل السائر البن األثري ص .153
82
ومراد أيب متام أن يصف هذا املكان بأنه كان حسنا مث زال عنه حسنه فقال بأن
العني كانت تلتذ بالنظر إليه كالتذاذ السائمة باملرعى ،فإنه كان يشبب به يف األشعار
حلسنه وطيبه .وإذا قدرنا األداة هنا قلنا :كأنه كان للعني مرعى وللنسيب منزال ومألفا.
وجه الشبه
وج ه الش به ه و املع ىن ال ذي يش رتك في ه طرف ا التش بيه حتقيق ا أو ختييال .واملراد
بالتحقيق هنا أن يتقرر املعىن املشرتك يف كل من الطرفني على وجه التحقيق .وذلك حنو
تشبيه الرجل باألسد .فالشجاعة هي املعىن املشرتك أو الصفة اجلامعة بينهما ،وهي على
حقيقتها موجودة يف اإلنسان .وإمنا يقع الفرق بينه وبني األسد الذي ش ّبه به من جهة قوة
الشجاعة وضعفها .وزيادهتا ونقصاهنا.
ومثل ذلك تشبيه الشعر بالليل ووجه الشبه هنا هو السواد وهو مأخوذ من صفة
موجودة يف كل واحد من الطرفني وجودا حقيقيا ،وإن كان من فرق يف الصفة فهو يف
درجة قوهتا وضعفها.
واملراد بالتخيي ل أن ال ميكن وج وده يف املش به ب ه إال على س بيل التأوي ل والتخيي ل
كقول القاضي التنوخي :
( )1
داع نن الح بينهّن ابت س ا وم بني دجاه أن النج وك
__________________
( )1البدعة واالبتداع :غلب استعماهلما فيما هو نقص يف الدين أو زيادة ،لكن قد يكون بعض البدعة غري
مكروه ،فيسمى بدعة مباحة ،وهو ما شهد جلنسه أصل الشرع ،أو اقتضته مصلحة يندفع هبا مفسدة.
83
فإن وجه الشبه يف هذا التشبيه أو اجلامع بني الطرفني هو اهليئة احلاصلة من حصول
أشياء مشرقة بيض يف جوانب شيء مظلم أسود.
فهذه اهليئة غري موجودة يف املشبه به إال على طريق التخييل ،وذلك أنه ملا كانت
البدع ة والض اللة وك ل م ا ه و جه ل جيع ل ص احبها يف حكم من ميش ي يف الظلم ة فال
يهتدي إىل الطريق وال يفصل الشيء من غريه ـ شبهت بالظلمة ،ولزم على عكس ذلك
أن تشّبه السنة واهلدى وكّل ما هو علم بالنور.
وأص ل ذل ك قول ه تع اىل ُ( :يْخ ِرُجُه ْم ِم َن الُّظُلم اِت ِإَلى الُّنوِر )،وش اع ذل ك ح ىت
وصف الصنف األول بالسواد ،كما يف قول القائل « :شاهدت سواد الكفر من جبني
فالن» ،وحىت وصف الصنف الثاين بالبياض ،كما يف قول النيب صلىهللاعليهوسلم :
«أتيتكم باحلنيفية البيضاء» ؛ وذلك لتخيل أن السنن وحنوها من اجلنس الذي هو إشراق
أو ابيضاض يف العني ،وأن البدعة وحنوها على خالف ذلك.
وهلذا صار تشبيه النجوم بني الدجى بالسنن بني البدع ،كتشبيه النجوم يف الظالم
ببياض الشيب يف سواد الشباب ،أو باألزهار مؤتلقة بني النبات الشديد اخلضرة .فالتأويل
فيه أنه ختّيل ما ال لون له ذا لون.
ومن التشبيه التخييلي قول ابن بابك :
( )1
وق د كح ل اللي ل الس ماك فأبص را وأرض ك أخالق الك رام قطعته ا
ف إن األخالق ملا ك انت توص ف بالس عة والض يق تش بيها هلا باألم اكن الواس عة
والضيقة ،ختّيل أخالق الكرام شيئا له سعة ،وجعله أصال فيها ،فشّبه األرض بالسعة.
__________________
( )1السماك :أحد السماكني أو النجمني النريين :األعزل ،والسماك الرامح.
84
ومنه قول أيب طالب الرقي :
ي وم الن وى وف ؤاد من مل يعش ق ه ك والظالم كأن د ذكرت ولق
فإن ه ملا ك انت أي ام املك اره توص ف بالس واد توس عا ،فيق ال اس وّد النه ار يف عي ين
وأظلمت ال دنيا علّي ،وملا ك ان احملب الغ زل يف رتض القس وة فيمن مل يعش ق ،وك ان
القلب القاس ي يوص ف بالس واد توس عا ،ختّي ل الش اعر العاش ق ي وم الن وى وف ؤاد من مل
يعشق شيئني هلما سواد ،وجعلهما أعرف به ،وأشهر من الظالم فشبهه هبما.
85
واملتع دد املختل ف حنو :الول د كأبي ه يف طول ه ومش يته وص وته ،وخلق ه وكرم ه
وعلمه.
86
( )1
اح ور األق هن تفّتح بين داه لن ج خض اض بنفس ري
فاملشبه صورة السماء والنجوم منثورة فيها وقت الصباح واملشبه به صورة رياض
من أزهار البنفسج ختللتها أزهار األقاحي ،ووجه الشبه هو الصورة احلاص لة من شيء
أزرق انتشرت يف أثنائه صور صغرية بيضاء.
ومنه قول أيب متام يف مغنية تغين بالفارسية :
ورت كب دي فلم أجه ل ش جاها ا ولكن ومل أفهم معانيه
( )2
ا ا يراه ات وم
حبّب الغاني أنين أعمى معىّن فبّت ك
فاملشبه هنا حال الشاعر يثري نغم املغنية بالفارسية يف نفسه كوامن الشوق وهو ال
يفهم لغته ا ،واملش به ب ه ح ال األعمى يعش ق الغاني ات وه و ال ي رى ش يئا من حس نهن ،
ووجه الشبه هو صورة قلب يتأثر وينفعل بأشياء ال يدركها كل اإلدراك.
ومنه قول شاعر يف صديق عاق :
ا ى هبا التلف ّو ة خيش هه ودون ادي رأى هنال اك كالص إين وإي
رفا ك دون املاء منص وليس ميل ورده
رأى بعيني ه م اء ع ّز م
فاملش به ح ال الش اعر م ع ص ديقه الع اق ي دعوه الوف اء إىل اإلبق اء على مودت ه ،
ويدعوه ما يراه فيه من العقوق إىل قطعه ،وهو بني األمرين حائر ،ولكنه يصغي أخريا
إىل داعي الوفاء ،واملشبه به حال عطشان رأى ماء
__________________
( )1اخلضل :الرطب ،واملعىن :بعد أن انقشعت السحابة صارت السماء بني النجوم املنتشرة وقت الفجر
كرياض من البنفسج املبتل باملاء تفتحت يف أثنائه أزهار األقاحي.
( )2ورت كب دي :أهلبت ه ،والش جا :احلزن والط رب ،واملع ىن :مل أجه ل م ا بعثت ه يف نفس ي من احلزن ،
واملعىن :املتعب احلزين.
87
حتول بينه وبني الشرب منه ه ّو ة خيشى منها اهلالك على نفسه لو دنا منه ،فوقف حائرا
ولكن ه ال يس تطيع االنص راف عن املاء ،ووج ه الش به ه و ص ورة من يري د ش يئا فتح ول
العقبات دونه فتدركه احلرية ولكنه ال ييئس.
ٍة ِهلل ِف ِذ ِف
ومنه قوله تعاىل َ( :م َثُل اَّل يَن ُيْن ُق وَن َأْم واَلُه ْم ي َس ِبيِل ا َك َم َث ِل َح َّب َأْنَبَتْت َس ْبَع
َس ناِبَل ِفي ُك ِّل ُس ْنُبَلٍة ِم اَئُة َح َّبٍة َو اُهلل ُيضاِع ُف ِلَمْن َيشاُء َ ،و اُهلل واِس ٌع َعِليٌم).
فاملش به ح ال من ينف ق قليال يف س بيل اهلل مث يلقى علي ه ج زاء ج زيال ،واملش به ب ه
حال من بذر حبة فأنبتت سبع سنابل يف كّل سنبلة مائة حبة ،ووجه الشبه هو صورة من
يعمل قليال فيجين من مثار عمله كثريا.
***
أم ا وجه الشبه عند م ا يكون غ ري متثيل فه و عكس ذلك ،أي عند م ا ال يكون
صورة منتزعة من متعدد ،وبعبارة أخرى هو ما يكون غري مركب أي مفردا ،وكونه
مفردا ال مينع من تعدد الصفات املشرتكة بني طريف التشبيه.
ومن أمثلة التشبيه عند ما يكون وجه الشبه فيه غري متثيل قول البحرتي :
من ه قرب ا ت زدد من الفق ر بع دا ازدد ماح واجلود ف و حبر الس ه
فاملش به هن ا ه و املم دوح واملش به ب ه ه و البح ر ،ووج ه الش به ال ذي يش رتك في ه
املمدوح والبحر هو صفة اجلود.
وقول امرىء القيس :
وم ليبتلي أنواع اهلم علّي ب ولي ل كم وج البح ر أرخى س دوله
88
فاملشبه يف هذا البيت هو الليل يف ظالمه وهوله ،واملشبه به هو موج البحر ،وأن
هذا الليل أرخى عليه حجبه وسدوله مصحوبة بكل أنواع اهلموم واألحزان ليخترب صربه
وق وة احتمال ه ،ووج ه الش به ال ذي يش رتك في ه اللي ل وم وج البح ر ص فتان مها :الظلم ة
والروعة.
وقول أيب بكر اخلالدي :
اال ياء ومن وض نا در حس بيه الب اش ي
داال ا واعت وقوام ا ن لين بيه الغص وش
يما ومالال ونس ا ورد لون ل ال أنت مث
القرب زاال ّر نا ب س ا ىت إذا م اح زارن
فاملشبه يف هذا املثال هو احلبيب ،واملشبه به هو البدر مرة ،والغصن مرة ثانية ،
والورد مرة ثالثة ،ووجه الشبه الذي يشرتك فيه الطرفان صفات متعددة ال يرتبط بعضها
ببعض ،وكل صفة منها ميكن االكتفاء هبا كوجه شبه ،مبعىن أنه لو حذف بعضها دون
بعض أو قّد م بعضها على بعض ما اختل التشبيه.
ولعلنا اآلن أدركنا من هذه األمثلة أن تشبيه غري التمثيل هو ما كان وجه الشبه فيه
غري صورة أي غري مركب .وبعبارة أخرى هو ما كان مفردا مهما تعددت الصفات اليت
يش رتك فيه ا الطرف ان ،وأن ه ذه الص فات املش رتكة إن وج دت ال يش رتط فيه ا نظ ام أو
ت رتيب معني ،مبع ىن أن ه جيوز فيه ا التق دمي والت أخري ،كم ا جيوز اإلبق اء عليه ا أو على
بعضها كوجه شبه من غري إخالل بالتشبيه.
89
ل يف اإلظالم وس كاللي لنف ياء ار ض ل النه وه مث كم وج
ف البيت هن ا في ه تش بيهان وج ه الش به يف األول «ض ياء» ويف الث اين «اإلظالم»
وكالمها مذكور يف التشبيه.
قول ابن الرومي :
ال د املن ن ويف بع در يف احلس بيه الب اش ي
زالل رة يف املاء ال خ ر الص د تنفج د فق ج
فاملش به ه و احلبيب واملش به ب ه الب در ووج ه الش به ه و اش رتاك الط رفني يف ص فيت
احلسن وبعد املنال ،وكلتامها مذكورة يف التشبيه.
وقول آخر :
مس عل وا ،والب در يف اإلش راق ماحة ،والش البحر يف الس أنت ك
فه ذا ال بيت يش تمل على ثالث ة تش بيهات ذكر يف ك ل منه ا وجه الش به ،وه و يف
التشبيه األول «السماحة» ويف الثاين «العلو» ويف الثالث «اإلشراق».
فكل تشبيه من التشبيهات اليت تضمنتها هذه األمثلة تشبيه مفّص ل ،ألن وجه الشبه
قد ذكر فيه.
ب ـ والتشبيه اجململ :هو ما حذف منه وجه الشبه ،وذلك حنو قول الشاعر :
( )1
حاب مظلم اج خيلهم س وعج وارق يوف ب أن إمياض الس وك
ففي ال بيت تش بيهان :تش بيه إمياض الس يوف ب الربق يف الظه ور وس رعة اخلف اء ،
وتشبيه عجاج اخليل بالسحاب املظلم يف سواده وانعقاده
__________________
( )1اإلمياض :اللمعان ،والبوارق :مجع بارق وهو الربق ،والعجاج :الغبار.
90
يف اجلو .ووجه الشبه يف كليهما حمذوف ،وهلذا فهو تشبيه جممل.
ومن التشبيه اجململ ما وجه شبهه ظاهر يفهمه كل أحد حىت العامة كاملثال السابق
،وكقولنا :زيد أسد ،إذ ال خيفى على أحد أن املراد به التشبيه يف الشجاعة دون غريها.
ومن التشبيه اجململ ما وجهه خفّي ال يدركه إاّل من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة
،كقول فاطمة بنت اخلرشب عند ما سئلت عن بنيها أيهم أفضل فقالت « :عمارة ،ال
بل فالن ،ال بل فالن .مث قالت :ثكلتهم إن كنت أعلم أّيهم أفضل .هم كاحللقة املفرغة
ال يدرى أين طرفاها».
فمعىن ذلك أن أبناءها لتناسب أصوهلم وفروعهم وتساويهم يف الشرف ميتنع تعيني
بعض هم فاض ال وبعض هم أفض ل من ه ،كم ا أن احللق ة املفرغ ة لتناس ب أجزائه ا وتس اويها
ميتنع تعيني بعضها طرفا وبعضها وسطا.
فتشبيه أبناء بنت اخلرشب باحللقة املفرغة تشبيه جممل ،ووجه شبهه احملذوف هو
تعذر بل استحالة تعيني أولّية أو أفضلية أشياء متناسبة متساوية ،أو هو التناسب املانع من
متييز يصح معه التفاوت .فهذا الوجه احملذوف والذي يشرتك فيه طرفا التشبيه أمر خفّي ال
يستطيع إدراكه إال من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة ،كما ذكرت آنفا.
ومن التش بيه اجملم ل م ا مل ي ذكر في ه وص ف املش به وال وص ف املش به ب ه ،أي
الوصف املشعر بوجه الشبه ،ومن هذا النوع :تشبيه إمياض السيوف بالبوارق ،وتشبيه
زيد باألسد السابقني.
ومنه ما يذكر فيه وصف املشبه به وحده ،كتشبيه عجاج اخليل بالسحاب املظلم
،وتشبيه أبناء بنت اخلرشب باحللقة املفرغة ال يدري أين طرفاها.
91
ومن هذا النوع أيضا ،أي التشبيه اجململ الذي ذكر فيه وصف املشبه به وحده
قول زياد األعجم :
لك البحر مهم ا تل ق يف البح ر يغ رق وأن ا وم ا تلقي لن ا إن هجوتن ا
وقول النابغة الذبياين :
وكب د منهن ك إذا طلعت مل يب واكب وك ك ك مشس واملل فإن
ومن التشبيه اجململ ما ذكر فيه وصف كل من املشبه واملشبه به ،كقول أيب متام
يف مدح احلسن بن سهل :
ين فلم خيب اوده ظ ّين ،وع ع ص دفت عن ه ومل تص دف مواهب ه
( )1
ه ّجل يف الطلب رحلت عن وإن ت
ك الغيث إن جئت ه واف اك رّيق ه
فالتشبيه هنا هو « :املمدوح كالغيث» والبيت األول مشتمل على وصف املشبه
وهو املمدوح ،والبيت الثاين مشتمل على وصف املشبه به وهو الغيث ،وكال الوصفني
مشعر بوجه الشبه احملذوف ،وهو عدم التخلص من كليهما على أي حال.
3ـ ويكون قريبا وبعيدا :
كذلك يكون التشبيه باعتبار الوجه قريبا وبعيدا .واملراد بالقريب القريب املتبذل ،
وبالبعيد البعيد الغريب.
فالقريب املتبذل :هو ما ينتقل فيه من املشبه إىل املشبه به من غري
__________________
( )1صدفت عنه :أعرضت عنه ،مل تصدف مواهبه :مل تنقطع عين عطاياه ،الغيث :املطر الواسع املقبل
الذي يغيث أه ل األرض ،واف اك ريق ه :ج اءك والق اك وأقب ل علي ك أوله وأحس نه ،وإن ت رحلت عنه :أي
فررت من الغيث ،جل يف الطلب :أحل وبالغ يف إدراكك مع فرارك منه.
92
تدقيق نظر ،وذلك لظهور وجهه يف بادىء الرأي.
وس بب ظه وره أم ران :األول ك ون الش يء مجلي ا ،ف إن اجلمل ة أس بق دائم ا إىل
النفس من التفص يل .أال ترى أن الرؤية ال تص ل يف أول أمرها إىل الوص ف على التفص يل
لكن على اجلمل ة ،مث على التفص يل؟ ول ذلك قي ل النظ رة األوىل محق اء ،وفالن مل ميعن
النظ ر .وك ذلك الش أن بالنس بة لس ائر احلواس ،فإنه ي درك من تفاص يل الص وت وال ذوق
والشم واللمس يف املرة الثانية ما مل يدرك يف املرة األوىل.
فمن يروم التفصيل كمن يبتغي الشيء من بني مجلة أشياء يريد متييزه مما اختلط به
،ومن يريد اإلمجال كمن يريد أخذ الشيء جزافا من غري تدقيق نظر .وكذلك حكم ما
ي درك بالعق ل ،ت رى الش يء يس بق دائم ا إىل ال ذهن إمجاال ،أم ا التفاص يل فمغم ورة يف
اإلمجال ال حتضر وتنكشف إال بعد إعمال الرؤية.
واألم ر الثاين يف ظه ور وجه الش به يف ب ادىء ال رأي كونه قلي ل التفص يل م ع غلب ة
حضور املشبه به يف الذهن ،إما عند حضور املشبه لقرب املناسبة بينهما ،كتشبيه العنبة
الكب رية الس وداء باإلجاص ة يف الش كل ويف املق دار ،وإم ا مطلق ا لتك رره على احلس ،
كتشبيه الشمس باملرآة اجملل ّو ة يف االستدارة واالستنارة ؛ فإن قرب املناسبة والتكرر كل
واحد منهما يعارض التفصيل القتضائه سرعة االنتقال.
والبعيد الغريب :هو ما ال ينتقل فيه من املشبه إىل املشبه به إال بعد فكر ،وذلك
خلفاء وجهه يف بادىء الرأي.
وسبب خفائه أمران :أحدمها كونه كثري التفصيل ،كقول الراجز « :والشمس
كاملرآة يف كف األشل» .فوجه الشبه يف هذا التشبيه هو اهليئة
93
احلاصلة من االستدارة مع اإلشراق واحلركة السريعة املتصلة مع متّو ج اإلشراق واضطرابه
بس بب تل ك احلرك ة ح ىت ي رى الش عاع كأن ه يهّم ب أن ينبس ط ح ىت يفيض من ج وانب
ال دائرة مث يب دو ل ه ف ريجع من االنبس اط إىل االنقب اض .فالش مس إذا أح ّد اإلنس ان النظ ر
إليه ا ليت بني جرمه ا وج دها مؤدي ة إىل ه ذه اهليئ ة ،وك ذلك املرآة إذا ك انت يف ك ف
األش ل .فاهليئ ة ال يت ي رتكب منه ا وج ه الش به هن ا ال تق وم يف نفس ال رائي للم رآة الدائم ة
االضطراب إال بعد تأمل وطول نظر ومتهل.
واألمر الثاين خلفاء وجه الشبه يف بادىء الرأي هو ندرة حضور املشبه به يف الذهن
،أما عند حضور املشبه لبعد املناسبة بينهما كتشبيه البنفسج بنار الكربيت يف قول الشاعر
:
واقيت اض على محر الي بني الري ا و بزرقته ة تزه وال زوردّي
أوائ ل الن ار يف أط راف ك ربيت عفن هبا ات ض كأهنا ف وق قام
فإن الزوردّية وهي البنفسجة شبهت بالنار يف أطراف كربيت ،ومعلوم أن الشيء
الط بيعي ال ذي يتب ادر إىل ال ذهن بس رعة عن د حض ور «الالزوردي ة» في ه ه و األزه ار
والرياحني اليت هي من جنسها ال أوائل النار يف أطراف الكربيت .وملا كان االنتقال من
البنفسج إىل النار املذكورة بعد التأمل وطول النظر كان التشبيه غريبا.
وإم ا أن حتص ل ن درة املش به ب ه حص وال مطلق ا من غ ري تقي د ب وقت حض ور املش به
لكون ه ومهي ا ،كم ا مض ى من تش بيه نص ال الس هام بأني اب األغ وال ،أو لكون ه مركب ا
خياليا كتشبيه أزهار الشقيق بأعالم ياقوت منشورة على رماح من الزبرجد ،أو لكونه
مركبا عقليا كتشبيه مثل أحبار اليهود مبثل احلمار حيمل أسفارا.
94
ف إن كاّل س بب لن درة حض ور املش به ب ه يف ال ذهن ،أو لقل ة تك رره على احلس ،
كما مر من تشبيه الشمس باملرآة يف كف األشل ،فقد يقضي الرجل دهره وال يتفق له
أن ي رى م رآة يف ي د األش ل .فالغراب ة يف ه ذا التش بيه من وجهني مها :ك ثرة التفص يل يف
وجه الشبه ،وقلة التكرار أو الورود على احلس.
التشبيه المقلوب
التشبيه املقلوب هو جعل املشبه مشبها به بادعاء أن وجه الشبه فيه أقوى وأظهر.
وأب و الفتح عثم ان بن ج ين يف كتاب ه اخلص ائص ( )1يس مي ه ذا الن وع من التش بيه
«غلبة الفروع على األصول» ويقول « :هذا فص ل من فصول العربية طريف ،جتده يف
معاين العرب ،كما جتده يف معاين األعراب .وال تكاد جتد شيئا من ذلك إال والغرض فيه
املبالغة.
فمها جاء فيه ذلك للعرب قول ذي الرمة :
( )2
إذا ألبس ته املظلم ات احلن ادس ورم ل ك أوراك الع ذارى قطعت ه
أفال ترى ذا الرمة كيف جعل األصل فرعا والفرع أصال؟ وذلك أن العادة والعرف
يف حنو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان األنقاء أي الرمال ،أال ترى إىل قوله :
__________________
( )1كتاب اخلصائص البن جىن ج 1ص ، 300مطبعة دار الكتب املصرية.
( )2ألبسته :غطته ،واحلنادس :مجع حندس ،واحلندس :اشتداد الظلمة ،وقد ذهب هبا مذهب الوصف.
95
أ ربيب ()1؟ ويف القالد رش ثيب هك يب حتت ليلى قض
وهلل البحرتي فما أعذب وأظرف وأدمث قوله :
كفال ومن ن ور األق احي مبس ما؟ ا تعري من النق زال املس أين الغ
فقلب ذو الرمة العادة والعرف يف هذا ،فش ّبه كثبان األنقاء ،أي الرمال بأعجاز
النس اء .وه ذا كأن ه خيرج خمرج املبالغ ة ،أي ق د ثبت ه ذا املوض ع وه ذا املع ىن ألعج از
النساء ،وصار كأنه األصل فيه ،حىت شبه به كثبان األنقاء».
وقد عرض ابن األثري يف كتابه املثل السائر هلذا النوع من التشبيه ،ومساه «الطرد
والعكس» ،وذلك إذ يقول « :واعلم أن من التشبيه ضربا يسمى الطرد والعكس ،وهو
أن جيعل املشبه به مشبها ،واملشبه مشبها به ،وبعضهم يسميه غلبة الفروع على األصول
...ومما جاء منه قول البحرتي :
ا يب من تثنيه يب نص وللقض يف طلع ة الب در ش يء من حماس نها
وقول عبد اهلل بن املعتز يف تشبيه اهلالل :
مث ل القالم ة ق د ق ّد ت من الّظف ر والح ض وء قم ري ك اد يفض حنا
وملا ش اع ذل ك يف كالم الع رب واتس ع ص ار كأن ه األص ل ،وه و موض ع من علم
البيان حسن املوقع لطيف املأخذ .وهذا قد ذكره أبو الفتح ابن جين يف كتاب اخلصائص.
وملا نظرت أنا يف ذلك وأنعمت نظري فيه تبني يل ما أذكره ،وهو
__________________
( )1القالد :واحدها قالدة ،والرشأ :الظيب إذا حترك وقوي ومشى مع أمه.
96
أنه قد تقرر يف أصل الفائدة املستنتجة من التشبيه أن يشّبه الشيء مبا يطلق عليه لفظة أفعل
،أي يش به مبا ه و أبني وأوض ح ،أو مبا ه و أحس ن من ه أو أقبح ،وك ذلك يش به األق ل
باألكثر ،واألدىن باألعلى.
وه ذا املوض ع ال ينقض ه ذه القاع دة ألن ال ذي ق دمنا ذك ره مط رد يف باب ه وعلي ه
مدار االستعمال .وهذا غري مطرد وإمنا حيسن يف عكس املعىن املتعارف ،وذاك أن جتعل
املشبه به مشبها ،واملشبه مشبها به .وال حيسن يف غري ذلك مما ليس مبتعارف ؛ أال ترى
أن من العادة والعرف أن تشبه األعجاز بالكثبان ،فلما عكس ذو الرمة هذه القضية يف
شعره جاء حسنا الئقا ،وكذلك فعل البحرتي ،فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه
احلسن بالبدر ،والقد احلسن بالقضيب ،فلما عكس البحرتي القضية يف ذلك جاء أيضا
حسنا الئقا.
ولو شبه ذو الرمة الكثبان مبا هو أصغر منها غري األعجاز ملا حسن ذلك ،وهكذا
ل و ش به البح رتي طلع ة الب در بغ ري طلع ة احلس ناء ،والقض يب بغ ري ق ّد ها ملا حس ن ذل ك
أيضا.
وهكذا القول يف تشبيه عبد اهلل بن املعتز صورة اهلالل بالقالمة ؛ ألن من العادة أن
تشبه القالمة باهلالل ،فلما صار ذلك مشهورا متعارفا حسن عكس القضية فيه» (.)1
***
ومن أمثلة التشبيه املقلوب قول ابن املعتز :
( )2
قر ر أش ّر ة مه هغ كأن فر ل مس ّر ة لي بح يف ط والص
__________________
( )1كتاب املثل السائر ص .164
( )2ط رة الش يء :طرف ه ،ولي ل مس فر :دخ ل يف اإلس فار وه و ظه ور الفج ر ،والغ ّر ة :بي اض يف ـ جبه ة
الفرس ،واملهر األشقر :األمحر الشعر.
97
فاملشبه هنا هو الصبح واملشبه به هو غ ّر ة مهر أشقر ،وهذا تشبيه مقلوب ،ألن
العادة يف عرف األدباء أن تشّبه غّر ة املهر بالصبح ،ألن وجه الشبه وهو البياض أقوى يف
الصبح منه يف املهر .ولكن الشاعر عدل عن املألوف ،وقلب التشبيه للمبالغة ،باّدعاء أن
وجه الشبه أقوى يف غّر ة املهر منه يف الصبح.
ومنه قول حممد بن وهيب احلمريي ( )1يف ذات التشبيه :
دح ة حني ميت ه اخلليف وج ه أن غّر ت باح ك دا الص وب
فاملشّبه هنا أيضا هو ضوء الصباح يف أول تباشريه ،واملشبه به هو وجه اخلليفة عند
مساعه املديح .فالتش بيه كم ا ت رى مقل وب ،واألص ل في ه ه و العكس ،ألن املألوف أن
يشّبه الشيء دائما مبا هو أقوى وأوضح منه يف وجه الشبه ؛ ليكتسب منه قوة ووضوحا.
ولكن الشاعر تفننا منه يف التعبري عكس القضية وقلب التشبيه للمبالغة واإلغراق باّدعاء أن
الشبه أقوى يف املشّبه.
ومنه قول البحرتي مادحا :
ك أن س ناها بالعش ّي لص بحها تبّس م عيس ى حني يلف ظ بالوع د
ش ّبه البحرتي برق السحابة الذي ظ ّل ّلماعا طوال الليل بتبسم املمدوح حني يعد
بالعط اء ،وال ش ك أن ملع ان ال ربق أق وى من بري ق االبتس ام ،فك ان املألوف أن يش ّبه
االبتسام بالربق على عادة الشعراء ،ولكن البحرتي قلب التشبيه تفننا يف التعبري والتماسا
للمبالغة باّدعاء أن وجه الشبه أقوى يف املشّبه.
__________________
( )1شاعر شيعي عباسي انقطع ملدح املأمون.
98
ومنه قول شاعر آخر :
در احلليم يحها ص أن فس ك فالة ودوهنم هلم أحّن
فالشاعر يف هذا البيت شّبه فسيح الفالة بصدر احلليم ،فالتشبيه كما ترى مقلوب
،إذ املعهود تشبيه صدر احلليم بالفالة .ولكن الشاعر رغبة منه يف املبالغة باّدعاء أن صدر
احلليم أفسح من الصحراء عكس التشبيه.
***
وفيم ا يلي طائف ة أخ رى من أمثل ة التش بيه املقل وب ت رتك لل ّد ارس أم ر التع ّر ف إىل
املشبه واملشبه به يف كّل منها.
قال أبو نواس يف وصف النرجس :
إذا م ا منحن اه العي ون عي ون ل دى ن رجس غّض القط اف كأن ه
وقال البحرتي يف املدح :
دي ه وأّو هلا عن ا في أواخره ه ّد اب مزن جلّر علّي الغيث ه
أب و ص احل ق د بت من ه على وع د ه ه فكأن ل عن ميقات تع ّج
وقال ابن املعتز يصف سحابة ويشبه الربق بالسيوف املنتضاة :
ج رى دمعه ا يف خ دود ال ثرى ا ارية ال متّل البك وس
( )1
ى ة تنتض ربق كهندي ب س رت تق دح الص بح يف ليله ا
وقال البحرتي يف تشبيه محرة الورد حبمرة خدي حمبوبته ،وتشبيه ميالن الغصن إذا
هّز ه النسيم بتثين قّد ها :
__________________
( )1الس ارية :الس حابة متط ر ليال ،وال ثرى :ال رتاب الن دي ،واألرض ،كهندي ة تنتض ى :أي مث ل س يوف
هندية تسّل من أغمادها.
99
ا يب من تثنيه يب نص وللقض ا يء من تلّه به ورد ش يف محرة ال
وقال أيضا يف وصف بركة املتوكل ،وتشبيه الربكة يف تدفق مائها بيد املتوكل يف
العطاء :
( )1
ي د اخلليف ة ملا س ال واديه ا دفقها كأهنا حني ّجلت يف ت
وقال يف تشبيه الندى على شقائق النعمان بدموع الشوق على خدود احلسان :
دم وع التص ايب يف خ دود اخلرائ د ه دى فكأن قائق حيملن الن ش
***
واخلالصة أن األصل يف التشبيه أن جيري على الّس نن املعروف عند العرب والذي
يتمث ل يف أن يلتمس املش به ب ه مما ه و مع روف وم ألوف يف حي اهتم ح ىت ول و ك ان املش به
أقوى وأعظم يف الصفة اليت يشرتك فيها مع املشبه به .فالعرب مثال قد اشتهر بينهم عمرو
بن مع ّد يك رب باإلق دام ،وح امت ب اجلود ،وأحن ف بن قيس ب احللم ،وإي اس بال ذكاء ،
وأصبح كل واحد من هؤالء مثال عاليا يف الصفة اليت اشتهر هبا .فاألسلوب العريب يقضي
على الشاعر أن جيعل كل واحد من هؤالء األعالم مش ّبها به ،سواء أوجد بعده من هو
أعظم منه يف الصفة وأقوى أم مل يوجد.
وقد سلك القرآن الكرمي هذا الّس نن فش ّبه نور اهلل سبحانه وتعاىل ،وهو بال شك
أق وى األن وار ،بن ور املص باح يف مش كاة ،ألّن الع رب ج روا على ع ادة أن جيعل وا ن ور
املصباح أكرب األنوار وأعظم األضواء.
كذلك اّطردت العادة يف البالغة على تشبيه األدىن باألعلى ،فإذا جاء
__________________
(ّ )1جل يف األمر :متادى واستمر.
100
األم ر على خالف ذل ك فه و التش بيه املعك وس أو املقل وب طلب ا للمبالغ ة باّدع اء أن وج ه
الشبه يف املشبه أقوى منه يف املشبه به.
وقد شاع ذلك ،كما يقول ابن األثري ،يف كالم العرب واّتسع حىت صار كأنه
األصل يف التشبيه .والواقع أن هذا الضرب من التشبيه حسن املوقع لطيف املأخذ ،وهو
مظهر من مظاهر االفتنان واإلبداع يف التعبري.
والشرط يف استعمال التشبيه املقلوب أاّل يرد إال فيما جرى عليه العرف واإللف
لدى العرب ،وذلك حىت تظهر فيه بوضوح صورة القلب واالنعكاس.
على ه ذا األس اس حيس ن التش بيه املقل وب ويقب ل ،أم ا إذا ورد يف غ ري املعه ود
املألوف فإنه يكون معيبا ألن املبالغة فيه تصيبه بالغموض ،وتؤدي إىل التداخل بني طرفيه
،فال يعرف أّيهما املشّبه ،وأّيهما املشبه به.
ويقرب من هذا النوع ما أطلق عليه «تشبيه التفضيل» ،وهو أن يشّبه شيء بشيء
لفظ ا أو تق ديرا ،مث يع دل عن التش بيه الّدع اء أن املش به أفض ل من املش به ب ه .ومن ذل ك
قول الشاعر :
ال؟ در من ذاك اجلم وأين الب ريا درا من هب بت مجال حس
وقول شاعر آخر :
دحك أم حب أخط بالس ا دواك يوم اس ج من ق
حك وأنت تعطي وتض ّح ب تعطي وتبكي الس
التشبيه الضمني
التشبيه الضمين :تشبيه ال يوضع فيه املشبه واملشبه به يف صورة من صور التشبيه
املعروفة ،بل يلمحان يف الرتكيب .وهذا الضرب من التشبيه
101
يؤتى به ليفيد أن احلكم الذي أسند إىل املشبه ممكن.
