Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 136

‫«سنة اهلل يف القلة والكثرة‬

‫يف ضوء القرآن الكريم‬


‫وموقف املسلمني منها بني الوعي والسعي»‬

‫تأليف ‪ :‬د‪ .‬رمضان مخيس زكي الغريب‬


‫أستاذ مشارك في األزهر‪ ،‬وجامعة قطر‬

‫الطبعة األوىل ‪ 1437 :‬هـ ‪ 2016 /‬م‬


‫الطبعة األوىل ‪ 1437 :‬هـ ‪ 2016 /‬م‬

‫© حقوق الطبع والنشر حمفوظة‬


‫ملؤسسة وعي للدراسات واألحباث‬
‫الدوحة ‪ -‬قطر‬

‫«اآلراء الواردة في الكتاب ال تعبر بالضرورة عن وجهة نظر‬


‫مؤسسة وعي»‪.‬‬
‫َ َ ذَّ َ َ ُ ُّ َ َ َّ ُ ُّ َ ُ هّ‬
‫﴿قال الِين يظن َون أ َنهم مالقو َاللِ‬
‫ريةً‬ ‫كم ّمِن ف َِئة قَليلة َغل َب ْ‬
‫ت ف َِئ ًة كث ِ َ‬ ‫َ‬
‫ٍ ِ ٍ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ هّ َ ُهّ‬
‫بِإِذ ِن اللِ والل مع الصاب ِ ِرين ﴾‬

‫]‬ ‫[البقرة‪٢٤٩ :‬‬


‫املقدمة‬

‫مقدمة‬
‫أمحد هللا رب العاملني‪ ،‬وأصلي وأسلم على املبعوث رمحة وهداية للعاملني‪ٍ ،‬‬
‫حممد ﷺ وآله‬
‫وصحبه والتابعني‪ ،‬اللهم إان نربأ من حولنا وطولنا وقواتنا‪ ،‬ونلوذ حبولك وطولك وقوتك‪ ،‬فال‬
‫تكلنا إىل أنفسنا طرفة عني وال قبضتها اي أرحم الرامحني‪ ،‬اللهم إان نسألك اي حنان اي منان اي‬
‫بديع السماوات واألرض اي ذا اجلالل واإلكرام أن جتعل أقوالنا وأعمالنا وحركاتنا وسكناتنا لك‬
‫خالصة إنك على كل شيء قدير‪ ،‬اللهم إان نسألك إمياان ال يرتد‪ ،‬ونعيما ال ينفد‪ ،‬وقرة عني‬
‫ال تنقطع‪ ،‬ونسألك مرافقة النبيني يف اجلنة‪...‬‬
‫أمس احلاجة إىل استلهام رأي القرآن الكرمي‬ ‫ِ‬
‫أما بعد‪ :‬فإن املسلمني اليوم‪ ،‬وكل يوم يف ّ‬
‫يف قضاايهم وتصوراهتم‪ ،‬وهم اليوم يعيشون عصرا تتنازعه األفكار من كل صوب‪ ،‬وتتناوشه‬
‫النظرايت البشرية من كل حدب‪ ،‬ويف هذا الضجيج من الرؤى املتباينة‪ ،‬والتقدم التقين الباهر‬
‫يشعرون ابلقلة والذلة‪ ،‬وبعضهم يشعر فكراي أو عملياً أبن التدين عامة سبب من أسباب‬
‫جرمت‬‫وحرمت بل َّ‬ ‫الرجوع احلضاري‪ ،‬خالطني بني دايانت عزلت أصحاهبا عن واقع احلياة َّ‬
‫التقدم والعلم واملعرفة‪ ،‬وما هنض أتباعها إال بعد أن قالوا‪(:‬اشنقوا آخر قيصر أبمعاء آخر‬
‫قسيس)‪ ،‬وبني دين أول كلماته‪( :‬اقرأ)‪ ،‬وتكررت فيه الدعوة إىل عمارة األرض وإاثرة خريها‬
‫وارتفاق عطائها والسري يف مناكبها‪ ،‬أكثر مما تكرر فيه احلديث عن األحكام والفروع‪ ،‬فالفروع‬
‫وحديث القرآن الكرمي عنها ال يتجاوز ‪ 11/1‬من جمموع آايت القرآن الكرمي‪ ،‬هي جممل‬
‫آايت األحكام تقريبا‪ ،‬أما عمارة األرض وخالفة احلياة فيدور أغلب القرآن الكرمي عليها وما‬
‫يقدم هلا وما يدور حوهلا من بناء اإلنسان الصاحل الذي يُصلح األرض بصالح نفسه‪ ،‬ويربطها‬
‫ابرتباطه هو ابهلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫أوال أهمية املوضوع وأسباب اختياره‪:‬‬


‫تبدو أمهية املوضوع من خالل النقاط اآلتية‪:‬‬
‫‪ -1‬أثر الوعي بسنة هللا ‪-‬تعاىل‪ -‬يف القلة والكثرة يف تغري مفاهيم الناس ورؤاهم‬
‫وتصوراهتم‪ ،‬ومن مث يف أفعاهلم وسلوكهم مبا يتناسب مع سنن هللا اجلارية واخلارقة يف القلة‬
‫والكثرة‪.‬‬
‫‪ -2‬حتديد مهمة القلة يف هنضة األمم من عثرهتا وقيامها من كبوهتا شأن القلة يف كل‬
‫زمان ومكان‪ ،‬واليت تسميها السنة املطهرة‪( :‬الراحلة)‪.‬‬
‫‪ -3‬حاجة األمة اليوم إىل هذه الرايدة الفكرية والعلمية والعملية اليت أتخذ بيدها لتنهض‬
‫من الوهدة‪ ،‬وتقال من العثرة‪ ،‬وتقوم من تلك الكبوة اليت تردت فيها إثر بعدها كالً أو بعضا‬
‫عن منهاج الصالح والفالح يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ولدراسة هذه القضية أسباب دفعتين إليها‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬التأكيد الذي ال يمُ ل منه‪ :‬أن املرجعية العليا للمسلمني يف تصوراهتم ومنطلقاهتم‪،‬‬
‫كمه يف كل قضية‪ ،‬وفصله يف كل‬ ‫ومعاشهم‪ ،‬ومعادهم‪ ،‬هي القرآن الكرمي‪ ،‬يفيدون منه ُح َ‬
‫مسألة‪.‬‬
‫‪ -2‬أثر غياب هذه املرجعية من أذهان بعض املسلمني يف اهلزمية النفسية‪ ،‬والرتاجع‬
‫الفكري‪ ،‬وبدؤهم من الصفر‪ ،‬دون اإلفادة من عطاء القرآن وهديه مما يوفر عليهم جتارب بشرية‬
‫ثبت فشلها حىت عند أصحاهبا‪.‬‬
‫‪ -3‬أثر املدنية الغربية يف �بَْهرها و�قَْهرها لكثري من املسلمني‪ ،‬وزعزعة بعض املفاهيم‬
‫لديهم‪ ،‬وشعورهم ابلقلة حنوها‪.‬‬
‫‪ -4‬أتكيد القرآن والتاريخ والواقع املعيش‪ :‬أن هنضات األمم تقوم على القلة الفاعلة‬
‫املؤثرة‪.‬‬
‫ثانيا مشكلة البحث‪:‬‬
‫تدور مشكلة البحث حول توصيف وتوظيف آايت القرآن الكرمي لسنة هللا ﷻ يف القلة‬
‫والكثرة‪ ،‬وبيان موقف املسلمني من الوعي هبذه السنة‪ ،‬والسعي هبا يف التدافع احلضاري بني‬
‫السنَنِيّة يف تلك القضية‪.‬‬
‫احلق والباطل‪ ،‬ومدى إفادهتم من منهجية القرآن الكرمي لبيان هذه ُّ‬

‫‪6‬‬
‫املقدمة‬

‫ثالثا أسئلة البحث‪:‬‬


‫السؤال األساس هلذه الدراسة هو‪:‬‬
‫ما سنة هللا يف القلة والكثرة؟ وما موقف املسلمني منها بني اإلعمال واإلمهال؟ ويتفرع‬
‫عنه أسئلة أخرى هي‪:‬‬
‫‪ -1‬ما مفهوم القلة والكثرة يف القرآن الكرمي؟‬
‫‪ -2‬ما دوران القلة والكثرة يف القرآن الكرمي؟‬
‫‪ -3‬ما مدى ظهور اجلانب السنين يف القلة والكثرة؟‬
‫‪ -4‬ما موقف املسلمني من السننية يف القلة والكثرة‪ ،‬وإفادهتم منها يف الشهود احلضاري‬
‫لألمة املسلمة؟‬
‫‪ -5‬ما موقف القلة احملمودة من الرايدة لألمة املسلمة؟‬
‫رابعا أهداف الدراسة‪:‬‬
‫ميكن حصر أهداف الدراسة من خالل اإلجابة على األسئلة السابقة يف اآليت‪:‬‬
‫‪ -1‬حتديد مفهوم سنة هللا يف القلة والكثرة يف اللغة والقرآن الكرمي‪.‬‬
‫‪ -2‬معرفة دوران كلمة القلة والكثرة يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫‪ -3‬إبراز اجلانب السنين يف القلة والكثرة من خالل حديث القرآن الكرمي عنهما‪.‬‬
‫‪ -4‬أثر الوعي ابجلانب السنين للقلة والكثرة يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة‪.‬‬
‫‪ -5‬رايدة القلة احملمودة لنهضة األمة كما يصورها ويدعمها القرآن الكرمي‪.‬‬
‫ً‬
‫خامسا‪ :‬حدود الدراسة‪:‬‬
‫تقتصر الدراسة على حصر اآلايت اليت تتناول القلة والكثرة ومتضي على املنهج‬
‫املوضوعي الوسيط الذي يسعى إىل حصر اآلايت اجلامعة للصورة القرآنية الشاملة عن سننية‬
‫القلة والكثرة يف القرآن الكرمي‪ ،‬واالستعانة على فهم ذلك ابلتفاسري املعتمدة‪ ،‬والعلوم اإلنسانية‬
‫املتاحة‪ ،‬وما أنتجه علم االجتماع اإلسالمي حسب الطاقة البشرية‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬منهج البحث وأداته‪:‬‬‫ً‬
‫يستخدم الباحث املنهج الوصفي واالستقرائي واالستنباطي‪ ،‬حسب طبيعة التناول‪،‬‬
‫وكانت أداته مجع اآلايت ذات الصلة ابملوضوع‪ ،‬وحتليلها‪ ،‬واستنباط اخلصائص‪ ،‬والسمات‪،‬‬
‫واألسباب‪ ،‬والشروط‪ ،‬واألهداف املتعلقة بسنة هللا يف القلة والكثرة‪ ،‬اعتمادا على ما كتبه‬
‫‪7‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫علماء التفسري واللغة‪ ،‬وما يدعم ذلك من ومضات السنة النبوية املطهرة‪ ،‬وما خيدم هدف‬
‫البحث من الدراسات اإلنسانية‪ ،‬دون اإلفراط يف الشروح؛ حرصا على عدم خروج البحث‬
‫عن مساره‪.‬‬
‫وحرصت على مجع اآلايت املتعلقة ابملوضوع‪ ،‬مث تصنيفها من حيث أمجعُها للقضية‪،‬‬ ‫َ‬
‫ورتبتها من حيث املكيةُ واملدنيةُ‪ ،‬حىت تعطي صورة كاملة عن القضية ‪ -‬والزمن جزء من رسم‬
‫وحرصت على أن تكون العناصر املعنونة من صميم اآلايت القرآنية؛‬
‫َ‬ ‫تلك الصورة الصادقة‪،-‬‬
‫جراي على املعتمد من املناهج يف هذا اللون من ألوان التفسري املوضوعي(((‪ ،‬أما يف الشرح‬
‫واالستنباط‪ ،‬فأفدت من كتب التفسري يف كل املدارس من مأثور ورأي‪ ،‬فمررت على مدارس‬
‫متعددة وألوان متباينة‪ ،‬زماان‪ ،‬ومكاان‪ ،‬واجتاها‪ ،‬ومنهاجا‪ ،‬وفكرا‪ ،‬كما أفدت من السنة‪ ،‬وهي‬
‫الشارح الُ ِمبني والُ َمبِّني آلايت القرآن الكرمي‪ ،‬وأفدت مما قدمه اجلهد البشري من دراسات‬
‫إنسانية أو عربية يف هذا الصدد‪ ،‬حسب الطاقة والوسع‪ ،‬وحسب طبيعة الدراسة‪.‬‬
‫ً‬
‫سابعا‪ :‬الدراسات السابقة‪:‬‬
‫احلق أين مل أقف على دراسة علمية تتناول جانب السنن يف القلة والكثرة‪ ،‬وكل ما وقفت‬
‫عليه مقاالت ورصد آلايت القلة والكثرة‪ ،‬ومن تناول القلة والكثرة يف دراسة علمية تناوهلا من‬
‫جانب أصويل أومن جانب لغوي بعيد عن قضية الدراسة هنا‪.‬‬
‫ً‬
‫ثامنا‪ :‬هيكل البحث‪:‬‬
‫اشتمل البحث على مقدمة‪ ،‬وثالثة فصول‪ ،‬وخامتة‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها وصفاهتا وسنن هللا فيها‪ ،‬وفيه أربعة مباحث‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم سنة هللا يف القلة‪ ،‬يف اللغة‪ ،‬والقرآن‪ ،‬وورود لفظة القلة ومرادفاهتا‬
‫يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬القلة احملمودة وصفاهتا يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬املدخل إىل التفسري املوضوعي‪ ،‬ألستاذان د عبد الستار فتح هللا سعيد ط‪:‬دار التوزيع والنشر اإلسالمية‪ ،‬ط‬
‫الثانية‪1141،‬ه‪1991،‬م‪،‬ص ‪.95،06‬‬
‫‪8‬‬
‫املقدمة‬

‫املبحث الثالث‪ :‬القلة املذمومة وصفاهتا يف القرآن الكرمي‪.‬‬


‫املبحث الرابع‪ :‬مالمح السننية يف القلة‪.‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ،‬وصفاهتا‪ ،‬وسنن هللا فيها‪،‬‬
‫وفيه أربعة مباحث‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم سنة هللا يف الكثرة يف اللغة والقرآن‪ ،‬وورود لفظة الكثرة ومرادفاهتا‬
‫يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬الكثرة احملمودة وصفاهتا يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬الكثرة املذمومة وصفاهتا يف القرآن الكرمي‬
‫املبحث الرابع‪ :‬مالمح السننية يف الكثرة‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة هللا يف القلة والكثرة‪ ،‬بني الوعي والسعي‪،‬‬
‫وفيه مبحثان‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬رايدة القلة العاملة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة يف ضوء‬
‫ُسنّة هللا يف القلة والكثرة‬
‫املبحث الثاين‪ :‬فقه صناعة القلة الرائدة يف ضوء سنة هللا يف القلة والكثرة‪.‬‬
‫اخلامتة‪ ،‬وتشمل أهم النتائج والتوصيات‪.‬‬
‫فهرس املصادر واملراجع‪.‬‬
‫فهرس املوضوعات‪.‬‬
‫واهلل من وراء القصد‬

‫‪9‬‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫القِ ّلة‪ :‬مفهومها‪ ،‬وصفاهتا‪،‬‬
‫وسنن اهلل فيها‪.‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫الفصل األول‬
‫القلة‪ :‬مفهومها‪ ،‬وصفاتها‪ ،‬وسنن اهلل فيها‪،‬‬
‫وفيه أربعة مباحث‬

‫املبحث األول‬
‫مفهوم سنة اهلل يف القلة‪ ،‬يف اللغة والقرآن‪ ،‬وورودها ومرادفاتها‬
‫يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫مفهوم سنة‪ :‬السنة (هي القانون الضابط املهيمن‪ ،‬والفعل النافذ احلاكم الذي جيري‬
‫(((‬
‫ابطراد وثبات وعموم ومشول‪ ،‬مرتبًا على سلوك البشر)‪.‬‬
‫القلة يف اللسان العربي‪:‬‬
‫القلة ومادهتا يف اللسان العريب دالة على عدد من املعاين نريد أن نقف أمامها‪،‬‬‫وردت ِ‬
‫ونفيد من خالهلا ما يعيننا على حسن التعامل مع سنة هللا ﷻ يف القلة يف القرآن الكرمي‪ ،‬فالتصور‬
‫أساس السلوك‪ ،‬واحلكم على الشيء فرع عن تصوره‪.‬‬
‫ومن تتبع اللسان العريب‪ ،‬عبرْ لسان العرب‪ ،‬وأساس البالغة ‪،‬واخلصائص‪ ،‬والتهذيب‪،‬‬
‫واملقاييس‪ ،‬وما دار حول ذلك من معاجم وقواميس جند الكلمة تدور حول هذه الدالالت‪:‬‬
‫تدل املادة على االرتفاع‪ ،‬وعلى العلو‪ ،‬والتفرد‪ ،‬واالنفراد‪ ،‬وتدل على أهنا معتمد غريها‪،‬‬
‫وارتفاع غريها هبا‪ ،‬و قمة الشيء وأعاله‪ ،‬والنهضة من عثرة‪ ،‬والنهوض من علة‪ ،‬والنهوض من‬
‫فقر‪ ،‬والسرعة‪ ،‬واخلسة والدانءة‪ ،‬النذارة‪ ،‬وعدم االستقرار‪ ،‬والنقص‪ ،‬والصغر‪ .‬يكىن هبا عن‬
‫العزة وتدل على اجلهالة‪.‬‬

‫((( مفهوم السنن الرابنية من اإلدراك إىل التسخري‪ :‬للباحث‪ ،‬ط‪ :‬مكتبة الشروق الدولية‪ ،‬بتقدمي د‪ .‬حممد عمارة‪،‬‬
‫ص‪.11:‬‬
‫‪13‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫وأورد هنا من نصوص اللغة ما يؤيد ما قلناه دون إغراق يف النقل‪ ،‬بل ما متس إليه احلاجة‪،‬‬
‫(((‬
‫وتوجبه ضرورة االعتماد واالستناد‪ ،‬وحنيل يف النصوص املتشاهبة على األقدم زمنا‪ ،‬فالكل ميتح‬
‫من إانء واحد وإن اختلفت املشارب واملوارد‪ :‬غرفا من البحر أو رشفا من الدمي‪.‬‬
‫ورجل قُلٌّ‪ :‬قَصريُ اجلُثَّة»‪َ .‬وقَ َال‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫‪،‬‬‫الل‬
‫ٌ‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬‫قليل‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫�ف‬ ‫‪،‬‬‫ً‬‫ة‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫يقل قِ‬
‫قَ َال اللَّْيث‪« :‬قَ َّل الشيءُ ُّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫((( ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر َجال‪ :‬اخلسيس الدَّينءُ‪َ .‬وفيِ احلَ ِديث‪ِّ :‬‬ ‫«القل من ِّ‬
‫(الرباَ(((وإ ْن َكثُر �فَُه َو إلىَ قُ ّل) أَي‪ :‬إلىَ‬ ‫غريهُ‪ُّ :‬‬
‫ِ‬
‫أسه‪ ،‬و�قُلّةُ اجلَبَ ِل‪ :‬أ َْعلاَ هُ‪).‬‬ ‫قلّة‪ .‬قَ َال اللَّْيث‪ :‬و�قُلَّةُ كل َش ْيء‪ :‬ر ُ‬
‫صر‪ ،‬واخلسة‪ ،‬كما تدل على االرتفاع والعلو‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فهنا تدل كما هو واضح على الق َ‬
‫قل الشيء يقل قلة‪ ،‬وهو قليل‪ .‬والقل‪ :‬القلة‪ ،‬كالذل والذلة ‪...‬وفالن قل ابن قل‪ ،‬إذا‬ ‫ّ‬ ‫و(‬
‫(((‬
‫كان ال يعرف هو وال أبوه‪...‬والقلة‪ :‬قلة اجلبل‪ ،‬واستقل القوم‪ :‬مضوا لسبيلهم‪).‬‬
‫وهنا تدل تلك النصوص على جهالة املوسوم ابلقلة‪ ،‬وعدم معرفة أصوله‪ ،‬وتدل على‬
‫االرتفاع‪ ،‬والعلو‪ ،‬والسري قدما‪.‬‬
‫ْالفرق َبني ْال َي ِسري والقليل‪:‬‬
‫عدد �يَُقال قوم قَلِيل وقليلون‪َ ،‬ومن الْ ُق ْرآن (لشرذمة قَلِيلُو َن) يُِريد‬ ‫صان الْ َ‬ ‫ِ‬
‫(الْقلَّة �تَْقتَضي �نُْق َ‬
‫عدد َوِهي‬ ‫ددهم ينقص َعن عدَّة َغريهم َوِهي نقيض الْ َك�ثَْرة َولَْي َست الْ َك�ثَْرة إِلاَّ ِزياَ َدة الْ َ‬ ‫أَن َع ْ‬
‫ض ِيه‬
‫ضي ما �ي ْقتَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫است َع َارة وتشبيه واليسري من الأْ َ ْشيَاء َما �يَ�تَيَ َّسر تحَْصيله أَو طلبه َولاَ �يَْقتَ َ َ‬
‫فيِ َغريه ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عدد أَال ترى أَنه �يَُقال عدد قَليل َولاَ �يَُقال عدد يسري َولَكن �يَُقال َمال‬ ‫ِ‬
‫صان الْ َ‬ ‫الْ َقليل من �نُْق َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫لأِ‬
‫َّيء على‬ ‫اسم الش ْ‬ ‫اس ْتعمل الْيَسري فيِ َموضع الْ َقليل فقد ْجي ِري ْ‬ ‫يسري َن مجع مثله �يَ�تَيَ َّسر فَِإن ْ‬

‫وأتخ ُذ بيَ ٍد على رأس البئر‪ .‬واإلبل ْتمَتَح يف سَيرْها‪ ،‬أي‪ :‬ترا ِوح أبيديها و�تَتَ َمتَّح‪ ،‬العني‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ك ِّ‬
‫الرشاء ُتمَ ُّد بيَد ُ‬ ‫((( اَملْت ُح‪َ :‬ج ْذبُ َ‬
‫(‪.)691 /3‬‬
‫((( واحلديث ‪ :‬أخرجه ابن أيب شيبة يف املسند‪ .702/1 :‬وهو حديث صحيح‪َ ،‬شريك ‪ -‬وهو ابن عبد هللا النخعي‪،-‬‬
‫وإن كان سيئ احلفظ ‪ -‬متابع‪ .‬وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح‪ .‬حجاج‪ :‬هو ابن حممد املصيصي األعور‪ ،‬والركني‬
‫بن الربيع‪ :‬هو ابن عميلة الفزاري الكويف‪.‬وأخرجه احلاكم ‪ 73/2‬من طريق اإلمام أمحد‪ ،‬هبذا اإلسناد‪ ،‬لكن حترف فيه‬
‫َشريك إىل إسرائيل وأخرجه أبو يعلى (‪ )2405‬و (‪ )8435‬و (‪ ، )9435‬والشاشي (‪ ، )808‬والطرباين يف «الكبري»‬
‫(‪ ،)83501‬وابن عدي يف «الكامل» ‪ 3331/4‬من طرق عن شريك‪ ،‬به‪ .‬وأخرجه ابن ماجه (‪ ، )9722‬والشاشي‬
‫(‪ ، )908‬والطرباين يف «الكبري» (‪ ، )93501‬واحلاكم ‪ 73/2‬و‪ 813-713/4‬من طريق إسرائيل‪ ،‬عن الركني‪ ،‬به‪.‬قال‬
‫احلاكم‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد‪ ،‬ومل خيرجاه‪ ،‬ووافقه الذهيب‪.‬‬
‫((( هتذيب اللغة (‪ ،)232 /8‬مقاييس اللغة‪.5/3:‬‬
‫((( جممل اللغة البن فارس‪( :‬ص‪.)627 :‬‬
‫‪14‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫(((‬
‫َغريه إِذا قرب ِمْنهُ)‬
‫ع أنجْ ُ ِد‬
‫(((‬
‫َوقد َكا َن لَ ْولاَ ال ُق ُّل طَالّ َ‬ ‫صُر ال ُق ُّل الْ َفىت دون مهّه‬
‫َوقد ي ْق ُ‬
‫وإذا انتقلنا إىل الراغب األصفهاين يف املفردات وجدانه يرى أن ِ‬
‫‪(:‬القلَّةُ والكثرة يستعمالن‬
‫كل واحد من الكثرة‬ ‫الصغر يستعمالن يف األجسام‪ ،‬مث يستعار ّ‬ ‫يف األعداد‪ ،‬كما أ ّن العظم و ّ‬
‫الصغر لآلخر‪ ...‬ويكنىّ باِ لْ ِقلَّ ِة عن ال ّذلّة اعتبارا مبا قال الشاعر‪:‬‬
‫والعظم‪ ،‬ومن القلّة و ّ‬
‫(((‬
‫ــــــــــــزة للكــــــــــاثر‬
‫وإمنـــــــــــــــــا الــــــع ّ‬ ‫ولست ابألكثر منهم حصا‬
‫َ رَّ ُ‬ ‫لاً‬
‫﴿واذك ُروا إذ كنْ ُت ْم قَل ِي فَك َ‬
‫ثك ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُْ‬
‫(وعلى ذلك قوله‪َ :‬‬
‫العزة‬
‫ّ‬ ‫عن‬ ‫اترة‬ ‫هبا‬ ‫نىّ‬ ‫ويك‬ ‫‪]86‬‬ ‫اف‪/‬‬ ‫ر‬ ‫األع‬ ‫[سورة‬ ‫﴾‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫كل ما‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫وذاك‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ ْ‬
‫﴿وقل ِيل ما هم﴾ [ص‪]24 /‬‬
‫ََ ٌ‬
‫ور﴾[سورة سبأ‪]13 /‬‬ ‫الش ُك ُ‬
‫َ َّ‬ ‫ََ ٌ‬
‫﴿وقل ِيل م ِْن عِبادِي‬ ‫اعتبارا بقوله‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وحب ‪ ،‬و�قُلَّةُ اجلبل‪َ :‬ش َع ُفهُ اعتبارا بقلّته إىل ما عداه‬
‫جرة ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وجوده‪.‬وال ُقلةُ‪ :‬ما أَ�قَلهُ اإلنسان من ّ‬ ‫يعز يَِق ُّل‬
‫ّ‬
‫(((‬
‫من أجزائه‪)،‬‬
‫ويقولون‪( :‬وصعدوا قلّة اجلبل وقلل اجلبال‪ ،‬وفرس قلقل‪ :‬سريع‪ .‬ورجل قلقل‪ :‬خفيف‬
‫يستقل هبذا األمر‪ :‬ال‬
‫ّ‬ ‫مستقل بنفسه إذا كان ضابطاً ألمره‪ .‬وهو ال‬
‫ّ‬ ‫ماض‪ .‬ومن اجملاز‪ :‬هو‬
‫يطيقه‪ .‬واستقلّوا عن دايرهم‪ ،‬واستقلّت خيامهم‪ ،‬واستقل القوم عن جملسهم‪ ،‬واستقلّوا يف‬
‫استقل البناء‪ :‬أانف‪ ،‬وبناء مستقل‪ .‬واستقل فالن‬‫استقل الطائر يف طريانه‪ ...‬و ّ‬
‫مسريهم‪ .‬و ّ‬
‫الرعدة‪ .‬وبلغ املاء قلة رأسه‪ ،‬وهم‬
‫القل‪ّ :‬‬
‫غضباً‪ :‬شخص من مكانه لفرط غضبه‪ ،‬وقيل‪ :‬هو من ّ‬
‫يضربن القلل‪ ،‬ورجل طويل القلّة وهي القامة‪ .‬ورجل قليل‪ :‬صغري اجلثّة‪ ...‬ونسوةٌ قالئل‪ ،‬ورجل‬
‫يقل عن كذا‪ :‬يصغر عنه‪ .‬وتقلقل يف البالد‪ :‬طالت أسفاره‪.‬‬ ‫قليل‪ .‬وقوم أقلة‪ :‬خساس‪ .‬وهو‬
‫(‪ّ ((1‬‬
‫وقلقل احلزن دمعي‪ :‬أساله‪ ).‬وصاحب البصائر يرى معاين قريبة من املعاين اليت نص عليها‬
‫(‪((1‬‬
‫أصحاب اللسان واملفردات‬

‫((( الفروق اللغوية للعسكري‪( :‬ص‪.)252 :‬‬


‫((( املخصص‪.)54 /4( :‬‬
‫يفضل فيه عامر بن الطفيل على علقمة بن عالثة يف املنافرة اليت جرت بينهما‪ ،‬ومطلع القصيدة‪:‬‬
‫((( البيت لألعشى ّ‬
‫شاقتك من قتلة أطالهلا ‪ ...‬ابلشط فالوتر إىل حاجر‬
‫((( املفردات‪.086/1 :‬‬
‫(‪ ((1‬أساس البالغة‪.)99 /2( :‬‬
‫(‪ ((1‬بصائر ذوي التمييز يف لطائف الكتاب العزيز ‪.292 /4 :‬‬
‫‪15‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫ومن هذه التطوافة يف كتب اللغة ندرك أن القلة تستعمل يف املعاين السابقة‪ ،‬ومن تتبع‬
‫آايت القرآن يف بيان معىن القلة جند أن القرآن الكرمي تناوهلا هبذه الصورة أيضا‪ ،‬كما سريد‬
‫ذلك يف حديث القرآن عن القلة‪ ،‬ودوران الكلمة فيه‪ ،‬وهذا يشري أيضا إىل أن حديث القرآن‬
‫عن القلة تناول جوانبها ودالالهتا اللغوية‪ ،‬كما سنقف عليه بعد إن شاء هللا‪.‬‬
‫ألفاظ القلة ومقارباتها يف القرآن الكريم‬
‫ورد التعبري عن القلة يف القرآن الكرمي بعبارات متعددة دارت حول ما أييت‪:‬‬
‫‪ -1‬قليل‪ ،‬مبواطنه املتنوعة‪ ،‬وصوره املتعددة‪( :‬قليال‪ ،‬قليل‪ ،‬قليلون‪ ،‬قليلة‪ ،‬أقل)‬
‫‪ -2‬شرذمة‪.‬‬
‫‪ -3‬أمة‪.‬‬
‫‪ -4‬فريق‪.‬‬
‫كما وردت الداللة على القلة ابلنص على العدد‪ ،‬مثل‪ :‬قال رجالن‪ ،‬سبعني رجال‪،‬‬
‫عشرون صابرون‪ ،‬مائة صابرة‪ ،‬دراهم معدودة‪ ،‬اثين عشر نقيبا‪ ،‬أو ابستخدام لفظة تدل على‬
‫القلة مثل‪ :‬يستضعفون‪ ،‬يسري‪ ،‬قتور‪ ،‬أو الرتكيب الدال عليها مثل التبعيض‪ ،‬واالستثناء‪...‬‬
‫وحنو ذلك‪.‬‬
‫أنواع القلة يف القرآن الكريم‪:‬‬
‫وقد تناول القرآن الكرمي احلديث عن القلة تناوال واضحا يبني خصائصها ويربز مساهتا‪،‬‬
‫وابلتأمل يف حصر اآلايت اليت تدل على القلة صراحة أو ضمنا ميكننا أن نقسم القلة إىل‬
‫نوعني جامعني‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬القلة احملمودة‪:‬‬
‫وهي اليت ورد التعبري عنها يف القرآن الكرمي يف مقام املدح ألصحاهبا‪ ،‬والداللة على أهنم‬
‫تفردوا بسمات واتصفوا بصفات يرضاها هللا ﷻ ويدعو إليها‪ ،‬سواء كانت تلك الصفات رايدة‬
‫وسبقا يف وقت يندر فيه السبق والرايدة‪ ،‬أو إمياان يستحق أن يؤيده هللا وأيوي أهله‪ ،‬ويرزقهم‬
‫من الطيبات لعلهم يشكرون‪ ،‬أو ثباات يف ميدان القتال واجلهاد يف سبيل هللا‪ ،‬أو يقينا صادقا يف‬
‫العدد والعُدد‪ ،‬أو دواما على األمانة وبعدا عن اخليانة‪ ،‬أو سبقهم يف‬
‫نصرة هللا على الرغم من قلة َ‬
‫العلم واملعرفة‪ ،‬أو شكرهم على العطاء مع قلة الشاكرين وكثرة اجلاحدين‪ ،‬أو عدالتهم يف الشركة‬
‫‪16‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫واخللطة‪ ،‬وبعدهم عن البغي على اخللطاء‪ ،‬أو رضاهم مبا قسم هللا هلم من زخرف الدنيا وزينة‬
‫احلياة‪ ،‬مع إمياهنم ورؤيتهم لكثرة مال الكافرين اجلاحدين وولدهم‪ ،‬وحنو ذلك مما سنقف عليه‬
‫تفصيال عند تناول اآلايت الكرمية إن شاء هللا‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬القلة املذمومة‪:‬‬

‫وهي اليت ورد احلديث عنها بصورة تنفر منها‪ ،‬وتبعد عنها‪ ،‬وتدل على اتصاف أصحاهبا‬
‫بصف����������ات ال يرضاها هللا ﷻ‪ ،‬وال تقبلها الفطر الس����������وية‪ ،‬والنفوس األبي����������ة‪ ،‬ينعى القرآن على‬
‫أصحاهب����������ا‪ ،‬وحيذر من مغبة امليل إليها‪ ،‬مثل وصف ما لدى املفرتين أبنه ليس فالحا بل متاع‬
‫قليل‪ ،‬ال يلبث أن يزول وحيول‪ ،‬أو أن أماهنم ال يستمر‪ ،‬وعدواهنم على املرسلني ال يدوم‪ ،‬بل‬
‫عما قليل ليصبحن اندمني‪ ،‬اندمني على إنكارهم وش����������نيع صنيعهم مع األنبياء واملرس����������لني‪ ،‬أو‬
‫وصف ش����������كرهم مع عظم ما ينعم به عليهم أبنه قليل‪ ،‬ال يتناس����������ب مع حقيق الشكر وواجب‬
‫االعرتاف‪ ،‬أو وصف التذكر الصادر من بعض البش����������ر أبن����������ه قليل على الرغم من توفر دواعي‬
‫التذكر‪ ،‬وأس����������باب التفكر‪ ،‬أو النكري عليهم أهنم اس����������تبدلوا الذي ه����������و أدىن ابلذي هو خري‪،‬‬
‫فيشرتون آبايت هللا مثناً قليالً‪ ،‬ويبيعون دينهم بعرض من الدنيا زائل‪ ،‬وعطاء من احلياة حائل‪،‬‬
‫أو وصف متاع احلياة أبنه يف جنب اآلخرة قليل‪ ،‬أو النعي على بين إس����������رائيل أبهنم ال يؤمنون‬
‫إال قليالً‪ ،‬أو وصف متعتهم وفرحهم يف احلياة أبنه قليل‪ ،‬أو أهنم ال أيتون البأس إال قليالً‪ ،‬وحنو‬
‫ذلك مما سيتضح عند تناول اآلايت الكرمية إبذن هللا‪.‬‬
‫ولنتناول أوال القلة احملمودة وصفاهتا يف الصفحات القادمة‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫املبحث الثاني‬
‫القلة احملمودة صفاتها وخصائصها يف القرآن الكريم‬

‫ومن خالل تتبع اآلايت الكرمية ميكن أن نتبني القلة احملمودة ‪ ،‬وأهم مساهتا على النحو‬
‫التايل‪:‬‬
‫القلة هم اخلالصة املصطفاة والبقية املنتقاة‬
‫القلة احملمودة هي يف كل مكان اخلالصة املصطفاة‪ ،‬والبقية املنتقاة‪ ،‬املنتقاة من كل‬
‫شيء‪ :‬زماان‪ ،‬ومكاان‪ ،‬وأفرادا‪ ،‬ومعادن‪ ،‬هم الرواحل اليت تتحمل إذا َك َّل غريها‪ ،‬وتصرب إذا َم َّل‬
‫سواها‪ ،‬حتمل محلها وكثريا من محل غريها‪ ،‬فهي الرائدة يف املتاهة‪ ،‬وهي القائدة يف اضطراب‬
‫األمور‪ ،‬ولقد قيل يف واحد من مثل هذه النماذج‪ ،‬وهو صاحب عمامة علمية رائدة‪:‬‬
‫أولت عمامتك العمائم كلها فخراً تقاصر دونه التيجان‬
‫إن الزعـــامة والطــــــــــريق خمُوفَةٌ غريُ الزعامة والطريق أمـــان‬
‫تلك القلة هي اليت تقل عند الطمع‪ ،‬وتكثر عند الفزع‪ ،‬فهم ‪ -‬حبق خالصة جنسهم‪ ،‬وبقية‬
‫نوعهم‪ ،‬ولقد تبني من خالل َس ْوق القرآن الكرمي لتلك النماذج القليلة ما يؤكد تفردهم‬
‫وندرهتم‪ ،‬وقلتهم (مبا تعنيه مادة القلة من داللة) فيما يتصفون به‪ ،‬وإذا طالعنا القلة اليت عربت‬
‫البحر مع طالوت‪ ،‬عرفنا إىل أي مدى تتضح فيهم تلك الصفة‪ ،‬فهم قلة لكنهم هم‪ ،‬هم‬
‫وحدهم الذين عربوا النهر مع طالوت‪ ،‬وهم هم وحدهم الذين أدركوا واعني قوانني هللا يف النصر‬
‫واهلزمية إدراكا عمليا‪ ،‬وإن أدركه غريهم إدراكا ثقافيا معرفيا‪ ،‬وسيَبِني لنا يف الصفحات القادمة‬
‫كم كانوا واعني بل واعبني(‪ ((1‬لقيَم يندر أن جيمعها سواهم‪ ،‬ويقل وجودها فيمن عداهم‪،‬‬
‫وتلك من سنن هللا ﷻ يف خلقه وانموسه يف عباده‪ ،‬لقد سئل احلسن عن الذين عربوا النهر‬
‫ال‪ :‬بلَى‪َ ،‬ولَ ِكن تفاضلوا بمِ َا شحت‬ ‫س الْ َق ْوم جمَِ ًيعا َكانُوا ُمؤمنني الَّذين جاوزوا ؟! ف َق َ‬
‫َ‬ ‫‪(:‬أَلَْي‬
‫أنفسهم من الجِْ َهاد فيِ َسبيله)(‪.((1‬‬
‫َّيء وعبا وأوعبه‪ :‬واستوعبه‪ :‬أخذه أجمْ ع‪ ،‬احملكم واحمليط األعظم‪.)773 /2( :‬‬
‫(‪ ((1‬وعب الش ْ‬
‫(‪ ((1‬تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني‪.)842 /1( :‬‬
‫‪18‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫فالذين عربوا النهر كانوا كلهم مؤمنني لكن الذين صربوا‪ ،‬وصابروا‪ ،‬ودعوا غريهم إىل‬
‫ين يَظُنُّو َن أهنم مالقوا هللا (أي‪� :‬يَ�تَ�يََّقْنون أَ�نَُّه ْم ُمالقُوا‬ ‫َّ ِ‬
‫املصابرة هم خالصة هؤالء‪ ،‬فهؤالء َ الذ َ‬
‫ص من أهل البصرية‪ ،‬قالوا‪ :‬ال تفزعوا من كثرة عددهم‬ ‫هَِّ‬
‫اب الشهادة وهم اخلُْل ُ‬ ‫الل ويتوقعون ثو َ‬
‫الل مع َّ ِ‬ ‫َكم ِمن فِئ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَبت فِئةً َكثِريًة بإِِ ْذ ِن هَِّ‬
‫ين ابلنصر‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫الل وإرادته ومعونته‪َ ... ،‬و هَُّ َ َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫(‪((1‬‬
‫واملعونة)‪.‬‬
‫و(كذلك اخلواص يف كل وقت يقل عددهم ولكن جيل قدرهم‪ ((1().‬وتلك القلة اليت‬
‫يصطفيها هللا ﷻ هي اخلالصة اليت يقوم عليها بناء احلياة‪ ،‬وتنهض هبا الرايدة والقيادة‪ ،‬وتتقدم‬
‫األمم‪ ،‬وتستعاد القيم‪ ،‬واملتأمل لكل قليل يف احلياة واألحياء جيده بقية جنسه‪ ،‬وخالصة نوعه‪،‬‬
‫فالذهب سيد املعادن وهو بينهم قل‪ ،‬واألنبياء هم رواد األمم وهم بني أقوامهم قلة‪ ،‬والدعاة‬
‫الصادقون هم األدالء للبشر وهم بني املدعوين قلة‪ ،‬واألزمنة املفضلة بني سائر األزمنة قلة‪،‬‬
‫واألماكن املقدسة بني األماكن قلة‪:‬‬
‫تعــــــــــــريان أنّـــــا قــــليل عــــــديــــــــــدان فقـــــلت هلا إن الكـــرام قلــــــيل‬
‫ومـــــا ضــــــران أان قـــــــليل وجــــــاران عزيز وجـــــار األكــــــثرين ذليل‬
‫وما مات منا سيد حتف أنفه وال طل منا حيث كان قتـيل‬
‫(‪((1‬‬
‫إذا مــــــات منا سيد قام ســــــيد قؤول ملا قال الكـــــــــــــرام فعول‬
‫فهذه القلة على الرغم من أهنا يف عني غريها قلة‪ ،‬إال أهنم يف واقع العمل كثرة؛ ألهنم قلة‬
‫عاملة‪( ،‬والقلة العاملة هتزم الكثرة النائمة)‪.‬‬
‫هم املنصورون يف كل زمان‬
‫املتتب����������ع آلايت القلة يف القرآن الكرمي‪ ،‬والراصد لطبيع����������ة القلة يف واقع احلياة واألحياء‬
‫جي����������د أن القلة العاملة يف كل زمان هم املنصورون‪ ،‬ملا يش����������تملون عليه من مسات وخصائص‪،‬‬
‫تع����������وض قلة عددهم بكثرة يقينهم واعتمادهم‪ ،‬وببذهلم م����������ا ال يبذله غريهم من الكثرة النائمة‬
‫اهلائمة‪ ،‬اليت تقف عند حدود الش����������كل واملظهر فتغرهم كثرهت����������م وخيدعهم عددهم‪ ،‬والراصد‬
‫لنص����������ر املؤمنني يف غزواهتم كلها جيد أهنم مل يبلغوا ع����������دد عدوهم‪ ،‬بل مل يتعدوا ثلث عدوهم‪،‬‬

‫(‪ ((1‬البحر املديد يف تفسري القرآن اجمليد‪.)772 /1( :‬‬


‫(‪ ((1‬لطائف اإلشارات ‪)391 /1( :‬‬
‫(‪ ((1‬البيان والتبيني‪ ،281/3 :‬والعقد الفريد‪632/1:‬‬
‫‪19‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫واملعركة الوحيدة اليت قالوا فيها (لن نغلب اليوم من قلة)(‪ ،((1‬هي املعركة اليت س����������جل القرآن‬
‫الكرمي عليهم فيها اهلزمية‪ ،‬ونسبها إىل هذه الكثرة َاملعجبة‪ ،‬والعدد الذي اعتمدوا يف حساهبم‬
‫َ َ ْ َ رَ َ ُ ُ هَّ ُ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ نْ ْ ْ َ َ ْ ُ ْ َ رْ َ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ثتك ْم فل ْم تغ ِن عنك ْم ش��يْ ًئا‬ ‫ي إِذ أعجبتكم ك‬ ‫عليه‪﴿،‬لقد نصك َم الل يِف مواطِن كثِري ٍة ويوم حن ٍ‬
‫يَّ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ْ ُ أْ‬
‫ك ُم ال ْر ُض ب ِ َما َر ُح َب ْت ُث َّم َولْ ُت ْم ُم ْدب ِ ِر َين﴾ س����������ورة التوبة‪( .)25( :‬فالقليل من ذوي العزائم‬ ‫وضاقت علي‬
‫الصادقة والنفوس اليت أش����������ربت حب اإلميان وامتألت غرية عليه‪ -‬يفعل ما ال يفعله الكثري من‬
‫(‪((1‬‬
‫ذوى األهواء املختلفة‪ ،‬والنزعات املتضاربة)‬
‫وسر ذلك أن القلة احملمودة هلا حساب آخر غري حساب الكثرة املعتمدة على َعددها وعُددها‪،‬‬
‫(وق����������د يك����������ون عدوك كثرياً لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية‪ ،‬وقد تكون يف قلة من العدد‪ ،‬لكن لك‬
‫����������ب َعلَْي ِه ُم القتال �تََولَّْواْ إِالَّ‬‫رصي����������د من ألوهية عالية‪ ،‬وه����������ذا ما يريد احلق أن يلفتنا إليه بقوله‪�{:‬فلَ َّما ُكتِ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قَلِي�����ل����اً}‪ .‬كلم����������ة {إِالَّ قَلِيالً} جاءت لتخدم قضية‪ ،‬لذلك جاء يف آخر القصة قوله تعاىل‪﴿ :‬كم مِن‬
‫ّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ‬
‫ف َِئ�� ٍة قَلِيل�� ٍة غل َب ْت ف َِئ ًة كثِ َريةً بِإِذ ِن اهلل﴾ [س����������ورة‪ :‬البقرة‪ ،]249 :‬أي‪ :‬أن الغلبة أتيت إبذن هللا‪ ،‬إذن فالش����������يء‬
‫املرئ����������ي واحد‪ ،‬لكن وجهة نظر الرائني فيه ختتلف على قدر رصيدهم اإلمياين ‪ ...‬فالعدو قد يكون كثرياً‬
‫أمامنا وحنن قلة‪ ،‬وكلنا رأى العدو كثرياً ورأى نفس����������ه قليالً‪ ،‬لكن املواجيد ختتلف أان سأحسب نفسي ومعي‬
‫(‪((1‬‬
‫ريب‪ ،‬وغريي رآهم كثريين وقال‪ :‬ال نقدر عليهم؛ ألنه أخرج ربه من احلساب‪).‬‬
‫وإذا تتبعنا عدد القلة يف جيش طالوت الذين كتب هلم وهبم النصر على جالوت وجنوده‬
‫صور َعن عُثْ َمان بن َع َّفان أَنه �قََرأَ‬ ‫ثالمثائة اَّ أو َ يزيدون ْ ُقليال‪(،‬أخرج سعيد بن َمْن ُ‬ ‫وجدانهم‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫يال‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫ْ‬
‫ِن‬
‫م‬ ‫وا‬‫ب‬‫{فَ رَش ُ‬
‫بض َعة عشر عدَّة أهل بدر)‪، .‬‬
‫(‪((2‬‬
‫و‬
‫َ ْ‬ ‫ثالمثائة‬ ‫يل‬ ‫ل‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫م}‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(ألن املقاييس ليست بكثرة اجلمع‪ ،‬ولكن بنصرة احلق سبحانه وتعاىل‪ ).‬والفئة القليلة‬
‫(‪((2‬‬

‫تكون قلتها يف الظاهر املرئي للناس أما القوة املعنوية والروحية واليت هي أساس النصر فتلك‬
‫هلا مقاييس أخرى‪ ،‬مقاييس البصرية ال البصر‪ ،‬فاإلمداد على قدر االستعداد‪( ،‬والفئة القليلة‬
‫الع َدد‬‫كثرهتا يف العُدَّة و َ‬ ‫كل لوازم احلرب‪ ،‬والفئة الكثرية‪ ،‬تظهر َ‬ ‫العتَاد و ِّ‬ ‫تكون قلَّتُها يف األفراد و َ‬
‫ِ‬
‫يوضح احلق سبحانه أن‬ ‫كل لوازم احلرب‪ ،‬والفئة القليلة إمنا �تَ ْغلب إبذن هللا تعاىل‪ .‬وهكذا ِّ‬ ‫و ِّ‬
‫األسباب تقضي بغلبة الفئة الكثرية‪ ،‬لكن مشيئته سبحانه تغلب األسباب وتصل إىل ما شاءه‬

‫(‪ ((1‬انظر مسند البزار‪،821/31:‬ومستخرج أيب عوانة‪.812/4 :‬‬


‫(‪ ((1‬تفسري املراغي‪.)322 /2( :‬‬
‫(‪ ((1‬تفسري الشعراوي‪.)4401 /2( :‬‬
‫(‪ ((2‬الدر املنثور يف التفسري ابملأثور‪.)067 /1( :‬‬
‫(‪ ((2‬تفسري الشعراوي (‪.)4401 /2‬‬
‫‪20‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫هللا ﷻ‪).‬‬ ‫(‪((2‬‬

‫وألمر ما ذكر هللا ﷻ تلك النماذج يف القلة جليل النصر األول؛ يفيدون منه‪ ،‬ويقفون‬
‫عنده‪ ،‬ويقيمون دولتهم على أساس تلك املفاهيم اليت تبين احلضارة وتنشئ االستمرار احلقيق‬
‫يف رايدة الدنيا ابسم الدين‪.‬‬
‫وحري مبن انتدب نفسه لبالغ رسالة هللا للناس واستهدف إانرة الدنيا ابلدين أن يعي هذه‬
‫املفاهيم‪ ،‬حىت ال تبهره الكثرة فتقهره‪ ،‬فينتقل من دور املبهور إىل دور املقهور أو املسحور‪ ،‬أو إىل‬
‫دور احلمامة ينظر إليه الثعبان فتنشل وتنحل وكان مبكنتها أن تطري‪ ،‬وواقع األمة املسلمة اليوم‬
‫ونظرهتا للعامل الغريب خري شاهد على هذا‪ ،‬فوعي املسلم بسنة هللا يف القلة والكثرة يقيه هذه النظرة‬
‫ويعفيه من تلك الوهدة‪.‬‬
‫أهل اختبار وابتالء‬
‫ميزات القلة وصفاهتم ال أتيت هكذا ضربة الزب‪ ،‬وال تكون لكل حي‪ ،‬بل بعد تضحيتهم‬
‫مبا ال يضحي به غريهم‪ ،‬وصربهم على ما ال يصرب عليه سواهم‪ ،‬فالقلة أتيت بعد اختبار ينخل‬
‫الغث من السمني‪ ،‬ومييز اخلبيث من الطيب‪.‬‬
‫من هنا تتعرض القلة للتمحيص واالبتالء فيفوز بوصفها من حتقق بصفاهتا‪ ،‬ويبعد عنها‬
‫من ال يستطيع دفع مهرها‪ ،‬ولذا تعرض بنو إسرائيل مع طالوت لالختبار واالبتالء‪ ،‬حىت يتبني‬
‫ود ِم ْن َه َذا‬ ‫صَ‬ ‫الصابر اجملاهد من اخلائر اجلبان‪ ،‬واملقدام اجلسور من اخلائف الرعديد (فالْ َم ْق ُ‬
‫الل �تعالىَ أ َّ َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫الص ِّديق ع ِن ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫لاِ ِ ِ‬
‫ين‬
‫َن الذ َ‬ ‫الزنْد ِيق‪َ ،‬والْ ُم َواف ُق َع ِن الْ ُم َخالف‪� ،‬فَلَ َّما ذَ َكَر هَُّ ََ‬ ‫ا بْتلاَ ء أَ ْن �يَتَ َم�يََّز ّ ُ َ ّ‬
‫ب ِمْنهُ فَِإنَّهُ لاَ‬ ‫ين لاَ يَ ْشَربُو َن ِم ْن َه َذا ال�نَّْه ِر‪َ ،‬وأ َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫لهِ ِ ِ‬
‫َن ُك َّل َم ْن َش ِر َ‬ ‫يَ ُكونُو َن أ َْهلاً ََذا الْقتَال ُه ُم الذ َ‬
‫ك الْ ِقتَ ِال‪ ،‬لاَ َجَرَم أَقْ َد ُموا َعلَى‬ ‫ِ‬
‫يدةٌ َع ْن َذل َ‬ ‫يَ ُكو ُن َمأْذُوناً فيِ َه َذا الْ ِقتَ ِال‪َ ،‬وَكا َن فيِ �قَْلبِ ِه ْم �نَْفَرةٌ َش ِد َ‬
‫ِ (‪((2‬‬
‫يق َع ِن الْ َع ُد ّو‪).‬‬ ‫ف‪ ،‬و َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصد ُ‬ ‫الش ُّْرب‪� ،‬فَتَ َم�يََّز الْ ُم َواف ُق َع ِن الْ ُم َخال َ‬
‫ولكل اختبار نتيجة‪ ،‬ولكل بالء عطاء‪ ،‬ولكل شدة رخاء‪ ،‬وهللا غالب على أمره‪ ،‬ولكن‬
‫أكثر الناس ال يعلمون‪ ،‬وأتيت نتيجة اختبار القلة يف هذا املوقف مباشرة إذ يصرب على القتال‬
‫من مل يشرب من النهر أصالً‪ ،‬ويرتدد من اغرتف غرفة بيده‪ ،‬وال يقوى على العزم فضال عن‬
‫السري والقتال من عب وأترع‪ ،‬فبشم وترنح‪ ،‬وأخلد إىل األرض غري مأسوف عليه؛ ذلك أن من‬
‫مل يصرب على املاء كيف يصرب على بذل الدماء؟!‪ ،‬ومن مل يتحمل العطش كيف يتحمل وهج‬
‫(‪ ((2‬تفسري الشعراوي‪.)6546 /11( :‬‬
‫(‪ ((2‬مفاتيح الغيب‪.)905 /6( :‬‬
‫‪21‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫املاء‪ ،‬علم أنه يطيع فيما عدا ذلك‪،‬‬ ‫السيوف وتطاير األعضاء؟!‪( ،‬فمن ظهرت طاعته يف �ترك ِ‬
‫َْ‬
‫ورخص للمطيعني‬ ‫شه َوتُه يف املاء‪ ،‬وعصى األمر‪ ،‬فهو ابلعصيان يف الشدائد أحرى َّ‬ ‫ومن غلبته ْ‬
‫اع ال�نَّْفس يف هذه احلال‪.‬‬ ‫يف الغُرفة لريتفع عْنهم أذى العطَش بعض ِ‬
‫تفاع‪ ،‬وليكسروا نز َ‬
‫االر ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫طالوت‪ ،‬فمن اغرتف مْنها غرفة بيد الزهد‪ ،‬وأقبل على‬ ‫َ‬ ‫الدنْيا ب�نََه ِر‬
‫أح َس َن من شبه ُّ‬
‫ولقد ْ‬
‫التأهب آلخرته‪ ،‬وقلَّت سالمته إِالَّ‬‫أكب عليها‪ ،‬صدَّته عن ُّ‬
‫وم ْن َّ‬ ‫ما يعينه من أمر آخرته‪ ،‬جنا‪َ ،‬‬
‫(‪((2‬‬
‫الل‪).‬‬
‫يتدارَكه هَّ‬
‫أ ْن َ‬
‫(وحكمة هذا االمتحان‪ :‬ليتخلص للجهاد املطيعون املخلصون‪ ،‬إذ ال يقع النصر إالَّ‬
‫(‪((2‬‬
‫هبم)‪.‬‬
‫هم ً‬
‫دائما حلمة واحدة‬
‫املتتبع للقلة وواقعها جيد أهنا حلمة واحدة‪ ،‬وسبيكة متماسكة‪ ،‬انصهر بعضها يف بعض‪ ،‬حيرص‬
‫كل منهم على اآلخر‪ ،‬ينصحه ويعظه ويرشده ويهديه‪ ،‬ذلك ما صنعته القلة مع طالوت‪ ،‬وهذا ما‬
‫بعضهم مع بعض‪ ،‬يعرض‬ ‫عاشته القلة مع النيب ﷺ‪ ،‬ومن طالع سرية القلة معه ﷺ عرف حاهلم ِ‬
‫الواحد على أخيه ماله‪ ،‬ومتاعه‪ ،‬وزرعه‪ ،‬وضرعه‪ ،‬وعلى اجلانب اآلخر يتأىب أخوه فاألول يعطي يف‬
‫سخاء واآلخر يتعفف يف إابء‪ ،‬ومبثل تلك النماذج اليت تعطي الواجب قبل أن تطالب ابحلق‪ ،‬وتعيش‬
‫ابلفضل قبل العدل تقوم النهضات وتستمر احلضارات‪ ،‬وإذا رجعنا إىل داللة القلة وألفاظها يف اللغة‬
‫أعطتنا من املعاين ما يسند تلك النظرة‪ ،‬ويقوي تلك الفكرة‪( ،‬فالْ ِفئةُ‪ :‬الجْ م لأِ‬
‫ض ُه ْم قَ ْد‬‫اعةُ‪ََّ ،‬ن �بَْع َ‬ ‫َ ََ َ‬
‫اعةً)(‪ ،((2‬فلفظة الفئة تدل على اجلماعية والتماسك‪ ،‬كما تدل على رجوع‬ ‫ص ُاروا جمََ َ‬ ‫ض فَ َ‬ ‫فَاءَ إِلىَ �بَْع ٍ‬
‫ض ُه ْم �يَْرِج ُع إِلىَ‬ ‫َّاس م ْش�ت َّقةٌ ِمن الْ َفي ِء وهو ُّ لأِ‬ ‫بعضهم على بعض‪(،‬فَالْ ِفئةُ‪ :‬الجْ م ِ‬
‫الر ُجوعُ‪ََّ ،‬ن �بَْع َ‬ ‫اعةُ م َن الن ِ ُ َ َ ْ َ ُ‬
‫(‪َ((2‬‬ ‫َ ََ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لأِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ُم َؤ ِّخَرةُ الجَْْي ِ‬ ‫�بع ٍ ِ ِ‬
‫ش يَفيءُ إلَ�يَْها‪ ، ).‬وهم‪(:‬اجلماعة من الناس ً‬
‫قليال‬ ‫ش فئَةً‪ََّ ،‬ن الجَْْي َ‬ ‫ض‪َ ،‬ومْنهُ سمُّيَ ْ‬ ‫َْ‬
‫(‪((2‬‬
‫كان عددهم أو كثريا)‪.‬‬

‫(‪ ((2‬اجلواهر احلسان يف تفسري القرآن‪.)294 /1( :‬‬


‫(‪ ((2‬البحر املديد يف تفسري القرآن اجمليد‪.)772 /1( :‬‬
‫(‪ ((2‬مفاتيح الغيب‪)315 /6( :‬‬
‫(‪ ((2‬التحرير والتنوير‪.)994 /2( :‬‬
‫(‪ ((2‬تفسري املراغي‪.)022 /2( :‬‬
‫‪22‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫والفئة‪ ،‬اجلماعة اليت يرجع إليها يف الشدائد‪ ،‬من قوهلم‪ :‬فاء يفيء إذا رجع‪ ،‬وقد يكون‬
‫الرجل الواحد فئة تشبيها‪ ،‬وامللك فئة الناس‪ ،‬واجلبل فئة‪ ،‬واحلصن‪ ،‬كل ذلك تشبيه)(‪ ،((2‬ويف‬
‫قوهلم  َك ْم ِم ْن فِئَ ٍة اآلية‪ ،‬حتريض ابملثال وحض واستشعار للصرب‪ ،‬واقتداء مبن صدق ربه‪،‬‬
‫الل مع َّ ِ‬
‫الصاب ِر َ‬
‫ين بنصره وأتييده‪.‬‬ ‫و «إذن هللا» هنا متكينه وعلمه‪ ،‬فمجموع ذلك هو اإلذن‪َ ،‬و هَُّ َ َ‬
‫هم السابقون إىل اإلميان والناصرون للحق والدعوات‬
‫أكد القرآن الكرمي من خالل رصد آايت القلة والكثرة فيه أن السابقني إىل اإلميان‬
‫﴿ح ىَّت‬
‫َ‬ ‫تعاىل‪:‬‬
‫قال ْ َ ُ‬ ‫وتبلغ اَّهبم الرسالة‪،‬‬ ‫الدعوة‪،‬‬ ‫قلة‪ْ ،‬وهم مْ ْالذين تقوم لُّعليهم‬ ‫للدعوات‬ ‫و َالناصر َين‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫نْ‬ ‫َ ْ َ نْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ َ َ َّ ُّ ُ َ‬
‫ي َوأهلك إِل َم ْن َس َب َق َعليْهِ الق ْول َو َم ْن آ ََم َن‬
‫ي اثن ِ‬
‫ك زوج ِ‬
‫َ ْ‬
‫إِذا جاء أمرنا اَّوفار اتلنور قلنا احِل فِيها مِن ٍ‬
‫َ ٌ‬ ‫َ َ ََُ‬
‫(‪((3‬‬
‫أقر بوحدانية هللا مع نوح من قومه إال قليل‪).‬‬ ‫يقول‪(:‬وما‬ ‫َوما آ َم َن معه إِل قل ِيل ﴾ سورة هود‪)40(:‬‬
‫ّ‬
‫وعلى الرغم من إسراف كثري من املفسرين يف القول يف هذا القليل إال أننا نقف عند‬
‫ما ورد يف القرآن الكرمي‪ ،‬وال نتجاوزه‪ ،‬إمياان منا أنه لو كان يف تفصيله فائدة ملا أغفله القرآن‪،‬‬
‫قال أبو جعفر‪ (:‬والصواب من القول يف ذلك أن يقال كما قال هللا‪( :‬وما آمن معه إال قليل)‬
‫‪ ،‬يصفهم أبهنم كانوا قليال‪ ،‬ومل حيُ ّد عددهم مبقدار‪ ،‬وال خرب عن رسول هللا ﷺ صحيح‪ ،‬فال‬
‫حد من كتاب هللا‪ ،‬أو أثر عن‬ ‫حد هللا‪ ،‬إذ مل يكن ملبلغ عدد ذلك ٌّ‬ ‫ينبغي أن �يُتَجاوز يف ذلك ُّ‬
‫رسول هللا ﷺ)(‪ ((3‬وهذا القليل السابق إىل اإلميان هو الذي يلتفت إىل مراد هللا ﷻ‪ ،‬دون الوقوف عند‬
‫الظاهر‪ ،‬ف�يُ�نَِّف ُذ كما نفذ نوح والقلة املؤمنة معه‪ ،‬دون أن يتوقف عند أسباب األرض‪ ،‬بل ميتد نظره‬
‫ونظرهم إىل مسبب األرض والسماوات‪ ،‬من يف يده األسباب وهو رهبا‪ ،‬فإن نوحا  ومن‬
‫معه من القلة املؤمنة السابقة إىل إجابة دعوة التوحيد نفذوا مراد رهبم‪ ،‬على الرغم من سخرية‬
‫ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ َ لُ َّ َ َ َّ َ َ ْ َ أَ ٌ ْ َ‬
‫خ ُر وا مِن ُه قال إِن ت ْسخ ُر وا‬‫ِ‬ ‫َ‬
‫س‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ْ‬
‫الغالبة منهم‪﴿،‬و َيصن َع الفلك و كم َا مر َ عليهِ َ مل مِن ق ْ‬
‫و‬ ‫الكثرة‬
‫ُّ َ‬
‫َ‬ ‫خُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َْ ُ َ‬
‫ون َم ْن يَأتِيهِ َعذ ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ‬
‫حل عليْهِ‬ ‫َ‬
‫اب يزِ يهِ َو ي ِ‬ ‫م َِّنا فإ ِنا ن ْسخ ُر مِنك ْم ك َما ت ْسخ ُر ون ‪ 38‬فسوف تعلم‬
‫يم ‪ ﴾39‬سورة‪ :‬هود‪.38،39:‬‬ ‫َع َذ ٌ‬
‫اب ُمقِ ٌ‬

‫(‪ ((2‬احملرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز‪.)633 /1( :‬‬


‫(‪ ((3‬جامع البيان‪.)523 /51( :‬‬
‫(‪ ((3‬جامع البيان‪.)723 /51(:‬‬
‫‪23‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫فإنه (ملا حت ّقق مبا أمر هللا به مل أيبه عند إمضاء ما كلّف به مبا مسع من القيل‪ ،‬ونظر‬
‫إىل املوعود بطرف التصديق فكان كاملشاهد له قبل الوجود‪ ((3().‬فحمله ذلك ومن معه على‬
‫السمع والطاعة على الرغم من فقد األسباب وكثرة السخرية واالستعجاب‪.‬‬
‫وأما عن عدد هؤالء القلة فقد قيل‪( :‬كانوا مثانية‪ :‬نوح ِ‬
‫عليه ‪ ،‬وأهلُه‪ ،‬وبنوه الثالثةُ‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫ومخس نسوة ‪،‬وعنه أيضاً‪ :‬أهنم كانوا‬ ‫ونساؤهم‪ .‬وعن ابن إسحق‪ :‬كانوا عشرًة‪ :‬مخسةَ ٍ‬
‫رجال‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وحام وايفث‬ ‫ِ‬
‫سام ٌ‬ ‫نوح ٌ‬ ‫أوالد ٍ‬
‫عشرةً سوى نسائهم‪ .‬وقيل كانوا اثنني وسبعني رجالً وامرأةً و ُ‬
‫رجال ونص ُفهم نساء واعتبار ِ‬
‫املعية يف إمياهنم لإلمياء‬ ‫ونساؤهم فاجلميع مثانيةٌ وسبعون نص ُفهم ٌ‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫إىل املعية يف مقر األمان والنجاة) فما يكون هؤالء يف أمة أرسل إليها نوح  ؟!‬
‫(‪((3‬‬

‫إجابة احلق قلة وصف أعداء احلق هلم بسرعة إجابتهم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ومما يدل على أن السابقني إىل‬
‫َ‬ ‫َ رَ ً ْ‬ ‫اَّ‬ ‫ك َف ُر وا م ِْن قَ ْو ِمهِ َما نَ َر َ‬
‫َ َ‬ ‫ذَّ‬ ‫أَ‬ ‫ْ‬
‫﴿ف َق َال ال َ‬
‫َ‬
‫شا مِثل َنا َو َما‬ ‫اك إِل ب‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِين‬
‫ال‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫َوهذا َّما ورد اَّيف ق ذَّوله تعاىل‪ َ:‬نُ‬
‫ُ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِين ُه ْم أ َراذِلَا بَاد َِي َّ‬ ‫َ ََ َ‬
‫الرأ ِي َو َما ن َرى لك ْم َعليْ َنا م ِْن فض ٍل بَل نظ ُّنك ْم‬ ‫ك إل ال َ‬
‫ن اَ َراك اتبع ِ‬
‫َ‬
‫ك ذِبِني ﴾ سورة‪ :‬هود‪.)27( :‬‬

‫فهؤالء أسلموا ابدي الرأي‪ ،‬أي‪ :‬أول األمر‪ ،‬وفور وصول الدعوة إليهم‪ ،‬ودون تفكر بل بظاهر‬
‫من الرأي‪ -،‬يف زعمهم‪ -‬وتلك اليت عابوها عليهم هي طبيعة النفوس الصافية‪ ،‬والقلوب الرائقة الفائقة‪،‬‬
‫اليت ال حيول بينها وبني احلق حائل‪ ،‬وال مينعها من اإلميان بداية ظهوره مانع‪.‬‬
‫إن قوم نوح ملا رأوا إميان هؤالء مسرعني قالوا ما قالوا‪ ،‬وتلك عجيبة الكثرة والغالبني أن يعدوا ما‬
‫ميدح به عيبا‪ ،‬وهي سنة ماضية يف الزمان واملكان واألمم واألفراد‪:‬‬
‫(‪((3‬‬
‫كانت ذنواب فقل يل كيف أعتذر‬ ‫إذا حمــــــاسين الاليت أدل هبا‬
‫وهؤالء هم الذين حيرص عليهم وال يفرط يف صحبتهم لقد أرشد هللا ﷻ رسوله إىل‬
‫مالزمتهم؛ ألن هبم تقوم الدعوات وتنشأ احلضارات‪ ،‬وما أعظم قول هللا يف أمثال هؤالء لرسوله‬
‫ﷺ‪:‬‬
‫(‪ ((3‬لطائف اإلشارات‪.)631 /2( :‬‬
‫(‪ ((3‬إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي‪.)802 /4( :‬‬
‫(‪ ((3‬البيت للبحرتي‪ ،‬انظر ديوانه‪ 459/1:‬ت‪ :‬كامل الصرييف‪ ،‬ط‪ :‬دار املعارف‪ ،‬والبيت من قصيدته الرائية اليت ميدح‬
‫فيها علي بن مر الطائي‪ ،‬مجهرة األمثال‪ ،574/1:‬وهناية األرب‪.29/2:‬‬
‫‪24‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫اص ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ جَ‬ ‫َ لَ‬ ‫َ اَ‬ ‫َ ْ ُ َ ُ يِ َ يَ َ‬


‫ب‬‫‪ 27‬و َرِ‬ ‫تاَ َد م ِْن د و نِهِ ُمل َت َح ًد ا‬‫ِ‬ ‫اب ْ َر ّبِك ْل ُم َب ّدِل ل ِك َِما تِهِ و لن‬
‫ِ‬ ‫وح إ ِلْك م ِْن ك َِت‬ ‫﴿واتل ما أ‬
‫يد ز َ‬‫اك َعنْ ُهمْ‬
‫ُ ُ‬ ‫ون َو ْج َه ُه َو ل َت ْع ُد َعيْ َن َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ ذَّ َ َ ْ ُ َ َ َّ ُ ْ َ َ َ َ يِّ ُ ُ َ‬
‫ينة‬ ‫ت ِر ِ‬ ‫َ‬
‫ش ي ِر يد‬ ‫نف حْسك مع الِين يد عون َر بهم بِالغد ا ة ِ والع ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ْ َ َ اَ ُ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ْ ْ‬
‫طع من أ غفلنا قلبه عن ذِك ِر نا َواتب َع ه َواهُ َو ك ن أ م ُرهُ ف ُرطا ‪ ﴾28‬الكهف‪.27،28 :‬‬ ‫ال َيا ة ِ ادل نيا و ل ت ِ‬
‫َ‬

‫فلقد أمر هللا رسوله ﷺ هنا أبمرين‪ :‬تالوة ما أوحي إليه من كتاب ربه‪ ،‬والصرب مع الذين يدعون‬
‫رهبم ابلغداة والعشي يريدون وجهه‪ ،‬وأمره ﷻ أبن ال يعدو عينيه عنهم‪ ،‬فالوحي واتباع كلماته‪ ،‬والقلة‬
‫العاملة احملمودة‪ ،‬مها جناحا النصر واحلضارة ‪ ،‬ودعامتا البقاء واالستمرار‪ ،‬وهذا ما جعل نوحا ‬
‫ميتنع عن طرد القلة معه الذين وصفوا أبهنم‪( :‬أراذل)‪ ،‬من قِبَ ِل الكثرة اجلاهلة‪ ،‬ويف تعليل نوح لعدم‬
‫ص ِة فيِ قِلَّ ِة‬
‫اض لِتَ ْك ِم ِيل الْ َفائِ َد ِة ِم َن الْ ِق َّ‬
‫يل) ْاعترِ َ ٌ‬
‫ٌ‬
‫طردهم حيتاج إىل مزيد أتمل‪(،‬وجمُ لَةُ‪(:‬وما آمن معه إِلاَّ قَلِ‬
‫َ ْ َ َ َ ََُ‬
‫ِ ِ (‪((3‬‬
‫الس ِفينَ ِة أُممًَ ا لقلة َع َدده ْم)‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َركِبُوا فيِ َّ‬ ‫الصالحِِني‪( ((3().‬ولَيس الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َْ َ َ‬ ‫َّ َ‬
‫وهي كذلك السنة يف القلة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫‪..‬‬ ‫الرأ ِي﴾‬ ‫ك إ اَّل ذَّال َ‬
‫ِين ُه ْم أراذ نُِلا باد َِي َّ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ‬
‫﴿وما نراك اتبع ِ‬

‫(أي‪ :‬دون ترو وال تفكري‪..‬وهذه هتمة كذلك توجه دائماً من املأل العالني جلموع‬
‫املؤمنني‪..‬أهنا ال ترتوى وال تفكر يف اتباع الدعوات‪ .‬ومن مث فهي متهمة يف اتباعها واندفاعها‪،‬‬
‫وال يليق ابلكرباء أن ينهجوا هنجها‪ ،‬وال أن يسلكوا طريقها‪ .‬فإذا كان األراذل يؤمنون‪ ،‬فما‬
‫«وما نَرى لَ ُك ْم َعلَْينا‬
‫يليق إذن ابلكرباء أن يؤمنوا إميان األراذل وال أن يدعوا األراذل يؤمنون! َ‬
‫ض ٍل» ‪..‬يدجمون الداعي مبن تبعوه من األراذل! ما نرى لكم علينا من فضل جيعلكم أقرب‬ ‫ِم ْن فَ ْ‬
‫إىل اهلدى‪ ،‬أو أعرف ابلصواب‪ .‬فلو كان ما معكم خرياً وصواابً الهتدينا إليه‪ ،‬ومل تسبقوان‬
‫أنتم إليه! وهم يقيسون األمور ذلك القياس اخلاطئ الذي حتدثنا عنه‪ .‬قياس الفضل ابملال‪،‬‬
‫والفهم ابجلاه‪ ،‬واملعرفة ابلسلطان‪..‬فذو املال أفضل‪ .‬وذو اجلاه أفهم‪ .‬وذو السلطان أعرف!!‬
‫هذه املفاهيم وتلك القيم اليت تسود دائماً حني تغيّب عقيدة التوحيد عن اجملتمع‪ ،‬أو تضعف‬
‫آاثرها‪ ،‬فرتتد البشرية إىل عسورة هود اجلاهلية‪ .‬ويف التعقيب على قصة نوح وقومه ما حيقق‬
‫عددا من احلكم الباهرة‪ ،‬والسنن احلاكمة‪ ،‬اليت ال تتخلف وال تتبدل‪.‬‬

‫(‪ ((3‬التحرير والتنوير‪.)37 /21( :‬‬


‫(‪ ((3‬التحرير والتنوير‪.)09 /21( :‬‬

‫‪25‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫وهؤالء القلة هم السابقون إىل اإلميان يف كل زمان ومكان‪ ،‬وكما كانوا مع نوح عليه‬
‫السالم‪ ،‬كانوا مع موسى عليه السالم‪ ،‬ومع حممد‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ومع األنبياء‬
‫واملصلحني يف كل العصور وعلى تطاول الدهور‪ ،‬وكالم فرعون عن أتباع موسى عليه السالم‬
‫يظهر هذه السنة جيدا؛ إذ قال عنهم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬‫ل ِم ٌ‬ ‫َّ جَ‬ ‫َّ ُ ْ نَ َ َ ُ َ‬ ‫ٌَ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ اَ‬
‫﴿إن هؤلءِ ل رِ ْ‬
‫يع حاذ ُِرون ‪ ﴾ 56‬سورة الشعراء‪.)56-54( :‬‬ ‫شذِمة قل ِيلون ‪ِ 54‬إَونهم لَا لغائظون ‪ِ 55‬إَونا َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫فوصفهم أبهنم شرذمة‪ ،‬وهي‪ :‬الطائفة والبقية القليلة‪ ،‬فهم كانوا السابقني إىل دعوة‬
‫موسى  ‪ ،‬واملستجيبني لنداء اإلميان‪ ،‬بني هذه األعداد الغفرية اليت ذكرها املفسرون يف‬
‫عدد جيش فرعون فضال عن رعيته‪ ،‬وهكذا السابقون إىل اإلميان قلة‪�( ،‬يَْعنيِ ُه ْم قَلِيل فيِ‬
‫ٌ‬
‫ف‪َ ،‬ه َذا �تَْف ِس ُري‬ ‫ف‪ ،‬وفِرعو ُن وأَصحابه ِستَّةَ ِ‬
‫آالف أَلْ ٍ‬ ‫َكثِ ٍري‪ ،‬وَكا َن أَصحاب موسى ِس َّ ِ ِ‬
‫ت مائَة أَلْ ٍ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُُ‬ ‫َْ ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ (‪((3‬‬
‫ي‪).‬‬ ‫الس ّد ّ‬
‫ُّ‬
‫وقد حرص فرعون على وصفهم مبالزمة القلة من خالل هذا اللفظ(لشرذمة)‪ ،‬ومن‬
‫خالل مجعهم على(قليلون)‪ ،‬فهو يؤكد قلتهم هبذه الصورة لفظا ومعىن‪( ،‬وقيل‪ :‬قليلون‪ ،‬ألن‬
‫كل مجاعة منهم كان يلزمها معىن القلة؛ فلما مجع‪ ،‬مجع مجاعاهتم قيل‪ :‬قليلون)(‪ ((3‬وقد ظلمهم‬
‫فرعون هبذا الوصف‪ ،‬وبغى عليهم وعدا‪.‬‬
‫ووصف الطاغني هلم أبهنم أراذل أو شرذمة ال يقلل من سبقهم‪ ،‬وال يكدر من صفوهم‬
‫فالسابقون السابقون أولئك املقربون‪ ،‬أولئك الذين يؤمنون بال تردد‪ ،‬ويعتنقون بال صوارف‪،‬‬
‫أمن‬
‫ويقبلون بال اشرتاط‪ ،‬حسبهم أهنم عرفوا طريقهم ووجدوا ضالتهم‪ ،‬وهللا ورسوله يف ذلك ّ‬
‫أهنم َسبقوا يف اإلميان فذكرهم هللا ﷻ أبن السبق‬ ‫َ‬
‫وأكرم‪ ،‬ولقد عتب هللا على قوم زعموا‬
‫ك ْم بَل هَّ ُ‬ ‫لاَ‬
‫َّ ْ َ ُ‬ ‫لَيَ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫الل َي ُم ُّن‬ ‫أْ َِ‬ ‫﴿ي ُم ُ ُّنون َعليْك أن أ ْسل ُموا قل ل ت ُم ُّنوا ع إِس م‬ ‫وحده‪،‬‬
‫منة ْ من هللا إْ‬
‫حمض َ‬
‫ات َوال ْر ِض َو هَّ ُ‬ ‫ب َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫َ َ‬
‫الل َي ْعل ُم غيْ َ‬ ‫َّ‬
‫ِني (‪ )17‬إن هَّ َ‬ ‫ْ‬
‫يمان إن كنْ ُت ْم َصادِق َ‬‫َ‬ ‫َ َ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫َ ْ ُ ْ‬
‫الل‬ ‫او ِ‬ ‫ِ‬ ‫عليكم أن هداكم ل ِِل ِ ِ‬
‫َْ ُ َ‬ ‫بَ ِص ٌ‬
‫ري ب ِ َما تع َملون‪،﴾18‬سورة‪ :‬ق‪.)18،17( :‬‬

‫(‪ ((3‬تفسري حيىي بن سالم‪.)405 /2(:‬‬


‫(‪ ((3‬جامع البيان‪.)053 /91( :‬‬
‫‪26‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫قلة املال وعدم احتفاهلم(‪((3‬به‬


‫ومن صفات القلة الرائدة‪ ،‬أهنم ال أيهبون ابملال‪ ،‬وال حيفلون ابجلاه والسلطان‪ ،‬إال بقدر‬
‫ما حيقق أهدافهم‪ ،‬ويعينهم يف الوصول إىل غاايهتم‪ ،‬ال أيهبون مبا أيبه به الناس‪ ،‬وال يشغلون‬
‫مبا يشغل به العامة‪ ،‬ولعل سؤال النيب ﷺ ألصحابه عن رجل رث الثياب‪ ،‬رقيق احلال‪ ،‬قليل‬
‫املال‪ ،‬وآخر عظيم الثراء‪ ،‬كثري الزينة واملتاع ‪ ،‬لريسخ لديهم هذا القانون الصادق والسنة احلقيقة‬
‫«ما �تَُقولُو َن فيِ َه َذا؟»‬ ‫صلَّى هللاُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم‪� ،‬فََق َ‬ ‫ول هَِّ‬
‫ابلبقاء‪ ،‬فقد (مَّر رجل َعلَى رس ِ‬
‫ال‪َ :‬‬ ‫الل َ‬ ‫َُ‬ ‫َ َُ ٌ‬
‫ت‪،‬‬ ‫ال‪ :‬ثمَُّ َس َك َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب أَ ْن �يُْن َك َح‪َ ،‬وإ ْن َش َف َع أَ ْن يُ َش َّف َع‪َ ،‬وإ ْن قَ َ‬
‫ال أَ ْن يُ ْستَ َم َع‪ ،‬قَ َ‬ ‫قَالُوا‪ :‬ح ِر ٌّ ِ‬
‫ي إ ْن َخطَ َ‬ ‫َ‬
‫ب أَ ْن الَ‬ ‫ِ‬ ‫فيِ‬
‫«ما �تَُقولُو َن َه َذا؟» قَالُوا‪َ :‬ح ِر ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ي إ ْن َخطَ َ‬ ‫ال‪َ :‬‬ ‫ني‪� ،‬فََق َ‬
‫فَ َمَّر َر ُج ٌل م ْن �فَُقَراء املُ ْسلم َ‬
‫«ه َذا َخ�يٌْر ِم ْن‬ ‫ول هَِّ‬ ‫ال أَ ْن الَ يُ ْستَ َم َع‪� ،‬فََق َ‬ ‫�يُْن َك َح‪َ ،‬وإِ ْن َش َف َع أَ ْن الَ يُ َش َّف َع‪َ ،‬وإِ ْن قَ َ‬
‫الل ﷺ‪َ :‬‬ ‫ال َر ُس ُ‬
‫(‪((4‬‬
‫ض ِمثْ َل َه َذا»‬ ‫ِم ْل ِء األ َْر ِ‬
‫فكأن النيب ﷺ يريد أن يلفت نظر أصحابه إىل هذه السنة املاضية يف القلة وأصحاهبا‪،‬‬
‫وأهنم ال أيهبون ابلدنيا ومتاعها‪ ،‬واحلياة وزخرفها‪ ،‬أما الكرباء واألغنياء فال يرون العز والتقدم‬
‫(وما نَر َاك‬ ‫إال يف املال واجلاه والسلطان‪ ،‬فيقولون لنوح (عليه السالم)‪ ،‬مبينني له عدم إمياهنم‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ا�تَّ�بع ِ َّ ِ‬
‫الرأْ ِي» !! وهم يسمون الفقراء من الناس «أراذل» ‪..‬‬ ‫ي َّ‬ ‫ين ُه ْم أَراذلُنا‪ ،‬ابد َ‬ ‫ك إلاَّ الذ َ‬ ‫ََ َ‬
‫كما ينظر الكرباء دائماً إىل اآلخرين الذين مل يؤتوا املال والسلطان! وأولئك هم أتباع الرسل‬
‫السابقون غالباً ألهنم بفطرهتم أقرب إىل االستجابة للدعوة اليت حترر الناس من العبودية للكرباء‪،‬‬
‫وتصل القلوب إبله واحد قاهر عال على األعلياء‪ .‬وألن فطرهتم مل يفسدها البطر والرتف‪ ،‬ومل‬
‫تعوقها املصاحل واملظاهر عن االستجابة وألهنم ال خيافون من العقيدة يف هللا أن تضيع عليهم‬
‫مكانة مسروقة لغفلة اجلماهري واستعبادها للخرافات الوثنية يف شىت صورها‪ .‬وأول صور الوثنية‬
‫الدينونة والعبودية والطاعة واالتباع لألشخاص الزائلة بدالً من االجتاه هبذا كله هلل وحده دون‬
‫شريك‪.‬‬
‫فرساالت التوحيد هي حركات التحرير احلقيقية للبشر يف كل طور ويف كل أرض‪ .‬ومن‬
‫مث كان يقاومها الطغاة دائماً‪ ،‬ويصدون عنها اجلماهري وحياولون تشويهها واهتام الدعاة إليها‬
‫(‪((4‬‬
‫بشر التهم للتشويش والتنفري‪).‬‬

‫اح�تََف َل به‪ :‬ما ابلىَ ‪ :‬القاموس احمليط (ص‪.)589 :‬‬ ‫ِ‬


‫(‪ ((3‬ما َح َفلَهُ‪،‬وـ به‪ْ ،‬يحَ فلُهُ‪،‬وما ْ‬
‫(‪ ((4‬صحيح البخاري‪.)8 /7( :‬‬
‫(‪ ((4‬يف ظالل القرآن (‪.)2781 /4‬‬
‫‪27‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫إن هؤالء ال يبالون ابملال فال يشغل ابهلم‪ ،‬وال يلهثون وراء السلطان‪ ،‬فال يهز يقينهم‪،‬‬
‫وال يركعون للمنصب والوجاهة‪ ،‬فالنفوس الكبرية ال تكثر يف أعينها األشياء مهما تكاثرت‪ ،‬وال‬
‫تشغلها لعاعات الدنيا مهما أبرقت‪ ،‬ف(صانع احلياة يدوس األلقاب برجله وحيطمها‪ ،‬وميضي‬
‫يصنع احلياة من موطن التخصص والفن واإلبداع‪ .‬هو مليء النفس وال حيتاج أحداً مللئها‪.‬‬
‫الذي يُطالب ابملسؤوليات واأللقاب الدعوية والنقابة واإلمارة على املؤمنني إمنا هو العاجز‬
‫سن علماً وال ختصصاً وال فنّاً‪ ،‬فيطلب التعويض إبنعام األلقاب عليه‪ ،‬ويعارك‪،‬‬ ‫الذي ال يحُ ُ‬
‫اليس مهساً وسعياً‪ ،‬وأما املقتدر فيتقدم‬
‫ويناضل دون مكتسباته السابقة‪ ،‬وميأل الكو َ‬ ‫وخيتلف‪،‬‬
‫(‪((4‬‬
‫تقدم الواثق)‬
‫وداود  رمز من رموز القلة اليت أثرت احلياة وأنقذت بين إسرائيل من ويالت جالوت‪،‬‬
‫والصفات اليت بدا هبا تؤكد هذه الصفة لدى تلك القلة املؤثرة يف اتريخ احلياة‪ ،‬بدا ذلك يف‬
‫ثيابه اليت لقي هبا جالوت‪ ،‬ويف سالحه الذي قتله به‪ ،‬ويف عدم احتفاله بوجاهته ومنصبه‪،‬‬
‫وجنده وحاشيته‪ ،‬حىت أغاظ ذلك جالوت وكسر نفسه كسرا وهزمه هزمية وقتله أوال روحا‬
‫س ِد ْر ًعا َولاَ أَ ْن يحَْ ِم َل‬ ‫ِونفساً قبل أن ِيقتله بنياانًِ وجسداً‪َ ِ( ،‬كا َنِ غُلاَ ًما �يَْر َعى الْغَنَ َم‪َ ،‬ولمَْ �يَِْقبَ ْل أَ ْن �يَْلبَ َِ‬
‫احتَ َمى َعلَْيه إِ َذا لمَْ يَ ْستَع َّد لَهُ‪َ ،‬وقَ َال‪َ :‬ه ْل أَناَ‬ ‫وت‪َ ،‬و ْ‬‫سلاَ ًحا‪ ،‬بَ ْل حمََ َل مقْلاَ َعهُ َوح َج َارتَهُ‪ ،‬فَ َسخَر مْنهُ َجالُ ُ‬
‫ِ‬ ‫بمِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اح�تََّز َرأْ َسهُ‪َُ َ ،‬و َج ُاءَ‬
‫صَر َعهُ فَدَناَ مْنهُ فَ ْ‬ ‫اب احلجر َرأْ َسهُ فَ َ‬ ‫َص َ‬ ‫ب �فتَ ْخُر ُج إِليََّ باِ لْمقْلاَ ِع؟ �فََرَماهُ َد ُاوُد قْلاَ عه فَأ َ‬ ‫َك ْل ٌ‬
‫ِ ِ‬ ‫ف داود‪ ،‬وَكا َن لَه َّ َّ ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫الﷻ‪﴿:‬وَآتاه اهلل‬ ‫يل‪َ ،‬ك َما قَ َ‬ ‫الشأْ ُن الذي َور َث به ُم ْل َك إ ْسَرائ َ‬ ‫وت �فَعُ ِر َ َ َ ُ ُ َ ُ‬ ‫بِ ْه ْفَأَلْ َقاهُ حْإِلىَ ْ َطَالُ ََّ‬
‫ال ُمل َك َوال ِك َمة َو َعل َم ُه م َِّما يَشاءُ﴾(‪.((4‬‬
‫(شاء هللا أن يرى القوم وقتذاك أن األمور ال جتري بظواهرها‪ ،‬إمنا جتري حبقائقها‪ .‬وحقائقها‬
‫يعلمها هو ومقاديرها يف يده وحده‪ .‬فليس عليهم إال أن ينهضوا هم بواجبهم‪ ،‬ويفوا هللا بعهدهم‪،‬‬
‫مث يكون ما يريده هللا ابلشكل الذي يريده‪.‬‬
‫وقد أراد أن جيعل مصرع هذا اجلبار الغشوم على يد هذا الفىت الصغري‪ ،‬لريى الناس‬
‫أن اجلبابرة الذين يرهبوهنم ضعاف‪ ،‬ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حني يشاء هللا أن يقتلهم‪..‬‬
‫وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها هللا‪ .‬فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم‬
‫امللك بعد طالوت‪ ،‬ويرثه ابنه سليمان‪ ،‬فيكون عهده هو العهد الذهيب لبين إسرائيل يف اترخيهم‬
‫(‪ ((4‬صناعة احلياة ‪ ،‬حملمد أمحد الراشد‪.46 :‬‬
‫(‪ ((4‬تفسري املنار‪.)983 /2( :‬‬
‫‪28‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫(‪((4‬‬
‫الطويل جزاء انتفاضة العقيدة يف نفوسهم بعد الضالل واالنتكاس والشرود)‬
‫إن قيمة املرء يف نفسه‪ ،‬ومكانته هو الذي يصنعها‪ ،‬بعيدا عن زخرف الدنيا‪ ،‬وشارات‬
‫احلياة‪ ،‬وواقع الناس ينبئ بذلك إنباءً‪ ،‬فأحرص الناس على وجاهتهم وتقدمهم هم أكثر الناس‬
‫فراغا‪ ،‬فاملمتلئ من داخله ليس يف حاجة إىل من ينعم عليه بشارة أو عبارة‪ ،‬ولعل هذا من‬
‫ِح َكم هللا يف‪﴿ :‬إال من اغرتف غرفة بيده﴾؛ رمزاً للتقلل مما يثقل البدن‪ ،‬ويُعتِم النفس‪،‬‬
‫فالذي يتخفف من حاجاته األساسية يكون على ترك غريها أقدر‪ ،‬وامليدان ميدان قتال ودماء‪،‬‬
‫وبذل وأشالء‪ ،‬والذي ال يصرب على ترك املاء ال يصرب على مالقاة األعداء‪ ،‬ومقارعة األبطال‪،‬‬
‫أما الذي يكرع حىت ميتلئ‪ ،‬ويعب حىت يتورم فال يقوى على مقاومة نفسه‪ ،‬ومن ال يقوى على‬
‫مقاومة نفسه ال يقوى على مقارعة غريه‪.‬‬
‫وهم علماء فقهاء‬
‫العلم أساس احلضارة‪ ،‬به تنشأ وعليه تقوم‪ ،‬وبدونه ال تستمر وال تزدهر‪ ،‬وحضارة ال‬
‫تتبىن العلم وال تعتمد عليه حضارة شوهاء‪ ،‬ترف ‪ -‬إن رفت‪ -‬جبناح واحد‪ ،‬أو هي عرجاء‬
‫متشي – إن مشت ‪ -‬على ساق واحدة‪ ،‬من هنا كان أول ما نزل يف بناء حضارة اإلسالم‬
‫ْ َ ْ َّ ُ َ هَ َ َّ‬
‫(اقرأ)‪ ،‬ومن هنا كان العلم قبل العقيدة ﴿فاعلم أنه ال إِل إِال الل﴾‪،‬سورة‪ :‬حممد‪)19(:‬‬

‫والقلة الرائدة العاملة ال تكون مؤثرة إال ابلعلم؛ لذا ترى من أبرز صفات القلة أهنم‬
‫عاملون فاقهون‪ ،‬وهذا شأن القلة‪ ،‬تكون أكثر أهل أمتها علما‪ ،‬وأوفرها فهما ألهنم الرادة الذين‬
‫يسبقون‪ ،‬والقادة الذين يدلون قومهم إىل مواطن اهلدى والفالح‪.‬‬
‫وهؤالء العلماء هم األصفياء اخلُلَّص‪ ،‬واخلواص من عباد هللا ﷻ ؛ ولذا أطلعهم‬
‫بعلمه على معرفة عدد هؤالء األولياء من عباده‪ ،‬أهل الكهف الدعاة الصابرين الفارين بدينهم‬
‫اص ِ‬
‫عباده‪ ،‬ومن كان قريبا يف احلال‬ ‫من الظلم وأهله‪( ،‬ملا كانوا من أوليائه فال يعلمهم إال خو َّ‬
‫منهم فهم يف كتم الغرية‪ ،‬وإيواء السرت‪ ،‬ال يطّلع األجانب عليهم‪ ،‬وال يعلمهم إال قليل؛ أل ّن احلق‬
‫ﷻ يسرت أولياءه عن األجانب‪ ،‬فال يعلمهم إال أهل احلقيقة فاألجانب ال يعرفون األقارب‪ ،‬وال‬
‫(‪((4‬‬
‫تشكل أحوال األقارب على األقارب)(‪(،((4‬مث أخرب أن عامل ذلك من البشر قليل)‬
‫(‪ ((4‬يف ظالل القرآن‪.)962 /1( :‬‬
‫(‪ ((4‬لطائف اإلشارات‪.)983 /2( :‬‬
‫(‪ ((4‬الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز‪.)805 /3( :‬‬
‫‪29‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫وهؤالء العاملون هم الذين وفقوا لعلم الصواب وإصابة احلق‪( ،‬وهم الذين أصابوا الصواب‬
‫وعلموا إصابتهم‪)((4(().‬‬
‫إن هؤالء القلة هم أهل العلم بزماهنم‪ ،‬وأهل الوعي بشأهنم‪ ،‬وما يلزمهم يف وقتهم‪ ،‬وذلك‬
‫العلم أحد األسباب الرئيسة اليت تبىن عليها احلضارة‪ ،‬وتؤسس عليها الدعوة إىل هللا ﷻ‪،‬‬
‫وحتفظ هذه احلضارة من التفسخ واالحنالل‪.‬‬
‫والناظر يف القلة مع داوود يرى أهنم علماء واعبون وفقهاء فامهون‪ ،‬بدا ذلك يف ترتيب‬
‫الدعاء لديهم كما بدا يف نصحهم ملن معهم‪ ،‬وحرصهم على هدايتهم‪ ،‬ومما يدل على ذلك‬
‫ين قالوا‪﴿ :‬‬ ‫﴿كم ّمِن ف َِئ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَ َب ْت ف َِئ ٍة َكثِ َريةً بِإِذْ ِن اهلل﴾�ت ْقويةُ قلوب الَّ ِ‬
‫ذ‬ ‫َ‬
‫أيضا قوهلم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال َطاقَ َة نَلَا ايلوم بَال َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫العدد‪ ،‬وإِنمَّ ا العربةُ ابلتَّأْييد ا ِإلهلي‪ ،‬مث‬ ‫وت َو ُجنودِه ِ﴾ واملعىن‪ :‬ال ِعربة بكثرِة ِ‬ ‫جِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُ ُ َ َ ذَّ‬ ‫ََ‬
‫آم ُنوا َم َع ُه قالوا‬
‫ين َ‬ ‫ال َ‬ ‫قال‪﴿ :‬واهلل َم َع الصابرين﴾‪ .‬وهذا من تمَ ِام قوهلم‪﴿((4().‬فل َّما جاوزه هو و ِ‬
‫اَل طاقَ َة نَلَا يْالَ ْو َم بال ُ َ‬
‫اس�تََقلُّوا أَ�نُْف َس ُه ْم َع ْن لَِق ِاء َع ُد ِّوِه ْم لِ َك�ثَْرتهِِ ْم‪ ،‬فَ َش َّج َع ُه ْم‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ي‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫﴾‬
‫ِ‬ ‫ِه‬ ‫د‬‫و‬‫ن‬‫وت َو ُج ُ‬
‫جِ‬
‫ِ ٍ (‪((4‬‬
‫س َع ْن َك�ثَْرِة َع َد ٍد َولاَ ع َدد)‬ ‫ي‬‫َ‬‫ل‬ ‫الل ح ٌّق‪ ،‬فَِإ َّن النَّصر ِمن ِعْن ِد هَِّ‬
‫الل‬ ‫َن وع َد هَِّ‬ ‫عُلَ َم ُاؤُه ْم الْ َعالِ ُمو َن بأِ َّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مؤمنون باهلل‬
‫ومن صفات القلة أهنم مؤمنون ابهلل إمياان يقينيا عمليا فهم يدركون أن اإلميان أساس‬
‫لصبرِْ ‪ -‬الَّ ِذي ُه َو ِم ْن‬ ‫لاِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ص َام باِ َّ‬ ‫(إن الإِْ ميَا َن بِل َقاء هللا �تََعالىَ فيِ الآْ خَرِة‪َ ،‬وا ْعت َ‬
‫النصر والتأييد‪َّ ،‬‬
‫ص ِر الْ َع َد ِد الْ َقلِ ِيل َعلَى الْ َع َد ِد‬
‫ْ‬ ‫ان ِم ْن أسباب ن‬
‫َ‬ ‫ان ‪ -‬س�بب ِ‬
‫َ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ان الْبرِ ِ وَكمالِِه ِمن ثمََر ِ‬
‫ات الإِْ ميَ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫أَرَك ِ‬
‫ْ‬
‫َ ْ ْ َ َ َ َ ََ ْ ًَ‬ ‫َ َ ذَّ َ َ ُ ُّ َ َ َّ ُ ْ ُ لاَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك �قَْولُهُ ﷻ‪﴿ :‬قال الِين يظنون أنهم م قو اهللِ كم مِن ف ِئ ٍة قل ِيل ٍة غلبت ف ِئة‬ ‫الَْ َكثري َو َْذل َ‬
‫ُ َ َ َّ‬
‫كثِرية بإذن اهللِ َواهلل مع الصابر َ‬ ‫ًَ‬
‫(‪((5‬‬
‫ين﴾سورة البقرة‪)249( :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ ِ‬

‫وهذا اإلميان هو الذي حيملهم على التمسك مببدئهم‪ ،‬والتضحية يف سبيله‪ ،‬والصرب على‬
‫مشاقه‪ ،‬لعلمهم إن هللا انصر دينه‪ ،‬ومؤيد أهله‬

‫(‪ ((4‬تيسري الكرمي سورة الرمحن‪.)474( :‬‬


‫(‪ ((4‬اللباب يف علوم الكتاب‪.)882 /4( :‬‬
‫(‪ ((4‬تفسري ابن كثري‪ ،‬ط‪ :‬العلمية‪.)905 /1( :‬‬
‫(‪ ((5‬تفسري املنار‪.)001 /1( :‬‬
‫‪30‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫وهم أصحاب العزم‬


‫من صفات القلة أهنم أولو عزم ومثابرة‪ ،‬واملتأمل لقصة املأل من بين إسرائيل من بعد‬
‫موسى يدرك مدى عزم هؤالء الذين رأوا عدوهم أضعاف عددهم أضعافا مضاعفة‪ ،‬فما وهنوا‬
‫وما استكانوا بل صربوا يف رضا‪ ،‬ومضوا يف عزم واثقني من نصر هللا وأتييده‪ ،‬ومدده ومتكينه‪،‬‬
‫وأفرغوا هذه املعاين على من معهم داعني غريهم إىل الصرب واليقني يف موعود هللا تعاىل ابلنصر‬
‫﴿ل َطاقَ َة نَلَا يْالَ ْو َم بَال ُ َ‬ ‫اَ‬
‫وت‬ ‫جِ‬ ‫والظفر‪ ،‬وعندما قال أكثر العابرين للنهر ملا رأوا طالوت وجنوده‪:‬‬
‫﴿ك ْم م ِْن ف ِئةَ‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ال أُولُو الْ َع ْزم ِم�نْ ُه ْم‪:‬‬‫يق الْ َع ُد َّو َم َع َك�ثَْرتهِِ ْم! قَ َ‬ ‫َو ُج ُنودِه ِ﴾سورة‪ :‬البقرة‪َ ( )249(:‬كي ِ‬
‫ف نُط ُ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫َن ِع َّد َة أَه ِل ب ْد ٍر َكعِدَّةِ‬ ‫َّ‬ ‫أ‬ ‫َّث‬‫د‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫�ن‬ ‫َّا‬
‫ن‬ ‫ك‬ ‫‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫ز‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫اء‬ ‫ر‬ ‫�ب‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫‪.‬‬‫ِ﴾‬
‫هَّ‬ ‫ت ف َِئ ًة َكث ِ َ‬
‫ريةً‬ ‫قَل ِيلَة َغلَ َب ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ُ ْ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ذ‬‫ِ‬ ‫إ‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ٍ‬
‫ض َعةَ َع َشَر َر ُجلاً ‪َ -‬وفيِ ِرَوايٍَة‪َ :‬و�ثَلاَ ثَةَ َع َشَر‬ ‫ِ‬
‫ين َج َاوُزوا َم َعهُ ال�نََّهَر �ثَلاَثمُِائٍَة َوبِ ْ‬ ‫َ‬ ‫وت الَّذ‬
‫اب طَالُ َ‬ ‫َصح ِ‬
‫أَْ‬
‫(‪((5‬‬
‫َر ُجلاً ‪َ -‬وَما َج َاز َم َعهُ إِلاَّ ُم ْؤِم ٌن‪).‬‬
‫وهؤالء املؤمنون الصابرون الثابتون املصابرون هم القلة العاملة وهم خالصة غريهم‪ ،‬الذين‬
‫يثبتون عندما ينكسر غريهم وهم لعظيم إمياهنم أكثر ثقة من غريهم فهؤالء هم (اخللص منهم‬
‫(‪((5‬‬
‫الذين تيقنوا لقاء هللا وتوقعوا ثوابه‪ ،‬أو علموا أهنم يستشهدون عما قريب فيلقون هللا تعاىل‪).‬‬
‫موصولون باهلل متعلقون بدعائه‬
‫ومن صفات القلة اليت نفيدها من موقفهم مع طالوت  أهنم على صلة قوية ابهلل‬
‫ﷻ‪ ،‬بدا ذلك يف يقينهم يف أهنم مالقوه‪ ،‬وبدا كذلك يف صيغة تعبري القرآن عنهم أبهنم (الذين‬
‫يطنون أهنم مالقو هللا)‪ ،‬والظن هنا إن كان مبعىن اليقني فهو يدل على ثقتهم ويقينهم يف لقاء‬
‫رهبم‪ ،‬وإن كان على اببه فهو من هضم نفسهم حيث إهنم يف موطن الشهادة و َالقدوم على‬
‫ْ ْ َ‬ ‫َ ُ ْ‬
‫املوت‪ ،‬كما يبدو إمياهنم وحسن صلتهم ابهلل من تعبريهم يف الدعاء‪﴿ :‬قالوا َر َّب َنا أف ِرغ َعليْ َنا‬
‫ِ‬ ‫َ رْ ً َ َ ّ ْ َ ْ َ َ َ َ رُ ْ َ لَىَ ْ َ ْ ْ اَ‬
‫دامنا أي‪ّ :‬قوِ‬ ‫ت أَقْ َ‬ ‫صبا وثبِت أقدامنا وانصنا ع القو ِم الكف ِِرين﴾(وأَفْ ِر ْغ مبعىن‪ :‬اصبب‪َ ،‬و�ثَبّ ْ‬
‫(‪((5‬‬
‫قلوبنا لتثبيت أقدامنا‪ ،‬وإمنا تثبت األقدام عند قوة القلوب)‬

‫(‪ ((5‬تفسري القرطيب‪.)552 /3( :‬‬


‫(‪ ((5‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪.)151 /1( :‬‬
‫(‪ ((5‬زاد املسري يف علم التفسري‪.)722 /1( :‬‬

‫‪31‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫ويف اختيارهم الدعاء بلفظ الربوبية فيه ما فيه من وعيهم وحسن صلتهم برهبم‪ ،‬و(هذه‬
‫(ر�بَّنَآ) إنه مل يقل‪ :‬اي هللا‪ ،‬بل‬
‫هي الشحنة اإلميانية ملن يريد أن يواجه عدوه فهو ينادي قائال‪َ :‬‬
‫(ر�بَّنَآ)؛ ألن الرب هو الذي يتوىل الرتبية والعطاء‪ ،‬بينما مطلوب «هللا» هو العبودية‬ ‫يقول‪َ :‬‬
‫املوقف الصعب «اي ربنا» أي اي من خلقتنا وتتوالان‬ ‫والتكاليف؛ لذلك ينادي املؤمن ربه يف‬
‫َ ْ ْ َ َ ْ َ َ رْ ً‬
‫ومتدان ابألسباب‪ ...‬وعندما نتأمل كلمة ﴿أف ِرغ علينا َصبا﴾ تفيدان أهنم طلبوا أن ميأل هللا‬
‫ْ‬
‫﴿و َث ّبِ ْت أق َد َام َنا﴾ حىت يواجهوا العدو إبميان‪،‬‬‫َ‬ ‫قلوهبم ابلصرب ويكون أثر الصرب تثبيت األقدام‬
‫وعند هناية الصرب وتثبيت األقدام أييت نصر هللا للمؤمنني على القوم الكافرين‪ ،‬وأتيت النتيجة‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫(‪((5‬‬
‫للعزم اإلمياين والقتال يف قوله احلق‪﴿:‬ف َه َز ُموه ْم بِإِذ ِن اهلل‪﴾...‬‬
‫ويف ترتيب الدعاء‪ :‬حسن صلة‪ ،‬وجودة وعي‪ ،‬من طلب إفراغ الصرب‪ ،‬مث تثبيت األقدام‪،‬‬
‫وهو مرتب على سابقه‪ ،‬مث النصر على الكافرين‪ ،‬وهو نتيجة املقدمتني السابقتني‪ ،‬واستخدام‬
‫لفظ‪( :‬الكافرين)فيه حتضيض عليهم‪ ،‬واستجالب للنصر على هؤالء الكافرين‪ ،‬فلم يقولوا‬
‫انصران على عدوان‪ ،‬بل على القوم الكافرين‪ ،‬حتضيضا عليهم وبياان لسبب طلب نصرهم على‬
‫هؤالء الذين جحدوا هللا يف ربوبيته وألوهيته‪ ،‬ففي هذا الدعاء مع حسن الصلة ودقة الوعي‬
‫( ترتيب بليغ إذ سألوا أوالً إفراغ الصرب يف قلوهبم الذي هو مالك األمر‪ ،‬مث ثبات القدم يف‬
‫مداحض احلرب املسبب عنه‪ ،‬مث النصر على العدو املرتتب عليهما غالباً‪.‬‬
‫(‪((5‬‬ ‫�فهزموهم بإِِ ْذ ِن هَِّ‬
‫الل‪ :‬فكسروهم بنصره‪ ،‬أو مصاحبني لنصره إايهم إجابة لدعائهم‪).‬‬ ‫ََ َ ُ ُ ْ‬
‫ومن لطائف صاحب البحر مجعُه لبعض اللمسات اليت يتميز هبا يف قوله‪( :‬فَ ِزعُوا‬
‫ك إِ ْش َع ٌار‬ ‫َّال علَى الإِْ صلاَ ِح وعلَى الْم ْل ِ ِ ِ‬
‫ك‪ ،‬فَفي َذل َ‬ ‫ْ ََ ُ‬ ‫ب الد ِّ َ‬ ‫ُّع ِاء للِهَِّ ﷻ �فَنَ َاد ْوا بِلَ ْف ِظ َّ‬
‫الر ِّ‬ ‫إِلىَ الد َ‬
‫الص�بَْر َحتىَّ يَ ُكو َن ُم ْس�تَْعلِيًا َعلَْي ِه ْم‪،‬‬
‫ب َعلَْي ِه ُم َّ‬ ‫ص َّ‬ ‫باِ لْعُبُوديَّة‪َ .‬و�قَْولهُُْم‪ :‬أَفْ ِر ْغ َعلَ�يْنَا َ‬
‫ص�بًْرا ُس َؤ ٌال بأَِ ْن يَ ُ‬
‫ِِ‬
‫ض الْ ِقتَ ِال‪َ ،‬وُه َو‬ ‫اح ِ‬ ‫ف وهم َكالْمظْروفِني فِ ِيه‪.‬و�ثبِت أَقْدامنا �فلاَ �تزُّل عن م َد ِ‬
‫َويَ ُكو َن لهَُْم َكالظَّْر َ ُ ْ َ ُ َ َ َّ ْ َ َ ََ َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫الصبرِْ َسأَلُوا‬ ‫كِنَايَةٌ َع ْن تَ ْش ِجي ِع �قُلُوبهِِ ْم َو�تَْق ِويَتِ َها‪َ ،‬ولَ َّما َسأَلُوا َما يَ ُكو ُن ُم ْس�تَْعلِيًا َعلَْي ِه ْم ِم َن َّ‬
‫صِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫َي‪ :‬أعنا عليهم‪ ،‬وجاؤا باِ لْ َو ْ‬ ‫ص ْران َعلَى الْ َق ْوم الْكاف ِر َ‬
‫ين أ ْ‬ ‫اخ َها‪َ .‬وانْ ُ‬‫يت أَقْ َدام ِه ْم َوإِ ْر َس َ‬ ‫�تَثْبِ َ‬
‫َصنَ َام‪َ ،‬وفيِ �قَْولهِِ ْم‪َ :‬ر�بَّنَا‪ ،‬إِ�قَْر ٌار للِهَِّ ﷻ‬ ‫ِ لخِ ِ ِ‬
‫الْ ُم ْقتَضي ُ ْذلاَ ن أ َْع َدائ ِه ْم‪َ ،‬وُه َو الْ ُك ْفُر‪َ ،‬وَكانُوا �يَْعبُ ُدو َن الأْ ْ‬
‫ِ ِ (‪((5‬‬
‫باِ لْ َو ْح َدانِيَّ ِة‪َ ،‬وإِ�قَْر ٌار لَهُ باِ لْعُبُوديَّة‪).‬‬
‫(‪ ((5‬تفسري الشعراوي‪.)6501 /2( :‬‬
‫(‪ ((5‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪.)251 /1( :‬‬
‫(‪ ((5‬البحر احمليط يف التفسري‪ ،)295 /2(:‬اللباب يف علوم الكتاب‪،)982 /4(:‬وتفسري املنار(‪)983 /2‬‬
‫‪32‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫واعون بسنن اهلل اجلارية واخلارقة يف احلياة واألحياء‬


‫من أهم صفات القلة احملمودة واليت تظهر السننية يف هذا اجلانب أهنم على وعي ملحوظ‬
‫بسنن هللا ﷻ يف احلياة واألحياء‪ ،‬يظهر ذلك يف اجليل القرآين الفريد الذي رابه الرسول ﷺ‪،‬كما‬
‫يظهر يف كل قلة متنح النصر‪ ،‬واملتأمل للقلة مع طالوت يلحظ ذلك يف غري موضع‪ ،‬يف وعيهم‬
‫ابلدعاء‪ ،‬ومدى جلبه للنصر بعد األخذ ابألسباب‪ ،‬ويف ترتيب الدعاء‪ ،‬كما مر‪ ،‬ويف اختيار‬
‫األلفاظ ودقتها‪ ،‬ويف قوهلم‪(:‬كم من فئة قليلة غلبت فئة كثرية إبذن هللا وهللا مع الصابرين)‪،‬‬
‫فإدراكهم ملا مضى على اخللق من نصر القلة العاملة على الكثرة النائمة‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫التعبري بـ(كم) اليت تفيد التكثري‪ ،‬وقوهلم (وهللا مع الصابرين)‪ ،‬وهذه سنة من سنن هللا تعاىل‪.‬‬
‫ِِ‬
‫ت‬‫يقول أبو حيان يف البحر‪(:‬إان ال نكرتث جبالوت َو ُجنُوده َوإِ ْن َك�ثُُروا‪ ،‬فَِإ َّن الْ َك�ثَْرةَ لَْي َس ْ‬
‫ِ‬ ‫س�ببا لِلاِ نْتِصا ِر‪ ،‬فَ َكثِريا ما ا�نتصر الْ َقلِ‬
‫ك فيِ الأْ َْزم ِ‬
‫ان‬ ‫َ‬ ‫يل َعلَى الْ َكثِ ِري َولَ َّما َكا َن قَ ْد َسبَ َق َذل َ‬
‫ُ‬ ‫ً َ َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ًَ‬
‫(‪((5‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الْ َم َ َ َ ُ َ َ ْ ُوا بصيغَة‪َ :‬ك ْم‪ ،‬الْ ُم ْقتَضيَةُ للتكثري) ‪ ،‬وذلك هو عني إدراك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫برِ‬ ‫ُخ‬
‫أ‬ ‫‪،‬‬‫ك‬‫ِ‬‫ل‬ ‫ذ‬‫ِ‬‫ب‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫م‬‫ِ‬‫ل‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫اض‬
‫السنن الرابنية‪ ،‬واإلفادة منها‪.‬‬
‫كما أن املتأمل لدعائهم يلحظ فيه بوضوح هذا الوعي الراقي‪ ،‬فهم سألوا هللا ﷻ‬
‫بلفظ الربوبية‪ ،‬وهي مدار العطاء والرعاية والرتبية والعناية‪ ،‬ومل يسألوه ابأللوهية اليت هي مدار‬
‫التكليف‪ ،‬كما أهنم قالوا‪ ( :‬أفرغ ) الذي يدل على الشمول والعموم واالستيعاب‪ ،‬كما أهنم‬
‫ربطوه بلفظ‪( :‬على) الذي يدل على العلو وفيه من التمكن ما فيه‪ ،‬وتلك طبيعة القلة الواعية‬
‫للسنن يف كل زمان ومكان‪ ،‬والناظر يف أدعية النيب ﷺ والقلة املؤمنة معه يلمح هذا بوضوح‪،‬‬
‫ويلمح مدى الرتابط البديع بني صفات القلة على ترابط الزمن وتباعد األمصار‪ ،‬ففي ندائِ ِهم‬
‫ب» يُ ْشعر بذلك‬ ‫«الر َّ‬
‫َن لفط َّ‬ ‫وطلب ِإلصالحهم؛ أل َّ‬ ‫اف منهم ابلعُبُوديَّة‪ٌ ،‬‬‫«ر�بَّنَا» ( اعرت ٌ‬ ‫بقوهلم‪َ :‬‬
‫الص�بُْر ُم ْستعلِياً عليهم‪،‬‬‫«علَى» يف قوهلم «أَفْرغ َعلَ�يْنَا» طلباً؛ أل ْن يكو َن َّ‬ ‫ِ‬
‫دو َن غريها‪ ،‬وأَتوا بلفظ َ‬
‫عدوهم‪﴿ :‬‬ ‫الق ْوا‬ ‫حكى نَهللاُ عن قوم آخرين أَ�نَُّهم َ قالوا حني‬ ‫ما‬ ‫ونظريه‬ ‫‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كالظرف‬
‫رُ ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ْ َ ََّ ْ َ ََ‬ ‫َ ُ ْ َّ َ ْ ْ َ ُ ُ َ َ رْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫هلم ْ َ ُ ْ َّ‬ ‫وشامال‬
‫َ َ اَ ً َ َ‬
‫وما كن قولهم إِال أن قالوا ربنا اغ ِفر لا ذنوبنا ِإَوسافنا يِف أم ِرنا وثبِت أقدامنا وانصنا‬
‫ْ اَ‬ ‫لَىَ ْ‬
‫(‪((5‬‬
‫ع ال َق ْو ِم الكف ِِرين﴾[سورة آل عمران‪ ،]147 :‬وكذلك كان ﷺ يفعل يف املواطن‪).‬‬
‫كما تلمح وعيهم ابلسنن كذلك يف طلبهم للصرب‪ ،‬وثبات األقدام‪ ،‬وتوقع النصر هبذا‬
‫التدرج‪ ،‬وتلك هي مطالب الفئة املؤمنة للنصر على العدو وخالصتها يف ثالثة أمور‪:‬‬
‫(‪ ((5‬اللباب يف علوم الكتاب‪.)982 /4( :‬‬

‫‪33‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫(و�ثَبِّ ْ‬
‫ت أَقْ َد َامنَا)‪.‬‬ ‫الصرب على مشاهدة املخاوف وهو املراد بقوهلم‪َ :‬‬ ‫األول‪َّ :‬‬
‫الثاين‪ :‬أن يكون قد وجد من اآلالت واألدوات ما ميكنه أن يقف ويثبت‪ ،‬وال يصري‬
‫ملجأ إىل الفرار‪.‬‬
‫ص ْرناَ َعلَى ال َق ْوِم‬‫العدو؛ حىت يقهره‪ ،‬وهو املراد من قوهلم (وانْ ُ‬ ‫القوة على ِّ‬ ‫الثالث‪ :‬زايدة َّ‬
‫ِ‬
‫ال َكاف ِر َ‬
‫ين)‬
‫(‪((5‬‬