وبيان ذلك أن الكاتب أو الشاعر قد يلجأ عند التعبري عن بعض أفكاره إىل أسلوب
يوحي بالتشبيه من غري أن يصّر ح به يف صورة من صوره املعروفة.
ومن ب واعث ذل ك التفّنن يف أس اليب التعب ري ،وال نزوع إىل االبتك ار والتجدي د ،
وإقامة الربهان على احلكم املراد إسناده إىل املشبه ،والرغبة يف إخفاء معامل التشبيه ،ألنه
كلما خفي ودّق كان أبلغ يف النفس.
ولنأخذ مثاال لذلك ،وهو قول أيب فراس احلمداين :
ويف الليل ة الظلم اء يفتق د الب در س يذكرين ق ومي إذا ج ّد ج ّد هم
فهو هنا يريد أن يقول :إن قومه سيذكرونه عند اشتداد اخلطوب واألهوال عليهم
ويطلبونه فال جيدونه ،وال عجب يف ذلك ألن البدر يفتقد ويطلب عند اشتداد الظالم.
فهذا الكالم يوحي بأنه تضمن تشبيها غري مص ّر ح به ؛ فالشاعر يش ّبه ضمنا حاله
وق د ذك ره قوم ه وطلب وه فلم جيدوه عن د م ا أّلمت هبم اخلط وب حبال الب در يطلب عن د
اشتداد الظالم .فهو مل يص ّر ح هبذا التشبيه وإمنا أورده يف مجلة مستقلة وضمنه هذا املعىن
يف صورة برهان.
ولنأخذ مثاال آخر وهو قول البحرتي :
ض حوك إىل األبط ال وه و ي روعهم وللس يف ح ّد حني يس طو ورون ق
فممدوح البحرتي يلقى الشجعان بوجه ضاحك وهو يروعهم ويفزعهم يف الوقت
ذاته ببأسه وسطوته ،وكذلك السيف له عند القتال والضرب رونق وفتك .وهذا كالم
يشّم منه رائحة التشبيه الضمين.
102
فالبحرتي مل يأت بالتشبيه صرحيا فيقول :إن حال املمدوح يضحك يف غري مباالة
عند مالقاة الشجعان ويفزعهم ببأسه وسطوته تشبه حال السيف عند الضرب له رونق
وفتك ،ولكنه أتى بذلك ضمنا ،لباعث من البواعث السابقة.
ولنأخذ مثاال ثالثا وهو قول ابن الرومي :
( )1
ق د يش يب الف ىت وليس عجيب ا أن ي رى الّن ور يف القض يب ال رطيب
فابن الرومي يوّد أن يقول هنا :قد يعرتي الفىت الشيب يف ريعان شبابه ،وليس
ذلك باألمر العجيب ألن الغصن الغّض الندي قد يظهر فيه الزهر األبيض قبل أوانه.
فاألسلوب الذي عرّب به ابن الرومي عن فكرته هنا يتضمن تشبيها مل يص ّر ح به ،
فإنه مل يقل مثال :إن الفىت وقد شاب مبكرا كالغصن الغّض الرطيب وقد أزهر قبل أوانه
،ولكنه أتى بالتشبيه ضمنا ،إلفادة أن احلكم الذي أسند للمشّبه أمر ممكن الوقوع.
ولنأخذ مثال أخريا وهو قول أيب متام :
الس يل ح رب للمك ان الع ايل ال تنك ري عط ل الك رمي من الغ ىن
يريد أبو متام أن يقول ملن خياطبها :ال تنكري خل ّو الرجل الكرمي من الغين ،فإن
ذلك ليس غريبا ،ألن قمم اجلبال وهي أعلى األماكن ال يستقر فيها ماء السيل.
فالكالم يوحي بتشبيه ضمين ،ولو ص ّر ح به لقال مثال :إن الرجل الكرمي احملروم
الغىن يشبه قمة اجلبل وقد خلت من ماء السيل .ولكن
__________________
( )1النور :الزهر األبيض .والقضيب الرطيب :الغصن الغّض الندي.
103
الشاعر مل يقل ذلك صراحة ،وإمنا أتى جبملة مستقلة وضّم نها هذا املعىن يف صورة برهان
على إمكان وقوع ما أسنده للمشّبه.
***
وفيما يلي طائفة من أمثلة التشبيه الضمىن :
1ـ قال المتنبي :
( )1
ام ذهب الرغ دن ال ولكن مع العيش فيهم ا منهم ب ا أن وم
املشبه حال الشاعر ال يع ّد نفسه من أهل دهره وإن عاش بينهم ،واملشبه به حال
الذهب خيتلط بالرتاب ،مع أنه ليس من جنسه.
2ـ وقال أيضا :
( )2
أس رع الس حب يف املس ري اجله ام ين يبك ع ومن اخلري بطء س
املشبه حال العطاء يتأخر وصوله ويكون ذلك دليال على كثرته ،واملش ّبه به حال
السحب تبطىء يف السري ويكون ذلك دليال على غزارة مائها.
3ـ وقال أبو العتاهية :
فينة ال جتري على اليبس إن الس ترج و النج اة ومل تس لك مس الكها؟
املشبه حال من يرجو النجاة من عذاب اآلخرة وال يسلك مسالك النجاة ،واملشبه
به حال السفينة اليت حتاول اجلري على األرض اليابسة.
4ـ وقال ابن الرومي :
__________________
( )1الرغام :الرتاب.
( )2السيب :العطاء ،واجلهام :السحاب ال ماء فيه.
104
وياله إن نظ رت وإن هي أعرض ت وق ع الس هام ون زعهّن أليم
املش به ح ال احملبوب ة إذا نظ رت وإذا أعرض ت ،واملش به ب ه ح ال الس هام ت ؤمل إذا
وقعت وتؤمل إذا نزعت.
التشبيه البليغ :والتشبيه إذا ما حذفت منه األداة ووجه الشبه فهو «التشبيه البليغ»
وه و أعلى م راتب التش بيه يف البالغ ة وق وة املبالغ ة ،ملا في ه من اّدع اء أن املش ّبه ه و عني
املشبه به ،وملا فيه من اإلجياز الناشىء عن حذف األداة والوجه معا ،هذا اإلجياز الذي
جيع ل نفس الس امع ت ذهب ك ل م ذهب ،وي وحي هلا بص ور ش ىت من وج وه التش بيه ،
كقول أيب فراس :
وك ل ال ذي ف وق ال رتاب ت راب إذا نلت من ك ال وّد فالك ل هّني
أغراض التشبيه
ق د يلج أ الك اتب أو الش اعر يف التعب ري إىل أس لوب التش بيه لش عوره بأن ه أك ثر من
غريه يف إصابة الغرض ووضوح الداللة على املعىن.
وأغراض التشبيه منوعة ،وهي تعود يف الغالب إىل املشّبه ،وقد تعود إىل املشّبه به.
وهذه األغراض هي :
1ـ بيان إمكان وجود املش ّبه :وذلك حني يسند إىل املشبه أمر مستغرب ال تزول
غرابته إال بذكر شبيه له.
مثال ذلك قول املتنيب :
زال ك بعض دم الغ إن املس ف ام وأنت منهم ق األن إن تف ف
فالتش بيه هن ا ض مين ،وفي ه اّدعى الش اعر أن املش ّبه وه و املم دوح مب اين ألص له
بصفات وخصائص جعلته حقيقة منفردة .وملا رأى غرابة دعواه وأن هناك من قد ينكر
وجودها احتّج على صحتها بتشبيه املمدوح
105
باملسك الذي أصله دم الغزال.
ومن أمثلة ذلك أيضا قول البحرتي :
عن ك ل ن ّد يف الن دى وض ريب ع اة وشاس دي العف دان إىل أي
للعص بة الس ارين ج ّد ق ريب كالب در أف رط يف العل و وض وؤه
ففي البيت األول وصف الشاعر ممدوحه بأنه قريب للمحتاجني ،بعيد املنزلة ،بينه
وبني نظرائه يف الكرم والندى بون شاسع .ولكن الشاعر حينما أحّس أنه وصف ممدوحه
بوصفني متضادين ،مها القرب والبعد يف وقت واحد ،أراد أن يبّني أن ذلك ممكن ،وأن
ليس يف األمر تناقض ،وهلذا شّبه املمدوح يف البيت الثاين بالبدر الذي هو بعيد يف الس ماء
،ولكن ضوءه قريب جدا للسارين بالليل .فالغرض من التشبيه يف هذين املثالني هو بيان
إمكان وجود املشّبه.
2ـ بيان حال املشبه :وذلك حينما يكون املشبه جمهول الصفة غري معروفها قبل
التشبيه ،فيفيده التشبيه الوصف.
ومن أمثلة ذلك قول النابغة الذبياين :
وكب فإن ك مشس واملل وك ك واكب إذا طلعت مل يب د منهّن ك
فالنابغ ة يشبه ممدوحه بالشمس ،ويش ّبه غريه من امللوك بالكواكب ،ألن عظم ة
ممدوح ه تغّض من عظم ة ك ل مل ك كم ا ختفي الش مس الك واكب .وملا ك انت ح ال
املمدوح وغريه من امللوك ،وك ّل منهما مش ّبه ،جمهولة غري معروفة ،فقد أتى باملش ّبه به
لبي ان أن ح ال املم دوح م ع غ ريه من املل وك كح ال الش مس م ع الك واكب ،ف إذا ظه ر
أخفاهم كما ختفي الشمس الكواكب بطلوعها.
ومن أمثلته أيضا قول ابن الرومي :
106
يل وان أّي س يل لإلخ ح رب أيب حفص لع اب اللي ل يس
فاملش ّبه هنا هو حرب أيب حفص أو مداده ،واملش ّبه به هو لعاب الليل أي سواده.
فاملش به وه و احلرب جمه ول احلال أو الص فة ألن للح رب أك ثر من ل ون .ول ذلك التمس ابن
الرومي له مشبها به هو لعاب الليل األسود لبيان حاله .فبيان حال املشبه إذن غرض من
أغراض التشبيه.
3ـ بيان مقدار حال املشبه :أي مقدار حاله يف القوة والضعف والزيادة والنقصان
،وذلك إذا كان املشبه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إمجالية ،مث يأيت التشبيه لبيان
مقدار هذه الصفة .وذلك حنو قول عنرتة :
س ودا كخافي ة الغ راب األس ود ة ون حلوب ان وأربع ا اثنت فيه
فعنرتة خيرب يف هذا البيت بأن محولة أهل حمبوبته تتألف من اثنتني وأربعني ناقة حتلب
،مث وصف هذه النوق بأهنا سود ،والنوق السود هي أنفس اإلبل وأعّز ها عند العرب.
ولبيان مقدار سواد هذه النوق شّبهها خبافية الغراب األسحم ،أي جناحه األسود.
فالغرض من التشبيه بيان مقدار حال املشّبه.
ومن قول املتنيب يف وصف أسد :
حتت ال دجى ن ار الفري ق حل وال ا م ا ق وبلت عين اه إال ظّنن
ف املتنيب يص ف عي ّين األس د يف اللي ل بأهنم ا حممّر ت ان ،ولبي ان مق دار امحرارمها ملن
يرامها يف الليل عن بعد يشبههما بنار لفريق من الناس حلول مقيمني .وقد اضطر املتنيب إىل
التشبيه ليبّني هذا االمحرار وعظمه ،أي ليبّني مقدار حال املشبه .وهذا غرض من أغراض
التشبيه.
107
أهل
ّي ّي . زجن ود «أس : ا برغوث ف يص ي األندلس ( )1
ومن ه ك ذلك ق ول ابن ش هيد
وحشّي ...كأنه جزء ال يتجزأ من ليل ،أو نقطة مداد ،أو سويداء فؤاد »...فالغرض
من التشبيهات الثالثة هنا هو بيان مقدار حال املشبه ،ألنه ملا وصف الربغوث بالسواد
أراد أن يبنّي مقدار هذا السواد.
فالغرض من التشبيه عند عنرتة واملتنيب وابن شهيد هو بيان مقدار حال املشبه ،أي
بيان مقدار صفته املعروفة فيه قبل التشبيه معرفة إمجالية.
4ـ تقرير حال املشبه :أي تثبيت حاله يف نفس السامع وتقوية شأنه لديه ،كما
إذا كان ما أسند إىل املشبه حيتاج إىل التأكيد واإليضاح باملثال ؛ وذلك حنو قوله تعاىل :
(َو اَّلِذ يَن َيْد ُعوَن ِم ْن ُدوِنِه ال َيْس َتِج يُبوَن َلُه ْم ِبَش ْي ٍء ِإاَّل َك باِس ِط َك َّف ْيِه ِإَلى اْلماِء ِلَيْبُل َغ ف اُه َو م ا
ُه َو ِبباِلِغِه).
فاآلية الكرمية تتحدث يف شأن عّباد األوثان الذين يتخذون آهلة غري اهلل ،وتصفهم
بأهنم إذا دعوا آهلتهم ال يستجيبون هلم ،وال يعود عليهم دعاؤهم إياهم بفائدة .وقد أراد
اهلل سبحانه أن يقّر ر هذه احلال ويثبتها يف األذهان ،فش ّبه هؤالء الوثنيني مبن يبسط كّف يه
إىل املاء ليش رب فال يص ل املاء إىل فم ه بداه ة ،ألن ه خيرج من خالل أص ابعه م ا دامت
كّف اه مبسوطتني .فالغرض من التشبيه هنا تقرير حال املشبه.
ومن أمثلة هذا الغرض أيضا قول الشاعر :
على املاء خانت ه ف روج األص ابع وأص بحت من ليلى الغ داة كق ابض
فحال الشاعر مع صاحبته ليلى هي حال من كلما دنا منها بعدت عنه ،أو حال
من كلما أوشك أن يظفر هبا أفلتت منه ،وقد أراد الشاعر أن
__________________
( )1من أدباء األندلس وشعرائهم ،له شعر جيد ومؤلفات قّيمة .تويف سنة 426ه.
108
يق رر ه ذه احلال ة ويوّض حها فش ّبهها حبال الق ابض على املاء حياول إمس اكه والظف ر ب ه
فيسيل وخيرج من بني أصابعه.
فالغرض من هذا التشبيه أيضا تقرير حال املشبه .ومما يالحظ على هذا الغرض أنه
ال ي أيت إال حينم ا يك ون املش به أم را معنوي ا ،ألن النفس ال تس ّلم باملعنوي ات تس ليمها
باحلسّيات ،ومن أجل ذلك تكون يف حاجة إىل اإلقناع.
وأغراض التشبيه األربعة السابقة ،وهي :بيان إمكان وجود املش ّبه ،وبيان حاله ،
وبيان مقداره ،وتقرير حاله ،تقتضي أن يكون وجه الشبه يف املش ّبه به أمت وهو به أشهر
؛ إذ على متام وجه الشبه يف املشبه به واشتهاره به يكون حظ التشبيه يف حتقيق الغرض
بالنسبة للمشّبه.
***
5ـ تزيني املش ّبه :ويقصد به حتسني املش ّبه والرتغيب فيه عن طريق تشبيهه بشيء
حسن الصورة أو املعىن.
ومن أمثلة ذلك قول الشريف الرضي :
( )1
ا ا يف القلب والعني توأم رأيتكم أحّب ك ي ا ل ون الش باب ألن ين
ا؟ فلم أدر من ع ّز من القلب منكم س كنت س واد القلب إذ كنت ش بهه
فالش ريف الرض ي يف قول ه « :س كنت س واد القلب إذ كنت ش بهه» يش ّبه حبيبت ه
حببة القلب السوداء اليت هي مناط احلياة يف اإلنسان .فالغرض من التشبيه هنا تزيني املشبه
وبيان أن منزلته يف نفس الشاعر منزلة املشّبه به.
__________________
( )1التوأم من مجيع احليوان :املولود مع غريه يف بطن إىل ما زاد ،ذكرا كان أو أنثى ،أو ذكرا مع أنثى.
ويقال :مها توأمان ،ومها توأم ،واملراد بالتوأم يف هذا البيت النظريان.
109
ومن أمثلته أيضا قول أيب احلسن األنباري ( )1يف رثاء مصلوب :
ات ّد مها إليهم باهلب كم اء ديك حنوهم احتف ددت ي م
فاألنباري يش ّبه م ّد ذراعي املصلوب على اخلشبة والناس حوله مبّد ذراعيه بالعطاء
للسائلني أيام حياته .فاملشّبه وهو هنا الصلب أمر قبيح تشمئز منه النفوس ،ولكن صورة
املشّبه به وهي مّد اليدين بالعطاء للسائلني قد أزالت قبحه وزينته.
فالغرض من التشبيه يف هذين املثالني هو التزيني ،وأكثر ما يكون هذا الغرض يف
املدح والرثاء والفخر ووصف ما متيل إليه النفوس.
***
6ـ تقبيح املشبه :وذلك إذا كان املش ّبه قبيحا قبحا حقيقيا أو اعتباريا فيؤتى له
مبشّبه به أقبح منه يوّلد يف النفس صورة قبيحة عن املشّبه تدعو إىل التنفري عنه.
ومن أمثلة ذلك قول الشاعر املتنيب يف اهلجاء :
وز تلطم ه أو عج رد يقهق ق ه ار حمّد ثا فكأن وإذا أش
فاملتنيب يش ّبه املهجو عند ما يتحدث بالقرد يقهقه أو العجوز تلطم .والغرض من
التشبيه تقبيح املشّبه ألن قهقهة القرد ولطم العجوز أمران مستكرهان تنفر منهما النفس.
__________________
( )1أحد الشعراء اجمليدين ،عاش يف بغداد ،وتويف سنة 328ه .وقد اشتهر مبرثيته اليت رثى هبا أبا طاهر بن
بقية ،وزير ع ّز الدولة بن بويه ،ملا قتل وصلب .واملرثية اليت منها هذا البيت من أعظم املراثي ،ومل يسمع
مبثلها يف مصلوب .قيل إن عضد الدولة الذي أمر بصلبه ملا مسعها متىن لو كان هو املصلوب وقيلت فيه .انظر
املختصر يف أخبار البشر أليب الفداء ج 4ص .8
110
وقول ابن الرومي يف وصف حلية طويلة :
ة هباء حتكي ذنب املذ ّب ّبة ش ائلة منص ةس وحلي
فابن الرومي يشّبه حلية طويلة شهباء خيتلط فيها السواد بالبياض بذنب املذبة ،أي
املنشة اليت يذب هبا الذباب ويطرد .والغرض هو تقبيح هذه اللحية والسخرية بصاحبها.
وقول أعرايب يف ذم امرأته :
ار يفتح ا من الن ه باب تومهت وتفتح ـ ال ك انت ـ فم ا ل و رأيت ه
فاألعرايب الساخط على امرأته بعد أن يدعو عليها باحلرمان من الوجود يشبه فمها
عند ما تفتحه بباب من أبواب جهنم .والغرض من هذا التشبيه هو التقبيح.
والتشبيه بغرض التقبيح أكثر ما يستعمل يف اهلجاء والسخرية والتهكم ووصف ما
تنفر منه النفس.
وفيما يلي بعض أمثلة أخرى للتشبيه عند ما يكون الغرض منه التقبيح :
قال ابن الرومي يف وصف لؤم شخص ذي حلية :
ال تك ذبن ف إن لؤم ك ناص ل كنص ول تل ك اللّم ة الش مطاء
شّبه لؤمه الظاهر بظهور اللحية املخضوبة حني يزول اخلضاب عنها.
وقال السري الرفاء يف وصف منزله :
ض نك تق ارب قط راه فق د ض اقا ه ار الكلب أنزل نزل كوج يل م
111
فهو يشّبه منزله الضيق الذي تقارب قطراه أي جانباه بوجار الكلب وجحره.
وقال ابن الرومي :
وب ك املطل ه نيل من دون تاف أب دئت ص فحة قس وة وخش ونة
ه عن اخلروب ذود ب وكا ي ش ه وت يف إبدائ ك الينب فكأن
يشّبه ابن الرومي هنا شخصا فّظا غليظ القلب حني يطلب منه أقل معروف بشجر
اخلروب الذي ال يعادل شوكه ما جيىن من مثره األسود املعوّج الصلب.
وقال أيضا يف وصف قينة :
رب ا أليم الض رب واس توجبت مّن ّل ك غّنت فمّس القلب ك
( )1
هلا فم مثل اتساع الّد رب
شّبه فم هذه القينة وهي تغين بالدرب أي الباب الواسع.
ومن فوائ د التش بيه أن ه ميكن عن طريق ه حتس ني الش يء وتقبيح ه يف وقت واح د
كقول ابن الرومي يف مدح العسل وذّم ه :
ابري وإن تعب قلت :ذا قيء الزن تق ول :ه ذا جماج النح ل متدح ه
ف ابن ال رومي ق د م دح وذّم الش يء الواح د بتص ريف التش بيه اجملازي املض مر األداة
الذي خّيل به إىل السامع خياال حيّس ن الشيء عنده تارة
__________________
( )1الدرب :املدخل بني جبلني ،والعرب تستعمله يف معىن الباب ،فيقال لباب السكة :درب ،وللمدخل
الضيق درب ،ألنه كالباب ملا يفضي إليه.
112
ويقّبحه أخرى ،ولو ال التوصل بطريق التشبيه إىل هذا الوجه ملا أمكنه ذلك.
***
وبعد فمن حبثنا السابق ألغراض التشبيه يتضح أن للتشبيه أغراضا شىت نلخص ما
ذكرناه منها فيما يلي :
1ـ بيان إمكان وجود املشبه :وذلك حني يسند إىل املش ّبه أمر مستغرب ال تزول
غرابته إال بذكر شبيه له.
2ـ بي ان ح ال املش ّبه :وذل ك حينم ا يك ون املش به جمه ول الص فة قب ل التش بيه ،
فيفيده التشبيه الوصف.
3ـ بي ان مق دار ح ال املش به :وذل ك إذا ك ان املش ّبه مع روف الص فة قب ل التش بيه
معرفة إمجالية ،مث يأيت التشبيه لبيان مقدار هذه الصفة من جهة القوة والضعف والزيادة
والنقصان.
4ـ تقري ر ح ال املش ّبه :وذل ك بتث بيت ح ال املش ّبه يف نفس الس امع وتقوي ة ش أنه
لدي ه ،كم ا إذا ك ان م ا أس ند إىل املش ّبه حيت اج إىل التأكي د واإليض اح باملث ال .وأغ راض
التشبيه األربعة السابقة تقتضي أن يكون وجه الشبه يف املشّبه به أّمت وهو به أشهر ،وذلك
لكي تتحقق هذه األغراض بالنسبة للمشّبه.
5ـ ت زيني املش ّبه :وذل ك ب أن يلتمس للمش ّبه مش ّبه ب ه حس ن الص ورة أو حس ن
املعىن يرغب فيه .وأكثر ما يكون هذا الغرض يف املدح والرثاء والفخر ووصف ما متيل
إليه النفس.
6ـ تقبيح املشّبه :وذلك إذا كان املشّبه قبيحا حقيقيا أو اعتباريا ،فيؤتى له مبشبه
أقبح منه للتنفري منه .وأكثر ما يكون هذا الغرض يف اهلجاء
113
ووصف ما تنفر منه النفس.
وجتدر اإلشارة أخريا إىل أن مجيع هذه األغراض ترجع يف الغالب إىل املش ّبه ،وقد
ترجع إىل املشّبه به وذلك يف حالة التشبيه املقلوب.
***
114
فقد ش ّبه الرطب من قلوب الطري بالعناب ،واليابس منها باحلشف البايل ،فجاء
تشبيهه يف غاية اجلودة.
وكقول الطرماح يف وصف ثور وحشي :
يب دو وتض مره البالد كأن ه س يف على ش رف يس ّل ويغم د
ف الثور الوحش ي حني يظه ر كأن ه س يف يس ّل من غم ده على مك ان ع ال ،وه و
حني خيفى كأنه سيف يغمد يف غمده.
وكقول البحرتي يف وصف الندى حتمله شقائق النعمان :
( )1
دم وع التص ايب يف خ دود اخلرائ د ه دى فكأن قائق حيملن الن ش
فقطرات الندى مشبهة بدموع التصايب ،وشقائق النعمان خبدود احلسان.
وكقول بشار بن برد :
ه ل هتاوى كواكب يافنا لي وأس ك أن مث ار النق ع ف وق رؤوس نا
شّبه مثار النقع والغبار فوق الرؤوس بظلمة الليل ،وش ّبه السيوف بالكواكب وقد
كثر تشبيههم شيئني بشيئني حىت مل يصر عجبا.
وكقول آخر :
وتغيب في ه وه و جث ل أس حم بيض اء تس حب من قي ام فرعه ا
ا مظلم ل عليه ه لي وكأن اطع ه هنار س فكأهنا في
ش ّبه ام رأة بيض اء يف ش عرها األس ود املسرتس ل إىل األرض بالنه ار الس اطع وش ّبه
شعرها الكثيف امللتف على رأسها بالليل املظلم.
__________________
( )1اخلرائد :مجع خريدة ،وهي من النساء البكر اليت مل متّس قّط .
115
ومنهم من شّبه ثالثة أشياء بثالثة أشياء ،كقول البحرتي أيضا :
وت راه يف ظلم ال وغى فتخال ه قم را يك ّر على الرج ال بك وكب
ش ّبه وغى احلرب وعجاجه ا وجلب ة أص واهتا ب الظلم ،وش ّبه املم دوح ب القمر ،
والسنان بالكوكب.
وكقول شاعر آخر :
( )1
ح ذر الكواش ح والع دو املوي ق عرها دائرا من ش رت إّيل غ نش
ص بحان بات ا حتت لي ل مطب ق ه أنين وكأهنا وكأن فك
شّبه الشاعر نفسه وشّبه صاحبته بصبحني ،وشّبه شعر صاحبته األسود بليل مطبق
الظالم.
وكقول املرقش :
( )2
ّف عنم راف األك ري وأط ن ا وه دن ك والوج ر مس النش
شّبه الرائحة باملسك ،والوجوه بالدنانري ،وأطراف األكّف بالعنم.
وكقول ابن الرومي :
رجس على ورد ر من ن يقط ك أن تل ك ال دموع قط ر ن دى
ش ّبه الدموع بقطر الندى ،والعيون بالنرجس ،واخلدود بالورد وكقول ابن املعتز
:
__________________
( )1الكواشح :مجع كاشح وهو العدو الذي يضمر العداوة ويطوي عليها كشحه أي باطنه ،والكشح بفتح
الكاف وسكون الشني :اخلصر ،ومسي العدو كاشحا ألنه خيىبء العداوة يف كشحه ويف كبده ،والكبد بيت
الع داوة والبغض اء ،ومن ه قي ل للع دو :أس ود الكب د ،ك أّن الع داوة أح رقت الكب د .والع دو املوب ق :املهل ك
واملظهر العداوة.
( )2العنم :شجر له مثر أمحر يشّبه به البنان أو األصابه املخضوبة.
116
ّد عر وق ه وش وج ن ل وغص در ولي ب
ّد ر وخ ق وثغ وورد ري ودّر مخر
يف ال بيت األول ش ّبه الب در بالوج ه ،واللي ل بالش عر ،والغص ن بالق د ،ويف ال بيت
الثاين ش ّبه اخلمر بالريق ،والدّر بالثغر ،والورد باخلد .ويالحظ يف مجيع هذه التشبيهات
أهنا من التشبيه املقلوب.
ومنهم من شّبه أربعة أشياء بأربعة أشياء كقول امرىء القيس :
وإرخ اء س رحان ،وتق ريب تتف ل ة اقا نعام يب وس ه أيطال ظ ل
شّبه خاصريت الفرس خباصريت الظيب ،وشّبه ساقيه بساقي النعامة ،وش ّبه إرخاءه ،
أي م ّد عنق ه يف اسرتس ال عن د الس ري بإرخ اء الس رحان أي ال ذئب ،وليس داب ة بأحس ن
إرخ اء من ه ،وش ّبه تقريب ه ،أي مجع يدي ه ووثب ه عن د اجلري بتق ريب التتف ل ،أي ول د
الثعلب ،واملعىن يوحي بأنه أراد الثعلب بعينه مشّبها به.
وكقول املتنيب :
( )1
زاال ربا ورنت غ احت عن وف ب دت قم را وم الت خ وط ب ان
شّبه املتغّز ل فيها بالقمر حسنا ،وشّبه متايلها وتثنيها يف مشيتها بغصن البان ،وش ّبه
طيب رائحتها بالعنرب ،وشّبه سواد مقلتيها عند ما ترنو وتنظر مبقليت الغزال.
ومثله قول شاعر آخر :
آذرا ونا والتفنت ج ن غص ومس ة دورا وانتقنب أهّل فرن ب س
وكقول ابن حاجب وزير القادر باهلل :
__________________
( )1اخلوط :الغصن الناعم ،ورنت :نظرت.
117
( )1
ك الطلع وال ورد والرم ان والبلح ثغ ر وخ د وهند واختض اب ي د
شّبه الثغر بالطلع ،واخلد بالورد ،والنهد بالرمان ،واليد املخضوبة بالبلح.
وكقول ابن رشيق :
كلي ل وب در وغص ن وحق ف بف رع ووج ه وق ّد وردف
( )2
شّبه الشعر األسود بالليل ،والوجه بالبدر ،والق ّد أو القامة بالغصن ،والردف
باحلقف وهو كثري الرمل.
ومنهم من شّبه مخسة أشياء خبمسة أشياء كقول أيب الفرج الوأواء الدمشقي :
كم ذا أم ا لقتي ل اللح ظ من ق ود ()3؟ ق الت وق د فتكت فين ا لواحظه ا
وردا وعّض ت على العّن اب ب الربد وأمط رت لؤل ؤا من ن رجس وس قت
من بع د رؤيته ا يوم ا على أح د إنس انة ل و ب دت للش مس م ا طلعت
أس د احلم ام مقيم ات على رص د ون هلا ات اجلف كأمنا بني غاب
ففي البيت الثاين ش ّبه دموع هذه اإلنسانة باللؤلؤ ،وعينيها بالنرجس ،وخ ّد يها
بالورد ،واألنامل املخضوبة بالعناب ،وثناياها بالربد.
ويقول أبو هالل العسكري « :وال أعرف هلذا البيت ثانيا يف
__________________
( )1الطلع ،ما يطلع من النخلة مث يصري مثرا إن كانت أنثى ،وإن كانت ذكرا مل يصر مترا بل يؤكل طريا ،
ويرتك على النخلة أياما معلومة حىت يصري فيه شيء أبيض مثل الدقيق ،وله رائحة ذكّية فيلقح به األنثى.
( )2ردف املرأة :عجزها.
( )3القود بفتح القاف والواو :القصاص .وهو قتل القاتل بالقتيل.
118
أشعارهم» ومعىن هذا أن أقصى ما وصل إليه الشعراء هو تشبيه مخسة أشياء خبمسة أشياء
يف بيت واحد ،وأن هذا النوع نادر يف الشعر العريب.
وهك ذا ن رى أن بعض الش عراء ق د أك ثروا من التش بيهات يف ال بيت الواح د ولكن
الول ع هبذا الل ون من التش بيه وحماول ة إظه ار الرباع ة واالفتن ان في ه من ش أنه أن ي ؤدي إىل
التكّل ف ال ذي ي ذهب برون ق التش بيه ونض ارته وت أثريه كم ا يب دو على بعض ه ذه
التشبيهات.
محاسن التشبيه
من بالغ ة التش بيه أن يش ّبه الش يء مبا ه و أك رب من ه وأعظم ،ألن التش بيه ال يعم د
إليه إال لضرب من املبالغة ،فإما أن يكون مدحا أو ذّم ا أو بيانا وإيضاحا ،وال خيرج عن
هذه املعاين الثالثة.
وإذا كان األمر كذلك فال بّد فيه من تقدير لفظة «أفعل» ،فإن مل تق ّد ر فيه لفظة
«أفع ل» فليس بتشبيه بليغ .أال ترى أّن ا نقول يف التشبيه املضمر األداة «زيد أسد» فق د
شّبهنا زيدا بأسد الذي هو أشجع منه ،فإن مل يكن املشّبه به يف هذا املقام أشجع من زيد
الذي هو املشّبه كان التشبيه ناقصا إذ ال مبالغة.
ومن التشبيه املظهر لألداة قوله تعاىل َ( :و َل ُه اْلَج واِر اْلُم ْنَش آُت ِفي اْلَبْح ِر َك اَأْلْع الِم
)،وهذا تشبيه كبري مبا هو أكرب ألن السفن البحرية وإن كانت كبرية فإن اجلبال أكرب
منها.
وك ذلك إذا ش ّبه ش يء حس ن بش يء حس ن ،فإن ه إذا مل يش به مبا ه و أحس ن من ه
فليس بوارد على طريق البالغة ،وإن شّبه قبيح بقبيح فينبغي أن يكون املشّبه به أقبح.
وإن قصد البيان واإليضاح فينبغي أن يكون املشبه به أبني وأوضح.
119
ومن ذلك يرى أن تقدير لفظة «أفعل» ال ب ّد منه فيما يقصد به بالغة التشبيه وإال كان
التشبيه ناقصا.
وق د عرفن ا مما س بق أن تش بيه الش يئني أح دمها ب اآلخر ال خيل و من أن يك ون تش بيه
مع ىن مبع ىن ،أو تش بيه ص ورة بص ورة ،أو تش بيه مع ىن بص ورة ،أو تش بيه ص ورة مبع ىن.
وأبلغ هذه األنواع تشبيه معىن بصورة ،كقوله تعاىل َ( :و اَّلِذ يَن َكَف وا َأْع م اُلُه ْم َك راٍب
َس ُر
ِبِق يَعٍة) ووجه بالغة هذا النوع تأيت من متثيله للمعاين املوهومة بالصور املشاهدة.
ومن حماس ن التش بيه املض مر األداة قول ه تع اىل َ( :و َجَعْلَن ا الَّلْي َل ِلباس ًا) فش ّبه اللي ل
باللباس ،ألن الليل من شأنه أن يسرت الناس بعضهم عن بعض ملن أراد هربا من عدو أو
ثباتا لعدو أو إخفاء ما ال جيب االّطالع عليه من أمره .وهذا من التشبيهات اليت مل يأت
هبا إال القرآن الكرمي ،فإن تشبيه الليل بلباس مما اختّص به القرآن دون غريه من الكالم
املنثور واملنظوم.