‫وهذا هو ترتيب العقل والواقع‪ ،‬مبا يشعر أبهنم واعون واعبون لسنن هللا ﷻ يف احلياة‪(،‬‬
‫ات‬‫الص�بر سبب لِل�ثَّب ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ض بحِ َس ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وه ِذ ِ‬
‫ب الأْ سباب الْغَالبَة‪ ،‬فَ َّ ُْ َ َ ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫�ب‬
‫َ‬ ‫ى‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َّب‬
‫ٌ‬ ‫ت‬
‫ر‬‫َ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ض‬
‫ُ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫�ب‬
‫َ‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫ث‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫لاَ‬ ‫�ث‬ ‫ال‬ ‫ور‬
‫ُ‬ ‫ُم‬
‫ُ‬ ‫لأْ‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫باِ‬
‫لصبرِْ املؤمنون هلل َعَّز و َج َّل الْغَال ِ‬ ‫باِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َعلَى‬ ‫َ‬ ‫َّاس َّ‬ ‫َّص ِر‪َ ،‬وأ ْ‬
‫َج َد ُر الن ِ‬ ‫ب م ْن أسباب الن ْ‬ ‫الَّذي ُه َو َسبَ ٌ‬
‫ِِ (‪((6‬‬
‫أ َْمره)‪.‬‬
‫القراءات يف اآلية الكرمية وعالقتها بالسننية يف القلة‬
‫ومن القراءات الواردة يف اآلايت الكرمية اليت تعقب على قصة املأل من بين إسرائيل ما‬
‫يفيد يف أتكيد السننية فيما حوته اآلايت الكرمية‪ ،‬فقد ورد فيها‪( :‬ولوال دفاع هللا الناس)‪ ،‬وهي‬
‫(‪((6‬‬
‫قراءة‪ :‬انفع‪ ،‬وأيب جعفر‪ ،‬ويعقوب‪ ،‬وورد فيها‪(:‬لوال دفع هللا الناس) وهي قراءة الباقني‬
‫(وقَ ْد سمََّى َه َذا َد�فًْعا َعلَى قَِراءَ ِة الجُْ ْم ُهوِر باِ ْعتِبَا ِر أَنَّهُ ِمْنهُ ُسْب َحانَهُ‪ ،‬إِ ْذ َكا َن ُسنَّةً ِم ْن ُسنَنِ ِه‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫باِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لاِ ِ‬
‫ني َوأ َْه ِل‬‫صلح َ‬ ‫اًّ‬
‫َن ُكل م ْن أ َْه ِل الحَْ ّق الْ ُم ْ‬ ‫اعا قَراءَة ناَ ف ٍع ْعتبَار أ َّ‬ ‫فيِ‬ ‫ي‪َ ،‬وسمََّاهُ دفَ ً‬‫فيِ ا ْجت َم ِاع الْبَ َشر ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين �يَُقا ِوُم الآْ َخَر َو�يَُقاتِلُهُ‪).‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الْبَاط ِل الْ ُم ْفسد َ‬
‫(‪((6‬‬

‫ولعل تذييل اآلية الكرمية هبذا التذييل ليكون هناية وتعقيبا على كل ما مضى من‬
‫اآلايت املتعلقة هبذه القصة وما قبلها‪ ،‬كما يرى صاحب التحرير والتنوير‪ :‬أن هذه اآلية‬
‫ِ‬ ‫السالَِفةُ لِتَ ْدفَع ع ِن َّ ِ‬ ‫َشار بهِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ص ِر َما‬ ‫السام ِع الْ ُم�تَبَ ّ‬ ‫َ َ‬ ‫ت َّ‬ ‫ت َا الآْياَ ُ‬ ‫ذيلت ( ُك َّل الْ َوقَائ ِع الْ َعجيبَة الَّتيِ أ َ َ ْ‬
‫ون َه ِذ ِه‬ ‫ضم ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫لهِ فيِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ فيِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يخَُام ُرهُ م ْن تَطَلُّب الحْ ْك َمة َح َدثاَ ن َهذه الْ َوقَائ ِع َوأ َْمثَا َا َه َذا الْ َعالمَ َول َك ْون َم ْ ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫الآْ يَِة ِع�بَْرًة َم ْن ِعبرَِ الأْ َ ْك َو ِان َو ِح ْك َمةً ِم ْن ِح َك ِم التَّا ِر ِ‬
‫َح ٌد‬ ‫يخ‪َ ،‬ونُظُِم الْعُ ْمَران الَّتيِ لمَْ �يَْهتَد إلَ�يَْها أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫�قبل �نز ِ ِ ِ ِ‬
‫ف‬‫ت َعلَى الْعبرَِ الْ َماضيَة َك َما عُط َ‬ ‫ول َهذه الآْ يَة‪َ ،‬و�قَْب َل إِ ْد َراك َما فيِ َمطَا ِو َيها‪ ،‬عُط َف ْ‬ ‫َْ َ ُُ‬
‫(‪ ((5‬اللباب يف علوم الكتاب‪.)982 /4( :‬‬
‫(‪ ((6‬تفسري املنار ‪.)983 /2(:‬‬
‫(‪ ((6‬القراءات العشر املتواترة‪ ،‬ص‪،14‬حممد راجح كرمي‪،:‬ط‪ :‬دار املهاجر‪ ،‬املدينة املنورة‪ ،‬ط‪ :‬الثالثة‪4141،‬هـ‪4991،‬م‪.‬‬
‫(‪ ((6‬تفسري املنار‪.)093 /2( :‬‬
‫‪34‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫َ َ‬
‫﴿وقال ل ُه ْم نَبِ ُّي ُه ْم﴾ [سورة البقرة‪َ ]247 :‬وَما بعده من ُرُؤوس الآْ ِي‪َ .‬وعدل َعن الْ ُم�تََعارف‬
‫َ‬ ‫�قَْولُهُ‪:‬‬
‫وك َسبِ ِيل الاِ ْستِ�ئْنَاف‪).‬‬
‫ِ (‪((6‬‬ ‫ف‪ ،‬وسلُ ِ‬
‫ِ‬ ‫لهِ ِ ِ‬
‫فيِ أ َْمثَا َا م ْن �تَْرك الْ َعطْ َ ُ‬
‫وما يؤكد السننية يف القلة ومهمتها يف احلياة ونظرهتا للمقاييس واملعايري‪ ،‬واستمدادهم‬
‫للقوة احلقيقية اختفاء األشخاص من العرض القرآين هبدوء وظهور احلكمة املاضية الثابتة اليت‬
‫هي سنة هللا اليت ال تتخلف وال تتأجل‪ ،‬سنته يف القلة املؤمنة الصابرة‪ ،‬والكثرة املغرورة املتكربة‪،‬‬
‫اليت تتكرر يف كل زمان ومكان‪ ،‬ويف كل عصر ومصر‪.‬‬
‫وما جرى على داود  هو ما جيري على القلة يف كل زمان ومكان فهي سنة ماضية‪،‬‬
‫وانموس ال يتبدل وال يتخلف‪ ،‬ولقد رصد لنا القرآن الكرمي منوذجا آخر من مناذج القلة‬
‫بدت يف عينه الدنيا قليلة‪ ،‬ابلنسبة إىل صادق موعود هللا ﷻ وعظيم إنعامه على املؤمنني‪،‬‬
‫إنه صاحب ذي اجلنتني‪ ،‬الذي وقف أمام صاحبه معلما ومرشدا‪ ،‬ومبينا وهاداي‪ ،‬ذاكرا له‬
‫أن القلة يف الدنيا ال تعين القلة يف اآلخرة وأن الغىن يف األوىل ليس دليال على وفرة املال يف‬
‫الثانية‪ ،‬ومقاييس العاجلة ليست مقاييس الباقية‪ ،‬وبعد حوار طويل رصده القرآن الكرمي‪ ،‬أكد‬
‫له املؤمن أنه وإن كان يف املال ُخلواً َ‪ ،‬ويف األوالد قُالً فاهلل خري وأبقى‪..‬‬
‫لاً‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫ذَّ‬ ‫َ‬
‫ك م ِْن تُ َراب ث َّم م ِْن ن ْطفة ث َّم َس َّو َ‬‫َ َ‬‫حُ‬ ‫َ َ هَ‬ ‫ُ َ ُُ َ َُ َ ُُ َ‬
‫كف ْر َ‬
‫اك َر ُج‬
‫اَّ‬ ‫اَ‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫تَ ب ِاَالِي خل ْق‬ ‫﴿قال ل صا اَحِب ُه وهو ياوِر َه أ‬
‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ هَّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ ُ َ هَّ ُ َ َ رْ‬
‫ش ُك ب ِ َر ّيِب أ َحدا ‪ 38‬ولول إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الل ل قوة إِل بِاللِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫‪ 37‬لكِنا َهو َ الل ر ّيِب ول أ ِ‬
‫َ َ َّ ْ َ َ اً لدَ ً‬
‫إِن ت َر ِن أنا أقل مِنك مال َو َو ا ‪ ﴾39‬سورة الكهف‪.39_37:‬‬
‫ْ َ‬

‫وهذا القول من املؤمن بيان و ٍاع للقلة يف الدنيا وصفاهتا‪ ،‬وهو مثل يتكرر يف كل زمان‬
‫ب الجَْ�نَّ�تَينْ ِ َو َع ِش َريتِِه‪َ ،‬وُه َو‬ ‫ال لَه‪ ،‬ولاَ ع ِشريَة‪ِ ،‬مثْل ص ِ‬
‫اح ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َه َو �قَْو ُل الْ ُم ْؤم ِن الَّذي لاَ َم َ ُ َ َ َ ُ َ‬ ‫ومكان‪ ،‬و( ُ‬
‫ك‬ ‫ال الْ ُم ْؤِم ُن لِْل َكافِ ِر‪ :‬إِ ْن �تََرِن أَ�يَُّها َّ‬
‫الر ُج ُل أَناَ أَقَ َّل ِمْن َ‬ ‫ول‪ :‬قَ َ‬
‫اب‪� ،‬يَُق ُ‬ ‫ِمثْل َس ْلما َن و ُ ٍ‬
‫ب و َخبَّ ٍ‬
‫ص َهْي َ‬ ‫ُ َ َ‬
‫َمالاً َوَولَ ًدا) هكذا يف نظرك‪ ،‬وأنت الكثري املال الوافر العشرية والعيال‪ ،‬فإين بفضل هللا‬ ‫(‪((6‬‬

‫عزيز‪ ،‬وبعطائه غين‪ ،‬وبرضاه مطمئن‪ ،‬وبتأييده آمن‪ ،‬فأان عبده وهو سيدي‪( ،‬وهكذا تنتفض‬
‫عزة اإلميان يف النفس املؤمنة‪ ،‬فال تبايل املال والنفر‪ ،‬وال تداري الغىن والبطر‪ ،‬وال تتلعثم يف‬
‫احلق‪ ،‬وال جتامل فيه األصحاب‪ .‬وهكذا يستشعر املؤمن أنه عزيز أمام اجلاه واملال‪ ،‬وأن ما عند‬
‫هللا خري من أعراض احلياة‪ ،‬وأن فضل هللا عظيم وهو يطمع يف فضل هللا‪ .‬وأن نقمة هللا جبارة‬

‫(‪ ((6‬التحرير والتنوير‪.)005 /2( :‬‬


‫(‪ ((6‬جامع البيان ‪.)562 /51(:‬‬
‫‪35‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫وأهنا وشيكة أن تصيب الغافلني املتبطرين‪ ((6().‬إنه مثل يتكرر يف الزمان واملكان واألفراد وتلك‬
‫مسة السنة املاضية‪ ،‬والقانون الذي ال يتبدل وال يتحول‪.‬‬
‫الصرب والثبات وطاعة القواد‬
‫ومن صفات القلة احملمودة اليت جرت هبا سنة القرآن الكرمي‪ ،‬الصرب والثبات‪ ،‬بدا ذلك‬
‫يف القلة املؤمنة مع طالوت‪ ،‬وبدا عمليا يف غزوات النيب ﷺ ويبدو ذلك صراحة يف طلب القرآن‬
‫الكرمي منهم الصرب والثبات على مالقاة الكفار يف احلرب وبيان أهنم ال يفقهون‪:‬‬
‫َ ْ‬ ‫ْ َ ُ ْ ْ ُ ْ رْ ُ َ‬ ‫ع الْق َ‬ ‫ْ ُ ْ َ لَىَ‬ ‫َ‬
‫ون َصا ب ِ ُر ون َيغل ُِبوا‬ ‫ِش‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ِني‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫ر‬‫ب َح ّ‬
‫﴿ يَا أ ُّي َها انلَّ ُّ‬
‫َ اَ ْ َ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ ذَّ َ َ َ‬ ‫َ ًْ‬ ‫ُ يِ ْ ُ ِ ٌ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ نْ‬
‫ِين كف ُر وا بِأ ن ُه ْم ق ْو ٌم ل َيفق ُهون (‪)65‬‬ ‫ي ِإَون يَك ْن مِنك ْم م َِئة َ َيغل ُِبوا أ لفا مِن ال‬ ‫ِ‬ ‫مِائت‬
‫َ َ نْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ َ ًْ َ ْ َ ُ ْ ْ ُ ْ ٌَ َ ٌَ َ ْ‬ ‫هَّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ َ َّ‬ ‫آْ َ َ َّ َ‬
‫ي‬‫ال َن خفف الل عن َكم وعل ِم أ َن فِيكم ضعفا فإ ِن يكن مِنكم مِئة صا بِرة يغل ِبوا مِائت ِ‬
‫الصا بر َ‬ ‫اللِ َو هَّ ُ‬
‫الل َم َع َّ‬ ‫هَّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ نْ‬ ‫ْ َ ُ ْ ْ ُ ْ ٌْ َ ْ ُ‬
‫ين ﴾ سورة األنفال‪.)66(:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ي بِإ ِذ ِن‬
‫ِإَون يكن مِنكم أ لف يغل ِبوا أ لف ِ‬

‫اع ِة الْ ُق َّو ِاد ‪ -‬الْ ِفئَةَ الْ َكثِ َريَة الَّتيِ أ َْع َوَزَها َّ‬ ‫ِ‬ ‫ب ‪ -‬باِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الص�بُْر‬ ‫لصبرِْ َوال�ثَّبَات َوطَ َ‬ ‫(إَحَِّن الْفئَةَ الْ َقليلَةَ قَ ْد �تَ ْغل ُ‬
‫ت ُس�نَّتُهُ بأَِ ْن يَ ُكو َن الن ْ‬
‫َّص ُر أَ�ثًَرا‬ ‫َي َجَر ْ‬ ‫ين‪:‬أ ْ‬
‫هللا مع َّ ِ‬
‫الصاب ِر َ‬
‫ِ‬
‫صَر َ َ‬ ‫اع ِة الْ ُق َّو ِاد؛ لأِ َّ‬
‫َن نَ ْ‬ ‫اد‪َ ،‬م َع طَ َ‬ ‫الاِتَ ُ‬
‫َو ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اه ٌد فيِ ُك ِّل‬‫ب ُه ْم أ َْع َوا ٌن ل َع ُد ِّوه ْم َعلَى أَ�نُْفس ِه ْم‪َ ،‬وَه َذا ُم َش َ‬ ‫َن أ َْهل الجََْزِع والجُْنْ ِ‬
‫الصبرْ ‪َ ،‬وأ َّ َ (‪َ ((6‬‬
‫ات و َّ ِ‬
‫لل�ثَّبَ َ‬
‫ان‪َ ،‬وُه َو َكثِريٌ لاَ ُمطَّ ِرٌد )‬ ‫َزم ٍ‬
‫َ‬
‫شاكرون ً‬
‫عمال‬
‫وإذا كانت القلة العاملة هم العاملون الواعبون ملا دق على غريهم‪ ،‬فهم كذلك الشاكرون‬
‫عمالً ال قوالً‪ ،‬واملستشعرون لنعمة هللا تعاىل عليهم يدفعهم علمهم إىل الشكر الصادق‪ ،‬وهو‬
‫الشكر العملي‪ ،‬الذي ال يتوقف عند شقشقة اللسان وطمطمة األسنان‪ ،‬بل يعلمون أن‬
‫العلم يولد العمل‪ ،‬والشكر من جنس النعمة اليت رزقوها‪ ،‬كما أخرب هللا تعاىل عن آل داود يف‬
‫ك ُ‬‫ْ َ ُ َ َ ُ َ ُ ْ ً َ َ ٌ ْ َ َ َّ ُ‬
‫ور﴾سورة سبأ‪ .)13( :‬أي‪( :‬وقلنا هلم اعملوا‬ ‫قوله‪﴿:‬اعملوا آ َل داوود شكرا وقل ِيل مِن عِبادِي الش‬
‫شكرا له على ما أنعم عليكم من النعم اليت خصكم هبا عن سائر خلقه‬ ‫بطاعة هللا اي آل داود ً‬
‫مع الشكر له على سائر نعمه اليت عمكم هبا مع سائر خلقه‪ ،‬وتُرك ذكر‪“ :‬وقلنا هلم” اكتفاء‬
‫بداللة الكالم على ما ترك منه)(‪.((6‬‬

‫(‪ ((6‬يف ظالل القرآن‪.)1722 /4( :‬‬


‫(‪ ((6‬تفسري املنار ‪.)393 /2(:‬‬
‫(‪ ((6‬جامع البيان‪.)863 /02( :‬‬
‫‪36‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫ولعل السر يف التعبري عن الشكر ابلعمل فلم يقل هللا ﷻ‪ :‬اشكروا‪ ،‬بل قال‪ :‬اعملوا‬
‫شكرا‪ ،‬ما يظهر أهنم مطالبون أبن يكون شكرهم شكراً عملياً‪ ،‬ال شكرا قولياً‪( ،‬وأخرج قوله‪:‬‬
‫(اع َملُوا)‪ :‬اشكروا ربكم بطاعتكم‬
‫اود) ألن معىن قوله‪ْ :‬‬‫آل َد َ‬
‫(اع َملُوا َ‬
‫(ش ْكًرا) مصدرا من قوله‪ْ :‬‬‫ُ‬
‫إايه‪ ،‬وأن العمل ابلذي رضي هللا‪ ،‬هلل شكر‪ ).‬وهؤالء الشاكرون شكرا عمليا قليلون‪ ،‬وتلك‬
‫(‪((6‬‬

‫سنة هللا تعاىل يف خلقه وعباده‪ ،‬أي‪ (:‬وقليل من عبادي املخلصو توحيدي واملفردو طاعيت‬
‫أقل النَّاس الْ ُمؤمن)(‪ ،((7‬فاملخلصون يف توحيدهم‬
‫وشكري على نعميت عليهم‪ ).‬أَي‪ُّ (:‬‬
‫(‪((6‬‬

‫واملفردون للطاعة والشكر على النعمة هم الشاكرون عمالً‪ ،‬وهم أقل الناس كما جرت بذلك‬
‫سنة هللا تعاىل يف القلة‪.‬‬
‫والشكور‪( :‬املتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته‪ ،‬ومع ذلك ال‬
‫الشكر نعمةٌ تستدعي شكراً آخر ال إىل هنايته؛ ولذلك قيل‪ :‬الشكور‬ ‫َ‬ ‫يوىف حقه؛ ألن توفيقه‬
‫(‪((7‬‬
‫من يرى عجزه عن الشكر‪ ((7().‬والشكور‪(:‬العامل بطاعيت شكرا لنعميت)‬
‫وواقع الناس ينبئ أبن القليل منهم من يشكر على هذا النحو‪ ،‬فيشكر على املنع‬
‫كما يشكر على األخذ‪ ،‬ويشكر على البالء كما يشكر على الرخاء‪ ،‬ويشكر على القليل‬
‫كما يشكر على الكثري‪ ،‬ويشكر بقلبه وكل جوارحه‪ ،‬وهذا الصنف يف الناس ال أقول قليل‬
‫بل اندر‪ ،‬فالكثري من الناس من يهش للعطاء وأيسى يف البالء‪ ،‬قليل من الناس (من أيخذ‬
‫النعمة من هللا وال حيملها على األسباب فال يشكر الوسائط ويشكر هللا‪ .‬واألكثرون أيخذون‬
‫(‪((7‬‬
‫النعمة من هللا‪ ،‬وجيدون اخلري من قبله مث يتقلدون املنّة من غري هللا‪ ،‬ويشكرون غري هللا‪).‬‬
‫َ َ ٌ ْ َ َ َّ ُ‬
‫الشكورُ﴾ إِ ْخبَ ٌار َع ِن الْ َواقِ ِع‪ ،((7().‬وهذا‬ ‫يقول ابن كثري رمحه هللا‪َ :‬و�قَْولُهُ‪﴿ :‬وقل ِيل مِن عِبادِي‬
‫َن العاملني قَلِيل‪( ((7().‬هذا‬ ‫هو عني السننية يف صفة تلك القلة‪َ (.‬وإِ ْذ َكا َن الْ َع َم ُل ُش ْكًرا أَفَ َاد أ َّ‬
‫إخبار بواقع‪ .‬وصدق هللا العظيم‪ ،‬الشاكرون هلل على نعمه قليل‪ ،‬ويف كل زمان ومكان؛ وذلك‬
‫(‪((7‬‬
‫الستيالء الغفلة على القلوب من جهة‪ ،‬وجلهل الناس برهبم وإنعامه من جهة أخرى‪).‬‬
‫(‪ ((6‬جامع البيان ‪.)863 /02( :‬‬
‫(‪ ((6‬جامع البيان‪.)963 /02( :‬‬
‫(‪ ((7‬تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني‪.)01 /4( :‬‬
‫(‪ ((7‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل (‪.)442 /4‬‬
‫(‪ ((7‬التفسري الوسيط للواحدي‪ ،)984 /3(:‬تفسري البغوي‪.)476 /3(:‬وتفسري السمعاين‪.)223 /4(:‬‬
‫(‪ ((7‬لطائف اإلشارات‪ ،)971 /3( :‬بتصرف يسري‪.‬‬
‫(‪ ((7‬تفسري ابن كثري ‪.)105 /6( :‬‬
‫(‪ ((7‬التحرير والتنوير‪.)361 /22( :‬‬
‫(‪ ((7‬أيسر التفاسري للجزائري‪.)013 /4( :‬‬
‫‪37‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫وهذه سنة هللا تعاىل اليت ال تتبدل وال تتخلف واليت يعرب عنها املفسرون بعادة هللا ﷻ‪( ،‬وقد‬
‫ََ ٌ‬
‫﴿وقل ِيل‬ ‫جرت عادته ﷻ بكثرة اخلبيث من كل شيء‪ ،‬وقلة الطيب من كل شيء‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬
‫تكاد‬ ‫الش ُكور ﴾‪ ،‬ويف احلديث الصحيح‪« :‬النّاس ٍ ِ ٍ‬ ‫ما ُه ْم﴾ ‪﴿،‬وقَلِيل ِمن ِع ِ‬
‫كإبل مائة ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫باد‬ ‫َ ٌ ْ‬
‫احلةَ»‪ ،‬وقال الشاعر‪:‬‬ ‫تجَِ ُد فيها ر ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫أحدا‬
‫ني أفتَ ُحها َعلَى كثري ولكن ال أرى َ‬ ‫إنيّ ألفتَ ُح َعينيِ َ ح َ‬
‫فأهل الصفا قليل يف كل زمان)‬ ‫(‪((7‬‬

‫ال يبغون على خلطائهم‬


‫والقليل الشاكر الذي يشكر على السراء والضراء‪ ،‬وعلى النعمة وعلى البالء‪ ،‬وعلى‬
‫األخذ واإليتاء‪ ،‬حيمله هذا الوعي إىل سعي يرضي ربه فال يبغي يف شركته‪ ،‬وال حييف يف‬
‫قسمته‪ ،‬وال ميد عينيه إىل ما فضل به بعض الناس؛ عاملاً أن الرزاق واهب‪ ،‬وأن املعطي حكيم‪،‬‬
‫وأن عطاء الدنيا بالء واختبار‪ ،‬ولقد أكد القرآن الكرمي أن القلة احملمودة ال تبغي وال تتحيف‪،‬‬
‫وال تشتط وال متيد‪ ،‬قال تعاىل يف وصف هذه القلة أبهنا ال يبغي بعضها على بعض‪:‬‬
‫ض إِلاَّ الَّ ِذين آَمنوا وع ِملُوا َّ لحِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ود‬
‫يل َما ُه ْم َوظَ َّن َد ُاو ُ‬
‫الصا َات َوقَل ٌ‬ ‫َ َُ َ َ‬ ‫﴿وإِ َّن َكث ًريا م َن الخُْلَطَاء لَ�يَْبغي �بَْع ُ‬
‫ض ُه ْم َعلَى �بَْع ٍ‬ ‫َ‬
‫ب﴾‪،‬ص‪.)24( :‬‬ ‫ِ‬
‫أَنمََّا �فَ�تَنَّاهُ فَ ْ‬
‫اس�تَ ْغ َفَر َربَّهُ َو َخَّر َراك ًعا َوأَناَ َ‬
‫أي أن هؤالء الذين ال يظلمون قليلون ابلنسبة إىل غريهم من اخللطاء الظاملني الذين‬
‫ين ُه ْم فِ ِيه )(‪(،((7‬وهم قلة‬ ‫يبغون على شركائهم‪ .‬أي‪ ( :‬قليل من ال يبغي)(‪((7‬أو‪( :‬قَلِ َّ ِ‬
‫يل الذ َ‬
‫ٌ‬ ‫(‪((8‬‬
‫اندرة)‬
‫وهؤالء القليل الذين ال يظلمون‪ ،‬هم الصاحلون القليلون يف كل زمان ومكان‪ ،‬وقد أراد‬
‫داود  بوصف القلة هنا ذكر حال هؤالء القليل الذين هم ال يظلمون وال يبغون‪ ،‬على‬
‫سبيل (املوعظة احلسنة والرتغيب يف إيثار عادة اخللطاء الصلحاء الذين حكم هلم ابلقلة‪ ،‬وأن‬
‫يكره إليهم الظلم واالعتداء الذي عليه أكثرهم‪ ،‬مع التأسف على حاهلم‪ ،‬وأن يسلي املظلوم‬‫ّ‬
‫عما جرى عليه من خليطه‪ ،‬وأ ّن له يف أكثر اخللطاء أسوة‪. ).‬‬
‫(‪((8‬‬

‫(‪ ((7‬البحر املديد يف تفسري القرآن اجمليد‪.)08 /2( :‬‬


‫(‪ ((7‬جامع البيان‪ ،)081 /12( :‬املوسوعة القرآنية‪.)86 /11( :‬‬
‫(‪ ((7‬تفسري ابن أيب حامت‪.)0423 /01( :‬‬
‫(‪ ((8‬املنتخب يف تفسري القرآن الكرمي‪676/1:‬‬
‫(‪ ((8‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل‪.)78 /4( :‬‬

‫‪38‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫وبني اإلمام الرازي السننية يف قلة الصاحلني الذين ال يبغي بعضهم على بعض وأسباب‬
‫َ َّ ُ‬ ‫ََ ٌ‬ ‫ذلك أبن ( الحْ ْكم بِِقلَّ ِة أ َْه ِل الخَْ ِ َكثِري فيِ الْ ُقر ِ‬
‫ور﴾‬ ‫ك ُ‬ ‫﴿وقل ِيل م ِْن عِبادِي الش‬ ‫ال �تََعالىَ ‪:‬‬
‫آن‪ ،‬قَ َ‬ ‫يرْ ٌ‬
‫ََ ٌ َ ُ‬
‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ال َد َ ُاوُد  َه َذا الْ َم ْوض ِع‪﴿ :‬وقلِيل ما هم﴾‪َ ،‬و َح َكى �تََعالىَ عن إبليس‬ ‫فيِ‬ ‫[سورة سبأ‪َ ،]13 :‬وقَ َ‬
‫َن الدَّو ِ‬
‫اع َي إِلىَ الدُّ�نْيَا‬ ‫َّ‬ ‫ين﴾ [سورة األعراف‪ ،]17 :‬وسبب الْ ِقلَّ ِ‬ ‫ث ُه ْم شاكِر َ‬ ‫﴿وال جَت ُد أك َ‬
‫رَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫أ‬ ‫ة‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أنَّهُ قَ َ‬
‫ال‪:‬‬
‫ب أ َْه ِل الخَْيرِْ‬ ‫ت الْ ِقلَّةُ فيِ َجانِ ِ‬ ‫ب و�قع ِ‬
‫السبَ ِ َ ََ‬ ‫َكثِ َريةٌ‪ ،‬وهي احلواس الباطنة والظاهرة ‪ ...‬فَلِ َه َذا َّ‬
‫َّر‪.((8()،‬‬‫ب أ َْه ِل الشِّ‬ ‫والْ َك�ثْرةُ فيِ َجانِ ِ‬
‫َ َ‬
‫يل َّما ُه ْم أي وهم قليل‪ ،‬وما مزيدة لإلهبام والتعجب من قلتهم‪(((8().‬واملعىن أن‬ ‫(وقَلِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫(‪((8‬‬
‫الصاحلني الذين ال يظلمون قليل)‬
‫وتذييل اجلملة الكرمية هبذا الوصف يبني نفاسة القلة‪ ،‬وسنة هللا ﷻ فيها‪ ،‬اليت تؤكدها‬
‫(وفيِ تَ ْذيِ ِيل‬‫وقائع األحداث ودنيا الناس‪ ،‬وهناك دواعي هلذه القلة وعوامل ساعدت عليها‪َ ،‬‬
‫وس‬‫ني لِ َما ُه َو ُم�تََقَّرٌر فيِ ال�نُُّف ِ‬ ‫الصالحِِ‬
‫َّ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ث لهَ ما أَ ْن ي ُكوناَ ِ‬ ‫ٌّ‬ ‫ح‬ ‫)‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫يل‬ ‫كَلاَ ِم ِه بَِقولِِه‪( :‬وقَلِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ َ‬
‫ثةُ‬‫ك َك رْ َ‬‫خْ َ ُ َ َّ ّ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ اَ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ال �تََعالىَ ‪﴿:‬قل ل يستوِي البِيث والطيِب ولو أعجب‬ ‫اس ِة ُك ِّل َش ْيء قَل ٍيل‪ ،‬قَ َ‬ ‫ِ‬
‫م خَْْن �نََف َ‬
‫اعي إِلىَ لَ َّذ ِ‬ ‫َن الدَّو ِ‬ ‫السبب فيِ َذلِ َ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ات الدُّ�نْيَا‬ ‫َ‬ ‫ك م ْن َجانب الحْ ْك َمة‪ :‬أ َّ َ‬ ‫يث﴾[سورة املائدة‪َ ]100 :‬و َّ َ ُ‬ ‫الب ِ ِ‬
‫ب‬ ‫وف بجِ َو ِاذ ِ‬ ‫س َع ِز َيزةُ الْوقُ ِ ِ‬ ‫اه َدةَ ال�نَّْف ِ‬ ‫ِ‬
‫وع‪ ،‬فَالإْ نْ َسا ُن محَْ ُف ٌ َ‬ ‫ُ‬ ‫وب َومجَُ َ‬ ‫َكث َريةٌ َوالْ َم ْش َي َم َع الهََْوى محَْبُ ٌ‬
‫اض َعن‬ ‫ين َوالحْ ْك َمةُ‪َ ،‬وفيِ أسباب الْ َك َم ِال إِ ْعَر ٌ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫اعي الحَْ ِّق َوالْ َك َم ِال �فَُه َو ال ِّد‬ ‫ات‪ ،‬وأ ََّما دو ِ‬
‫َ‬ ‫السيِّئَ َ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ همِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الش ِ‬
‫ض‬ ‫اض َعسريٌ لاَ يَ ْسلُ ُكهُ إِلاَّ َم ْن سمََا بِدينه َو َّته إِلىَ الشََّرف ال�نَّْف َسانيِِّ َوأ َْعَر َ‬ ‫َّه َوات‪َ ،‬وُه َو إِ ْعَر ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ باِ ِ َّ ِ (‪((8‬‬ ‫فيِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نيِ‬ ‫ِ‬
‫ك ُه َو الْعلةُ َه َذا الحُْ ْكم لْقلة)‬ ‫َّه َوا ِّ‪ ،‬فَ َذل َ‬‫َع ِن الدَّاعي الش ْ‬

‫ال حيتنكهم الشيطان‬


‫القلة الرائدة ال يتحكم فيها الشيطان؛ فهي تعرف طريقها وتتمسك مبنهاجها‪ ،‬وتقتفي‬
‫قدوهتا‪ ،‬فال يغريها الشيطان‪ ،‬وال تلتبس عليها الطرق‪ ،‬وال تتشعب هبا الوداين‪ ،‬منهاجها‬
‫واضح‪ ،‬وقدوهتا رائدة‪ ،‬وطريقها مدروسة خطواته معلومة مالحمه‪ ،‬ولقد استثىن العدو األكرب‬
‫إبليس هؤالء من سيطرته وهيمنته‪ ،‬وإن كانوا داخلني شأن سنة هللا يف االبتالء واالختبار‪،‬‬
‫(‪ ((8‬مفاتيح الغيب‪ ،‬أو التفسري الكبري‪.)583 /62( :‬‬
‫(‪ ((8‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪.)72 /5( :‬‬
‫(‪ ((8‬لباب التأويل يف معاين التنزيل‪.)63 /4( :‬‬
‫(‪ ((8‬التحرير والتنوير‪.)632 /32( :‬‬
‫‪39‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫َ َ َ َ َ َ َ‬
‫وشرط‪﴿:‬قال أ َرأ ْي َتك هذا‬ ‫استثناهم من حتكمه فيهم‪ ،‬واستيالئه عليهم‪ ،‬وأقسم على ذلك‬
‫َ َّ ْ َ لَيَ َّ َ ْ َ َّ ْ َ ىَ َ ْ ْ َ َ أَ َ ْ َ َ َّ ُ ّ َّ َ ُ اَّ َ‬ ‫ذَّ‬
‫وألحتنكن (�يَْعنيِ ‪:‬‬ ‫الِي كرمت ع لئِن أخرت ِن إِل يو ِم القِيامةِ لحتن ِكن ذرِيته إِل قل ِيل﴾‬
‫علي‪ ،‬عن ابن عباس‪( :‬ألستو ّلني‪).‬‬ ‫و(عن‬ ‫(‪((8‬‬
‫قليال‪).‬‬ ‫َحتَ ِويَ َّن»)(‪،((8‬أو‪(:‬ألحتوين َعلَى ذريته إِلاَّ‬ ‫«لأَ ْ‬
‫ّ‬
‫(‪ ،((8‬وعن احلسن‪ ( :‬لأَُ ْهلِ َك�نَُّه ْم باِلإِْ ْضلاَ ِل {إِال قَلِيال} �يَْعنيِ ‪ :‬الْ ُم ْؤِمنِ َني‪((8().‬أو ألستأصلنهم‪،‬‬
‫اح�تَنَ َك ِت َّ‬ ‫ِ‬
‫صلَ�تَْها‪،‬‬ ‫السنَةُ أ َْم َوالهَُْم؛ إِ َذا ْ‬
‫استَأْ َ‬ ‫وأستقصي ما عندهم فال يند منهم أحد‪ ،‬تقول العرب‪( :‬قَد ْ‬
‫ٍِ ِ‬ ‫ِ‬
‫صاهُ) (‪ ((9‬وهذا قسم من الشيطان أنه لن ينجو‬ ‫ك �فُلاَ ٌن َما عْن َد �فُلاَ ن م َن الْع ْل َم؛ إِ َذا ْ‬
‫اس�تَْق َ‬ ‫اح�تَنَ َ‬
‫َو ْ‬
‫من حبائله وشراكه إال هؤالء‪ ( ،‬فألستولني عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم يف‬
‫قبضة يدي أصرف أمرهم‪ .((9().‬وواقع احلياة يؤكد تلك السنة املاضية‪ ،‬والصفة احلاكمة للقلة‬
‫احملمودة العاملة‪.‬‬
‫مؤيدون منصورون‬
‫القلة احملمودة مؤيدة بنصر هللا ﷻ وأتييده‪ ،‬وهذا موطن قوهتم‪ ،‬وسر هنضتهم‪ ،‬مهما‬
‫رآهم الناس قلة‪ ،‬فهم يف الواقع هلم مدد إهلي‪ ،‬واإلمداد على قدر االستعداد‪ ،‬واجلود على‬
‫قدر اجملهود‪ ،‬وإذا أيد هللا عبدا فما تكون الدنيا وما عليها‪ ،‬وإذا خاله نصر هللا فال يغين عنه‬
‫ت‬‫﴿ك ْم م ِْن ف َِئة قَل ِيلَة َغلَ َب ْ‬ ‫َ‬
‫كثري وال قليل‪ ،‬وهذا ما تعيه القلة املؤمنة مع طالوت  إذ قالوا‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الل َم َع َّ‬
‫الصابر َ‬ ‫َ ً َ َ ً ْ هَّ‬
‫اللِ َو هَّ ُ‬
‫ين﴾ سورة البقرة‪.)249( :‬هكذا إبذن هللا‪ ،‬أي‪ :‬بنصره وأتييده‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف ِئة كثِرية بِإِذ ِن‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫حْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وت َو آ َتَاهُ هَّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هَّ َ َ َ ُ ُ‬
‫ود َجال َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الل ال ُملك َوال ِك َمة لَىَ َو َعل ْ َم ُه َ م َِّما‬ ‫َ‬ ‫أْ‬ ‫فعل‪﴿ ،‬ف َه َز ُموه ْم بِإِذ ِن اللِ وقتل داو‬ ‫َوقد‬
‫ضل ع ال َعالم َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫ت ال ْر ُض َول ِ َّ هَّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫يَش ُ‬ ‫َ اَ ْ‬
‫ني‬ ‫ِ‬ ‫كن الل ذو ف ٍ‬ ‫اء َول ْو ل د ف ُع اللِ انلَّاس َبعض ُه ْم ب ِ َبع ٍض لف َسد ِ‬
‫حْ َ ّ َّ‬ ‫ْ َ َ ُ هَّ َ ْ ُ َ َ َ َ‬
‫ني ﴾ ‪ ،‬سورة‪ :‬البقرة‪.249،250:‬‬ ‫ك لَ ِمن ا لْمرسلِ‬
‫َ ُْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ات اللِ نتلوها عليْك بِال ِق ِإَون‬ ‫‪ 251‬ت ِلك آ َي‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ي‪ ،‬فَِإ َذا‬ ‫(والْ َم ْعنىَ أَنَّهُ لاَ ع�بَْرةَ بِ َك�ثَْرِة الْ َع َدد إِنمََّا الْع�بَْرةُ باِ لتَّأْيِيد الإِْ لهَ ِّي‪َ ،‬والن ْ‬
‫َّص ِر َّ‬
‫الس َما ِو ِّ‬ ‫َ‬
‫ت الْ ِمحنةُ �فلاَ م�ن َفعةَ فيِ َك�ثرِة الْع َددِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضَّرَة الْقلَّة َوال ّذلة‪َ ،‬وإ َذا َجاء‬ ‫فيِ‬ ‫ِ‬
‫َْ َ‬ ‫َْ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َجاءَت الد َّْولَةُ �فَلاَ َم َ‬
‫َّة‪(،((9().‬أ ََّما �قولُهُ‪ :‬واُللهَّ مع َّ ِ‬ ‫والْعد ِ‬
‫ُّصَرةُ)(‪(،((9‬والعزيز‪:‬‬ ‫ين �فَلاَ ُش�بَْهةَ أ َّ‬
‫َن الْ ُمَر َاد الْ َمعُونَةُ َوالن ْ‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫(‪ ((8‬تفسري جماهد‪.)834( :‬‬
‫(‪ ((8‬تفسري مقاتل بن سليمان‪.)122 /5( :‬‬
‫(‪ ((8‬جامع البيان‪.)984 /71( :‬‬
‫(‪ ((8‬تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني‪.)92 /3( :‬‬
‫(‪ ((9‬تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني‪ ،)92 /3( :‬املوسوعة القرآنية‪.)151 /8( :‬‬
‫(‪ ((9‬يف ظالل القرآن‪.)8322 /4( :‬‬
‫(‪ ((9‬مفاتيح الغيب ‪ ،)315 /6(:‬اللباب يف علوم الكتاب‪.)882 /4( :‬‬
‫(‪ ((9‬مفاتيح الغيب‪.)415 /6( :‬‬
‫‪40‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫من أعزه هللا‪ ،‬والذليل من أذله هللا‪ ،‬فال تغين الكثرة مع خذالنه‪ ،‬وال تضر القلة مع نصره‪،‬‬
‫(‪((9‬‬
‫{وهللا مع الصابرين} ابلنصر واملعونة والتوفيق‪ ،‬فأعظم جالب ملعونة هللا صرب العبد هلل‪)،‬‬
‫من هبا على‬ ‫ّ‬ ‫وإذا كانت القلة املؤمنة مع طالوت قد وعت هذه السنة الرابنية‪ ،‬فإن َهللا ﷻ قد‬
‫ْ ُ َ‬ ‫ْ ْ َ ٌ‬ ‫ْ ُ‬
‫ذكرهم بذلك َ فقال‪﴿ :‬واذك ُروا إِذ أن ُت ْم قل ِيل ُم ْس َتض َّ َعفون‬
‫القلة َ املؤمنة مع رسول هللا ﷺ‪ ،‬إذ َّ‬
‫خَ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ُ ُ َّ ُ َ َ ُ ْ َ َّ َ ُ ْ َ رْ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ ّ َ َ َ ُ ْ‬ ‫أْ ْ‬
‫ات لعلكم‬ ‫يِف الر ِض تافون أن يتخطفكم انلاس فآ َواكم وأيدكم بِن ِ‬
‫صه ِ ورزقكم مِن الطيِب ِ‬
‫َْ ُ َ‬
‫تشك ُرون﴾ سورة األنفال‪.)26( :‬‬

‫فهذه منة مين هللا تعاىل هبا على عباده‪ ،‬أهنم كانوا قليال فكثرهم وأيدهم بنصره‪ ،‬ومدهم‬
‫مبدده‪ .‬وتلك نعمة مين هللا تعاىل هبا على القلة يف عهد النيب ﷺ ويذكرهم مبا كانوا فيه من القلة‬
‫وقرهبم إىل إقامة‬
‫والذلة‪...( ،‬مث ما نقلهم إليه من اإلمكان والبسطة‪ ،‬ووجوه األمان واحليطة‪ّ ،‬‬
‫فمهد هلم يف ظل أبوابه‬
‫الشكر على جزيل تلك القسم‪ ،‬وإدامة احلمد على مجيل تلك النّعم‪ّ ،‬‬
‫للعدو إليهم‪ -‬بيمن رعايته‪ -‬سبيال‪...‬ورزق األشباح والظواهر من طيبات‬ ‫مقيال‪ ،‬ومل جيعل ّ‬
‫الغذاء‪ ،‬ورزق األرواح والسرائر من صنوف الضياء‪ .‬وحقيقة الشكر على هذه النعم الغيبة عنها‬
‫(‪((9‬‬
‫ابالستغراق يف شهود املنعم‪).‬‬
‫استجابة اهلل للقلة الصابرة‬
‫القلة احملمودة جماب دعاؤها‪ ،‬مستجاب نداؤها؛ ألهنا بذلت األسباب وتوكلت على الوهاب‪،‬‬
‫عرفت قوانني هللا يف النصر فاتبعتها‪ ،‬وأدركت سنن اهلزمية فاجتنبتها‪ ،‬والناظر يف ُمثل القلة الواردة‬
‫يف القرآن الكرمي جيد ذلك واضحا بينا‪ ،‬فالقلة املؤمنة مع طالوت حقق هللا رجاءها واستجاب‬
‫ِ ِ‬
‫صَرُه ْم َعلَى الْ َق ْوم الْ َكاف ِر َ‬
‫ين‪:‬‬ ‫الص�بَْر َعلَْي ِه ْم‪َ ،‬و�ثَبَّ َ‬
‫ت أَقْ َد َام ُه ْم‪َ ،‬ونَ َ‬ ‫دعاءها‪ ،‬وأعطاها سؤهلا‪َ ( ،‬وأَ�فَْر َغ َّ‬
‫ضلِ ِه ورحمْ تِ ِه ظَ َّن من قَ َال‪َ :‬كم ِمن فِئ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَبت فِئةً َكثِريةً بإِِ ْذ ِن هَِّ‬ ‫ِِ‬
‫الل‪،‬‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫وت َو ُجنُوده َو َح َّق َق بَِف ْ َ َ َ‬ ‫َجالُ َ‬
‫الل)(‪((9‬؛ وذلك جراي على سنة هللا املاضية من أن هللا ﷻ {مع َّ ِ‬ ‫وهزموهم بإِِ ْذ ِن هَِّ‬
‫ين}ابلنصر‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ َُ ُ ْ‬
‫واملعونة‪( ، ).‬واإلاثبة) ‪.‬‬
‫(‪((9‬‬ ‫(‪((9‬‬

‫(‪ ((9‬تيسري الكرمي الرمحن‪.)801( :‬‬


‫(‪ ((9‬لطائف اإلشارات‪ ،)716 /1( :‬بتصرف يسري‪.‬‬
‫(‪ ((9‬مفاتيح الغيب‪.)515 /6( :‬‬
‫(‪ ((9‬تفسري العز بن عبد السالم‪.)632 /1( :‬‬
‫(‪ ((9‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪.)251 /1( :‬‬
‫‪41‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫واملتتبع لآلايت الكرمية اليت صورت أتييد هللا ﷻ للقلة الصابرة‪ ،‬ومعونته هلم‪ ،‬يدرك كيف‬
‫نسب هللا ﷻ الدفع إىل نفسه مباشرة مع أن القلة املؤمنة هي املدافعة‪ ،‬وهي املقاتلة‪ ،‬وهي املباشرة‬
‫لتلك األسباب احلسية واملعنوية اليت مصريها النصر والتأييد لبيان تلك السنة اليت ال تتخلف‬
‫حينما أيخذ البشر أبسباب هللا ﷻ‪ ،‬وحيسنون التعامل مع سننه‪(،‬وقد نسب (عز امسه) الدفع إىل‬
‫نفسه؛ ألنه سنة من سننه يف اجملتمع البشرى‪ ،‬وعليه بين نظام هذا العامل حىت يرث هللا األرض ومن‬
‫عليها)(‪.((9‬‬
‫إهنا السنة اليت ال تتخلف وال تتأجل وقانون هللا ﷻ املاضي يف عباده‪ ،‬ومن حرص على نصر‬
‫هللا له وأتييده دعوته فليسلك سبيل القلة املؤمنة اليت وفت هلل بسننه ووىف هللا ﷻ هلا بعدله وعطائه‪.‬‬
‫وإذا كانت تلك صفات القلة احملمودة فللقلة بعض الصفات املذمومة كذلك‪ ،‬وهذا ما‬
‫نتناوله يف الصفحات القادمة إن شاء هللا ﷻ‪.‬‬

‫(‪ ((9‬تفسري املراغي‪.)522 /2( :‬‬

‫‪42‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫املبحث الثالث‬
‫القلة املذمومة وصفاتها‬
‫القلة الواردة يف القرآن الكرمي كما مر بعضها حممود‪ ،‬وهذا وقفنا على صفاته‪ ،‬وعرفنا أهم‬
‫ما مييزه‪ ،‬أما القلة املذمومة فقد عرض القرآن الكرمي هلا كذلك بياان لصفاهتا‪ ،‬وتعريفا ملالحمها؛‬
‫كي حتذرها كل قلة تريد الشهود احلضاري‪ ،‬وحتقق خريية األمة‪ ،‬وهي رسالتها وهدفها يف سبيل‬
‫مرضات هللا ﷻ‪،‬ومن تتبع تلك األوصاف ندرك أن الوصف ابلقلة املذمومة ورد يف مواطن‬
‫متعددة‪ ،‬منها‪ :‬وصف متاع احلياة وزخرفها ابلقلة‪ ،‬ووصف زمان الكافرين أبنه قليل‪ ،‬ووصف‬
‫متاع أهل سبأ ابلقلة بعد أن جحدوا نعمة هللا ﷻ‪ ،‬ووصف اللبث يف الدنيا كلها ابلنسبة‬
‫لآلخرة ابلقلة‪ ،‬ووصف سكىن من بطروا معيشتهم يف الدنيا ابلقلة‪ ،‬ووصف متاع اجلاحدين‬
‫وطعام اجملرمني أبنه قليل‪ ،‬كما وردت القلة يف وصف شكر عموم الناس‪ ،‬ووصف إمياهنم‪،‬‬
‫وتذكرهم‪ ،‬ويف الصفحات اآلتية نعاجل صفات القلة املذمومة على النحو اآليت‪:‬‬
‫متاع احلياة الدنيا قليل‬
‫الدنيا ظل زائل‪ ،‬ومتاع حائل‪ ،‬وعرض ال يبقى وال يدوم‪ ،‬متاعها مهما كثر قليل‪،‬‬
‫َ اَ‬
‫﴿ول‬
‫ْ ترَ‬
‫الذم يف ق َّوله ذَّ ﷻ‪:‬‬
‫ْ َ‬
‫ابلقلة‪ ،‬يف لَىَمقام‬
‫ْ ترَ‬
‫متاعها‬
‫َ‬
‫وصف‬
‫َ لاَ ٌ‬
‫مهما َز ْاد َضنني‪َ ْ ،‬وقد ورد‬
‫ُ‬
‫وعطاؤها‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫ََ َ ٌ َ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ‬
‫ِين َيف ُ ون‬ ‫َ‬
‫ِب إن ال َ‬
‫تقولوا ل ِما ت ِصف ألسِنتكم الكذِب هذا ح ل وهذا ح َرام لتِ ف وا ع اللِ الكذ ِ‬
‫لَىَ هَّ ْ َ َ اَ ُ ْ ُ َ َ َ ٌ َ ٌ َ َ ُ ْ َ َ ٌ َ‬
‫ٌ‬
‫ع اللِ الكذِب ل يفل ِحون متاع قل ِيل ولهم عذاب أ يِلم ﴾ سورة النحل‪.117،116:‬‬
‫أي‪ :‬متاعهم هذا يف الدنيا قليل‪ ،‬قال الزجاج يف معاين القرآن‪( :‬املعىن َمتاعهم هذا الذي‬
‫(((‬
‫متاع قليل‪).‬‬
‫فعلوه ِ‬
‫والقرآن الكرمي يبني للجاحدين هنا أن ما يبذلونه يف الدنيا من أجل حصوهلم على‬
‫متاعها‪ ،‬وما يفرتونه رغبةً يف نعيمها قليل‪ ،‬ال يستحق هذا العناء والبالء‪،‬أي‪(:‬ما يفرتون ألجله‬
‫ذاب أَلِ ٌيم يف اآلخرة‪ ،((().‬وهو ليس شيئا‬ ‫أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريب‪َ .‬ولهَُْم َع ٌ‬
‫ذاب أَلِ ٌيم)‪ ،‬أي‪:‬‬
‫يل َولهَُْم َع ٌ‬
‫ِ‬
‫ائهم‪(،‬متاعٌ قَل ٌ‬
‫َ‬ ‫مذكورا إذا قيس ابملضار اليت يعاقبون هبا على افرت‬
‫إن (املنافع اليت قد حتصل هلم على ذلك يف الدنيا ال يعت ّد هبا ىف نظر العقالء إذا ووزن بينها‬
‫((( معاين القرآن وإعرابه للزجاج‪.)222 /3( :‬‬
‫((( أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪)442 /3( :‬‬
‫‪43‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫املضار اليت يف اآلخرة‪ ،‬فما متاع الدنيا إال ظل زائل مث يفىن ويبقى هلم العذاب األليم‬
‫ّ‬ ‫وبني‬
‫حني مصريهم إىل رهبم مبا اجرتحوا من السيئات‪ ،‬ودنّسوا به أنفسهم من أوضار اإلمث والفجور‬
‫ُ‬
‫وصورهم فأحسن صورهم‪ ،‬وحنو اآلية قوله‪﴿ :‬ن َم ّت ِ ُع ُه ْم‬
‫والكذب على ابرئهم الذي خلقهم ّ‬
‫َ‬
‫ذاب غل ِيظٍ﴾ سورة لقمان‪.24 :‬‬
‫َ‬ ‫قَل ِيلاً ُ َ ْ َ ُ ْ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ثم نضطرهم إِىل ع ٍ‬
‫(((‬

‫ومجلة (متاع قليل) استئناف بياين ملا سبق‪ ،‬وهو تعليل لنفي الفالح عن الذين يفرتون‬
‫على هللا الكذب؛ ( فإهنم ابفرتائهم الكذب قد خسروا خسراان مبينا‪..‬ذلك أن هذا الذي‬
‫عاد عليهم من كذهبم وافرتائهم‪ ،‬هو شيء اتفه‪ ،‬اسرتضوا به أهواءهم يف هذه احلياة الدنيا‪،‬‬
‫فأوقعهم يف هذا الذي هم فيه‪ ،‬من عدوان على حرمات هللا‪ ،‬وعصيان هلل‪ ،‬وشرك به‪..‬وذلك‬
‫هو اخلسران املبني!)(((‪.‬‬
‫وهي دعوة لكل قلة رائدة أن تتخلى عن صفات القلة املذمومة من �بَْه ٍر مبتاع احلياة‬
‫وتنازل عن املبادئ السامية؛ فكل ذلك يف جنب اآلخرة قليل‪( ،‬ويف‬‫القليل‪ ،‬و�بي ٍع للقيم العالية‪ٍ ،‬‬
‫َْ‬
‫هذه اآلية تلقني جليل وعظة اجتماعية مستمرة املدى‪ ،‬فأي جمتمع أراد أن حيتفظ أبسباب‬
‫العزة واحلياة املطمئنة والرزق امليسور عليه أن يلتزم حدود هللا يف اإلخالص له والعدل‬
‫القوة و ّ‬
‫واإلحسان وسائر األعمال الصاحلة‪ ،‬وأن يعرتف بفضله‪ ،‬ويداوم على ذكره وشكره وأن يبتعد‬
‫أخل بذلك اختلّت شؤونه‬ ‫((( وإسراف‪ .‬فإذا ّ‬‫كل ما فيه ظلم وإمث وبغي ومنكر واحنراف‬ ‫عن ّ‬
‫وانفرط كيانه وغدا عرضة للنوائب والكوارث‪).‬‬
‫ووصف متاع احلياة ابلقلة هنا وحتذير املقبلني عليه أبهنم يبيعون من أجله كل غال‪،‬‬
‫ويرتخصون يف سبيله بكل سبيل وصف يف مقام الذم‪ ،‬وهو وصف اثبت ثبات سنن هللا ﷻ‬
‫ال يتغري وال يتبدل‪.‬‬
‫صفاء زمان الكافرين يف الدنيا ُ‬
‫قليل‬
‫ومتضي آايت القلة تصور للواعبني يف كل زمان ومكان أن صفاء زمان الكافرين يف الدنيا‬
‫ص ٍر بسنن هللا ﷻ يف املكذبني‪ ،‬وليكون ذلك تسرية وتطمينا‬ ‫قليل‪ ،‬حىت تكون األمة على بَ َ‬
‫للدعاة واملصلحني‪ ،‬أن هؤالء وإن صفا هلم زماهنم إال أنه صفاء قليل‪ ،‬ال يلبث أن أيتيه الكدر‪،‬‬
‫يَ‬
‫﴿ع َّما قَل ٍِيل لُ ْصبِ ُح َّن نَادِم َِني﴾سورة املؤمنون‪ 40:‬أي‪( :‬عن وقت قليل ليندمن‬
‫َ‬
‫ويعقبه البالء‪ ،‬فهم‬
‫((( تفسري املراغي‪ ،)551 /41( :‬حبر العلوم‪.)592 /2( :‬‬
‫((( التفسري القرآين للقرآن‪.)783 /7( :‬‬
‫((( التفسري احلديث‪.)591 /5( :‬‬
‫‪44‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫(((‬
‫على تكذيبهم لك‪ ،‬وذلك حني ينزل هبم العذاب‪).‬‬
‫وورود (ما) هنا يؤكد هذه القلة‪ ،‬والصفاء الذي ال يدوم‪( ،‬و«ما» صلة لتوكيد معىن القلة‪،‬‬
‫ِِ‬
‫ني على التكذيب إذا عاينوا العذاب‪ ((().‬وهي تفيد القلة يف‬ ‫صبِ ُح َّن اندم َ‬ ‫أو نكرة موصوفة‪ .‬لَيُ ْ‬
‫الصفاء ‪ ،‬والقلة يف زمان الصفاء‪ ،‬و(ما) (‪ ...‬مزيدة بني اجلار واجملرور للتوكيد ‪...‬و «قَلِ ٍيل» صفة‬
‫(((‬
‫لزمن حمذوف‪ ،‬أي‪ :‬عن زمن قليل‪).‬‬
‫وهذا الندم الذي سيعاينونه عند رؤية العذاب إمنا هو بسبب عنادهم وبعدهم عن احلق‪،‬‬
‫ني َعلَى َما َوقَ َع ِم�نْ ُه ْم‬ ‫ِِ‬ ‫وإصرارهم على ما هم فيه من الكفر‪( ،‬ع َّما قَلِ ٍيل ِمن َّ ِ‬
‫صبِ ُح َّن ناَ دم َ‬
‫الزَمان لَيُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ار والْم ْجرورِ‬ ‫يدةٌ �بَينْ َ الجَْ ِّ‬ ‫ِ‬
‫ز‬ ‫م‬ ‫»‬ ‫ٍ‬
‫يل‬ ‫ِ‬
‫ل‬‫َ‬‫ق‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫َّ‬ ‫«ع‬ ‫‪:‬‬ ‫فيِ‬ ‫ا)‬ ‫(م‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬‫ر‬‫ِ‬ ‫ف‬‫ْ‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ى‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ع‬ ‫صرا ِ‬
‫ر‬ ‫َم ِن التَّ ْك ِذ ِ‬
‫يب والْعِنَ ِاد والإِْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الزم ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِِ ِ‬
‫ان‪ ،‬أي‪ :‬بعد زمان قليل ليصرين اندمني على التكذيب)(((‪( ،‬ليصري ّن مكذبوك‬ ‫لل�تَّْوكيد لقلَّة ََّ‬
‫بعد زمن قليل اندمني على ما فعلوا‪ ،‬وستحل هبم نقمتنا‪ ،‬وال ينفعهم الندم حينئذ‪.((1().‬‬
‫ووصف زمن صفائهم ابلقلة هنا وصف يف موطن الذم‪ ،‬وموضع اإلنكار‪ ،‬وهو سنة‬
‫ماضية يف اجلاحدين واملنكرين أهنم ال يطول أماهنم وال يستمر نعيمهم‪ ،‬بل أتتيهم عقوبتهم ليال‬
‫أو هنارا فيصبحوا كأن مل يغنوا ابألمس؛ عربة للناظرين وآية من آايت هللا رب العاملني‪.‬‬
‫وصف متاع أهل سبأ‬
‫أهل سبأ أهل نعمة حاضرة‪ ،‬ومتاع مقيم‪ ،‬مجع من نضرة الدنيا أوعبها وأمشلها‪ :‬جنان‬
‫نضرة‪ ،‬عن ميني ومشال‪ ،‬ورزق غدق ال خيشى فواته‪ ،‬وال يتوقع نفاده‪ ،‬وبلدة طاب نعيمها‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ اَ َ‬
‫البذل﴿لق ْد كن ل ِسبأ يِف َم ْسك َن ِ ِه ْم آ َيَة‬
‫وتستوجب هَ دْ‬ ‫نعمة ُ تستحق الشكر‪،‬‬ ‫وطاب أهلها‪ ،‬وتلك‬
‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫لةٌ َط ّي َبة َو َر ٌّب غ ُف ٌ‬‫ْ ُ‬ ‫لُ‬
‫ْ ْ َّ ُ‬ ‫َ‬
‫ور ‪ 15‬فأع َرضوا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ك ْم َواشك ُروا ُل بَ َ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ال كوا م نِْن رِز ِق رب‬
‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ني َوش َِم‬
‫ٍ‬ ‫ان ع ْن يَ ِم‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َجَ َّن َت‬
‫يَ‬ ‫ْ‬
‫كل خْ ٍط َوأثل َو ْ‬ ‫مَ‬ ‫يَ‬
‫َ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ ِ َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ َ ْ ْ َ َّ َ نْ َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ش ٍء م ِْن س ِْد ٍر‬ ‫ٍ‬ ‫ي ذوات أ ٍ‬ ‫فأرسلنا علي ِهم سيل الع ِرم وبدلاهم جِبنتي ِهم جنت ِ‬
‫َ‬
‫ِيل﴾ سبأ‪.)16( :‬‬ ‫قل ٍ‬
‫مجعت اآلية الكرمية من نعيم الدنيا أوفره‪ ،‬ومن متاع احلياة أغزره‪ ،‬وعربت اآلية الكرمية‬
‫عن هذا النعيم بدقة ابهرة‪ ،‬ما يدعو إىل العظة‪ ،‬ويستجلب الشكر‪ ،‬فتقدمي اجلار واجملرور يف‪:‬‬
‫(لسبأ) يفيد االختصاص‪ ،‬كأنه صنع هلم رغبة يف انتفاعهم ابآلايت‪ ،‬ومسى هللا منازهلم سكنا‬
‫((( اهلداية إىل بلوغ النهاية‪ ،)5694 /7( :‬الوجيز للواحدي‪.)747( :‬‬
‫((( أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪.)88 /4( :‬‬
‫((( اللباب يف علوم الكتاب‪.)412 /41( :‬‬
‫((( فتح القدير للشوكاين‪ ،)275 /3( :‬التفسري املظهري‪.)183 /6( :‬‬
‫(‪ ((1‬تفسري املراغي‪ ،)32 /81( :‬مراح لبيد لكشف معىن القرآن اجمليد‪.)88 /2( :‬‬
‫‪45‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫يف قوله‪( :‬يف مسكنهم)‪،‬وليس كل ما يعيش فيه املرء يسمى سكنا‪ ،‬إمنا السكن ما مجع ما‬
‫يُ ْسكن النفس‪ ،‬وتَسكن إليه الروح‪ ،‬ويهدأ معه اإلنسان وتنعم به احلياة‪ ،‬والتعبري بلفظ‪:‬‬
‫(آية)‪ ،‬إرشاد إىل غرابة ما لديهم من النعيم‪ ،‬ووفرة ما عندهم من املتاع‪ ،‬حىت كان ذلك عجيبة‬
‫من العجائب‪ ،‬والتعبري عن الزروع واحلدائق ابجلنة فيه ما فيه فليس كل بستان جنة إمنا البستان‬
‫اجلنة ما تتكاثف أشجاره‪ ،‬وتتعانق أغصانه حىت يسرت الداخل عن اخلارج‪ ،‬واخلارج عن الداخل‬
‫فتتكاثف ظالله‪ ،‬وتتوارد مثاره‪ ،‬ويستطاب هواؤه‪ ،‬ويرق عليله‪ ،‬والتعبري‪( :‬عن ميني ومشال)‪،‬‬
‫تعبري رائق فائق ففي كل اجتاه تنظره جتد اجلنان اليت تريح النظر‪ ،‬وتهُ دئ اخلاطر‪ ،‬والتعبري بلفظ‬
‫(رزق)فيه من اإلكرام ما فيه‪ ،‬واختيار لفظ الربوبية اليت تفيض إنعاما وعطاء‪ ،‬من مجلة النعيم‪،‬‬
‫ولكنهم بدلوا نعمة هللا كفرا‪ ،‬وأحلوا قومهم دار البوار‪( ،‬بينما شجر القوم خري الشجر‪ ،‬إذ‬
‫ب ُك ْف ِرِه ْم َو ِش ْركِ ِه ْم باِ ِللهَّ‪َ ،‬وتَ ْك ِذيبِ ِه ُم الحَْ َّق‬
‫ك بِسبَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫صريه هللا من شر الشجر أبعماهلم‪ ( ((1().‬و َذلِ‬
‫َ‬
‫اط ِل)(‪((1‬؛(أعرضوا عن شكر هللا‪ ،‬وعن العمل الصاحل‪ ،‬والتصرف احلميد‬ ‫وع ُدولهِِم عْنه إِلىَ الْب ِ‬
‫َ‬ ‫َُ ْ َ ُ‬
‫فيما أنعم هللا عليهم‪ ،‬فسلبهم سبب هذا الرخاء اجلميل الذي يعيشون فيه وأرسل السيل‬
‫اجلارف الذي حيمل العرم يف طريقه وهي احلجارة لشدة تدفقه‪ ،‬فحطم السد وانساحت املياه‬
‫فطغت وأغرقت مث مل يعد املاء خيزن بعد ذلك فجفت واحرتقت‪ .‬وتبدلت تلك اجلنان الفيح‬
‫ناه ْم بجِ َ�نَّ�تَْي ِه ْم َج�نَّ�تَينْ ِ َذواتيَْ أُ ُك ٍل‪ :‬خمَْ ٍط َوأَثْ ٍل‬
‫«وبَ َّدلْ ُ‬
‫صحراء تتناثر فيها األشجار الربية اخلشنة‪َ :‬‬
‫َو َش ْي ٍء ِم ْن ِس ْد ٍر قَلِ ٍيل» ‪..‬واخلمط شجر األراك أو كل شجر ذي شوك‪ .‬واألثل شجر يشبه‬
‫ناه ْم بمِ ا‬ ‫ِ‬
‫ك َجَزيْ ُ‬ ‫الطرفاء‪ .‬والسدر النبق‪ .‬وهو أجود ما صار هلم ومل يعد هلم منه إال قليل! «ذل َ‬
‫(‪((1‬‬
‫َك َف ُروا»‪..‬واألرجح أنه كفران النعمة‪).‬‬
‫ووصف متاعهم ابلقلة هنا وصف يف مقام الذم؛ ألنه يف مقام العقوبة على ما قدموا‪،‬‬
‫واجلزاء على ما اقرتفوا من نكران النعم‪ ،‬وهذه سنة هللا ﷻ يف جحد النعمة بعد معرفتها والتمتع‬
‫هبا‪ ،‬وهي سنة ال تتبدل وال تتحول‪.‬‬

‫(‪ ((1‬جامع البيان‪.)483 /02( :‬‬


‫(‪ ((1‬تفسري ابن كثري‪ ،‬ت سالمة‪.)805 /6( :‬‬
‫(‪ ((1‬يف ظالل القرآن‪ ،)1092 /5( :‬تفسري املراغي‪.)07 /22( :‬‬
‫‪46‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫لبث الدنيا مهما طال قليل‬


‫ومن املواطن اليت ورد فيها ذم القلة وصف املكث يف الدنيا للمكذبني‪ ،‬قال تعاىل‪ ﴿:‬يَ ْو َم‬
‫اَّ‬ ‫بَ‬ ‫َ ْ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ ُ ُّ َ‬
‫ون إِ ْن لِثْ ُت ْم إِل قَلِيل ﴾ سورة اإلسراء‪ .52:‬خاصة هلؤالء الذين يعيثون‬‫جيبون حِبم ِده ِ وتظن‬
‫يدعوكم فتست ِ‬
‫فيها فسادا‪ ،‬مكذبني منكرين‪ ،‬جاحدين ‪ ،‬فتأخذهم نوازل اآلخرة‪ ،‬وقبلها نوازل القرب فريون أن‬
‫َ َّ َ َ ْ ُ َ ً‬ ‫الدنيا ابلنسبة ملا يعاينونه قليلة قصرية‪ ،‬فيقول هللا ﷻ هلم ‪ ﴿:‬أَفَ َ‬
‫حسِبْ ُت ْم أن َما خلق َناك ْم ع َبثا﴾‬
‫(أفحسبتم أيها األشقياء أان إمنا خلقناكم إذ خلقناكم‪ ،‬لعبا وابطال وأنكم إىل ربكم بعد مماتكم‬
‫(‪((1‬‬
‫ال تصريون أحياء‪ ،‬فتجزون مبا كنتم يف الدنيا تعملون؟)(‪،((1‬ومعناه‪(:‬ما لَبِ�ثْتُ ْم إال قَ ً‬
‫ليال‪).‬‬
‫ووصف هللا تعاىل لبثهم يف الدنيا ابلقلة ابلنسبة ملا يالقون يف اآلخرة‪ ،‬وساعات الصفاء قليلة‬
‫متر سريعة‪ ،‬وساعات املشقة بطيئة ثقيلة‪ ،‬كما قال أبو متام‬
‫ـــام‬
‫ذكر النوى‪ ،‬فكأهنا أي ُ‬ ‫ُ‬ ‫وص ٍل كان يُنسي طولهَ ا‬ ‫أعــــــــوام ْ‬
‫ـت جبَوى أسى‪ ،‬وكأهنا أعو ُام‬ ‫ـــــــــج ٍر أردفَ ْ‬
‫ــــــــام ه ْ‬
‫مث انـــــربت أي ُ‬
‫(‪((1‬‬
‫مث انقضت تلك السنون وأهلها فكأهنا وكأهنم أحــــــــــــــالم‬
‫ال ُم ْكثُهُ فيِ الدُّ�نْيَا فَِإنَّهُ يَ ُكو ُن‬ ‫َن الْو ِ‬
‫اح َد َوإِ ْن طَ َ‬ ‫لأِ‬
‫وإمنا مسى هللا لبثهم يف الدنيا قليال‪َ َّ ( :‬‬
‫َي‪َ :‬ما لَبِ�ثْتُ ْم‬ ‫َن لُ�بْثَهُ فيِ الدُّ�نْيا والقرب م�تنَ ٍاه َ ِ‬
‫قال إ ْن لَبِ�ثْتُ ْم‪ ،‬أ ْ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ث فيِ الآْ ِخَرِة لأِ َّ‬ ‫قَلِيلاً فيِ َجْن ِ‬
‫ب َما �يَْلبَ ُ‬
‫(‪((1‬‬
‫فيِ الدُّ�نْيَا‪ ،‬إِلاَّ قَلِيلاً ‪ ،‬سمََّاهُ قَلِيلاً ‪ ،‬لَ ْو أَنَّ ُك ْم ُك�نْتُ ْم �تَْعلَ ُمو َن‪ ،‬قدر لبثكم يف الدنيا)‬
‫(استقصروا م ّدة لبثهم يف الدنيا ابإلضافة إىل خلودهم وملا هم فيه من عذاهبا‪ ،‬ألن‬
‫مر عليه من أايم الدعة إليها‪ .‬أو ألهنم كانوا يف سرور‪،‬‬ ‫املمتحن يستطيل أايم حمنته ويستقصر ما ّ‬
‫وأايم السرور قصار‪ ،‬أو أل ّن املنقضي يف حكم ما مل يكن‪ ،‬وصدقهم هللا يف مقاهلم لسين لبثهم‬
‫(‪((1‬‬
‫يف الدنيا ووخبهم على غفلتهم اليت كانوا عليها)‬

‫(‪ ((1‬جامع البيان‪.)38 /91( :‬‬


‫(‪ ((1‬معاين القرآن وإعرابه للزجاج‪.)52 /4( :‬‬
‫(‪ ((1‬انظر‪ :‬شرح ديوان أيب متام‪ ،37/2:‬ط‪:‬دار الكتاب العريب‪،‬ط الثانية‪4141،‬ه‪4991،‬م‪ ،‬الوساطة بني املتنيب‬
‫وخصومه ‪.22/1 :‬‬
‫(‪ ((1‬تفسري البغوي‪.)773 /3(:‬‬
‫(‪ ((1‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل‪.)502 /3( :‬‬
‫‪47‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫سكنى من بطروا معيشتهم يف الدنيا قليلة‬


‫بطروا معيشتهم‪ ،‬وصف‬ ‫َ‬
‫ومن املواطن اليت ورد فيها وصف القلة ابلذم وصف سكىن من‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫﴿وك ْم أهلك َنا م ِْن ق ْر َي ٍة بَ ِط َرت‬‫َ‬ ‫القرآن سكناهم أبهنا مل تسكن من بعدهم إال قليال‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ َّ حَ ْ‬ ‫َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ُ ُ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ ْ َ ْ ْ اَّ َ لاً‬
‫َوكنا ن ُن ال َوارِثِني﴾سورة القصص‪.)58( :‬‬ ‫معِيشتها فتِلك مساكِنهم لم تسكن مِن بع ِدهِم إِل قل ِي‬
‫يشتَها يعين‪ :‬كفرت برزق رهبا‪ .‬ذكر‬ ‫ت َمعِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫(وَك ْم أ َْهلَ ْكنا م ْن �قَْريَة فيما مضى بَطَر ْ‬
‫واملعىن‪َ :‬‬
‫القرية‪ ،‬وأراد به أهل القرية يعين‪ :‬أهنم كانوا يتقلّبون يف رزق هللا تعاىل فلم يشكروه يف نعمته‪.‬‬
‫يشتَها يعين‪ :‬طغوا يف نعمة هللا‪ ،‬فأهلكهم هللا تعاىل ابلعذاب يف الدنيا‪.‬‬ ‫ت َمعِ َ‬ ‫ِ‬
‫ويقال‪ :‬بَطَر ْ‬
‫ك َمساكِ�نُُه ْم يعين‪ :‬انظروا واعتربوا يف بيوهتم ودايرهم‬ ‫ويقال‪ :‬عاشوا يف البطر وكفران النعم فَتِْل َ‬
‫بقيت خالية لمَْ تُ ْس َك ْن ِم ْن �بَْع ِد ِه ْم إِلاَّ قَلِيلاً وهم املسافرون ينزلون هبا يوماً أو ساعة َوُكنَّا نحَْ ُن‬
‫ِ‬
‫ني يعين‪ :‬نرث األرض ومن عليها‪).‬‬ ‫الْوا ِرث َ‬
‫(‪((1‬‬

‫(مل يعرفوا قدر نعمتهم‪ ،‬ومل يشكروا سالمة أحواهلم‪ ،‬وانتظام أمورهم‪ ،‬فهاموا يف أودية‬
‫فخروا يف أودية الصغار على أذقاهنم‪ ،‬وأذاقهم هللا من كاسات اهلوان‬ ‫الكفران على وجوههم‪ّ ،‬‬
‫ما كسر مخار بطرهم فأماكنهم منهم خالية‪ ،‬وسقوفها عليهم خاوية‪ ،‬وغرابن الدمار فيها‬
‫(‪((2‬‬
‫انعبة)‬
‫(إن بطر النعمة‪ ،‬وعدم الشكر عليها‪ ،‬هو سبب هالك القرى‪ .‬وقد أوتوا من نعمة هللا‬
‫ذلك احلرم اآلمن فليحذروا إذن أن يبطروا‪ ،‬وأال يشكروا‪ ،‬فيحل هبم اهلالك كما حل ابلقرى‬
‫اليت يروهنا ويعرفوهنا‪ ،‬ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية‪« ..‬لمَْ تُ ْس َك ْن ِم ْن �بَْع ِد ِه ْم إِلاَّ‬
‫قَلِيلاً » وبقيت شاخصة حتدث عن مصارع أهلها‪ ،‬وتروى قصة البطر ابلنعمة وقد فين أهلها‬
‫ِ‬
‫ني»‪.‬‬‫«وُكنَّا نحَْ ُن الْوا ِرث َ‬
‫فلم يعقبوا أحدا‪ ،‬ومل يرثها بعدهم أحد َ‬
‫(‪((2‬‬

‫متاع اجلاحدين يف الدنيا قليل‬


‫ومن مواطن القلة املذمومة‪ :‬وصف متاع اجلاحدين يف الدنيا أبنه قليل‪ ،‬سواء كان‬
‫ُ َ ّ ُ ُ ْ َ لاً ُ َّ َ ْ َ ُّ ُ ْ ىَ َ َ‬
‫اب‬ ‫طعاما أو شرااب أو أي صورة من صور املتاع‪ ،‬قال ﷻ‪﴿ :‬نمتِعهم قل ِي ثم نضطرهم إِل ع ٍ‬
‫ذ‬
‫َ‬
‫غل ٍِيظ﴾ سورة لقمان‪ )24(:‬واملعىن‪( :‬نمَُِّهلُ ُه ْم فيِ َه ِذ ِه الدُّ�نْيَا َم ْهلاً قَلِيلاً يتَ َم�تَّعُو َن‪ ،‬ثمَُّ نُوِرُد ُه ْم َعلَى ُك ْرٍه‬
‫ب ِم�نَْها‪((2().‬والعذاب‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب النَّا ِر‪� ،‬نَعُوذُ باِ هَّلل م�نَْها‪َ ،‬وم ْن َع َم ٍل �يَُقِّر ُ‬ ‫ِم�نْ ُه ْم َع َذاباً َغليظًا‪َ ،‬و َذل َ‬
‫ك َع َذ ُ‬
‫(‪ ((1‬حبر العلوم‪.)416 /2( :‬‬
‫(‪ ((2‬لطائف اإلشارات‪.)47 /3( :‬‬
‫(‪ ((2‬يف ظالل القرآن‪.)4072 /5(:‬‬
‫(‪ ((2‬جامع البيان‪.)075 /81( :‬‬
‫‪48‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫(‪((2‬‬
‫قليال‪).‬‬
‫قليال ووقتاً ً‬ ‫فيِ الدُّ�نْيَا‪�(،‬يَْعنيِ ‪ :‬إِلىَ َم ْوتهِِ ْم)(‪ ،((2‬أي‪( :‬ميهلهم يف الدنيا ً‬
‫إمهاال ً‬
‫وهللا ﷻ يبني للمؤمنني الصادقني أن متاع هؤالء ال يدوم؛ فال يغرنكم ما هم فيه‪ ،‬فهو‬
‫ظل زائل‪ ،‬وعارية مسرتدة‪ ،‬يبتليهم هللا هبا ويبتلي هبا غريهم‪ ،‬فكأنه ﷻ يقول‪(:‬لاَ �تَْنظُُروا إِلىَ‬
‫فع ّما قَلِ ٍيل �يَُز ُ‬
‫ول َه َذا ُكلُّهُ َع�نْ ُه ْم‪،‬‬ ‫َما َه ُؤلاَ ِء الْ ُك َّفا ِر ُمترْ فون فِ ِيه‪ِ ،‬م َن النِّ ْع َمة والغِْبطَة َو ُّ‬
‫الس ُروِر‪َ ،‬‬
‫يه ﴿‬ ‫السيِئ ِة‪ ،‬فَِإنمََّا نمَُّد لهَ م فِيما هم فِ ِيه استِ ْدراجا‪ ،‬وجمَِ يع ما هم فِ ِ‬ ‫ويصبِحو َن مرتهَ ْ بأِ لهِِ‬
‫ْ َ ً َ ُ َ ُْ‬ ‫نني ْ َ َْع َََّما ُ َُم ْ َ َّ َّ ْ َ ُ (‪ْ ُ َ ُْ ((2‬‬ ‫َ ُ ْ َ ُ ٌ ُ َُّ َ َ ُ‬
‫متَاعٌ قل ِيل ثم مأواهم جهنم وبِئس ال ِمهاد﴾‬

‫القلة املذمومة يف العدد‬


‫كثر ورود القلة يف العدد يف القرآن الكرمي يف موطن املدح‪ ،‬وهنا وردت القلة يف العدد‬
‫يف القرآن الكرمي‪ ،‬ومن ذلك قوله ﷻ‪َ ﴿:‬ح ىَّت‬ ‫القليلة الورود‬ ‫وهذا من َ املواطن‬ ‫َيف َموطن الذم‬
‫َ َ ُّ‬ ‫َ ُ‬‫َ َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫إذا َرأوا ما يوعدون فس َيعل ُمون من أضعف ن رِ ً‬ ‫ْ َ ُ َ ُ َ‬
‫اصا َوأقل عددا﴾سورة‪ :‬اجلن‪.)24( :‬‬ ‫ِ‬

‫والوصف بقلة العدد هنا من مواطن الوصف ابلقلة املذمومة‪ ،‬ومعىن اآلية الكرمية‪(:‬إذا‬
‫ف ناَ ِصًرا َوأَقَ ُّل َع َد ًدا)‪،‬‬
‫َض َع ُ‬
‫عاينوا ما يعدهم رهبم من العذاب وقيام الساعة (فَ َس�يَْعلَ ُمو َن َم ْن أ ْ‬
‫أجند هللا الذي أشركوا به‪ ،‬أم هؤالء املشركون به)(‪(،((2‬فهو التهديد الظاهر وامللفوف ملن يبلغه‬
‫هذا األمر مث يعصي‪ .‬بعد التلويح ابجلد الصارم يف التكليف بذلك البالغ‪ ،‬وإذا كان املشركون‬
‫يركنون إىل قوة وإىل عدد‪ ،‬ويقيسون قوهتم إىل قوة حممد ﷺ واملؤمنني القالئل معه‪ ،‬فسيعلمون‬
‫انصراً َوأَقَ ُّل َع َدداً» وأي‬ ‫َضعف ِ‬
‫«م ْن أ ْ َ ُ‬‫حني يرون ما يوعدون‪ -‬إما يف الدنيا وإما يف اآلخرة‪َ -‬‬
‫(‪((2‬‬
‫الفريقني هو الضعيف املخذول القليل اهلزيل!)‬
‫قلة شكر عموم الناس‬
‫القرآن الكرمي َ يف مواطن متعددة منها قول هللا‬
‫َ‬
‫ابلقلة لشكر عموم الناس يف‬
‫َ َ‬
‫ورد الوصف‬
‫ْ َ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ ُ َّ ْ َ َ أْ ْ َ َ َ أْ ْ َ َ َ لاً َ َ ْ ُ‬ ‫ُ ْ ُ ذَّ‬
‫ما تشك ُرون﴾ امللك‪:‬‬ ‫ﷻ ﴿قل ه َو الِي أنشأكم وجعل لكم السمع والبصار والفئِدة قل ِي‬
‫َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ لاً َ َ ْ ُ َ‬ ‫أْ َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َََ‬
‫ض َوجعلنا لكم فِيها معايِش قل ِي ما تشك ُرون﴾سورة‬ ‫﴿ولق ْد َمك َّناك ْم يِف ال ْر ِ‬ ‫(‪ ،)23‬وقوله ﷻ‬
‫األعراف‪ ،)10( :‬وقوله‪:‬‬
‫(‪ ((2‬تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني‪ ،)773 /3( :‬تفسري السمعاين‪..)532 /4( :‬‬
‫(‪ ((2‬اهلداية إىل بلوغ النهاية‪.)5375 /9( :‬‬
‫(‪ ((2‬تفسري ابن كثري‪.)291 /2( :‬‬
‫(‪ ((2‬جامع البيان‪ ،)176 /32(:‬تفسري ابن فورك‪.)66 /3( :‬‬
‫(‪ ((2‬يف ظالل القرآن‪.)7373 /6( :‬‬
‫‪49‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ ُ َّ ْ َ َ أْ َ ْ َ َ َ أْ َ ْ َ َ َ لاً َ َ ْ ُ‬ ‫ََ َ‬ ‫ُ‬


‫ما تشك ُرون﴾سورة‬ ‫حهِ وجعل لكم السمع والبصار والفئِدة قل ِي‬ ‫﴿ث َّم َس َّواهُ َونفخ فِيهِ م ِْن ُرو ِ‬
‫(‪((2‬‬
‫السجدة‪( )9( :‬يعين ابلقليل أهنم ال يشكرون رب هذه النعم يف حسن خلقهم فيوحدونه)‬
‫(‪((2‬‬
‫أي‪(:‬قليال ما تشكرون ربكم على هذه النعم اليت أنعمها عليكم‪).‬‬
‫ودهلم هللا ﷻ على موطن املؤاخذة وهو أهنم مل يسخروا النعم فيما خلقت هلا‪ ،‬فلم يسمعوا‬
‫مراد هللا‪ ،‬ومل أيمتروا أبمره وينتهوا بنهيه‪ ،‬ومل يعقلوا عنه‪ ،‬وهو الذي خلقهم لذلك‪( ،‬قُ ْل ُه َو الَّ ِذي‬
‫صار يعين‪ :‬لكي تبصروا‪،‬‬ ‫أَنْ َشأَ ُك ْم يعين‪ :‬خلقكم َو َج َع َل لَ ُك ُم َّ‬
‫الس ْم َع لكي تسمعوا هبا احلق‪َ ،‬والأْ َبْ َ‬
‫َوالأْ َفْئِ َد َة يعين‪ :‬القلوب لكي تعقلوا هبا اهلدى‪.‬قَلِيلاً َّما تَ ْش ُكُرو َن يعين‪ :‬شكركم فيما صنع إليكم‬
‫قليالً‪ .‬ويقال‪ :‬معناه خلق لَ ُك ُم السمع واألبصار واألفئدة آلة لطاعة ربكم‪ ،‬وقطعاً حلجتكم‪ ،‬وقدرة‬
‫(‪((3‬‬
‫على ما أمركم فاستعملتم اآلالت يف طاعة غريه ومل توحدوه‪).‬‬
‫(ذكر عظيم منّته عليهم أبن خلق هلم هذه األعضاء‪ ،‬وطالبهم ابلشكر عليها‪ .‬وشكرهم عليها‬
‫السمع أال تسمع إال ابهلل وهلل‪ ،‬وشكر البصر أال تنظر إال ابهلل هلل‪ ،‬وشكر‬ ‫ّ‬ ‫استعماهلا يف طاعته فشكر‬
‫(‪((3‬‬
‫حتب به غري هللا‪).‬‬
‫القلب ألاّ تشهد غري هللا‪ ،‬وألاّ ّ‬
‫ولعل السر يف ختصيص السمع واألبصار واألفئدة ألهنا مواطن االنتفاع يف احلياة‪،‬‬
‫وألهنا (يتعلق هبا من املنافع الدينية والدنيوية ما ال يتعلق بغريها‪ .‬ومقدمة منافعها أن يعملوا‬
‫ويستدلوا بقلوهبم‪ .‬ومن مل َيعملها فيما‬ ‫َ‬
‫أمساعهم وأبصارهم يف آايت هللا وأفعاله‪ ،‬مث ينظروا‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫خلقت له فهو مبنزلة عادمها‪ ،‬كما قال هللا ﷻ‪﴿:‬فما أغىن عن ُه ْم َس ْم ُع ُه ْم َوال أب ْ ُ‬
‫صاره ْم َوال‬
‫َ‬
‫َْ َْ ُ َ‬ ‫َ َ ْ َ اَ ُ‬ ‫أفْئ َد ُت ُه ْم م ِْن يَ ْ‬
‫ش ٍء إذ اكنوا جيحدون بآيات اهلل َوحاق ب ِ ِهم ما كنوا بِهِ يسته ِزئون﴾سورة األحقاف‪.26:‬‬ ‫ِ‬
‫ومقدمة شكر النعمة فيها اإلقرار ابملنعم هبا‪ ،‬وأن ال جيعل له ن ّد وال شريك‪ ،‬أي‪ :‬تشكرون‬
‫(‪((3‬‬
‫شكرا قليال‪ ،‬وما مزيدة للتأكيد مبعىن حقا)‬
‫ويف اآلية الكرمية تنبيه على أن هذا العطاء ملهمة‪ ،‬وأن إغفال اإلفادة من هذه النعم‬
‫ال‪ :‬أَعطَ�يت ُكم ه ِذ ِه الإِْ عطَاء ِ‬
‫ات‬ ‫ْ َ‬ ‫جملبة للوم والذم‪ ،‬انهيك عن العتاب والعقاب‪َ (،‬كأَنَّهُ �تََعالىَ قَ َ ْ ُْ ْ َ‬
‫وها �فَلَ ْم �تَْق�بَلُوا َما سمَِ ْعتُ ُموهُ َولاَ ْاع�تَ�بَْرتمُْ بمِ َا‬ ‫ال�ثَّلاَ ثَةَ مع ما فِيها ِمن الْ ُقوى َّ ِ ِ‬
‫الش ِري َفة‪ ،‬لَكنَّ ُك ْم َ‬
‫ض�يَّْعتُ ُم َ‬ ‫ََ َ َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‪،‬‬ ‫ض�يَّْعتُ ْم َهذه النّ َع َم َوأَفْ َسدْتمُْ َهذه الْ َم َواه َ‬ ‫ص ْرتمُُوهُ‪َ ،‬ولاَ تأَ ََّم ْلتُ ْم فيِ َعاقبَة َما َع َق ْلتُ ُموهُ‪ ،‬فَ َكأَنَّ ُك ْم َ‬
‫أَبْ َ‬
‫(‪ ((2‬تفسري مقاتل بن سليمان‪.)944 /3( :‬‬
‫(‪ ((2‬جامع البيان‪.)715 /32( :‬‬
‫(‪ ((3‬حبر العلوم‪.)874 /3( :‬‬
‫(‪ ((3‬لطائف اإلشارات‪.)385 /2( :‬‬
‫(‪ ((3‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل‪،)891 /3( :‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪)93 /4( :‬‬
‫‪50‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫َن ش ْكر نِعم ِة هَِّ‬ ‫ال‪ :‬قَلِيلاً ما تَ ْش ُكرو َن و َذلِ لأِ‬ ‫فَلِ َه َذا قَ َ‬
‫ف تِْل َ‬
‫ك النِّ ْع َمةَ إِلىَ‬ ‫ص ِر َ‬
‫الل ﷻ ُه َو أَ ْن يَ ْ‬ ‫ك َّ ُ َ ْ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫ضاتِِه فَأَ�نْتُ ْم ما شكرمت نعمته‬ ‫ب َم ْر َ‬ ‫صر والْ َع ْقل لاَ إِلىَ طَلَ ِ‬
‫الس ْم َع َوالْبَ َ َ َ َ‬ ‫ضاهُ‪َ ،‬وأَ�نْتُ ْم لَ َّما َ‬
‫صَر�فْتُ ُم َّ‬ ‫ِ‬
‫َو ْجه ِر َ‬
‫(‪((3‬‬
‫ألبتة)‬
‫قلة إميان املدعوين‬
‫من املواطن اليت ورد فيها ذم القلة‪ ،‬أو التعبري عنها يف مقام الذم‪ ،‬وصف إميان املدعوين‬
‫لاً‬
‫﴿و َما ُه َو ب ِ َق ْو ِل َشاع ٍِر قَلِي َما تُ ْؤم ُِنونَ﴾سورة‪ :‬احلاقة‪ .)41( :‬واملعىن‪:‬‬
‫َ‬ ‫ابلقلة‪ ،‬وورد ذلك يف قوله ﷻ‪:‬‬
‫(‪((3‬‬
‫(أقلكم من يُؤمن)‬
‫والقلة هنا تدل على العدم‪ ،‬أو الوجود غري املفيد فهو أشبه ابلعدم‪ ،‬أي‪( :‬ال تصدقون‬
‫قل ما‬
‫أبن القرآن من عند هللا‪ ،‬وأريد ابلقليل نفي إمياهنم أصلاً ‪ ،‬كما تقول ملن ال يزورك‪َّ :‬‬
‫أتتينا‪ ،‬وأنت تريد‪ :‬ال أيتينا أصلاً )(‪( ،((3‬أَي‪ :‬لاَ تؤمنون أصال‪ ،((3().‬فالقلة مبعناها األصلي‪،‬‬
‫أو داللتها الفرعية على العدم هنا يف موطن الذم‪.‬‬
‫قلة تذكر املدعوين‬
‫من املواطن اليت ورد فيها احلديث عن القلة يف مقام الذم‪ ،‬وصف تذ ّكر املدعوين ابلقلة‪،‬‬
‫َ لاً َ َ َ َّ َ‬ ‫اَ‬ ‫َ اَ َ‬
‫﴿ول بِق ْو ِل كه ٍِن قل ِي ما تذك ُرون﴾‪،‬سورة‪:‬‬ ‫وقد ورد ذلك يف مواطن متعددة منهاَ قوله ﷻ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫اَ‬
‫ات َول ال ُم يِس ُء‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫﴿و َما ي َ ْس َتوي أْال ْع ىَم َو بْالَ ِصري َوال َ‬
‫ِين آ َمنوا َوع ِملوا الص حِ َ‬
‫ال ِ‬
‫ذَّ‬ ‫ُ‬ ‫احلاقة‪ .)42( :‬وقوله ﷻ‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫كشِ ُف ُّ‬ ‫َّ ْ يجُ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ َ اَ ُ َ َ ْ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َ لاً‬
‫وء‬‫الس َ‬ ‫قل ِي َما ت َتذك ُرونَ﴾‪،‬سورة غافر‪ ،)58( :‬وقوله ﷻ‪ ﴿:‬أمن ِيب المضطر إِذا دعه وي‬
‫َ َ ْ َ ُ ُ ْ ُ َ َ َ أْ َ ْ َ هَ ٌ َ َ هَّ َ لاً َ َ َ َّ ُ َ‬
‫ون﴾‪ ،‬سورة النمل‪ .)62( :‬والتذكر هنا مبعىن‬ ‫ويجعلكم خلفاء الر ِض أإل مع اللِ قل ِي ما تذكر‬
‫االتعاظ‪ ،‬يقول الطربي‪( :‬قليال ما تعتربون به‪ ((3().‬أو‪ (:‬قليال ما تتعظون وتعتربون فرتاجعون‬
‫احلق‪ ،((3().‬أو أن املراد أقلكم املتذكر‪ ،‬فالقلة هنا إما يف فعل التذكر‪ ،‬وإما يف عدد املتذكرين‪،‬‬
‫(‪((3‬‬
‫أو املراد قلة زمن التذكر‬

‫(‪ ((3‬مفاتيح الغيب‪.)595 /03( :‬‬


‫(‪ ((3‬تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني‪.)33 /5(:‬‬
‫(‪ ((3‬التفسري الوسيط للواحدي‪.)843 /4( :‬‬
‫(‪ ((3‬تفسري السمعاين‪.)24 /6( :‬‬
‫(‪ ((3‬جامع البيان‪ ،)295 /32( :‬حبر العلوم‪.)294 /3( :‬‬
‫(‪ ((3‬جامع البيان ‪.)992 /21( :‬‬
‫(‪ ((3‬راجع‪ :‬تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني‪ ،)211 /2( :‬التفسري املظهري (‪ ،)75 /01‬بتصرف يسري‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫واملراد من القلة هنا‪ :‬إما الندرة‪ ،‬وإما العدم‪ ،‬على عادة القرآن الكرمي يف التعبري ابلقلة على‬
‫العدم أو الفعل غري املفيد الذي وجوده كالعدم‪ ،‬وتذييل اآلية الكرمية بنفي التذكر إشارة على‬
‫ِ‬
‫العدم‬
‫يد هبا ُ‬ ‫لتأكيد معىن القلَّ ِة اليت أر َ‬ ‫وضوح هذه النعم اليت دهلم القرآن عليها‪( ،‬وما مزيدةٌ‬
‫الكالم بنفي التذك ِر عنهم إيذا ٌن َّ‬
‫أبن‬ ‫ِ‬ ‫وعدم اجلدوى ويف تذييل‬ ‫أو ما جيري جمراه يف احلقارِة ِ‬
‫يتوقف إال على التوجه إليه‬
‫ُ‬ ‫الوضوح حبيث ال‬
‫ِ‬ ‫وغيب وأنَّه من‬
‫ذكي َ‬‫كل َ‬‫كوز يف ذه ِن ِّ‬
‫مضمونَهُ مر ٌ‬
‫وتذكره)(‪.((4‬‬
‫وقد يكون املراد من القلة‪ :‬الوجود القليل‪ ،‬وذلك ما كان يظهر منهم على ندرة‪،‬‬
‫(والْ ِقلَّةُ هو إِ�قرارهم إِ َذا سئِلُوا من خلَ َقهم؟ قَالُوا‪ :‬هَِّ‬
‫الل)(‪ ((4‬وقد قرئ ابلغيبة‪ ،‬وهلا داللة إضافية‪،‬‬ ‫َ ُ َ َْ ُ ُ ْ ُ َ ْ َ ُ ْ‬
‫ِ‬
‫اخلطاب عنهم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫االمتثال ابألمر والنهي وصرف‬ ‫سوء حالهِ م يف عدم‬ ‫هي‪(:‬اإليذان ابقتضاء ِ‬
‫(‪((4‬‬
‫وحكاية جناايتهِ م لغ ِريهم بطريق املباالة)‬
‫ِ‬
‫النعي على من يشرتي بآيات اهلل مثنا ً‬
‫قليال‬
‫كل عوض عن آايت هللا قليل‪ ،‬فال يشرتى هبا سواها‪ ،‬وال يعدل هبا غريها‪ ،‬فمن ذا‬
‫الذي يستبدل الذي هو أدىن ابلذي هو خري؟‪ ،‬ولقد وردت القلة يف موطن الذم يف النعي‬
‫ْ‬ ‫هَّ َ َ لاً َّ‬ ‫َ اَ َ ْ ترَ‬
‫﴿ول تش ُ وا ب ِ َع ْه ِد اللِ ث َم ًنا قل ِي إِن َما عِن َد‬ ‫على من يشرتي آبايت هللا مثنا قليالً‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬
‫ان باِ هَِّ‬
‫اضوا ع ِن الإِْ يمَْ ِ‬ ‫هَّ ُ َ َيرْ ٌ َ ُ ْ ْ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫لل َعَرض‬ ‫اللِ هو خ لكم إِن كنتم تعلمون﴾‪،‬سورة النحل‪.)95( :‬أي‪( :‬لاَ �تَْعتَ ُ َ‬
‫الحْ ي ِاة الدُّ�نيا وِزي�ن�تها‪ ،‬فَِإ�نَّها قَلِيلَةٌ‪ ،‬ولَو ِحيزت لاِ ب ِن آدم الدُّ�نيا بحِ َذافِ ِريها لَ َكا َن ما ِعْن َد هَِّ‬
‫الل ُه َو‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ ْ ْ َ َ َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َ ََ‬ ‫ََ‬
‫ِ ِ (‪((4‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الل َو�ثََوابُهُ َخ�يٌْر ل َم ْن َر َجاهُ َو َآم َن به َوطَلَبَهُ‪َ ،‬و َحف َظ َع ْه َدهُ َر َجاءَ َم ْوعُوده)‬
‫َي‪َ :‬جَزاءُ هَّ‬
‫َخ�يٌْر لَهُ‪ ،‬أ ْ‬
‫ومن نظر إىل موعود هللا ﷻ ونظر إىل الدنيا استقل الدنيا مبا فيها ومن فيها‪ ،‬فال خيتار‬
‫على مراد هللا شيئاً‪ ،‬ومل مينعه من تنفيذ أمره عرض من أعراض الدنيا‪( ،‬فال ختتاروا على القيام‬
‫حبق هللا والوفاء بعهده عوضا يسريا مما تنتفعون به من حطام دنياكم من حاللكم وحرامكم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فإ ّن ما أع ّد هللا لكم يف جناته‪ -‬بشرط وفائكم إلميانكم‪ -‬يوىف ويربو على ما تتعجلون به من‬
‫(‪((4‬‬
‫حظوظكم‪ ((4().‬ذلك أن (كل ما يف الدنيا قليل)‬
‫(‪ ((4‬إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي‪.)592 /6( :‬‬
‫(‪ ((4‬البحر احمليط يف التفسري‪.)562 /01( :‬‬
‫(‪ ((4‬إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي‪.)112 /3( :‬‬
‫(‪ ((4‬تفسري ابن كثري‪.)006 /4( :‬‬
‫(‪ ((4‬لطائف اإلشارات‪.)813 /2( :‬‬
‫(‪ ((4‬أيسر التفاسري للجزائري‪.)451 /3( :‬‬
‫‪52‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫املبحث الرابع‬
‫سنن اهلل يف القلة‬

‫الناظر يف آايت القلة يف القرآن الكرمي جيد أهنا متضي يف خط واحد‪ ،‬وتسعى إىل هدف‬
‫حمدد‪ ،‬مبا يربز صورة متكاملة عن قضية كلية‪ ،‬هلا مالحمها ومساهتا‪ ،‬وهلا أصول جامعة‪ ،‬ونظائر‬
‫متناسقة‪ ،‬وميكن أن نرصد تلك السننية يف خطوتني‪:‬‬
‫• األوىل يف بيان مالمح الرتابط السنين يف آايت القلة‪.‬‬
‫• والثانية يف بيان األصول اجلامعة لقضية السننية يف القلة‬
‫مالمح الرتابط السنين يف آيات القلة‬
‫الناظر يف آايت القلة الواردة يف القرآن الكرمي جيد هذا اخليط الدقيق الرقيق الذي يربطها‬
‫وجيمعها من أوهلا إىل آخرها‪ ،‬ال تنقض آية أختها‪ ،‬وال تشاكسها وال تعكر صفوها‪ ،‬وال تكدر‬
‫رواءها‪ ،‬بل متشي يف مسارها‪ ،‬وتؤكد عطاءها‪ ،‬وترسخ داللتها‪ ،‬سواء ذلك يف وصف الفئة‬
‫املؤمنة اليت اتبعت نوحا  ‪ ،‬وآمنت به إذ كذبه الناس‪ ،‬وانصرته إذ ختلى عنه البشر‪ ،‬القريب‬
‫والغريب والصديق والعدو حىت ابنه الذي هو من صلبه‪ ،‬ختلى عن دعوته وهجر رسالته‪.‬‬
‫والفئة القليلة من قوم نوح هي‪ ،‬هي‪ ،‬اليت وصفها قومها أبهنم أراذل بل (أراذلنا)‪،‬‬
‫وأهنم متسرعون يف اإلميان (ابدي الرأي)‪ ،‬وأهنم ليس هلم على قومهم فضل وال سبق‪ ،‬وهذه‬
‫الصفات وتلك اخليوط الدقيقة اليت وقفنا أمامها تفصيال لدى احلديث عن صفات القلة‪ ،‬هي‬
‫هي اليت تتكرر يف كل قلة‪ ،‬مبا يؤكد خط السننية يف تلك اآلايت الكرمية‪ ،‬كما تلمح التهم‬
‫أتباع الرسول ﷺ ‪ ،‬ورغبة أهل مكة يف أن جيعل‬
‫نفسها والصفات ذاهتا تتكرر يف اهتام قريش َ‬
‫هلم الرسول يوما وهلؤالء يوما حىت نزل القرآن الكرمي ينهى رسول هللا عن ذلك ويصف هؤالء‬
‫أبهنم ﴿يريدون وجهه﴾‪ ،‬سورة الكهف‪ ،28:‬وأيمر نبيه أبن ال يعدو وجهه عنهم بقوله‪﴿:‬‬
‫ُ‬ ‫القلة‬
‫اص ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ جَ‬
‫ُ َ َ ً‬ ‫َ لَ‬ ‫اَ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫يَ‬ ‫ُ‬ ‫َُّ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َواتْل َما أ يِ َ‬
‫ب‬ ‫ت اَد مِن د و نِهِ ملتحد ا ‪ 27‬و رِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫اب ر ْبِك ل ْمبدِل ل ِك ِما تِهِ و لن ِ‬ ‫ِ‬ ‫وح إ ِلْك م ِْن ك َِت‬
‫َ َ َ َ يِّ ُ ُ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ُ َ َ‬
‫ينة‬
‫َ‬
‫ِين يَ ْد ُعون َر َ َّب ُه ْم بِالغد ا ة ِ والع‬‫ك َم َع ذَّال َ‬ ‫َْ َ َ‬
‫عيناك عنه ُم ت ِر حْيد زِ‬ ‫ش ي ِر يد ون وجهه و ل ت َعد‬ ‫ِ‬
‫ُّ ْ َ َ اَ ُ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ْ ْ َ َ َّ‬
‫نف حْس‬
‫ال ُّق مِنْ‬ ‫ات َب َع َه َواهُ َو اَك َن أ ْم ُرهُ فُ ُر ًطا ‪َ 28‬وقل َ‬ ‫طع من أ غفلنا قلبه عن ذِك ِر نا َ و‬ ‫ال َيا ة ِ ادل نيا و ل ت ِ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫ْ رُ َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ ّ ُ ْ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َّ ْ َ ْ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سا دِق َها ِإَون‬ ‫ح َ‬
‫اط ب ِ ِهم‬ ‫ارا أ َ‬‫ني نَ ً‬
‫ِلظا لِم َ‬
‫ِ‬ ‫ر بِكم فمن شاء فليؤمِن ومن شاء فليكفر إ ِنا أ عتد نا ل‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ذَّ‬ ‫َّ‬ ‫رَّ َ ُ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ً‬ ‫ْ‬ ‫يثوا ُي َغاثُوا ب َما ء اَك ل ْ ُم ْهل ي َ ْشو ي ال ْ ُو ُ‬ ‫َْ َ ُ‬
‫جوهَ بِئ َس الشاب وساء ت مر تفقا ‪ 29‬إ ِن الِين آ َمنوا‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫يستغِ‬
‫َّ اَ ُ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ََ‬ ‫الص حِ َ‬ ‫ُ‬
‫َو َعملوا َّ‬
‫ضيع أ جر من أ حسن عمل﴾ ‪ ،‬سورة الكهف‪.29،28،‬‬ ‫ات إ ِنا ل ن ِ‬ ‫ال ِ‬ ‫ِ‬

‫‪53‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫َ اَ َ ْ ُ ذَّ َ َ ْ ُ َ َ َّ ُ ْ ْ َ َ َ ْ َ يِّ ُ ُ َ‬
‫يد ون‬ ‫وينهاه عن طردهم بقوله‪﴿:‬و ل تطردِ الِين يد عون ر بهم بالغد ا ة ِ والعش ير‬
‫َ َ َ َ ْ ْ ْ ِ يَ ْ َ َ ْ ُ َ ُ ِ ْ َ ِ َ ُ َ‬ ‫ك م ِْن ح َِسا به ْم م ِْن يَ ْ‬
‫ش ٍء َو َما م ْ‬ ‫َ َُْ َ َ َْ َ‬
‫حِسا َبِك اَ علي ِهم مِن ش ٍء فتطرد هم ف َتكون‬ ‫ِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وجهه ما علي‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ هَّ ُ َ َ ْ ْ ْ َ ْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َ َ‬ ‫َّ‬
‫الظا لِم َ‬
‫ني ‪ 52‬و كذ ل ِك فتنا بعضهم بِبع ٍض يِلقولوا أ هؤ لءِ من الل علي ِهم مِن بين ِنا أ ليس‬ ‫م َِن َ َ ِ‬
‫َّ‬
‫الشا كِر َ‬ ‫هَّ ُ ْ َ‬
‫ين ‪ ﴾53‬سورة األنعام‪.53،52:‬‬ ‫ِ‬ ‫الل بِأ علم ب ِ‬
‫فهؤالء الذين وصفوا ابلقلة قدميا وحديثا ويف واقعنا الذي نعيشه وتتأكد فيه سنن هللا ﷻ‬
‫أتكدا يربهن على صالحية اإلسالم لكل زمان ومكان واستيعابه لشؤون الدنيا واآلخرة‪ ،‬هؤالء‬
‫هم خالصة قومهم وبقية جنسهم وجوهر أهل زماهنم‪ ،‬وهم الذين وعدوا ابلنصر يف كل زمان‬
‫لتحقق شروط النصر فيهم وهم أهل االبتالء واالختبار‪ ،‬والفرز والتمحيص‪ ،‬وهم دائما حلمة‬
‫واحدة‪ ،‬تلمح ذلك يف حديث اآلايت عن أتباع نوع  ويف بياانت القرآن املتعددة وعباراته‬
‫املوحية املوجهة‪ ،‬يف مثل قوله‪( :‬وما نرى لكم)‪،‬وقوله‪( :‬بل نظنكم)‪،‬وقوله‪( :‬ومن آمن)‪ ،‬كما‬
‫تلمح هذا التماسك يف الفئة املؤمنة مع طالوت يف قوله‪( :‬هو والذين آمنوا معه)‪،‬وقوله‪( :‬قال‬
‫الذين يظنون أهنم مالقوا هللا كم من فئة قليلة غلبت فئة كثرية إبذن هللا وهللا مع الصابرين)‪،‬‬
‫وقوله‪( :‬فهزموهم إبذن هللا)‪.‬‬
‫والفئة اليت آزرت رسول هللا ﷺ وآمنت به‪ ،‬تبدو فيها هذه الصفات اليت بدت يف‬
‫قوم نوح ويف الذين انصروا طالوت من عدم االحتفال ابملال واجلاه واملنصب والسلطان‪،‬‬
‫وأهنم املسارعون إىل التصديق ابلنبوة والرسالة‪ ،‬وهم الذين مجعهم اإلسالم وألف بينهم فكانوا‬
‫(فئة)‪،‬يفئ بعضهم إىل بعض‪ ،‬ويتضام كل أخ إىل أخيه‪ ،‬حىت يصري به وله عضدا وأزرا‪ ،‬حىت‬
‫أذاب هذا الدين فوارق اجلنس واللون والعرق واللسان والزمان واملكان‪ ،‬فصارت جنسيتهم‬
‫دينهم كما يقول األستاذ اإلمام حممد عبده  ‪ ،‬فأصبح عمر العدوي‪ ،‬وأبو بكر التيمي‪،‬‬
‫وبالل احلبشي‪ ،‬وسلمان الفارسي‪ ،‬وصهيب الرومي يف هللا إخوة‪ ،‬وأهل مكة أحزاب وشيع‬
‫وإن كانوا من قريش‪:‬‬
‫إن العروبة يف بـــــــــــــــدر قد اقتتلت سيفا لسيف وكان الكل عرابان‬
‫هلب كخ ٍ‬
‫ــــــالد قاد ابسم هللا فرســــــــاان‬ ‫جهل يف غيه وأبو ٍ‬
‫فهل أبو ٍ‬
‫عروبتان فــــــذي نــــــــور وذي ظلم شتان بينهما‪ ،‬شتان‪ ،‬شـــــــــــتاان‬
‫(‪((4‬‬
‫فإن نضــــــــــــح به اي أهل أمـــــــــــــتنا فإن أمتـــــــنا أوىل ضـــــحايــــــــــــــــاان‬

‫(‪ ((4‬من قصيدة للدكتور حسان حتحوت‪ ،‬رمحه هللا ألقاها يف حماضرة بعنوان‪(:‬جراح وأفراح)‪ ،‬يف جامعة العني‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫إن تلك القلة قدميا وحديثا ويف كل زمان ومكان هم السابقون إىل اإلميان‪ ،‬وهم أهل‬
‫العلم والفقه‪ ،‬وهم الواعون الواعبون لسنن هللا يف احلياة واألحياء‪ ،‬وهم أصحاب العزم واحلزم‪،‬‬
‫واإلرادة املاضية النافذة اليت تعوض قلة العدد بكثرة الثر وتعوض الكم ابلكيف وهم يف كل‬
‫زمان على صلة ابهلل عبادة ودعاء وصلة ورجاء‪ ،‬وهم مثال يف الصرب والثبات وطاعة القواد‬
‫تلمحهم مع طالوت ميتنعون عن الشرب وإن كان أمرا حيواي‪ ،‬ويعربون معه النهر وهم يرون‬
‫عدوهم يزيد يف العدد والعُدد والقوة والسالح والعتاد‪ ،‬وهم مع رسول هللا ﷺ (يروهنم مثليهم‬
‫رأي العني)‪ ،‬ولكن هللا يلقي يف قلوهبم السكينة‪ ،‬ويغشيهم النعاس أمنة منه‪ ،‬ويثبت أقدامهم‪،‬‬
‫ويربط على قلوهبم‪.‬‬
‫كما جتد اآلايت اليت تصف القلة يربطها خيط واحد واضح من عالقتهم ابحلياة‬
‫واألحياء‪ ،‬كوصف متاع احلياة الدنيا أبنه قليل‪ ،‬وأن أمان الكافرين يف الدنيا يزول وال يدوم‪،‬‬
‫وصف عموم الناس بقلة الشكر‪ ،‬وقلة التذكر وقلة العلم وقلة الفهم وقلة العقل‪ ،‬واخليط اجلامع‬
‫هلذه األشياء هي احلياة وما فيها وما يدور حوهلا‪ ،‬ويغري الناس هبا‪.‬‬
‫وال شك أن هذا كله يؤدي بعد مجعه إىل تكوين صورة صحيحة فصيحة دقيقة واضحة‬
‫عن القلة مدحا وذما‪ ،‬وإبراز موقف القرآن منها ‪ ،‬وتلك منهجية القرآن يف رسم صورة واضحة‬
‫املعامل بينة املالمح عن القلة اليت تناوهلا‪ ،‬تسلم كل آية إىل أختها‪ ،‬يف تناسق بديع ميهد فيه‬
‫السابق لالحق ويؤكد فيه الالحق على السابق يف تناغم واتساق‪ .‬‬
‫األصول اجلامعة لقضية السننية يف القلة‬
‫بعد رصد اآلايت اليت تناولت القلة مكية ومدنية‪ ،‬وسواء كانت تلك القلة يف األفراد أو‬
‫األمم أو األشياء ودرسها وأتمل دالالهتا ميكن أن نستخلص يف نقاط السنن املاضية واألصول‬
‫اجلامعة يف قضية القلة على النحو التايل‪:‬‬
‫‪1.1‬أهنم السابقون إىل اإلميان والصابرون على ابتالءاته‪.‬‬
‫‪2.2‬أهنم الثابتون يف األزمات واالختبار‪.‬‬
‫‪3.3‬أهنم يخُ تارون بعد ابتالء واختبار‪.‬‬
‫‪4.4‬أهنم الناصرون للحق والدعوات‪.‬‬
‫‪5.5‬أهنم الشاكرون قوال وعمال‪.‬‬
‫‪6.6‬أهنم فقهاء علماء واعون ابلدنيا واعبون ابحلياة‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪7.7‬أهنم عاملون ابلسنن والنواميس اجلارية واخلارقة‪ ،‬يف احلياة واألحياء‪.‬‬


‫‪8.8‬أهنم عادلون يف الشركة ال يبغون يف اخللطة‪.‬‬
‫‪9.9‬أهنم الراضون بعطاء هللا وقضائه‪.‬‬
‫‪1010‬أهنم خالصة زماهنم وبقية جيلهم‪.‬‬
‫‪1111‬أهنم املنصورون املؤيدون‪.‬‬
‫‪1212‬أهنم دائما حلمة واحدة‪.‬‬
‫‪ 1313‬أهنم ال حيفلون ابملال وال أيهبون ابجلاه وامللك والسلطان‪.‬‬
‫‪1414‬أهنم أصحاب العزم‪.‬‬
‫‪1515‬شدة صلتهم ابهلل ﷻ‪ ،‬وحسن ثنائهم عليه‪.‬‬
‫‪1616‬أهنم أقدر الناس على الثبات وطاعة القواد‪.‬‬
‫‪1717‬ال حيتنكهم الشيطان‪.‬‬

‫تلك بعض األصول اجلامعة اليت ميكن أن تصور لنا سنن هللا ﷻ يف القلة يف ضوء اآلايت‬
‫الكرمية واليت ميكن أن يفيد منها املسلمون عامة واملعنيون بنهضة األمة خاصة وسيَبِني ذلك يف‬
‫صفحات آتية لدى احلديث عن رايدة القلة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة‪ ،‬وفقه‬
‫صناعة القلة الرائدة‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫الكثرة مفهومها وصفاهتا‬
‫وسنن اهلل فيها‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫املبحث األول‬
‫مفهوم الكثرة يف اللسان العربي والقرآن الكريم‬
‫وردت مادة الكثرة وتقلباهتا يف اللسان العريب مشتملةً على عدد من املعاين ميكن أن‬
‫نتلمسها على النحو اآليت‪:‬‬
‫( الكثرة‪ :‬نقيض القلة‪ ...‬وقد كثر الشيء فهو كثري‪ .‬وقوم َكثريٌ‪ ،‬وهم َكثريو َن‪ .‬وأ ْك�ثََر‬
‫الرجل‪ ،‬أي كثر ماله‪( ((().‬ويقال‪ :‬كاثرانهم فكثرانهم‪ ،‬أي غلبناهم ابلكثرة‪...‬واستكثرت من‬
‫وعدد كاثٌِر‪،‬‬
‫الشيء‪ ،‬أي أكثرت منه‪ .‬وال ُك�ثُْر ابلضم من املال‪ :‬ال َكثريُ‪ ...‬والتكا�ثُُر‪ :‬املكاثَرةُ‪ٌ .‬‬
‫أي َكثريٌ‪ .‬قال األعشى‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــزةُ للكـــــــــــاثِِر‬
‫حصى وإنمَّــا العِ َّ‬ ‫لست ابأل ْكثَ ِر منهم ً‬ ‫و َ‬
‫وفالن �يَتَ َك�ثَُّر مبال غريه‪...‬والكوثر من الرجال‪ :‬السيد ال َكثريُ اخلري‪ ...‬وال َك ْو�ثَُر من‬
‫(((‬
‫الغبار‪ :‬ال َكثريُ‪.‬‬
‫ف‬‫يح يَ ُد ُّل ِخلاَ َ‬
‫صح ٌ‬
‫الراء أَصل ِ‬
‫اف َوالثَّاءُ َو َّ ُ ْ ٌ َ‬ ‫ويذكر ابن فارس يف مقاييس اللغة أن (الْ َك ُ‬
‫َّيءُ الْ َكثِريُ‪).‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك الش ْ‬‫الْقلَّ ِة‪ِ .‬م ْن َذل َ‬
‫(((‬