ومن هذا األسلوب قوله تعاىل َ( :و آَيٌة َلُه ُم الَّلْيُل َنْس َلُخ ِم ْنُه الَّنهاَر ) فش ّبه ت ّربؤ الليل
من النهار بانسالخ اجللد عن اجلسم املسلوخ ،وذلك أنه ملا كانت هوادي الصبح وأوائله
عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ ،وكان ذلك أوىل من أن
يقال « :خيرج» ألن السلخ أدّل على االلتحام من اإلخراج.
ومن حماسن التشبيه املضمر يف األمثال «الليل جنة اهلارب» ،ومنه يف الشعر قول
املتنيب :
وإذا اه تز لل وغى ك ان نص ال ان حبرا دى ك وإذا اه تّز للن
ان وبال وإذا األرض أحملت ك ا ان مشس وإذا األرض أظلمت ك
120
فهنا أربعة تشبيهات ،كّل واحد منها تشبيه صورة بصورة وحسن يف معناه.
ومن تشبيه املركب باملركب مع إضمار األداة ،ما رواه معاذ بن جبل عن الرسول
عند ما قال له « :أمسك عليك هذا» وأشار إىل لسانه ،فقال معاذ « :أو حنن مؤاخذون
مبا نتكلم»؟ فقال له الرسول « :ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكّب الناس على مناخرهم يف
نار جهنم إال حصائد ألسنتهم؟» .فقوله :حصائد ألسنتهم ،من تشبيه املركب باملركب
،فإنه شّبه األلسنة وما متضي فيه من األحاديث اليت يؤاخذ هبا باملناجل اليت حتصد النبات
من األرض .وهذا تشبيه بليغ عجيب مل يسمع إال من النيب صلىهللاعليهوسلم.
ومنه قول أيب متام :
راض اب واألع ودروع األحس معش ر أص بحوا حص ون املع ايل
فقوله «حصون املعايل» من التشبيه املركب ،ألنه ش ّبه املعشر املمدوح يف منعهم
املعايل ومحايتها من أن يناهلا أحد سواهم باحلصون يف منعها من هبا ومحايته.
وكذلك الشأن يف تشبيههم بدروع األحساب واألعراض.
ومن تش بيه املركب ب املركب م ع إظه ار األداة ق ول الن يب صلىهللاعليهوسلم :
«مث ل املؤمن ال ذي يق رأ الق رآن كمث ل األترج ة ( )1طعمه ا طيب ورحيه ا طيب ،ومث ل
املؤمن الذي ال يق رأ الق رآن كمثل التمرة طعمه ا طيب وال ريح هلا ،ومثل املنافق الذي
يقرأ القرآن كمثل الرحيانة رحيها طيب وال طعم له ،
__________________
( )1األترجة بضم اهلمزة وسكون التاء وضم الراء وتشديد اجليم :مثرة ذهبية اللون طيبة الرائحة والطعم.
121
ومثل املنافق الذي ال يقرأ القرآن كمثل احلنظلة ال ريح هلا وطعمها مّر ».
فالرسول قد شّبه املؤمن القارىء وهو مّتصف بصفتني مها اإلميان والقراءة باألترجة
وهي ذات وصفني مها الطعم والريح ،وش ّبه املؤمن غري القارىء ،وهو مّتصف بصفتني
مها اإلميان وع دم الق راءة ب التمرة ،وهي ذات وص فني مها الطعم وع دم ال ريح ،ووص ف
املنافق القارىء ،وهو مّتصف بصفتني مها النفاق والقراءة بالرحيانة وهي ذات وصفني مها
الريح وعدم الطعم ،ووصف املنافق غري القارىء ،وهو مّتصف بصفتني مها النفاق وعدم
القراءة باحلنظلة ،وهي ذات وصفني مها عدم الريح ومرارة الطعم.
ومما ورد من هذا النوع شعرا قول البحرتي :
ابة ابة عن عص ه عص وليت رّدد فيهم وت ق منهم خل
( )1
ر ،ويف ىن يف ك ل حني قراب ه ده ام اجلراز يبقى على ال كاحلس
وقول ابن الرومي :
ة العنب ه ابن رجس مع يف ن وا ك أهنم وقع أدرك ثقات
ّبحت من عجب ومن عجب س رت هبا و بص و حبال ل فهم
راهبم دّر على ذهب
( )2
درر وش على ذهب رحياهنم
ويقارن ابن األثري بني هذا التشبيه وسابقه مقررا أن تشبيه البحرتي أصنع ،وذلك
أن تشبيه ابن الرومي صدر عن صورة مشاهدة ،على حني
__________________
( )1احلسام اجلراز :السيف املاضي النافذ املستأصل ،وقراب السيف :غمده.
( )2أدرك ثقاتك :أحلق مبن تثق هبم فهم بني رحيان وراح ،والعجب بضم فسكون :الزهو ،والعجب بفتح
العني واجليم :إنكار الشيء ألنه خالف املألوف.
122
استنبط البحرتي تشبيهه استنباطا من خاطره.
مث يوّض ح ابن األثري رأيه بقوله « :وإذا شئت أن تفّر ق بني صناعة التشبيه فانظر إىل
ما أشرت إليه ههنا ،فإن كان أحد التشبيهني عن صورة مشاهدة واآلخر عن صورة غري
مش اهدة ،ف اعلم أن ال ذي ه و عن ص ورة غ ري مش اهدة أص نع .ولعم ري أن التش بيهني
كليهم ا ال ب ّد فيهم ا من ص ورة حتكى ،لكن أح دمها ش وهدت الص ورة في ه فحكيت
واآلخر استنبطت له صورة مل تشاهد يف تلك احلال وإمنا الفكر استنبطها.
أال ت رى أن ابن ال رومي نظ ر إىل ال نرجس وإىل اخلم ر فش ّبه ،وأم ا البح رتي فإن ه
م دح قوم ا ب أن خل ق الس ماح ب اق فيهم ينتق ل عن األول إىل اآلخ ر ،مث اس تنبط ل ذلك
تشبيها فأّداه فكره إىل السيف وقرابه الذي يفىن يف كل حني وهو باق ال يفىن بفنائه .ومن
أجل ذلك كان البحرتي أصنع يف تشبيهه» (.)1
واألصل يف حسن التشبيه أن يشبه الغائب اخلفي غري املعتاد بالظاهر املعتاد ،وهذا
ي ؤدي إىل إيض اح املع ىن وبي ان املراد ،وذل ك كق ول الرس ول « :كن يف ال دنيا كأن ك
غ ريب أو ع ابر س بيل» ففي ه ذا احلديث إرش اد إىل خف ة احلال وع دم االرتب اط والتعّل ق
الش ديد بال دنيا ؛ ف إن الغ ريب ال ارتب اط ل ه يف بالد الغرب ة ،وابن الس بيل ال وج ود ل ه يف
مكان إال مبقدار العبور وقطع املسافة .فهذا املعىن أظهره التشبيه هناية الظهور.
ويؤك د أب و هالل العس كري ه ذا األص ل من أص ول التش بيه احلس ن بقول ه :
«والتش بيه يزي د املع ىن وض وحا ويكس به تأكي دا ،وهلذا أطب ق مجي ع املتكلمني من الع رب
والعجم عليه ،ومل يستغن أحد منهم عنه .وقد جاء
__________________
( )1كتاب املثل السائر ص 159ـ .160
123
عن الق دماء وأه ل اجلاهلي ة من ك ل جي ل م ا يس تدل ب ه على ش رفه وفض له وموقع ه من
البالغ ة بك ل لس ان .فمن ذل ك م ا قال ه ص احب كليل ة ودمن ة :ال دنيا كاملاء امللح كلم ا
ازددت منه شربا ازددت عطشا .وقال :ال خيفى فضل ذو العلم وإن أخفاه كاملسك خيبا
ويسرت ،مث ال مينع ذلك رائحته أن تفوح .وقال :األدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد
األمحق سكرا ،كالنهار يزيد البصري بصرا ويزيد اخلفاش سوء بصر» (.)1
ومن مقاصد التشبيه إفادة املبالغة ،وهلذا قّلما خال تشبيه مصيب عن هذا القصد.
ولكن ينبغي أاّل ي ؤدي اإلغ راق يف املبالغ ة إىل البع د بني املش به واملش به ب ه أو إىل ع دم
املالءمة بينهما ،وإاّل ارتّد التشبيه قبيحا.
ويعرّب عبد القاهر اجلرجاين عن مدى أثر التشبيه يف التعبري عن املعاين املختلفة بقوله
« :ف إن ك ان ـ التش بيه ـ م دحا ك ان أهبى وأفخم وأنب ل يف النف وس وأعظم ،وأه ّز
( )2
للعط ف وأسرع لإلل ف ،وأجلب للف رح وأغلب على املمتدح ، ...وأسري على األلسن
وأذكر ،وأوىل بأن تعلقه القلوب وأجدر.
وإن كان ذّم ا كان مسه أوجع وميسمه ( )3ألذع ،ووقعه أش ّد وح ّد ه أح ّد .وإن
كان حجاجا كان برهانه أنور ،وسلطانه أقهر ،وبيانه أهبر .وإن كان افتخارا كان شأوه
( )4أبعد ،وشرفه أجّد ولسانه ألّد .وإن كان اعتذارا
__________________
( )1كتاب الصناعتني ص 243ـ .244
( )2أسرار البالغة ص 93ـ .96
( )3امليسم بكسر امليم :اآللة اليت يكوى هبا ويعلم.
( )4الشأو :األمد والغاية ،وشرفه أجد :أعظم ،واأللد :الشديد اخلصومة.
124
كان إىل القبول أقرب ،وللقلوب أخلب ،وللسخائم ( )1أس ّل ،ولغرب ( )2الغضب أف ّل.
وإن كان وعظا كان أشفى للصدر ،وأدعى للفكر ،وأبلغ يف التنبيه والزجر ...وهكذا
احلكم إذا استقصيت فنون القول وضروبه .»...
ويرجع عبد القاهر تأثري التشبيه يف النفس إىل علل وأسباب .فأول ذلك وأظهره أن
أنس النف وس موق وف على أن خترجه ا من خفّي إىل جلّي ،وتأتيه ا بص ريح بع د مك ين ،
وأن ترّده ا يف الش يء تعلمه ا إي اه إىل ش يء آخ ر هي بش أنه أعلم ،وثقته ا ب ه يف املعرف ة
أحكم ،حنو أن تنقله ا عن العق ل إىل اإلحس اس ،وعّم ا يعلم ب الفكر إىل م ا يعلم
باالض طرار والطب ع ،ألن العلم املس تفاد من ط رق احلواس ...يفّض ل املس تفاد من جه ة
النظر والفكر ، ...كم ا ق الوا « :ليس اخلرب كاملعاين ة وال الظن ك اليقني» ،فاالنتق ال يف
الش يء عن الص فة واخلرب إىل العي ان ورؤي ة البص ر ليس ل ه س بب س وى زوال الش ك
والريب.
فاملش اهدة هلا أثره ا يف حتري ك النفس ومتكني املع ىن من القلب ،ول و ال أن األم ر
كذلك ملا كان هناك معىن لنحو قول أيب متام :
دد اغرتب تتج هف لدياجتي وط ول مق ام املرء يف احلي خمل ق
إىل الن اس أن ليس ت عليهم بس رمد ف إين رأيت الش مس زي دت حمب ة
وذلك أن هذا التجّد د ال معىن له إن كانت الرؤية ال تفيد أنسا من
__________________
( )1السخائم :الضغائن ،وسل السخائم :نزعها واستخراجها.
( )2غرب السيف :حّد ه ،وفل السيف :ثلمه ،واملعىن أن االعتذار يضعف من حّد ة الغضب الذي يكون له
وقع السيف على النفس.
125
حيث هي رؤية ،وكان اإلنس لنفيها الشك وال ّر يب ،أو لوقوع العلم بأمر زائد مل يعلم
من قبل.
ول و أن رجال أراد أن يض رب ل ك مثال يف تن ايف الش يئني فق ال :ه ذا وذاك ه ل
جيتمعان؟ وأشار إىل ماء ونار حاضرين ،وجدت لتمثيله من التأثري ما ال جتده إذا أخربك
بالقول فقال :هل جيتمع املاء والنار؟
وسبب آخر من أسباب بالغة التشبيه وتأثريه يف النفس عند عبد القاهر هو التماس
شبه للشيء يف غري جنسه وشكله ،ألن التشبيه ال يكون له موقع من السامعني وال يه ّز
وال حيّر ك حىت يكون الشبه مقررا بني شيئني خمتلفني يف اجلنس ،كتشبيه العني بالنرجس
وتشبيه الثريا مبا شّبهت به من عنقود الكرم املنّو ر.
ويف ذل ك يق ول « :وهك ذا إذا اس تقريت التش بيهات وج دت التباع د بني الش يئني
كلم ا ك ان أش ّد ك انت إىل النف وس أعجب ،وك انت النف وس هلا أطرب ،وك ان مكاهنا
إىل أن حتدث األرحيية أقرب».
«وذلك أن موضع االستحسان ،ومكان االستظراف ،واملثري للدفني من االرتياح
،واملت ألف للن افر من املس ّر ة ،واملؤل ف ألط راف البهج ة ،أن ك ت رى هبا ـ التش بيهات ـ
الشيئني مثلني متباينني ،ومؤتلفني خمتلفني ،وترى الصورة الواحدة يف السماء واألرض ،
ويف خلقة اإلنسان وخالل الروض .»...
«ومبىن الطباع وموضوع اجلبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان مل يعهد ظهوره
منه ،وخرج من موضع ليس مبعدن له كانت صبابة النفوس به أكثر ،وكان الشغف منها
أكثر وأجدر .فسواء يف إثارة التعجب ،وإخراجك إىل روعة املستغرب وجودك الشيء
يف مكان ليس من أمكنته ،
126
ووجود شيء مل يوجد ومل يعرف من أصله يف ذاته وصفته .»...
«وإذا ثبت هذا األصل وهو أن تصوير الشبه بني املختلفني يف اجلنس مما حيّر ك ق وى
االستحسان ،ويثري الكامن من االستظراف فإن التمثيل ـ أي التشبيه ـ أخّص شيء هبذا
الشأن».
فالتش بيه عن ده «يعم ل عم ل الس حر يف ت أليف املتب اينني ح ىت خيتص ر بع د م ا بن
املشرق واملغرب ،وجيمع ما بني املشئم واملعرق ( .)1وهو يريك للمعاين املمثلة باألوهام
شبها يف األشخاص املاثلة واألشباح القائمة ،وينطق لك األخرى ،ويعطيك البيان من
األعجم ،ويري ك احلي اة يف اجلم اد ويري ك التئ ام عني األض داد ،فيأتي ك باحلي اة واملوت
جمموعني ،واملاء والنار جمتمعني .كما يقال يف املمدوح هو حياة ألوليائه ،موت ألعدائه
،وجيعل الشيء من جهة ماء ومن أخرى نار ،كقول الشاعر :
س د م اء ج ار م ع اإلخ وان ر احلا رتقى نظ ار يف م ان أن
وكم ا جيع ل الش يء حل وا م ّر ا ،وص ابا عس ال ،وقبيح ا حس نا ،وأس ود أبيض يف
حال كقول الشاعر :
( )2
ولكن ه يف القلب أس ود أس فع ع ر يف العني أبيض ناص ه منظ ل
وجيعل الشيء قريبا بعيدا معا ،كقول البحرتي :
عن ك ل ن ّد يف الن دى وض ريب ع اة وشاس دي العف دان على أي
للعص بة الس ارين ج ّد ق ريب كالب در أف رط يف العل و وض وؤه
وجيعله حاضرا غائبا ،كقول الشاعر :
__________________
( )1املشئم :من أتى من الشام ،واملعرق :من أتى من العراق.
( )2األسفع :األسود املشرب حبمرة ،واالسم السفعة بضم السني.
127
( )1
ائب ر الغ الم على احلاض س ؤاد را يف الف ا حاض ا غائب أي
مث خيلص عبد القاهر من كل ذلك إىل القول بأن الشاعر الص ّناع يبلغ بتصرفه يف
التش بيه إىل غاي ات االبت داع ،فيق ول « :وكفى دليال على تص رفه بالي د الص ناع وإيفائ ه
على غاي ات االبت داع أن يري ك الع دم وج ودا والوج ود ع دما ،وامليت حّي ا واحلّي ميت ا ،
أع ين جعلهم الرج ل إذا بقي ل ه ذك ر مجي ل وثن اء حس ن بع د موت ه كأن ه مل ميت ،وجع ل
ال ذكر حي اة ل ه ،كم ا ق ال « :ذك رة ( )2الف ىت عم ره الث اين» ،وحكمهم على اخلام ل
الساقط القدر اجلاهل الدينء باملوت ...ولطيفة أخرى له وهي :جعل املوت نفسه حياة
مس تأنفة حىت يق ال إنه باملوت اس تكمل احلياة يف قوهلم « :فالن ع اش حني م ات» يراد
الرج ل حتمل ه النفس األبّي ة واألنف ة من الع ار أن يس خو بنفس ه يف اجلود والب أس وقت ال
األعداء ،حىت يكون له يوم ال يزال يذكر ،وحديث يعاد على مّر الدهور ويشهر ،كما
قال ابن نباتة :
رة يم م اف الض نفس تع ل ذي أيب وأمي ك ب
( )3
ره» ا ويعيش ذك فيميته ردى رّد ال أن ي ىب يرض
***
عيوب التشبيه
لعّل التشبيه من بني األساليب البيانية أكثرها داللة على قدرة البليغ وأصالته يف فن
القول .وذلك ألن التشبيه هو يف الواقع ضرب من التصوير
__________________
( )1أسرار البالغة ص 102ـ .114
( )2الذكرة بضم الذال :الّصيت.
( )3أسرار البالغة ص 102ـ .114
128
ال تتأتى اإلجادة أو اإلبداع فيه إال ملن توافرت له أدواته ،من لفظ ومعىن وصياغة ،ومن
مسّو خيال ورهافة حّس ،ومن براعة يف تشكيل صور التشبيه على حنو يبّث فيها احلركة
ومينحها اجلمال والتأثري.
ومن أجل ذلك يقال :إن التشبيه بني ألوان البالغة ممعن يف الرتف ،كثري األناقة ،
شديد احلساسية ،رقيق املزاج ،وأّي هتاون فيه يعيبه ،وخيرجه من احلسن إىل القبح.
وهذا القبح أنواع كثرية ،منها ما يرجع إىل اللفظ أو املعىن أو الصياغة أو اخليال
أو األصول البالغية اليت يبىن عليها التشبيه.
فمن األصول البالغية أن يش ّبه الشيء مبا هو أكرب وأقوى منه ،فيشبه احلسن مثال
باألحسن ،والقبيح باألقبح ،والبّني الواضح مبا هو أبني وأوضح منه ،وإال كان التشبيه
ناقصا.
وطبق ا ل ذلك يق ول ابن األثري « :ومن ههنا غلط بعض الكتاب من أه ل مصر يف
( )1
ذكر حصن من حصون اجلبال مشّبها له فقال :هامة عليها من الغمامة عمامة ،وأمنلة
خضبها األصيل فكان اهلالل منها قالمة .وهذا الكاتب حفظ شيئا وغابت عنه أشياء ،
فإنه أخطأ يف تشبيه احلصن باألمنلة ،أي مقدار لألمنلة بالنسبة إىل تشبيه حصن على رأس
جبل؟».
مث يستطرد ابن األثري « :فإن قيل إن هذا الكاتب تأسى فيما ذكره بكالم اهلل تعاىل
حيث قال :والقمر ق ّد رناه منازل حىت عاد كالعرجون القدمي .فمثل اهلالل بأصل عذق
النخلة .واجلواب أنه شّبه اهلالل يف
__________________
( )1األمنلة بتثليث اهلمزة مع تثليث امليم :مفصل اإلصبع الذي فيه الظفر ،وقيل األنامل :رؤوس األصابع ،
والقالمة :طرف الظفر املقلوم.
129
اآلية بالعرجون القدمي ،وذلك يف هيئة حنوله واستدارته ال يف مقداره ،فإن مقدار اهلالل
عظيم وال نسبة للعرجون إليه ،لكنه يف مرأى النظر كالعرجون هيئة ال مقدارا .وأما هذا
الكاتب فإن تشبيهه ليس على هذا النسق ،ألنه ش ّبه صورة احلصن بأمنلة يف املقدار ال يف
اهليئة والشكل ،وهذا غري حسن وال مناسب.
ومن بالغة التشبيه أن يثبت للمش ّبه حكم من أحكام املش ّبه به ،فإذا مل يكن هبذه
الصفة أو كان بني املشبه به بعد فإن ذلك مما يعيب التشبيه ويضع من قيمته البالغية.
ومن أمثلة ذلك قول أيب متام :
ال تس قين م اء املالم ف إنين ص ّب ق د اس تعذبت م اء بك ائي
فالشاعر جعل للمالم ماء ،وذلك تشبيه بعيد ،وسبب بعده أن املاء مستلذ واملالم
مستكره فحصل بينهما املخالفة والبعد من هذه اجلهة.
ومنه قول املّر ار :
( )1
س نا الب در يف دعج اء ب اد دجوهنا وخ ال على خ ديك يب دو كأّن ه
فاملتع ارف علي ه أّن اخلدود بيض واخلال أس ود ،ولكّن الش اعر رغم ذل ك يش به
اخلال بض وء الب در واخلدين بالليل ة املظلم ة .فالتش بيه هن ا ليس بعي دا فحس ب ،ب ل ه و
مناقض للعادة ،ومن أجل ذلك فهو تشبيه رديء.
ومن بعيد التشبيه أيضا قول الفرزدق :
__________________
( )1الدعجاء :السوداء ،وهي هنا صفة ملوصوف حمذوف ،والتقدير :ليلة دعجاء ،ودجوهنا :سوادها.
130
( )1
ج رب اجلم ال هبا الكحي ل املش عل ميش ون يف حل ق احلدي د كم ا مش ت
فالفرزدق ش ّبه الرجال يف دروع الزرد باجلمال اجلرب ،وهذا من التشبيه البعيد ؛
ألّنه إن أراد السواد فال مقاربة بينهما يف اللون ألّن لون احلديد أبيض ،ومن أجل ذلك
مسيت السيوف بالبيض .ومع كون هذا التشبيه بعيدا فإّنه تشبيه سخيف.
ومنه كذلك قول أعرايب :
وتبع د ح ىت ابيض من ك املس ائح وم ا زلت ترج و ني ل س لمى ووده ا
( )2
ظب اء ج رت منه ا س نيح وب ارح مال حاجبي ك الش يب ح ىت كأّن ه
فشبه شعرات بيضا يف حاجبيه بظباء سوانح وبوارح متر بني يديه ميينا ومشاال .فهذا
كما ترى من بعيد التشبيه.
ومنه قول أيب نواس يف اخلمر :
زل كال من الغ رت ش أظه ا ا املاء واقعه وإذا م
ل ذّر من جب درن هبا كاحندار ال ؤات ينح لؤل
فشّبه اجلب يف احنداره بنمل صغار ينحدر من جبل ،وهذا من
__________________
( )1الكحيل :النفط أو القطران يطلى به اإلبل ،وأشعل إبله بالكحيل أو القطران طالها به وكثره عليها.
( )2مال :مأل ،وسهلت اهلمزة لضرورة الشعر ،املسائح :جوانب الرأس أو الشعر ،مجع مسيحة ،والسنيح
أو السانح من الظباء والطري خالف البارح ،وهو ما مير بني يديك من جهة يسارك إىل ميينك ،والعرب تتيمن
به ،ألّن ه أمكن لل رمي والصيد ،والب ارح من الظب اء والطري :م ا م ر منه ا بني ي ديك من ميين ك إىل يس ارك ،
والعرب تتطري به ،ألّنه ال ميكنك أن ترميه حىت تنحرف.
131
البعيد ،كما يقول ابن األثري ،على غاية ال حيتاج فيها إىل بيان وإيضاح.
***
وقد يكون التشبيه مصيبا ولكّن وقع املشبه به على النفس صورة كان أو صفة أو
ح اال ق د يث ري فيه ا ح اال من البش اعة أو االس تنكار ،وهبذا يفق د التش بيه روعت ه وس حره
وتنتفي عنه صفة البالغة ،ويضحى تشبيها قبيحا معيبا .ومن أمثلة ذلك قول شاعر يصف
روضا :
دماء د روين من ال اب ق ثي ه ان في قائق النعم
ك أّن ش
فتشبيه شقائق النعمان بالثياب املرتوية بالدماء قد يكون هذا تشبيها مصيبا ولكن
فيه بشاعة ذكر الدماء ،ولو شبه الشقائق مثال بالعصفر األمحر اللون أو ما شاكله لكان
أوقع يف النفس وأقرب إىل األنس.
وقول امرىء القيس :
( )1
أس اريع ظ يب أو مس اويك أس حل وتعط و ب رخص غ ري ش ثن كأّن ه
فامرؤ القيس يقول إّن صاحبته تتناول األشياء ببنان أو أصابع رخصة لّينة ناعمة ،
ّمث يش به تل ك األنام ل ب دود الرم ل أو املس اويك املتخ ذة من ش جر األس حل .فق د يك ون
تش بيه البن ان هبذا الض رب من ال دود مص يبا من جه ة اللني والبي اض والط ول واالس تواء
والدقة ،ولكنه يف الوقت ذاته حيضر إىل الذهن صورة الدود ويف ذلك ما فيه من نفور
النفس وامشئزازها .ومن
__________________
( )1تعطو :تتناول ،برخص :أراد به بنانا أو أصابع رخصة لينة ،غري شثن :ليس خبشن ،األساريع :دود
يكون يف الرمل تشبه أنامل النساء به ،الظيب :اسم رملة بعينها ،واألسحل :شجر تتخذ من أغصانه الدقيقة
املستوية مساويك كاألراك ،وتشبه به األصابع يف الدقة واالستواء.
132
هنا يتطرق القبح إىل هذا التشبيه على إصابته .أّم ا تشبيه البنان مبساويك األسحل فجار
جمرى غريه من تشبيهاهتم ،ألهّن م يصفوهنا باألقالم والعنم وما أشبه ذلك .والبنان قريب
الشبه من أعواد املساويك يف القدر واالستواء ونعومة امللمس.
وقول العرجي يف دبيب اهلوى :
كم ا دب يف امللس وع س م العق ارب ي دب هواه ا يف عظ امي وحبه ا
فتشبيه دبيب اهلوى يف العظام بدبيب سم العقارب يف امللسوع غاية يف البشاعة.
ومنه قول أيب حمجن الثقفي يف وصف قينة :
كم ا يطن ذب اب الروض ة الغ رد وترف ع الص وت أحيان ا وختفض ه
فق د ش ّبه القين ة وهي ترف ع ص وهتا أحيان ا وختفض ه بالغن اء بط نني ال ذباب الغ رد يف
الروض ة .فه ذا التش بيه وإن ك ان مص يبا لعني الش به فإّن ه غ ري طيب يف النفس وال مس تقر
على القلب .فأي قينة حتب أن تشبه بالذباب ،وأن يشبه غناؤها بطنني الذباب؟
ومع هذا فقد سرق أبو حمجن هذا التشبيه ومل حيسن استخدامه فقلبه وأفسده .أجل
لقد سرقه من قول عنرتة العبسي يصف ذباب روضة :
ارب املرتمن ل الش ردا كفع غ ارح ذباب هبا فليس بب وخال ال
وشتان بني تشبيه وتشبيه.
وأين قول أيب حمجن من قول بشار يف وصف قينة :
وب دواعي ا والقل ا التقين إذا م ا ا وعيونن لى هلا آذانن تص
133
اوس داعي ا للوس ا دعاه قلوب إذا قّل دت أطرافه ا الع ود زل زلت
اع ة وبق نها من روض حماس د تالحقت ةق أهّن م يف جن ك
( )1
نش اوى وم ا تس قيهم بص واع ديثها دها وح ون من تغري يروح
وبع د ف اجلوانب ال يت تعيب التش بيه ويتط رق منه ا القبح إلي ه أك ثر من أن حتص ى أو
تستقصى ؛ فمنها ما أوردناه ومثلنا له ،ومنها ما يتطرق إليه من جوانب أخرى كاللفظ
أو املعىن أو رداءة الصياغة والنسج أو قلق القافية يف الشعر ،وما أشبه ذلك.
وكم ا ذك رت آنف ا أّن التش بيه من أك ثر األس اليب البياني ة دالل ة على مق درة البلي غ
ومدى أصالته يف فن القول .فالبلغاء كانوا ـ وما زالوا ـ يف كل زمان ومكان يتنافسون يف
اصطياده ،ويلقون بشباك خياهلم يف حميطه ّ ،مث ينزعوهنا وإذا بعضها ملؤه الآلىلء والدرر!
وإذا بعضها اآلخر ملؤه احلصى واحلجر!.
__________________
( )1الصواع بضم الصاد :املكيال.
134
المبحث الثاني
الحقيقة والمجاز
إذا تتبعن ا نش أة الكالم عن «احلقيق ة واجملاز» فإنن ا جند أّن اجلاح ظ من أوائ ل من
عرضوا هلذا املوضوع بالبحث.
واجلاحظ إذ يتناول قضايا البيان العريب ال يهتم كثريا بصبها يف قوالب التعريفات
والتحديدات على عادة رجال البالغة من بعده .وإمّن ا نراه يسوق النماذج عليها من بليغ
القول نثرا وشعرا ،مع شرح بعضها أحيانا أو التعليق عليه ،تاركا ملن يهمهم أن يعرفوا
مفهومه ألي موضوع بالغي طرقه أن يستنبطوه من خالل شرحه له.
ففي كالمه عن احلقيقة واجملاز يقول « :وإذا قالوا :أكله األسد ،فإمّن ا يذهبون إىل
األكل املعروف ،وإذا قالوا :أكله األسود ،فإمّن ا يعنون النهش واللدغ والعض فقط .وقد
قال اهلل عزوجل (َأُيِح ُّب َأَح ُد ُك ْم َأْن
135
َيْأُك َل َلْح َم َأِخ يِه َمْيتًا؟) ويقولون يف باب آخر :فالن يأكل الناس ،وإن مل يكن يأكل من
طعامهم شيئا ،وكذلك قول دمهان النهري :
ل دهر عليهم وأك رب ال ش وا اس أكل ألتين عن أن س
فهذا كله خمتلف ،وهو كله جماز» (.)1
فاألك ل يف قول ه « :أكل ه األس د» حقيقي ،أّم ا يف األمثل ة األخ رى فاألك ل على
اختالف أنواعه جمازي كما ذكر.
فمن ه ذه األمثل ة يتض ح أّن اجملاز عن د اجلاح ظ مقاب ل للحقيق ة ،وأّن احلقيق ة يف
مفهومه تعين «استعمال اللفظ فيما وضع له أصال» ،كما أّن اجملاز عنده هو «استعمال
اللفظ يف غري ما وضع له لعالقة مع قرينة مانعة من إرادة املعىن احلقيقي».
ومن معاص ري اجلاحظ ال ذين عرض وا ل ذات املوض وع من زاوي ة خاص ة أب و حمم د
عبد اهلل بن مسلم بن قتيبة الدينوري « 276ه» ،فقد اهتّم ابن قتيبة فقط بالرد على من
أنكروا اجملاز وزعموا أّن الكالم كله حقيقة وال جماز فيه .ويف ذلك يقول « :لو كان اجملاز
ك ذبا لك ان أك ثر كالمن ا ب اطال ،ألّن ا نق ول :نبت البق ل ،وط الت الش جرة ،وأينعت
الثمرة ،وأقام اجلبل ورخص السعر ، ...وتقول :كان اهلل ،وكان مبعىن حدث ،واهلل
قبل كل شيء .وقال اهلل عزوجل َ( :فَو َج دا ِفيها ِج دارًا ُيِريُد َأْن َيْنَق َّض َفَأقاَمُه )،لو قلنا
ملنكر هذا كيف تقول يف جدار رأيته على شفا اهنيار؟ مل جيد بدا من أن يقول :يهّم أن
ينقض ،أو يكاد أو يقارب ،فإن فعل فقد جعله فاعال ،وال أحسبه يصل إىل هذا املعىن
يف شيء من ألسنة
__________________
( )1كتاب احليوان ج 5ص 27ـ ، 28واألسود هنا :نوع خبيث من األفاعي.
136
العجم إاّل مبثل هده األلفاظ» (.)1
وبع د ابن قتيب ة ج اء أب و احلس ني أمحد بن ف ارس « 396ه» فع رف احلقيق ة واجملاز
بقوله « :احلقيقة هي الكالم املوضوع موضعه الذي ليس باستعارة وال متثيل وال تقدمي وال
تأخري كقول القائل :احلمد هلل على نعمه وإحسانه ،وهذا أكثر الكالم ،أي أّن الكالم
احلقيقي ميضي لسنته ال يعرتض عليه .وقد يكون غريه وجيوز جوازه لقربه منه إاّل أّن فيه
من تشبيه واستعارة وكف ما ليس يف األول .كقولك :عطاء فالن مزن واكف ،فهذا
التشبيه .وقد جاز جماز قوله :عطاؤه كثري واف» ( .)2فاجملاز عند ما كان قريبا من احلقيقة
وفيه تشبيه أو استعارة.