‫ْالفرق َبني ْالكثري والوافر‪:‬‬


‫َّيء َحتىَّ يكثر‬ ‫عدد‪ ،‬والوفر ِ‬ ‫والفرق بني الكثرة والوفر‪(:‬أَن الْ َك�ثَْرة ِزياَ َدة الْ َ‬
‫اجت َماع آخر الش ْ‬ ‫ْ‬
‫حجمه‪ ((().‬ومن تتبع املادة يف كتب اللغة واللسان يتضح لنا أن املادة تدور حول معاين منها‪:‬‬
‫أهنا نقيض القلة‪ .‬وتدل على التجمع‪ .‬و الغلبة‪ .‬وزايدة العدد‪ .‬ومن مشتقاهتا ما يدل‬
‫على السيد كثري اخلري‪ .‬وتدل على السخاء‪ ،‬و الدوام‪ .‬واملادة تدل على اجلماعات من الناس‪،‬‬
‫و التباري يف كثرة املال والعز‪ ،‬كما تستخدم يف العدد والفضل‪.‬‬
‫تعبري القرآن الكريم عن الكثرة‬
‫ورد التعبري عن الكثرة يف القرآن الكرمي بصور متعددة‪ ،‬وألفاظ خمتلفة‪ ،‬فورد التعبري عنها‬
‫بلفظ‪:‬‬
‫((( الصحاح اتج اللغة وصحاح العربية‪.)208 /2( :‬‬
‫((( لسان العرب‪ ،231/5 :‬مادة‪ :‬ك ث ر‪.‬‬
‫((( مقاييس اللغة‪.)061 /5( :‬‬
‫((( الفروق اللغوية للعسكري‪ ،)252( :‬لسان العرب‪ ،)231 /5( :‬القاموس احمليط‪.864:‬‬

‫‪60‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫كثُر‪ ،‬كثرت‪ ،‬كثّركم‪ ،‬أكثرت‪ ،‬أكثروا‪ ،‬استكثرت‪ ،‬استكثرمت ‪،‬تستكثر‪،‬كثرة‪،‬كثرتكم‪،‬كثري‪،‬‬


‫كثرية‪،‬أكثر‪،‬أكثركم‪،‬أكثرهم‪،‬تكاثر‪،‬كوثر‪.‬كما ورد التعبري عنها أبلفاظ أخرى من غري مادهتا‪ ،‬مثل‬
‫أساليب التكثري‪ ،‬وكم‪ ،‬وحنوها‪.‬‬
‫موقف القرآن الكريم من الكثرة‬
‫حني نتأمل اآلايت اليت ورد فيها لفظ الكثرة يف القرآن الكرمي‪ ،‬ونرد األشباه والنظائر إىل‬
‫أصول جامعة جندها تتلخص يف أمرين جامعني‪:‬‬
‫الكثرة احملمودة‪ ،‬والكثرة املذمومة‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬الكثرة احملمودة‬
‫وهي اليت تناوهلا القرآن مادحا هلا بذكرها يف مواطن تدعو إىل أمهيتها‪ ،‬وحتث على‬
‫اإلفادة منها‪ ،‬سواء كان ذلك على سبيل االمتنان على أصحاهبا أبهنم كانوا قليال فكثّرهم‬
‫هللا‪ ،‬أو رغبة النيب ﷺ يف االستكثار من اخلري لو كان يعلم الغيب‪ ،‬أو عفو هللا ﷻ عن كثري‬
‫من الذنوب منّاً منه على عباده وفضالً‪ ،‬أو الدعوة إىل تسبيح هللا ﷻ وذكره كثريا‪ ،‬أو َمنُّهُ‬
‫ﷻ على عباده ابلغيث الكثري الذي حييي به البالد ويُقيت العباد‪ ،‬ويُنشئ هلم منه جنات من‬
‫خنيل وأعناب هلم فيها فواكه كثرية‪ ،‬وأثر كثرة ذكر هللا ﷻ يف عصمة املؤمنني من أن يقولوا ما‬
‫ال يفعلون‪ ،‬أو َم ّن هللا تعاىل على عبده ونبيه ﷺ ابلكوثر‪ :‬النهر الكثري اخلري‪ ،‬الذي ال يظمأ‬
‫من شرب منه أبدا‪ ،‬أو من هللا ﷻ على املؤمنني بكثرة نصره هلم يف مواطن كثرية‪ ،‬وتعديده ﷻ‬
‫ومن هللا ﷻ على عباده بكثرة الساجدين‬ ‫لكثرة من قاتل مع النبيني من الرابنيني واجملاهدين‪ّ ،‬‬
‫له من اخللق‪ ،‬واهتداء كثري من الناس مبا يضربه هللا ﷻ هلم من األمثال‪ ،‬أو وصفه تعاىل ملن‬
‫يؤت احلكمة أبنه قد أويت خريا كثريا‪ ،‬وأنه ال يعقل ذلك وال يفيده إال أولو األلباب‪ ،‬أو منُّه‬
‫ﷻ على عباده بكثرة ما خلق من نسل آدم وحواء ودعوته إايهم أن يتقوه؛ شكرا هلذه املنة‬
‫ووفاء لتلك النعمة‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬الكثرة املذمومة‬
‫وتبدو الكثرة املذمومة يف القرآن الكرمي من خالل تعبري القرآن وحديثه عنها يف معرض‬
‫الذم واإلنكار‪ ،‬سواء كان ذلك على سبيل البيان؛ ألن كثريا من الناس يضلون أبهوائهم بغري‬
‫علم‪ ،‬أو بيان أن كثريا من الناس عن آايت هللا غافلون‪ ،‬أو بيان دعوى األقوام أهنم ال يفقهون‬
‫كثريا مما يقوله األنبياء واملرسلون‪ ،‬وتنكبهم الصراط املستقيم ‪ ،‬وإضالل األصنام لكثري من‬
‫الناس‪ ،‬وأن كثريا من القرون بني عاد ومثود هلكوا بذنوهبم‪ ،‬وأن كثريا منهم بلقاء رهبم كافرون‪،‬‬
‫وإضالل الشياطني لكثري منهم‪ ،‬وبيان أن كثريا من اخللطاء يبغي بعضهم على بعض‪ ،‬إال الذين‬
‫آمنوا وعملوا الصاحلات‪ ،‬وأن هؤالء قليلون‪ ،‬أو أن املرء لو أطاع أكثر من يف األرض ألضلوه‬
‫عن سبيل هللا‪ ،‬وبيان طبيعة أكثر الناس وأن أكثرهم ال يعلمون‪ ،‬وال يعقلون‪ ،‬وال يسمعون‪،‬‬
‫وال يؤمنون ابهلل إال وهم مشركون‪ ،‬ومتضي الكثرة يف القرآن الكرمي لتبني للناس أن أكثر أهل‬
‫الكتاب ال عهد هلم‪ ،‬وأن كثريا منهم فاسقون‪ ،‬وأن كثريا منهم ساء ما كانوا يعملون‪ ،‬وأن كثريا‬
‫منهم عموا وصموا‪ ،‬وبيان أن الكثرة املعادية هلل ﷻ ال تغين عن أصحاهبا شيئا‪ ،‬أو أن اخلبيث ال‬
‫يساوي الطيب ولو أعجب الناس كثرة اخلبيث‪ ،‬أو ذم كثري من أهل الكتاب الذين يودون أن‬
‫يردوا املؤمنني عن إمياهنم‪ ،‬أو كثرة النجوى يف غري أمر بصدقة أو معروف أو إصالح بني الناس‪.‬‬
‫ولنتناول الكثرة يف القرآن هبذا الرتتيب يف الصفحات القادمة فنبدأ ابلكثرة احملمودة‬
‫وصفاهتا وخصائصها كما وردت يف القرآن الكرمي‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫املبحث الثاني‬
‫الكثرة احملمودة صفاتها وخصائصها يف القرآن الكريم‬
‫إذا تتبعنا اآلايت اليت تصف الكثرة احملمودة يف القرآن الكرمي ميكن أن نتناوهلا على‬
‫النحو اآليت‪:‬‬
‫امتنان اهلل ‪ -‬تعاىل‪ -‬على قوم صاحل بكثرة العدد‬
‫كثرة العدد نعمة‪ ،‬إذا وضعت يف مكاهنا‪ ،‬وأفيد منها على الوجه املرضي‪ ،‬وقدميا‬
‫كان العرب يتمدحون هبا‪ .‬والكثرة احملمودة نعمة من هللا ﷻ‪ ،‬امنت هبا على قوم صاحل‬
‫فقال يف معرض تذكريهم بنعمه عليهم‪ ،‬ودعوته أن يَفيدوا من الكثرة يف الدعوة إليه وليس‬
‫هَّ‬
‫يل اللِ َم ْن‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫اط تلاًوع ُِد ون ُ َو ت ُص ُّد ون ع ْنَ َسب‬ ‫ك ّل رِ َ‬
‫ص‬
‫ُ‬
‫ب‬ ‫وا‬ ‫﴿و اَل َت ْق ُع ُ‬
‫د‬ ‫الصد عن سبيله‪َ :‬‬
‫اَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رَّ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ث ك ْم َو انظ ُر وا كيْف ك ن اَع ق َِبة‬
‫فك َ‬ ‫آ ََم َن بِهِ َو تبْغون َها ع َِو ًجا َو اذ ك ُر وا إ ِ ذ كن ُت ْم قل ِي‬
‫ْ ْ‬
‫ين ﴾ سورة األعراف‪.)86( :‬‬ ‫ال ُمف ِ‬
‫س ِد َ‬
‫والكثرة هنا إما كثرة حقيقية ابلعدد‪ ،‬أو كثرة عن طريق الغىن الذي يكثر القليل‪ ،‬ويقوي‬
‫الضعيف‪ ،‬ويعطي للمرء يف احلياة قيمته ومكانته‪ ،‬أو تكثري ابلقوة بعد الضعف‪ ،‬أو بطول‬
‫‪(.‬من عليهم بتكثري‬ ‫ّ‬
‫(((‬
‫األعمار بعد قصرها من قبل(((‪ ،‬أو تكون الكثرة ابلربكة يف النسل واملال‬
‫العدد؛ ألن ابلتناصر والتعاون متشي األمور وحيصل املراد‪ .‬ويقال كما أن كل أمر ابألعوان‬
‫واألنصار خريا أو شرا‪ ،‬فال نعمة فوق اتفاق األنصار يف اخلري‪ ،‬وال حمنة فوق اتفاق األعوان‬
‫يف الشر‪((().‬ويف تكثري عددهم إعزاز هلم وتقدمي على غريهم‪ ،‬مضت بذلك سنة هللا يف الكثرة‬
‫عندما تكون كثرة حممودة تعز أهلها‪ ،‬وتعلي مكاهنم‪.‬‬
‫َعَّزًة لِ َك�ثَْرِة َع َد ِد ُك ْم‬
‫صرتمُ أ ِ‬ ‫ضع ِف ِِ ِ‬
‫ني لقلَّت ُك ْم فَ ِ ْ ْ‬
‫َي ‪ُ :‬ك�نْتُ ْم ُم ْستَ ْ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(واذْ ُكُروا إ ْذ ُك�نْتُ ْم قَليلاً فَ َك�ثََّرُك ْم أ ْ‬
‫َ‬
‫ك وانْظُروا َكيف كا َن عاقِبةُ الْم ْف ِس ِدين أَي ِمن الأْ ُم ِم الخْ الِيةِ‬ ‫الل علَي ُكم فيِ َذلِ‬ ‫فَاذْ ُكروا نِعمةَ هَِّ‬
‫َ ْ َ َ ََ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ ُ ْ َ‬ ‫َْ ْ‬ ‫ُ َْ‬
‫الل وتَ ْك ِذيبِ‬ ‫اصي هَِّ‬ ‫اب والنَّ َك ِال باِ جترِ ائِ ِهم علَى مع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بهِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ ََ‬ ‫(((لْ َماضيَة َوَما َح َّل ْم م َن الْ َع َذ َ‬ ‫والقرون ا‬
‫ُر ُسلِ ِه‪ ).‬فأهلكهم هللا وابتالهم بنقص من األموال واألوالد والثمرات‪ ،‬حىت صاروا أثرا بعد‬
‫عني‪ ،‬وحديثا غابرا يف الداثرين‪.‬‬
‫((( النكت والعيون‪.)932 /2( :‬‬
‫((( إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي‪.)842 /3( :‬‬
‫((( لطائف اإلشارات‪.)055 /1( :‬‬
‫((( تفسري ابن كثري‪.)204 /3( :‬‬
‫‪63‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫نوح وحرصه على بالغ الرسالة وإكثاره من البيان لقومه‬


‫أرسل هللا الرسل‪ ،‬وأنزل الكتب‪ ،‬ليخرج من شاء من عباده من الظلمات إىل النور‪ ،‬وأيد‬
‫رسله ابحلجج الباهرة واألدلة القاطعة والرباهني الساطعة اليت ترشد الناس إىل اهلدى‪ ،‬وتبعدهم‬
‫عن الردى‪ ،‬وهتديهم إىل طريق هللا رب العاملني‪ ،‬وبذل األنبياء واملرسلون يف سبيل بيان احلجة‬
‫ونوع يف دعوته‬‫وتوضيح احملجة كل ممكن‪ ،‬ومن هؤالء نوح  الذي دعا قومه بكل سبيل ‪ّ ،‬‬
‫َ ّ ّيِ‬
‫ب إِن‬ ‫سورة كاملة ابمسه ّيِ َّفقال على لسانه‪﴿َ :‬ر‬ ‫الكرمي ذلك يف‬ ‫وسجل القرآن‬
‫بكل ط َريق‪ ،‬يَ لاً‬
‫ِ ُ‬ ‫ْ‬ ‫لُ‬ ‫َ ُ‬ ‫اَّ‬ ‫ََ‬ ‫ارا ‪ 5‬فل ْم يَز ْد ُه ْم ُد اَعئي إل ف َِر ً‬ ‫ت ق ْو يِم لْ َو َن َه ً‬ ‫َد َع ْو ُ‬
‫ِإَون ك َما د َع ْو ّيِت ُه ْم لتِ َغفِ َر ل ُه ْم َج َعلوا‬ ‫‪6‬‬ ‫ا‬‫ار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ارا ‪8‬‬ ‫ارا ‪ُ 7‬ث َّم إن َد َع ْو ُت ُه ْم ج َه ً‬ ‫ْ ْ‬
‫ك َب ً‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫اس‬ ‫وا‬ ‫ب‬
‫َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ رَ ُّ َ ْ َ ْ‬
‫ك رَ ُ‬ ‫ت‬ ‫اس‬ ‫و‬ ‫وا‬ ‫ص‬ ‫أ‬‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫اب‬‫ِي‬ ‫ث‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ش‬ ‫غ‬ ‫ت‬ ‫اس‬ ‫و‬ ‫م‬‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫َذ‬ ‫آ‬ ‫ف‬ ‫أَ َصاب َع ُه ْ‬
‫م‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫رْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َّ ّيِ َ ْ َ ْ ُ َ ُ ْ َ َ رْ َ ْ ُ َ‬
‫ثم إِن أعلنت لهم وأسرت لهم إِسارا ‪ ﴾9‬سورة‪ :‬نوح‪.9-5 :‬‬
‫وقد اعرتف قومه بذلك‪ ،‬وذكروا أنه أكثر من جداهلم‪ ،‬والكثرة هنا يف جانب نوح مدح‬
‫له من حيث ال يشعرون‪ ،‬حيث حرص نوح  على بالغ الرسالة على الوجه األكمل‪،‬‬
‫َ لتْ‬ ‫َ ُ َ ُ ُ َ‬
‫وح ق ْد َجاد َ َنا‬ ‫وسجل القرآن الكرمي هذا احلرص وكثرة جدال نوح  بقوله‪﴿ :‬قالوا يا ن‬
‫ْ‬ ‫ََ ْ‬
‫الصادِقِنيَ﴾ سورة هود‪ .)32( :‬واملعىن‪ :‬خاصمتنا اي نوح‬ ‫ت م َِن َّ‬ ‫ت ج َد نَالَا فَأت َِنا ب َما تَعِ ُدنَا إ ْن ُكنْ َ‬‫ث َ‬‫ك رَ ْ‬ ‫فأ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فأكثرت معنا‪ ،‬أو ماريتنا فأكثرت مراءان‪ ،‬أو دعوتنا فأكثرت دعاءان‪ ،‬ووعظتنا فأكثرت وعظنا‪،‬‬
‫وحاججتنا فأكثرت حجاجنا(((‪.‬‬
‫ولقد سلك نوح معهم يف بالغ الرسالة ما سجله له القرآن وشهد به الواقع‪ ،‬فقلب‬
‫هلم يف وسائل الدعوة بني الليل والنهار والسر واإلعالن‪ ،‬والزرافات والوحدان‪ .‬وكالم قوم نوح‬
‫ك الجِْ َد ُال ما َكا َن إِلاَّ فيِ إِ�ثب ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫معه ( يَ ُد ُّل َعلَى أَنَّهُ  َكا َن قَ ْد أَ ْك�ثََر فيِ الجِْ َد ِال َم َع ُه ْم‪َ ،‬و َذل َ‬
‫ات ِح ْرفَةُ‬ ‫الدلاَ ئِ ِل وفيِ إِزالَِة الشُّ�به ِ‬ ‫يد وال�نُّ�ب َّوِة والْمع ِاد‪ ،‬وه َذا ي ُد ُّل علَى أ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َُ‬ ‫َن الجْ َد َال فيِ �تَْق ِري ِر َّ َ َ‬ ‫ال�تَّْوح َ ُ َ َ َ َ َ َ َ‬
‫اط ِل ِح ْرفَةُ الْ ُك َّفار‪).‬‬
‫ِ (((‬ ‫يد والجْ هل والإِْ صرار علَى الْب ِ‬ ‫األنبياء‪ ،‬وعلَى أ َّ ِ‬
‫َن ال�تَّْقل َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫ََ‬
‫حرص الرسول ﷺ على االستكثار من اخلري‬
‫حرص الرسول ﷺ على بالغ الرسالة وأداء األمانة ويف سبيل ذلك بشر وأنذر‪ ،‬ورغب‬
‫ورهب‪ ،‬وأابن ألمته أنه ال ميلك لنفسه خريا وال شرا‪ ،‬وال ضرا وال نفعا‪ ،‬وال موات وال حياة‬
‫وال نشورا‪ ،‬ولو كان يعلم الغيب الستكثر من َاخلري‪ ،‬وقد ورد االستكثار هنا يف مقام املدح‬
‫اء هَّ ُ‬
‫الل‬ ‫ضا إ اَّل َما َش َ‬
‫وهو االستكثار من اخلري‪ ،‬قال ﷻ‪﴿:‬قُ ْل اَل أ ْمل ُِك لنِ َ ْف يِس َن ْف ًعا َو اَل رَ ًّ‬
‫ِ‬ ‫ْ َ اَّ‬ ‫خْ‬ ‫ْ رَ‬ ‫اَ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ ُ‬
‫َ‬ ‫وء إ ِن أ نَا إ ِل نَذ ٌ‬
‫ِير َو بَشِ ٌ‬ ‫ت م َِن الَيرْ َو َما َم َّس َ ُّ‬
‫ث ُ‬ ‫ت أ ْعل ُم ال َغيْ َ‬
‫ب ل ْس َتك ْ‬ ‫َو ل ْو كنْ ُ‬
‫ري ل ِق ْو ٍم‬ ‫الس ُ‬
‫نيِ‬ ‫ِ‬
‫((( انظر‪ :‬جامع البيان‪ ،)303 /51(:‬حبر العلوم (‪،)841 /2‬الكشاف‪ ،)193 /2(:‬تفسري ابن كثري‪.)813 /4( :‬‬
‫((( مفاتيح الغيب‪.)143 /71( :‬‬

‫‪64‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫ُْ ُ َ‬
‫ون﴾األعراف‪ .)188( :‬ومعىن الستكثرت من اخلري أي‪( :‬الستكثرت من العمل‬ ‫يؤمِن‬
‫الصاحل‪ ((().‬أو‪( :‬الستكثرت من النفع وما أصابين الضر‪.((().‬‬
‫واالستكثار هنا سواء كان يف جلب اخلري والنفع أو دفع الشر والضر‬
‫استكثار ممدوح‪ ،‬واآلية تشري إىل أن النيب ﷺ أمر( بتصريح اإلقرار ابلتربي عن‬
‫على‬
‫حوله ومنّته‪ ،‬وأن قيامه وأمره ونظامه بطول ربّه ومنّته ولذلك تتجنّس ّ‬
‫ميسين‪ ،‬ومن يسر خيصين‪ ،‬ولو كان األمر‬ ‫األحوال‪ ،‬وختتلف األطوار فمن عسر ّ‬
‫مبرادي‪ ،‬ومل يكن بيد غريي قيادي لتشاهبت أحوايل يف اليسر‪ ،‬ولتشاكلت أوقايت‬
‫يف البعد من العسر‪ ،((().‬فاالستكثار هنا ممدوح والكثرة هنا حممودة كما هو بني‪.‬‬
‫سؤال موسى  اهلل أن جيعل معه أخاه هارون وزيرا كي يعينه على أن‬
‫يسبحا اهلل كثريا ويذكراه كثرياً‬
‫الذكر والتسبيح للمؤمن زاد ميضي به يف طريقه إىل هللا ﷻ‪ ،‬يستعني هبما‬
‫على احملن‪ ،‬ويتقوى هبما على الزمن‪ ،‬ويسلو هبما يف نوازل الدهر ومفاجع األايم‪،‬‬
‫ومها كذلك هدف يسعى له املؤمن‪ ،‬سيما إذا كان مع املرء أخ صاحل‪ ،‬إذا نسي‬
‫ذكره‪ ،‬وإذا ذكر أعانه‪ ،‬ومن هنا طلب موسى  من ربه ﷻ أن جيعل معه‬
‫الذكر فهي‬ ‫هارون وزيرا؛ ليسبحاه كثريا‪ ،‬ويذكراه كثريا‪ .‬فالكثرة هنا َيف التسبيح و‬
‫َ ُ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫اج َع ْل ل َو ز ً‬
‫يرا مَ ِْن أ ه يِل ‪ 29‬ه ُار ون َأ يِخ ‪30‬‬ ‫﴿و ْ‬
‫كثرة حممودة‪ ،‬قال موسى ‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫يَ يِ ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ رْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ريا ‪َ 33‬و نَذ ك َر َك كث ِ ً‬
‫ريا ‪34‬‬
‫ْ َ ّ َ َ‬
‫ك كث ِ ً‬ ‫ش ك ُه يِف أ ْم ِري ‪ 32‬ك نسبِح‬
‫ْ‬
‫اش ُد د بِهِ أ ْز رِي ‪َ 31‬وأ‬
‫َ َ َْ ُ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ ْ َ َ َ ُ ىَ‬
‫صريا ‪ 35‬قال قد أ و تِيت سؤ لك يا موس ‪ ﴾36‬سورة طه‪.36/29:‬‬
‫ك ُكنْ َ‬
‫ت ب َنا بَ ِ ً‬ ‫َّ َ‬
‫إ ِن‬
‫ِ‬
‫ت‬
‫ك ُكْن َ‬‫(ونَ ْذ ُكَرَك َكثِ ًريا) فنحمدك (إِنَّ َ‬
‫َ‬ ‫واملعىن‪( :‬كي نعظمك ابلتسبيح لك كثريا‬
‫(‪((1‬‬
‫ص ًريا) يقول‪ :‬إنك كنت ذا بصر بنا ال خيفى عليك من أفعالنا شيء‪).‬‬ ‫بِنَا ب ِ‬
‫َ‬
‫ويف طلب موسى  إشراك أخيه هارون معه يف الرسالة‪ ،‬بيان لطلب‬
‫حبق ربه‬
‫العون به على بالغ الرسالة‪ ،‬ويف هذا بيان (أ ّن طلبه مشاركة أخيه له ّ‬

‫((( جامع البيان‪.)203 /31( :‬‬


‫((( حبر العلوم‪.)375 /1( :‬‬
‫((( لطائف اإلشارات‪.)495 /1( :‬‬
‫(‪ ((1‬جامع البيان‪.)103 /81( :‬‬

‫‪65‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫تعليال لطلب الرسالة؛‬ ‫ك َكثِرياً َونَ ْذ ُكَرَك َكثِرياً»‪((1().‬؛ ً‬ ‫ظ نفسه حيث قال‪َ « :‬ك ْي نُ َسبِّ َح َ‬ ‫ال حب ّ‬
‫وتبييناً لباعث الرغبة‪ ،‬ويف إطالق الكثرة مشول للزمان‪ ،‬واملكان‪ ،‬واألحوال‪ ،‬كأنه قال نسبحك‬
‫اه ٌد‪ ( :‬لاَ يَ ُكو ُن الْ َعْب ُد ِم َن‬ ‫ال مجُ ِ‬
‫ونذكرك يف كل وقت ويف كل مكان وعلى كل حال‪ ،‬قَ َ َ‬
‫ك ُكْنت بِنَا ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫اع ًدا وم ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الل َكثِريا‪ ،‬حتىَّ ي ْذ ُكر هَّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ص ًريا}‬ ‫ضطَج ًعا‪َ .‬و�قَْولُهُ‪{ :‬إنَّ َ َ َ‬ ‫اللَ قَائ ًما َوقَ َ ُ‬ ‫ين هََّ ً َ َ َ‬ ‫الذاك ِر َ‬
‫ِ‬
‫ك الحَْ ْم ُد َعلَى‬ ‫ك إِياَّناَ ال�نُّ�بَُّوةَ‪َ ،‬و�بَْعثَتِ َ‬
‫ك لَنَا إِلىَ َع ُد ِّو َك ف ْر َع ْو َن‪� ،‬فَلَ َ‬ ‫ك لَنَا‪َ ،‬وإِ ْعطَائِ َ‬
‫اص ِط َفائِ َ‬
‫َي‪ :‬فيِ ْ‬ ‫أْ‬
‫ك)‬ ‫ِ‬
‫َذل َ‬
‫(‪((1‬‬

‫وليس املراد من التسبيح يف اخللوات واجللوات فحسب‪ ،‬بل املراد ما يشمل تسبيح‬
‫الثالثة األخرية‬‫ِ‬ ‫ك َكثِرياً َونَ ْذ ُكَرَك َكثِرياً} غايةٌ لألدعية‬ ‫احلال وتسبيح املقال فقوله‪{:‬كي نُ َسبّ َح َ‬
‫فإن فعل فيها كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثِراً لفعل اآلخر‪ ،‬ومضاعفاً له‬
‫وأتييده إذ ليس املر ُاد ابلتسبيح‬ ‫ِ‬ ‫مكثر له يف نفسه أيضاً بسبب تقويتِه‬ ‫ِ‬
‫بسبب انضمامه إليه ٌ‬
‫والذكر ما يكون منهما ابلقلب أو يف اخللَوات حىت ال يتفاوت حالُه عند التعدد واالنفر ِاد بل‬
‫ودعوة املَردة العُتاة إىل احلق وذلك مما ال ريب يف‬ ‫ِ‬ ‫أداء الرسالة‪،‬‬ ‫ما يكون منهما يف تضاعيف ِ‬
‫التعدد واالنفراد؛ فإن كالًّ َمنهما يصدر عنه بتأييد اآلخر من إظهار‬ ‫ِ‬ ‫اختالف حالِه يف حاليت‬
‫نعت ملصدر حمذوف أو‬ ‫احلق ما ال يكاد يصدر عنه مثلُه يف حال االنفراد وكثرياً يف املوضعني ٌ‬ ‫ِّ‬
‫(‪((1‬‬
‫زمان حمذوف)‬ ‫ٍ‬
‫ويف طلب موسى وترتيب دعائه من اللطائف الكثري‪ ،‬منها ما يفيده التقدمي والتأخري‪،‬‬
‫ومنها ما يفيده التذييل‪ ،‬ومنها أدب الدعاء‪ ،‬ومقدمات الرجاء‪ ،‬فقبل رجاؤه واستجيب دعاؤه‬
‫وأعني على كثرة التسبيح والذكر‪ ،‬وكان من نصره ما كان‪( .‬وال شك أن االجتماع على العبادة‬
‫والذكر سبب يف دوامهما وتكثريمها‪ ...‬ولذلك ورد الرتغيب يف االجتماع على الذكر‪ :‬واجلمع‬
‫يف الصالة ليقوى الضعيف ابلقوي‪ ،‬والكسالن ابلنشيط‪ ،‬وقيل‪ :‬املراد بكثرة التسبيح والذكر‬
‫ما يكون منها يف تضاعيف أداء الرسالة ودعوة املردة العتاة‪ ،‬ألنه هو الذي خيتلف يف حاليت‬
‫التعدد واالنفراد‪ ،‬فإن ُكالًّ منهما يصدر منه‪ ،‬بتأييد اآلخر‪ ،‬من إظهار احلق‪ ،‬ما ال يصدر منه‬
‫(‪((1‬‬
‫حال االنفراد‪ .‬واألول أظهر)‬

‫(‪ ((1‬لطائف اإلشارات (‪)454 /2‬‬


‫(‪ ((1‬تفسري ابن كثري‪.)382 /5( :‬‬
‫(‪ ((1‬إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي‪.31/6:‬‬
‫(‪ ((1‬البحر املديد يف تفسري القرآن اجمليد‪.)483 /3( :‬‬

‫‪66‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫وال شك أن تكاليف الدعوة وأعباء التعامل مع الناس حتتاج إىل حسن صلة ابهلل قوية؛‬
‫تعني على مواصلة اخلري‪ ،‬ونشر الفضيلة‪ ،‬وبالغ الرسالة للناس‪ ،‬ومن أكثر األمور إعانة على‬
‫ذلك التسبيح والذكر‪ ،‬وحسن الثناء على امللك الوهاب من بيده مقاليد األمور‪ ،‬ومفاتيح‬
‫القلوب‪( ،‬واألمر اجلليل الذي هو مقدم عليه حيتاج إىل التسبيح الكثري‪ ،‬والذكر الكثري‪،‬‬
‫واالتصال الكثري‪ .‬فموسى  يطلب أن يشرح هللا صدره وييسر له أمره وحيل عقدة من لسانه‬
‫ويعينه بوزير من أهله‪..‬‬
‫كل أولئك ال ليواجه املهمة مباشرة ولكن ليتخذ ذلك كله مساعدا له وألخيه على التسبيح‬
‫ك ُكْنت بِنا ب ِ‬ ‫ِ‬
‫صرياً» ‪..‬تعرف‬ ‫الكثري‪ ،‬والذكر الكثري‪ ،‬والتلقي الكثري‪ ،‬من السميع البصري‪« ..‬إنَّ َ َ َ‬
‫وسى َعلَْي ِه‬ ‫(و َعلَّ َل ُم َ‬
‫حالنا وتطلع على ضعفنا وقصوران وتعلم حاجتنا إىل العون والتدبري‪َ )..‬‬
‫(‪((1‬‬

‫الل َكثِريا وي ْذ ُكرا هَّ ِ‬ ‫حتصيل ما سأَلَه لِ�ن ْف ِس ِه ولأِ ِ‬


‫َخ ِيه‪ ،‬بأَِ ْن يُسبِ‬ ‫السلاَ م سؤالَه ِ‬
‫اللَ َكث ًريا‪َ .‬وَو ْجهُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫ا‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ُ َ َ‬ ‫َّ ُ ُ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لاَتهِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لأِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َذلِك أ َّ ِ‬
‫ك َمظنَّةُ‬ ‫َّع َوة ب�تََوفُّ ِر آ َا َوُو ُجود الْ َع ْون َعلَ�يَْها‪َ ،‬و َذل َ‬ ‫َن ف َيما َسأَلَهُ ل�نَْفسه تَ ْسهيلاً ََداء الد ْ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ (‪((1‬‬
‫تَ ْكثريَها)‬
‫ومن األسباب اليت محلت موسى على دعاء ربه أبن جيعل معه أخاه هارون وزيراً‪ ،‬واليت‬
‫وفيه من إكثار‬ ‫َ‬
‫تعني على أن يسبحاه كثريا‪ ،‬ويذكراه كثريا‪ :‬أن يف ذلك داللة للناس على ر َهبم‪،‬‬
‫وك بِآيَات ِي‬
‫ُ‬
‫نت َوأخ َ‬ ‫بأ َ‬ ‫املسبحني والذاكرين ما ال خيفى؛ ولذلك أعقب هللا كالمه بقوله‪﴿ :‬اذْ َه ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫َولا تَن ِ َيا ف ِي ذِك ِري﴾[سورة طه‪]42 :‬كما أن يف التعاون على أداء الرسالة من تقليل االشتغال‬
‫أبمور الدنيا واملعاش ما يعني على اإلفادة من الوقت‪ ،‬ونشر رسالة اخلري إىل الكثري من الناس‪،‬‬
‫(والَّ ِذي أَلجَْأَ‬ ‫مما ال يتأتى من الرسول والداعية حني يكون مشغوال بكل أمور اخلاصة والعامة‪َ ،‬‬
‫ضلاَلهِِ ْم‪� ،‬فَعُلِ َم أ َّ‬
‫َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫موسى إِلىَ سؤ ِال َذلِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ك ع ْل ُمهُ بِشدَّة ف ْر َع ْو َن َوطُ ْغيَانه َوَمْنعه الأْ َُّمةَ م ْن ُم َف َارقَة َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ َ‬
‫ِ‬
‫يح َوال ّذ ْك ِر‬ ‫َّسبِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فيِ َد ْع َوته ف�تْنَةً للدَّاعي‪ ،‬فَ َسأ ََل الإِْ َعانَةَ َعلَى الخَْلاَ ِ‬
‫ك الْف�تْنَة ليتوفّرا للت ْ‬ ‫ص م ْن ت ْل َ‬
‫َكثِ ًريا‪( ،((1().‬فهذه هي العِلّة يف مشاركة هارون ألخيه يف مهمته‪ ،‬ال طلباً لراحة نفسه‪ ،‬وإمنا‬
‫(‪((1‬‬
‫وذ ْكره‪).‬‬‫لتتضافر جهودمها يف طاعة هللا‪ ،‬وتسبيحه ِ‬

‫(‪ ((1‬يف ظالل القرآن‪.)3332 /4( :‬‬


‫(‪ ((1‬التحرير والتنوير‪.)312 /61( :‬‬
‫(‪ ((1‬التحرير والتنوير‪.)412 /61( :‬‬
‫(‪ ((1‬تفسري الشعراوي‪.)4629 /51( :‬‬

‫‪67‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫وذكر هللا كثريا وتسبيحه ابلعشي واإلبكار من املعينات على كل ما طلبه موسى ‪ ،‬من‬
‫بالغ الرسالة‪ ،‬والصرب على أذى املدعوين‪ ،‬والربكة يف العمل والوقت‪ ،‬ولذا أرشد هللا زكراي  بعد‬
‫ك َكث ِ ً‬
‫ريا‬
‫َ ْ ُ ْ َ َّ َ‬
‫نعمته اليت أنعم هبا عليه أن يذكره كثريا ويسبحه ابلعشي واإلبكار‪،‬فقال له‪﴿:‬واذكر رب‬
‫إْ ْ َ‬ ‫َْ‬
‫َوسبح بالع يِّ َ‬ ‫َّ ْ‬
‫البكارِ ﴾سورة مرمي‪.)41(:‬‬
‫شو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وذكر هللا كثرياً سبب الفالح يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬يف َالسلم واحلرب‪ ،‬ويف الشدة والرخاء‪،‬‬
‫ً َ ْ‬
‫يت ْم ف َِئة فاثبُ ُتوا‬‫ِ ِ‬ ‫ولذا أوصى هللا ﷻ به املؤمنني إذا لقوا فئة مقاتلة‪ ﴿،‬يَا أ ُّي َها ذَّال َ‬
‫ِين آ ََم ُنوا إ َذا لَق ُ‬
‫هَّ َ َ ً َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ َ‬ ‫ْ ُ‬
‫َواذك ُروا الل كثِريا لعلكم تفل ِحون﴾ سورة األنفال‪.)45( :‬‬

‫وأمر هللا تعاىل به يف وقت ابتغاء فضل هللا ورزقه‪ ،‬فهو يعني على تذكر فضل هللا ﷻ‬
‫ارها ودوامها وهي‬ ‫َ‬
‫وإنعامه‪ ،‬ورد النعمة إليه‪ ،‬وذكر هذه النعمة وشكره عليه وهذا سبب استمر‬
‫ُ‬ ‫أْ‬ ‫الصلاَ ةُ فَانْتَ رِ ُ‬
‫سنة اثبتة هلل ﷻ يف الشكر والشاكرين‪﴿،‬فَإ َذا قُض َيت َّ‬
‫شوا يِف ال ْر ِض َوابْ َتغوا م ِْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫هَّ َ َ ً َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫هَّ‬ ‫َ ْ‬
‫فض ِل اللِ َواذك ُروا الل كثِريا لعلكم تفل ِحون﴾سورة اجلمعة‪.)10( :‬‬

‫وذكر هللا معني على التأسي ابلقدوة الصاحلة‪ ،‬واملثل الكامل ﷺ وذكر هللا كثريا جملبة‬
‫للمغفرة واألجر العظيم‪ ،‬كما أن ذكر هللا كثريا عصمة للناس أن يقولوا ماال يفعلون‪ ،‬وذكر هللا‬
‫كثريا من أسباب عصمة اإلنسان أن يقول ما ال يفعل‪.‬‬
‫تفضيل اهلل ‪ -‬تعاىل‪ -‬لبين آدم على كثري ممن خلق‬
‫َم َّن هللا تعاىل على بين آدم مبنن كربى‪ ،‬ومنح عظمى‪ ،‬منها‪ :‬أنه كرمهم بصور من‬
‫التكرمي‪ ،‬وألوان من اإلكرام واإلنعام‪ ،‬ومحلهم يف الرب والبحر‪ ،‬ورزقهم من الطيبات‪ ،‬وفضلهم‬
‫على كثري ممن خلق تفضيال‪ ،‬والكثرة هنا كثرة حممودة إذ قد ذكرها هللا ﷻ يف مقام املن‬
‫ْ رَّ َ بْ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َ مَ َ ْ ُ‬ ‫َََ َ‬
‫اه ْم م َِن َّ‬
‫الط ّي ِ َب ِ‬
‫ات‬ ‫حل َناه ْم يِف البِ والح ِر ورزقن‬ ‫﴿ولق ْد ك َّر ْم َنا بَنيِ آ َدم و‬ ‫واإلنعام‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬
‫ْ َ ََْ َْ‬ ‫َ َّ ْ َ ُ ْ لَىَ َ‬
‫ري م َِّمن خلقنا تف ِ‬
‫ضيل﴾ سورة اإلسراء‪.)70( :‬‬ ‫َ‬
‫وفضلناهم ع كث ِ ٍ‬
‫وهذا التكرمي متعدد األوجه‪ ،‬متنوع اجلنبات‪ ،‬مثل‪ :‬هيمنتهم على من سواهم من اخللق‪،‬‬
‫وتسخري احلياة هلم‪ ،‬وأبن هلم عقوال ومتييزا‪ ،‬أو ابألمر والنهي‪ ،‬أو الكالم واخلط والبيان (‪،((1‬‬
‫(ومن التكرمي ما ألقى عليهم من حمبة اخلالق حىت أحبوه‪ ،‬ومن التكرمي لقوم توفيق صدق القدم‪،‬‬
‫(‪((2‬‬
‫علو اهلمم)‬
‫ولقوم حتقيق ّ‬
‫(‪ ((1‬انظر‪ :‬جامع البيان‪ ،)5 /51( :‬و النكت والعيون‪.)752 /3( :‬‬
‫(‪ ((2‬لطائف اإلشارات‪.)163 /2( :‬‬

‫‪68‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫ومن تكرمي هللا ﷻ لإلنسان أن‪(:‬كرمه خبلقته على تلك اهليئة‪ ،‬هبذه الفطرة اليت جتمع‬
‫بني الطني والنفخة‪ ،‬فتجمع بني األرض والسماء يف ذلك الكيان! وكرمه ابالستعدادات اليت‬
‫أودعها فطرته واليت استأهل هبا اخلالفة يف األرض‪ ،‬يغري فيها ويبدل‪ ،‬وينتج فيها وينشئ‪،‬‬
‫ويركب فيها وحيلل‪ ،‬ويبلغ هبا الكمال املقدر للحياة‪ .‬وكرمه بتسخري القوى الكونية له يف‬
‫األرض وإمداده بعون القوى الكونية يف الكواكب واألفالك‪..‬وكرمه بذلك االستقبال الفخم‬
‫الذي استقبله به الوجود‪ ،‬وبذلك املوكب الذي تسجد فيه املالئكة ويعلن فيه اخلالق جل شأنه‬
‫تكرمي هذا اإلنسان! وكرمه إبعالن هذا التكرمي كله يف كتابه املنزل من املأل األعلى الباقي يف‬
‫ضيلاً » ‪ ..‬فضلناهم هبذا االستخالف‬ ‫ض ْلناهم على َكثِ ٍري ممِ َّن خلَ ْقنا �ت ْف ِ‬
‫ْ َ َ‬ ‫القرآن‪«...‬وفَ َّ ُ ْ َ‬
‫َ‬ ‫األرض‪..‬‬
‫يف ملك األرض الطويل العريض‪ .‬ومبا ركب يف فطرهتم من استعدادات جتعل املخلوق اإلنساين‬
‫فذا بني اخلالئق يف ملك هللا ‪...‬ومن التكرمي أن يكون اإلنسان قيما على نفسه‪ ،‬حمتمال تبعة‬
‫اجتاهه وعمله‪ .‬فهذه هي الصفة األوىل اليت هبا كان اإلنسان إنساان‪ .‬حرية االجتاه وفردية التبعة‪.‬‬
‫(‪((2‬‬
‫وهبا استخلف يف دار العمل‪).‬‬
‫تفضيل اهلل ﷻ داود وسليمان على كثري من عباده املؤمنني‬
‫ومن مواطن الكثرة احملمودة ما اعرتف به داوود وسليمان ‪ ،‬أبن هللا ﷻ قد آاتمها‬
‫علما وفضلهما على كثري من عباده املؤمنني؛ ألن الكثرة هنا يف مقام االمتنان واالعرتاف‬
‫َ َّ َ َ لَىَ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ َ ْ َ َ ْ ً َ َ اَ حْ َ ْ ُ للِهَّ ذَّ‬
‫ري م ِْن‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ث‬ ‫ك‬ ‫ع‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ل‬‫ض‬ ‫ف‬ ‫ِي‬
‫ال‬ ‫ابلفضل هلل ﷻ‪ ﴿،‬ولقد آ َتينا داوود وسليمان عِلما وقال المد ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬
‫عِبادِه ِ ال ُمؤ ِمن ِني﴾ سورة النمل‪. )15( :‬‬
‫ومن عليهما‬ ‫فالكثرة هنا كثرة حممودة وليس كل علم بل علم خاص أيدمها هللا ﷻ به ّ‬
‫اللُ بِعِْل ِم ِه‪،((2().‬‬ ‫ك ممِ َّا َخ َّ‬
‫ص ُه ُم هَّ‬ ‫ِ‬ ‫ك َع ْل ُم كَلاَ ِم الطَّيرِْ َوالد‬
‫َّو ِّ‬
‫اب‪َ ،‬و َغ�يُْر َذل َ‬ ‫َ‬
‫بفهمه واإلفادة منه‪ِ ،‬‬
‫(و َذل َ‬
‫َ‬
‫أو هو علم القضاء‪ ،‬والتفضيل ابلكتاب والنبوة وامللك(‪( ،((2‬ويف اآلية دليل على أن التفضيل‬
‫الذي حيصل ابلعلم ال حيصل بغريه من الصفات‪ ،‬فأخرب أبهنما شكرا هللا على عظيم ما أنعم‬
‫(‪((2‬‬
‫به عليهما)‬

‫(‪ ((2‬يف ظالل القرآن‪.)1422 /4( :‬‬


‫(‪ ((2‬جامع البيان‪.)42 /81( :‬‬
‫(‪ ((2‬حبر العلوم‪.)575 /2( :‬‬
‫(‪ ((2‬لطائف اإلشارات‪ ،)92 /3(:‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل‪.)353 /3( :‬‬
‫‪69‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫عفو اهلل تعاىل عن كثري من أفعال العباد‬


‫وأتيت الكثرة احملمودة هنا يف مقام العفو‪ ،‬عفو هللا الكرمي عن الكثري من ذنوب عباده‪،‬‬
‫وأتيت الكثرة يف العفو هنا مرتني يف سورة واحدة‪ ،‬بياان لعظيم عفو هللا ﷻ وكرمي صفحه‬
‫وغفرانه‪ ،‬وتبني اآلايت الكرمية أن كل ما يصيب اإلنسان فبما كسبت يداه ويعفو هللا عن‬
‫كثري‪ ،‬فلو شاء ﷻ ألسكن الريح‪ ،‬فتظل الفلك رواكد على ظهر البحر ال تتحرك‪ ،‬ويفقد‬
‫اخللق أرزاقهم وتتوقف مصاحلهم‪ ،‬أو يغرقهم مبا كسبوا‪ ،‬و َلكن عفو هللا أوسع هلم‪ ،‬وأمجل‬
‫يبة فَب َما َك َس َب ْ‬
‫ََ َ َ ُ ْ ْ ُ َ‬
‫ت‬ ‫َهبم‪ ،‬فالكثرة هنا يف مقام العفو فهي كثرة حممودة‪﴿،‬وما أصابكم مِن م ِص ٍ ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ُ ْ َُْ‬ ‫ْ‬
‫أيدِيكم َويعفو عن كثِريٍ﴾ سورة الشورى‪)30(:‬‬

‫ضرورة التأكيد أن العفو من الكريم جيري على سنن ثابتة‬


‫ومن البني يف اآلايت الكرمية أن العفو هنا جيري على سنن اثبتة‪ ،‬ومعىن ويعفو عن كثري‪:‬‬
‫({ويعفو َعن َكثِ ٍري} أي من الذنوب فال يعاقب عليه أو عن كثري من الناس فال يعاجلهم‬
‫ابلعقوبة‪ ،‬وقال ابن عطاء‪ :‬من مل يعلم أن ما وصل إليه من الفنت واملصائب ابكتسابه وأن ما‬
‫عفا عنه مواله أكثر؛ كان قليل النظر يف إحسان ربه إليه‪ .‬وقال حممد بن حامد‪ :‬العبد مالزم‬
‫للجناايت يف كل أوان وجناايته يف طاعته أكثر من جناايته يف معاصيه ألن جناية املعصية من‬
‫وجه وجناية الطاعة من وجوه‪ ،‬وهللا يطهر عبده من جناايته أبنواع من املصائب ليخفف‬
‫عنه أثقاله يف القيامة‪ ،‬ولوال عفوه ورمحته هللك يف أول خطوة وعن علي  هذه أرجى آية‬
‫(‪((2‬‬
‫للمؤمنني يف القرآن؛ ألن الكرمي إذا عاقب مرة ال يعاقب اثنياً وإذا عفا ال يعود)‬
‫واآلية هنا متثل سنة من سنن هللا ﷻ يف خلقه‪ ،‬وهي عفوه عن كثري من أفعال عباده‪،‬‬
‫َ ْ‬ ‫َََ ْ َ َ َ ُ‬
‫الل ُذو فَ ْض ٍل َعلى ال ُم ْؤ ِمنِين﴾‪،‬يقول‬ ‫نك ْم َو هّ ُ‬ ‫كما ورد يف سورة آل عمران‪﴿:‬ولقد عفا ع‬
‫ان سن ٍَّة ِمن سن ِن ِ‬
‫هللا ﷻ‬ ‫ان َوا ِرَدتاَ ِن فيِ �بَيَ ِ ُ ْ ُ َ‬ ‫صاحب املنار وهو يعقب على آية آل عمران‪(:‬فَالآْ�يتَ ِ‬
‫َ‬
‫وشئونهِِم الاِ جتِم ِ‬
‫اعيَّ ِة‬ ‫َن الْمصائِب الَّتيِ �تع ِرض لهَ م فيِ أَبدانهِِ‬ ‫لهِِ ِ‬ ‫فيِ أ ِ‬
‫َْ ُ ُْ ْ َ ْ ُ ُ ُ ْ َ‬ ‫م‬ ‫َخلاَ ق الْبَ َش ِر َوأ َْع َما ْم‪َ ،‬وه َي أ َّ َ َ َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّب َعلَْيه عُ ُقوبَةٌ �تَُع ُّد ُمصيبَةً‬ ‫لهِِ‬ ‫ِ‬ ‫إِنمََّا ِهي آثاَ ٌر طَبيعيَّةٌ ل�بَْعض أ َْع َما ْم‪َ ،‬وأ َّ‬
‫لهِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َن م ْن أ َْع َما ْم َما لاَ �يَ�تََرت ُ‬ ‫َ‬
‫َّب‬ ‫ت‬
‫ر‬ ‫�ت‬ ‫�ي‬ ‫�ف‬ ‫‪،‬‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ف‬ ‫�ن‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ه‬‫ر‬ ‫�ث‬‫َ‬
‫أ‬ ‫ى‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫ى‬ ‫ف‬ ‫ع‬‫�ي‬ ‫ن‬ ‫َ‬‫بأِ‬ ‫ﷻ‬ ‫ِ‬
‫هللا‬ ‫ة‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫ض‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ذ‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِ‬
‫ي‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫‪،‬‬
‫ْ ُْ َ َيمُْ َ َُُ َ َّْ َلاَ َ ََ ُ‬ ‫ََ ْ ُُ‬ ‫َوُه َو الْ َ ْ ُ ُّ َْ ُ‬
‫ه‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ض اللَّ َم ِم َوالهَْْف ِو الَّذي لاَ �يَتَ َكَّرُر َولاَ يَصريُ َملَ َكةً َو َع َادةً‪َ .‬وقَ ْد َع�بََّر َعْنهُ‬ ‫ال َوُه َو �بَْع ُ‬ ‫َعلَْي ِه الأْ ْ‬
‫َع َم ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان َه ِذ ِه ُّ‬ ‫فيِ الآْ ي ِة الَّتيِ ِهي الأْ َصل والْ َق ِ‬
‫ك �قَْولُهُ‬ ‫السن َِّة بَِق ْول ِه‪َ :‬و�يَْع ُفو َع ْن َكثِ ٍري َو�يَُؤيِّ ُد َذل َ‬ ‫اع َدةُ فيِ �بي ِ‬
‫ََ‬ ‫َ َُْ‬ ‫َ‬
‫(‪ ((2‬مدارك التنزيل وحقائق التأويل‪.)652 /3( :‬‬

‫‪70‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫ع َظ ْهر َها م ِْن َدابَّ‬ ‫َ َ ْ ُ َ ُ ُ َّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ لَىَ‬


‫َي بجِ َ ِمي ِع َما َك َسبُوا‪ ،‬فَِإ َّن‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫﴾‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ﷻ‪﴿ :‬ولو يؤاخِذ اهلل انلاس بِما كسبوا ما ترك‬
‫اض َع َكثِ َريٍة ِم َن ال�تَّْف ِس ِري‪،‬‬ ‫السنَّةَ الإِْ لهَِيَّةَ فيِ مو ِ‬ ‫وم‪َ .‬وقَ ْد �بَ�يَّنَّا َه ِذ ِه ُّ‬ ‫ات الَّتيِ تُِف ُ‬
‫"ما" ِمن الْ َكلِم ِ‬
‫ََ‬ ‫يد الْعُ ُم َ‬ ‫َ َ َ‬
‫السيِئ ِة‪ ،‬وقَدِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فيِ‬
‫َع َمال َّ َّ َ‬ ‫َو َجَر�يْنَا َعلَى أَ�نََّها َع َّامةٌ عُ ُقوباَ ت الدُّ�نْيَا َوالآْ خَرة فَ َجميعُ َها آثاَ ٌر طَبيعيَّةٌ للأْ ْ‬
‫ِ (‪((2‬‬
‫صر‪).‬‬ ‫ب فيِ َه َذا الْ َع ْ‬ ‫ض ح َكم ِاء الْغَر ِ‬ ‫اهتَ َدى إِلىَ ه ِذ ِه ُّ ِ‬
‫السنَّة �بَْع ُ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫امتنان اهلل ﷻ على اخللق بنزول الغيث‬
‫املاء روح احلياة‪ ،‬وسر النجاة‪ ،‬جعل هللا ﷻ منه كل شيء حي‪ ،‬سيما إذا كان غيثا‪،‬‬
‫ينتظره الناس‪ ،‬وتتوقف عليه احلياة‪ ،‬وقد َم َّن هللا ﷻ على اخللق بذلك‪ ،‬وأابن أنه حييي هبذا‬
‫الغيث ممن خلق أنعاما وأانسي كثريا‪ ،‬فالكثرة هنا كثرة حممودة فهي يف مواطن االمتنان من هللا‬
‫ﷻ وتبدو مالمح االطراد والسننية هنا يف أن هللا ﷻ جعل من هذا املاء حياة حتيي مما خلق‬
‫الس َما ءِ‬‫حتِهِ َو َأ ن ْ َز نْلَا م َِن َّ‬‫ي َر مْ َ‬ ‫ي يَ َد ْ‬ ‫ش ا َب نْ َ‬‫اح ب ُ رْ ً‬
‫الر َي َ‬ ‫َ‬
‫﴿و ُه َو ذَّالِي أ ْر َس َل ّ‬
‫َ‬ ‫أنعاما وأانسي كثريا‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫دْ‬
‫ري ا ‪َ 49‬و لق ْد‬ ‫اما َوأ نَ يِ َّ‬
‫اس كث ِ ً‬ ‫ل ةً َميْ ًتا َو ن ْسق َي ُه م َِّما َخلق َنا أ ن َع ً‬
‫ي بهِ بَ َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ً‬ ‫َ ً‬
‫ِ‬ ‫ماء سورة طهور ا ‪ 48‬لنِ ح يِ َ ِ‬
‫اس إ اَّل ُك ُف ً‬ ‫َ َ ىَ َ‬ ‫رَ َّ ْ َ ُ َ ْ َ ُ ْ َّ َّ‬
‫ْ رَ ُ َّ‬
‫ور ا ‪ ﴾50‬سورة الفرقان‪( .50/48 :‬وكذا سنّته مع‬ ‫صفناه بينهم يِلَذ ك ُر وا فأ ب أ كث انل ِ ِ‬
‫(‪((2‬‬
‫يرددهم بني إفناء وإبقاء‪).‬‬
‫عباده ّ‬
‫امتنان اهلل باملطر الذي يكون سببا يف إنشاء اجلنات والفواكه‬
‫ويف موطن آخر مينت َهللا ْﷻ على عباده ابملطر الذي َيكون سببا يف إنشاء اجلنات‬
‫ِيها فَ َواك ُِه َكث ِ َ‬
‫ريةٌ‬ ‫َ ُ‬
‫ك ْم ف َ‬ ‫اب ل‬ ‫ك ْم بهِ َج َّنات م ِْن خَن َ ْ َ‬
‫َ َْ َ َ ُ‬
‫والفواكه الكثرية فيقول‪﴿ :‬فأنشأنا ل‬
‫ِيل وأعن ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫َْ َ‬
‫َومِنها تأكلون﴾سورة املؤمنون‪.19:‬‬

‫ويف سياق امتنان هللا ﷻ على عباده ابملطر الذي حييي به أنعاما وأانسي كثريا‪ ،‬منة‬
‫أخرى منه ﷻ‪ ،‬أبن جعل من هذا الغيث جنات من خنيل وأعناب‪ ،‬هلم فيها فواكه كثرية‪،‬‬
‫ومنها أيكلون‪ ،‬والكثرة احملمودة هنا تبدو يف َم َّن هللا ﷻ على خلقه ابلفواكه الكثرية اليت سبب‬
‫حياهتا ومنائها واحد وهو املاء‪ ،‬وأنواعها وأصنافها متعددة‪ ،‬فهي ختضع يف هذا البقاء والنماء‬
‫لسنن هللا ﷻ اليت ال تتبدل وال تتحول‪ ،‬والسننية هنا واالطراد �بَنِّي من خالل خضوع الفاكهة‬
‫َ ُ ذَّ‬
‫﴿وه َو الِي‬ ‫حتكمها يف النشوءلُّ والبقاء والنماء‪ َ ،‬كما قال ﷻ‬ ‫يضبطها وسنة‬ ‫الكثرية َ لقانون‬
‫ْ‬ ‫نْ‬‫َْ‬ ‫َ َ ْ َ نْ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫أْ‬
‫َم َّد ال ْر َض َو َج َعل ف َ‬
‫ِيها َر َو يِ َ َ َ ً َ ْ‬
‫ي ُيغ يِش‬
‫ي اثن ِ‬ ‫ك اثل َم َر ِ‬
‫ات جعل فِيها ز وج ِ‬ ‫اس وأ نهارا ومِن ِ‬
‫(‪ ((2‬تفسري املنار‪.)851 /4( :‬‬
‫(‪ ((2‬لطائف اإلشارات‪.)936 /2( :‬‬

‫‪71‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫ات َو َج َّن ٌ‬
‫ات‬ ‫جاو َر ٌ‬ ‫ون ‪َ 3‬و ف أْالَ ْر ِض ق َِط ٌع ُم َت َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ ُ َ‬
‫ر‬ ‫ك‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ِق‬ ‫ل‬ ‫ات‬ ‫ار إ َّن ف َذ ل َِك آَل َيَ‬ ‫َّ‬
‫الليْ َل انلَّ َه َ‬
‫ُ َ ّ ُِ‬ ‫ُ ْ ىَ يِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يِ‬ ‫ِ‬
‫لَىَ‬ ‫َ‬
‫ضل َب ْعض َها ع‬ ‫صنْ َ‬ ‫ان َو َغيرْ ُ‬ ‫َْ ٌ‬ ‫َ َ ْ ٌ َ خَ ٌ‬ ‫م ِْن أَ ْع َ‬
‫ان يسق ب ِ َما ٍء َو ا ح ٍِد َو نف ِ‬ ‫ٍ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫و‬‫ن‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫ِيل‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫ر‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫اب‬‫ٍ‬ ‫ن‬
‫َ ْ َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ آَ‬ ‫َّ‬ ‫أْ ُ ُ‬ ‫َْ‬
‫ات ل ِقو ٍم يع ِقلون ‪ ﴾4‬سورة الرعد‪.4،3:‬‬ ‫بع ٍض يِف الك ِل إ ِن يِف ذ ل ِك ل َي ٍ‬

‫امتنان اهلل ﷻ على عباده باألنعام ومنافعها الكثرية‬


‫من املواطن اليت ذكرت فيها الكثرة يف القرآن الكرمي تلك اآلية الكرمية اليت مينت هللا ﷻ‬
‫منافع كثرية‪﴿ ،‬‬ ‫األنعام اليت يسقيهم هللا ﷻ َ مما يف بطوهنا‪َ ،‬وهلم فيها‬ ‫بنعمة‬ ‫فيها َعلى عباده‬
‫ْ ُ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫ٌَ‬ ‫َ ََ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ْ‬ ‫رْ َ ً ْ‬ ‫ُ ْ‬
‫ِإَون لكم يِف األنعام لعِبة نسقِيكم م َِّما يِف بطون ِها َولكم فِيها مناف ُِع كثِرية َومِنها تأكلون﴾سورة‬
‫املؤمنون‪ .)21( :‬والسننية هنا واضحة من خالل املنافع اليت يصيبها العباد من األنعام واليت تزيدها‬
‫التقنية والعلم احلديث أتكيدا إلعجاز القرآن الكرمي وقضاايه‪.‬‬
‫ولعلنا نشري هنا إىل دقة تعبري القرآن الكرمي‪( :‬مما يف بطوهنا)‪،‬فهل يف بطون األنعام غري‬
‫ما هو مألوف للناس معروف للعامة‪ ،‬مما يصلح غذاء أو دواء مما عرب عنه القرآن أبنه (منافع)؟‪،‬‬
‫اللهم إان بك مؤمنون‪ ،‬ولنعمك حامدون شاكرون‪ ،‬وعن شكر صنيعك عاجزون‪ ،‬فامحد اللهم‬
‫عنا نفسك لنفسك؛ كما ينبغي جلالل وجهك وكمال قدسك‪ ،‬فإان عن القيام حبق محدك‬
‫عاجزون‪ ،‬ولعظمة جربوتك خاضعون‪ ،‬وإليك فيما منحت أهل قربك راغبون‪ ،‬فجد علينا من‬
‫خزائن جودك مبا تعلقت به اآلمال‪ ،‬فإنك واسع العطاء جزيل النوال‪.‬‬
‫مضاعفة اهلل ﷻ للقرض أضعافا كثرية‬
‫ْ ُ‬ ‫ْ َ ذَّ‬
‫﴿من ذا الِي ُيق ِرض‬ ‫كما وردت الكثرة يف موضع وصف املضاعفة للقرض يف قوله ﷻ‪:‬‬
‫هَّ َ َ ْ ً َ َ ً َ ُ َ َ ُ هَ ُ َ ْ َ ً َ َ ً َ هَّ ُ َ ْ ُ َ َ ْ ُ ُ يَ ْ ُ ْ َ ُ َ‬
‫الل قرضا حسنا فيضاعِفه ل أضعافا كثِرية والل يقبِض ويبسط ِإَولهِ ترجعون﴾ سورة البقرة‪.)245(:‬‬
‫واملضاعفة هنا حممودة ألهنا جزاء من هللا ﷻ على البذل والعطاء‪ ،‬فالكثرة كثرة حممودة‪.‬‬
‫عند اهلل مغامن كثرية‬
‫كما وردت الكثرة احملمودة يف حض هللا ﷻ املؤمنني احملاربني على عدم التسرع يف َوصف من‬
‫ألقى إليهم السالم أبنه ليس مؤمنا رغبة يف عرض الدنيا فما عند هللا أكثر وأبقى ﴿يَا أ ُّي َها ذَّال َ‬
‫ِين‬ ‫َ‬
‫ْ ُ ُ َّ َ ْ َ ْ‬‫لاَ‬ ‫َ ْ ىَ يَ‬ ‫ُ‬
‫َُ‬ ‫اَ‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫آ ََم ُنوا إ ذ ا رَ َ‬
‫ت ُمؤم ًِنا‬ ‫يل اللِ ف َتبَ َّي ُنوا َو ل َتقولوا َل َِم ْن أ ل ُق إ ِلكم الس م لس‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض بْ ُت ْم حْ يِف َسب‬ ‫ِ‬
‫َ ٌ َ َ ْ ُ ْ ْ َ ْ ُ َ َ َّ هَّ ُ َ ُ‬ ‫هَّ َ‬ ‫َ َ ِ ُّ ْ َ ْ‬ ‫َْ ُ َ َ َ‬
‫الل َعليْك ْم‬ ‫ادل ن َيا فعِن َد اللِ َمغا ن ُِم كثِرية كذ ل ِك كنتم مِن قبل فمن‬ ‫تب َتغون ع َرض اليا ة‬
‫َْ ُ َ َ ً‬ ‫َّ هَّ َ اَ َ‬
‫فتب َّينوا إ ِن الل ك ن ب ِ َما تع َملون خبِريا ﴾ سورة النساء‪.)94(:‬‬
‫َََ ُ‬

‫‪72‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫ضرب اهلل ﷻ األمثال للناس يهتدي بها كثري و َي ِضل بها كثري‬
‫مضت سنة هللا ﷻ يف خلقه أن يقيم عليهم احلجة‪ ،‬ويعلمهم البينة؛ لئال يكون للناس‬
‫ضل هبا كث َريا ويهدي‬ ‫على هللا حجة بعد الرسل‪ ،‬ومن ذلك أن ضرب هلم يف كتابه األمثال ي ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َّ هَّ َ اَ َ ْ َ ْ َ ْ َ رْ‬
‫وض ًة َف َما فَ ْو َق َها فَأ َّما ذَّالِينَ‬‫ض َب َم َثلاً َما َبعُ‬ ‫ﷻ‪ ﴿:‬حْ إِن الل ل يست َح يِي ذَّ أ ن ي‬ ‫هبا كث َريا‪َ ،‬قال‬
‫َ لاً‬
‫َ‬ ‫اد هَّ ُ‬‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫الل ب ِ َهذ ا َمث‬ ‫ِين كف ُر وا ف َيقولون َماذ ا أ ر‬ ‫ال ُّق م ِْن َر ّب ِ ِه ْم َوأ َّما ال‬
‫أ ن ُه َ‬ ‫ف َي ْعل ُمون‬ ‫آ ََم ُنوا‬
‫ري ا َو َما يُض ُّل بهِ إ اَّل الْ َفا ِ َ‬
‫سقِني ﴾ سورة البقرة‪.)26(:‬‬
‫َو َي ْه ِد ي بهِ َكث ِ ً‬ ‫بهِ َكث ِ ً‬
‫ري ا‬
‫ُ ُّ‬
‫ضل‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي ِ‬

‫وقد يتساءل سائل كيف يضل به كثريا ويهدي به كثريا‪ ،‬فاملتوقع أن يكون بعض‬
‫الفريقني كثريا واآلخر قليال‪ ،‬وابلنظر يظهر أن هذا فيه بيان قيمة املهتدين وإن كانوا يف أعني‬
‫َن الْ َك�ثرَة والْ ِقلَّةَ أَمر ِان نِسبِيَّ ِ‬ ‫لأِ‬ ‫فيِ‬
‫ان‪،‬‬ ‫َْ ْ‬ ‫الناس قلة‪ ،‬فهم يف الواقع ونفس األمر كثرة‪� (،‬فَلاَ �تَنَا َ �بَ�يْ�نَُه َما َّ َْ َ‬
‫الضلاَ ِل‪ ،‬أ َْو تَ ُكو ُن الْ َك�ثَْرةُ‬‫فَالْ ُم ْهتَ ُدو َن فيِ أَ�نُْف ِس ِه ْم َكثِريٌ‪َ ،‬وإِ َذا ُو ِص ُفوا باِ لْ ِقلَّ ِة فَبِالنِّ ْسبَ ِة إِلىَ أ َْه ِل َّ‬
‫اص‪ ،‬فَ ُس ُّموا َكثِ ًريا َذ َهاباً إِلىَ الحَِْقي َق ِة‪َ ،‬ك َما قَ َ‬
‫ال‬ ‫باِ لنِّ ْسبَ ِة إِلىَ الحَِْقي َق ِة‪َ ،‬والْ ِقلَّةُ باِ لنِّ ْسبَ ِة إِلىَ الأْ َ ْش َخ ِ‬
‫الش ِ‬
‫َّاعُر‪:‬‬

‫(‪((2‬‬
‫إِ َّن الْ ِكَر َام َكثِريٌ فيِ الْبِلاَ ِد َوإِ ْن �قَلُّوا َك َما َغ�يُْرُه ْم �قَلُّوا َوإِ ْن َك�ثُُروا‬

‫(‪ ((2‬البحر احمليط يف التفسري‪ ،)202 /1( :‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل‪.)811 /1( :‬‬

‫‪73‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫املبحث الثالث‬
‫الكثرة املذمومة صفاتها وخصائصها يف القرآن الكريم‬
‫وإذا تتبعنا الكثرة املذمومة يف القرآن الكرمي‪ ،‬وجدانها تدور حول بعض املعاين اليت ميكن‬
‫أن نردها إىل أصول جامعة على النحو التايل‪:‬‬
‫•وصف أكثر الناس‬
‫•وصف أكثر أهل الكتاب‬
‫•وصف الكثرة ملفردات من األشياء‬
‫وصف أكثر الناس‬
‫َ َ‬
‫﴿ألا‬ ‫خلق هللا ﷻ اخللق وهو هبم أعلم‪ ،‬وبطبائعهم أخرب‪ ،‬وخبلجات صدورهم أبصر‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َي ْعل ُم َم ْن َخل َق َو ُه َو الل ِط ُيف ال َخبِير﴾سورة امللك‪ ،14:‬ووصفهم هللا ﷻ وصفا ال يستطيعه غريه‪،‬‬
‫وال يقدر على القطع به سواه؛ ألنه األعلم بطوااي النفوس‪ ،‬وخبااي الصدور‪ ،‬وخفااي السرائر‪،‬‬
‫ووردت آايت القرآن الكرمي تؤكد هذا الوصف يف مواطن متعددة‪ ،‬ذلك الوصف الذي يؤكده‬
‫الواقع‪ ،‬وتدعمه جتارب احلياة‪ ،‬وميكن أن نتابع وصف القرآن للكثرة من الناس من خالل هذه‬
‫الصفات‪:‬‬
‫كثري من الناس عن آيات اهلل غافلون‬
‫ومثُال‪ ،‬والسعيد من اعترب والشقي‬ ‫ِ‬
‫بث هللا ﷻ يف اخللق آايت وعبرَ ا‪ ،‬ويف الكون عظات ُ‬
‫يدكر‪ ،‬وقد مضى حكم هللا ﷻ وسنته يف خلقه أبن كثريا منهم عن آايت هللا‬ ‫من تعداها ومل َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ََْ َُ ّ َ‬ ‫يْ‬ ‫َ‬
‫اس ع ْن آ َيَات َِنا‬ ‫ِإَون كث ِ ً‬
‫ريا م َِن انلَّ ِ‬ ‫جيك ب ِ َب َدن ِك لتِ َكون ل َِم ْن خلفك آ َيَة‬
‫غافلون‪ ،‬قال ﷻ‪﴿ :‬فالوم نن ِ‬
‫ََ ُ َ‬
‫ون﴾ سورة يونس‪ .)92( :‬وقد وردت هذه اآلية الكرمية يف بيان هالك فرعون الذي ذكر بوصفه‬ ‫لغاف ِل‬
‫دون امسه‪ ،‬حىت ميضي وصفه على كل (فرعون) ما بقيت احلياة‪ ،‬وتلك بعض مالمح السننية‬
‫يف القرآن الكرمي‪ ،‬فهي ال حتدد االسم‪ ،‬وال الزمان‪ ،‬وال املكان؛ حىت يفيد الناس من الوصف‪،‬‬
‫وال يتوقفوا عند االسم والرسم‪ ،‬ولكن أكثر الناس غافلون عن هذه العرب‪ ،‬وتلك الفوائد اليت‬
‫تبقى ما بقي اإلنسان‪ ،‬وتتعاقب ما تعاقب الليل والنهار‪ ،‬ومعىن (غافلون) أي ‪(:‬ساهون‪،‬‬

‫‪74‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫ضو َن َع ْن تأََ ُّم ِل آياَ تِنَا َوال�تََّف ُّك ِر فيها)(‪( ،((3‬وقرئ‪:‬‬


‫(م ْع ِر ُ‬
‫اليتفكرون فيها وال يعتربون هبا‪ ).‬أو ُ‬
‫(‪((2‬‬

‫ملن خلقك‪ ،‬ابلقاف‪ :‬أي لتكون خلالقك آية كسائر آايته‪ .‬وجيوز أن يراد‪ :‬ليكون طرحك على‬
‫الساحل وحدك ومتييزك من بني املغرقني‪ -‬لئال يشتبه على الناس أمرك‪ ،‬ولئال يقولوا‪ -‬الدعائك‬
‫العظمة‪ :‬إ ّن مثله ال يغرق وال ميوت‪ -‬آية من آايت هللا اليت ال يقدر عليها غريه‪ ،‬وليعلموا َّ‬
‫أن‬
‫«ننحيك» ابحلاء املشددة‬ ‫ذلك تعمد منه إلماطة الشبهة يف أمرك‪( ، ).‬وقرأ أيب بن كعب ّ‬
‫(‪((3‬‬

‫(‪((3‬‬
‫من التنحية‪ ،‬وهي قراءة حممد بن السميع اليماين ويزيد الربيدي)‬
‫وكثرة التأكيدات الواردة يف اآلية الكرمية من‪ :‬إن‪ ،‬وامسية اجلملة‪ ،‬والالم يظهر مدى غفلة‬
‫ض ِيه‬ ‫يد لِما �ت ْقتَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يض بهِِ ْم َوأ َّ‬
‫َك َدهُ َه َذا التَّأْك َ َ َ‬ ‫الناس عن العربة‪ ،‬على الرغم من ظهورها‪ ،‬وفيه (�تَْع ِر ٌ‬
‫يدو الْغَ ْفلَ ِة ع�نها علَى ِشد ِ‬
‫َّة ظُ ُهوِرَها �فَلاَ �يَ�تََف َّكرو َن فيِ‬
‫ُ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َي إِ�نَُّه ْم لَ َش ِد ُ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ش َّدةُ الْغَ ْفلَة م ْن �قَُّوة ال�تَّْنبِيه‪ ،‬أ ْ‬
‫ِ‬ ‫بهِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫بهِ‬
‫ني َك َما يمَُُّرو َن َعلَى‬ ‫أَسبا َا َو�نَتَائج َها َوح َك ِم هللا ف َيها‪َ ،‬ولاَ �يَْعتَبرِ ُو َن َا‪َ ،‬وإِنمََّا يمَُُّرو َن َعلَ�يَْها ُم ْع ِرض َ‬
‫ث وعواقِبِها واستِبانَِة سن ِن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هللا‬ ‫َم َسارِِح األنعام‪َ ،‬وف ِيه َذمٌّ ل ْلغَ ْفلَ ِة‪َ ،‬و َع َدِم ال�تََّف ُّك ِر فيِ أسباب الحََْواد ِ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ‬
‫(‪((3‬‬ ‫فِيها‪ ،‬لِلاِ ْعتِبا ِر والاِ تِّع ِ‬
‫اظ بهَِا‪).‬‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫أكثر الناس ال يشكرون‬
‫نِعم اإلله على العباد كثرية‪ ،‬ومننه على خلقه ال حتد وال تعد ومع ذلك أكثرهم ال‬
‫يشكرون‪ ،‬مضت بذلك سنة هللا ﷻ‪ ،‬فاهلل ذو فضل على الناس‪ ،‬ولكن أكثرهم ال يشكرون‪،‬‬
‫يشكرون‪ ،‬ووردت اآلايت القرآنية‬ ‫َ‬
‫وقد بذل إبليس يف ذلك واجتهد أن يكون أكثر الناس ال‬
‫َ َ‬ ‫ذَّ‬ ‫ىَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِين خلَىَ َر ُجوا م ِْن‬
‫قال ﷻ‪﴿:‬أل ْم ت َر ذَإِل ال‬‫ذلك‪ْ ،‬وأيده َو َاقعَ َالناس وحياهتم‪َ ُ ،‬‬ ‫على‬ ‫الكرمية دالة‬
‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫اه ْم إن هَّ َ‬ ‫َّ‬
‫َّ ْ َ ُ‬ ‫ُ ُ هَّ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُُ ٌ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اس‬‫الل لو فض ٍل ع انلَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الل ُموتوا ثم أحي‬ ‫ت فقال لهم‬‫دِيَارِه ِْم َوه ْم ألوف حذ َر ال َم ْو ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َّ َ ْ‬
‫ك رَ َ‬
‫‪:‬‬ ‫َي‬‫أ‬ ‫)‬ ‫ن‬‫و‬‫ر‬
‫لاَ َ ْ ُ َ ْ لاَ‬‫ك‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫َّاس‬
‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫�ث‬‫ك‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ن‬
‫َ َ َّ ْ َ‬‫ك‬ ‫ل‬‫(و‬ ‫‪،‬‬‫َ‬ ‫البقرة‪243:‬‬ ‫﴾سورة‬ ‫ون‬ ‫ر‬ ‫ك‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ِ‬
‫اس‬ ‫انل‬ ‫ث‬ ‫كن أ‬
‫ول ِ‬
‫ان َه ِذ ِه ُّ‬ ‫�ي ُقومو َن بحِ ُق ِ ِ‬
‫َي َه َذا َشأْ ُن أَ ْكثَ ِر النَّاسِ‬ ‫ِ‬
‫السنَّة؛ أ ْ‬
‫يدو َن ِمن �بي ِ‬
‫ْ ََ‬ ‫وق َهذ ِه النِّ ْع َم ِة‪َ ،‬ولاَ يَ ْستَ ِف ُ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بمِ‬ ‫برِ‬
‫ك أَ�يَُّها املؤمنون‪ ،‬بَ ِل ْاعتَ ُوا َا �نََزَل َعلَْي ُك ْم‬ ‫فيِ َغ ْفلَتِ ِه ْم َو َج ْهله ْم ْك َمة َرّب ْم‪� ،‬فَلاَ تَ ُكونُوا َك َذل َ‬
‫هِِ‬ ‫ِ‬ ‫بحِِ‬ ‫ِ‬
‫ط‬‫ث الْ َك ْو ِن‪َ ،‬حتىَّ ممِ َّا �يَْن ِزُل بِ ُك ْم ِم َن الْ�بَلاَ ِء إِ َذا َوقَ َع ِمْن ُك ْم �تَْف ِري ٌ‬‫يدوا ِمن ُك ِل حو ِاد ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫َوتأَ ََّدبُوا به لتَ ْستَف ُ ْ ّ َ َ‬

‫(‪ ((2‬جامع البيان‪.)891 /51( :‬‬


‫(‪ ((3‬تفسري القرطيب‪.)183 /8(:‬‬
‫(‪ ((3‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل‪.)963 /2( :‬‬
‫(‪ ((3‬احملرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز‪.)241 /3( :‬‬
‫(‪ ((3‬تفسري املنار‪.)093 /11( :‬‬
‫‪75‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫ض الشُّئُ ِ‬
‫ون)(‪ ،((3‬واطراد السنة هنا واضح من أتكيد القرآن الكرمي وتعبريه‪ ،‬وواقع الناس‬ ‫فيِ �بَْع ِ‬
‫يؤكد ذلك واطراده‪.‬‬
‫أكثر الناس ال يعلمون‬
‫ومن وصف القرآن الكرمي ألكثر الناس ‪ :‬أهنم ال يعلمون‪ ،‬ورد ذلك يف آايت متعددة‪،‬‬
‫وقد ورد نفي العلم عن أكثر الناس يف مقامات متعددة‪ ،‬ومواطن شىت‪ ،‬ومن خالل تتبع اآلايت‬
‫الكرمية ندرك اآليت‪:‬‬
‫نفي العلم ‪ -‬عن أكثر الناس‪ -‬أن الدين هو‪ :‬الرباءة من عبادة ما سوى هللا تعاىل‪،‬‬
‫اَّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُُْ َ‬
‫َ‬ ‫تعاىل‪﴿:‬ما ت اَّعبد َ‬
‫ون م ْ َِن اَّ دونِهِ إِل‬
‫للِهَّ‬ ‫ُ ْ‬ ‫حْ‬ ‫هوْ َالدين القيم‪ْ ،‬‬
‫قال‬
‫هَّ ُ َ ْ ُ َ‬ ‫التوحيدْ له عز ُ وجل َ‬
‫َ‬ ‫َوإخالص‬
‫ْ َ ً َ َّ ْ ُ ُ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ‬
‫الك ُم إِل ِ أ َم َر أل ت ْع ُب ُدوا‬ ‫ان إ ِ ِن‬
‫أسماء سميتموها أنتم وآ َباؤكم َما أنزل الل بِها مِن سلط ٍ‬
‫اَ ْ َ َ‬ ‫ك رَ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫اَّ َّ ُ َ َ ّ ُ ْ َ‬
‫اس ل َيعل ُمون﴾‪،‬سورة يوسف‪)40( :‬‬ ‫ث انلَّ ِ‬ ‫ِين الق ّي ِ ُم َول ِ‬
‫ك َّن أ‬ ‫إِل إِياه ذل ِك ادل‬

‫واملعىن‪( :‬ولكن أهل الشرك ابهلل جيهلون أن الدين القيم هو الرباءة مما سوى هللا ﷻ فال يعلمون‬
‫(‪((3‬‬
‫حقيقته‪).‬‬
‫العلم عن َ أكثر الناس يف بيان مقام العلم أبولياء اَّهللا تعاىل‪ ،‬يف قوله‪﴿ :‬‬
‫َ‬ ‫وورد نفي‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫اجة ف َنف ِس َي ْع ُق َ‬ ‫يَ‬
‫شء إل َح َ‬ ‫ْ‬ ‫اَ‬
‫َ ْ ُ ْ َ هَّ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ْ َْ ُ َ ُ ْ ُ ُ ْ َ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫وب‬ ‫يِ‬ ‫ولما دخلوا مِن حيث أم َرهم أبوهم ما كن يغنيِ عنهم مِن اللِ مِن ْ ٍ ِ‬
‫اَ َ ْ َ ُ َ‬ ‫ْ َ َ َّ ْ َ ُ َ َ َّ َ ْ‬
‫ك رَ َ‬ ‫َ َ َ َّ ذَ ُ‬
‫ون ‪ ﴾68‬قال ابْ ُن َعبَّ ٍ‬
‫اس‪( :‬لاَ �يَْعلَ ُم‬ ‫اس ل يعلم‬ ‫ث انلَّ ِ‬ ‫قضاها ِإَون ُه لو عِل ٍم ل ِما علمناه ول ِ‬
‫كن أ‬

‫َ‬
‫(‪((3‬‬
‫الْمش ِركون ما أهلم هللا أولياءه‪).‬‬
‫ُُْ َ‬
‫ْ‬
‫وورد نفي العلم عنهم يف مقام بيان معرفتهم أبن وعد هللا حق‪ ،‬قال ﷻ‪َ ﴿:‬وأق َس ُموا‬
‫اَ َ ْ َ ُ َ‬ ‫هَّ َ ْ َ َ ْ َ ْ اَ َ ْ َ ُ هَّ ُ َ ْ َ ُ ُ َ ىَ َ ْ ً َ َ ْ َ ًّ َ َ َّ َ ْ رَ‬
‫كن أكث انل ِاس ل يعلمون﴾‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫بِاللِ جهد أيمان ِ ِهم ل يبعث الل من يموت بل وعدا عليهِ حقا ول ِ‬
‫(‪((3‬‬
‫أي‪( :‬ولكن أكثر قريش ال يعلمون وعد هللا عباده‪ ،‬أنه ابعثهم يوم القيامة بعد مماهتم أحياء‪).‬‬
‫ونفى علمهم مبعرفة البعث فقال ﷻ‪( :‬و ِ‬
‫لك َّن أَ ْك�ثََر الن ِ‬
‫َّاس لاَ �يَْعلَ ُمو َن)‪ ،‬أي‪ :‬أَ�نَُّه ْم‬ ‫َ‬ ‫(‪((3‬‬
‫َم�بْعُوثُو َن‪.‬‬

‫(‪ ((3‬تفسري املنار‪.)463 /2( :‬‬


‫(‪ ((3‬جامع البيان‪.)601 /61( :‬‬
‫(‪ ((3‬تفسري البغوي‪.)305 /2( :‬‬
‫(‪ ((3‬جامع البيان‪.)302 /71( :‬‬
‫(‪ ((3‬تفسري القرطيب‪.)501 /01( :‬‬

‫‪76‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫ونفى هللا ﷻ عدم علم أكثر الناس أبن هللا قادر على أن ينزل آية‪ ،‬وال يعلمون ما‬
‫يرتتب على نزول اآلية ورفضهم هلا من وجوب حلول العذاب َكما مضت بذلك َسنة هللا ﷻ‬
‫َ َ ُ َ ْ اَ ُ ّ َ َ َ ْ َ ٌ ْ َ ّ ُ ْ َّ هَّ َ َ ٌ لَىَ ْ ُ زَّ َ َ ً َ َ َّ ْ رَ َ ُ اَ‬
‫ثه ْم ل‬ ‫ك ن أك‬ ‫نل آ َية ول ِ‬ ‫يف خلقه‪﴿ ،‬وقالوا لول ن ِزل عليهِ آ َية مِن ربِهِ قل إِن الل قادِر ع أن ي ِ‬
‫ون﴾‪( ،‬و ِ‬ ‫َ َُْ َ‬
‫لك َّن أَ ْك�ثََرُه ْم الَ �يَْعلَ ُمو َن أبن هللا قادر على أن ينزهلا‪ .‬ويقال‪ :‬ال �يَْعلَ ُمو َن مبا يف‬ ‫َ‬ ‫يعلم‬
‫(‪((3‬‬
‫نزول اآلية ألنه لو نزلت اآلية عليهم ومل يؤمنوا ؛ استوجبوا العذاب‪).‬‬
‫وهؤالء الطالبون آلية من هللا ﷻ ال يعلمون أن اآلايت جتري على سنن اثبتة وقوانني هلل‬
‫ﷻ يف عباده‪ ،‬فال تنزل تلبية لطلب املدعوين‪ ،‬وإال لو نزلت وكذبوا هبا لكان يف ذلك هالكهم؛‬
‫لكثرة تكذيبهم‪ ،‬وخلالفت تلك اآلية سنة هللا ﷻ يف استئصال املكذبني‪ ،‬ورسالة النيب ﷺ يف‬
‫األمة عامة ال يرد عليها سنة االستئصال فيكون يف ذلك تعارض لسنن هللا ﷻ وهذا ال يكون‪،‬‬
‫ت الْم َخالَِف ِة لِسنَنِ ِه ﷻ فيِ‬ ‫ول ‪ -‬آيةٌ ِمن ربِِه ِمن ا ِ‬
‫َ ْ َّ َ لآْياَ‬
‫الرس ِ‬ ‫ِ‬
‫(هلاَّ أُنْ ِزَل َعلَْيه ‪ -‬أَ ِي َّ ُ‬ ‫فهم قالوا‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ان‪،‬‬ ‫خ ْل ِق ِه‪ ،‬ممِ َّا ا�ق�ترحنَا علَي ِه‪ ،‬وجع ْلنَاه َشرطًا لإِِ ميَانِنَا بِِه؟ وقِيل‪ :‬إِ َّن مرادهم آيةٌ م ْل ِجئَةٌ إِلىَ الإِْ ميَ ِ‬
‫َُ َ ُ ْ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ََ ْ َ ْ َ َ َ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َل (قُ ْل إن هللاَ قَادٌر َعلَى‬ ‫ب َولاَ �يُْعتَ ُّد به إ ْن َح َ‬ ‫اختيَ ٌار‪� ،‬فَلاَ �يَُو َّجهُ إلَْيه الطلَ ُ‬ ‫اضطَر ٌار لاَ ْ‬ ‫َوالإْ لجَْاءُ ْ‬
‫ول‪ :‬إِ َّن هللاَ �تََعالىَ قَ ِادٌر َعلَى �تَْن ِز ِيل آيٍَة‬ ‫َي‪ :‬قُ ْل أَ�يَُّها َّ‬
‫الر ُس ُ‬ ‫ِ‬
‫أَ ْن �يُ�نَِّزَل آيَةً َولَك َّن أَ ْك�ثََرُه ْم لاَ �يَْعلَ ُمو َن) أ ْ‬
‫الرس ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ممِ َّا ا�ق�ترحوا‪ ،‬وإِنمََّا �ي�ن ِزلهُ ا إِ َذا ا�قتَض ِ‬
‫ول‬ ‫ت َش ْه َو�تُُه ْم ب�تَْعجي ِز َّ ُ‬ ‫ت ح ْك َمتُهُ �تَْن ِزيلَ َها‪ ،‬لاَ إِ َذا �تََعلَّ َق ْ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ْ ََ ُ َ َُّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫فيِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين إلىَ الآْياَ ت الْ ُم ْق�تََر َحة لمَْ يَ ُك ْن أ َُّمة م َن الأْ َُمم َس�بَبًا ل ْله َدايَة‪َ ،‬وقَ ْد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بِطَلَبِ َها‪ ،‬فَِإ َّن إِ َجابَةَ الْ ُم َعاند‬
‫َ‬
‫ِ (‪((4‬‬ ‫ِ لاِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫مضت س�نَّته ﷻ فيِ الأْ َ�قو ِام‪ ،‬بأَِ ْن �يعاقِب الْمع ِج ِز ِ‬
‫صال‪).‬‬ ‫ك بِ َع َذاب ا ْستْئ َ‬ ‫ين ل ُّلر ُس ِل بِ َذل َ‬
‫َُ َ ُ َ ّ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ْ ُ ُُ‬
‫كما أهنم ال يقدرون املعجزة الكربى وهي القرآن الكرمي وحصروا أنفسهم يف املعجزات‬
‫احلسية اليت تنتهي ابنتهاء زماهنا‪ ،‬ومل يدروا أن القرآن جتاوز الزمان واملكان‪ ،‬وحاجات البشر‪،‬‬
‫ففيه لكل زمان ما يعجز أهله ويرشدهم إىل صدق قائله‪.‬‬
‫علمهم أبن العطاء واملنع َ اَمن َّ هللا‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫علم أكثر ْالناس به‪:‬‬ ‫تعاىل ُ نَ‬
‫حْ ُ َ‬
‫َ َ ومما ْنفى هللا‬
‫ُ ْ‬ ‫ال َس َنة قالوا لَا َهذه ِ ِإَون تُصبْ ُه ْم َس ّي َئة َي َّطيرَّ ُ وا ب ُم ىَ‬
‫وس َو َم ْن َم َع ُه أل إِن َما َطائ ِ ُره ْم عِن َد‬ ‫﴿فإذا َج َ‬
‫اءت ُه ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هَّ َ َ َّ َ ْ رَ َ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ‬
‫كن أكثهم ل يعلمون﴾ سورة األعراف‪.)131( :‬‬ ‫اللِ ول ِ‬
‫فهم ال يعلمون أن العطاء واملنع من هللا‪ ،‬وأن تطريهم غري مبين على وعي وال بصرية؛‬
‫ألن مقاليد األمور كلها بيد امللك ‪ ،‬لكنهم ال يرون ذلك وال يلحظون أنه فضل هللا يؤتيه من‬
‫يشاء‪ ،‬فالشكور يرد النعمة إىل مصدرها‪ ،‬ويسند الفضل إىل صاحب الفضل‪.‬‬

‫(‪ ((3‬حبر العلوم‪ ،)644 /1( :‬النكت والعيون‪.)011 /2( :‬‬


‫(‪ ((4‬تفسري املنار‪.)323 /7( :‬‬
‫‪77‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫واألرض هلل‪ .‬ورد‬ ‫نفي علم أكثر َالناس أبن وعد هللا حق‪ ،‬وأن كل ما يف السماوات‬
‫َّ َ َ َ أْ َ ْ َ اَ َّ َ ْ َ هَّ َ ٌّ َ َ َّ َ ْ رَ َ ُ ْ اَ‬ ‫اَ َّ للِهَّ َ‬
‫كن أكثهم ل‬ ‫ات والر ِض أل إِن وعد اللِ حق ول ِ‬ ‫ذلك يف قوله ﷻ‪﴿ :‬أل إِن ِ ما يِف السماو ِ‬
‫َ َُْ َ‬
‫ون﴾‪ ،‬أي‪ (:‬أ ّن كل ما يف السموات وكل ما يف األرض من شيء‪ ،‬هلل ِم ْلك‪ ،‬ال شيء‬ ‫يعلم‬
‫فيه ٍ‬
‫ألحد سواه)‪ ((4(.‬فالوجود كله يف يديه‪ ،‬واخلري كله منه وإليه‪.‬‬
‫نفي علم أكثر الناس مبا يصلح للناس‬
‫ونفى هللا ﷻ علم أكثر الناس مبا فيه مصلحة األانم‪ ،‬وأن النسخ واإلحكام من لدن عالم‬
‫الغيوب‪ ،‬وأنك اي رسول هللا ال أتتيهم بشيء من عند نفسك بل (الذي أتتيهم به من عند‬
‫َ َنْ ً اَ َ‬
‫هللا انسخه ومنسوخه‪ ،‬وهم ال يعلمون حقيقة صحته)(‪ ،((4‬قال ﷻ‪ِ﴿ :‬إَوذا بَ َّدلا آ َيَة َمكن آ َيَ ٍة‬
‫َ هَّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ زَّ ُ َ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ترَ َ ْ َ ْ رَ ُ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ‬
‫ون﴾ سورة النحل‪( .)101( :‬فيه وجهان‪:‬‬ ‫نل قالوا إِنما أنت مف ٍ بل أكثهم ل يعلم‬ ‫والل أعلم بِما ي ِ‬
‫(‪((4‬‬
‫أحدمها‪ :‬ال يعلمون جواز النسخ‪ .‬الثاين‪ :‬ال يعلمون سبب ورود النسخ)‬
‫نفي علم أكثر الناس باحلق‬
‫كما نفى هللا ﷻ َ علم أكثر الناس ابحلق‪ ،‬ومعرفتهم به‪ ،‬فال يدرون ما أيخذون وما‬
‫ْ‬ ‫ك ْم َه َذا ذ ِْك ُر َم ْن َم يِ َ‬
‫ًَ ُْ َ ُ َُْ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫خَّ َ ُ‬
‫ع َوذِك ُر َم ْن‬ ‫يدعون‪ ،‬فقال ﷻ‪ ﴿:‬أ ِم اتذوا م ِْن دونِهِ آَل ِهة قل هاتوا برهان‬
‫َ ْ َ ْ َ ْ رَ ُ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ حْ َ َّ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ‬
‫ون﴾‪.‬واملعىن‪( :‬بل أكثر هؤالء املشركني ال يعلمون‬ ‫قب يِل بل أكثهم ل يعلمون الق فهم مع ِرض‬
‫الصواب فيما يقولون وال فيما أيتون ويذرون‪ ،‬فهم معرضون عن احلق جهال منهم به‪ ،‬وقلَّة‬
‫(‪((4‬‬
‫فهم)(‪،((4‬أو(ال يصدقون ابلقرآن‪ ،‬ويقال ابلتوحيد)‬
‫أكثر الناس ال يعلمون قدر عظمة اهلل‬
‫الناظر يف ملك هللا ﷻ يبهره هذا العلم احملكم وهذا الرتتيب الدقيق الذي يشمل كل‬
‫شيء من أصغر ذرة إىل أكرب جمرة‪ ،‬ومن علم اإلنسان إىل علم احليوان والنبات واحلشرات‪،‬‬
‫فكل حبسبان‪ ،‬وكل يدل على عظمة خالقه‪ ،‬والناس يف غفالهتم عن هذا اإلدراك سادرون‪ ،‬ويف‬
‫غيهم يعمهون‪ ،‬ولقد ضرب هللا ﷻ مثاالً الفتاً ألنظار الناس واضحاً بيناً ال حيتاج إىل عمق يف‬
‫العلم ‪ ،‬وال مهارة دقيقة يف اإلدراك بل يراه العامي والعامل‪ ،‬وكل يفهمه حسب معطياته وقدراته‪:‬‬
‫(‪ ((4‬جامع البيان‪.)301 /51( :‬‬
‫(‪ ((4‬جامع البيان‪.)792 /71:‬‬
‫(‪ ((4‬النكت والعيون‪.)412 /3( :‬‬
‫(‪ ((4‬جامع البيان‪.)724 /81( :‬‬
‫(‪ ((4‬حبر العلوم‪.)424 /2( :‬‬

‫‪78‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫ج ًزا‬ ‫خلاَ ل َ َها َأنْ َه ً‬


‫ارا َو َج َع َل ل َ َها َر َو يِ َ َ َ َ َ َ نْ َ بْ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫﴿أَ َّم ْن َج َع َل أْالَ ْر َض قَ َر ً‬
‫ارا َو َج َعل ِ‬
‫اس وجعل بي الَحر ي ِن حا ِ‬
‫َ َ ٌ َ َ هَّ َ ْ َ ْ رَ ُ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ‬
‫ون﴾سورة النمل‪ .)61( :‬ولكن أكثر الناس ال يعلمون ألهنم ال‬ ‫أئِله مع اللِ بل أكثهم ل يعلم‬
‫يقفون وال يفكرون يف دالئل قدرة هللا ﷻ‪ ،‬فهم (ال يعلمون قدر عظمة هللا‪ ،‬وما عليهم من‬
‫الضر يف إشراكهم يف عبادة هللا غريه‪ ،‬وما هلم من النفع يف إفرادهم هللا ابأللوهية‪ ،‬وإخالصهم‬
‫ّ‬
‫(‪((4‬‬
‫كل معبود سواه‪).‬‬‫ّ‬ ‫من‬ ‫اءهتم‬
‫ر‬ ‫وب‬ ‫العبادة‪،‬‬ ‫له‬
‫نفي هللا ﷻ علم أكثر الناس أبن وعد هللا حق‬
‫ْ َ َ َّ ْ َ هَّ َ ٌّ َ‬ ‫اَ حَ ْ َ‬ ‫َ َ ْ َ ىَ ُ ّ يَ َ َ َ ُ‬
‫قال ﷻ‪﴿ :‬ف َرددناهُ إِل أ ِمهِ ك ْ تق َّر عيْن َها َول ت َزن َولتِ َعل َم أن َوعد اللِ حق َول ِ‬
‫ك َّن‬
‫َ ْ رَ َ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ‬
‫ون﴾سورة القصص‪ ،)13(:‬أي‪( :‬ولكن أكثر املشركني ال يعلمون أن وعد هللا‬ ‫أكثهم ل يعلم‬
‫حق‪ ،‬ال يصدقون أبن ذلك كذلك‪ ،((4().‬أو‪( :‬و ِ‬
‫لك َّن أَ ْك�ثََرُه ْم لاَ �يَْعلَ ُمو َن‪ ،‬أ َّ‬
‫َن اَللهَّ َو َع َد َها َرَّدهُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫(‪((4‬‬
‫إِلَ�يَْها‪).‬‬
‫وأمنهم وجبى إليهم‬ ‫نفى اهلل ﷻ عن أكثر الناس علمهم بأن اهلل هو الذي رزقهم َّ‬
‫مثرات كل شيء‪.‬‬
‫كثريا ما يصد الناس عن اإلميان‪ ،‬ويردهم عن الطاعة خوفهم على مصلحة حاضرة‬
‫خيشون فواهتا‪ ،‬أو طمعهم يف منفعة منتظرة يرجون نواهلا‪ ،‬انطبق ذلك على قريش مع الرسول‬
‫ﷺ كما انطبق على كل األمم السابقة مبا يؤكد السننية يف تلك القضية املطردة‪ ،‬ولقد أبطل‬
‫كل ذي َعينني‪ ،‬ويعقلها كل ذي‬ ‫َ‬
‫هللا ﷻ حجتهم ودحض مزاعمهم بصورة واقعية رائقة يفهمها‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫خ َّط ْف م ِْن أ ْر َ‬ ‫َ َ َ َُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ َّ‬ ‫َ ُ‬
‫ك ْن ل ُه ْم َح َر ًما‬ ‫ضنا أ َو ل ْم ن َم ِ‬ ‫ِ‬ ‫عقل‪ ،‬قال ﷻ‪﴿:‬وقالوا إ ِن نتبِعِ ال ُه َد ى معك نت‬
‫َ َ‬ ‫ْ رَ َ ُ اَ‬ ‫لدَ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ً يجُ ْ ىَ يَ ْ َ َ َ ُ لُّ‬
‫ثه ْم ل َي ْعل ُمون ﴾ سورة القصص‪:‬‬
‫ًْ‬
‫ش ٍء رِ زقا م ِْن ُ نا َو ل ِ‬
‫ك َّن أ ك‬ ‫ك يَ ْ‬
‫آَمِنا ب إ ِلهِ ثمرات ِ‬
‫(‪ .)57‬أي‪( :‬لاَ �يعلَمو َن أَناَّ نحَْن الَّ ِذين م َّكنَّا لهَ م حرما ِآمنًا‪ ،‬ورز�قنَاهم فِ ِيه‪ ،‬وجع ْلنَا الثَّمر ِ‬
‫ات ِم ْن‬ ‫َ ََ َ‬
‫َ‬ ‫َ ََ ْ ُ ْ‬ ‫ُ َ َ ُْ َ ً‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬
‫بهِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ك ْم يَ ْك ُفُرو َن‪ ،‬لاَ يَ ْش ُكُرو َن َم ْن أ�نَْع َم َعلَْيه ْم‬ ‫ض تجُْ ىَب إِلَْي ِه ْم‪� ،‬فَُه ْم بجِ َ ْهل ِه ْم بمِ َ ْن �فََع َل َذل َ‬
‫ُك ِّل أ َْر ٍ‬
‫ِ‬
‫ك‪).‬‬ ‫بِ َذل َ‬
‫(‪((4‬‬

‫ولقد قال هللا ﷻ ذلك لقريش ردا على ختوفهم من اإلميان وأهنم خيشون إن هم اتبعوا‬
‫اهلدى أن يتخطفوا من أرضهم‪ ،‬فذكرهم هللا ﷻ أبنه هو الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من‬
‫(‪ ((4‬جامع البيان‪.)484 /91(:‬‬
‫(‪ ((4‬جامع البيان‪.)535 /91(:‬‬
‫(‪ ((4‬حبر العلوم‪.)106 /2( :‬‬
‫(‪ ((4‬جامع البيان‪.)982 /81(:‬‬

‫‪79‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫خوف وجىب إليهم مثرات كل شيء‪ ،‬واملتأمل يف اآلية الكرمية يدرك أن املراد ابلثمرات هنا‬
‫ليست مثرات الفاكهة بل (مثرات كل شيء)‪ ،‬أي‪ :‬خالصة كل شيء‪ ،‬وأفضل ما فيه سواء كان‬
‫ذلك يف الطعام أو الشراب‪ ،‬أو الثياب‪ ،‬أو العقول البشرية‪ ،‬أو اخلربات اإلنسانية‪ ،‬أو غريها‬
‫من مثرة كل شيء‪ ،‬واألايم تزيد هذه النبوءة القرآنية أتكيداً‪ ،‬فما زلنا نرى مثرات كل شيء جتىب‬
‫إىل هذه البالد املباركة‪ ،‬قدميا وحديثاً‪ ،‬ومع ذلك (هم غافلون عن االستدالل‪ ،‬وأن من رزقهم‬
‫(‪((5‬‬
‫وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا‪ ،‬ومينع الكفار عنهم يف إسالمهم‪).‬‬
‫نفي علم أكثر الناس بأن للذين ظلموا عذابا غري عذاب الدنيا‬
‫ونفى هللا ﷻ عن أكثر الناس علمهم أبن للظاملني عذااب غري عذاهبم َ يف الدنيا‪ ،‬وأنه انزل هبم‬
‫َّ ذَّ َ َ َ ُ َ َ ً ُ َ َ َ َ َ َّ ْ رَ َ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ‬
‫ون ﴾‪.‬‬ ‫كن أكثهم ل يعلم‬ ‫ما مل يتوبوا ال حمالة‪ ،‬قال ﷻ‪ِ﴿:‬إَون ل ِلِين ظلموا عذابا دون ذل ِك ول ِ‬
‫اب)(‪ ((5‬أو‪( :‬أ ّن هللا انصر لدينه‪ ،((5().‬أو (أ َّ‬ ‫ك الْع َذ ِ‬‫ِ ِ‬
‫َن‬ ‫واملعىن‪ :‬أكثرهم ال يعلمون (أَ�نَُّه ْم َذائ ُقو َذل َ َ‬
‫ِ بهِِ (‪((5‬‬
‫اب ناَ زٌل ْم‪).‬‬
‫الْ َع َذ َ‬
‫نفي علم أكثر الناس باملتقني ً‬
‫حقا‬
‫َ َ‬
‫﴿وْ َما ل ُه ْم‬ ‫الناس أبن أولياء هللا هم املتقون حقا‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬ ‫أكثر َ ْ‬ ‫ونفى هللا ﷻ علم‬
‫حْ َ َ ِ َ َ اَ ُ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ُ ُ اَّ ُ َّ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ اَّ ُ َ ّ َ ُ ُ هَّ ُ َ ُ ْ َ ُ ُّ َ‬
‫ج ِد الرام وما ك نوا أ و يِلاء ه إ ِن أ و يِلاؤه إ ِل المتقون‬
‫أ ل يع ِذ َبهم الل وهم يصد ون ع ِن المس ِ‬
‫ْ رَ َ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ون ﴾ سورة األنفال‪( .)34( :‬ولكن أكثر املشركني ال يعلمون أن أولياء هللا‬ ‫ك َّن أ كثهم ل يعلم‬ ‫َو ل ِ‬
‫(‪((5‬‬
‫املتقون‪ ،‬بل حيسبون أهنم أولياء هللا‪).‬‬
‫نفي علم أكثر الناس أن اهلل وحده هو احلقيق باحلمد‬
‫هللا ﷻ وحده هو احلقيق ابحلمد والثناء‪ ،‬واجلدير ابلشكر والدعاء‪ ،‬لفضله وإنعامه‪،‬‬
‫رُ َ اَ‬ ‫لاً‬ ‫رَ َ َ هَّ ُ َلاً‬
‫شك ُء‬ ‫الل َمث َر ُج فِيهِ‬ ‫وبره وإكرامه‪ ،‬وأكثر الناس ال يعلمون ذلك‪ ،‬قال ﷻ‪﴿ :‬ضب‬
‫َ‬ ‫ْ رَ ُ ُ ْ اَ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ُ َ َ ُ َ َ َ ُ لاً َ َ ً َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ َلاً حْ َ ْ ُ للِهَّ َ ْ‬
‫ِ بل أكثهم ل يعل ُمون﴾ سورة الزمر‪:‬‬ ‫ان مث المد‬ ‫متشاكِسون ورج سلما ل ِرج ٍل هل يستوِي ِ‬
‫(‪ (.)29‬إمنا احلمد الكامل هو هلل خالصا؛ ألنه هو املنعم واخلالق ‪ ،‬والرازق ولكن أكثر‬

‫(‪ ((5‬تفسري القرطيب‪.)003 /31( :‬‬


‫(‪ ((5‬جامع البيان‪.)506 /12( :‬‬
‫(‪ ((5‬لطائف اإلشارات‪.)874 /3(:‬‬
‫(‪ ((5‬تفسري الثعليب‪.331/9:‬‬
‫(‪ ((5‬جامع البيان‪.)025 /31( :‬‬

‫‪80‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫(‪((5‬‬
‫مستحق لصفات اجلالل‪).‬‬
‫ّ‬ ‫هؤالء الكفرة ال يعلمون أهنا كذلك‪ ((5().‬فـ (الثناء له‪ ،‬وهو‬
‫أكثر الناس ال يعلمون مدار العطاء واملنع‬
‫يعطي هللا ﷻ ومينع‪ ،‬ويهب وينزع حلِ َك ٍم يعلمها‪ ،‬وأسرا ٍر يريب هبا عباده‪ ،‬منها االبتالء‬
‫َ َ َ َّ إْ ْ َ َ رُ ٌّ َ َ ُ َ‬
‫ض د اَعنا ث َّم إِذا‬ ‫واالختبار‪ ،‬وإقامة سورة احلجة على عباده‪ ،‬قال ﷻ‪﴿َ :‬فإِذا مس ِ‬
‫النسان‬
‫َ‬ ‫ْ رَ َ ُ ْ اَ َ ْ َ‬ ‫ٌَْ َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ُ ُ لَىَ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ً َّ َ َ َّ‬ ‫َ نْ‬
‫ك َّن أكثهم ل يعل ُمون﴾ سورة الزمر‪.)49( :‬‬ ‫خ َّولَاهُ ن ِع َمة مِنا قال إِن َما أوت ِيته ع عِل ٍم بل يِ َ‬
‫ه ف ِتنة َول ِ‬
‫الضر الذي كانوا فيه فتنة هلم‪ ،‬يعين بالء ابتليناهم‬ ‫واملعىن‪( :‬عطيتنا إايهم تلك النعمة من بعد ّ‬
‫(ولَ ِك َّن أَ ْك�ثََرُه ْم) جلهلهم‪ ،‬وسوء رأيهم (ال �يَْعلَ ُمو َن) ألي سبب أعطوا‬
‫َ‬ ‫به‪ ،‬واختبارا اختربانهم به‬
‫يل إَِنمَّ ا َكا َن‬‫َن َه َذا الت ْ ِ‬
‫َّخو َ‬ ‫ذلك‪ ،((5().‬أو ال يعلمون (البلوى من النعمى‪ ((5().‬وال يعلمون (أ َّ‬
‫لأِ ِ لاِ ِ ِ (‪((5‬‬
‫َجل ا ْختبَار‪).‬‬
‫ْ‬
‫أكثر الناس ال يعلمون سنن اهلل املاضية‬
‫أكثر الناس ال يعلمون حكم هللا ﷻ يف خلقه‪ ،‬وسننه املاضية يف عباده‪ ،‬وأن ما تصري‬
‫إليه األمور جتري حبسبان وقدر معلوم‪ ،‬خلالق األرض والسماء‪ ،‬وأن الكون مسطوره ومنظوره‬
‫جيري (حبسبان)وأنه ﷻ لذلك وضع (امليزان) وخلقه مجيعا (كل يف فلك يسبحون)‪ ،‬وما جيري‬
‫اشترَ َ اهُ م ِْن م رْ َ‬‫ْ‬ ‫َ َ َ ذَّ‬
‫ِص‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫أْ‬ ‫ِي‬
‫ال‬ ‫عامل َاحلياة جيري يف عامل َ األحياء‪ َ ،‬قال ﷻ لدَيف َشأن يوسف‪ ﴿:‬وقال‬
‫يف َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ْ‬
‫ْ ََ‬ ‫َ ىَ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫خذهُ َو ً ا َوكذل ِك َمك َّنا ل ِسورة يوسف يِف ال ْر ِض َولنِ ُ َعل َِم ُه‬ ‫َ‬
‫اِلم َرأتِهِ أك ِر يِم مث َواهُ عس أن َينفعنا أ ْو نت ِ‬
‫اَ َ ْ َ َ‬
‫اس ل يعل ُمون﴾ سورة يوسف‪.)21( :‬‬
‫َ هَّ ُ اَ ٌ لَىَ َ ْ َ َ َّ َ ْ‬
‫ك رَ َ‬
‫ث انلَّ ِ‬ ‫كن أ‬ ‫م ِْن تَأْو أْ َ َ‬
‫ِيث والل غل ِب ع أم ِره ِ ول ِ‬ ‫يل الحاد ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫أي‪( :‬لاَ يَ ْد ُرو َن ِح ْك َمتَهُ فيِ َخ ْل ِق ِه‪َ ،‬و�تَلَطَُّفهُ لِ َما يُِر ُ‬
‫يد)(‪َّ ،((6‬‬
‫(أن األمر كله بيد هللا‪ ((6().‬أو‪:‬‬
‫(ال يعلمون أن سنة هللا ماضية وأن أمره هو الذي يكون‪ ،((6().‬وقد مضت سنة هللا تعاىل اليت‬
‫أرادها يف يوسف؛ ألن أمره غالب‪ ،‬وحكمه انفذ وال يقع يف ملكه إال ما يريد‪.‬‬

‫(‪ ((5‬الكشف والبيان عن تفسري القرآن‪.)23 /6( :‬‬


‫(‪ ((5‬لطائف اإلشارات‪.)082 /3( :‬‬
‫(‪ ((5‬جامع البيان‪.)403 /12( :‬‬
‫(‪ ((5‬النكت والعيون‪.)131 /5( :‬‬
‫(‪ ((5‬مفاتيح الغيب أو التفسري الكبري‪.)854 /62( :‬‬
‫(‪ ((6‬تفسري ابن كثري‪.)873 /4( :‬‬
‫(‪ ((6‬اللباب يف علوم الكتاب‪.)35 /11( :‬‬
‫(‪ ((6‬يف ظالل القرآن‪.)9791 /4( :‬‬
‫‪81‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫أكثر الناس ال يعلمون أن خلق السماوات أكرب من خلق الناس‬


‫الناظر يف ظاهر األمر يظن أن كثريا من الناس على وعي وعلم‪َ ،‬وواقع َاألمر يثبت أن‬
‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ك رَ ُ‬ ‫أْ‬ ‫خَ َ‬
‫﴿للْ ُق َّ‬
‫ب م ِْن خل ِق‬ ‫ات َوال ْر ِض أ‬ ‫الس َم َ‬
‫او ِ‬ ‫يعلمون‪ ،‬وعلمهم الظاهر علم ظين‪،‬‬ ‫أكثرهم ال‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَ َ ْ َ‬ ‫ْ رَ َ‬ ‫َ‬
‫ك َّن أكث انلَّ ِ‬
‫اس ل يعل ُمون﴾ سورة غافر‪.)57( :‬‬ ‫اس َول ِ‬
‫انلَّ ِ‬
‫أكثر الناس جيهلون‬
‫ومن مواطن الكثرة اليت ذكرها القرآن يف مقام الذم ذكره أن أكثر الناس جيهلون‪ ،‬وهذه‬
‫ْ لاَ َ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ نْ يَ‬
‫﴿ول ْو أن َنا ن َّزلَا إِلْ ِه ُم َال َم ئِكة‬‫ﷻ‪َ :‬‬
‫اَّ‬
‫يؤمنون‪ ،‬قال‬ ‫الناسيَ أهنم لاًال‬ ‫عموم‬ ‫حلكم ىَالقرآن يف‬
‫ْ‬
‫تتمة‬
‫لَ َّ‬
‫رَ‬
‫ْ َُ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬
‫َما كنُوا يِلُ ْؤم ُِنوا إل أ ْن ي َ َش َ‬
‫اء هَّ ُ‬ ‫لُ َّ‬
‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ُ َ ْ َ َ رَ ْ َ‬
‫ثه ْم‬ ‫ك َّن أك‬
‫الل َول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ش ٍء ق ُب‬ ‫شنا َعليْ ِه ْم ك‬ ‫وكمهم الموت وح‬
‫أكثر هؤالء املشركني جيهلون أن ذلك كذلك‪،‬‬ ‫ون﴾سورة األنعام‪ .)111( :‬يقول‪( :‬ولكن‬ ‫يجَ ْ َ ُ َ‬
‫هل‬
‫الكفر أبيديهم‪ ،‬مىت شاءوا آمنوا‪ ،‬ومىت شاءوا كفروا‪ .‬وليس ذلك‬‫حيسبون أن اإلميان إليهم‪ ،‬و َ‬
‫كذلك‪ ،‬ذلك بيدي‪ ،‬ال يؤمن منهم إال من هديته له فوفقته‪ ،‬وال يكفر إال من خذلته عن‬
‫(‪((6‬‬
‫الرشد فأضللته‪).‬‬
‫أو أن جهلهم هنا إما أن يكون املراد به جهلهم فيما يقرتحونه من اآلايت‪ ،‬أو أهنم لو‬
‫أجيبوا إىل اقرتاحهم ملا متكنوا من اإلميان طوعا‪ ،‬والقرآن ال جيرب الناس على اإلميان به‪ ،‬أو لو‬
‫أجيبوا ومل يؤمنوا حلق عليهم العذاب‪ .‬وذلك (ألن اآلايت وإن توالت‪ ،‬ومشوس الربهان وإن‬
‫العزة وكبسته القسمة مل يزده ذلك إال حرية وضالال‪ ،‬ومل يستنجز إال للشقوة‬
‫تعالت فمن قصمته ّ‬
‫(‪((6‬‬
‫حاال‪).‬‬
‫أكثر الناس ال يعقلون‬
‫ومضى القرآن الكرمي َيؤكد طبع األكثرية أبهنم ال َيعلمون‪َ ،‬وأكثرهم جيهلون‪ ،‬وأهنم ال‬
‫يَ ُ ُ‬ ‫أْ َ‬ ‫اء فَأ ْ‬ ‫﴿ولَئ ْن َسألتْ َ ُه ْم َم ْن نَ َّز َل م َِن َّ‬
‫ح َيا بِهِ ال ْرض م ِْن َب ْع ِد َم ْوت َِها لَقول َّن‬ ‫الس َماءِ َم ً‬ ‫َ‬
‫يعقلون فقال ﷻ‪ِ َ :‬‬
‫ْ رَ ُ ُ ْ اَ َ ْ ُ َ‬ ‫هَّ ُ ُ حْ َ للِهَّ ْ‬
‫ون﴾‪( ،‬بَ ْل أَ ْك�ثَُرُه ْم ال �يَْع ِقلُو َن) يقول‪( :‬بل أكثر هؤالء‬ ‫ال ْم ُد ِ بَل أكثهم ل يعقِل‬ ‫الل ق ِل‬
‫الضر‪ ،‬فهم جلهلهم حيسبون‬ ‫املشركني ابهلل ال يعقلون ما هلم فيه النفع من أمر دينهم‪ ،‬وما فيه ّ‬
‫أهنم لعبادهتم اآلهلة دون هللا‪ ،‬ينالون هبا عند هللا ُزلْفة وقربة‪ ،‬وال يعلمون أهنم بذلك هالكون‪،‬‬
‫(‪((6‬‬
‫مستوجبون اخللود يف النار‪).‬‬
‫(‪ ((6‬جامع البيان‪.)74 /21( :‬‬
‫(‪ ((6‬لطائف اإلشارات‪.)594 /1( :‬‬
‫(‪ ((6‬جامع البيان‪.)95 /02( :‬‬