وعن د ابن رش يق الق ريواين « 456ه» أّن «اجملاز يف كث ري من الكالم أبل غ من
احلقيق ة ،وأحس ن موقع ا يف القل وب واألمساع ،وم ا ع دا احلق ائق من مجي ع األلف اظ ّمث مل
يكن حماال حمض ا فه و جماز ،الحتمال ه وج وه التأوي ل ،فص ار التش بيه واالس تعارة وغريمها
من حماسن الكالم داخلة حتت اجملاز ،إاّل أهّن م خصوا باجملاز ،بابا بعينه ،وذلك أن يس ّم ى
الشيء باسم ما قاربه أو كان منه بسبب ،كما قال جرير بن عطية :
ابا انوا غض اه وإن ك رعين إذا س قط الس ماء ب أرض ق وم
أراد املط ر لقرب ه من الس ماء ،وجيوز أن تري د «بالس ماء» الس حاب ،ألّن ك ل م ا
أظّلك مساء ،وقال «سقط» يريد سقوط املطر الذي فيه ،وقال
__________________
( )1كتاب العمدة ج 1ص .236
( )2كتاب الصاحيب البن فارس 196ـ .198
137
«رعيناه» واملطر ال يرعى ،ولكنه أراد «النبت» الذي يكون عنه فهذا كله جماز» (.)1
ك ذلك أش ار إىل ول ع الع رب باجملاز فق ال « :والع رب كث ريا م ا تس تعمل اجملاز ،
وتع ده من مف اخر كالمه ا ،فإّن ه دلي ل الفص احة ،ورأس البالغ ة ،وب ه ب انت لغته ا عن
سائر اللغات» (.)2
ويعرف عبد القاهر اجلرجاين « 471ه» احلقيقة يف املفرد بقوله « :كل كلمة أريد
هبا ما وقعت له يف وضع واضع وقوعا ال يستند فيه إىل غريه .وهذه عبارة تنتظم الوضع
األول وم ا ت أخر عن ه كلغ ة حتدث يف قبيل ة أو يف مجي ع الع رب أو يف مجي ع الن اس مثال أو
حتدث اليوم .ويدخل فيها األعالم منقولة كانت كزيد وعمرو أو مرجتلة كغطفان ،وكل
كلمة استؤنف هبا على اجلملة مواضعة أو اّدعي االستثناف فيها.
وإمّن ا اشرتطت هذا كله ألّن وصف اللفظة بأهّن ا حقيقة أو جماز حكم فيها من حيث
أّن هلا دالل ة على اجلمل ة ال من حيث هي عربي ة أو فارس ية أو س ابقة يف الوض ع أو حمدث ة
مولدة».
ويع رف اجملاز بقول ه « :أّم ا اجملاز فك ل كلم ة أري د هبا غ ري م ا وقعت ل ه يف وض ع
واضعها ملالحظة بني الثاين واألول .وإن شئت قلت :كل كلمة جزت هبا ما وقعت له
يف وضع الواضع إىل ما مل توضع له ،من غري أن تستأنف فيها وضعا ملالحظة بني ما جتّو ز
هبا إليه وبني أصلها الذي وضعت له يف وضع واضعها فهي جماز» (.)3
__________________
( )1كتاب العمدة البن رشيق ج 1ص .236
( )2املرجع نفسه.
( )3كتاب أسرار البالغة 302ـ .305
138
ك ذلك ع رض الس كاكي « 626ه» للحقيق ة واجملاز وعرفهم ا بقول ه « :احلقيق ة
اللغوية هي الكلمة املستعملة فيما وضعت له ،واجملاز هو الكلمة املستعملة يف غري ما هي
موضوعة له بالتحقيق استعماال يف الغري بالنسبة إىل نوع حقيقتها مع قرينة مانعة من إرادة
معناها يف ذلك النوع» (.)1
وممن توس ع يف موض وع «احلقيق ة واجملاز» ض ياء ال دين األث ري « 637ه» فق د
عرفهم ا أوال بقول ه « :احلقيق ة اللغوي ة :هي حقيق ة األلف اظ يف داللته ا على املع اين ،
وليست باحلقيقة اليت هي ذات الشيء ،أي نفسه وعينه ،فاحلقيقة اللفظية إذن هي داللة
اللفظ على املعىن املوضوع له يف أصل اللغة ،واجملاز هو نقل املعىن عن اللفظ املوضوع له
إىل لفظ آخر غريه.
وتقرير ذلك أّن أقوال املخلوقات كلها تفتقر إىل أمساء يستدل هبا عليها ليعرف كل
منها بامسه من أجل التفاهم بني الناس وهذا يقع ضرورة ال بّد منها.
فاالسم املوضوع بإزاء املسمى هو حقيقة له ،فإذا نقل إىل غريه صار جمازا .ومثال
ذلك أنا إذا قلنا «مشس» أردنا به هذا الكوكب العظيم الكثري الضوء ،وهذا االسم له
حقيق ة ألّنه وض ع بإزائه .وكذلك إذا قلنا «حبر» أردنا به هذا املاء العظيم اجملتمع الذي
طعمه ملح ،وهذا االسم له حقيقة ألّنه وضع بإزائه.
ف إذا نقلن ا «الش مس» إىل الوج ه املليح اس تعارة ك ان ذل ك ل ه جمازا ال حقيق ة ،
وكذلك إذا نقلنا «البحر» إىل الرجل اجلواد استعارة كان ذلك له جمازا ال حقيقة» (.)2
__________________
( )1كتاب التلخيص للقزويين ص .328
( )2كتاب املثل السائر ص .24
139
ويوضح ابن األثري كالمه هذا مبا معناه أّن إطالق لفظ «الشمس» على الوجه املليح
جماز ،وإطالق لف ظ «البح ر» على الرج ل اجلواد جماز أيض ا .ومن ه ذا ي رى أّن لف ظ
«الش مس» ل ه داللت ان ،إح دامها حقيقي ة وهي ه ذا الك وكب العظيم الكث ري الض وء ،
واألخرى جمازية وهي الوجه املليح ،وأّن لفظ «البحر» له داللتان أيضا ،إحدامها هذا
املاء العظيم امللح وهي حقيقية ،واألخرى هذا الرجل اجلواد وهي جمازية.
وال ميكن أن يق ال إّن ه اتني ال داللتني س واء ،وإّن الش مس حقيقي ة يف الك واكب
والوجه املليح ،وإّن البحر حقيقية يف املاء العظيم امللح والرجل اجلواد .ألّن ذلك لو قيل
لكان اللفظ مشرتكا حبيث إذا ورد أحد هذين اللفظني مطلقا بغري قرينة ختصصه مل يفهم
املراد ب ه م ا ه و من أح د املعن يني املش رتكني املن درجني حتت ه ،على حني أّن األم ر خبالف
ذل ك ،ألنن ا إذا قلن ا «مشس» أو «حبر» وأطلقن ا الق ول مل يفهم من ذل ك وج ه مليح وال
رجل جواد ،وإمّن ا يفهم منه ذلك الكوكب املعلوم وذلك املاء املعلوم ال غري.
واملرج ع يف ه ذا وم ا جيري جمراه إىل أص ل اللغ ة ال يت هي وض ع األمساء على
املسميات ،ومل يوجد فيها أّن الوجه املليح يسمى مشسا وال أّن الرجل اجلواد يسمى حبرا
،وإمنا أهل اخلطابة والشعر هم الذين توسعوا يف األساليب املعنوية فنقلوا احلقيقة إىل اجملاز
،ومل يكن ذلك من واضع اللغة يف أصل الوضع ،وهلذا اختص كل منهم بشيء اخرتعه
يف التوسعات اجملازية.
ه ذا ام رؤ القيس ق د اخ رتع ش يئا مل يكن قبل ه ،فمن ذل ك أّن ه أّو ل من عرّب عن
الفرس بقوله « :قيد األوابد» ( )1ومل يسمع ذلك ألحد من
__________________
( )1وردت هذه العبارة يف بيت من معلقة امرىء القيس هو :ـ
140
قبل ه .وق د روي عن الن يب صلىهللاعليهوسلم أّن ه ق ال ي وم غ زوة ح نني « :اآلن محي
الوطيس» ،وأراد بذلك شّد ة احلرب ،فإّن «الوطيس» يف الوضع هو «التنور» ( ، )1فنقل
إىل احلرب اس تعارة ،ومل يس مع ه ذا اللف ظ على ه ذا الوج ه من غ ري الن يب
صلىهللاعليهوسلم ،وواضع اللغ ة ما ذكر شيئا من ذلك ،فعلمنا حينئذ أّن من اللغ ة
حقيقة بوضعه وجمازات بتوسعات أهل اخلطابة والشعر .ويف زماننا هذا قد خيرتعون أشياء
من اجملاز على حكم االس تعارة مل تكن من قب ل ،ول و ك ان ه ذا موقوف ا من جه ة واض ع
اللغة ملا اخرتعه أحد من بعده وال زيد فيه وال نقص منه.
ّمث يس تطرد ابن األث ري إىل الكالم عّم ا بني اجملاز واحلقيق ة من عم وم وخص وص
وكذلك إىل الكالم عن قيمة اجملاز البالغية فيقول « :واعلم أّن كل جماز له حقيقة ألّنه مل
يصح أن يطلق عليه اسم اجملاز إاّل لنقله عن حقيقة موضوعة له ،إذ اجملاز اسم للموضوع
الذي ينتقل فيه من مكان إىل مكان ،فجعل ذلك لنقل األلفاظ من احلقيقة إىل غريها ،
وإذا ك ان ك ل جماز ال ب ّد ل ه من حقيق ة نق ل عنه ا إىل حالت ه اجملازي ة ،فك ذلك ليس من
ضرورة كل حقيقة أن يكون هلا جماز ،فإّن من األمساء ما ال جماز له كأمساء األعالم ألهّن ا
وضعت للفرق بني الذوات ال للفرق بني الصفات.
__________________
ل د» هيك د األواب رد «قي مبنج ري يف وكناهتا دي والط د اغت وق
األوابد :الوحوش ،واهليكل :العظيم اجلرم واجلسم .واملعىن :قد أباكر الصيد قبل هنوض الطري من أوكارها
على ف رس قلي ل الشعر عظيم اجلسم م اض يف الس ري يقيد الوحوش بس رعة حلاقه إياه ا .وقوله «قيد األواب د»
جعل الفرس لسرعة إدراكه الصيد كالقيد هلا ألهنا ال ميكنها الفوت منه ،كما أّن املقيد غري متمكن من الفوت
واهلرب.
( )1التنور :نوع من الكوانني ،والتنور :كل ما خيبز فيه ،والتنور :نبع املاء كالقدر حني يفور ،قال تعاىل
َ( :ح َّتى ِإذا جاَء َأْم ُر نا َو فاَر الَّتُّنوُر).
141
وكذلك فاعلم أّن اجملاز أوىل باالستعمال من احلقيقة يف باب الفصاحة والبالغة ،
ألّنه لو مل يكن كذلك لكانت احلقيقة اليت هي األصل أوىل منه حيث هو فرع عليها ،
ول ييس األم ر ك ذلك ،ألّن ه ق د ثبت وحتق ق أّن فائ دة الكالم اخلط ايب هي إثب ات الغ رض
املقصود يف نفس السامع بالتخييل والتصور حىت يكاد ينظر إليه عيانا.
أال ت رى أّن حقيق ة قولن ا « :زي د أس د» هي قولن ا « :زي د ش جاع» ،لكّن هن اك
فرقا بني القولني يف التصوير والتخييل وإثبات الغرض املقصود يف نفس السامع ،ألّن قولنا
« :زيد شجاع» ال يتخيل منه السامع سوى رجل جريء مقدام ،فإذا قلنا « :زيد أسد»
خييل عند ذلك صورة األسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة ودق الفرائس ،وهذا ال
نزاع فيه» (.)1
ف أعجب م ا يف العب ارة اجملازي ة عن ده أهّن ا تنق ل الس امع عن خلق ه الط بيعي يف بعض
األحوال ،فإذا البخيل مسح جواد ،واجلبان شجاع ،والطائش حكيم حىت إذا قطع عنه
ذل ك الكالم وأف اق من نش وته ع اد إىل حالت ه األوىل ،وه ذا ه و فح وى الس حر احلالل
املستغين عن إلقاء العصا واحلبال.
وأخ ريا يش ري ابن األث ري إىل ض رورة الع دول عن اجملاز إىل احلقيق ة إن مل يكن في ه
زي ادة فائ دة عليه ا ،ويف ذل ك يق ول « :واعلم أّن ه إذا ورد علي ك كالم جيوز أن حيم ل
معناه على طريق احلقيقة وعلى طريق اجملاز باختالف لفظه فانظر ،فإن كان ال مزية ملعناه
يف محل ه على طري ق اجملاز ،فال ينبغي أن حيم ل إاّل على طري ق احلقيق ة ألهّن ا هي األص ل
واجملاز هو الفرع ،وال يعدل عن األصل إىل الفرع إاّل لفائدة ...وهكذا كل ما جييء من
الكالم
__________________
( )1املثل السائر ص 25ـ .26
142
اجلاري هذا اجملرى ،فإّنه إن مل يكن يف اجملاز زيادة فائدة على احلقيقة ال يعدل إليه» (.)1
وبعد فتلك نبذة عن آراء بعض العلماء يف مفهوم احلقيقة واجملاز ،وقد كثر كالم
رجال البالغة يف حتديد هذا املفهوم ،وال خيرج كالمهم يف الواقع عن معىن ما أسلفناه.
***
المجاز العقلي
عّر ف السكاكي اجملاز العقلّي بأّنه الكالم املفاد به خالف ما عند
__________________
( )1املثل السائر ص .26
143
املتكلم من احلكم في ه لض رب من التأوي ل إف ادة للخالف ال بواس طة وض ع ،كقول ك :
أنبت الربيع البقل ،وشفى الطبيب املريض ،وكسا اخلليفة الكعبة ،وهزم األمري اجلند ،
وبىن الوزير القصر (.)1
وعرف اخلطيب القزويين هذا اجملاز بقوله « :هو إسناد الفعل أو معناه إىل مالبس
ل ه غ ري م ا ه و ل ه بتأوي ل» .وللفع ل مالبس ات ش ىت ،فه و يالبس الفاع ل واملفع ول ب ه
واملصدر والزمان واملكان والسبب ،فإسناد الفعل إىل الفاعل إذا كان مبنيا له حقيقة ،
وكذا إسناده إىل املفعول إذا كان مبنيا له .أّم ا إسناد الفعل إىل غريمها ملشاهبته ملا هو له يف
مالبسة الفعل فمجاز ،كقوهلم يف املفعول به :عيشة راضية ،وماء دافق ،وكقوهلم يف
عكسه :سيل مفعم ،ويف املصدر :شعر شاعر ،ويف الزمان :هناره صائم وليله قائم ،
ويف املكان :طريق سائر ،وهنر جار ،ويف السبب :بىن األمري املدينة (.)2
أّم ا عب د الق اهر اجلرج اين فيس مي ه ذا الض رب من اجملاز «اجملاز احلكمي» .ويفهم
من كالمه أّنه يقصد به اجملاز الذي ال يكون يف ذات الكلمة ونفس اللفظ ،ففي قولك :
«هنارك صائم وليلك قائم» ليس اجملاز يف نفس «صائم وقائم» ولكن يف إجرائهما خربين
على «النهار والليل» .وكذلك يف قوله تعاىل َ( :فما َر ِبَح ْت ِتج اَر ُتُه ْم ) ليس اجملاز يف لفظ ة
«رحبت» نفسها ولكن يف إسنادها إىل «التجارة» .فكل لفظة هنا أريد هبا معناها الذي
وضعت له على وجهه وحقيقته ـ فلم يرد بصائم غري الصوم ،وال بقائم غري القيام ،وال
برحبت غري الربح (.)3
__________________
( )1مفتاح العلوم للسكاكي ص .208
( )2اإليضاح ملختصر تلخيص املفتاح ص .20
( )3دالئل اإلعجاز ص .194
144
وملا كان الكالم السابق جممال فإّنا نورد فيما يلي طائفة من األمثلة ّمث نعقب عليها
بالشرح والتحليل توضيحا حلقيقة هذا الضرب من اجملاز.
األمثلة :
ر ايل واختالف األعص ّر اللي م 1ـ أعم ري إّن أب اك غرّي رأس ه
2ـ بىن خوفو اهلرم األكرب.
زود ار من مل ت ك باألخب ويأتي 3ـ س تبدي ل ك األي ام م ا كنت ج اهال
ا بح أطياره ه الص د نّب وق 4ـ يغيّن كم ا ص دحت أيك ة
5ـ قال تعاىل َ( :أَو َلْم ُنَم ِّك ْن َلُه ْم َح َر مًا آِم نًا؟).
6ـ قال تعاىل ِ( :إَّنُه كاَن َو ْعُدُه َمْأِتًّيا).
الب ةط ا برقي إذا مل يعّو ذه 7ـ تك اد عطاي اه جيّن جنوهنا
ف إذا تأملن ا املث ال األول رأين ا أّن اجملاز العقلي ه و ق ول الش اعر « :غرّي رأس ه م ّر
اللي ايل» ،ومع ىن غ ري رأس ه ،أي ل ّو ن ش عر رأس ه فحول ه من الس واد إىل البي اض ،وق د
أسند تغيري لون الرأس إىل مرور الليايل وتواليها وهذا ال يشيب ،وإمّن ا الشيب حيدث عادة
من ضعف يف أصول الشعر ومواطن غذائه .ولكن ملا كان مر الليايل وتعاقبها سببا يف هذا
الضعف أسند تغيري لون الشعر إىل مر الليايل .ففي اإلسناد جماز عقلي عالقته السببية.
كذلك إذا تأملنا املثال الثاين وجدنا أّن الفعل «بىن» قد أسند إىل غري فاعله ،فإّن
خوفو مل ينب وإمنا الذين بنوا هم عماله ،وملا كان خوفو سببا يف البناء أسند الفعل إليه.
ففي اإلسناد هنا جماز عقلي عالقته السببية أيضا.
وإذا نظرنا إىل املثال الثالث وجدنا الفعل «ستبدي» أسند إىل «األيام» أي أسند
إىل غري فاعله احلقيقي .ألّن فاعله احلقيقي هو «حوادث
145
األيام» ،والذي سوغ هذا اإلسناد أّن املسند إليه «األيام» زمان الفعل .فإسناد اإلبداء إىل
األيام جماز عقلي عالقته الزمانية.
ويف املث ال الراب ع األيك ة الش جرة وهي ال تغ ين وال تص دح ،فالفع ل «ص دحت»
أس ند إىل «األيك ة» أي إىل غ ري فاعل ه ،ألّن فاعل ه احلقيقي ه و «الطي ور» ال يت تتخ ذ من
األيكة مكانا هلا تصدح من فوقه .وعلى هذا فإسناد الّص دح إىل األيكة جماز عقلي عالقته
«املكانية» ألهنا مكان الطيور اليت تصدح.
ويف املثال اخلامس يقول اهلل تعاىل َ( :أَو َلْم ُنَم ِّك ْن َلُه ْم َح َر مًا آِم نًا؟ ).فاحلرم ال يكون
آمنا ألّن اإلحساس باألمن صفة من صفات األحياء وإمّن ا احلرم مأمون مبعىن يؤمن ،وهلذا
أس ند الوص ف املب ين للفاع ل «آمن» إىل ض مري املفع ول .وه ذا جماز عقلي عالقت ه
«املفعولية».
وإذا تدبرنا املثال السادس وهو قوله تعاىل ِ( :إَّنُه كاَن َو ْع ُدُه َمْأِتًّي ا )،جند أّن كلمة
«مأتيا» جاءت بدل كلمة «آت» ،فاستعمل هنا اسم املفعول مكان اسم الفاعل ،أو
بعب ارة أخ رى أس ند الوص ف املب ين للمفع ول إىل الفاع ل ،وه ذا جماز عقلي عالقت ه
«الفاعلية».
ويف املث ال الس ابع واألخ ري جند أّن اجملاز العقلي ه و يف ق ول الش اعر «جيّن جنوهنا»
فالفع ل «جيّن » أس ند إىل مص دره ومل يس ند إىل فاعل ه ،وإس ناد الفع ل إىل مص دره جماز
عقلي عالقته «املصدرية».
فمن معاجلة هذه األمثلة نرى أّن أفعاال أو ما يشبهها مل تسند إىل فاعلها احلقيقي ،
بل أسندت إىل سبب الفعل أو زمانه أو مكانه ،أو مصدره ،وأّن صفات كان من حقها
أن تسند إىل املفعول أسندت إىل الفاعل ،وأخرى كان جيب أن تسند إىل الفاعل أسندت
إىل املفعول.
146
كذلك رأينا أّن هذا النوع من اإلسناد غري حقيقي ،ألّن اإلسناد احلقيقي هو إسناد
الفعل إىل فاعله احلقيقي .فاإلسناد إذن هنا إسناد جمازي ويسمى باجملاز العقلي ،ألّن اجملاز
ليس يف اللفظ كاالستعارة واجملاز املرسل ،بل يف اإلسناد وهذا يدرك بالعقل.
***
على ضوء هذا الشرح نستطيع أن نستنبط القواعد التالية :
1ـ اجملاز العقلي :هو إسناد الفعل أو ما يف معناه إىل غري ما هو له لعالقة مع قرينة
مانعة من إرادة اإلسناد احلقيقي.
2ـ اإلس ناد اجملازي :يك ون إىل س بب الفع ل أو زمان ه أو مكان ه أو مص دره ،أو
بإسناد املبين للفاعل إىل املفعول أو املبين للمفعول إىل الفاعل.
3ـ من القاع دة الس ابقة يتض ح أّن عالق ات اجملاز العقلي هي الس ببية أو الزماني ة أو
املكانية أو املصدرية أو املفعولية أو الفاعلية.
***
وملزيد من اإليضاح نقدم طائفة أخرى من األمثلة مع بيان اجملاز العقلي يف كل منها
وعالقته.
أ ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة السببية :
1ـ قال تعاىل ( :يا هاماُن اْبِن ِلي َص ْر حًا َلَعِّلي َأْبُلُغ اَأْلْس باَب َأْس باَب الَّس ماواِت ).
ففي إس ناد بن اء الص رح إىل هام ان وزي ر فرع ون جماز عقلي عالقت ه الس ببية ،ألّن
هامان مل ينب الصرح بنفسه ،وإمّن ا بناه عماله ،ولكن ملا كان
147
هامان سببا يف البناء أسند الفعل إليه.
( )1
قي ل الكم اة أال أين احملامون ا؟ 2ـ إن ا ملن معش ر أف ىن أوائلهم
فإسناد اإلفناء إىل قول الكماة جماز عقلي عالقته السببية ،ألّن قول الكماة « :أال
أين احملامون؟» سبب يف هجوم هؤالء احملامني وقتلهم.
3ـ يفعل املال ما تعجز عنه القوة.
فإسناد الفعل إىل املال إسناد غري حقيقي ألّن املال ال يفعل وإمّن ا صاحبه هو الذي
يفعل ،فهنا جماز عقلي عالقته السببية ،ألّن املال هو الذي يدفع صاحبه إىل الفعل.
4ـ هلا وجه يصف احلسن.
فإسناد وصف احلسن إىل الوجه هو إسناد الفعل إىل غري فاعله احلقيقي ألّن الذي
يصف حسن الوجه إمّن ا هو من يراه ،وملا كان الوجه وما أودع فيه من مجال هو السبب
يف دفع الناس إىل وصفه أسند الوصف إليه .وهذا جماز عقلي عالقته السببية.
5ـ قال املتنيب :
( )2
ة ويش يب ناص ية الص ّيب ويه رم يم حناف واهلّم خيرتم اجلس
الفعل «خيرتم» مبعىن يهلك وقد أسند «اهلم» أي إىل غري فاعله
__________________
( )1الكماة :مجع كمي وهو الشجاع املتكمي يف سالحه أي املتغطي املتسرت به ،والقيل :القول.
( )2خيرتم :يهل ك ،والناص ية :ش عر مق دم ال رأس :إّن اهلم إذا اس توىل على اجلس م هزل ه ح ىت يهل ك ،وق د
يشيب به الصيب ويصري كاهلرم من الضعف.
148
احلقيقي ،ألّن اهلم ال يهل ك اجلس م وإمّن ا ال ذي يهلك ه ه و املرض ال ذي س ببه اهلم ،
وكذلك الفعل «يشيب» أسند إىل ضمري اهلم ،أي إىل غري فاعله احلقيقي أيضا ،ألّن اهلم
ال يشيب الرأس وإمّن ا الذي يشيبه هو الضعف يف جذور الشعر الناشىء عن اهلم .وعلى
هذا فإسناد االخرتام واإلشابة إىل اهلم جماز عقلي عالقته «السببية».
***
ب ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة الزمانية :
1ـ هنار الزاهد صائم وليله قائم.
إذا تأملنا هذا املثال وجدنا أن «الصوم» أسند إىل ضمري «النهار» ،وأن «القيام»
أسند إىل ضمري «الليل» ،مع أن النهار ال يصوم ،بل يصوم من فيه ،وأن الليل ال يقوم
بل يقوم من فيه .وعلى هذا فكل من الوصفني «صائم وقائم» أسند إىل غري ما هو له ،
والذي سوغ ذلك اإلسناد أن املسند إليه زمان الفعل .وعلى هذا فإسناد الصوم إىل ضمري
النهار وإسناد القيام إىل ضمري الليل جماز عقلي عالقته «الزمانية».
2ـ ضرب الدهر بينهم وفرق مشلهم.
يف هذا املثال أسند الضرب والتفريق إىل الدهر مع أن الدهر يف حقيقته ال يضرب
وال يفرق ،وعلى هذا فإسناد الضرب والتفريق إليه هو إسناد لكل من هذين الفعلني إىل
غ ري فاعل ه احلقيقي ،ألن ال ذي ض رب بينهم وف رق مشلهم ه و احلوادث واملص ائب ال يت
حدثت يف الدهر .فاجملاز هنا جماز عقلي عالقته «الزمانية».
3ـ ضّر سهم الزمان وطحنتهم األيام.
يف إسناد فعل التضريس إىل الزمان وفعل الطحن إىل األيام إسناد
149
إىل غ ري الفاع ل احلقيقي ألن ال ذي يض رس ويطحن ه و احلوادث والك وارث ال يت تق ع يف
الزم ان واألي ام .فإس ناد التض ريس إىل الزم ان والطحن إىل األي ام إذن جماز عقلي عالقت ه
«الزمانية».
4ـ قال املتنيب :
ا ا عنان ره م اهم من أم وعن ص حب الن اس قبلن ا ذا الزمان ا
ا هم أحيان ر بعض ه وإن س ة كلهم من وا بغص وتول
انا در اإلحس ه ولكن تك ايل نيع لي ن الص رمبا حتس
( )1
نانا اة س ركب املرء يف القن اة ان قن ا أنبت الزم كلم
يف البيت الثاين الفعل «س ّر » فاعله ضمري يعود على «الزمان» قبله ،وإسناد هذا
الفعل إىل ضمري الزمان إسناد للفعل إىل غري فاعله احلقيقي ،ألن الزمان وهو الوقت ال
يس ر وإمنا تس ر احلوادث ال يت ب ه .وإذن فإس ناد الس رور إىل الزم ان جماز عقلي عالقت ه
«الزمانية» .كذلك يف كل من «حتسن الصنيع لياليه» ويف «تكدر اإلحسانا» جماز عقلي
عالقته «الزمانية» ،فإسناد إحسان الصنيع وتكدير اإلحسان إىل الليايل إسناد غري حقيقي
،ألن الذي يفعل ذلك هو احلوادث اليت تق ع يف الليايل اليت هي زم ان .ومن أجل ذلك
قلنا إن إسناد إحسان الصنيع وتكدير اإلحسان إىل الليايل إسناد غري حقيقي ،ألن الذي
يفعل ذلك هو احلوادث اليت تقع يف الليايل اليت هي زمان .ومن أجل ذلك قلنا إن إسناد
إحسان الصنيع وتكدير اإلحسان إىل الليايل جماز عقلي عالقته «الزمانية».
ويف البيت األخري «كلما أنبت الزمان قناة» أسند إنبات القناة إىل الزمان أي إىل
غري فاعله األصلي ،ألن الزمان ليس يف قدرته وطبيعته
__________________
( )1القناة :عود الرمح ،والسنان :نعله.
150
اإلنبات ،وإمنا الذي يفعل إنبات القناة حقيقة حوادث جتّد يف الزمان .وعلى هذا فإسناد
إنبات القناة إىل الزمان جماز عقلي عالقته «الزمانية».
***
ج ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة املكانية :
1ـ قال الشاعر :
( )1
فلم ا ملكتم س ال بال دم أبطح ملكن ا فك ان العف و من ا س جية
يف ق ول الش اعر « :س ال بال دم أبطح» جماز عقلي .وتفص يله أن س يالن ال دم أس ند
إىل أبطح ،أي إىل غري فاعله ،ألن األبطح مكان سيالن الدم ،وهو ال يسيل وإمنا يسيل
ما فيه وهو الدم .فإسناد سيل الدم إىل األبطح جماز عقلي عالقته «املكانية».
2ـ جيري النهر.
يف هذا املثال أسند اجلري إىل النهر ،أي إىل غري فاعله احلقيقي ،ألن النهر مكان
جري املاء ،وهو ال جيري ،وإمنا جيري ما فيه وهو املاء.
فإس ناد اجلري إىل النه ر إس ناد جمازي غ ري حقيقي ،وه و هلذا جماز عقلي عالقت ه
«املكانية».
3ـ ذهبنا إىل حديقة غناء.
ولفظة «غّناء» مشتقة من الغّن ،واحلديقة اليت هي مكان ال تغّن ،وإمنا الذي يغّن
عصافريها أو ذباهبا ،ففي الكالم جماز عقلي عالقته «املكانية».
__________________
( )1األبطح بفتح الطاء :مسيل واسع فيه دقاق احلصى.
151
4ـ جلسنا إىل مشرب عذب.
«املشرب» وهو مكان الشرب ال يكون عذبا ،وإمنا يعذب املاء الذي يكون فيه ،
فإسناد العذوبة إىل مكان الشرب إسناد جمازي غري حقيقي ،وهو هلذا جماز عقلي عالقته
«املكانية».
***
د ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة املفعولية :
1ـ كان املنزل «عامرا» وكانت حجره «مضيئة».
يف هذا املثال املنزل ال يعمر غريه وإمنا هو معمور بغريه ،واحلجرة ليست مضيئة
ألن اإلض اءة ال تق ع منه ا يف حقيق ة األم ر وإمنا تق ع عليه ا ،فهي هلذا مض اءة .وإذن ففي
كل من «عامر» و «مضيئة» جماز عقلي عالقته «املفعولية».
2ـ قال الشاعر :
( )1
ائم ل املطي بن ا لي ومنت وم لق د ملتن ا ي ا أم غيالن يف الس رى
فاجملاز ه و يف ق ول الش اعر « :وم ا لي ل املطي بن ائم» فإس ناد الن وم إىل لي ل املطي
جمازي غري حقيقي ،ألن ليل املطي ال حيدث منه النوم على احلقيقة ،وإمنا يقع فيه الفعل
،أي ينام فيه .إذن الليل ليس بنائم وإمنا هو منوم فيه ،وعلى هذا ففي كلمة «نائم» جماز
عقلي عالقته «املفعولية».
3ـ من أقوال العرب « :عجب عاجب».
فالعجب األمر الذي يتعّج ب منه خلفاء سببه ،وهو هلذا ال ميكن أن
__________________
( )1السرى :السري ليال ،واملطي :مجع مطية وهي الدابة متطو :أي تسرع يف مشيها.
152
يعجب ،أي أن يسند إليه العجب على احلقيقة ،ألن العجب صفة من صفات العقالء ،
ولكن العجب يدعو إىل تعجب الناس ،فاستعمل اسم الفاعل «عاجب» هنا مكان اسم
املفعول «متعّج ب منه» .وهذا جماز عقلي عالقته «املفعولية».
4ـ قال النابغة الذبياين :
( )1
من ال ّر قش يف أنياهبا الس م ن اقع ئيلة اورتين ض أين س
فبّت ك
فاجملاز ه و يف ق ول الش اعر « :الس م ن اقع» وإس ناد النق ع إىل ض مري الس م إس ناد
جمازي غري حقيقي .ألن السم ال يفعل النقع على احلقيقة ،وإمنا هو الذي يفعل به النقع ،
ومبعىن آخر أن السم ال يكون ناقعا وإمنا يكون منقوعا يف ماء أو حنوه .ففي كلمة «ناقع»
جماز عقلي عالقته «املفعولية».
***
ه ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة الفاعلية :
وذل ك فيم ا ب ين للمفع ول وأس ند للفاع ل احلقيقي ،حنو :س يل مفعم بض م امليم
األوىل وفتح العني ،ألن السيل هو الذي يفعم أي ميأل ،وأصله أفعم السيل الوادي ،أي
مأله .فالفاعل احلقيقي الذي أسند إليه اإلفعام هو السيل .فلو أريد اإلسناد احلقيقي لقيل :
سيل مفعم بكسر العني.
ولكن الذي حدث أنه جيء باملسند مبنيا للمفعول «مفعم» بفتح العني ،مث أسند
إىل غري فاعله احلقيقي وقيل «سيل مفعم» بفتح العني .فاإلسناد
__________________
( )1ساورتين :واثبتين ،والضئيلة :احلية الدقيقة الضعيفة ،والرقش :مجع رقشاء وهي احلية فيها نقط سوداء
وبيضاء ،والسم الناقع :املنقوع ،وإذا نقع السم كان شديد التأثري.
153
هنا جمازي ،وهو جماز عقلي عالقته «الفاعلية».
***
و ـ أمثلة للمجاز العقلي والعالقة املصدرية.
ويف الليل ة الظلم اء يفتق د الب در 1ـ س يذكرين ق ومي إذا ج ّد ج ّد هم
فاجملاز يف ال بيت ه و يف «ج ّد ج ّد هم» حيث مل يس ند الفع ل «ج ّد » إىل فاعل ه
احلقيقي وإمنا أس ند إىل مص دره «ج دهم» ،وذل ك جبع ل م ا ه و مص در يف املع ىن ف اعال
لفظيا على سبيل اجملاز .ومن هذا يرى أن الفعل أسند إىل غري ما هو له لعالقة مع قرينة
مانعة من اإلسناد احلقيقي .فهنا جماز عقلي عالقته «املصدرية».
2ـ قال تعاىل َ( :فِإ ذا ُنِفَخ ِفي الُّصوِر َنْف َخ ٌة واِح َد ٌة).
فالفع ل «نفخ» املب ين للمجه ول مل يس ند إىل ن ائب فاعل ه احلقيقي وإمنا أس ند إىل
مصدره «نفخة» أي أسند إىل غري ما هو له لعالقة املصدرية.
فهذا جماز عقلي عالقته «املصدرية».
3ـ
أوط اهنم بال دم الغ ايل إذا طلب ا ق د ع ز ع ّز األىل ال يبخل ون على
فالفعل «عّز » مل يسند إىل فاعله احلقيقي وإمنا أسند إىل مصدره «ع ّز » وذلك جبعل
ما هو مصدر يف املعىن فاعال لفظيا على سبيل اجملاز .فالفعل يف البيت قد أسند إىل غري ما
هو له لعالقة املصدرية ،وهذا جماز عقلي عالقته «املصدرية».