‫‪82‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫أكثر الناس ال يؤمنون‬


‫ﷻ‪﴿:‬‬ ‫َ وجرت سنة هللا ﷻ يف الناس أبن الكثرة منهم ال تؤمن‪ ،‬وال تستجيب‪ ،‬قال‬
‫َ‬ ‫ْ رَ‬
‫ك ُث انلَّ ِاس َول ْو َح َر ْص َت ب ِ ُم ْؤ ِمن َِني﴾ سورة يوسف‪ .)103( :‬وسواء أكان املراد ابلناس هنا‬ ‫َو َما أ‬
‫أهل مكة‪ ،‬أم الناس على عمومهم وحقيقتهم‪ ،‬فإن السنة هنا ماضية ال تتخلف وال تتأجل‪،‬‬
‫أي‪( :‬وما أكثر مشركي قومك‪ ،‬اي حممد‪ ،‬ولو حرصت على أن يؤمنوا بك فيص ّدقوك‪ ،‬ويتبعوا‬
‫(‪((6‬‬
‫ما جئتهم به من عند ربك‪ ،‬مبص ِّدقيك وال ُمتَّبِعيك‪).‬‬
‫وهللا عز وجل هنا (أخرب عن سابق علمه هبم‪ ،‬وصادق حكمه وحكمته فيهم‪ .‬ويقال‬
‫معناه‪ :‬أقمتك شاهدا إلرادة إمياهنم‪ ،‬وش ّدة احلرص على حت ّققهم ابل ّدين‪ ،‬وإيقاهنم‪ .‬مث إنىّ أعلم‬
‫أهنم ال يؤمن أكثرهم‪ ،‬وأخربتك بذلك‪ ،‬وفرض عليك تصديقي بذلك‪ ،‬وفرضت عليك إراديت‬
‫(‪((6‬‬
‫كون ما علمت أنه ال يكون من إمياهنم‪).‬‬
‫كما أابن القرآن الكرمي عن سنة هللا يف عدم إميان أكثر الناس على الرغم من علمهم‬
‫ْ َ َ ُ ْ َ َ ذَّ ُ ْ َ يَ ْ َ ْ َ ّ َ حْ َ ُّ َ‬
‫ك َّن‬
‫الق َول ِ‬ ‫َابحلق ورؤيتهم له‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬المر ت ِلك آ َيات الكِت ِ‬
‫اب والِي أن ِزل إِلك مِن ربِك‬
‫اَ ُ ْ ُ َ‬ ‫ك رَ َ‬
‫ْ‬
‫ون﴾سورة الرعد‪( .)1( :‬ويف املراد ب {أكثر الناس} قوالن‪ :‬أحدمها‪ :‬أكثر‬ ‫ث انلَّ ِ‬
‫اس ل يؤمِن‬ ‫أ‬
‫اليهود والنصارى ‪ ،‬ألن أكثرهم مل يسلم‪ .‬الثاين‪ :‬أكثر الناس يف زمان رسول هللا ﷺ‪((6().‬وسواء‬
‫أكان املراد من أكثر الناس هنا اليهود والنصارى أم الناس يف زمان الرسول ﷺ ‪ ،‬فالسنة هبذا‬
‫ماضية‪ ،‬أي‪( :‬ولكن األكثر من الناس من أصناف الكفار ال يؤمنون به‪ ،‬فهم األكثرون عددا‪،‬‬
‫(‪((6‬‬
‫واألقلون قدرا وخطرا )‬
‫أكثر الناس ال يؤمنون باهلل إال وهم مشركون‬
‫وتعدد حديث القرآن عن وصف طبيعة أكثر الناس‪ ،‬وأهنم كافرون أو مشركون أو ال‬
‫يؤمن أكثرهم إال وهم مشركون ابهلل ﷻ‪ ،‬وتنوع حديث القرآن يف التعبري عن هذه الكثرة كما‬
‫َ ْ‬
‫﴿و َما يُؤم ُِن‬ ‫َتنوع احلديث عنها يف الزمان فشملت السور املكية واملدنية على السواء‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬
‫َ ْ َ َ َّ ْ َ َّ َ َ َ ْ َ بْ َلاَ ُ‬ ‫ْ رَ ُ ُ ْ هَّ اَّ َ ُ ْ ُ رْ ُ َ‬
‫شكون ﴾سورة يوسف‪.)106(:‬وقال ﷻ‪﴿:‬فإِن تولوا فإِنما عليك ال غ‬ ‫أكثهم بِاللِ إِل وهم م ِ‬
‫َ‬ ‫ْ اَ‬ ‫َ‬ ‫ْ رَ ُ ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ َ هَّ ُ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ال ُمبِني ‪ 82‬يعرِفون ن ِع َمة اللِ ث َّم ينك ُِرونها َوأكثه ُم الكف ُِرون ‪ ﴾83‬سورة النحل‪.83 ،82:‬‬

‫(‪ ((6‬جامع البيان‪.)482 /61( :‬‬


‫(‪ ((6‬لطائف اإلشارات‪.)112 /2( :‬‬
‫(‪ ((6‬النكت والعيون‪.)19 /3( :‬‬
‫(‪ ((6‬لطائف اإلشارات‪.)512 /2( :‬‬
‫‪83‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫ﷻ‪ ﴿:‬قُ ْل س ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫رَ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫اَ‬


‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫آَ‬
‫ِريوا‬ ‫ك ُث ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ َِني﴾سورة الشعراء‪.)8( :‬وقال‬ ‫وقال ﷻ‪﴿:‬إِن يِف ذل ِك ل َيَة َو َما كن أ‬
‫َ‬
‫َ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ ْ ُ رْ‬ ‫رَ‬
‫َ اَ َ ُ‬ ‫اَ‬
‫َْ‬ ‫ْ َ ُْ ُ‬ ‫ذَّ‬ ‫اَ‬ ‫َ‬ ‫أْ‬
‫شك َِني﴾ سورة الروم‪ .42:‬ويف هذه‬
‫يِف الر ِض فانظروا كيف كن عق ِبة الِين مِن قبل كن أكثهم م ِ‬
‫اآلية الكرمية أمر من هللا ﷻ لرسوله ﷺ واملؤمنني أن يسريوا يف األرض حىت يروا واقع هذه‬
‫السنة اليت ال تتخلف وهي أن أكثر الناس قبلهم كانوا مشركني‪.‬‬
‫أكثر الناس للحق كارهون‬
‫ََ َ َ َ ُ َ‬
‫ك ْن‬‫﴿وما ظل َ ْمناه ْم َول ِ‬ ‫الناس للحق كارهون‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬ ‫اَ وأكد القرآن الكرمي‪ ،‬أن أكثر‬
‫َ ْ َْ ُ‬
‫اكمْ‬ ‫َ َ ْ َ َ ُّ َ َ َ َّ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫ََ َْ َ َ ُ َْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ُ‬
‫جئن‬ ‫ض علينا ربك قال إِنكم ماكِثون ‪ 77‬لقد ِ‬ ‫كنوا ه ُم الظال ِ ِمني ‪ 76‬ونادوا يا مال ِك يِلق ِ‬
‫حْ َ ّ َ َ َّ َ ْ رَ َ ُ ْ ْ َ ّ اَ ُ َ‬
‫ون ‪ ﴾78‬سورة الزخرف‪( 78-76:‬ولكن أكثرهم ملا جاء به حممد‬ ‫كن أكثكم ل ِلح ِق كرِه‬ ‫بِال ِق ول ِ‬
‫(‪((7‬‬
‫ﷺ من احلق كارهون‪).‬‬
‫كما نفى القرآن الكرمي كون رفضهم للحق مبنيا علىَ أن ابلرسول جنة؛ بل ألهنم هم‬
‫اء ُه ْم ب حْ َ‬
‫ال ّ ِق‬
‫ْ َُ ُ َ‬
‫ون بهِ ج َّن ٌة بَ ْل َج َ‬
‫الذين كرهوا احلق وأعرضوا عنه‪ ،‬وتنكبوا صراطه املستقيم‪﴿،‬أم يقول ِ ِ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ رَ ُ ُ ْ ْ َ ّ اَ ُ َ‬
‫َوأكثهم ل ِلح ِق كرِهون﴾ سورة املؤمنون‪.)70( :‬‬

‫وبني القرآن الكرمي علة رفضهم احلق‪ ،‬وكرههم له؛ أبنه‪( :‬خيالف شهواهتم وأهوائهم‬
‫فلذلك أنكروه‪ ،‬وإمنا قيد احلكم ابألكثر ألنه كان منهم من ترك ا ِإلميان استنكافاً من توبيخ‬
‫قومه‪ ،‬أو لقلة فطنته وعدم فكرته ال كراهة للحق‪ ،((7().‬واحلق ال يتبع األهواء بل يفرض نفسه‬
‫ويتبعه الناس ألنه احلق‪ ،‬وإال لو اتبع هوى كل هاو ملا قرت احلياة‪ ،‬ولو كان هذا احلق ميشي‬
‫على رغبات الناس وجاء (موافقاً ألهوائهم الباطلة لفسد نظام العامل‪ ،‬وختصيص العقالء ابلذكر‬
‫(‪((7‬‬ ‫حيث عبرَّ مبن َّ‬
‫ألن غريهم تبع‪).‬‬
‫كثري من الناس بلقاء ربهم كافرون‬
‫وتتم اآلايت اطراد سنة هللا ﷻ يف األكثرية‪ ،‬فهم ال َيؤمنون ‪ ،‬وهم للحق كارهون‪،‬‬
‫خلَ َق هَّ ُ‬
‫ْ َ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫ات‬ ‫الل َّ‬
‫الس َم َ‬
‫او ِ‬ ‫وه��م بلقاء رهب��م ك��اف��رون‪ ،‬فيقول ﷻ‪ََ ﴿:‬ول ْم َي َتفك ُروا يِف أنفسِ ِهم ما‬
‫ال ّق َوأَ َ‬ ‫َ‬
‫ون ‪،﴾8‬‬ ‫َ َ ّ ْ َ اَ ُ َ‬
‫اس بِل ِقاءِ رب ِ ِهم لكف ِر‬ ‫ِإَون َكث ِ ً‬
‫ريا م َِن انلَّ ِ‬
‫َّ‬
‫ج ٍل ُم َس ىًّم‬ ‫َو أْال ْر َض َو َما بَيْ َن ُه َما إ ِ اَّل ب حْ َ‬
‫ِ ِ‬
‫أي‪(:‬وإن كثريا من الناس بلقاء رهبم جاحدون منكرون؛ جهال منهم أبن معادهم إىل هللا‬

‫(‪ ((7‬جامع البيان‪.)646 /12(:‬‬


‫(‪ ((7‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪.)29 /4( :‬‬
‫(‪ ((7‬البحر املديد يف تفسري القرآن اجمليد‪.)885 /3( :‬‬

‫‪84‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫بعد فنائهم‪ ،‬وغفلة منهم عن اآلخ��رة‪( ((7().‬أَي‪ :‬جاحدون‪ ،‬ولقاء َرهبم ُه َو الْ�بَْعث �يَْوم‬
‫الْ ِقيَ َامة‪ ((7().‬ذلك أهنم مل ينظروا يف اآلايت والعرب‪ ،‬نظر املتبصر‪ ،‬راغب اإلميان‪ ،‬بل حجبتهم‬
‫حق النظر‪ ،‬ووضع النظر موضعه أمثر له‬ ‫أهواؤهم ومنعتهم شهواهتم وشبهاهتم‪( ،‬إ ّن من نظر ّ‬
‫العلم واجبا‪ ،‬فإذا استبصر بنور اليقني أحكام الغائبات‪ ،‬وعلم موعوده الصادق يف املستأنف‪-‬‬
‫جن��ا ع��ن ك�� ّد ال�ت�ردد والتجويز‪ .‬فسبيل م��ن صحا عقله أال جينح إىل التقصري فيما ب��ه كمال‬
‫(‪((7‬‬
‫سكونه‪).‬‬
‫أكثرهم غريُ مقتصرين على ما‬ ‫ِ‬
‫مقرر ملَا قبلَهُ ببيان أن َ‬
‫(تذييل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫وختام اآلية بتلك اجلملة‬
‫َّفك ِر فيما يُرشدهم إىل معرفتِها من ِ‬
‫خلق‬ ‫اض عن الت ُّ‬ ‫ذُكر من ِ‬
‫الغفلة عن أحو ِال اآلخرِة واإلعر ِ‬
‫بلقاء حسابِه ﷻ‬ ‫وعات بل هم منكرون جاحدون ِ‬ ‫األرض وما بينهما من املصنُ ِ‬ ‫ات و ِ‬ ‫السمو ِ‬
‫ُ‬
‫وجزائِه ابلبعث)‬
‫ِ (‪((7‬‬

‫كثري من الناس يضلون بأهوائهم بغري علم‬


‫ينعى هللا ﷻ على من يتنكب طريقه‪ ،‬وينكص على عقبيه‪ ،‬بعد أن تبني له احلق‪ ،‬ويتبع‬
‫يضلون أبهوائهم بغري علم؛ اتباعاً‬ ‫أهواء الذين يضلون بغري علم‪ ،‬ويؤكد أن كثريا من الناس‬
‫َ َ َ ُ ْ َ اَّ َ ْ ُ ُ َّ ُ َ ْ ُ هَّ َ َْ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫احلق‪ ،‬قال ﷻ‪ :‬يَ‬
‫﴿وما لك َم أل ت يَأك ُّلوا م َِما ذكِر اسم اللِ ْعليهِ‬
‫َّ‬ ‫اَّ‬ ‫ائهم‪َ ،‬ونكوصاً عن ط َريق‬
‫َ ْ‬
‫اض ُطر ْر ُت ْم إلْهِ ِإَون كث ِ ً‬ ‫ُ‬
‫ألهو‬
‫َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫ضلون بِأه َوائ ِ ِه ْم بِغيرْ ِ عِل ٍم إِن‬
‫ريا لُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َوق ْد ف َّصل لك ْم َما َح َّر َم َعليْك ْم إِل ما‬
‫ِين﴾سورة األنعام‪ .)119( :‬واملعىن أن هؤالء الذين يفتون ألتباعهم وحيرمون‬ ‫ك ُه َو أَ ْعلَ ُم بال ْ ُم ْع َتد َ‬
‫َ َّ َ‬
‫رب‬
‫ِ‬
‫عليهم وحيلون هلم ال برهان لديهم على ما يقولون‪ ،‬فهم (يُضلون أتباعهم أبهوائهم من غري علم‬
‫اتباعا‬
‫منهم بصحة ما يقولون‪ ،‬وال برهان عندهم مبا فيه جيادلون‪ ،‬إال ركوباً منهم ألهوائهم‪ ،‬و ً‬
‫منهم لدواعي نفوسهم‪ ،‬اعتداءً وخالفًا ألمر هللا وهنيه‪ ،‬وطاعة للشياطني)(‪( ،((7‬ويضلون الناس‬
‫مبا يشرعونه هلم من عند أنفسهم‪ ،‬ويعتدون على ألوهية هللا وحاكميته مبزاولتهم خلصائص‬
‫عبيد)(‪ ،((7‬وهذه السنة َ هي ما عرب عنها القرآن الكرمي يف موطن آخر بقوله‬ ‫َ‬
‫األلوهية وهم‬
‫َّ‬ ‫اَّ‬ ‫َ‬ ‫ْ َّ‬ ‫هَّ‬ ‫ُّ‬ ‫أْ‬
‫ث َم ْن ف ال ْر ِض يُ ِ َ َ ْ َ‬‫رَ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫يل اللِ إ ِ ن يَتب ِ ُعون إ ِ ل الظ َّن‬
‫ضلوك عن سب ِ ِ‬ ‫يِ‬
‫ك َ‬ ‫ﷻ‪ِ﴿:‬إَون ت ِط ْع أ‬
‫َ‬ ‫خَ ْ ُ‬ ‫اَّ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ْ‬
‫ِإَون هم إ ِ ل ي ُرصون ﴾ سورة األنعام‪.)116 ( :‬‬
‫(‪ ((7‬جامع البيان‪.)77 /02(:‬‬
‫(‪ ((7‬تفسري السمعاين‪.)891 /4( :‬‬
‫(‪ ((7‬لطائف اإلشارات‪.)901 /3(:‬‬
‫(‪ ((7‬إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي‪.)25 /7( :‬‬
‫(‪ ((7‬جامع البيان‪.)17 /21( :‬‬
‫(‪ ((7‬يف ظالل القرآن‪.)7911 /3( :‬‬
‫‪85‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫كثري من اخللطاء يبغي بعضهم على بعض‬


‫حكم القرآن الكرمي أبن كثريا من اخللطاء يبغي بعضهم على بعض‪ ،‬ومل يستثن من هذا‬
‫أبنه قليل‪ ،‬فقال لَىَﷻ‪﴿:‬‬
‫االستثناء يَ‬ ‫ووصف هذا‬
‫الصاحلات‪َ َّ ،‬‬
‫احلكم َ إال َالذين آمنوا وعملوا ىَ‬
‫ُ‬ ‫خْ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ َ َ َ ُ َ َْ َ َ‬
‫َب ْعض ُه ْم ع َب ْع ٍض‬ ‫الل َ َطا ِء لَبْ يِغ‬ ‫ريا م َِن ُ‬
‫ك إ ل ن َِعا جهِ ِإَون كث ِ ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ق اَّال ذَّلقد ظلمك بِسؤ ُا ِل نعجت ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫ود أ َّن َما َف َت َّناهُ‬
‫َ َ ٌ َ ُ ْ َ َ َّ َ ُ ُ‬ ‫ِين آ ََم ُنوا َو َعملوا َّ‬
‫اس َتغف َر َر َّب ُه َوخ َّر‬ ‫ف‬ ‫ات وقل ِيل ما هم وظن داو‬ ‫َ‬
‫ال ِ‬ ‫الص حِ‬ ‫ِ‬ ‫إ ل ال َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َرا ك ًِعا َوأن َ‬
‫على بعض (إِال‬ ‫اب﴾سورة ص‪.)24( :‬واملعىن‪(:‬وإن كثريا من الشركاء ليتعدَّى بعضهم‬
‫ات) يقول‪ :‬وعملوا بطاعة هللا‪ ،‬وانتهوا إىل أمره وهنيه‪ ،‬ومل‬ ‫الصالحِ ِ‬ ‫الَّ ِذين آمنُوا) ابهلل ِ‬
‫(و َعملُوا َّ َ‬‫َ‬ ‫َ َ‬
‫يتجاوزوه) ‪ .‬واختيار القرآن الكرمي للخلطاء مع أن البغي والظلم جبلة ال يتخلى عنها إال‬ ‫(‪((7‬‬

‫من وفقه هللا ﷻ‪ ،‬كما قال أبو الطيب‪:‬‬


‫(‪((8‬‬
‫والظلم يف ِخلَ ِق النفوس فإن جتد ذا عــــفة فلـــــعلّة ال يَــــــظلـــم‬
‫ألن املخالطة مظنة كثرة املنازعة‪ ،‬وهم إذا اختلطوا (اطلع كل واحد منهما على أحوال اآلخر‬
‫ضي ذلك إىل زايدة‬ ‫فكل ما ميلكه من األشياء النفسية إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه ف�ي ْف ِ‬
‫ُ‬
‫املخاصمة واملنازعة فلهذا خص داود  اخللطاء بزايدة البغي والعُ ْد َوان مث استثىن عن هذا‬
‫(‪((8‬‬
‫احلكم الذين آمنوا وعملوا الصاحلات ألن خمالطة هؤالء ال تكون ألجل الدين‪).‬‬
‫•مفردات تتعلق بكثري من الناس‬
‫احلياة الدنيا وتكاثر الناس يف األموال واألوالد‬
‫الدنيا قنطرة اآلخرة‪ ،‬ومعرب اآلجلة‪ ،‬وهي دار ابتالء واختبار‪ ،‬وهي سوق ملا بعدها يربح‬
‫فيه من يربح‪ ،‬وخيسر فيه من خيسر‪ ،‬وكثري من الناس تغيب عنه مهمتها فيتكاثر فيها يف األموال‬
‫َْ‬
‫﴿اعل ُموا‬
‫َ‬
‫بعده‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬
‫أْ َ اَ‬ ‫املؤمنني منها‪ ،‬وأمرهم أن جيعلوها معربا ملا أْ َ‬
‫َ‬
‫األوالد‪ ،‬فحذر هللا َ ﷻ‬
‫حْ‬ ‫َو‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ َ ٌْ َ ٌَ ََ ُ‬ ‫َ َ ُ ُّ ْ‬ ‫َّ‬
‫ينة َو تفاخ ٌر بَيْ َنك ْم َو تكاث ٌر يِف ال ْم َوا ِل َو آْال ْو لدِ ك َمث ِل‬ ‫ِ‬ ‫ادل ن ْ َيا لعِب و لهو و ز‬ ‫الياة‬‫َ‬ ‫أ ن َما‬
‫اما َو ف الَخ َِرة ِ َع َذ ٌ‬ ‫ون ُح َط ً‬‫ُ َّ َ َ َ ُ ُ ُ َّ َ ُ َ ترَ َ ُ ُ ْ َ ًّ ُ َّ َ ُ ُ‬ ‫َغيْث أ ْع َ‬
‫ج َ‬
‫اب‬ ‫يِ‬ ‫ب الكفار نباته ثم ي ِهيج ف اه مصفرا ثم يك‬ ‫ٍ‬
‫َ ٌ َ َ ْ َ ٌ َ هَّ َ ْ َ ٌ َ َ حْ َ َ ُ ُّ ْ َ اَّ َ َ ُ ْ ُُ‬
‫ش ِد يد ومغفِرة مِن اللِ و رِضوان وما الياة ادل نيا إ ِل متاع الغر ورِ ﴾ سورة الواقعة‪.20:‬‬
‫ومن بيان القرآن الكرمي لسنته يف الكثرة حديثه عن تكاثر الناس يف الدنيا وهلوهم هبذا‬
‫التكاثر حىت وقفوا على جلية األمر وحقيقة احلق عندما رجعوا إىل عقوهلم وزاروا املقابر‪،‬‬
‫(‪ ((7‬جامع البيان‪.)081 /12(:‬‬
‫(‪ ((8‬انظر ديوانه‪،691:‬ط‪ :‬دار الزهراء‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬عناية د عبد الوهاب عزام رمحه هللا‪.‬‬
‫(‪ ((8‬اللباب يف علوم الكتاب‪.)604 /61( :‬‬

‫‪86‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫اتل اَكثُر َحتىَّ‬ ‫َ َْ ُ‬


‫اك ُم َّ‬‫﴿ أله‬
‫وذلك بعد أن فارقوا الدنيا وانكشفت هلم حقائق األشياء‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬
‫ْ‬
‫ُز ْر ُت ُم ال َم َقابِر ﴾ التكاثر‪ .2 ،1:‬واملعىن‪( :‬شغلكم تفاخركم فيما بينكم إىل آخر أعماركم إىل أن‬
‫متّم‪ .‬ويقال‪ :‬كانوا يفتخرون آبابئهم وأسالفهم فكانوا يشيدون بذكر األحياء‪ ،‬ومبن مضى من‬
‫أسالفهم‪ .‬فقال هلم‪ :‬شغلكم تفاخركم فيما بينكم حىت عددمت أمواتكم مع أحيائكم‪ .‬وأنساكم‬
‫(‪((8‬‬
‫تكاثركم ابألموال واألوالد طاعة هللا‪).‬‬
‫كثري من جنوى الناس ال خري فيه‬
‫احلكم من أمر‬ ‫حكم القرآن على كثري من جنوى الناس أبنه ال خري فيه‪ ،‬واستثىن من هذا‬
‫ْ جَ ْ َ ُ ْ اَّ َ ْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ري مِن نو اهم إ ِ ل من أ مر بِصد ق ٍة‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ث‬‫ك‬ ‫أو إصالح بني الناس‪﴿،‬ال خَيرْ َ يِف‬
‫معروف لاَ‬
‫َبصدقة أو َ‬
‫ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫اس َو َم ْن َيف َعل ذ ل َِك ابْت ِ َغ َ‬ ‫ص ٍح َب نْ َ‬ ‫أ ْو َم ْع ُر وف أ ْو إ ْ‬
‫اء َم ْرضا ة ِ اللِ ف َس ْوف نؤ تِيهِ‬ ‫ي انلَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أَ ْ‬
‫ج ًر ا َع ِظ ً‬
‫َ‬‫َّجوى‪ِ :‬هي‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬‫ن‬ ‫ال‬
‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫َّاس‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫اه ٌد‪ (:‬الآْ يةُ ع َّامةٌ فيِ ح ِق جمَِ‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫ال مجُ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫(‪.)114‬‬ ‫النساء‪:‬‬ ‫سورة‬ ‫ا﴾‬ ‫يم‬
‫َّج َوى َما �يَ�نَْف ِرُد بِتَ ْدبِ ِريِه �قَْوٌم ِسًّرا َكا َن أ َْو َج ْهًرا‪ ((8().‬فاحلكم هنا‬ ‫ِِ ِ‬ ‫فيِ‬ ‫ِ‬
‫يل‪ :‬الن ْ‬
‫الإْ ْسَر ُار التَّ ْدبري‪َ ،‬وق َ‬
‫عام يف مجيع الناس ميثل سنة هللا ﷻ يف الكثرة‪ .‬ويشمل الزمان ويعم املكان واألفراد‪.‬‬
‫كثرة اخلبيث ال تغين شيئا ولو أعجبتك كثرته‬
‫ومن ضوابط سنة هللا يف الكثرة أن اخلبيث والطيب ال يستواين ولو بدا للرائي ما يعجبه‬
‫الكثري‪ ،‬فليس كل كثري جيدا‪ ،‬مهما ابن رواؤه َوظهر‬ ‫َ‬
‫من كثرة اخلبيث‪ ،‬وهذه سنة هللا ﷻ يف‬
‫أْ َبْ‬ ‫هَّ َ َ ُ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫خْ‬
‫ثةُ َ‬ ‫رْ‬
‫كك َ‬ ‫َ‬ ‫خْ َ ُ َ َّ ّ ُ َ ْ ْ َ َ َ‬
‫َ‬ ‫هباؤه‪ ﴿ ،‬قُ ْل اَل ي َ ْس َ‬
‫اب‬‫ول الل ِ‬ ‫يِ‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫الل‬ ‫وا‬ ‫ق‬ ‫ات‬ ‫ف‬ ‫يث‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫ج‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫الط‬‫و‬ ‫يث‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫ال‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫و‬‫ت‬
‫ص َفةِ‬
‫َن الْعِ�برَة بِ ِ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫باِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ َ‬
‫أ‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫ام‬
‫َّ‬ ‫ع‬‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫اع‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫ي‬ ‫لآْ‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ذ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫اء‬ ‫ج‬ ‫(و‬ ‫﴾‬ ‫ون‬ ‫لعلكم تفل ِح‬
‫َْ‬ ‫َ َ‬
‫(‪َ ((8‬‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬ ‫(‪.)100‬‬ ‫املائدة‪:‬‬ ‫سورة‬
‫ات‪).‬‬ ‫الص َف ِ‬
‫ِ‬
‫َّسا ِوي فيِ ّ‬ ‫ِ باِ ِ‬ ‫الش ِ ِ ِ ِ ِنمَّ‬
‫َّيء لاَ ب َع َدده‪َ ،‬وإ َا تَ ُكو ُن الْعَّزةُ لْ َك�ثَْرة �بَْع َد الت َ‬ ‫ْ‬
‫الكثرة املعجبة ال تغنى عن املرء شيئا‬
‫مضت سنة هللا ﷻ يف عباده أبن الكثرة املعجبة ال تغين عن أصحاهبا شيئاً‪ ،‬فهي يف‬
‫ََ‬
‫احلرب ليس هلا قيمة َما مل تشفع بثبات‪َ ،‬ويف السلم َليس هلا وزن ما مل تؤيد بعمل‪﴿ ،‬لق ْد‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫َْ ُ‬
‫ك ْم شيْ ًئا َو َضاق ْ‬ ‫ُ‬ ‫رْ‬ ‫ْ‬
‫ْ ََْ ُ ْ َُ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ ُ َ نْ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ رَ َ ُ هَّ ُ‬
‫ت‬ ‫ثتك ْم فل ْم تغ ِن عن‬ ‫ي إِذ أعجبتكم ك‬ ‫نصكم الل َ يِف مواطِن كثِري ٍة ويوم حن ٍ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ك ُم أْال ْر ُض ب َما َر ُح َب ْ‬
‫ت ُث َّم َو يَّلْ ُت ْم ُم ْدبر َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫علي‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫(إن الكثرة العددية ليست بشيء‪ ،‬إمنا هي القلة العارفة املتصلة الثابتة املتجردة للعقيدة‪.‬‬
‫(‪ ((8‬لطائف اإلشارات‪.)267 /3( :‬‬
‫(‪ ((8‬تفسري البغوي‪.)682 /2( :‬‬
‫(‪ ((8‬تفسري املنار‪.)401 /7( :‬‬
‫‪87‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫وإن الكثرة لتكون أحياانً سبباً يف اهلزمية‪ ،‬ألن بعض الداخلني فيها‪ ،‬التائهني يف غمارها‪ ،‬ممن‬
‫مل يدركوا حقيقة العقيدة ال�تي ينساقون يف تيارها‪ ،‬تتزلزل أقدامهم وترجتف يف ساعة الشدة‬
‫فيشيعون االضطراب واهلزمية يف الصفوف‪ ،‬فوق ما ختدع الكثرة أصحاهبا فتجعلهم يتهاونون‬
‫يف توثيق صلتهم ابهلل‪ ،‬انشغاالً هب��ذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر يف احلياة‪ .‬لقد‬
‫قامت كل عقيدة ابلصفوة املختارة‪ ،‬ال ابلزبد الذي يذهب جفاء‪ ،‬وال ابهلشيم الذي تذروه‬
‫ْ َْ َْ ُ ََ ْ َ َ ُ‬
‫اء ك ُم‬‫الرايح!)‪ ((8(.‬وهذا ما وضحته اآلية األخرى يف قوله ﷻ‪ ﴿ :‬إ ِ ن تستفتِحوا فقد ج‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َْ ُ‬ ‫َ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬‫ُ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬
‫خَيرْ ٌ لك ْم ِإَون ت ُعود وا ن ُع ْد َو ل ْن تغنيِ َ عنك ْم ف َِئ ُتك ْم‬ ‫سورة الفتح ِإَون تن َت ُهوا ف ُه َو‬
‫ال ُم ْؤ ِمن َِني ﴾ سورة األنفال‪.)19( :‬فإن (من غلبته قدرة األحد مل‬
‫ْ‬
‫الل َم َع‬‫ت َو أَ َّن هَّ َ‬
‫َ ْ ً َ َ ْ َ رُ َ ْ‬
‫شيئا و لو كث‬
‫(‪((8‬‬
‫تغن عنه كثرة العدد‪).‬‬
‫وصف أكثر أهل الكتاب‬
‫وتنتقل سنة الكثرة من وصف عموم الناس‪ ،‬إىل وصف بين إسرائيل‪ ،‬وهم شرحية من‬
‫الناس هلم من الصفات ما يستدعي الوقوف أمامهم‪ ،‬وحتليل تلك األوصاف اليت مل يكتف‬
‫القرآن الكرمي أبن يشاركوا عموم الناس فيما وصفوا به بل خصهم بصفات اطردت فيهم اطرادا‬
‫سننياً‪ ،‬فقد وصفهم أبن أكثرهم فاسقون‪ ،‬وأن كثريا منهم ساء ما يعملون‪ ،‬وأن كثريا منهم عموا‬
‫وصموا‪ ،‬وكثريا منهم يودون أن يردوا املؤمنني من بعدهم كفارا حسداً من عند أنفسهم‪ ،‬وأن‬
‫كثريا منهم يصدون عن سبيل هللا‪ ،‬وأن أكثرهم ال يعقلون‪ ،‬وأن كثريا منهم يتولون الذين كفروا‪،‬‬
‫وأن كثريا من األحبار والرهبان أيكلون أموال الناس ابلباطل ويصدون عن سبيل هللا‪ ،‬وجاء‬
‫الواقع على مدار الزمن يؤكد تلك األوصاف؛ فسبحان من وصفهم هبا من حكيم خبري‪ ،‬ومن‬
‫تتبع آايت الكثرة الدالة على تلك الصفات أن نصنف وصف أهل الكتاب حسب الكثرة‬
‫على النحو اآليت‪:‬‬

‫(‪ ((8‬يف ظالل القرآن‪.)8161 /3( :‬‬


‫(‪ ((8‬لطائف اإلشارات‪.)316 /1( :‬‬

‫‪88‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫أكثر بين إسرائيل ال عهد هلم وأكثرهم فاسقون‬


‫الكتاب ال عهد هلم‪ ،‬وأن أكثرهم فاسقون‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬ ‫َ‬
‫القرآن الكرمي أن أكثر أهل‬ ‫َ‬
‫حكم‬
‫َ‬ ‫رَ‬ ‫ْ َ َ َْ ْ‬ ‫رَ‬
‫ك َث ُه ْم ل َفا ِسقِ َني﴾ األعراف‪ .)102( :‬قال أبو جعفر‪( :‬ومل‬ ‫َ‬
‫ثه ِْم م ِْن ع ْه ٍد ِإَون وجدنا أ‬
‫ْ‬ ‫ََ َ َ َْ‬
‫﴿وما وجدنا أِلك ِ‬
‫جند ألكثر أهل هذه القرى اليت أهلكناها واقتصصنا عليك‪ ،‬اي حممد‪ ،‬نبأها من عهد‪ ،‬أي‪ :‬من‬
‫وفاء مبا وصيناهم به‪ ،‬من توحيد هللا‪ ،‬واتباع رسله‪ ،‬والعمل بطاعته‪ ،‬واجتناب معاصيه‪ ،‬وهجر‬
‫(‪((8‬‬
‫عبادة األواثن واألصنام‪).‬‬
‫وتنوع حديث القرآن عن أتكيد هذه السنة يف الكثرة عن أهل الكتاب يف بيان فسق‬
‫أكثر أهل الكتاب‪ ،‬وبعدهم عن سواء السبيل‪.‬‬
‫كثري من أهل الكتاب ساء ما يعملون‬
‫ُ‬ ‫َ َ ْ َ َّ ُ ْ َ َ‬
‫الكتاب َ ساء ما يعملون‪ ،‬قال ﷻ‪ :‬حَ﴿و ل َو أ نهم أ قاموا‬ ‫ذكر القرآن الكرمي أنكثريا من أهل‬
‫ت أ ْر ُجلِه ْم مِنْ ُهمْ‬ ‫ْ َْ ْ َ ْ ْ‬ ‫َّ ْ َ َ َ إْ جْ َ َ َ ُ ْ َ يَ ْ ْ ْ َ ّ ْ أَ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫نيل وما أ ن ِز ل إ ِل ِهم مِن ر ب ِ ِهم لكلوا مِن فوق ِ ِهم ومِن ت ِ‬
‫ال ِ‬
‫اتلو ر اة و ِ‬
‫ُ َّ ٌ ُ ْ َ َ ٌ َ َ ٌ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ‬
‫أ مة مقت ِصد ة و كثِري مِنهم ساء ما يعملون ﴾ سورة املائدة‪ .)66( :‬أي‪(:‬كثري منهم سيئ عملهم‪،‬‬
‫املسيح ابن هللا‪ ،‬وتك ِّذب‬
‫َ‬ ‫وذلك أهنم يكفرون ابهلل‪ ،‬فتكذب النصارى مبحمد ﷺ‪ ،‬وتزعُم أن‬
‫ذاما هلم‪« :‬ساء ما يعملون»‪ ،‬يف ذلك من‬ ‫اليهود بعيسى ومبحمد ‪ .‬فقال هللا ﷻ فيهم ًّ‬
‫(‪((8‬‬
‫فعلهم‪).‬‬
‫كثري من أهل الكتاب عموا وصموا‬
‫ووصف القرآن الكرمي كثريا من أهل الكتاب أبهنم عموا وصموا‪ ،‬ومن ذلك قوله ﷻ‪:‬‬
‫الل َعلَيْه ْم ُث َّم َع ُموا َو َص ُّموا َكث ِ ٌ‬
‫ري مِنْ ُه ْم َو هَّ ُ‬
‫الل بَ ِص ٌ‬ ‫اب هَّ ُ‬ ‫َ ُ َ اَّ َ ُ َ‬
‫ون ف ِتْ َن ٌة َف َع ُموا َو َص ُّموا ُث َّم تَ َ‬
‫ري‬ ‫ِ‬ ‫﴿وَحسِبوا أل تك‬
‫َ َ َُْ َ‬
‫ون﴾سورة املائدة‪(.)71( :‬فعموا عن احلق والوفاء ابمليثاق الذي أخذته عليهم‪ ،‬من إخالص‬ ‫بِما يعمل‬
‫(‪((8‬‬
‫عباديت‪ ،‬واالنتهاء إىل أمري وهنيي‪ ،‬والعمل بطاعيت )‬

‫(‪ ((8‬جامع البيان‪.)01 /21( :‬‬


‫(‪ ((8‬جامع البيان‪.)564 /01(:‬‬
‫(‪ ((8‬جامع البيان‪.)874 /01( :‬‬
‫‪89‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫كثري من أهل الكتاب يودون أن يردوا املؤمنني من بعد إميانهم كفارا‬


‫وصف القرآن الكرمي الكثرة من أهل الكتاب أبهنم يودون لو يردون املؤمنني إىل الكفر‬
‫من بعد إمياهنم؛ حسدا من عند أنفسهم‪ ،‬وقد أيد الواقع الذي يعيشه الناس ْ قدميا وحديثا هذه‬
‫ْ ُ‬ ‫َ‬
‫األحكام القرآنية املعجزة اليت تظهر لكل ذي عينني أن هذا القرآن ﴿لا يَأتِيهِ ال َباطِل مِن َبيْ ِن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ ّ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫ََ ْ‬
‫ِيم ح ِميد﴾سورة فصلت‪.42:‬‬
‫نزيل مِن حك ٍ‬
‫يديهِ ولا مِن خل ِفهِ ت ِ‬
‫ومن اآلايت اليت رصدت تلك الصفة لدى أهل الكتاب‪ ،‬وأكدت أن الكثرة منهم هبذا‬
‫امليل القليب واحليف اجلائر ما ورد يف قوله ﷻ‪ ﴿ :‬وَّد َكثِري ِمن أ َْه ِل الْ ِكتَ ِ‬
‫اب لَ ْو �يَُرُّدونَ ُك ْم ِم ْن �بَْع ِد إِميَانِ ُك ْم‬ ‫َ ٌ ْ‬
‫اللَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء‬
‫اللُ بأِ َْم ِرِه إِ َّن هَّ‬
‫اص َف ُحوا َحتىَّ يأَْتيِ َ هَّ‬
‫اع ُفوا َو ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّارا َح َس ًدا ِم ْن ِعْند أَ�نُْف ِس ِه ْم ِم ْن �بَْعد َما �تَ�بَينَّ َ لهَُُم الحَْ ُّق فَ ْ‬
‫ُكف ً‬
‫قَ ِد ٌير ﴾ سورة البقرة‪( .)109(:‬ولكن كثريا منهم ودوا أهنم يردونكم من بعد إميانكم كفارا‪ ،‬حسدا من‬
‫عند أنفسهم لكم ولنبيكم حممد ﷺ‪ ،‬من بعد ما تبني هلم احلق يف أمر حممد‪ ،‬وأنه نيب إليهم‬
‫وإىل خلقي كافة‪ ،((9().‬وهذه الكثرة هي مناط السننية يف حديث القرآن الكرمي‪.‬‬
‫كثري من أهل الكتاب ضالون ومضلون عن سبيل اهلل‬
‫القرآن الكرمي أكثر أهل الكتاب أبهنم ضلوا وأضلوا َعن سبيل هللا وسواء‬ ‫َ‬
‫وصف‬
‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫حْ‬
‫ال ّق َول تَ َّتب ُعوا أ ْه َو َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِك ْم غيرْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫اَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫ْ‬
‫اء ق ْو ٍم ق ْد ضلوا م ِْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب ل تغلوا يِف دِين‬ ‫َ‬
‫ل يا أهل ُّالكِت ِ‬
‫﴿ق َ‬‫السبيل‪ُّ ،‬‬
‫َ ُ َ‬
‫يل﴾املائدة‪.)77( :‬‬
‫َّ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ً َ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫قبل وأضلوا كثِريا وضلوا عن سواءِ السب ِ ِ‬
‫أكثر أهل الكتاب ال يؤمنون‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ لُ َّ‬
‫يؤمنون‪،‬فقال‪﴿:‬أ َو ك َما اَعه ُدوا ع ْه ًدا‬
‫وصف القرآن َ الكرمي أهل الكتاب أبن أكثرهم ال‬
‫ْ رَ ُ ُ ْ اَ ُ ْ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َُ َ ٌ ْ‬
‫ون﴾ البقرة‪.)100( :‬أي‪(:‬بل أكثر هؤالء ‪ -‬الذين كلما‬ ‫يق مِن ُه ْم بَل أكثهم ل يؤمِن‬‫نبذه فرِ‬
‫(‪((9‬‬
‫عاهدوا هللا عهدا وواثقوه موثقا‪ ،‬نقضه فريق منهم ‪ -‬ال يؤمنون‪).‬‬
‫كثري من أهل الكتاب يتولون الذين كفروا‬
‫َْ‬ ‫بَ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ ُ‬ ‫َ َ َ ً ْ ُ ْ َ َ َ َّ ْ َ ذَّ َ َ َ‬
‫خ َط‬
‫ِين كف ُروا لِئ َس ما قدمت ل ُه ْم أنف ُس ُه ْم أن َس ِ‬‫يقولﷻ‪﴿:‬ترى كثِريا مِنهم يتولون ال‬
‫ُ ْ َ ُ َ‬ ‫هَّ ُ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ‬
‫ون﴾سورة املائدة‪( .)80( :‬تَرى َكثِرياً ِم�نْ ُه ْم‪ ،‬قال مقاتل‪ :‬يعين‪ :‬اليهود‬ ‫اب هم خالدِ‬
‫الل علي ِهم و يِف العذ ِ‬
‫ين‬ ‫َّ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َّ ِ‬
‫ين َك َفُروا من مشركي العرب‪ .‬وقال الكليب‪ :‬تَرى َكثرياً من املنافقني �يَ�تََول ْو َن الذ َ‬ ‫�يَ�تََول ْو َن الذ َ‬
‫اللُ َعلَْي ِه ْم‪ ،‬معناه‪ :‬لبئس الفعل‬ ‫ت لهَُْم أَ�نُْف ُس ُه ْم أَ ْن َس ِخ َط هَّ‬
‫َّم ْ‬
‫س َما قَد َ‬ ‫ِ‬
‫َك َفُروا يعين‪ :‬اليهود‪ ،‬لَبْئ َ‬
‫(‪ ((9‬جامع البيان‪.)894 /2( :‬‬
‫(‪ ((9‬جامع البيان‪.)004 /2( :‬‬

‫‪90‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫الذي كانوا يستوجبون به السخط من هللا ﷻ‪ ،‬ويوجب هلم العقوبة والعذاب وفيِ الْع ِ‬
‫ذاب ُه ْم‬ ‫َ َ‬
‫(‪((9‬‬
‫خالِ ُدو َن يعين‪ :‬دائمون‪).‬‬
‫كثري من األحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اهلل‬
‫أكد القرآن الكرمي للمؤمنني أن كثريا من أهل الكتاب أيكلون أموال الناس ابلباطل‬
‫عن طريق الرشاوى والراب والسحت‪ ،‬ويزعمون ألتباعهم أهنم يفتوهنم من الوحي‪ ،‬وينفروهنم عن‬
‫الكتاب‪ ،‬قال ﷻ‪:‬‬‫بْ‬ ‫الصفة َيف أهل‬
‫الناس قدميا وحديثا يَ ْهذه ُ َ‬
‫أكد واقع أْ َ‬
‫الدخول يف ذَّ اإلسالم‪ ،‬و َّ َ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ َ َ ُّ ْ‬
‫ان لَأكلون أ ْم َوال انلَّ ِ‬
‫اس بِالَاط ِِل َو َي ُص ُّ َدون‬ ‫ِ‬ ‫اَ‬ ‫الره َب‬ ‫ِين آ ََم ُنوا إن كث ِ ً‬
‫ريا م َِن الحب ْارِ و‬ ‫ِ‬ ‫ذَّ‬
‫﴿يَا أ ُّي َها ال َ‬
‫هَّ َ َ ْ ُ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ َّ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ ُ َ َ‬ ‫هَّ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫اب أ يِل ٍم‬
‫يل اللِ فب ّرِشهم بِعذ ٍ‬ ‫يل اللِ والِين يك زِنون اذلهب والفِضة ول ينفِقونها يِف سب ِ ِ‬ ‫عن سب ِ ِ‬
‫﴾ سورة التوبة‪.)34(:‬‬

‫فهؤالء األحبار والرهبان جيعلون من أنفسهم وجيعلهم قومهم أرابابً تُتبع وتطاع وهم فيما‬
‫يشرعون أيكلون أموال الناس ابلباطل ويصدون عن سبيل هللا‪ .‬وأكل أموال الناس كان يتمثل‬
‫يف صور شىت وال يزالون‪.‬‬

‫(‪ ((9‬حبر العلوم‪.)114 /1( :‬‬


‫‪91‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫املبحث الرابع‬
‫سنن اهلل يف الكثرة‬
‫املتأمل آلايت الكثرة يف القرآن الكرمي جيد خيطا دقيقا رقيقا يربطها‪ ،‬وسياجا واضحا‬
‫حيكم صورهتا‪ ،‬مبا يؤكد السننية فيها ‪،‬وأن اآلايت متضي بطريقة يكمل بعضها بعضا‪ ،‬ويؤكد‬
‫بعضها بعضا يف غري تنافر وال غرابة‪ ،‬بل الكل ميضي ليؤكد هدفا واحدا‪ ،‬ويسعى ليؤدي رسالة‬
‫واضحة‪ ،‬وميكن أن نتابع رسم تلك الصورة الرائقة الفائقة يف خطوتني‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬مالمح الرتابط السنين يف آايت الكثرة‬
‫الثانية‪ :‬األصول اجلامعة لسنن هللا يف الكثرة‬
‫وميكن أن نتناول ذلك على النحو اآليت‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬مالمح الرتابط السنين يف آيات الكثرة‪:‬‬
‫وإذا نظران إىل آايت الكثرة وتفحصنا سريها ودالالهتا‪ ،‬رأينا أهنا متضي يف خط واحد‪،‬‬
‫وهتدف إىل رسالة واضحة‪ ،‬يف كل اآلايت الكرمية‪ ،‬مبا يربز السننية الواضحة والقاعدية املطردة‪،‬‬
‫فهي مثالً أتيت يف مواطن لوم قوم نوح له على كثرة جداله هلم‪ ،‬وإحلاحه يف دعوهتم‪ ،‬وترد يف‬
‫موطن وصف قوم فرعون الذين طغوا يف البالد فأكثروا فيها الفساد‪ ،‬ويف موطن لوم هللا ﷻ‬
‫للضالني من اجلن الذين استكثروا من اإلنس ووصف أكثر الناس أبهنم يضلون عن سبيل هللا‪،‬‬
‫وأن أكثر اجلن واإلنس ذرأهم جلهنم‪ ،‬وبيان أن كثريا من الناس عن آايت هللا غافلون‪ ،‬وبيان‬
‫أن كثريا من اخللطاء يبغي بعضهم على بعض‪ ،‬وبيان أن أكثر الناس ال يشكرون‪ ،‬وأن أكثرهم‬
‫ال يعقلون‪ ،‬وأن أكثرهم ال يعلمون‪ ،‬وأن أكثرهم جيهلون‪ ،‬وأن أكثرهم فاسقون‪ ،‬وأن أكثرهم‬
‫ال يعقلون‪ ،‬وبيان أنه ال يستوي اخلبيث والطيب ولو أعجبت الرائي كثرة اخلبيث‪ .‬املتتبع هلذه‬
‫اآلايت الكرمية جيد اخليط الذي يربطها واحملور الذي تدور حوله‪ ،‬هو وصف أكثر الناس‬
‫ووصف أكثر أهل الكتاب وهو من وصف البعض بعد الكل أو وصف اخلاص بعد العام‪،‬‬
‫ووصف ملفردات من األشياء متجانسة كما مر يف صلب البحث؛ مبا يشعر الناظر املتأمل أن‬
‫هذه السنة متكاملة املعامل واضحة املالمح بينة القسمات‪ ،‬جلية الصفات‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬
‫ومن بينات الداللة السننية يف تلك اآليات ما يأتي‪:‬‬
‫• تعبريات القرآن الكرمي عنها جبالء ووضوح أبلفاظ تؤكد سننيتها مثل التعبري عنها‬
‫ابألحكام العامة اليت تتسم ابلشمول والعموم‪ ،‬والقابلة للتطبيق يف أفراد كثرية مثل‪( :‬أكثر‬
‫الناس)‪( ،‬أكثرهم)‪(،‬كثري منهم)‪ ،‬وحنو ذلك من العبارات اليت تبني السننية واحلُ ْكمية يف‬
‫الداللة‪.‬‬
‫• األحكام املطلقة الواردة يف اآلايت‪( ،‬أكثرهم‪ ،‬كثري‪ ،‬أكثر الناس‪ ،‬كثري منهم‪،) ،‬‬
‫وهذا اإلطالق الذي تعرب عنه اآلايت الكرمية مسة من مسات السنن الرابنية‪ ،‬وخصيصة من‬
‫خصائصها‪ ،‬سواء كانت سننا تتعلق ابلكون واحلياة‪ ،‬أو سننا اجتماعية‪ ،‬أو اترخيية‪ ،‬فردية أو‬
‫مجاعية‪.‬‬
‫• كما أن من بينات الداللة السننية يف آايت القلة والكثرة‪ ،‬ما ورد يف تعقيب القرآن‬
‫على كثري من اآلايت اليت تتناول وصف تلك السنة‪ ،‬من مثل قوله ﷻ بعد احلديث عن قوم‬
‫ْ َ َ ُ هّ َ ْ ُ َ َ َ‬
‫ات اللِ نتلوها َعليْك‬ ‫طالوت وقصة الذين خرجوا من دايرم وهم ألوف حذر املوت‪﴿:‬ت ِلك آي‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب حْ َ‬
‫ال ّ ِق ِإَونَّ َك ل ِم َن ال ُم ْر َسلِني﴾سورة البقرة‪ .252:‬بلفظ (اآلايت)‪ ،‬يقول ابن القيم يف زاد املسري‪( :‬أي‪:‬‬ ‫ِ‬
‫كمك حكمهم‪ ،‬فمن صدقك‪،‬‬ ‫ني ُح‬ ‫ِ‬ ‫نقص عليك من أخبار املتقدمني‪ .‬وإِنَّ َ ِ‬
‫ُ‬ ‫ك لَم َن الْ ُم ْر َسل َ‬ ‫َ‬
‫فسبيله سبيل من صدقهم‪ ،‬ومن عصاك‪ ،‬فسبيله سبيل من عصاهم‪،((9().‬وتلك كلها عني‬
‫السنن الرابنية يف خصائصها وبياهنا ويف داللتها وتعبريها‪.‬‬
‫وقد عقب هللا تعاىل هذه السنن الواردة يف قصة األلوف َ واملأل من بين إسرائيل من بعد‬
‫َهّ ُ َ ْ لَىَ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ َ َ َ ْ هّ‬
‫ك َّن الل ذو فض ٍل ع‬‫ت األ ْرض َولـ ِ‬‫﴿ول ْوال دف ُع اللِ انلَّاس َبعض ُه ْم ب ِ َبع ٍض لف َسد ِ‬‫موسى بقوله‪:‬‬
‫َْ َ‬
‫العال ِمني﴾سورة البقرة‪251:‬‬

‫• التعبري القرآين عن الشخص الذي تدور عليه آية الكثرة أو تعقب عليه ابلوصف ال‬
‫ابالسم وال ابلرسم‪ ،‬مما يعطي مشوال لكل من وصف وصفه‪ ،‬ونسج على منواله‪ ،‬وتلك واضحة‬
‫َ ُ َ‬ ‫َ َْ َْ َُ ّ َ‬
‫جيك ب ِ َب َدن ِك ل َِتكون‬
‫يف عدم ذكر اسم فرعون الذي عقب هللا ﷻ على إغراقه بقوله ﴿فاليوم نن ِ‬
‫ْ‬
‫ل َِم ْن َخل َف َك آيَ ًة ﴾‪،‬حىت ميضي وصفه على كل (فرعون) ما بقيت احلياة‪ ،‬وتلك بعض مالمح‬
‫السننية يف القرآن الكرمي‪ ،‬فهي ال حتدد االسم‪ ،‬وال الزمان‪ ،‬وال املكان؛ حىت يفيد الناس من‬
‫الوصف‪ ،‬وال يتوقفوا عند االسم والرسم‪ ،‬ولكن أكثر الناس غافلون عن هذه العرب‪ ،‬وتلك‬
‫الفوائد اليت تبقى ما بقي اإلنسان‪ ،‬وتتعاقب ما تعاقب الليل والنهار‪.‬‬

‫(‪ ((9‬زاد املسري يف علم التفسري‪.)722 /1( :‬‬


‫‪93‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫• كثرة التأكيدات يف التعقيب على بعض آايت الكثرة لفتا ألنظار الناس وبياان‬
‫لسننية اآلايت الكرمية مما يدعو إىل لفت أنظار الناس إليها وتنبيههم إىل اإلفادة‬
‫منها؛ ألهنا تتكرر مع غريه كما حدثت له‪ ،‬كما يقول صاحب املنار يف بيان أثر‬
‫يد لِما �ت ْقتَ ِ‬
‫ض ِيه ِش َّدةُ ا لْغَ ْفلَ ِة ِم ْن �قَُّوِة‬ ‫ِ‬ ‫فرعون‪(:‬وأ َّ‬
‫َك َدهُ َه َذا التَّأْك َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫املؤكدات الواردة يف شأن‬
‫َّة ظُ ُهو ِرَها �فَلاَ �يَ�تََف َّك ُرو َن فيِ أَسبابهَِا‬ ‫يد و ا لْغَ ْفلَ ِة ع�نها علَى ِشد ِ‬
‫َ َْ َ‬ ‫َي إِ�نَُّه ْم لَ َش ِد ُ‬ ‫ِ‬
‫ال�تَّْنبِيه‪ ،‬أ ْ‬
‫ِ‬ ‫بهِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ني َك َما يمَُُّرو َن َعلَى‬ ‫َو�نَتَائج َها َوح َك ِم هللا ف َيها‪َ ،‬ولاَ �يَْعتَبرِ ُو َن َا‪َ ،‬وإِنمََّا يمَُُّرو َن َعلَ�يَْها ُم ْع ِرض َ‬
‫استِبَانَِة‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫َم َسا رِِح األنعام‪َ ،‬وفيه َذ مٌّ ل ْلغَ ْفلَة‪َ ،‬و َع َدِم ال�تََّف ُّك ِر فيِ أسباب الحََْوادث َو َع َواقبِ َها َو ْ‬
‫(‪((9‬‬
‫اظ بهَِا‪).‬‬‫هللا فِيها‪ ،‬لِلاِ ْعتِبا ِر والاِ تِّع ِ‬
‫سن ِن ِ‬
‫َُ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ثانيا‪ :‬األصول اجلامعة لسنن اهلل يف الكثرة‬
‫بعد رصد اآلايت اليت تناولت الكثرة‪ :‬مكية ومدنية‪ ،‬وسواء كانت تلك الكثرة يف األمم‪،‬‬
‫أو األفراد أو األشياء ودرسها وأتمل دالالهتا ميكن أن نستخلص يف نقاط السنن املاضية‬
‫واألصول اجلامعة يف قضية الكثرة على النحو التايل‪:‬‬
‫•أن الكثرة مشلت يف آايهتا األفراد واألمم‪.‬‬
‫•أن منها ما يتعلق ابلناس‪ ،‬ومنها ما يتعلق أبهل الكتاب‪، ،‬ويف كل متضي يف سننية‬
‫مطردة تزيدها احلياة أتكيدا‪ ،‬خاصة يف املقدور على معرفته من واقع الناس وأحداث‬
‫احلياة‪.‬‬
‫•أن الكثرة تكون حممودة إذا كانت فيما يفيد كالكثرة يف عدد القبيل واآلل الذين‬
‫يستعان هبم يف قضاء املراد‪ ،‬والتغلب على األعداء‪.‬‬
‫•أن الكثرة تكون حممودة إذا كان العدد فيها ال يؤثر على النوع‪ ،‬والكم فيها ال يفسد‬
‫الكيف‪ ،‬بل يدعمه ويقويه‪.‬‬
‫•أهنا تكون حممودة يف استجالب اخلري‪ ،‬واحلرص عليه‪.‬‬
‫•أهنا تكون حممودة يف ابب ذكر هللا ﷻ‪ ،‬وشكره وتسبيحه‪.‬‬
‫•وتكون حممودة إذا كانت يف جانب النفع عامة للبالد والعباد‪ ،‬كالكثرة يف الغيث‬
‫املفيد الذي حييي هللا به البالد ويقيت به العباد‪.‬‬

‫(‪ ((9‬تفسري املنار‪.)093 /11( :‬‬

‫‪94‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬الكثرة‪ :‬مفهومها‪ ,‬وصفاتها‪ ,‬وسنن اهلل فيها‬

‫تلك بعض األصول اجلامعة اليت ميكن أن تصور لنا سنن هللا ﷻ يف القلة يف ضوء اآلايت‬
‫الكرمية‪ ،‬واليت ميكن أن يفيد منها املسلمون عامة واملعنيون بنهضة األمة خاصة‪ ،‬وسيبني ذلك‬
‫يف صفحات آتية لدى احلديث عن رايدة القلة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة‪،‬‬
‫وفقه صناعة القلة الرائدة‪ .‬وهذا ما ستعاجله الصفحات اآلتية بعون هللا وتيسريه‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫موقف املسلمني من سنة اهلل‬
‫يف القلة والكثرة‬
‫بني الوعي والسعي‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫الفصل الثالث‬
‫موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬
‫وفيه مبحثان‬
‫املبحث األول‪ :‬رايدة القلة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة وموقف األمة منها‬
‫املبحث الثاين‪ :‬فقه صناعة القلة الرائدة‪ ،‬يف ضوء هذه السنة وموقف األمة منها‪.‬‬
‫املبحث األول‬
‫ريادة القلة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة‪،‬‬
‫وموقف األمة منها‬