***
هذا وقد أشار عبد القاهر اجلرجاين إىل نقطة جديرة بالنظر بالنسبة هلذا اجملاز وذلك
إذ يقول « :واعلم أنه ليس بواجب يف هذا ـ أي اجملاز
154
احلكمي أو العقلي ـ أن يكون للفعل فاعل يف التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به
إىل احلقيق ة ،مث ل إن ك تق ول يف «رحبت جتارهتم» :رحبوا يف جتارهتم ...ف إن ذل ك ال
يتأتى يف كل شيء.
أال ت رى أن ه ال ميكن ك أن تثبت للفع ل يف قول ك « :أق دمين بل دك ح ّق يل على
إنسان» فاعال سوى «احلق» .وكذلك ال تستطيع يف قوله :
ل رب املث ين يض حلي واك ويب رّي ين ه وص
ويف قول أيب نواس :
را ه نظ ا زدت إذا م نا ه حس دك وجه يزي
أن تزعم أن ل «صريين» فاعال قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى كما فعل ذلك يف
«رحبت جتارهتم» ...وال تستطيع كذلك أن تقدر ل «يزيد» يف قولك « :يزيدك وجهه»
فاعال غري الوجه.
فاالعتب ار إذن ب أن يك ون املع ىن ال ذي يرج ع إلي ه الفع ل موج ودا يف الكالم على
حقيقته .معىن ذلك أن «القدوم» يف قولك « :أقدمين بلدك ح ّق يل على إنسان» موجود
على احلقيق ة .وك ذلك «الص ريورة» يف قول ه « :ص ريين ه واك» ،و «الزي ادة» يف قول ه :
«يزيدك وجهه» موجودتان على احلقيقة.
وإذا ك ان مع ىن اللف ظ موج ودا على احلقيق ة مل يكن اجملاز فيه نفسه ،وإذا مل يكن
يف نفس اللفظ كان ال حمالة يف احلكم .فاعرف هذه اجلملة وأحسن ضبطها حىت تكون
على بصرية من األمر» (.)1
__________________
( )1كتاب دالئل اإلعجاز ص 193ـ .194
155
المجاز المرسل
ذكرنا عند كالمنا على اجملاز اللغوي أنه قسمان :جماز استعاري ،وهو ما كانت
عالقته املشاهبة ،وجماز مرسل وهو ما كانت عالقته غري املشاهبة.
كم ا ذكرن ا أن اجملاز اللغ وي بقس ميه ي أيت يف املركب واملف رد على الس واء ،وأن
جميئه يف املركب يكون باستعمال الرتكيب يف غري ما وضع له ،كقولك ملن يسيء إليك
وينتظر منك حسن اجلزاء « :إنك ال جتين من الشوك العنب».
أما جميئه يف اللفظ املفرد فيكون باستعمال الكلمة يف غري ما وضعت له أصال لعالقة
مع قرينة متنع من إرادة املعىن األصلي.
ويع رف البالغي ون «العالق ة» بأهنا األم ر ال ذي يق ع ب ه االرتب اط بني املع ىن احلقيقي
واملع ىن اجملازي فيص ح االنتق ال من األول إىل الث اين .وه ذه العالق ة ال يت تربط يف اجملاز بني
املعنيني :احلقيقي واجملازي قد تكون «املشاهبة» حنو :رأيت زهرة حتملها أمها ،تريد :
طفل ة ك الزهرة يف نض ارهتا ومجاهلا .وق د تك ون العالق ة «غ ري املش اهبة» كاجلزئي ة يف قول ه
تعاىل َ( :و اْر َك ُعوا َمَع ال َّر اِكِعيَن ) يريد « :وصلوا» ألن الركوع جزء من الصالة ،فأطلق
اجلزء وأراد به الكل جمازا.
أم ا «القرين ة» فعرفه ا البالغي ون أيض ا بأهنا األم ر ال ذي يص رف ال ذهن عن املع ىن
احلقيقي إىل املع ىن اجملازي ،وهي إم ا قرين ة عقلي ة أي حالي ة حنو « :أقب ل حبر» والس امع
يرى رجال ،وإما قرينة لفظية حنو « :رأيت حبرا يعظ الناس من فوق املنرب» فعبارة «يعظ
الناس من فوق املنرب» قرينة لفظية ،تدل على أن لفظة «حبر» استعملت استعماال جمازيا
ومتنع يف
156
الوقت ذاته من إرادة املعىن احلقيقي هلذه اللفظة.
***
واجملاز املرسل ،كما عرفه اخلطيب القزويين ،هو ما كانت العالقة بني ما استعمل
في ه وم ا وض ع ل ه مالبس ة غ ري التش بيه ،وذل ك مث ل لفظ ة «الي د» إذا اس تعملت يف مع ىن
«النعمة» ،ألن من شأهنا أن تصدر عن اجلارحة ومنها تصل إىل املقصود هبا ( .)1وقد مساه
البالغيون «جمازا مرسال» إلرساله عن التقييد بعالقة املشاهبة.
وق د اش رتط عب د الق اهر اجلرج اين يف ذل ك أن يك ون يف الكالم إش ارة إىل مص در
تلك النعمة وإىل املويل هلا ،فال يقال :اتسعت «اليد» يف البلد ،أو اقتنيت «يدا» ،كما
يق ال :اتس عت النعم ة يف البل د أو اقت نيت نعم ة ،وإمنا يق ال :جّلت «ي ده» عن دي ،
وكثرت أياديه لدّي وحنو ذلك.
ونظري هذا «اليد» يف معىن «القدرة» ألن أكثر ما يظهر سلطان القدرة يف اليد ،
وهبا يكون البطش والض رب والقط ع واألخذ والدفع والوض ع والرفع ،إىل سائر األفع ال
اليت تنىبء عن وجوه القدرة ومكاهنا.
ونظ ري ه ذا أيض ا ق وهلم يف ص فة راعي اإلب ل « :إن ل ه عليه ا إص بعا» ،أرادوا أن
يقولوا :له عليها أثر حذق ،فدّلوا عليها باإلصبع ،ألنه ما من حذق يف عمل يد إال
وه و مس تفاد من حس ن تص ريف األص ابع ،واللط ف يف رفعه ا ووض عها كم ا يف اخلط
والنقش.
وعلى ذل ك قي ل يف تفس ري قول ه تع اىل َ( :بلى ق اِد ِر يَن َعلى َأْن ُنَس ِّو َي َبناَن ُه )،أي
جنعلها كخّف البعري ،فال يتمكن من األعمال اللطيفة ،
__________________
( )1كتاب التلخيص للقزويين ص .295
157
فأرادوا باإلصبع األثر احلسن ،حيث يقصد اإلشارة إىل حذق يف الصنعة ال مطلقا ،حىت
يقال رأيت أصابع الدار ،وله إصبع حسنة وإصبع قبيحة ،على معىن أثر حسن وأثر قبيح
وحنو ذلك.
***
هذا وللمجاز املرسل عالقات شىت منها :
1ـ الس ببية :وذل ك ب أن يطل ق لف ظ الس بب وي راد املس بب ،حنو ق وهلم « :رعين ا
الغيث» أي املطر ،وهو ال يرعى ،وإمنا يرعى «النبات» الذي كان املطر سبب ظهوره.
ومن أجل ذلك مسى النبات غيثا ،ألن الغيث سبب وجود النبات وظهوره .فالعالقة اليت
متنع من إرادة املعىن احلقيقي يف هذا اجملاز املرسل هي «السببية».
ومنه قوله تعاىل َ( :فَمْن َش ِه َد ِم ْنُك ُم الَّش ْه َر َفْلَيُصْم ُه )،فاجملاز هنا يف لفظة «الشهر»
،والشهر ال يشاهد ،وإمنا الذي يشاهد هو «اهلالل» الذي يظهر أول ليلة يف الشهر ،
واهلالل سبب يف وجود الشهر ،فإطالق الشهر عليه جماز مرسل عالقته «السببية».
ومنه كذلك قول السموأل :
وليس ت على غ ري الس يوف تس يل تس يل على ح د الس يوف نفوس نا
فالشاعر السموأل أراد بالنفوس الدماء ،ألهنا هي اليت تسيل على ح ّد السيوف ،
ووجود النفس يف اجلس م سبب يف وجود الدم فيه ،ف إطالق النف وس على الدم اليت هي
سبب يف وجوده جماز مرسل عالقته «السببية».
***
2ـ املسببية :وذلك بأن يطلق لفظ املسبب ويراد السبب ،حنو « :أمطرت السماء
نباتا» ،فذكر النبات وأريد الغيث ،والنبات مسبب عن
158
الغيث أي املطر .فهذا جماز مرسل عالقته «املسّببية».
ومن هذا النوع من اجملاز قوله تعاىل َ( :و ُيَنِّزُل َلُك ْم ِم َن الَّس ماِء ِر ْز ق ًا )،فاجملاز هنا
هو يف كلم ة «رزقا» ،والرزق ال ينزل من السماء ،ولكن الذي ينزل منها مطر ينشأ
عنه النبات الذي منه طعامنا ورزقنا ،فالرزق مسبب عن املطر ،فهو جماز مرسل عالقته
«املسببية».
ِن ِف ِذ
ومنه قوله تعاىل ِ( :إَّن اَّل يَن َي ْأُك ُلوَن َأْم واَل اْلَيت امى ُظْلم ًا ِإَّنم ا َي ْأُك ُلوَن ي ُبُط و ِه ْم
نارًا ).فاجملاز يف اآلية الكرمية هو يف لفظة «نارا» أي :ما ال تتسبب عنه النار عقابا ،فهنا
أطل ق لف ظ املس بب «الن ار» وأري د ب ه الس بب «املال» ،وه ذا أيض ا جماز مرس ل عالقت ه
«املسببية».
***
3ـ اجلزئية :وهي تسمية الشيء باسم جزئه ،وذلك بأن يطلق اجلزء ويراد الكل
،حنو قول ه تع اىل يف ش أن موس ى عليهالسالم َ( :فَر َج ْع ن اَك ِإلى ُأِّم َك َك ْي َتَق َّر َعْيُنه ا).
وتقر عينها :أي هتدأ ،ولفظة اجملاز هنا هي «عينها» ،والذي يهدأ هو النفس واجلسم ال
العني وحدها ،وهلذا أطلق اجلزء وهو «العني» وأريد به الك ّل وهو النفس واجلسم .وهذا
جماز مرسل عالقته «اجلزئية».
ومن ه ق وهلم « :اإلس الم حيث على حتري ر الرق اب» ،فاملقص ود من «الرق اب»
أشخاص العبيد ألرقاهبم ليس غري ،ولكن ملا كانت الرقاب عادة موضع وضع األغالل يف
العبيد املأسورين أطلقت عليهم .ففي كلمة الرقاب جماز مرسل عالقته «اجلزئية».
ومنه استعمال «العني يف الربيئة» ،والربيئة الشخص الذي يستطلع حتركات العدّو
يف مكان عال ،فإطالق العني عليه ألن العني هي املقصودة
159
يف كون الرجل ربيئة ،إذ ما عداها من أعضاء اجلسم ال يغين شيئا مع فقدها ،فصارت
كأهنا الشخص كله.
ومن أجل ذلك قال البالغيون « :ال بد يف اجلزء املطلق على الكل من أن يكون له
مزي د اختص اص ب املعىن ال ذي قص د بالك ل ،فمثال ال جيوز إطالق الي د أو اإلص بع على
الربيئة وإن كان كل منهما جزءا منه» (.)1
***
4ـ الكلية :وهذا يعين تسمية الشيء باسم كله ،وذلك فيما إذا ذكر الكل وأريد
اجلزء ،حنو قول ه تع اىل على لس ان ن وح عليهالسالم ( :ق اَل َر ِّب ِإِّني َدَع ْو ُت َقْو ِم ي َلْيًال
َو َنه ارًا َ ،فَلْم َي ِز ْد ُه ْم ُدع اِئي ِإاَّل ِف رارًا َو ِإِّني ُك َّلم ا َدَع ْو ُتُه ْم ِلَتْغِف َر َلُه ْم َجَعُل وا َأصاِبَعُه ْم ِفي
آذاِنِه ْم )،فالكلمة موضع اجملاز يف هذه اآلية الكرمية هي «أصابعهم» فقد أطلقت وأريد
أناملها أو أطرافها ،ألن اإلنسان ال يستطيع أن يضع إصبعه كلها يف أذنه .وكل جماز من
هذا النوع يطلق فيه الكل ويراد اجلزء هو جماز مرسل عالقته «الكلية» .والغرض منه هنا
هو املبالغة يف اإلصرار على عدم مساع احلق بدليل وضع أصابعهم يف آذاهنم.
ومنه قوله تعاىل َ( :يُقوُلوَن ِب َأْفواِه ِه ْم م ا َلْيَس ِفي ُقُل وِبِه ْم ) فاإلنسان ال يتكلم بفمه
وإمنا يتكلم بلسانه فإطالق األفواه على األلسنة جماز مرسل عالقته «الكلية».
ومنه كذلك :أقام أبو الطيب املتنيب يف مصر فرتة من حياته .فاملراد أن املتنيب أقام
يف بعض بالد مص ر ومل يقم يف القط ر مجيع ه ،ف إطالق «مص ر» وإرادة بعض بالده ا جماز
مرسل عالقته «الكلية».
__________________
( )1كتاب التلخيص للقزويين ص .298
160
5ـ اعتب ار م ا ك ان :أي تس مية الش يء باس م م ا ك ان علي ه ،حنو قول ه تع اىل :
(َو آُت وا اْلَيت امى َأْم واَلُه ْم )،أي ال ذين ك انوا يت امى .وتفص يل ذل ك أن الي تيم يف اللغ ة ه و
الص غري ال ذي م ات أب وه ،واألم ر ال وارد يف اآلي ة الكرمية ليس املراد ب ه إعط اء اليت امى
الص غار أم وال آب ائهم ،وإمنا الواق ع أن اهلل ي أمر بإعط اء األم ول من وص لوا س ن الرش د
والبل وغ بع د أن ك انوا يت امى .فكلم ة «اليت امى» هن ا جماز مرس ل اس تعملت وأري د هبا
الراشدون ممن كانوا يتامى .وعالقة هذا اجملاز «اعتبار ما كان».
ومنه قولك « :من الناس من يأكل القمح ومنهم من يأكل الذرة والشعري» وأنت
تريد بالقمح والذرة والشعري «اخلبز» الذي كان يف األصل قمحا أو ذرة أو شعريا .فعالقة
اجملاز املرسل هنا «اعتبار ما كان».
ومثله أيضا قولك « :شربت النب» تريد بذلك :شربت «قهوة» كان أصلها بّن ا.
فإطالق النب على القهوة جماز مرسل عالقته أيضا «اعتبار ما كان».
***
6ـ اعتبار ما يكون :وهو تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه .حنو قوله تعاىل على
ِن ِص ِإ
لس ان أح د الفت يني الل ذين دخال الس جن م ع يوس ف عليهالسالم ِّ ( :ني َأرا ي َأْع ُر
َخ ْم رًا ).فاجملاز هنا يف كلمة «مخرا» ،واخلمر ال تعصر ألهنا سائل ،وإمنا الذي يعصر هو
«العنب» الذي يؤول ويتحول بالعصر إىل مخر .فإطالق اخلمر وإرادة العنب جماز مرسل
عالقته «اعتبار ما يكون».
وحنو قول ه تع اىل على لس ان ن وح عليهالس الم َ( :و ق اَل ُن وٌح َر ِّب ال َت َذ ْر َعَلى
اَأْلْر ِض ِم َن اْلكاِفِر يَن َدَّيارًاِ .إَّنَك ِإْن َت َذ ْر ُه ْم ُيِض ُّلوا ِع ب اَدَك َو ال َيِل ُد وا ِإاَّل ف اِج رًا َك َّف ارًا) ففي
كلميت «فاجرا وكفارا» من قوله تعاىل َ( :و ال َيِلُد وا
161
ِإاَّل فاِج رًا َك َّف ارًا) جمازان ،ألن املولود حينما يولد ال يكون فاجرا وال كفارا ،ولكنه قد
يكون كذلك بعد الطفولة ،أي بعد أن يتحول من مرحلة الطفولة إىل مرحلة الرجولة.
وهلذا ف إطالق املول ود الف اجر الكف ار ،وإرادة الرج ل الف اجر الكف ار جماز مرس ل عالقت ه
أيضا اعتبار «ما يكون» ،أي اعتبار ما يؤول ويتحول إليه يف املستقبل.
ومن ه ك ذلك ( :ي ا َأُّيَه ا اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ُك ِتَب َعَلْيُك ُم اْلِق ص اُص ِفي اْلَق ْتلى اْلُح ُّر ِب اْلُح ِّر
َو اْلَعْبُد ِباْلَعْبِد َو اُأْلْنثى ِباُأْلْنثى )،فالقصاص وهو املساواة يف العقاب واجلزاء مل يفرض فيمن
قت ل قب ل ن زول اآلي ة الكرمية ،وإمنا ف رض فيمن س يقتل بع د نزوهلا .فاجملاز يف كلم ة
«القتلى» أي ال ذين س يقتلون بع د ن زول اآلي ة .ف إطالق القتلى وإرادة من س يقتلون بع د
نزول آية القصاص جماز مرسل عالقته «اعتبار ما يكون».
***
7ـ احمللي ة :وذل ك فيم ا إذا ذك ر لف ظ احملّل وأري د احلاّل في ه ،حنو قول ه تع اىل يف
زج ر أيب جه ل ال ذي ك ان ينهى الن يب عن الص الة َ( :ك اَّل َلِئْن َلْم َيْنَت ِه َلَنْس َف عًا ِبالَّناِص َيِة.
ناِص َيٍة كاِذ َبٍة خاِط َئ ٍةَ .فْلَي ْد ُع ناِد َيُهَ .س َنْد ُع الَّز باِنَي َةَ .ك اَّل ال ُتِط ْع ُه َو اْس ُج ْد َو اْقَت ِرْب ).فاألمر
يف قوله تعاىل َ( :فْلَيْد ُع ناِد َيُه) خرج إىل السخرية واالستخفاف بشأن أيب جهل ،واجملاز
ه و يف كلم ة «نادي ه» ،فإنن ا نع رف أن الن ادي مك ان االجتم اع ،ولكن املقص ود ب ه يف
اآلي ة الكرمية من يف ه ذا املك ان من عش ريته وأنص اره ،فه و جماز مرس ل أطل ق في ه احملّل
وأريد احلاّل ،فالعالقة «احمللية».
ومنه قول الشاعر :
اطب ه املع اف من أخ ر إين ال أركب البح
ذائب املاء يف والطني اء وم ا وه طني أن
162
فاجملاز يف كلم ة «البح ر» حيث أراد هبا الشاعر «السفن» اليت جتري فيه ،ف البحر
ه و حمل جري ان الس فن ،ف إطالق احملل «البح ر» وإرادة احلال في ه «الس فن» جماز مرس ل
عالقته «احمللية» .ويف كلمة «طني» يف البيت الثاين جماز مرسل عالقته «اعتبار ما كان».
ومنه قول احلجاج من خطبته املشهورة يف أهل العراق « :وإن أمري املؤمنني أطال
اهلل بقاءه نثر كنانته بني يديه فعجم عيداهنا فوجدين أمّر ها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم
يب» ،فاجملاز هنا يف كلمة «كنانته» والكنانة لغة وعاء توضع فيه السهام ،والوعاء ال ين ثر
،وإمنا ين ثر م ا ح ل في ه .ف إطالق احملل «الكنان ة» وإرادة احلاّل فيه ا وه و «الس هام» جماز
مرسل عالقته «احمللية».
***
8ـ احلاّلي ة :وهي عكس العالق ة الس ابقة ،وذلك فيم ا إذ ذكر لف ظ احلاّل وأريد
احملل ملا بينهما من مالزمة.
ومن أمثل ة ذل ك قول ه تع اىل ِ( :إَّن اَأْلْب راَر َلِف ي َنِعيٍم ) فاجملاز يف كلم ة «نعيم» ،
والنعيم ال حيل فيه اإلنسان ألنه معىن من املعاين ،وإمنا حيل اإلنسان يف مكانه .فاستعمال
النعيم يف مكانه جماز مرسل أطلق فيه احلاّل وأريد احملل ،فعالقته «احلاّلية».
ومن ه أيض ا قول ه تع اىل َ( :و َأَّم ا اَّل ِذ يَن اْبَيَّض ْت ُوُج وُهُه ْم َفِف ي َر ْح َم ِت اِهلل ُه ْم ِفيه ا
خاِل ُد وَن )،فاجملاز يف كلم ة «رمحة» والرمحة ال حيل فيه ا ال ذين ابيض ت وج وههم ألهنا
مع ىن من املع اين ،وإمنا هم حيل ون يف مك ان الرمحة ال ذي ي راد ب ه يف اآلي ة اجلن ة .ف إطالق
احلاّل «الرمحة» وإرادة حملها «اجلنة» جماز مرسل عالقته «احلاّلية».
163
ومن أمثلته شعرا قول شاعر يرثي معن بن زائدة :
( )1
س قتك الغ وادي مربع ا مث مربع ا ربه وال لق ا على «معن» وق أّلم
فاجملاز يف كلمة «معن» يراد به قربه ،فقد أطلق الشاعر احلاّل وهو «معن» وأراد
احملل ال ذي ح ل فيه بع د وفاته وه و «الق رب» ب دليل قوله «وقوال لق ربه» .فاجملاز هن ا جماز
مرسل عالقته «احلاّلية».
***
9ـ اآللية :وذلك إذا ذكر اسم اآللة وأريد األثر الذي ينتج عنها ،حنو قوله تعاىل
َ( :و اْجَع ْل ِلي ِلس اَن ِص ْد ٍق ِفي اآْل ِخ ِريَن ).فاجملاز يف كلم ة «لس ان» ،واملراد واجع ل يل
قول صدق أي ذكرا حسنا ،فأطلق اللسان الذي هو آلة القول على القول نفسه وهو
األث ر ال ذي ينتج عن ه .ف إطالق «اللس ان» آل ة الق ول وأدات ه وإرادة األث ر الن اتج عن ه وه و
«القول أو الكالم» جماز مرسل عالقته «اآللية».
وحنو قول ه تع اىل أيض ا َ( :ف ْأُتوا ِب ِه َعلى َأْع ُيِن الَّن اِس )،أي على م رأى منهم ،
واألعني هي آل ة الرؤي ة .فاجملاز يف كلم ة «أعني» حيث أطلقت وأري د األث ر الن اتج عنه ا
وهو الرؤية .فهذا جماز مرسل عالقته «اآللية».
***
10ـ اجملاورة :وذلك فيما إذا ذكر الشيء وأريد جماوره.
ومن أمثلة ذلك قول عنرتة :
__________________
( )1أملا عليه :أن زال به ،والغ وادي :مجع غادية وهي الس حابة تنشأ غدوة أو مطرة الغ داة ،واملربع :اسم
مشتق من أربعة ،واملعىن :سقتك الغوادي أربعة أيام متوالية مث أربعة أخرى متوالية :فهو دعاء بكثرة السقيا
للقرب.
164
( )1
ا مبح ّر م رمي على القن ليس الك فش ككت ب الرمح األص ّم «ثياب ه»
فالشاعر يعين بقوله « :شككت ثيابه» شككت قلبه :وأي مكان آخر من جسمه
يص يب من ه ال رمح مقتال .فاجملاز يف كلم ة «ثياب ه» ال يت أطلقت وأري د هبا م ا جياوره ا من
القلب أو أي مك ان آخ ر يف اجلس م يص يب ال رمح من ه مقتال .ف إطالق الثي اب وإرادة م ا
جياورها من مقاتل اجلسم بأي سالح كان كالرمح جماز مرسل عالقته «اجملاورة».
__________________
( )1الرمح األصم :الصلب األصم ،واملراد بالثياب هنا القلب ،والشاعر يصف نفسه هنا باإلقدام قائال :إن
الكرمي ليس مبحرم وال عزيز على الرماح.
165
166
المبحث الثالث
االستعارة
االستعارة لغة رفع الشيء وحتويله من مكان إىل آخر ،يقال استعار فالن سهما من
كنانته :رفعه وحّو له منها إىل يده.
وعلى هذا يصح أن يقال استعار إنسان من آخر شيئا ،مبعىن أن الشيء املستعار قد
انتقل من يد املعري إىل املستعري لالنتفاع به .ومن ذلك يفهم ضمنا أن عملية االستعارة ال
تتّم إال بني متعارفني جتمع بينهما صلة ما.
ويؤكد هذا املعىن ويوضحه قول ابن األثري « :األصل يف االستعارة اجملازية مأخوذ
من العاري ة احلقيقي ة ال يت هي ض رب من املعامل ة :وهي أن يس تعري بعض الن اس من بعض
شيئا من األشياء ،وال يقع ذلك إال من شخصني بينهما سبب معرفة ما يقتضي استعارة
أح دمها من اآلخ ر ش يئا ،وإذا مل يكن بينهم ا س بب معرف ة بوج ه من الوج وه فال يس تعري
أحدمها من اآلخر شيئا إذ ال يعرفه حىت يستعري منه .وهذا احلكم جار يف استعارة
167
األلف اظ بعض هما من بعض ،فاملش اركة بني اللفظني يف نق ل املع ىن من أح دمها إىل اآلخ ر
كاملعرفة بني الشخصني يف نقل الشيء املستعار من أحدمها إىل اآلخر» (.)1
ولعلنا نلحظ من ذلك صلة بني املعىن اللغوي أو احلقيقي لالستعارة ومعناها اجملازي
،إذ ال يس تعار أح د اللفظني لآلخ ر يف واق ع األم ر إال إذا ك ان هن اك ص لة معنوي ة جتم ع
بينهما.
وإذا شئنا التعرف على تاريخ «االستعارة» لدى البالغيني فإننا جند اجلاحظ «255
ه» من أوائل من التفتوا إليها وعّر فوها وّمسوها وأفاضوا بعض الشيء يف احلديث عنها.
فاالس تعارة عن ده « :هي تس مية الش يء باس م غ ريه إذا ق ام مقام ه» ،ورد ذل ك
التعريف يف تعليقه على البيت الثالث من األبيات التالية :
ا .. كأمنا بقلم حماه ا ا باله د غرّي ه ا دار ق ي
ا ناها على مغناه وك ّر ممس ا ران من بناه أخرهبا عم
ا ها عيناه تبكي على عراص اها حابة تغش وطفقت س
فق د عل ق اجلاح ظ على ال بيت الث الث هن ا بقول ه « :وطفقت ،يع ين ظلت .تبكي
على عراص ها عيناه ا ،عيناه ا ه ا هن ا للس حاب ،وجع ل املط ر بك اء من الس حاب على
طريق االستعارة ،وتسمية الشيء باسم غريه إذا قام مقامه» (.)2
__________________
( )1املثل السائل ص .143
( )2كتاب البيان والتبيني ج 1ص ، 153والعراص :مجع عرصة بسكون الراء ،وهي كما يقول اجلاحظ :
كل جوبة منفتقة ليس فيها بناء ،واجلوبة :فجوة ما بني البيوت.
168
وكث ريا م ا يس تعمل اجلاح ظ يف تعليقات ه على النص وص عب ارات «على التش بيه» :
«وعلى املث ل» « ،وعلى االش تقاق» وه و يع ين هبا االس تعارة أو اجملاز مبعن اه الع ام ال ذي
تن درج حتت ه االس تعارة .وليس يف ذل ك من غراب ة ،فاالس تعارة جماز عالقت ه املش اهبة ،
وكلمة التشبيه ترد عند حتليل االستعارة أو إجرائها ،مث هي يف حقيقتها تشبيه حذف أحد
طرفيه.
***
وجاء بعد اجلاحظ ابن املعتز « 296ه» فتحدث عن االستعارة وعدها أول باب
يف كتاب ه «الب ديع» وأورد هلا أمثل ة من الكالم الب ديع من حنو قول ه تع اىل َ( :و ِإَّن ُه ِفي ُأِّم
اْلِكت اِب َل َد ْينا َلَعِلٌّي َح ِكيٌم) وقوله تعاىل أيضا َ( :و اْخ ِف ْض َلُه م ا َج ن اَح ال ُّذِّل ِم َن الَّر ْح َم ِة )،
وقول الشاعر ...« :والصبح بالكوكب الدرّي منحور».
وقد علق على هذا الكالم بقوله « :وإمنا هو استعارة الكلم ة لشيء مل يعرف هبا
من شيء قد عرف هبا مثل أم الكتاب ،ومثل جناح الذل ،ومثل قول القائل «الفكرة
مخ العم ل» فل و ك ان ق ال «لب العم ل» مل يكن ب ديعا» ( .)1ومن ه ذا التعلي ق ميكن
استشفاف مفهوم ابن املعتز لالستعارة.
وكم ا أورد أمثل ة ش ىت لالس تعارة البديع ة وعل ق على بعض ها مبا يؤك د مفهوم ه
السابق لالستعارة أورد كذلك أمثلة لالستعارة املعيبة يف نظره من مثل قول أيب متام :
ارك ري الظلم والظلم ب رمت بع أث كل وا الص رب غض ا واش ربوه ف إنكم
__________________
( )1كتاب البديع ص .2
169
( )1
ولكن زم ان غ ال مثل ك هال ك م ىت يأت ك املق دار ال ت ك هالك ا
***
مث نلتقي بع د ابن املع تز بقدام ة بن جعف ر املت ويف س نة 337للهج رة ،فق د عق د
قدام ة يف كتاب ه «نق د الن ثر» باب ا لالس تعارة حتدث في ه عن احلاج ة إليه ا يف كالم الع رب
ومفهومها عنده ،كما حتدث عن االستعارة املكنية وإن مل يسمها االسم الذي عرفت به
فيما بعد.
فعن األم رين األولني يق ول قدام ة « :وأم ا االس تعارة فإمنا اح تيج إليه ا يف كالم
العرب ألن ألفاظهم أكثر من معانيهم ،وليس هذا يف لسان غري لساهنم ،فهم يعربون عن
املعىن الواحد بعبارات كثرية رمبا كانت مفردة له ،ورمبا كانت مشرتكة بينه وبني غريه ،
ورمبا استعاروا بعض ذلك يف موضع بعض على التوسع واجملاز ،فيقولون إذا سأل الرجل
الرجل شيئا فبخل به عليه « :لقد ّخبله فالن» ،وهو مل يسأله ليبخل وإمنا سأله ليعطيه ؛
لكن البخل ا ظهر منه عند مسألته إياه ،جاز يف توسعهم وجماز قوهلم أن ينسب ذلك
ّمل
إليه.
ومن ه ق ول الش اعر ...« :فللم وت م ا تل د الوال دة» ،والوال دة إمنا تطلب الول د
ليعيش ال ليموت ،لكن ملا كان مصريه إىل املوت جاز أن يقال :للموت ولدته» (.)2
فاالس تعارة يف نظ ر قدام ة تتمث ل يف اس تعارة بعض األلف اظ يف موض ع بعض على
سبيل التوسع واجملاز.
وعن االستعارة املكنية اليت التفت إليها ومل يسمها بامسها
__________________
( )1كتاب البديع ص .23
( )2كتاب نقد النثر لقدامة ص .64
170
االص طالحي املع روف يق ول « :ومن االس تعارة م ا ق دمناه من إنط اق الرب ع وك ل م ا ال
ينطق إذا ظهر من حاله ما يشاكل النطق .ومما جاء من هذا النوع يف القرآن قوله َ( :يْو َم
َنُق وُل ِلَجَه َّنَم َه ِل اْمَتْأَلِت َو َتُق وُل َه ْل ِم ْن َم ِزي ٍد ).ملا ج از أن حتتم ل مزي دا من الك افرين
ِء ِه ِإ
حس ن أن يق ال :ق الت وه ل من مزي د؟ وك ذلك قول ه ُ( :ثَّم اْس َتوى َلى الَّس ما َو َي
ُدخاٌن َفقاَل َلها َو ِلَأْلْر ِض اْئِتيا َطْو عًا َأْو َك ْر هًا قاَلتا َأَتْينا طاِئِعيَن )،وذلك ملا كانتا عن إرادته
من غري استصعاب عليه وال عصيان له ،جاز أن يقال إهنما قالتا أتينا طائعني.
وكذلك قوله َ( :فَو َج دا ِفيه ا ِج دارًا ُيِري ُد َأْن َيْنَق َّض َفَأقاَم ُه )،ملا كانت اإلرادة من
أس باب الفع ل وك ان وق وع الفع ل يتلوه ا ،ج از ملا ق د ك اد أن يق ع وق رب وقوع ه ،أن
يقال أراد أن يقع.
ومث ل ذل ك ق ول الش اعر ...« :امتأل احلوض وق ال قط ين» ،أي ملا مل تكن في ه ـ
احلوض ـ سعة لغري ما قد وقع فيه من املاء ،جاز على االستعارة أن يقال :قد قال حسيب
،وهذا شائع يف اللغة كثري» (.)1
وإذا ك انت االس تعارة املكني ة هي م ا ح ذف فيه ا املش به ب ه ورم ز إلي ه بش يء من
لوازم ه ف إن يف ك ل من «جهنم ،والس ماء ،واألرض ،واحلوض» ال واردة يف األمثل ة
الس ابقة اس تعارة مكني ة ح ذف يف ك ل منه ا املش به ب ه وه و ش خص أو إنس ان ورم ز إلي ه
بشيء من لوازمه هو «النطق والقول».
ومن البالغ يني من يس مي ه ذا الن وع من االس تعارة «التش خيص» حيث متث ل في ه
املع اين واجلم ادات إىل أش خاص تكتس ب ك ل ص فات الكائن ات احلي ة أي ا ك انت وتص در
عنها أفعاهلا.
__________________
( )1كتاب نقد النثر ص 65ـ .66
171
وهم يع دون ه ذا الن وع من أمجل الص ور البياني ة ملا في ه من التش خيص والتجس يد
وبث احلياة واحلركة يف اجلمادات وتصوير املعنويات يف صورة حمسة حية.
وبع د فق د عرض نا يف مس تهل ه ذا الكت اب وعلى التحدي د يف مبحث «نش أة علم
البيان وتطوره» لتاريخ االستعارة مبينني كيف نشأ البحث فيها وتطور لدى رجال البالغة
يف العصور املختلفة.
وليس من قصدنا أن نعيد هنا ما سبق أن ذكرناه عن االستعارة ،فهذا أمر ميكن
الرجوع إليه وتتبعه تارخييا يف مكانه من الكتاب .وإمنا القصد أن نلقي مزيدا من الضوء
على أوائ ل من فطن وا إىل االس تعارة وق اموا باحملاول ة األوىل يف حبثه ا ،تل ك احملاول ة ال يت
التقطه ا البالغي ون من بع دهم وتوس عوا يف دراس تها ،ح ىت وص لت االس تعارة بفض ل
جهودهم إىل ما وصلت إليه من التفريع والتقسيم.
ذلك هو القصد ،وقصد آخر هو أن نتخذ من ذلك مدخال إىل دراسة االستعارة
دراسة موسعة تعززها األمثلة والشواهد الكثرية ،وذلك ألمهيتها يف باب البيان العريب ،
تلك األمهية اليت جعلت إماما من أئم ة البالغ ة هو عبد القاهر اجلرجاين ينظر إليها وإىل
اجملاز والتش بيه والكناي ة على أهنا عم د اإلعج از وأركان ه ،واألقط اب ال يت ت دور البالغ ة
عليه ا ،وذل ك إذ يق ول « :ومل يتع اط أح د من الن اس الق ول يف اإلعج از إال ذكره ا ،
وجعلها العمد واألركان فيما يوجب الفضل واملزية ،وخصوصا االستعارة واجملاز ،فإنك
تراهم جيعلوهنما عنوان ما يذكرون وأول ما يوردون» (.)1
__________________
( )1انظر دالئل اإلعجاز ص 329ـ .330
172
تعريف االستعارة
1ـ عّر فها اجلاحظ بقوله « :االستعارة تسمية الشيء باسم غريه إذا قام مقامه».
2ـ وعّر فها ابن املعتز بقوله « :هي استعارة الكلمة لشيء مل يعرف هبا من شيء
قد عرف هبا».
3ـ وعّر فها قدامة بن جعفر بقوله « :هي استعارة بعض األلفاظ يف موضع بعض
على التوسع واجملاز».
4ـ وعّر فها القاضي اجلرجاين ( )1بقوله « :فأما االستعارة فهي أحد أعمدة الكالم
،وعليه ا املع ول يف التوّس ع والتص ّر ف ،وهبا يتوّص ل إىل ت زيني اللف ظ ،وحتس ني النظم
والنثر» .وعّر فها مرة أخرى بقوله « :ما اكتفي فيها باالسم املستعار عن األصلي ونقلت
العبارة فجعلت يف مكان غريها ،ومالكها بقرب التشبيه ،ومناسبة املستعار للمستعار له
،وام تزاج اللف ظ ب املعىن ح ىت ال يوج د بينهم ا من افرة ،وال يت بني يف أح دمها إع راض عن
اآلخر» (.)2
5ـ وعّر فها أبو احلسن الرماين ( )3بقوله « :االستعارة استعمال العبارة على غري ما
وضعت له يف أصل اللغة» ومثل هلا بقول احلجاج « :إين أرى رؤوسا قد أينعت وحان
قطافها».
__________________
( )1ه و أب و احلس ن علي بن عب د العزي ز الش هري بالقاض ي اجلرج اين « 366ه» ص احب كت اب الوس اطة بني
املتنيب وخصومه.
( )2العمدة ج 1ص .240
( )3كت اب العم دة البن رش يق ج 1ص ، 241والرم اين « 386ه» ص احب كت اب «النكت يف إعج از
القرآن».
173
6ـ وعّر فها اآلمدي ( )1مبا معناه « :هي استعارة املعىن ملا ليس له إذا كان يقاربه أو
يدانيه أو يشبهه يف بعض أحواله أو كان سببا من أسبابه».
7ـ وعّر فه ا أب و هالل العس كري بقول ه « :االس تعارة نق ل العب ارة عن موض ع
استعماهلا يف أصل اللغة إىل غريه لغرض».
8ـ وعّر فه ا عب د الق اهر اجلرج اين بقول ه « :االس تعارة يف اجلمل ة أن يك ون لف ظ
األص ل يف الوض ع اللغ وي معروف ا ت دّل الش واهد على أن ه اختّص ب ه حني وض ع ،مث
يس تعمله الشاعر أو غ ري الشاعر يف غ ري ذلك األص ل ،وينقله إليه نقال غ ري الزم فيكون
هناك كالعارية (.)2
9ـ وعّر فها السكاكي بقوله « :االستعارة أن تذكر أحد طريف التشبيه وتريد به
الطرف اآلخر م ّد عيا دخول املشبه يف جنس املشبه به دااّل على ذلك بإثباتك للمشبه ما
خيّص املشبه به» (.)3
10ـ وعّر فها ضياء الدين بن األثري بقوله « :االستعارة هي طّي ذكر املستعار له
الذي هو املنقول إليه ،واالكتفاء بذكر املستعار الذي هو املنقول» (.)4
وعّر فها ابن األثري تعريفا آخر بقوله « :االستعارة نقل املعىن من لفظ
__________________
( )1هو أبو القاسم احلسن بن بشر اآلمدي « 371ه» صاحب كتاب املوازنة بني أيب متام والبحرتي.
( )2أسرار البالغة ص .22
( )3اإليضاح للقزويين ص .226
( )4املثل السائر ص .142
174
إىل لفظ ملشاركة بينهما مع طّي ذكر املنقول إليه (.)1
11ـ وعّر فه ا اخلطيب القزوي ين بقول ه « :االس تعارة جماز عالقت ه تش بيه معن اه مبا
وضع له .وكثريا ما تطلق االستعارة على استعمال اسم املشّبه به يف املشّبه ،فيسمى املشبه
به مستعارا منه ،واملشبه مستعارا له ،واللفظ مستعارا» (.)2
***
تلك طائفة من تعريفات االستعارة تبنّي مفهومها لدى كبار رجال البالغة العربية
يف عصورها املختلفة ،وهي وإن اختلفت عباراهتا فإهنا تكاد تكون متفقة مضمونا.
ومن كل التعريفات السابقة تتجلى احلقائق التالية بالنسبة لالستعارة :
1ـ االس تعارة ض رب من اجملاز اللغ وي عالقت ه املش اهبة دائم ا بني املع ىن احلقيقي
واملعىن اجملازي.
2ـ وهي يف حقيقتها تشبيه حذف أحد طرفيه.
3ـ تطل ق االس تعارة على اس تعمال اس م املش ّبه ب ه يف املش ّبه ،فيس مى املش ّبه ب ه
مستعارا منه ،واملشبه مستعارا له ،واللفظ مستعارا.
4ـ وقرينة االستعارة اليت متنع من إرادة املعىن احلقيقي قد تكون لفظية أو حالية.
__________________
( )1كتاب املثل السائر ص .145
( )2اإليضاح للقزويين ص 194ـ .200
175
أقسام االستعارة
176
2ـ وقال تعاىل ِ( :كتاٌب َأْنَز ْلناُه ِإَلْيَك ِلُتْخ ِر َج الَّناَس ِم َن الُّظُلماِت ِإَلى الُّنوِر ).
ففي اآلي ة الكرمية جمازان لغوي ان يف كلم يت «الظلم ات والن ور» قص د ب األوىل
«الضالل» وبالثانية «اهلدى واإلميان» .فقد استعري «الظلمات» للضالل ،لعالقة املشاهبة
بينهما يف عدم اهتداء صاحبهما .كذلك استعري «النور» للهدى واإلميان ،لعالقة املشاهبة
بينهم ا يف اهلداي ة ،والقرين ة ال يت متن ع من إرادة املع ىن احلقيقي يف كال اجملازين قرين ة حالي ة
تفهم من سياق الكالم.
3ـ وقال املتنيب يف مدح سيف الدولة أيضا :
تص افحت في ه بيض اهلن د ب اللمم ()1؟ أم ا ت رى ظف را حل وا س وى الظف ر
ففي ال بيت هن ا جماز لغ وي يف كلم ة «تص افحت» ي راد منه ا «تالقت» لعالق ة
املشاهبة ،والقرينة لفظية هي «بيض اهلند واللمم».
وإذا تأملنا اجملاز اللغوي يف كل هذه األمثلة الثالثة رأينا أنه تضمن تشبيها حذف
منه لفظ املشبه واستعري بدله لفظ املشبه به ليقوم مقامه باّدعاء أن املشبه به هو عني املشبه
مبالغة.
فكل جماز من هذا النوع يسمى «استعارة» ،وملا كان املشبه به مص ّر حا به يف هذا
اجملاز مسي «استعارة تصرحيية».
***
__________________
( )1بيض اهلند :الس يوف ،واللمم :مجع ة بكس ر الالم وتشديد امليم ،وهي الشعر اجملاور ش حمة األذن ،
ّمل
واملراد هبا هنا الرؤوس ،واملعىن :ال ترى انتصارا حلوا لذيذا إال بعد معركة تتالقى فيها السيوف بالرؤوس.
177
4ـ قال الشاعر دعبل اخلزاعي :
ض حك «املش يب» برأس ه فبكى ال تعج يب ي ا س لم من رج ل
فاجملاز هنا يف كلمة «املشيب» حيث ش ّبه بإنسان على ختيل أن املشيب قد متثل يف
صورة إنسان ،مث حذف املشبه به «اإلنسان» ورمز له بشيء من لوازمه هو «ضحك»
الذي هو القرينة.
5ـ قال الشاعر :
ان اوف كلهّن أم وإذا «العناي ة» ال حظت ك عيوهنا من فاملخ
اجملاز اللغوي يف كلمة «العناية» ،فالذي يفهم من البيت أن الشاعر يريد أن يش ّبه
«العناية» بإنسان ،وأصل الكالم :العناية كامرأة الحظتك عيوهنا ،مث حذف املشبه به
«املرأة» فصار :العناية الحظتك عيوهنا ،على ختيل أن العناية قد متثلت يف صورة امرأة ،
مث رم ز للمش به ب ه احملذوف بش يء من لوازم ه ه و «الحظت ك عيوهنا» وال ذي ه و القرين ة
اليت متنع من إرادة املعىن احلقيقي.
6ـ وقال احلجاج من خطبته يف أهل العراق « :إين ألرى رؤوسا قد أينعت وحان
قطافها وإين لصاحبها».
فاجملاز اللغ وي هن ا يف كلم ة «رؤوس ا» ،وأص ل الكالم على التش بيه «إين ألرى
رؤوسا كالثمرات قد أينعت وحان قطافها» مث حذف املشبه به وهو «الثمرات» ،فصار
الكالم «إين ألرى رؤوس ا ق د أينعت وح ان قطافه ا» على ختي ل أن ال رؤوس ق د متثلت يف
صورة مثار ،مث رمز للمشّبه به احملذوف بشيء من لوازمه هو «قد أينعت وحان قطافها».
178
وملا كان املشبه به يف هذا النوع من االستعارة حمتجبا مسيت «استعارة مكنية».
من ه ذه األمثل ة وش رحها يتض ح م ا س بق أن ذكرن اه من أن االس تعارة من حيث
ذكر أحد طرفيها نوعان :
1ـ االستعارة التصرحيية :وهي ما ص ّر ح فيها بلفظ املش ّبه به ،أو ما استعري فيها
لفظ املشبه به للمشبه.
2ـ االستعارة املكنية :وهي ما حذف فيها املشبه به أو املستعار منه ،ورمز له
بشيء من لوازمه.
إجراء االستعارة
يقص د ب إجراء االس تعارة حتليله ا إىل عناص رها األساس ية ال يت تت ألف منه ا .وه ذا
التحليل يتطلب تعيني ك ّل من املشبه واملشبه به يف االستعارة ،وعالقة املشاهبة أو الصفة
اليت جتمع بني طريف التشبيه ،ونوع االستعارة ،وكذلك نوع القرينة اليت متنع من إرادة
املعىن احلقيقي ،واليت تكون أحيانا لفظية وأحيانا حالية تفهم من سياق الكالم.
وفيم ا يلي إج راء لبعض االس تعارات حيّلله ا ويوّض ح العناص ر الرئيس ية ال يت تت ألف
منها :
1ـ قال ابن املعتز :
ماحا ا الس ل وأحي ل البخ قت ام ا يف إم مجع احلق لن
يف ال بيت اس تعارتان األوىل منهم ا يف «قت ل البخ ل» حيث ش ّبه جتنب ك ل مظ اهر
البخل ،وهو املشبه ،بالقتل ،وهو املشبه به ،جبامع الزوال يف كل ،والقرينة اليت متنع
من إرادة املعىن احلقيقي هي لفظة «البخل» .وألن
179
املشّبه به وهو «القتل» مصّر ح به تسمى هذه االستعارة «تصرحيية».
واالستعارة الثانية يف البيت هي «أحيا السماحا» ،حيث ش ّبه جتديد وانبعاث ما
اندثر من عادة الكرم ،وهو املشبه ،باإلحياء ،وهو املشبه به ،جبامع اإلجياد بعد العدم
يف ك ل ،والقرين ة هن ا لفظي ة وهي «الس ماحا» .وألن املش به ب ه «اإلحي اء» مص ّر ح ب ه
فاالستعارة «تصرحيية».
2ـ وقال الشاعر يف وصف مزين :
اء النعيم هم اض على الوج أف ه ربق يف كف إذا ملع ال
يف هذا البيت شّبه املوسى بالربق جبامع اللمعان يف كل ،واستعري اللفظ الداّل على
املشبه به وهو «الربق» للمشبه وهو «املوسى» ،والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي
لفظية وهي «يف كفه» .وملا كان املشبه به «الربق» مصّر حا به فاالستعارة تصرحيية.
***
3ـ قال أبو خراش اهلذيل :
ع ة ال تنف ل متيم رت ك أبص ا بت أظفاره ة أنش وإذا املني
يف ه ذا ال بيت ش ّبهت «املني ة» حبي وان مف رتس جبامع إزه اق روح من يق ع علي ه
كالمها ،مث حذف املشبه به «احليوان املفرتس» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «أنشبت
أظفاره ا» ،والقرين ة لفظي ة وهي إثب ات األظف ار للمنّي ة .واالس تعارة هن ا «مكني ة» ألن
املشبه به قد حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه.
4ـ وقال أبو العتاهية يهىنء املهدي باخلالفة :
ه جتّر ر أذياهلا إلي ادة ة منق ه اخلالف أتت
180
ش ّبهت «اخلالفة» هنا بغادة ترتدي ثوبا طويل الذيل جبامع هباء املنظر واحلسن يف
كل ،مث حذف املشبه به «الغادة» ورمز إليها بشيء من لوازمها وهو «أتته منقادة» ،
والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي لفظية ،وهي «جترر أذياهلا» أو إثبات جترير األذيال
للخالفة .ونوع االستعارة «مكنية» وذلك حلذف املشبه به والرمز إليه بشيء من لوازمه.
5ـ وقال السري الرفاء :
( )1
وكم للع وايل بينه ا من مس احب م واطن مل يس حب هبا الغّي ذيل ه
ففي هذا البيت ش ّبه «الغّي » بإنسان جبامع أن كليهما يقود إىل الزلل ،مث حذف
املشبه به «اإلنسان» ورمز إليه بشيء من لوازمه ،وهو «يسحب ذّيله» ،والقرينة املانعة
من إرادة املعىن األصلي لفظية ،وهي «إثبات سحب الذيل للغي».
وملا كان املشبه به قد حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه فاالستعارة «مكنية».
181
1ـ مثال ذلك لفظة «كوكبا» يف قول التهامي الشاعر راثيا ابنا صغريا له :
وك ذاك عم ر ك واكب األس حار ي ا «كوكب ا» م ا ك ان أقص ر عم ره
ففي إجراء هذه االستعارة يقال :شّبه االبن «بالكوكب» جبامع صغر اجلسم وعلو
الشأن يف كل ،مث استعري اللفظ ال ّد ال على املشبه به «الكوكب» للمشبه «االبن» على
سبيل االستعارة التصرحيية ،وذلك للتصريح فيها بلفظ املشبه به .والقرينة نداؤه.
وإذا تأملن ا اللف ظ املس تعار وه و «الك وكب» رأين اه امسا جام دا غ ري مش تق ،ومن
أجل ذلك يسمى هذا النوع من االستعارة «استعارة أصلية».
2ـ ومثاله أيضا لفظة «القيان» يف قول الشاعر :
ين ان» وهي تغ د مسعن «القي ق جار ها على األش ول أعشاش ح
ويف إج راء ه ذه االس تعارة أيض ا يق ال :ش ّبهت الطي ور املغ ردة على األش جار
«بالقيان» أي املغنيات جبامع حسن الصوت يف كل ،مث استعري اللفظ الّد ال على املشبه به
«القي ان» للمش به «الطي ور» على س بيل االس تعارة التص رحيية ،والقرين ة املانع ة من إرادة
املعىن األصلي قوله « :حول أعشاشها على األشجار».
وإذا تأملن ا اللف ظ املس تعار وه و «القي ان» مجع قين ة رأين اه امسا جام دا غ ري مش تق.
وهلذا يسمى هذا النوع من االستعارة اليت يكون فيها اللفظ املستعار امسا جامدا «استعارة
أصلية».
3ـ ومن االستعارة األصلية كذلك لفظة «حديقة» يف قول املتنيب :
س قاها احلج ا س قي الري اض الس حائب محلت إلي ه من لس اين «حديق ة»
182
فاالس تعارة هن ا يف لفظ ة «حديق ة» ،ويف إج راء االس تعارة يق ال :ش ّبه الش عر
«باحلديقة» جبامع اجلمال يف كل ،مث استعري اللفظ الّد ال على املشبه به «احلديقة» للمشبه
«الشعر» على سبيل االستعارة التصرحيية ،وذلك للتصريح فيها بلفظ املشبه به .والقرينة
«من لساين وسقاها احلجا».
وإذا تأملنا اللفظ املستعار وهو «احلديق ة» رأيناه كذلك امسا جام دا غري مشتق ،
ومن أجل ذلك تسمى «استعارة أصلية».
ومن إجراء هذه االستعارات وحتليلها يتجلى لنا أمران :األول أنه قد صّر ح يف كل
استعارة بلفظ املشبه به ،وهلذا تسمى االستعارة «تصرحيية» ،والثاين أن اللفظ املستعار
اسم جامد غري مشتق ،وبسبب ذلك تسمى االستعارة «أصلية».
ومن أج ل ذل ك تس مى ه ذه االس تعارات وأمثاهلا مما يت وافر ل ه ه ذا األم ر أن
«استعارة تصرحيية أصلية».
***
ب ـ االس تعارة التبعي ة :وهي م ا ك ان اللف ظ املس تعار أو اللف ظ ال ذي ج رت في ه
االستعارة امسا مشتقا أو فعال.
1ـ مثال ذلك لفظة «سكت» من قوله تعاىل َ( :و َلَّم ا َس َك َت َعْن ُموَس ى اْلَغَض ُب
َأَخ َذ اَأْلْلواَح َو ِفي ُنْس َخ ِتها ُه دًى َو َر ْح َم ٌة).
ففي ه ذه اآلي ة الكرمية اس تعارة تص رحيية ،وذلك للتص ريح فيه ا بلف ظ املشبه به ،
ويف إجرائها نقول :شبه انتهاء الغضب عن موسى «بالسكوت» جبامع اهلدوء يف كل ،
مث استعري اللفظ الّد ال على املشبه به وهو «السكوت» للمشبه وهو «انتهاء الغضب» ،مث
اشتق من «السكوت» مبعىن انتهاء الغضب «سكت» الفعل مبعىن انتهى.
183
2ـ ومثاهلا أيضا لفظة «عانقت» يف قول البحرتي يصف قصرا :
ش رفاته قط ع الس حاب املمط ر مألت جوانب ه الفض اء وع انقت
ففي هذا البيت استعارة تصرحيية ،وذلك للتصريح فيها بلفظ املش ّبه به ،واللفظ
املستعار هو فعل «عانقت» ،ويف إجراء االستعارة نقول :
ش بهت املالمس ة «باملعانق ة» جبامع االتص ال يف ك ل ،مث اس تعري اللف ظ ال دال على
املشبه به وهو «املعانقة» للمشبه وهو «املالمسة» ،مث اشتق من «املعانقة» مبعىن املالمسة
الفع ل «ع انقت» مبع ىن المس ت .والقرين ة ال يت متن ع من إرادة املع ىن األص لي لفظي ة وهي
«شرفاته».
3ـ ومن أمثلتها كذلك لفظ «لبس» من قول ابن الرومي :
ولبس ت ث وب الله و وه و جدي د بل د ص حبت ب ه الش بيبة والّص با
ففي لفظة «لبس» أوال استعارة تصرحيية ،وذلك للتصريح فيها بلفظ املشبه به ،
واللف ظ املس تعار هن ا ه و فع ل «لبس» ،ويف إج راء االس تعارة نق ول :ش ّبه فيه ا التمت ع
باللهو «باللبس» للثوب اجلديد جبامع السرور يف كل ،مث استعري اللفظ ال ّد ال على املشبه
به وهو «اللبس» للمشبه وهو التمتع باللهو ،مث اشتق من «اللبس» الفعل «لبس» مبعىن
متتع .والقرينة اليت متنع من إرادة املعىن األصلي لفظية وهي «ثوب اللهو».
***
وإذا وازّن ا بني إج راء االس تعارات الثالث األخ رية وإج راء االس تعارات الثالث
األوىل ،رأين ا أن اإلج راء هن ا ال ينتهي عن د اس تعارة املش به ب ه للمش به كم ا انتهى يف
االستعارات الثالث األوىل ،بل يزيد عمال
184
آخ ر ،وه و اش تقاق كلم ة من املش به ب ه ،وأن ألف اظ االس تعارة هن ا مش تقة ال جام دة.
وهذا النوع من االستعارة يسمى «باالستعارة التبعية» ،ألن جرياهنا يف املشتق كان تابعا
جلرياهنا يف املصدر.
***
وإذا رجعنا إىل املثال األول من األمثلة الثالثة األخرية وهو «وملا سكت عن موسى
الغضب» فإننا نرى أنه جيوز أن يشّبه «الغضب» بإنسان ،مث حيذف املشبه به «اإلنسان»
ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «سكت» ،فتكون يف «الغضب» استعارة «مكنية».
وإذا رجعنا إىل املثال الثاين منها وهو «وعانقت شرفاته قطع السحاب املمطر» فإننا
ن رى أن ه جيوز أيض ا أن تش به «ش رفات القص ر» بإنس ان مث حيذف املش به ب ه «اإلنس ان»
ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «عانقت» ،فتكون يف «شرفاته» استعارة «مكنية».
وإذا رجعنا إىل املثال الثالث واألخري منها وهو «ولبست ثوب اللهو» فإننا نرى
كذلك أنه جيوز أن يشبه «اللهو» بإنسان له ثوب أعاره الشاعر مث حيذف املشبه به وهو
«اإلنسان» ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «الثوب».
ومن ذل ك ن رى أن ك ل اس تعارة «تبعي ة» يص ّح أن يك ون يف قرينته ا اس تعارة
«مكنية» ،غري أنه ال جيوز لنا إجراء االستعارة إال يف واحدة منهما ال يف كلتيهما معا.
وبع د ...فلع ّل من املفي د هن ا أن نع ود فنلخص القواع د اخلاص ة هبذا القس م من
االستعارة زيادة يف اإليضاح ومتكينا من اإلملام هبا.
185
1ـ يقّس م البالغيون االستعارة تقسيما آخر باعتبار لفظها إىل أصلية وتبعية.
2ـ االستعارة األصلية :هي ما كان اللفظ املستعار أو اللفظ الذي جرت فيه امسا
جامدا غري مشتق.
3ـ االستعارة التبعية :هي ما كان اللفظ املستعار أو اللفظ الذي جرت فيه امسا
مشتقا أو فعال .وتسمى تبعية ألن جرياهنا يف املشتق يكون تابعا جلرياهنا يف املصدر.
4ـ كل استعارة تبعية قرينتها استعارة مكنية ،وإذا أجريت االستعارة يف واحدة
منهما امتنع إجراؤها يف األخرى.
186
به «االشرتاء» ،وهذا الشيء هو «فما رحبت جتارهتم» .ومن أجل ذلك تسمى «استعارة
مرشحة» ..
ومن أمثلة االستعارة املرشحة أيضا قول الشاعر :
( )1
ا اخ بآخرين ه أن كالكل إذا م ا ال دهر ج ّر على أن اس
ففي هذا البيت استعارة مكنية يف «الدهر» فقد شبه الدهر جبمل مث حذف املشبه
ب ه «اجلم ل» ورم ز إلي ه بش يء من لوازم ه وه و «الكالك ل» ،وق د متت هلذه االس تعارة
قرينتها وهي «إثبات الكالكل للدهر».
وإذا تأملنا هذه االستعارة املكنية اليت استوفت قرينتها رأينا أهنا قد ذكر معها شيء
يالئم املش به ب ه «اجلم ل» ،وه ذا الش يء ه و «أن اخ بآخرين ا» .وهلذا تس مى اس تعارة
«مرشحة».
من ذلك يتضح أن االستعارة سواء أكانت تصرحيية أم مكنية إذا استوفت قرينتها
وذكر معها ما يالئم املشبه به فإهنا تسمى استعارة «مرشحة».
***
2ـ واالستعارة المجردة :هي ما ذكر معها مالئم املشبه ،أي املستعار له.
أ ـ ومن أمثلة ذلك قول القائل « :ال تتفكهوا بأعراض الناس ،فشّر اخللق الغيبة».
ففي قوله « :ال تتفكهوا» استعارة تصرحيية تبعية ،فقد شّبه فيها
__________________
( )1الكالكل :مجع كلكل وهو الصدر ،واملعىن :أن عادة الدهر تكدير العيش ،فهو يصيب قوما بأذاه ،مث
ينتقل إىل إصابة غريهم.
187
«التكلم يف األعراض» «بالتفكه» جبامع أن بعض النفوس قد متيل إىل كل ،مث اشتق من
«التفكه» تفكه مبعىن تكلم يف العرض ،والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي لفظية وهي
«بأعراض الناس».
وإذا تأملن ا االس تعارة رأين ا أن ه ق د ذك ر معه ا ش يء يالئم املش به «التكلم يف
األع راض» ،وه ذا الش يء ه و «فش ّر اخلل ق الغيب ة» وهلذا الس بب يق ال إن االس تعارة
«جمردة».
ب ـ ومن أمثلة االستعارة اجملردة أيضا قول سعيد بن محيد :
ف إذا م ا وىف قض يت ن ذوري ارة ليال در» بالزي د «الب وع
ففي ال بيت اس تعارة تص رحيية أص لية يف كلم ة «الب در» حيث ش بهت احملبوب ة
«بالبدر» جبامع احلسن يف كل ،مث استعري املشبه به «البدر» للمشبه «احملبوبة» على سبيل
االس تعارة التص رحيية األص لية .والقرين ة املانع ة من إرادة املع ىن األص لي هن ا لفظي ة ،وهي
«وعد».
فاالستعارة قد استوفت قرينتها ،ولكن إذا تأملناها رأينا أنه قد ذكر معها شيء
يالئم املشبه «احملبوبة» ،وهذا الشيء هو «الزيارة والوفاء هبا» .ولذكر مالئم املشبه مع
االستعارة تسمى استعارة «جمردة».
ج ـ ومن أمثله ا ك ذلك ق ول القائ ل « :رحم اهلل ام رأ أجلم نفس ه بإبعاده ا عن
شهواهتا».
ففي لفظة «نفسه» استعارة مكنية ،فقد ش ّبهت «النفس» «جبواد» جبامع أن كاّل
منهم ا يكبح ،مث ح ذف املش به ب ه «اجلواد» ورم ز إلي ه بش يء من لوازم ه وه و «أجلم».
والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي هي «إثبات اإلجلام للنفس».
188
وإذا تأملنا هذه االستعارة اليت استوفت قرينتها رأينا أهنا تشتمل باإلضافة إىل ذلك
على شيء يالئم املشبه «النفس» وذلك الشيء هو «إبعادها عن شهواهتا» .فذكر اإلبعاد
عن الشهوات وهو مالئم املشبه جتريد .ومن أجل ذلك تسمى االستعارة «جمردة».
وهك ذا يتض ح من حتلي ل االس تعارات الثالث الس ابقة ،أن االس تعارة مطلق ا إذا
استوفت قرينتها وذكر معها ما يالئم املشبه فإن االستعارة بسبب ذلك تسمى استعارة
«جمردة».
***
3ـ واالس تعارة المطلق ة :هي م ا خلت من مالئم ات املش به ب ه واملش به ،وهي
كذلك ما ذكر معها ما يالئم املشبه به واملشبه معا.
أ ـ فمن أمثل ة االس تعارة املطلق ة قول ه تع اىل ِ( :إَّن ا َلَّم ا َطَغى اْلم اُء َحَم ْلن اُك ْم ِفي
اْلجاِر َي ِة ).ففي لفظ ة «طغى» اس تعارة تص رحيية تبعي ة ،فق د ش ّبه فيه ا «الزي ادة»
«بالطغيان» جبامع جتاوز احلد يف كل ّ ،مث اشتّق من «الطغيان» الفعل طغى مبعىن زاد على
س بيل االس تعارة التص رحيية التبعي ة .والقرين ة املانع ة من إرادة املع ىن األص لي لفظي ة وهي
«املاء».
وإذا تأملن ا ه ذه االس تعارة بع د اس تيفاء قرينته ا رأيناه ا خالي ة مما يالئم املش به ب ه
واملشبه .وهلذا تسمى استعارة «مطلقة».
ب ـ ومن أمثلتها أيضا قول املتنيب خياطب ممدوحه :
( )1
ليث الش رى ي ا محام ي ا رج ل ي ا ب در ي ا حبر ي ا غمام ة ي ا
ففي هذا البيت استعارة تصرحيية يف كل من « :بدر» و «حبر»
__________________
( )1الشرى :مكان يف جزيرة العرب يوصف بكثرة األسود ،واحلمام بكسر احلاء :املوت.
189
و «غمامة» و «ليث الشرى» و «محام» .فاملشبه هنا املمدوح ،واملشبه به هو «البدر»
مرة ،و «البحر» مرة ثانية ،و «الغمامة» مرة ثالثة ،و «ليث الشرى» مرة رابعة ،و
«احلمام» مرة خامسة .والقرينة يف كل استعارة هي النداء.
إذا تأملن ا ك ل اس تعارة من ه ذه االس تعارات بع د اس تيفاء قرينته ا رأيناه ا ك ذلك
خالية مما يالئم املشبه به واملشبه .وهلذا السبب تسمى استعارة «مطلقة».
ج ـ ومن أمثلة االستعارة املطلقة كذلك قول قريظ بن أنيف :
( )1
ط اروا إلي ه زراف ات ووح دانا ق وم إذا الش ر أب دى ناجذي ه هلم
ففي لفظ ة «الش ر» اس تعارة مكني ة ،ويف إجرائه ا يق ال :ش به الش ر «حبي وان
مفرتس» ّ ،مث حذف املشبه به «احليوان املفرتس» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «أبدى
ناجذيه» .والقرينة املانعة من إرادة املعىن األصلي هي «إثبات إبداء الناجذين للشر».
وهذه االستعارة اليت استوفت قرينتها قد خلت من كل ما يالئم املشبه واملشبه به ،
ومن أجل ذلك تسمى استعارة «مطلقة».
د ـ ومن أمثلتها كذلك قول كثري عزة :
ظ واهر جل دي وه و للقلب ج ارح رمت ين «بس هم» ريش ه الكح ل مل يض ر
ففي لفظة «سهم» استعارة تصرحيية أصلية ،ويقال يف إجرائها :شبه «الطرف»
بسكون الطاء «بالسهم» جبامع اإلصابة بالضرر واألذى ّ ،مث
__________________
( )1الناجذان :النابان ،وإبداء الشر ناجذيه كناية عن شدته وحدته
190
اس تعري اللف ظ ال دال على املش به ب ه وه و «الس هم» للمش به وه و «الط رف» على س بيل
االس تعارة التص رحيية األص لية .والقرين ة املانع ة من إرادة املع ىن األص لي لفظي ة وهي
«الكحل».
وإذا تدبرنا هذه االستعارة اليت استوفت قرينتها رأينا أّنه قد اقرتن هبا مالئم للمشبه
به «السهم» وهو «الريش» ،وكذلك مالئم للمشبه «الطرف» وهو «الكحل» .وهلذا
السبب الذي يتمثل يف اقرتان االستعارة مبا يالئم املشبه به واملشبه معا تسمى االستعارة
أيضا «مطلقة».
وهكذا يتضح من حتليل االستعارة يف األمثلة السابقة أيضا أّن االستعارة مطلقا إذا
اس توفت قرينته ا يق ال هلا اس تعارة «مطلق ة» يف ح الني :األوىل إذا خلت من مالئم ات
املشبه به واملشبه ،والثانية إذا ذكر معها ما يالئمها معا.
هذا وجتدر اإلشارة هنا إىل أّن الرتشيح أبلغ من التجريد واإلطالق ،الشتماله على
حتقيق املبالغة يف االستعارة ،وهلذا كان مبىن الرتشيح على أساس تناسي التشبيه والتصميم
على إنك اره إىل درج ة اس تعارة الص فة احملسوس ة للمعن وي وجعله ا كأهّن ا ثابت ة ل ذلك
املعنوي حقيقة ،وكأّن االستعارة مل توجد أصال ،وذلك كقول أيب متام :
ماء ة يف الس ه حاج ويص عد ح ىت يظن اجله ول ب أّن ل
فقد استعار لفظ العلو احملسوس لعلو املنزلة ،ووضع الكالم وضع من يذكر علوا
مكاني ا ،ول و ال أّن قص ده أن يتناس ى التش بيه ويص مم على إنك اره فيجعل ه ص اعدا يف
السماء من حيث املسافة املكانية ملا كان هلذا الكالم وجه (.)1
__________________
( )1انظر كتاب اإليضاح للقزويين ص 217ـ .219
191
ه ذا وفيم ا يلي جتمي ع للمتف رق هن ا من القواع د البالغي ة املتص لة هبذا الن وع من
االستعارة :
1ـ تنقسم االستعارة باعتبار املالئم إىل مرشحة وجمردة ومطلقة.
2ـ االستعارة املرشحة :ما ذكر معها مالئم املشبه به ،أي املستعار منه.
3ـ االستعارة اجملردة :ما ذكر معها مالئم املشبه ،أي املستعار له.
4ـ االستعارة املطلقة :ما خلت من مالئمات املشبه به واملشبه ،وكذلك ما ذكر
معها ما يالئمهما معا.
5ـ ال يعترب الرتشيح أو التجريد إاّل بعد استيفاء االستعارة لقرينتها لفظية أو حالية
،ومن أجل ذلك ال تسمى قرينة التصرحيية جتريدا ،وال قرينة املكنية ترشيحا.
192
واس تجالء حلقيق ة ه ذه االس تعارة ن ورد فيم ا يلي بعض األمثل ة هلا معّق بني عليه ا
بالشرح والتحليل.
***
األمثلة :
1ـ قال املتنيب :
زالال ه املاء ال ّر ا ب جيد م ريض ومن ي ك ذا فم م ّر م
«يقال ملن مل يرزق الذوق لفهم الشعر الرائع».
فه ذا ال بيت ي دل وض عه احلقيقي على أّن املريض ال ذي يص اب مبرارة يف فم ه إذا
ش رب املاء الع ذب وج ده م را .ولكن املتن يب مل يس تعمله يف ه ذا املع ىن ب ل اس تعمله فيمن
يعيبون شعره لعيب يف ذوقهم الشعري ،وضعف يف إدراكهم األديب ،فهذا الرتكيب جماز
قرينته حالية ،وعالقته املشاهبة ،واملشبه هنا حال املولعني بذمه واملشبه به حال املريض
الذي جيد املاء الزالل مرا يف فمه.
ولذلك يقال يف إجراء هذه االستعارة :شبهت حال من يعيبون شعر املتنيب لعيب
يف ذوقهم الشعري حبال املريض الذي جيد املاء العذب الزالل مرا يف فمه جبامع الّس قم يف
ك ّل منهم ا ّ ،مث اس تعري ال رتكيب ال دال على املش به ب ه للمش به على س بيل االس تعارة
التمثيلية .والقرينة اليت متنع من إرادة املعىن األصلي قرينة حالية تفهم من سياق الكالم.
***
2ـ قال الشاعر :
ليم البالد ه تس ون علي يه رب ري ح ك البالد بغ ومن مل
193
«يقال ملن يبعثر فيما ورثه عن والديه».
فاملعىن احلقيقي للبيت هنا هو أّن من يستويل على بالد بغري تعب وقتال يهون عليه
تسليمها ألعدائه .والشاعر مل يستعمل البيت يف هذا املعىن احلقيقي ،وإمّن ا استعمله جمازيا
للوارث الذي يبعثر فيما ورثه عن والديه لعالقة مشاهبة بينهما ولقرينة متنع من إرادة املعىن
احلقيقي.
إذن يف هذا الرتكيب الذي اشتمل عليه البيت استعارة ،وإذا شئنا إجراءها قلنا :
ش بهت ح ال ال وارث ال ذي يبع ثر فيم ا ورث ه عن والدي ه حبال من اس توىل على بالد بغ ري
تعب وقتال فهان عليه تسليمها ألعدائه ،جبامع التفريط فيما ال يتعب يف حتصيله يف كل ،
ّمث اس تعري ال رتكيب ال دال على املش به ب ه للمش به على س بيل االس تعارة التمثيلي ة .والقرين ة
حالية.
***
3ـ ال تنثر الدر أمام اخلنازير.
«يقال ملن يقدم النصح ملن ال يفهمه أو ملن ال يعمل به».
املعىن احلقيقي هلذا الرتكيب هو النهي عن نثر الدر أمام اخلنازير .وهذا الرتكيب مل
يس تعمل للدالل ة على ه ذا املع ىن احلقيقي ،وإمّن ا اس تعمل جمازي ا ملن يق دم النص ح ملن ال
يفهمه أو ملن ال يعمل به ،لعالقة مشاهبة بينهما .والقرينة متنع من إرادة املعىن احلقيقي.
فالرتكيب هنا استعاري ويف إجراء استعارته يقال :شبهت حال من يقدم النصح
ملن ال يفهم ه أو ملن ال يعم ل ب ه حبال من ين ثر ال دّر أم ام اخلن ازير ،جبامع أّن كليهم ا ال
ينتف ع بالش يء النفيس ال ذي ألقي إلي ه ّ ،مث اس تعري ال رتكيب ال دال على املش به ب ه للمش به
على سبيل االستعارة
194
التمثيلية .والقرينة اليت متنع من إرادة املعىن احلقيقي قرينة حالية تفهم من سياق الكالم.
***
4ـ قال املتنيب :
تص يده الض رغام فيم ا تص يدا ومن جيع ل الض رغام للص يد ب ازه
«يقال مثال للتاجر اختار مشرفا على متجره فنهبه واغتاله».
ف املعىن احلقيقي لل بيت أّن من اخّت ذ األس د وس يلة للص يد افرتس ه األس د يف مجل ة م ا
افرتس .واملتنيب مل يستعمل البيت يف هذا املعىن احلقيقي ،وإمّن ا استعمله جمازيا للتاجر اختار
مشرفا على متجره فنهبه واغتاله ،لعالقة مشاهبة بني احلالني ،ولقرينة متنع من إرادة املعىن
احلقيقي.
وعلى هذا يكون البيت برتكيبه قد اشتمل على استعارة يقال يف إجرائها :شبهت
ح ال الت اجر اخت ار مش رفا على متج ره فنهب ه واغتال ه حبال من اخّت ذ األس د وس يلة للص يد
فافرتسه يف مجلة ما افرتس من الصيد ،جبامع سوء البصر مبا يستخدم ورجاء اخلري مما طبع
على الشرّ .مث استعري الرتكيب الدال على املشبه به للمشبه على سبيل االستعارة التمثيلية.
والقرينة هنا كالقرائن السابقة حالية تفهم من سياق الكالم.
***
من ه ذا التحلي ل يتض ح أّن ك ل مث ال من األمثل ة الس ابقة ق د ت ألف من ت ركيب
استعمل يف غري معناه احلقيقي ،وأّن العالقة بني معناه اجملازي ومعناه احلقيقي هي املشاهبة
،وأّن هناك دائما قرينة متنع من إرادة املعىن
195
احلقيقي ،وأّن الرتكيب الذي تتوافر له كل هذه احلقائق يسمى استعارة متثيلية.
وما من شك يف أّن كل ذلك يوضح ويؤكد ما سبق أن ذكرناه يف مستهل هذا
املوضوع من أّن االستعارة التمثيلية هي تركيب استعمل يف غري ما وضع له لعالقة املشاهبة
مع قرينة مانعة من إرادة املعىن احلقيقي.
196
ومن خصائصها كذلك التشخيص والتجسيد يف املعنويات ،وبث احلركة واحلياة
والنط ق يف اجلم اد ،وق د التفت اجلرج اين إىل ش يء من ذل ك بقول ه « :فإّن ك ل رتى هبا
اجلماد حيا ناطقا ،واألعجم فصيحا ،واألجسام اخلرس مبينة ،واملعاين اخلفية بادية جلية
...وجتد التشبيهات على اجلملة غري معجبة ما مل تكنها ،إن شئت أرتك املعاين اللطيفة
ال يت هي من خباي ا العق ل كأهّن ا ق د جس مت ح ىت رأهتا العي ون ،وإن ش ئت لطفت
األوصاف اجلسمانية حىت تعود روحانية ال تناهلا إاّل الظنون ،وهذه إشارات وتلوحيات يف
بدائعها» (.)1
ِب ِل ِذ
يقول اهلل تعاىل يف تصوير العذاب الذي أع ّد ه للكافرين به َ( :و َّل يَن َكَف ُر وا َر ِّبِه ْم
ِم ِه ِم ِف ِص ِب
َع ذاُب َجَه َّنَم َو ْئَس اْلَم يُر ِ .إذا ُأْلُق وا يه ا َس ُعوا َله ا َش ِه يقًا َو َي َتُف وُر َ .تك اُد َتَم َّيُز َن
( )2
اْلَغْيِظ ُك َّلما ُأْلِق َي ِفيها َفْو ٌج َس َأَلُه ْم َخ َز َنُتها َأَلْم َيْأِتُك ْم َنِذ يٌر ؟).
«فالش هيق» يف اآلي ة الكرمية ق د اس تعري «للص وت الفظي ع» ومها لفظت ان و
«الشهيق» لفظة واحدة ،فهو أوجز على ما فيه من زيادة البيان .و «متيز» استعري للفعل
«تنشق من غري تباين» واالستعارة أبلغ ،ألّن التميز يف الشيء هو أن يكون كل نوع منه
مباينا لغريه وصائرا على حّد ته ،وهو
__________________
( )1أسرار البالغة ص .33
( )2الشهيق :أصله الصوت املزعج كصوت احلمار ،واملراد به هنا «احلسيس» وهو الصوت اخلفي الناشىء
عن الف وران ،وه ذا الص وت حيدث ه اهلل س بحانه يف الن ار لش دة ازع اج الك افرين ،ومتيز :أص له تتم يز ،أي
تتقطع وينفصل بعضها عن بعض ،من الغيظ :أي من غيظها منهم ،والكالم كله متثيل لشدة غلياهنا انتظارا
هلم ،فوج :املراد هنا مجاعة من الكفرة ،واخلزنة :مجع خازن ،وهم املالئكة املوكلون جبهنم ،وقد وصفهم
اهلل يف آية أخرى بأهّن م مالئكة غالظ شداد ال يعصون اهلل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
197
أبل غ من االنش قاق ،ألّن االنش قاق ق د حيدث يف الش يء من غ ري تب اين .واس تعارة
«الغيض» لش ّد ة الغلي ان أوج ز وأبل غ يف الدالل ة على املع ىن املراد ،ألّن مق دار ش ّد ته على
النفس مدرك حمسوس ،وألّن االنتقام الصادر عن املغيظ يقع على قدر غيظه ،ففيه بيان
عجيب وزجر شديد ال تقوم مقامه احلقيقة البتة (.)1
فاالس تعارات هن ا ق د حققت غرض ني من أغ راض االس تعارة مها اإلجياز والبي ان ،
كم ا تض افرت مع ا يف رسم نار جهنم وإبرازه ا يف ص ورة تنخلع القلوب من هوهلا رعبا
وفزع ا ،ص ورة خمل وق ض خم بط اش ،هائ ل جب ار ،مكفه ر الوج ه ع ابس يغلي ص دره
غيظا وحقدا.
فاالستعارة هي اليت لّو نت املعاين احلقيقية يف اآلية كل هذا التلوين ،وهي اليت بّثت
فيها كل هذا القدر من التأثري الذي ارتفع ببالغتها إىل حد اإلعجاز.
ومن خصائص االستعارة املبالغة يف إبراز املعىن املوهوم إىل الصورة املشاهدة كقوله
تعاىل يف اإلخبار عن الظاملني ومقاومتهم لرسالة رسوله َ ( :ق ْد َك وا ْك ُه ِع ْنَد اِهلل
َو َم ُر َم َر ْم َو
َمْك ُر ُه ْم َو ِإْن كاَن َمْك ُر ُه ْم ِلَتُز وَل ِم ْنُه اْلِج باُل ) على قراءة من نصب «لتزول» بالم كي.
«فاجلبال» ههنا استعارة طوي فيه ذكر املستعار له وهو أمر الرسول ،ومعىن هذا
أّن أم ر الرس ول وم ا ج اء ب ه من اآلي ات املعج زات ق د ش به باجلب ال ،أي أهّن م مك روا
مكرهم لكي تزول منه هذه اآليات املعجزات اليت هي يف ثباهتا واستقرارها كاجلبال.
فجمال املبالغة الناشئة عن االستعارة هنا هو يف إخراج ما ال يدرك
__________________
( )1انظر كتاب الصناعتني ص .271
198
إىل م ا ي درك باحلاس ة تعالي ا ب املخرب عن ه وتفخيم ا ل ه إذ ص ري مبنزل ة م ا ي درك ويش اهد
ويعاين.
وعلى ه ذا ورد قول ه تع اىل ( :الُّش را َّتِب اْلغا وَن َأَل َأَّن ِفي ُك ِّل واٍد
ْم َتَر ُه ْم َو َع ُء َي ُعُه ُم ُو
َيِه يُم وَن َو َأَّنُه ْم َيُقوُلوَن م ا ال َيْف َعُل وَن ).فاس تعار «األودي ة» للفن ون واألغ راض من املع اين
الشعرية اليت يقصدوهنا ،وإمّن ا خص األودية باالستعارة ومل يستعر الطرق واملسالك أو ما
جرى جمراها ،ألّن معاين الشعر تستخرج بالفكر والروية ،والفكر والروية فيهما خفاء
وغم وض ،فك ان اس تعارة األودي ة هلا أش به وألي ق إلب راز م ا ال حيس يف ص ورة م ا حيس
مبالغة وتأكيدا.
ومما ورد من االس تعارة يف األح اديث النبوي ة قول ه صلىهللاعليهوس لم « :ال
تستضيئوا بنار املشركني» فاستعار «النار» للرأي واملشورة ،أي ال هتتدوا برأي املشركني
وال تأخذوا مبشورهتم.
فرأي املشركني أمر معنوي يدرك بالعقل ومتثيله بالنار هو إظهار له يف صورة حمسة
خميف ة يب دو فيه ا رأي املش ركني ن ارا حترق ك ل من يالمس ها أو يأخ ذ هبا .فالس ر يف ق ّو ة
تأثري هذه الصورة ومجاهلا راجع إىل مفعول االستعارة ،هذا املفعول الذي انتقل بالفكرة
من عامل املعاين إىل عامل املدركات مبالغة.
ومن خصائص االستعارة أيضا بث احلياة والنطق يف اجلماد كما ذكرنا آنفا كقوله
تعاىل ُ( :ثَّم اْسَتوى ِإَلى الَّس ماِء َو ِه َي ُدخاٌن َفقاَل َلها َو ِلَأْلْر ِض اْئِتيا َطْو عًا َأْو َك ْر هًا قاَلتا َأَتْينا
ط اِئِعيَن ) فك ل من الس ماء واألرض مجاد حتول بالتوس ع ال ذي هيأت ه االس تعارة إىل إنس ان
حي ناطق.
وكقول الرسول وقد نظر يوما إىل «أحد» « :هذا جبل حيبنا وحنبه» ،
199
فجبل أحد هذا اجلماد قد استحال بسحر االستعارة إىل إنسان جييش قلبه بعاطفة احلب.
ك ذلك من خصائص ها جتس يم األم ور املعنوي ة وذل ك بإبرازه ا للعي ان يف ص ورة
ش خوص وكائن ات حي ة يص در عنه ا ك ل م ا يص در عن الكائن ات احلي ة من حرك ات
وأعمال.
فأبو العتاهية يف هتنئة املهدي باخلالفة يقول من قصيدة :
ه جترر أذياهلا إلي ادة ة منق ه اخلالف أتت
فاخلالف ة هن ا تس تحيل بفع ل االس تعارة إىل غ ادة هيف اء مدلل ة تع رض عن مجي ع من
فتنوا هبا إاّل املهدي فإهّن ا تقبل عليه طائعة يف دالل ومجال جتر أذياهلا تيها وخفرا.
وأبو فراس احلمداين عند ما يقول :
مهمت ب أمر هم يل من ك زاج ر! وي ا «عف يت» م ايل؟ ومال ك؟ كلم ا
فما شأن عّف ة أيب فراس؟ وما شأن الصراع الناشب بينها وبينه؟ إهّن ا تستحيل بلمسة
من ملسات االستعارة السحرية إىل إنسان يقف موقف الزاجر كلما هم الشاعر بأمر تراه
العفة غري الئق به!
فهذه الصورة الرائعة اخلالبة املؤثرة ما كانت لتكون لو أّن الشاعر التزم يف التعبري
حدود احلقيقة وقال مثال « :أنا ال أحاول ما يشني ألين رجل عفيف».
واألفالك وهي مجاد وال دهر وه و أم ر معن وي م ا خربمها يف بيت الب ارودي ال ذي
يقول فيه :
دهر ّر عت األفالك والتفت ال تف إذا اس تّل منهم س يد غ رب س يفه
200
فكل من «األفالك» و «الدهر» قد حتّو ل باالستعارة إىل كائن حي حساس .فهاتان
االستعارتان قد أعانتا الشاعر على أن يرينا صورة األجرام السماوية حية حساسة ترتعد
خوفا وفزعا ،وصورة الدهر إنسانا يلتفت عجبا وذهوال كلما استّل سيد من قبيل الشاعر
املشهود هلم بالشجاعة والفروسية سيفه من غمده!
ه ذه الص ورة ال يت متوج باحلرك ة واالض طراب واحليوي ة واملش اعر املختلف ة من ف زع
وخوف ودهشة هي وليدة االستعارة اليت بالغ الشاعر يف استخدامها إىل حد جيعل املتملي
هلا يتواله الذهول من هول املنظر الذي يراه ماثال أمام عينيه!
***
وبعد ...فليس من قصدنا أن نعرض لكل صور االستعارة وخصائصها وأغراضها
،فهذا أمر يطول شرحه ويضيق املقام عنه هنا.
وحس بنا م ا ذكرن ا من خصائص ها لإلبان ة عن مكانته ا يف البالغ ة .ولع ّل يف ه ذا
القدر ما يشوق الدارس ويستحثه للكشف بنفسه عن خصائصها األخرى ،والدور الذي
تؤديه يف صناعة الكالم وأثرها فيه.
201
202
المبحث الّر ابع
الكناية
الكناية يف اللغة مصدر كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به .والكناية يف
اصطالح أهل البالغة :لفظ أطلق وأريد به الزم معناه ،مع جواز إرادة ذلك املعىن.
ومثال ذلك لفظ «طويل النجاد» املراد به طول القام ة م ع جواز أن يراد حقيق ة
طول النجاد أيضا .فالنجاد محائل السيف ،وطول النجاد يستلزم طول القامة ،فإذا قيل :
فالن طوي ل النج اد ،ف املراد أّن ه طوي ل القام ة ،فق د اس تعمل اللف ظ يف الزم معن اه ،م ع
ج واز أن ي راد ب ذلك الكالم اإلخب ار بأّن ه طوي ل محائ ل الس يف وطوي ل القام ة ،أي ي راد
بطويل النجاد معناه احلقيقي والالزمي.
وإذا تتبعن ا ت اريخ «الكناي ة» بقص د التع رف على مفهومه ا ل دى علم اء العربي ة
والبالغيني على تعاقب األجيال والعصور فإننا جند أبا عبيدة معمر ابن املثىن « 209ه»
أول من عرض هلا يف كتابه «جماز القرآن».
203
فهو ميثل للكناية يف كتابه هذا بأمثلة من حنو قوله تعاىل ُ( :ك ُّل َمْن َعَلْيه ا ف اٍن )،
وقوله َ( :ح َّتى َت واَر ْت ِباْلِح ج اِب )،وقوله َ( :ك اَّل ِإذا َبَلَغِت الَّتراِقَي ) ّمث يعقب عليها بأّن
اهلل س بحانه كىّن بالض مري يف األول عن األرض ،ويف الثاني ة عن الش مس .ويف الثالث ة عن
الروح.
فه و يس تعمل الكناي ة اس تعمال اللغ ويني والنحاة مبع ىن «الض مري» ،ومع ىن ه ذا أّن
الكناية عنده هي كل ما فهم من سياق الكالم من غري أن يذكر امسه صرحيا يف العبارة.
ّمث نلتقي بعد أيب عبيدة باجلاحظ « 255ه» فقد وردت الكناية عنده مبعناها العام
وهو التعبري عن املعىن تلميحا ال تصرحيا وإفصاحا كلما اقتضى احلال ذلك.
يفهم ذلك من قوله « :رب كناية ترىب على إفصاح» كما تفهم من إيراده لتعريف
البالغ ة عن د بعض اهلن ود وذل ك إذ يق ول « :وق ال بعض اهلن ود :مجاع البالغ ة البص ر
باحلج ة واملعرف ة مبواض ع الفرص ة .ومن البص ر باحلج ة واملعرف ة مبواض ع الفرص ة أن ت دع
اإلفصاح هبا إىل الكناية ،إذا كان اإلفصاح أوعر طريقة» ( .)1من ذلك يتضح أّن الكناية
عنده تقابل اإلفصاح والتصريح إذا اقتضى احلال ذلك.
ويف حديثه عن بالغة اخلطابة واخلطب يسلك الكناية مع بعض األساليب البالغية
اليت يقتضيها احلال أحيانا من إطناب وإجياز يأيت كالوحي واإلشارة ،ويف ذلك يقول يف
معرض احلديث عن تناسب األلفاظ مع األغراض « :ولكل ضرب من احلديث ضرب من
اللف ظ ،ولك ل ن وع من املع اين ن وع من األمساء :فالس خيف للس خيف ،واخلفي ف
للخفيف ،
__________________
( )1كتاب البيان والتبيني ج 1ص .88
204
واجلزل للج زل ،واإلفص اح يف موض ع اإلفص اح ،والكناي ة يف موض ع الكناي ة ،
واالسرتسال يف موضع االسرتسال» (.)1
فالكناية عند اجلاحظ كما نرى هنا معدودة من األساليب البالغية اليت قد يتطلبها
املع ىن للتعب ري عن ه وال جيوز إاّل فيه ا ،وأّن الع دول عنه ا إىل ص ريح اللف ظ يف املواطن ال يت
تتطلبها أمر خمل بالبالغة.
وال ذي يتتب ع اجلاح ظ فيم ا قال ه عن الكناي ة وفيم ا أورده من أمثل ة هلا ي رى أّن ه
استعملها استعماال عاما يشمل مجيع أضرب اجملاز والتشبيه واالستعارة والتعريض دون أن
يفرق بينها وبني هذه األساليب.
ومن علماء العربية الذين جاءوا بعد اجلاحظ وحبثوا يف «الكناية» تلميذه حممد بن
يزيد املربد « 285ه» ،فقد عرض هلا يف اجلزء الثاين من كتابه «الكامل» ذاكرا أهّن ا تأيت
على ثالثة أوجه ،فهي :إّم ا للتعمية والتغطية ،كقول النابغة اجلعدي :
ل مكتتم ات ك ه خفي أك ين بغ ري امسها وق د علم ال ل
وإما للرغبة عن اللفظ اخلسيس املفحش إىل ما يدل على معناه من غريه :كقوله
تعاىل يف قصة سيدنا عيسى وأمه عليهماالسالم :
ُأُّم ُه ِص ِّديَقٌة كان ا ْأُك الِن ِم ِلِه ِس
َي (َما اْلَم يُح اْبُن َمْر َيَم ِإاَّل َرُس وٌل َقْد َخ َلْت ْن َقْب الُّر ُس ُل َو
الَّطعاَم ).كناية عما ال بّد آلكل الطعام منه (.)2
وأّم ا للتفخيم والتعظيم والتبجيل كقوهلم « :أبو فالن» صيانة المسه عن االبتذال ،
ومن هذا الوجه اشتقت الكنية.
__________________
( )1كتاب احليوان ج 3ص .39
( )2كتاب الكامل للمربد ص 290حتقيق حممد أبو الفضل إبراهيم.
205
فاملربد كما نرى مل يع ّر ف الكناية وإمنا التفت إىل ما تؤديه بعض صورها من فائدة
يف ص ناعة الكالم ،وكأّن ه ب ذلك ي وحي ب أّن ه ذا االجتاه ه و األهم يف دراس ة األس اليب
البالغية ،وأّنه ينبغي الرتكيز عليه أكثر من الرتكيز على القواعد.
وابن املعتز « 296ه» قد ع ّد الكناية والتعريض من حماسن البديع ومثل هلما من
منظوم الكالم ومنثوره ،ومن األمثلة اليت أوردها « :كان عروة بن الزبري إذا أسرع إليه
إنسان بسوء مل جيبه ،ويقول :إين ألتركك رفعا لنفسي عنكّ .مث جرى بينه وبني علي
بن عب د اهلل بن عب اس كالم ،فأس رع إلي ه ع روة بس وء ،فق ال علي بن عب د اهلل :إين
ألتركك ملا ترتك الناس له .فاشتد ذلك على عروة (.)1
وقدام ة بن جعف ر « 337ه» ع رض هلا يف «ب اب املع اين ال دال عليه ا الش عر» من
كتاب ه نق د الش عر ،وع ّد ها نوع ا من أن واع ائتالف اللف ظ واملع ىن ،وأطل ق عليه ا اس م
«اإلرداف» وعرفه بقوله « :اإلرداف أن يريد الشاعر داللة على معىن من املعاين فال يأيت
باللفظ الدال على ذلك املعىن بل بلفظ يدل على معىن هو ردفه وتابع له ،فإذا دّل على
التابع أبان عن املتبوع مبنزلة قول الشاعر :
بعي دة مه وى الق رط إّم ا لنوف ل أبوه ا وإّم ا عب د مشس وهاش م»
( )2
ّمث أورد بعض أمثل ة أخ رى عليه ا .والكناي ة أو اإلرداف على رأي قدام ة ه و يف
«بعيدة مهوى القرط» وهذا كناية عن طول العنق ،فمهوى
__________________
( )1كتاب البديع ص .64
( )2كتاب نقد الشعر لقدامة ص .113
206
الق رط ه و املس افة من ش حمة األذن إىل الكت ف ،وإذا ك انت ه ذه املس افة بعي دة ل زم أن
يكون العنق طويال.
***
ك ذلك ع رض للكناي ة أب و احلس ني أمحد بن ف ارس « 395ه» يف كتاب ه
«الص احيب» ،وعق د هلا باب ا خاص ا تكلم في ه أوال عن ص ورتني من ص ورها ،إح دامها
كناي ة التغطي ة ،وذل ك ب أن يكىّن عن الش يء في ذكر بغ ري امسه حتس ينا للف ظ أو إكرام ا
للمذكور ،والثانية كناية التبجيل حنو قوهلم « :أبو فالن» صيانة المسه عن االبتذال ،وأّن
الكىن مما كان للعرب خصوصا ّمث تشبه غريهم هبم يف ذلك .وال ريب أّنه يف ذلك متأثر
برأي املربد السابق.
ّمث تكّلم ثانيا عن الكناية مبفهومها عند النحاة فقال « :االسم يكون ظاهرا مثل :
زيد وعمرو ،ويكون مكنيا ،وبعض النحويني يسميه «مضمرا» وذلك مثل :هو وهي
ومها وهن.
وزعم بعض أه ل العربي ة أّن أّو ل أح وال االس م الكناي ة ّمث يك ون ظ اهرا ،ق ال :
وذل ك أّن أول ح ال املتكلم أن خيرب عن نفس ه أو خماطب ه فيق ول :أن ا وأنت ،وه ذان ال
ظاهر هلما ،وسائر األمساء تظهر مرة ويكىن عنها مرة.
والكناي ة متص لة ومنفص لة ومس تجّنة ،فاملتص لة كالت اء يف «محلت وقمت» ،
واملنفصلة كقولنا :إياه أردت ،واملستجنة قولنا «قام زيد» فإذا كنينا عنه فقلنا « :قام»
فتسرت االسم يف الفعل».
ّمث يستطرد فيقول « :ورمبا كيّن عن الشيء مل جير له ذكر ،يف مثل قوله ج ّل ثناؤه
ُ( :يْؤ َف ُك َعْن ُه) أي يؤف ك عن ال دين أو عن الن يب صلىهللاعليهوسلم .ق ال أه ل العلم
وإمّن ا جاز هذا ألّنه قد جرى الذكر يف القرآن .وقال حامت :
207
إذا حش رجت يوم ا وض اق هبا الص در أم اوّي ال يغ ين ال ثراء عن الف ىت
ويقولون :إذا أغرب أفق وهبت مشاال .أضمر الريح ومل جير هلا ذكر» (.)1
فابن فارس يشري هبذا إىل قول النحاة بأّن ضمري الغائب إذا كان عائده غري لفظ
فإن عائده هو «الغائب املعلوم» .فالضمري يف «هبت مشاال» يعود على الغائب املعلوم وه و
ال ريح ،ألّن ه معل وم أّن ال يت هتب مشاال هي ال ريح .وهلذا فالض مري املس تجن أو املس ترت يف
«هبت» هو كناية عن ذلك الغائب املعلوم ومثل ذلك قوله تعاىل ِ( :إَّنا َأ ْلن اُه ِفي َل َل ِة
ْي ْنَز
اْلَق ْد ِر ).فاهلاء يف «أنزلناه» كناية عن الغائب املعلوم وهو «القرآن الكرمي».
***
وأبو هالل العسكري يقرن الكناية بالتعريض كأمّن ا يعتربمها أمرا واحدا ّ ،مث يعرفهما
بقوله « :الكناية والتعريض أن يكىّن عن الشيء ويع ّر ض به وال يص ّر ح ،على حسب ما
عملوا بالتورية عن الشيء» ّمث يورد أمثلة هلما ،وكذلك للتعريض اجليد والكناية املعيبة.
ومن األمثلة اليت أوردها أبو هالل قوله :ومن مليح ما جاء يف هذا الباب قول أيب
العيناء وقيل له :ما تقول يف ابين وهب؟ قال « :وما يستوي البحران هذان عذب فرات
سائغ شرابه وهذا ملح أجاج» سليمان أفضل .قيل :وكيف؟ قال َ( :أَفَمْن َيْم ِش ي ُمِكًّب ا
( )2
َعلى َو ْج ِه ِه َأْه دى َأَّمْن َيْم ِش ي َس ِو ًّيا َعلى ِص راٍط ُمْس َتِق يٍم ).
__________________
( )1كتاب الصاحيب يف فقه اللغة وسنن العرب يف كالمها ص 260ـ .263
( )2كتاب الصناعتني ص .268
208
وأب و علي احلس ن بن رش يق الق ريواين « 456ه» عق د يف كتاب ه «العم دة» فص ال
خاصا باإلشارة أشاد يف مستهله بفضلها وأثرها يف الكالم قائال « :واإلشارة من غرائب
الشعر وملحه ،وهي بالغة عجيبة تدل على بعد املرمى وفرط املقدرة ،وليس يأيت هبا إاّل
الش اعر املربز واحلاذق املاهر ،وهي يف ك ل ن وع من الكالم حملة دال ة ،واختص ار وتل ويح
يعرف جممال ،ومعناه بعيد من ظاهر لفظه».
ّمث يس تطرد إىل بي ان أنواعه ا والتمثي ل هلا فيع د منه ا :اإلمياء والتفخيم والتل ويح
والتمثيل والرمز والتعريض والكناية .ويف كالمه عن الكناية نراه متأثرا برأي املربد السابق
يف أهّن ا تأيت على ثالثة أوجه هي :كناية التعظيم والتفخيم ممثلة يف الكنية ،وكناية الرغبة
عن اللفظ اخلسيس ،وكناية التغطية والتعمية.
وعن هذا الوجه األخري من الكناية يقول :إّنه هو التورية يف أشعار العرب حيث
يكنون عن الشجر بالناس كقول املسّيب بن علس :
اب در واألث ره الّس دع ا ش جر األرض داعيهم و لينص
فك ىن بالش جر عن الن اس ،وهم يقول ون يف الكالم املنث ور :ج اء فالن بالش وك
والشجر ،إذا جاء جبيش عظيم.
كذلك يكنون عن املرأة بالشجرة والنخلة والسرحة والبيضة والناقة واملهرة والشاة
والنعجة أو ما شاكل ذلك.
ّمث أورد على ذل ك بعض أمثل ة منه ا ق ول محي د بن ث ور اهلاليل عن د م ا حظ ر عم ر
على الشعراء ذكر املرأة :
جنون ا هبا ي ا ط ول ه ذا التج ّر م عرا ا ألن كنت مش جتّر م أهلوه
س وى أن ين ق د قلت ي ا س رحة اس لمي ه ايل من ذنب إليهم علمت وم
209
ات وإن مل تكّلمي ثالث حتي بلى فاس لمي ّمث اس لمي مثت اس لمي
ومنها قول امرىء القيس :
ل ري مع ّج متتعت من هلو هبا غ وبيض ة خ در ال ي رام خباؤه ا
كناية بالبيضة عن املرأة.
وقول عنرتة :
ا مل حترم رمت علّي وليته ح ي ا ش اة م ا قنص ملن حّلت ل ه
فتجّس س ي أخباره ا يل واعلمي يب ارييت فقلت هلا اذه فبعثت ج
والش اة ممكن ة ملن ه و م رمت ّر ة ادي غ الت رأيت من األع ق
فالشاة هنا كناية عن امرأة أبيه وكان يهواها ويتمىن لو مل يتزوجها أبوه حىت كان
حيل له تزوجها.
ّمث يق ول وعلى ه ذا املتع ارف يف الكناي ة ج اء ق ول اهلل عزوجل يف إخب اره عن
خص م داود عليهالسالم ِ( :إَّن ه ذا َأِخ ي َل ُه ِتْس ٌع َو ِتْس ُعوَن َنْع َج ًة َو ِلَي َنْع َج ٌة واِح َد ٌة )،
كناية بالنعجة عن املرأة (.)1
***
وممن عرضوا للكناية غري هؤالء ونظروا إليها من زوايا وجوانب خمتلفة عبد القاهر
اجلرجاين وأبو يعقوب يوسف السكاكي وضياء الدين ابن األثري واخلطيب القزويين وحيىي
بن محزة صاحب كتاب الطراز املتضمن ألسرار البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز.
وقد سبق أن أتينا يف املبحث األول من هذا الكتاب واخلاص «بنشأة
__________________
( )1كتاب العمدة ج 1ص 271ـ .282
210
علم البي ان وتط وره» على ملخص آرائهم وأق واهلم يف الكناي ة ،وهلذا فال داعي لتكراره ا
هنا ولريجع إليها هناك.
أقسام الكناية
ذكرنا فيما سبق أّن الكناية يف عرف اللغة أن تتكلم بشيء وتريد غريه ،ويقال :
كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به .كما ذكرنا أهنا يف اصطالح علماء البيان :
لف ظ أطل ق وأري د ب ه الزم معن اه م ع ج واز إرادة ذل ك املع ىن ،أي املع ىن احلقيقي للف ظ
الكناية (.)1
وق د عرّب اإلم ام عب د الق اهر اجلرج اين عن ه ذا املع ىن االص طالحي بص ورة أخ رى
فقال « :الكناية أن يريد املتكلم إثبات معىن من املعاين فال يذكره باللفظ املوضوع له يف
اللغ ة ،ولكن جييء إىل مع ىن ه و تالي ه وردف ه يف الوج ود في ومي إلي ه وجيعل ه دليال علي ه ،
مثال ذلك قوهلم « :هو طويل النجاد» يريدون طول القامة « ،وكثري رماد القدر» يعنون
كثري القرى ،ويف املرأة «نؤوم الضحى» واملراد أهّن ا مرتفة خمدومة هلا من يكفيها أمرها.
فقد أرادوا يف هذا كله كما ترى معىن ّمث مل يذكروه بلفظه اخلاص به ،ولكنهم توصلوا
إلي ه ب ذكر مع ىن آخ ر من ش أنه أن يردف ه يف الوج ود ،وأن يك ون إذا ك ان .أفال ت رى أّن
القامة إذا طالت طال النجاد ،وإذا كثر القرى كثر رماد القدر ،وإذا كانت املرأة مرتفة
هلا من يكفيها أمرها ردف ذلك أن تنام إىل الضحى؟ (.)2
كذلك عرب ابن األثري عن معناها االصطالحي بصورة ثالثة ومثل هلا
__________________
( )1كتاب التلخيص ص .338
( )2كتاب دالئل اإلعجاز ص .44
211
فقال « :ح ّد الكناية اجلامع هلا هو أهنا كل لفظة دّلت على معىن جيوز محله على جانب
ِخ
احلقيقة واجملاز بوصف جامع بني احلقيقة واجملاز ،حنو قوله تعاىل ِ( :إَّن هذا َأ ي َل ُه ِتْس ٌع
َو ِتْس ُعوَن َنْع َج ًة َو ِلَي َنْع َج ٌة واِح َد ٌة ).فقد كىّن بذلك ـ يقصد لفظة النعجة ـ عن النساء ،
والوص ف اجلامع بينهم ا ه و الت أنيث .ف املعىن هن ا جيوز محل ه على احلقيق ة كم ا جيوز محل ه
على اجملاز (.)1
وق د انتهى البحث يف «الكناي ة» إىل الس كاكي والقزوي ين ومدرس تهما البالغي ة
فتوسعوا يف حبثها وحددوا أقسامها على النحو الذي فصلته يف مبحث «نشأة علم البيان
وتطوره» ّ ،مث جاء البالغيون من بعدهم فأخذوا بتقسيمهم الذي ال يزال مّتبعا إىل اليوم
يف دراسة «الكناية».
***
وإذا ع دنا إىل تقس يم الس كاكي والقزوي ين وج دنا أّن املطل وب بالكناي ة عن دهم ال
خيرج عن ثالثة أقسام هي :طلب نفس الصفة ،وطلب نفس املوصوف ،وطلب النسبة.
ومعىن هذا أهّن م يقسمون الكناية باعتبار املكىن عنه ثالثة أقسام تتمثل يف أّن املكىن
عنه عندهم :قد يكون صفة ،وقد يكون موصوفا ،وقد يكون نسبة.
ولع ّل األمثلة والتعقيب عليها بالشرح والتحليل خري وسيلة لتوضيح أقسام الكناية
وبيان أثر صورها املختلفة يف بالغة الكالم.
كناية الصفة :وهي اليت يطلب هبا نفس الصفة ،واملراد بالصفة هنا الصفة املعنوية
كاجلود والكرم والشجاعة وأمثاهلا ال النعت.
__________________
( )1املثل السائر ص .248
212
1ـ ومن أمثلة ذلك قول عمر بن أيب ربيعة يف صاحبته هند :
ويل نظ ر ل و ال التح ّر ج ع ارم نظ رت إليه ا باحملّص ب من م ىن
ب دت ل ك حتت الّس جف أم أنت ح امل؟ ة ابيح بيع فقلت :أمشس أم مص
فالكناية هنا يف البيت الثالث ،هي «بعيدة مهوى القرط» ،ومهوى القرط املسافة
من ش حمة األذن إىل الكت ف .ف ابن أيب ربيع ة يص ف ص احبته بأهنا بعي دة مه وى الق رط ،
وه و هبذه الص فة يري د أن ي دل على أن هن دا ص احبته «طويل ة اجلي د» .وهلذا ع دل عن
التصريح هبذه الصفة إىل الكناية عنها ،ألن بعد املسافة بني شحمة األذن والكتف يستلزم
طول اجليد.
2ـ وقال املتنيب يف إيقاع سيف الدولة ببين كالب :
راب طهمو ت بحهم وبس وص ر طهمو حري اهم وبس فمس
فاملتنيب هنا يصف بين كالب الذين أوقع هبم سيف الدولة بأن بسطهم يف املساء
وقبل اإليقاع هبم كانت من احلرير مث صارت يف الصباح من الرتاب بسبب ما أصاهبم من
األمري سيف الدولة.
وقصد الشاعر من وراء هذا التعبري يف الواقع أن يصف بين كالب بأهنم يف املساء
كانوا سادة أعزاء مث صاروا يف الصباح وبعد اإليقاع هبم فقراء أذالء .وقد عدل الشاعر
بتعبريه عن التصريح إىل أسلوب الرمز
__________________
( )1دي وان عم ر بن أيب ربيع ة ص ، 207ونظ ر ع ارم :خ ارج عن القص د ،والبيع ة بكس ر الب اء :متعب د
النص ارى ،والس جف بكس ر الس ني :الس رت ،وبعي دة مه وى الق رط :كناي ة عن ط ول عنقه ا ،ونظ ريه ق ول
احلماسي :
ر ة النش رط طيب وى الق دة مه بعي رة ك بض ا إن مل أرع أكلت دم
213
والكناي ة ،ألن بسط احلرير اليت ك انت هلم يف املساء تس تلزم السيادة والع زة ،وإن ه ذه
البسط اليت حتولت يف الصباح إىل تراب تستلزم الفقر واحلاجة والذلة .فالبيت كما نرى
كناي ة عن ص فة .ه ذا وجيوز محل املع ىن على ج انب احلقيق ة ،مبع ىن أن ه يص ح هن ا إرادة
املعىن املفهوم من ص ريح اللفظ ،أي أهنم يف املساء ك انوا جيلسون على بسط من احلرير
فعال مث صاروا يف الصباح جيلسون على الرتاب حقيقة.
3ـ وقالت اخلنساء يف أخيها صخرا :
تا اش اد إذا م ري الرم كث اد ع العم اد رفي ل النج طوي
فاخلنساء يف هذا البيت تصف أخاها صخرا بثالث صفات هي :إنه طويل النجاد
،رفيع العماد ،كثري الرماد.
وهي هبذه الصفات تريد أن تدل على أن أخاها شجاع ،عظيم يف قومه ،كرمي.
ولكنه ا ع دلت عن التص ريح هبذه الص فات إىل الكناي ة عنه ا ،ألن ه يل زم من ط ول محال ة
السيف طول صاحبه ،ويلزم من طول اجلسم الشجاعة عادة ،مث إنه يلزم من كونه رفيع
العم اد أن يك ون س يدا عظيم الق در واملكان ة يف قوم ه وعش ريته ،كم ا أنه يلزم من ك ثرة
الرماد كثرة إحراق احلطب حتت القدور ،مث كثرة الضيفان ،مث كثرة الكرم .وهنا أيضا
جيوز محل املع ىن على ج انب احلقيق ة ،فمن اجلائز باإلض افة إىل املع ىن الكن ائي أن يك ون
أخوها حقيقة طويل النجاد ،رفيع العماد ،كثري الرماد.
فرتاكيب الكناية يف األمثلة السابقة هي «بعيدة مهوى القرط» و «كون بسطهم
حريرا» و «كون بسطهم ترابا» و «طويل النجاد» و «رفيع العماد» و «كثري الرماد».
وملا كان كل تركيب من هذه الرتاكيب قد كين به عن صفة الزمة
214
ملعناه ،كان كل تركيب من هذه وما يشبهه «كناية عن صفة» .وهذا هو القسم األول
من أقسام الكناية.
***
كناي ة املوص وف :وهي ال يت يطلب هبا نفس املوص وف والش رط هن ا أن تك ون
الكناية خمتصة باملكّين عنه ال تتعداه ،وذلك ليحصل االنتقال منها إليه.
1ـ ومن أمثلة ذلك قول البحرتي يف قصيدته اليت يذكر فيها قتله للذئب :
فأقب ل مث ل ال ربق يتبع ه الرع د ع وى مث أقعى ف ارجتزت فهجت ه
على ك وكب ينقض واللي ل مس وّد فأوجرت ه خرق اء حتس ب ريش ها
( )1
215
الص فات ال يت يك ون ه و موض عها ،وهي اللب وال رعب واحلق د .وه ذا كناي ة عن
«موصوف» هو القلب ألن القلب موضع هذه الصفات وغريها.
2ـ وقال أبو نواس يف وصف اخلمر :
رار قلت هلا :قفي وطن األس إىل م ا ربناها ودب دبيبه اش فلم
فيطل ع ن دماين على س ّر ي اخلفي عاعها
خماف ة أن يس طو علّي ش
فالكناية يف البيت األول وهي «موطن األسرار» .يريد أبو نواس أن يقول « :فلما
ش ربنا اخلم ر ودب دبيبه ا ،أي س رى مفعوهلا إىل القلب أو ال دماغ قلت هلا :قفي».
ولكنه انصرف عن التعبري بالقلب أو الدماغ هذا التعبري احلقيقي الصريح إىل ما هو أملح
وأوقع يف النفس وهو «موطن األسرار» ،ألن القلب أو الدماغ يفهم منه أنه مكان السر
وغ ريه من الص فات .فالكناي ة «مبوطن األس رار» عن القلب أو ال دماغ كناي ة عن
«موصوف» ،ألن كليهما يوصف بأنه موطن األسرار.
3ـ وقال شاعر يف رثاء من مات بعلة يف صدره :
( )1
ودّبت ل ه يف م وطن احللم عّل ة هلا كالّص الل ال رقش ش ّر دبيب
فلف ظ الكناي ة هن ا ه و «م وطن احللم» ،ومن ع ادة الع رب أن ينس بوا احللم إىل
الصدر ،فيقولون :فالن فسيح الصدر ،أو فالن ال يتسع صدره ملثل هذا ،أي ال حيلم
على مثل هذا.
ولو شاء الشاعر أن يعرب عن معناه هنا تعبريا حقيقيا صرحيا لقال « :ودبت له يف
الصدر علة» ،ولكنه مل يشأ ذلك وآثر التعبري عنه كنائيا
__________________
( )1الصالل بكسر الصاد :ضرب من احليات صغري أسود ال جناة من لدغته ،والرقش :مجع رقشاء ،وهي
اليت فيها نقط سوداء يف بيضاء ،واحلية الرقشاء من أشد احليات أذى.
216
بقوله « :ودبت له يف موطن احللم علة» ملا له من تأثري بليغ يف النفس ،إذ الصدر موضع
احللم وغريه من الصفات .فالكناية «مبوطن احللم» عن الصدر كناية عن «موصوف» ألن
الصدر يوصف بأنه موطن احللم وغريه.
وإذا تأملن ا ت راكيب الكناي ة يف ه ذه األمثل ة وهي «حبيث يك ون اللب وال رعب
واحلق د» و «م وطن األس رار» و «م وطن احللم» رأين ا أن ك ل ت ركيب منه ا ك ين ب ه عن
ذات الزمة ملعناه ،لذلك كان كل منها «كناية عن موصوف» ،وكذلك كل تركيب
مياثلها.
***
كناية النسبة :ويراد هبا إثبات أمر ألمر أو نفيه عنه ،أو بعبارة أخرى يطلب هبا
ختصيص الصفة باملوصوف.
1ـ ومن أمثلة ذلك قول زياد األعجم يف مدح ابن احلشرج :
يف قب ة ض ربت على ابن احلش رج دى ماحة واملروءة والن إن الس
فزياد هبذا البيت أراد ،كما ال خيفى ،أن يثبت هذه املعاين واألوصاف للممدوح
واختصاصه هبا .ولو شاء أن يعرب عنها بصريح اللفظ لقال :إن السماحة واملروءة والندى
جملموع ة يف املم دوح أو مقص ورة علي ه ،أو م ا ش اكل ذل ك مما ه و ص ريح يف إثب ات
األوصاف للمذكورين هبا.
ولكنه عدل عن التصريح إىل ما ترى من الكناية والتلويح ،فجعل كوهنا يف القبة
املضروبة عليه عبارة عن كوهنا فيه ،فخرج كالمه إىل ما خرج إليه من اجلزالة وظهر فيه
ما أنت ترى من الفخامة .ولو أن الشاعر خطر له أن يعرب عن معناه هنا بصريح اللفظ ،
ملا كان له ذلك القدر من اجلمال الذي تطالعنا به هذه الصورة املبهجة من خالل البيت.
217
2ـ ومن أمثلة كناية النسبة أيضا قول أيب نواس مادحا :
ري ري اجلود حيث يس ولكن يس فم ا ج ازه ج ود وال ح ل دون ه
فالشاعر هنا يريد أن ينسب إىل ممدوحه الكرم أو أن يثبت له هذه الصفة ،ولكنه
بدل أن ينسب إليه الكرم بصريح اللفظ فيقول « :هو كرمي» كىن عن نسبة الكرم إليه
بقوله « :يسري اجلود حيث يسري» ،ألنه يلزم من ذلك اتصافه به.
وشتان بني الصورتني يف اجلمال والتأثري :الصورة الصرحية اليت نرى فيها املمدوح
كرميا وحس ب ،والص ورة املقنع ة املدعاة ال يت يرين ا فيه ا الش اعر الك رم إنس انا يراف ق
املمدوح ويالزمه ويسري معه حيث سار.
3ـ ومن أمثلتها كذلك قول الشاعر :
ه ي يف ركاب واجملد ميش ه ع ظل اليمن يتب
فالشاعر يف هذا البيت بدل أن يصف املمدوح بأنه ميمون الطلعة ،قال إن اليمن
يتبعه أينما سار ،واتباع اليمن ظله يستلزم نسبته إليه.
فكناية النسبة كما يتضح من األمثلة السابقة تتمثل يف العدول عن نسبة الصفة إىل
املوصوف مباشرة ونسبتها إىل ما له اتصال به .وأظهر عالمة هلذه الكناية أن يصرح فيها
بالصفة كما رأينا يف األمثلة السابقة ،أو مبا يستلزم الصفة كقول شاعر معاصر :
وق ر معش اء معط من نق نز بية ك اص كي بني بردي
ربيق تطار ال اهم اللمح مس س جو بية ش اص كي وبعيني
ففي قول ه « :بني بردي ك ي ا ص بية ك نز من نق اء» كناي ة عن نس بة «الطه ارة»
للمخاطبة مبا يستلزم هذه الصفة وهو «كنز من نقاء» .أما
218
الكناية يف البيت الثاين «بني عينيك يا صبية شجو» فهي من النوع األول الذي عدل فيه
عن نسبة صفة الشجو أي احلزن إىل املوصوف مباشرة ونسبتها إىل ما له اتصال به ،وهو
هنا «العينان».
وإذا رجعن ا إىل أمثل ة الكناي ة الس ابقة يف مجي ع أقس امها وأنواعه ا رأين ا أن منه ا م ا
يدل على معىن جيوز محله على احلقيقة واجملاز ،أو بعبارة أخرى رأينا أن منها ما جيوز فيه
إرادة املعىن احلقيقي الذي يفهم من صريح اللفظ ،ومنها ما ال جيوز فيه ذلك.
219
الشافعي إىل أن اللمس هو مصافحة اجلسد اجلسد ،فأوجب الوضوء على الرجل إذا ملس
املرأة ،وذلك هو احلقيقة يف اللمس.
وذهب غريه إىل أن املراد باللمس هو اجلماع ،وذلك جماز فيه وهو الكناية ،وكل
موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا حقيقة وجماز ،وجيوز محله على كليهما معا.
أم ا التش بيه فليس ك ذلك وال غ ريه من أقس ام اجملاز ،ألن ه ال جيوز محل ه إال على
جانب اجملاز خاص ة ،ولو محل على جانب احلقيق ة الستحال املعىن .أال ترى أنا إذا قلنا
«زي د أس د» ال يص ح إال على ج انب اجملاز خاص ة ،وذاك أن ا ش بهنا زي دا باألس د يف
شجاعته ،ولو محلناه على جانب احلقيقة الستحال املعىن ،ألن زيدا ليس ذلك احلي وان ذا
األربع والذنب والوبر واألنياب واملخالب.
وقد خلص من هذا النقاش إىل تعريف الكناية بقوله « :حد الكناية اجلامع هلا هو
أهنا ك ل لفظ ة دلت على مع ىن جيوز محل ه على ج انيب احلقيق ة واجملاز بوص ف ج امع بني
ِخ
احلقيق ة واجملاز» وطبق ا هلذا التعري ف فمثاهلا عن ده قول ه تع اىل ِ( :إَّن ه ذا َأ ي َل ُه ِتْس ٌع
َو ِتْس ُعوَن َنْع َج ًة َو ِلَي َنْع َج ٌة واِح َد ٌة) فك ىن ب ذلك عن النس اء ،والوص ف اجلامع بني املع ىن
احلقيقي واجملازي ه و الت أنيث .ول و ال ذل ك لقي ل يف ه ذا املوض ع إن ه ذا أخي ل ه تس ع
وتس عون كبش ا ويل كبش واح د ،وقي ل ه ذه كناي ة عن النس اء .فالوص ف اجلامع بني
احلقيقة واجملاز شرط يف صحة تعريف الكناية عنده.
***
بعد ذلك انتقل ابن األثري إىل بيان ما بني الكناية واالستعارة من صلة فقال « :أما
الكناية فإهنا جزء من االستعارة ،وال تأيت إال على حكم
220
االستعارة خاصة ،ألن االستعارة ال تكون إال حبيث يطوى ذكر املستعار له ،أي املشبه
،وكذلك الكناية فإهنا ال تكون إال حبيث يطوى ذكر املكىن عنه ،أي الزم املعىن.
ونس بة الكناي ة إىل االس تعارة نس بة خ اص إىل ع ام ،فيق ال ك ل كناي ة اس تعارة ،
وليس ك ل اس تعارة كناي ة ،وه ذا ف رق بينهم ا .ويف رق بينهم ا من وج ه آخ ر ،وه و أن
االستعارة لفظها صريح ،والصريح هو ما دل عليه ظاهر لفظه ،والكناية ضد الصريح ،
ألهنا ع دول عن ظ اهر اللف ظ .وه ذه ف روق ثالث ة :أح دها اخلص وص والعم وم ،واآلخ ر
الص ريح ،والث الث احلم ل على ج انب احلقيق ة واجملاز .وإذا ك انت الكناي ة ج زءا من
االستعارة ،وكانت االستعارة جزءا من اجملاز ،فإن نسبة الكناية إىل اجملاز هي نسبة جزء
اجلزء وخاص اخلاص.
***
ومن بي ان الص لة بني الكناي ة واالس تعارة والتفرق ة بينهم ا انتق ل ابن األث ري لبحث
الصلة بني التعريض والكناية .وقد بدأ بتعريف التعريض فقال « :أما التعريض فهو اللفظ
الدال على الشيء من طريق املفهوم ال بالوضع احلقيقي وال اجملازي» ،فإنك إذا قلت ملن
تتوقع صلته ومعروفه بغري طلب « :واهلل إين حملتاج ،وليس يف يدي شيء ،وأنا عريان ،
وال ربد ق د آذاين» ،ف إن ه ذا وأش باهه تع ريض ب الطلب ،وليس ه ذا اللف ظ موض وعا يف
مقابلة الطلب ال حقيقة وال جمازا ،إمنا دل عليه من طريق املفهوم ،خبالف داللة اللمس
على اجلماع .وعنده أن التعريض إمنا مسي تعريضا ألن املعىن فيه يفهم من عرضه أي من
جانبه ،وعرض كل شيء جانبه.
وكما فرق بني الكناية والتعريض من جهة خفاء الداللة ووضوحها ،فرق بينهما
كذلك من جهة اللفظ فقال « :واعلم أن الكناية تشمل اللفظ
221
املف رد واملركب مع ا ،فت أيت على ه ذا ت ارة وعلى ه ذا أخ رى .وأم ا التع ريض فإن ه خيتص
باللفظ املركب ،وال يأيت يف اللفظ املفرد البّت ة .والدليل على ذلك أن التع ريض ال يفهم
املع ىن في ه من جه ة احلقيق ة وال من جه ة اجملاز ،وإمنا يفهم من جه ة التل ويح واإلش ارة ،
وذلك ال يستقل به اللفظ املفرد ،ولكنه حيتاج يف الداللة عليه إىل اللفظ املركب».
ومن أمثلة التعريض :
1ـ قوله تعاىل يف شأن قوم نوح َ( :فقاَل اْلَم ُأَل اَّلِذ يَن َكَف ُر وا ِم ْن َقْو ِم ِه م ا َنراَك ِإاَّل
َبَش رًا ِم ْثَلنا َو ما َنراَك اَّتَبَعَك ِإاَّل اَّلِذ يَن ُه ْم َأراِذ ُلنا ب اِد َي ال َّر ْأِي َو م ا َنرى َلُك ْم َعَلْين ا ِم ْن َفْض ٍل
َبْل َنُظُّنُك ْم كاِذ ِبيَن ).
فقوله « :ما نراك إال بشرا مثلنا» تعريض بأهنم أحق بالنبوة منه ،وأن اهلل لو أراد
أن جيعلها يف أحد من البشر جلعلها فيهم ،فقالوا :هب أنك واحد من املأل ومواز هلم يف
املنزل ة فم ا جعل ك أح ق منهم هبا؟ ومما يؤك د ذل ك ق وهلم « :وم ا ن رى لكم علين ا من
فضل».
2ـ كان عمر بن اخلطاب خيطب يوم مجعة ،فدخل عثمان فقال عمر :أية ساعة
هذه؟ فقال عثمان :يا أمري املؤمنني انقلبت من أمر السوق فسمعت النداء ،فما زدت
على أن توض أت .فق ال عم ر :والوض وء أيض ا وق د علمت أن رس ول اهلل ك ان يأمرن ا
بالغسل؟ فقوله « :أية ساعة هذا؟» تعريض باإلنكار عليه لتأخره عن اجمليء إىل الصالة
وترك السبق إليها .وهو من التعريض املعرب عن األدب.
3ـ وقفت ام رأة على قيس بن عب ادة فق الت « :أش كو إلي ك قل ة الف أر يف بي يت».
فق ال « :م ا أحس ن م ا وردت عن حاجته ا ،امألوا هلا بيته ا خ بزا ومسنا وحلم ا» .فه ذا
تعريض من املرأة حسن املوقع.
222
4ـ كتب عمرو بن مسعدة الكاتب إىل املأمون يف أمر بعض أصحابه وهو « :أما
بعد فقد استشفع يب فالن إىل أمري املؤمنني ليتطول يف إحلاقة بنظر أنه من اخلاصة ،فأعلمته
أن أمري املؤمنني مل جيعلين يف مراتب املستشفعني ،ويف ابتدائه بذلك تعدى طاعته» .فوقع
املأمون يف ظهر كتابه قد عرفت تص رحيك له وتعريضك لنفسك ،وقد أجبناك إليهما.
وهذا من أحسن التعريضات (.)1
بالغة الكناية
الكناية من أساليب البيان اليت ال يقوى عليها إال كل بليغ متمرس بفن القول .وما
من شك يف أن الكناية أبلغ من اإلفصاح والتعريض أوقع يف النفس من التصريح.
وإذا كان للكناية مزية على التصريح فليست تلك املزية يف املعىن املكىن عنه ،وإمنا
هي يف إثب ات ذل ك املع ىن لل ذي ثبت ل ه .فمع ىن ط ول القام ة وك ثرة الق رى مثال ال يتغ ري
بالكناية عنهما بطول النجاد وكثرة رماد القدر ،وإمنا يتغري بإثبات شاهده ودليله وما هو
علم على وجوده ،وذلك ال حمالة يكون أثبت من إثبات املعىن بنفسه.
فاملبالغة اليت تولدها الكناية وتضفي هبا على املعىن حسنا وهباء هي يف اإلثبات دون
املثبت ،أو يف إعطاء احلقيقة مصحوبة بدليلها ،وعرض القضية ويف طيها برهاهنا.
ه ذا أب و ف راس احلم داين وه و أس ري يف بالد ال روم خياطب ابن عم ه س يف الدول ة
بقوله :
__________________
( )1ارجع يف ذلك إىل املثل السائر ص 247ـ .258
223
ويف ك ل ي وم لقي ة وخط اب وق د كنت أخش ى اهلج ر والش مل ج امع
وللبح ر ح ويل زخ رة وعب اب؟ فكي ف وفيم ا بينن ا مل ك قيص ر
ففي البيت الثاين يريد أبو فراس أن يقول « :فكيف وفيما بيننا بعد شاسع» ولكنه
ك ىن عن ه ذا املع ىن بقول ه « :مل ك قيص ر وللبح ر ح ويل زخ رة وعب اب» فجم ال ه ذه
الكناية ليس يف املعىن املكىن عنه وهو «البعد الشاسع الذي يفصل بني الرجلني» وإمنا هو
يف اإلتيان مبلك قيصر والبحر الزاخر العباب وإثباته للمكىن عنه يف صورة برهان حمسوس
عليه .والكناية كاالستعارة من حيث قدرهتا على جتسيم املعاين وإخراجها صورا حمسوسة
تزخر باحلياة واحلركة وتبهر العيون منظرا.
ومن أمثلة ذلك قوله تعاىل تصويرا حلال صاحب اجلنة عند ما رأى جنته اليت كان
ِف ِه ِّل َّف ِه
يعتز هبا قد أهلكها اهلل عقابا له على شركه َ( :فَأْص َبَح ُيَق ُب َك ْي َعلى م ا َأْنَف َق يه ا َو َي
خاِو َيٌة َعلى ُعُر وِش ها َو َيُقوُل يا َلْيَتِني َلْم ُأْش ِرْك ِبَر ِّبي َأَح دًا).
فالكناي ة يف اآلي ة الكرمية هي يف قول ه تع اىل ُ( :يَق ِّلُب َك َّف ْي ِه) والص فة ال يت تل زم من
تقليب الكفني هي الن دم واحلزن ،ألن الن ادم واحلزين يعمالن ذل ك ع ادة .فتقليب الكفني
يف مثل هذا املوقف كناية عن الندم واحلزن.
فاملعىن الصريح هنا هو «فأصبح نادما حزينا» وهذا أمر معنوي تدخلت فيه الكناية
فجسمته وأظهرته للعيان يف صورة رجل اعرتاه الذهول من هول ما أصاب اجلنة اليت كان
يع تز هبا ،فوق ف يقلب كفي ه ن دما وحزن ا على أمل ه املنه ار أم ام عيني ه! وه ذا س بب من
أسباب بالغة الكناية.
ومن صور الكناية الرائعة تفخيم املعىن يف نفوس السامعني ،حنو
224
قول ه تع اىل ( :اْلقاِر َع ُةَ .م ا اْلقاِر َع ُة؟ َو م ا َأْد راَك َم ا اْلقاِر َع ُة؟) «فالقارع ة» كناي ة عن
«القيام ة» وق د ع دل عن التص ريح بلف ظ «القيام ة» إىل الكناي ة عن ه بلف ظ «القارع ة» ال
إلثبات ذلك املعىن للقيامة ،وإمنا إلثبات شاهده ودليله وهو أهنا تقرع القلوب وتزعجها
بأهواهلا ،وذلك تفخيما لشأن القيامة ىف النفوس.
ومن ص ورها ك ذلك التعمي ة والتغطي ة حرص ا على املك ىن عن ه أو خوف ا من ه ،
كالكناية عن أمساء النساء أو أمساء األعداء ،كقول عمر بن أيب ربيعة :
إذا ن ام ح راس النخي ل جناكم ا ذا ة حب يت وادي بوان ا خنل أي
ا اء فتاكم ول الفت وزاد على ط فطيبكم ا أرىب على النخ ل هبج ة
فق د ك ىن «بنخل يت وادي بوان ة» عن اثن تني من ص واحبه ،حرص ا على مسعتهما ،
كما كىن «حبراس النخيل» عن ذويهما خوفا منهم.
وكقوله أيضا :
على العه د ب اق وده ا أم تص رما ا تطلعا لن ذات اخلال فاس املا ب
ا د خفت أن تتيمم ا وبكم ق بن ة وى أجنبي وال هلا :إن الن وق
فق د ك ىن «ب ذات اخلال» عن اس م إح دى ص واحبه حرص ا على مسعتها وص ونا
المسها عن االبتذال.
ويظه ر أن من الش عراء من ك انوا يض يقون ذرع ا بالكناي ة عن أمساء ص واحبهم
ويودون ـ لو استطاعوا ـ التصريح بأمسائهن تلذذا برتديدها ،يدلنا على ذلك قول ذي الرمة
:
ري معجم! ىن بامسها غ ه أتغ ب أحب املك ان القف ر من أج ل أن ين
225
ولعل أسلوب الكناية من بني أساليب البيان هو األسلوب الوحيد الذي يستطيع به
املرء أن يتجنب التص ريح باأللف اظ اخلسيس ة أو الكالم احلرام .ففي اللغ ات ،وليس يف
اللغة العربية وحدها ،ألفاظ وعبارات تع ّد «غري الئقة» ويرى يف التصريح هبا جفوة أو
غلظة أو قبح أو سوء أدب أو ما هو من ذلك بسبيل.
وعدم اللياقة يف النطق أو التصريح هبذه األلفاظ اخلسيسة والعبارات املستهجنة اليت
ت دخل يف دائ رة الكالم احلرام كم ا يق ول علم اء االجتم اع ق د يك ون باعث ه االمشئزاز ،
االمشئزاز مما تولده يف النفس من مشاعر وانفعاالت غري سارة ،وقد يكون باعثه اخلوف ،
اخلوف من اللوم والنقد والتعنيف ،واخلوف من أن يدمغ املرء باخلروج على آداب اجملتمع
الذي يعيش فيه.
لكل ذلك كانت الكناية هي الوسيلة الوحيدة اليت تيسر للمرء أن يقول كل شيء
،وأن يعرب بالرمز واإلحياء عن كل ما جيول خباطره حراما كان أو حالال ،حسنا كان أو
قبيحا ،وهو غري حمرج أو ملوم .وتلك مزية للكناية على غريها من أساليب البيان.
***
وبعد ...فلعل خري ما خنتم به هنا توضيحا لبعض ما ذكرناه عن الكناية أن نورد
نص ا جلأ الش اعر في ه أك ثر م ا جلأ إىل ه ذا األس لوب الرم زي س رتا لبعض م ا ال يري د أن
يصرح به .وهذا النص من قصيدة أليب فراس احلمداين بعث هبا وهو أسري يف بالد الروم
إىل ابن عمه األمري سيف الدولة يسأله املفاداة .قال :
( )1
ل دي ،وللن وم القلي ل املش رد هد ريح املس ك للجفن الق دعوت
__________________
( )1القريح :اجلريح.
226
( )1
د ذول ألول جمت ألول مب اة ،وإهنا ا ذاك خبال باحلي وم
( )2
وم ا اخلطب مما أن أق ول ل ه :ق د وم ا األس ر مما ض قت ذرع ا حبمل ه
( )3
على ص هوات اخلي ل غ ري موس د ولكن ين أخت ار م وت ب ين أيب
( )4
ولكن ين مل أنض ث وب التجل د نض وت على األي ام ث وب جالديت
فكن خ ري م دعو وأك رم منج د دعوت ك واألب واب ت رتج بينن ا
د وم إىل غ أخري ي وال أرجتي ت أنادي ك ال أين أخ اف من ال ردى
( )5
بأي دي النص ارى الغل ف ميت ة أكم د ة ولكن أنفت املوت يف دار غرب
د اء املخل ب الثن وأرغب يف كس فال ك ان كلب ال روم أرأف منكم و
طوي ل جناد الس يف رحب املقل د؟ م ىت ختل ف األي ام مثلي لكم ف ىت
ود ا مع واد إليه رع ع وأس ف إن تفق دوين تفق دوا ش رف العال
ف ىت غ ري م ردود اللس ان وال الي د و دوا لعالكم دوين تفق وإن تفق
د ام املهن رب عنكم باحلس ويض انه كم بلس دافع عن أعراض ي
__________________
( )1ألول جمتد :ألول سائل أو طالب.
( )2ق د هن ا :اس م مبع ىن حس يب ،وتس تعمل للمخ اطب ك ذلك فتق ول « :ق دك» بس كون ال دال مبع ىن
«حسبك».
( )3صهوات :مجع صهوة ،وصهوة كل شيء أعاله ،وهي هنا مقعد الفارس من ظهر الفرس.
( )4نضا الثوب ينضوه :خلعه وألقاه.
( )5الغل ف :مجع أغل ف ،يق ال قلب أغل ف ،أي أص م أو علي ه غش اء عن مساع احلق وقبول ه ،وه و قلب
الكافر.
227
228
فهرس
مقدمة 5..................................................................
نشأة علم البيان وتطوره 7.................................................
المبحث األول
فن التشبيه
أركان التشبيه 64.........................................................
طرفا التشبيه 65...........................................................
أداة التشبيه 77............................................................
وجه الشبه 83............................................................
التشبيه املقلوب 95........................................................
التشبيه الضمين 101......................................................
أغراض التشبيه 105.......................................................
غرائب التشبيه وبديعه 114................................................
حماسن التشبيه 119.......................................................
عيوب التشبيه 128.......................................................
229
المبحث الثاني
الحقيقة والمجاز
أقسام اجملاز
اجملاز العقلي 143.........................................................
اجملاز املرسل 156.........................................................
المبحث الثالث
االستعارة
االستعارة 167...........................................................
تعريف االستعارة 173....................................................
أقسام االستعارة :
االستعارة التصرحيية واملكنية 176..........................................
إجراء االستعارة 179.....................................................
االستعارة األصلية والتبعية181.............................................
االستعارة باعتبار املالئم 186..............................................
االستعارة التمثيلية 192....................................................
مكان االستعارة من البالغة 196...........................................
المبحث الرابع
الكناية
أقسام الكناية 211........................................................
كناية الصفة 212.........................................................
كناية املوصوف 215......................................................
كناية النسبة 217.........................................................
بني الكناية والتعريض 219................................................
بالغة الكناية 223........................................................
230