‫سنة اهلل يف وجود القلة‬


‫جرت سنة هللا ﷻ يف عباده أن جيعل يف كل زمان قلة رائدة‪ ،‬تدعو الناس إىل اهلدى‪،‬‬
‫وتردهم عن الردى‪ ،‬وهتديهم إىل صراط هللا املستقيم‪.‬‬
‫والناظر يف حياة األنبياء واملرسلني‪ ،‬والدعاة واملصلحني جيد أهنم بدأوا دعواهتم أفرادا‪،‬‬
‫وضحى من أجلها‪ ،‬حىت‬ ‫مث انضم إليهم من محل فكرهتم‪ ،‬وتبىن رؤيتهم‪ ،‬وبذل يف سبيلها‪َّ ،‬‬
‫استقرت على النهج املبتغى‪ ،‬واهلدف املرجتى‪ ،‬وأفاد منها من يسر هللا له سبل اهلداية والرشاد‪،‬‬
‫(فكل احملاوالت اليت غريت جمرى التاريخ أو عدلته وقومته بدأت أبفراد‪ ،‬فإبراهيم‪،‬‬
‫وموسى‪ ،‬وعيسى‪ ،‬وحممد‪ ،‬وكل الرسل ‪ ‬بدأوا أفرادا‪ ،‬وعن طريق التأثري الرتبوي آمن‬
‫هبم البعض فعاونوهم فتوسع التأثري حىت غري جمرى احلياة‪ ،‬وخرب املصلحني اجملددين من‬
‫بعد األنبياء مشهور مستفيض‪ ،‬وكذلك كل احملاوالت غري اإلسالمية‪(،‬مع الفارق ال�بَنِّي)‬
‫فأصحاب البدع يف التاريخ بدأوا أفرادا‪ ،‬مث انتهوا إىل تكوين طوائف واسعة‪ ،‬وماركس وهتلر‬
‫كل منهم بدأ فردا واستعمل التأثري الرتبوي فكون حزاب واستلم احلزب السلطة فتغري جمرى‬
‫التاريخ‪ ،‬وال مغري إال هللا وال من حركة إال إبذنه‪ ،‬وكذلك هرتزل ووايزمن وأصحاهبما‪ ،‬بدؤوا‬
‫(((‬
‫أفردا واستغلوا التأثري الرتبوي املزدوج يف اليهود وشعوب العامل أمجع فتغري جمرى اتريخ اليهود)‬
‫((( منهجية الرتبية الدعوية‪ ،‬حممد أمحد الراشد‪ ،‬ط‪ :‬دار احملراب‪ ،‬ط‪ :‬أوىل‪2241‬هـ‪1002 ،‬م‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫والناظر يف أنواع القلة اليت حفل هبا التاريخ البشري قدميا وحديثا جيد أن هلا أثرها البارز‬
‫ومهمتها اليت ال تنكر‪ ،‬فالقلة املؤمنة مع نوح  واليت وصفها قومه أبهنم أراذل وأهنم اتبعوه‬
‫ابدي الرأي بال تفكر وال وعي‪ ،‬هي الفئة اليت عمرت األرض وبلغت رسالة هللا ﷻ وحفظ هبم‬
‫هللا ﷻ البشرية من الفناء‪ ،‬وأصحاب الكهف الذين لبثوا يف كهفهم ثالث مئة سنني وازدادوا‬
‫تسعا بعدا عن طواغيت األرض وظلمهم وأناي بدعوهتم من أن يستأصلها البغاة الطغاة‪ ،‬رواد‬
‫يف احلفاظ على دينهم‪ ،‬ويوسف يف أهل مصر فرد واحد لكنه استطاع أن يعرب هبم سين الغالء‬
‫والبالء‪ ،‬وأن يكون ذلك مفتاح إسالمهم له وإمياهنم بدينه‪ ،‬استطاع أن يقود هذه األمة مبا لديه‬
‫من حفظ وأمانة‪ ،‬وعلم وختصص‪ ،‬وذو القرنني فرد وهو من القلة لكنه استطاع أن يفيد من‬
‫القوم الذين ال يكادون يفقهون قوال‪ ،‬وكيف آثر أن يشركهم معه يف البناء احلضاري الذي يفوق‬
‫بناء السد‪ ،‬فبناء اإلنسان وداللته على مكامن نفسه وإرشاده إىل قدراته واكتشاف نفسه أمر‬
‫ال يقدر بثمن وتبذل فيه املهج والنفوس‪ ،‬وأهل بدر الذين كانوا مقارنة بعدوهم قلة استطاعوا‬
‫أن يفرقوا ‪ -‬إبمياهنم وبذهلم وتضحيتهم‪ -‬بني احلق والباطل هلم وملن بعدهم حىت مسى هللا ﷻ‬
‫يوم لقائهم بعدوهم (يوم الفرقان)‪ ،‬وكان هلم بعد يف جمتمع النبوة وما بعده شأن أي شأن‪،‬‬
‫وهكذا كل قلة يف كل زمان ومكان‪.‬‬

‫الرواد يف كل زمان قلة‪ ،‬وأن الفاعلني‬ ‫وقد حفلت آايت القرآن الكرمي ابحلديث عن أن َّ‬
‫يف جمرى احلياة قلة‪ ،‬وأن النهضات البشرية واحلضارية واإلصالحية محل لوائها قلة‪ ،‬وأن الكثرة‬
‫ب الليل‪ ،‬أو هباء‬ ‫كحطْ ِ‬‫مجع خْ َ َ‬ ‫السيل‪ ،‬أو‬ ‫غري الفاعلة ال وزن هلا وال قيمة فهي غثاء كغثاء‬
‫هَّ َ ُ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫رْ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خْ َ ُ َ َّ‬ ‫ُْ‬
‫تذروه الرايح‪﴿ ،‬قل ال يستوِي البِيث و ِ‬
‫ول‬ ‫كك َُ‬ ‫ب َول ْو أعجب‬ ‫الط ّي ُ‬ ‫َْ َ‬
‫يث فاتقوا الل يا أ يِ‬ ‫ثة الب ِ ِ‬
‫َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ َ‬ ‫أْ َ بْ‬
‫ون﴾ املائدة‪( .)100( :‬وقد جرت عادته ﷻ بكثرة اخلبيث من كل شيء‪،‬‬ ‫اب لعلكم تفل ِح‬ ‫الل ِ‬
‫ََ ٌ‬
‫﴿وقل ِيل م ِْن عِباد َِي‬ ‫وقلة الطيب من كل شيء‪ ،‬قال ﷻ‪﴿ :‬وقل ٌِيل ما ُه ْم﴾‪،‬سورة ص‪، »24«:‬‬
‫ائة ال تكاد تجَِ ُد فيها ر ِ‬ ‫كإبل ِم ٍ‬ ‫ك ُ‬‫َّ ُ‬
‫(((‬
‫احلةَ»‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫اس‬
‫ُ‬ ‫ّ‬‫«الن‬ ‫الصحيح‪:‬‬ ‫احلديث‬ ‫ويف‬ ‫سبأ‪»13«:‬‬ ‫سورة‬ ‫﴾‬ ‫ور‬ ‫الش‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫ِ‬
‫أحدا‬‫ني أفتَ ُحها َعلَى كثري لكن ال أرى َ‬ ‫إنيّ ألفتَ ُح َعينيِ َ ح َ‬
‫(((‬

‫((( أخرجه البخاري‪ ،‬ابب رفع األمانة‪ ،401/8 ،‬ومسلم ابب الناس كإبل مائة‪.3791/4 ،‬‬
‫((( انظر البيت يف العقد الفريد‪.251/2:‬‬

‫‪100‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫باب أي‪:‬‬ ‫الل اي أُوليِ الأْ َلْ ِ‬


‫فأهل الصفا قليل يف كل زمان‪ ،‬ولذلك خاطبهم بقوله‪ :‬فَا�تَُّقوا هََّ‬
‫قل‪ ،‬لَ َعلَّ ُك ْم �تُْفلِ ُحو َن بصالح‬ ‫الصافية يف جتنب اخلبيث وإن كثر‪ ،‬وأخذ الطيب وإن ّ‬ ‫القلوب‬
‫(((‬
‫الدارين‪).‬‬
‫والعربة يف القلة ليس العدد‪ ،‬بل جودة املعدن‪ ،‬ونفاسة احملتد‪ ،‬وطيب املنبت‪ ،‬وعراقة‬
‫الرسالة‪ ،‬وتقدير املسؤولية‪ ،‬واالنشغال هبم األمة اليت يعيشون‬ ‫ِ‬ ‫األصل‪ ،‬والعمل الذي يولده حمَْ ُل‬
‫فيها بل تعيش فيهم‪ ،‬إن صحت النوااي واستقام الفهم‪ ،‬وإال لو استوت القلة والكثرة يف صفة‬
‫من الصفات فإن قانون هللا الغالب وسنته املاضية أن يكون األمر يف جانب الكثرة‪ ،‬ومن‬
‫معاين قوله ﷻ (قل ال يستوي اخلبيث والطيب) أي‪( :‬يف القلوب واألحوال واألعمال واألموال‬
‫واألشخاص‪ ،‬فالطيب من ذلك كله مقبول حمبوب‪ ،‬والرديء مردود ممقوت‪ ،‬فالطيب مقبول‬
‫ك َك�ثرةُ الخَْبِ ِ‬
‫يث‪ ،‬فالعربة ابجلودة‬ ‫جل‪ ،‬وهو معىن قوله‪َ :‬ولَ ْو أ َْع َجبَ َ َْ‬ ‫قل‪ ،‬والرديء مردود ولو (((ّ‬ ‫وإن ّ‬
‫والرداءة‪ ،‬دون القلة والكثرة‪. ) ،‬‬
‫وإال فالعدد املؤثر مقصود‪َ ،‬ومن سنن هللا اليت ال تتغري سنته يف الغلب والنصر‪ ،‬وهو‬
‫َ ُ ّ ُ‬
‫ِنك ْم‬ ‫ِين َعلَى الْق َ‬ ‫النب ُّي َح ّر ِض ال ْ ُم ْؤ ِمن َ‬
‫َ ُّ َ َّ‬
‫األنفال‪﴿ ،‬ياأيها‬
‫م‬ ‫ن‬
‫َ ْ ََّ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ن‬
‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ٌ ْ ْ ًْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬‫ُ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬‫ما ْ حوته آية سورة ْ ْ‬
‫َ‬
‫ِين كف ُر وا بِأن ُه ْم‬ ‫عِش ُر َون َصا ب ِ ُر ون َيغل ُِبوا م ََِئتيْ ِن ِإَون يَكن ّمِنكم َ ّم َ َِئة َيغل ُِبوا أ لفا ّم َِن الذ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ ً َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الآن َخ ّف َف هّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ َْ‬ ‫َ‬
‫الل َعنك ْم َو َعل َِم أن فِيك ْم ض ْعفا فإِن يَكن ّمِنكم ّم َِئة‬ ‫ق ْو ٌم لا َيفق ُهون ‪ٟ‬‬
‫هّ َ هّ ُ َ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ ََْ‬ ‫ُ ٌَْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫الصا ب ِ ِر ين ﴾‬ ‫َصا ب ِ َرةٌ َيغل ُِبوا م َِئتيْ ِن ِإَون يَكن ّمِنك ْم أ لف َيغل ُِبوا أ لفيْ ِن بِإ ِذ ِن اللِ والل مع‬
‫سورة األنفال – ‪- 66‬‬
‫فالنص على العدد هنا له داللة‪ ،‬و(نفهم من هذه اآلية أن صرب عدد قليل كعشرة أمام‬
‫ألف ال يشرتط إحراز النصر ‪ ،‬فكأن اآلية تتحدث عن توازن يف الكم والكيف ضمن حدين‬
‫‪ .‬وميكن االختالف على اعتبار أن العدد ال مفهوم له‪ .‬ولكن الذي ال ميكن اخلالف عليه‬
‫هو اعتبار التوازن يف الكم والكيف ‪ ،‬وزايدة الكم حني يضعف الكيف‪ ،‬وهذا واضح يف قوله‬
‫ﷻ ‪ «:‬اآلن خفف هللا عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتني‬
‫» ‪ ،‬بعد أن كانوا يغلبون ألفاً‪.‬‬
‫فمن هنا نفهم ‪ ،‬أن الغلب أو النصر الذي حيرزه اجملتمع ‪ ،‬أو األمة املخاطبة بقوله ‪:‬‬
‫(منكم) ال يتم بثبات فرد ‪ ،‬أو أبن يكون ما بنفس فرد قد تغري ‪ ،‬إذ ال بد من ثبات عدد معني‬
‫له حد أدىن وأعلى‪ ،‬وإن كانت آية سورة األنفال هذه حتدد الكم‪ ،‬وتدخل عامل الكيف ‪،‬‬
‫((( البحر املديد يف تفسري القرآن اجمليد‪.)08 /2( :‬‬
‫((( السابق‪.08/2 :‬‬

‫‪101‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫الذي جاء حبثه يف موضوع خاص أال وهو الثبات يف املعركة‪ .‬إال أن هذه اخلصوصية ليست‬
‫حمصورة يف املعركة القتالية‪ ،‬فمعارك احلياة كثرية ‪ ،‬فمعركة بناء اجملتمع كذلك حتتاج إىل التوازن‬
‫نفسه‪ .‬ونَ ْذ ُر اإلنسان نفسه‪ ،‬وما وهبه هللا من قوة وعمر يف سبيل فهم مشكالت املسلمني‪،‬‬
‫يشمل كذلك نفس التوازن‪ ،‬سواء ذلك يف بناء الفرد واجملتمع‪.‬‬
‫ومعركة التعامل مع سنن هللا على أساس الوعي‪ ،‬أمر يشمل الكافرين واملؤمنني‪ ،‬وأن‬
‫الفقه لسنن هللا يعطي النتائج حىت للكافرين ‪ ،‬وملا قال تعاىل ‪ «:‬يغلبوا ألفاً من الذين كفروا »‬
‫أعقبه بقوله « أبهنم قوم ال يفقهون » فهذا يدل على تدخل فقه الكافرين أيضاً‪ ،‬كماً وكيفاً‪،‬‬
‫والسيما الفقه لسنن احلياة الدنيا كما سنبحثه فيما أييت ‪ ،‬ألن هللا ميد املؤمنني والكافرين‪:‬‬
‫ّ َ حَ ْ ُ‬ ‫َ اَ َ َ َ‬ ‫ّ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫﴿ ك ن ِمد هـؤالء َوهـؤالء مِن عطاء َربك َوما كن عطاء َربك مظ ً‬ ‫َ ُ‬ ‫الُ ًّ ُّ ُّ َ ُ‬
‫(((‬
‫ورا﴾‪.‬سورة اإلسراء ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ملاذا الفئة املؤمنة قليلة‬
‫وحتدثت عنها يف ثنااي القرآن الكرمي‪ ،‬جيد أهنا‬
‫ْ‬ ‫رصدتهْ ا‪،‬‬
‫املتأمل للقلة يف اآلايت اليت َ‬
‫قاعدة مطردة‪ ،‬وسنة حاكمة‪ ،‬وأن الفئة املؤمنة دائما قلة‪ ،‬فالذين عربوا النهر مع طالوت قلة‪،‬‬
‫والذين اتبعوا نوحا يف دعوته قلة‪ ،‬والذين آووا ونصروا قلة‪ ،‬وهكذا يف سننية ماضية‪ ،‬وانموس‬
‫ال يتخلف وال يتأجل‪ ( ،‬فهذه هي القاعدة يف حس الذين يوقنون أهنم مالقوا هللا‪ .‬القاعدة‪:‬‬
‫أن تكون الفئة املؤمنة قليلة ألهنا هي اليت ترتقي الدرج الشاق حىت تنتهي إىل مرتبة االصطفاء‬
‫واالختيار‪ .‬ولكنها تكون الغالبة؛ ألهنا تتصل مبصدر القوى؛ وألهنا متثل القوة الغالبة‪ .‬قوة هللا‬
‫(((‬
‫الغالب على أمره‪ ،‬القاهر فوق عباده‪ ،‬حمطم اجلبارين‪ ،‬وخمزي الظاملني وقاهر املتكربين)‬
‫خطورة عدم وجود القلة العاملة‬
‫تروده‪ ،‬وخنبة سابقة تراتد له مواطن‬ ‫واجملتمع الذي خيلو من قلة تقوده‪ ،‬وفئة خمتارة ُ‬
‫اخلري‪ ،‬تكون وارده إليها‪ ،‬وفرطا له لديها‪ ،‬تدله عليها‪ ،‬وترشده إليها‪ ،‬وحتذره من مغبات الشر‬
‫والفساد‪ ،‬وحتذره منها‪ ،‬جمتمع على خطر عظيم؛ ألن القلة الرائدة يف كل جمتمع مبثابة العقل‬
‫الواعي‪ ،‬والذاكرة الواعبة اليت حتفظ األمة‪ ،‬وحتفظ هلا‪ ،‬وتعي أسباب عزها ونصرها‪ ،‬وعوامل‬
‫َ َ اَ اَ َ‬
‫الكرمي يف َق جْوله‪﴿ :‬فل ْول كنذَّ م َِن‬
‫القرآن َ لاً‬
‫عنهم اَّ‬
‫اليت يعرب أْ َ‬ ‫وهؤالء هم أولو البقية‬
‫وفسادها‪ُ ُ ،‬‬ ‫ْحتللها‬
‫َّ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ِك ْم أولو بَقِ َّي ٍة َينْ َه ْو َن َعن الف َسادِ ف ال ْر ِض إل قل ِي م َِّم ْن أنَيْ َنا مِنْ ُه ْم َوات َب َع ال َ‬
‫ْ ْ ُ‬ ‫ُُ‬
‫ِين‬ ‫ِ‬ ‫يِ‬ ‫ِ‬ ‫ون مِن قبل‬
‫القر ِ‬
‫َ‬ ‫َ اَ ُ جُ ْ‬ ‫َ َُ َ ُْ ُ‬
‫ظلموا ما أت ِرفوا فِيهِ وكنوا م ِرمِني﴾ سورة هود‪.)116( :‬‬
‫((( حىت يغريوا ما أبنفسهم‪.43،53:‬‬
‫((( يف ظالل القرآن‪.962/1 :‬‬

‫‪102‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫(وهذا النظر إىل املوضوع يبني خطورة أن يبقى يف اجملتمع أعداد‪ ،‬مهما كانوا قلة‪ ،‬ال‬
‫يتمتعون ابلوعي التام لقضااي اجملتمع ‪ .‬وكذلك ‪ ،‬خطورة عدم وجود العدد الكايف‪ ،‬أو احلد‬
‫األدىن‪ ،‬من الذين يعون األمور على هذا األساس من النظر‪ .‬وإدراك ضرر وجود غري الواعني يف‬
‫األمة‪ ،‬يولد لدى اجملتمع شعوراً ابخلطر‪ ،‬أن يكون املركب الذي يسري ابجملتمع‪ ،‬حيتوي على‬
‫مناذج ال تعرف سنن طفو األجسام على املاء‪ ،‬فيسعون حبسن نية‪ ،‬أو سوء نية‪ ،‬خلرق السفينة‪،‬‬
‫كما ورد يف احلديث الشريف الصحيح ‪).‬‬
‫((( (((‬

‫سر الريادة يف القلة وعالقة ذلك بالسننية‬


‫وإذا أتملنا آايت القرآن الكرمي ومطابقتها لواقع احلياة واألحياء أدركنا سر كون الرايدة‬
‫للقلة وأن ذلك سنة من سنن هللا ﷻ؛ ذلك أن العربة يف األشياء خبصائصها وصفاهتا وكيفها‪،‬‬
‫ال بعددها وكثرهتا وكمها‪ ،‬وقد فصلت آية سورة األنفال هذه القاعدة أميا تفصيل‪ ،‬فجاءت‬
‫َّسا ِوي‬ ‫ِ باِ ِ‬ ‫ص َف ِة الش ِ ِ ِ ِ ِنمَّ‬‫َن الْعِ�برةَ بِ ِ‬
‫َّ‬ ‫اع َد ِة الْع َّام ِة وِ‬
‫(باِ لْ َق ِ‬
‫َّيء لاَ ب َع َدده‪َ ،‬وإ َا تَ ُكو ُن الْعَّزةُ لْ َك�ثَْرة �بَْع َد الت َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ِ ِ (‪َ ((1‬‬ ‫َ‬
‫الص َفات‪).‬‬ ‫فيِ ّ‬
‫والقليل النافع املفيد من األشياء واألحياء هو الذي يكتب له القبول والبقاء‪ ،‬واخلريية‬
‫والسر يف رايدة القلة يف كل زمان؛ أهنا حتمل من اخلصائص والسمات ما خيتزل هلا الزمن‬
‫ويطوي هلا القوى وال ُق َدر‪ ،‬وجيمع فيها من أسس البقاء والتحمل ما ال يتوفر لغريها‪ ،‬فهي‬
‫يف جهدها ختتلف عن غريها‪ ،‬ويف عطائها تباين من سواها‪ ،‬ويف مقاييسها ومعايريها منط‬
‫آخر‪ ،‬تستمد من مصدر قوهتا وإهلامها ما ال يقدره إال الراسخون‪ ،‬وما ال يعرفه إال العاملون‬
‫الواعبون‪ ،‬وهذا ما عاشته الفئة املؤمنة مع داوود ‪ ،‬يف حركتها وسريها‪ ،‬ويف دعائها وتعبريها‪،‬‬
‫ويف نصحها وإرشادها‪ ،‬وهذا هو السر يف الرايدة من هذه القلة اليت ذكرها القرآن منوذجا‬
‫حيتذى‪ ،‬وأسوة تقتدى‪ ،‬يف بياهنا وتعبريها‪ ،‬ويف ثقتها وتوكلها‪ ،‬ويف مقياسها لألشياء‪ ،‬وميزاهنا‬
‫لألحداث‪ ،‬ورؤيتها لألمور‪.‬‬

‫((( إشارة إىل حديث السفينة‪( :‬مثل القائم على حدود هللا والواقع فيها)‪ ،‬واحلديث خرجه الباري يف صحيحه من‬
‫حديث النعمان بن بشري‪ ،‬ابب هل يقرع يف القسمة واالستهام فيه‪.391/3،‬‬
‫((( حىت يغريوا ما أبنفسهم‪ ،‬جودت سعيد‪ ،‬ط الثالثة‪7931 ،‬هـ‪7791،‬م‪.53،63 :‬‬
‫(‪ ((1‬تفسري املنار‪.401/7 :‬‬

‫‪103‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫أثر ريادة القلة يف اجملتمع‬


‫وهذه القلة وإن كانت يف أعني الناس كذلك إال أهنا يف الواقع ونفس األمر كثرية‪ ،‬كثرية‬
‫أبفعاهلا‪ ،‬كثرية أبثرها‪ ،‬وقد وصفها هللا ﷻ هبذا الوصف يف آية سورة البقرة‪ ،‬يف قوله ﷻ‬
‫َ ً‬ ‫َ ً‬ ‫ُ‬
‫﴿ يُ ِض ّل بِهِ كثِيرا َو َي ْهدِي بِهِ كثِيرا ﴾‪ ،‬مع أن املتوقع يف غري القرآن أن التقسيم يكون‬
‫بعضهم قليال وبعضهم كثريا‪ ،‬وهذا لبيان أهنم يف أثرهم وفعلهم كثرة‪( ،‬فإ ْن قيل‪ :‬كيف وصف‬
‫الصورة‪ ،‬فهم كثريون‬ ‫اب أَنهّ م‪ ،‬وإن كانوا َ‬
‫قليلني يف ُّ‬ ‫املهتدين هنا ابلكثرة وهم قليلون‪..‬فاجلو ُ‬
‫ِ‬
‫احلقيقة)(‪ ((1‬أو(حتمل الكثرة على الكثرة املعنوية جبعل كثرة اخلصائص اللطيفة مبنزلة كثرة‬ ‫يف‬
‫الذوات الشريفة كما قيل‪:‬‬
‫(‪((1‬‬
‫ومل أر أمثال الرجال تفاوتت لدى اجملد حىت عد ألف بواحد)‬
‫وهذه القلة هي اليت حيمي هللا ﷻ هبا األمة‪ ،‬وينهض هبا الكساىل‪ ،‬ويوقظ هبا النّ ّـوم‪ ،‬فالقلة‬
‫مع طالوت هي اليت أعطت النموذج الصابر والواعب لسنن هللا ﷻ يف احلياة واألحياء‪ ،‬وهي‬
‫اليت أعطت القدوة من نفسها‪ ،‬يف صربها على الظمأ‪ ،‬وإرادهتا القوية‪ ،‬وتغلبها على نفسها‬
‫ومتطلباهتا األساسية‪ ،‬وهي اليت من أجلها صنع هللا ما صنع يف جالوت وجنوده‪ ،‬وهي اليت‬
‫من أجلها صنع هللا ما صنع يف األرض من طوفان نوح‪ ،‬ذلك أن ثبات هذه الفئة هو الذي‬
‫يغري جمرى احلياة‪ ،‬وانتفاضة تلك اجملموعة هي اليت أزهرت عصور بين إسرائيل يف عهد داوود‪.‬‬
‫أثر هذه القلة يف النهضات والشهود احلضاري‬
‫هذه القلة هي اليت تؤثر يف الشهود احلضاري لألمم واجلماعات‪ ،‬وهي اليت تقوم هبا‬
‫احلضارات‪ ،‬وتستمر هبا أسس التمكني‪ ،‬فلها الرايدة فيه‪ ،‬وعليها املعول يف بقائه‪ ،‬والنماذج‬
‫اليت ذكرها القرآن للقلة خري شاهد على هذا‪ (،‬إذ هذه الفئة هي اليت تقرر مصري املعركة بعد‬
‫أن جتدد عهدها مع هللا‪ ،‬وتتجه بقلوهبا إليه‪ ،‬وتطلب َ النصر منه وحده‪ ،‬وهي تو َاجه اهلول‬
‫ت أ قْ َ‬ ‫ْ ْ‬
‫غ َعلَيْنا َص رْبا ً‪َ ،‬و َث ّب ْ‬ ‫﴿و ل َ َّما بَ َر ُز وا جِلال ُ َ‬
‫وت َو ُج ُنودِ ه ِ قالُوا‪َ :‬ر َّ‬ ‫َ‬
‫نا‪،‬‬ ‫دام‬
‫ْ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ر‬‫ف‬
‫َ َِ‬ ‫أ‬ ‫نا‬‫ب‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫لَىَ َ‬
‫ْ‬ ‫الرعيب‪:‬‬
‫ْ‬
‫َ‬ ‫وت ‪َ ،‬و آتاهُ هَّ ُ‬
‫داو ُد جال َ‬ ‫هَّ‬
‫اللِ‪َ ،‬وق َتل ُ‬ ‫ُ‬
‫الل ال ُملك‬ ‫ين ‪ .‬ف َه َز ُموه ْم بِإ ِذ ِن‬
‫ص نا ع الق ْو ِم الاك ف ِر َ‬
‫ِ‬
‫َوان رُ ْ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ حْ‬
‫ال ِْك َم َة ‪َ ،‬و َع َّل َم ُه م َِّما ي َ ُ‬
‫شاء ‪ ،‬وكانت النتيجة هي اليت ترقبوها واستيقنوها‪﴿ :‬ف َه َز ُموه ْم بِإِذ ِن‬ ‫و‬
‫الل» ليعلمها املؤمنون أو ليزدادوا هبا علماً‪ ،‬وليتضح‬ ‫اللِ﴾‪ ،‬ويؤكد النص هذه احلقيقة‪« :‬بإِِ ْذ ِن هَِّ‬
‫التصور الكامل حلقيقة ما جيري يف هذا الكون‪ ،‬ولطبيعة القوة اليت جتريه‪ .‬إن املؤمنني ستار‬
‫(‪ ((1‬اللباب يف علوم الكتاب‪.)174 /1(:‬‬
‫(‪ ((1‬حاشية الشهاب علي تفسري البيضاوي‪ ،‬عناية القاضي وكفاية الراضي‪.)99 /2(:‬‬

‫‪104‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫القدرة‪ ،‬يفعل هللا هبم ما يريد‪ ،‬وينفذ هبم ما خيتار إبذنه‪ ،‬ليس هلم من األمر شيء‪ ،‬وال حول‬
‫هلم وال قوة‪ ،‬ولكن هللا خيتارهم لتنفيذ مشيئته‪ ،‬فيكون منهم ما يريده إبذنه‪ ،‬وهي حقيقة خليقة‬
‫أبن متأل قلب املؤمن ابلسالم والطمأنينة واليقني‪ ،‬إنه عبد هللا‪ ،‬اختاره هللا لدوره‪ ،‬وهذه منة من‬
‫قدر هللا النافذ‪ .‬مث يكرمه هللا‪ -‬بعد كرامة‬
‫هللا وفضل‪ .‬وهو يؤدي هذا الدور املختار‪ ،‬وحيقق َ‬
‫االختيار‪ -‬بفضل الثواب‪ .‬ولوال فضل هللا ما فعل‪ ،‬ولوال فضل هللا ما أثيب‪ .‬مث إنه مستيقن‬
‫من نبل الغاية طهارة القصد ونظافة الطريق‪ ،‬فليس له يف شيء من هذا كله أرب ذايت‪ ،‬إمنا هو‬
‫منفذ ملشيئة هللا اخلرية قائم مبا يريد‪ .‬استحق هذا كله ابلنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه‬
‫(‪((1‬‬
‫إىل هللا يف خلوص)‬
‫ورصد ِ‬
‫القرآن الكرمي هلا‬ ‫وإذا تتبعنا القلة ومهمتها يف هنضات األمم عرفنا قيمتها وأثرها‪ُ ،‬‬
‫دليل صدق‪ ،‬وبرهان حق على هذا األثر للقلة العاملة‪ ،‬وواقع الناس ِبفطَ ِرهم السوية وإدراكهم‬
‫السليم يعي هذا األمر ويعمل يف ضوئه‪ ،‬فالعرب ببساطتهم وصفاء فطرهتم يعرفون هذه املعادلة‬
‫وكالمهم يف دواوينهم اليت حفظت خصائصهم يف ذلك غين عن التعقيب‪.‬‬
‫وهذه القلة املختارة والصفوة املنتقاة هي اليت تؤثر وال تتأثر‪ ،‬وتقود وال تقاد‪ ،‬و�تُْتبع وال‬
‫�تَْتبع‪ ،‬أما الكثرة الفارغة من كل عطاء‪ ،‬والقاعدة عن كل مضاء‪ ،‬فال تقوم هبا حضارة‪ ،‬وال‬
‫تنهض عليها أمة‪ ،‬وال يؤسس عليها متكني‪( ،‬إن الكثرة العددية ليست بشيء‪ ،‬إمنا هي القلة‬
‫العارفة املتصلة الثابتة املتجردة للعقيدة‪ .‬وإن الكثرة لتكون أحياانً سبباً يف اهلزمية‪ ،‬ألن بعض‬
‫الداخلني فيها‪ ،‬التائهني يف غمارها‪ ،‬ممن مل يدركوا حقيقة العقيدة اليت ينساقون يف تيارها‪ ،‬تتزلزل‬
‫أقدامهم وترجتف يف ساعة الشدة فيشيعون االضطراب واهلزمية يف الصفوف‪ ،‬فوق ما ختدع‬
‫الكثرة أصحاهبا فتجعلهم يتهاونون يف توثيق صلتهم ابهلل‪ ،‬انشغاالً هبذه الكثرة الظاهرة عن‬
‫اليقظة لسر النصر يف احلياة‪ .‬لقد قامت كل عقيدة ابلصفوة املختارة‪ ،‬ال ابلزبد الذي يذهب‬
‫(‪((1‬‬
‫جفاء‪ ،‬وال ابهلشيم الذي تذروه الرايح!)‬

‫(‪ ((1‬الظالل‪.072/1:‬‬
‫(‪ ((1‬يف ظالل القرآن‪.)8161 /3( :‬‬

‫‪105‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫القلة مع نوح  وأثرها يف الشهود احلضاري‬


‫وإذا نظران إىل قلة مؤمنة أخرى عاشت احملنة واملنحة‪ ،‬والبالء والعطاء‪ ،‬والسلب واإليتاء‪،‬‬
‫وهي القلة املؤمنة مع نوح  وجدان كم كان جهدها يف الشهود احلضاري وكم كان هلا من‬
‫مهمة يف بقاء بذور اإلميان ابهلل‪ ،‬ولذا صنع هللا هلا ما صنع من إغراق الكافرين وتغيري انموس‬
‫األرض‪( ،‬إن هذه احلفنة‪ -‬وهي مثرة ذلك العمر الطويل واجلهد الطويل‪ -‬قد استحقت أن يغري‬
‫هللا هلا املألوف من ظواهر هذا الكون وأن جيري هلا ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل‬
‫حي يف املعمور وقتها من األرض! وأن جيعل هذه احلفنة وحدها هي وارثة األرض بعد ذلك‪،‬‬
‫وبذرة العمران فيها واالستخالف من جديد‪ ،‬وهذا أمر خطري‪ ((1().‬ونوح عليه السالم هو أول‬
‫من صنع الفلك‪ ،‬الفئة املؤمنة معه هي اليت منها َع ُمَرت الدنيا واستقرت احلياة‪.‬‬
‫حاجة القلة املعاصرة لإلفادة من هذه املالمح‬
‫والقلة املؤمنة اليوم اليت تسعى لرايدة البشرية ابسم هللا‪ ،‬وقيادة الدنيا ابلدين‪ ،‬يف أمس‬
‫احلاجة لتفهم هذه املالمح السننية يف قانون القلة‪ ،‬وإدراك هذه األسس اليت تتكرر يف كل زمان‬
‫ويف كل قلة؛ ألهنا قانون مطرد وانموس حاكم‪ ،‬ويف حاجة ماسة إلدراك عاقبة هذه القلة اليت‬
‫رصدها القرآن‪ ،‬وأحل يف عرض صورها‪ ،‬ونوع يف بيان خصائصها‪ ،‬على تباعد الزمن وتباعد‬
‫املكان‪ ،‬وتغاير األفراد‪ ،‬إال أن القانون واحد يف كل زمن ويف كل مكان‪(،‬إن طالئع البعث‬
‫اإلسالمي اليت تواجه اجلاهلية الشاملة يف األرض كلها واليت تعاين الغربة يف هذه اجلاهلية‬
‫والوحشة كما تعاين األذى واملطاردة والتعذيب والتنكيل‪ ،‬إن هذه الطالئع ينبغي أن تقف‬
‫طويالً أمام هذا األمر اخلطري‪ ،‬وأمام داللته اليت تستحق التدبر والتفكري! إن وجود البذرة‬
‫املسلمة يف األرض شيء عظيم يف ميزان هللا ﷻ‪ ،‬شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر اجلاهلية‬
‫وأرضها وعمراهنا ومنشآهتا وقواها ومدخراهتا مجيعاً كما يستحق منه سبحانه أن يكأل هذه‬
‫من جديد! لقد كان نوح  يصنع‬ ‫َ‬
‫البذرة ويرعاها حىت تسلم وتنجو وترث األرض وتعمرها‬
‫ذَّ‬ ‫خُ‬ ‫ُْ ََ ْ‬
‫حينا َوال تاطِبْ ف ال َ‬ ‫َ ْ َ ُْ ْ َ‬
‫ِين‬ ‫نيِ يِ‬ ‫الفلك أبعني هللا ووحيه‪ ،‬كما قال ﷻ‪﴿:‬واصنعِ الفلك بِأعينِنا وو ِ‬
‫َ َ ُ َّ ُ ْ ُ ْ َ ُ َ‬
‫(‪((1‬‬
‫ون﴾)‬ ‫ظلموا إِنهم مغرق‬

‫(‪ ((1‬يف ظالل القرآن‪.)2981 /4( :‬‬


‫(‪ ((1‬يف ظالل القرآن‪)072/1(:‬‬

‫‪106‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫وحينما تدرك هذه الطالئع تلك العاقبة وتدرك قبلها اتفاق السمات واخلصائص‪ ،‬وتوافق‬
‫املالمح والصفات‪ ،‬أيتيها شيء من برد اليقني‪َ ،‬ورْو ِح اإلميان وهدوء االطمئنان إىل سالمة‬
‫العاقبة‪ ،‬وحني تدرك أتييد هللا ﷻ للقلة العاملة وتغيري نواميس الكون هلا بسننه اخلارقة‪ ،‬توقن‬
‫من نصر هللا هلا‪ ،‬ومحايته لبقائها‪.‬‬
‫تغيري نواميس الكون للقلة املؤمنة‬
‫وهذه القلة املؤمنة مرعية بعني هللا ﷻ ويف عنايته؛ إهنا البقية الباقية اليت تسعى لتعبيد‬
‫الناس هلل‪ ،‬وهتيئة الوجود ألرقى حاالت الشهود‪ ،‬تتحمل ما تتحمل يف سبيل تعريف الناس‬
‫برهبم‪ ،‬وصلتهم به‪ ،‬وداللتهم عليه‪ ،‬وهي من أجل ذلك استحقت أن حتظى برعاية هللا ﷻ‬
‫وأتييده‪ ،‬فيغري هلا النواميس وخيضع السنن اجلارية يف حقها للسنن اخلارقة‪ ،‬فالكل مربوب هلل‬
‫رب العاملني‪ ،‬واملتأمل للقلة مع داوود جيد بوضوح هذا التغيري‪ ،‬فداود قتل جالوت مبقالع‪،‬‬
‫بسيط‪ ،‬والعدد القليل الذي عرب النهر هو الذي هتيأت له األسباب للغلبة على الكثرة املغرورة‪،‬‬
‫والقلة املؤمنة مع نبينا حممد ﷺ هي اليت تغري هلا وهبا الناموس احلاكم والسنن اجلارية‪ ،‬فانتصروا‬
‫يصلون إىل ثلثي عدد جيش عدوهم‪ ،‬والقلة املؤمنة مع نوح هي اليت غري‬ ‫يف بدر وغريها وهم ال ِ‬
‫هللا ﷻ هلا السنن اجلارية فأرسل هلا الطوفان‪ ،‬ومحله على ذات ألواح ودسر‪ ،‬جتري أبعني هللا‬
‫ﷻ جزاء ملن كان كفر‪( ،‬إن عصر اخلوارق مل ميض! فاخلوارق تتم يف كل حلظة‪ -‬وفق مشيئة هللا‬
‫الطليقة‪ -‬ولكن هللا يستبدل أبمناط من اخلوارق أمناطاَ أخرى‪ ،‬تالئم واقع كل فرتة ومقتضياهتا‪.‬‬
‫تدق بعض اخلوارق على بعض العقول فال تدركها‪ ،‬ولكن املوصولني ابهلل يرون يد هللا‬ ‫وقد ِ‬
‫دائماً‪ ،‬ويالبسون آاثرها املبدعة‪ .‬والذين يسلكون السبيل إىل هللا ليس عليهم إال أن يؤدوا‬
‫يدعوا األمور هلل يف طمأنينة وثقة‪ .‬وعندما‬ ‫واجبهم كامالً‪ ،‬بكل ما يف طاقتهم من جهد‪ ،‬مث َ‬
‫يُغلبون عليهم أن يلجأوا إىل الناصر املعني وأن جيأروا إليه كما جأر عبده الصاحل نوح‪«:‬فَ َدعا‬
‫ربَّه أيَِن م ْغلُوب‪ ،‬فَا�نتَ ِ‬
‫ص ْر»‪ ،‬مث ينتظروا فرج هللا القريب‪ .‬وانتظار الفرج من هللا عبادة فهم على‬ ‫َُ ّ َ ٌ ْ‬
‫(‪((1‬‬
‫هذا االنتظار مأجورون‪).‬‬

‫‪ -‬يف ظالل القرآن‪.)3981 /4( :‬‬ ‫(‪((1‬‬

‫‪107‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫مهمة القلة املؤمنة اليوم‬


‫ومهمة القلة املؤمنة اليوم اليت تسعى إلهناض أمتنا على أسس رابنية‪ ،‬يف حاجة ماسة‬
‫ملعايشة هذه السنن‪ ،‬تقف أمامها طويال وترى كيف نصر هللا القلة املؤمنة‪ ،‬خاصة وان العامل‬
‫العريب اليوم يف حالة خماض جديد يؤذن مبيالد عصر سعيد ورشيد‪ ،‬تعلو فيه كلمة احلق والعدل‬
‫واحلرية‪ ،‬سيما وقد عاش الناس عصورا من اخلسف والتنكيل‪ ،‬واملسخ الفكري‪ ،‬والتيه التارخيي‬
‫املمنهج‪ ،‬وآن هلا أن تعود إىل رهبا وكتابه ومنهاجه‪ ،‬والسعيد من ُوعظ بغريه‪ ،‬وقد بصر هللا‬
‫ﷻ القلة املؤمنة األوىل مع النيب حممد ﷺ للوقوف والتذكر لتقارن بني حالني‪ ،‬وتبصر الفرق‬
‫بني زمانني‪ ،‬زمان القلة والذلة‪ ،‬واهلوان واالمتهان‪ ،‬وزمان اإليواء والعناية‪ ،‬وعندما تقف القلة‬
‫املعاصرة الرائدة هبذه النية وهذا العزم وتبصر السابق وتنسج على منواله تنجو كما جنا‪ ،‬وحتيا‬
‫عزيزة اجلانب مرعية اجلناب‪ ،‬وهللا غالب على أمره ولكن أكثر الناس ال يعلمون‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫املبحث الثاني‬
‫فقه صناعة القلة الرائدة وموقف األمة منها‬

‫إذا أتملنا واقع املسلمني بني املاضي واحلاضر‪ ،‬وموقفهم من سنة هللا يف القلة والكثرة‪،‬‬
‫رأينا أن وعي املسلمني هبا وعنايتهم أبثرها‪ ،‬أو إمهاهلم هلا وعدم اهتمامهم هبا هو الذي شكل‬
‫حمور األساس وحجر الزاوية يف فرتات االنتصار أو االنكسار‪ ،‬فيوم أن وعى املسلمون – على‬
‫ضوء مقاصد القرآن‪ ،‬وفلسفته للقلة والكثرة بل سنته فيها ‪ -‬يوم أن وعوا أثر القلة يف الشهود‬
‫احلضاري وقيمة هذا التضام والتجمع على مستوى العلماء واألمراء‪ ،‬والنخبة الفكرية والعلمية‬
‫وعلى مصاف الساسة واحلكام‪ ،‬والزهاد وأرابب السلوك‪ ،‬يوم أن عزوا وقدموا للبشرية ‪ -‬فضال‬
‫عن اإلسالم أروع صور احلضارة‪ ،‬وأرقى مناذج اإلنسان عندما يبدع ويبتكر يف ضوء مقوالت‬
‫الوحي ومتطلبات السماء‪ ،‬ويوم أن أغفلوا النظر إىل هذه السنة املاضية وأمهلوا التعامل معها‬
‫يوم أن أصبحوا غثاء كغثاء السيل أو هباء تذروه الرايح‪ ،‬فال وزن يف عامل احلضارة‪ ،‬وال قيمة‬
‫انطبقت‬ ‫يف دنيا األرقام‪ ،‬وال سبق يف جمال العلم وال رايدة يف جانب االجتماع‪ ،‬وكانوا هم من‬
‫ال َّق َو بْالَاط َِل فَأَماَّ‬
‫الل حْ َ‬
‫َ َ َ َ رْ ُ ُهّ‬
‫َ‬ ‫غريهم‪﴿.‬كذل ِك ي ِ‬
‫ضب‬
‫َ‬
‫عليهم السنة يف القلة َ والكثرة كما انطبقت على‬
‫َْ‬ ‫ُهّ‬
‫ضب الل األمثال﴾ سورة الرعد‪:‬‬
‫َ َ َ َ رْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬‫َ ْ ُ ُ‬
‫ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ ْ َ ُ َُ‬
‫َّ‬
‫الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع انلاس فيمكث يِف األر ِض كذل ِك ي ِ‬
‫من اآلية‪. 17:‬‬
‫وإذا سألنا التاريخ عن فرتات الشهود احلضاري لألمة املسلمة أخربان أهنا تلك الفرتات‬
‫اليت فهم املسلمون فيها أثر هذه القلة ومهمتها يف الشهود احلضاري وإهناض األمة‪ ،‬وقد بدا‬
‫ذلك يف عصور متتابعة‪ ،‬فيوم أن تصدر العلماء إلرشاد األمة ونصح األمراء ابلكتاب والسنة‪،‬‬
‫يوم أن وصلت األمة إىل مرحلة مشهودة من التمكني‪ ،‬وإذا نظران إىل حمنة ضياع األقصى وكيف‬
‫عاد إىل دوحة اإلسالم وحصن املسلمني عرفنا مهمة القلة من العلماء الرواد الذين تعاونوا مع‬
‫األمراء احلكماء يف معركة حطني اليت انتصر فيها صالح الدين األيويب‪ ،‬عام ‪583‬هـ‪ ،‬واليت مل‬
‫تكن وليدة تراتيب إدارية وعسكرية فقط‪ ،‬بل تراتيب تربوية لنفوس اجليش واألمة‪ ،‬وليس على‬
‫مستوى املرحلة الزمنية للمعركة بل على تطاول أجيال متعاقبة يف عهود زنكي ونور الدين مث‬
‫صالح الدين‪ ( ،‬فإن عددا من الدعاة والعلماء قد وقفوا مع هؤالء األبطال الثالثة – زنكي‬
‫ونور الدين وصالح الدين‪ - ،‬وكان على رأس هؤالء املؤرخ هباء الدين أبو احملاسن بن شداد‬

‫‪109‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫(‪632/539‬ه) ‪،‬والفقيه ضياء الدين عيسى بن حممد اهلكاري (‪585‬هـ)‪ ،‬واملؤرخ املعروف‬
‫عبد هللا حممد األصفهاين املعروف ابلعماد الكاتب‪597( ،‬ه) الذي كان قلمه كما يصفه‬
‫املؤرخون أشد وأنكى على الصليبيني من سيوف اجملاهدين‪ ،‬إذ به مجع صالح الدين عساكر‬
‫املسلمني‪ ،‬وأبسلوبه البليغ املؤثر ألف بني قلوهبم وحبب االستشهاد إىل نفوسهم)(((‪.‬‬
‫وعي العلماء وفقههم مبتطلبات احلضارة وإقرار شؤون الدولة ومصاحل العباد‬ ‫ومثَّل ُ‬‫َ‬
‫ورعايتهم‪ ،‬جانبا مهما من عالقتهم ابألمراء ومدى أتثريهم فيهم ومساعهم رأيهم‪ ،‬فقد أشار‬
‫القاضي الفاضل على صالح الدين بعد صلح الرملة (‪588‬ه) بتأجيل احلج إىل سنة أخرى‬
‫ألسباب عرضها عليه؛ مؤيدا إقناعه بفتوى دينية نصها‪ :‬أن االنقطاع لكشف مظامل اخللق أهم‬
‫(((‬
‫من كل ما يتقرب به إىل هللا)‬
‫واملطالع حلقب التاريخ املتطاولة يف حياة املسلمني يرى رايدة القلة والتكامل بينها وبني‬
‫األمة عن طريق قيادهتا وتبصريها‪ ،‬مما كان له أبعد األثر يف هنضة األمة فالتكامل بني الساسة‬
‫والدعاة يف العصر اململوكي والعثماين كان له أثره البالغ يف حضارة األمة واستقرارها‪ ،‬كما ال‬
‫خيفى على املطالع للتاريخ مدى التكامل بني أمراء املماليك والعلماء يف مقاومة التتار‪ ،‬وإذا‬
‫نظران إىل بالد املغرب وبالد اهلند واستعرضنا مواقف العلماء والقلة الرائدة وأثرها ابألمساء‬
‫واألرقام؛ عرفنا مدى أثر الوعي بسنة القلة ورايدهتا يف الشهود احلضاري‪.‬‬
‫ووجود هذه القلة الرائدة اآلمرة ابملعروف الناهية عن املنكر الداعية إىل صراط هللا‬
‫املستقيم ضرورة من ضرورات املنهج اإلهلي ذاته؛ (فهذه اجلماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه‬
‫هذا املنهج ويتحقق يف صورته الواقعية‪ ،‬هو الوسط اخليرّ املتكافل املتعاون على دعوة اخلري‪،‬‬
‫املعروف فيه هو اخلري والفضيلة واحلق والعدل‪ ،‬واملنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم‪،‬‬
‫عمل اخلري فيه أيسر من عمل الشر‪ ،‬والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة‪ ،‬واحلق فيه أقوى‬
‫من الباطل‪ ،‬والعدل فيه أنفع من الظلم‪ ،‬فاعل اخلري فيه جيد على اخلري أعواان‪ ،‬وصانع الشر‬
‫فيه جيد مقاومة وخذالانً‪ .‬ومن هنا تربز قيمة هذا التجمع‪ ،‬إنه البيئة اليت ينمو فيها اخلري واحلق‬
‫بال كبري جهد‪ ،‬ألن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه‪ ،‬واليت ال ينمو فيها الشر والباطل إال‬
‫(((‬
‫بعسر ومشقة‪ ،‬ألن كل ما حوله يعارضه ويقاومه‪)...‬‬
‫((( املسلمون من التبعية والفتنة إىل القيادة والتمكني‪ ،‬د عبد احلليم عويس‪،411 ،‬ط‪ :‬مكتبة العبيكان‪ ،‬ط أوىل‬
‫‪7241‬هـ ‪6002 ،‬م‪.‬‬
‫((( السابق‪ ،‬نقال عن‪ :‬املؤرخني املعاصرين لصالح الدين األيويب‪ ،‬لنظري حسان سعداوي‪.23 ،13 :‬‬
‫((( يف ظالل القرآن‪.544 ،444/1 :‬‬

‫‪110‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫كيفية صناعة القلة الرائدة‬


‫وإذا انتقلنا من التنظري إىل التطبيق ومن ميدان الكالم إىل ميدان العمل نستطيع أن‬
‫نرصد يف برجمة عملية وخطوات إجرائية كيفية صناعة القلة الرائدة اليت ترود أمتها إىل الشهود‬
‫َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ ُ َّ ً َ َ ً ّ َ ُ ُ ْ‬
‫احلضاري وأستاذية العامل كما أر ُاد هللا ﷻ حني أخرب‪﴿:‬وكذل ِك جعلناكم أمة وسطا ل ِتكونوا‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫َ ْ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َ ُ َ‬
‫اس َويكون ّ‬‫ّ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬‫َ َ‬
‫الرسول عليكم ش ِهيدا ﴾سورة البقرة‪ :‬من اآلية‪.143 :‬‬ ‫شهداء على الن ِ‬

‫وميكن أن نرصد بعض اخلطوات العملية اليت من شأهنا أن تساعد يف صناعة القلة الرائدة‬
‫على النحو التايل‪:‬‬
‫‪ -1‬إدراك أمهية هذه القلة الرائدة‪ ،‬والقناعة العملية وليست الفكرية أو النظرية‬
‫مبدى حاجة األمة إىل رايدة حقيقية إن مل تكن على املستوى الرمسي من احلكومات والدول‬
‫ابهلم اإلسالمي العام‪ ،‬واملنشغلني به؛ فقد‬
‫فلتكن على مستوى أصحاب الرأي والفكر واملعنيني ّ‬
‫ثبت عمليا أن غياب الوعي وعدم اإلدراك احلقيقي ملدى خطورة فراغ األمة من قلة رائدة أثّر‬
‫أتثريا مروعا يف عدم بروز هذه القلة‪ ،‬وعدم العناية هبا إذا برزت‪ ،‬وبدا ذلك بصورة ملحوظة‬
‫الفتة يف عدم تفرغ كفاايت علمية حلمل ما خلقت من أجله من وعي يكون أساسا للسعي‪،‬‬
‫ومن مث توعية األمة برسالتها ومهمتها حسب طبيعة كل مرحلة من املراحل اليت متر هبا واملكان‬
‫الذي تشغله‪ ،‬فما يصلح يف وقت قد ال يصلح يف وقت آخر‪ ،‬وما ينفع يف زمان قد ال ينفع‬
‫يف زمان آخر وما يفيد قوما قد ال يَِفيد منه آخرون‪ ،‬وقد حوت الشريعة اإلسالمية من عوامل‬
‫السعة واملرونة ما أثبت لدى البعيد قبل القريب صالحيتها لكل زمان ومكان‪.‬‬
‫وهذه القناعة العملية احلقيقية ليست ابألمر السهل اليسري بل حتتاج إىل توطني النفس‬
‫واكتشاف نقطة البداية؛ ألن معرفة مدى حاجة األمة إىل قلة رائدة هلا أثر تربوي وفكري‬
‫وعلمي يستطيع أن يؤثر وال يتأثر وجيذب وال ينجذب أمر هام ومؤثر‪ ،‬واكتشاف نقطة‬
‫البداية هذه له ما بعده من تكاليف ومشاق‪( ،‬ولعل أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ‬
‫أننا جنهل النقطة اليت منها نبدأ اترخينا‪ ،‬ولعل أكرب أخطاء القادة أهنم يُسقطون من حساهبم‬
‫هذه املالحظة االجتماعية‪ ،‬ومن هنا تبدأ الكارثة‪ ،‬وخيرج قطاران عن طريقه حيث يسري خبط‬
‫(((‬
‫عشواء‪ ،‬وال عجب فإن كوارث التاريخ اليت حتيد ابلشعب عن طريقه ليست بشاذة)‬

‫((( شروط النهضة‪ ،‬مالك بن نيب‪،74 :‬ط‪ :‬دار الفكر‪9931‬ه ‪9791،‬م‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪ -2‬إعداد قيادات املستقبل‪ ،‬يف ضوء النظرة االستشرافية العامة اليت تنوران هبا‬
‫قضية السنن بصفة خاصة؛ فإن أوجب الواجبات لدارس السنن أن يَفيد منها‪ ،‬ويَفيد من‬
‫تيارها وال يصادمها‪ ،‬خاصة أن من خصائصها عدم التبدل أو التغري‪ ،‬فإذا وعينا ثباهتا واطرادها‬
‫فلنَفد منها على ضوء خصائصها ومساهتا‪ ،‬وقد ثبت ُسننيّا من خالل عرض هذه السنة يف القلة‬
‫والكثرة‪ :‬أن الرايدة لكل أمر ال تكون لعامة الناس وال جلمهور البشر بل لفئة هلا من الوعي‬
‫ما يعينها على إحسان السعي‪ ،‬وهلا من العلم ما ييسر هلا إتقان العمل‪ ،‬وقد سبقنا الغرب‬
‫يف هذه الدراسات االستشرافية واملستقبلية بصورة جعلته يَفيد من السنن وإن مل يُسندها إىل‬
‫رهبا وجمريها‪ ،‬لكن على عادة السنن أهنا تعطي من حيسن التعامل معها دون تفريق بني مسلم‬
‫وكافر‪ ،‬وتلك من خصائص السنن اليت ال تتخلف‪ ،‬فرأينا الدراسات الرقمية واإلحصائية اليت‬
‫متهد الختاذ القرار الصحيح‪ ،‬وكثري من أعمالنا ارجتايل حلظي‪ ،‬ال ميهد له بدراسة وال يبىن على‬
‫معرفة متينة ومعلومة قوية‪ ،‬وهذا ما جعل أعمالنا ختضع إىل حد كبري ملفاجئات القدر‪ ،‬مع‬
‫أننا أوىل الناس ابلوعي ابلسنن فكل شيء يف ديننا (حبسبان)‪،‬وبـ (تقدير العزيز العليم) عبادةً‬
‫ومعاملةً‪ ،‬وفرائض وسننا‪ ،‬وهناك تالزميات بني الفرائض والسنن ومواقعها يف خريطة العمل‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫والناظر يف منهجية القرآن الكرمي جيد أنه عين ابلنظرة املستقبلية حىت يف العهد املكي الذي‬
‫بدا فيه للناظر املتأمل معاانة املسلمني فيه‪ ،‬لكن القرآن الذي هوكلمة هللا اخلامتة للبشرية يهيئ األمة‬
‫املسلمة لتكون رائدة ميدان وفارسة مضمار‪ ،‬فهو منذ البداية (يوجه أنظار املسلمني إىل الغد املأمول‪،‬‬
‫واملستقبل املرجتى‪ ،‬ويبني هلم أن الفلك يتحرك‪ ،‬والعامل يتغري‪ ،‬واألحوال تتحول‪ ،‬فاملهزوم قد ينتصر‪،‬‬
‫واملنتصر قد يهزم‪ ،‬والضعيف قد يقوى‪ ،‬والدوائر تدور‪ ،‬سواء أكان ذلك على املستوى احمللي أم‬
‫العاملي‪ ،‬وعلى املسلمني أن يهيئوا ويرتبوا بيتهم ملا يتمخض عنه الغد القريب أو البعيد)(((‪.‬‬
‫واملتأمل لسورة القمر مثالً ورصدها املركز لغزوة بدر جيد مدى عناية القرآن الكرمي ابلنظرة‬
‫﴿س ُي ْه َز ُم الْ َ‬
‫ج ْم ُع‬ ‫َ‬ ‫املستقبلية‪ ،‬وإرشادها املسلمني ملا سيكون بعد سنني‪ ،‬فما ابن معىن قوله ﷻ‪:‬‬
‫َ ُ َ ُّ َ ُّ‬
‫الدبُر﴾ (سورة القمر‪ )45:‬لعمر بن اخلطاب وقت نزوهلا وما فهمها إال يوم بدر حني رأى‬ ‫ويولون‬
‫(((‬
‫رسول هللا ﷺ‪ ،‬يثب يف الدرع ويتلوها‪،‬‬

‫((( أولوايت احلركة اإلسالمية يف املرحلة القادمة‪ ،‬د‪.‬يوسف القرضاوي‪، 411 ،‬‬
‫((( لباب النقول‪.99/1:‬‬

‫‪112‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫ُ‬ ‫َ ْ ىَ أْ َ‬ ‫ُ‬
‫الر وم ‪ 2‬يِف أ د ن ال ْر ِض َوه ْم‬ ‫ت ُّ‬ ‫املتأمل لصدر سورة الروم يف قوله ﷻ‪﴿:‬الم أْ َ‪ 1‬غل َِب ِ‬ ‫و‬
‫ني للِهَّ ِ ال ْم ُر م ِْن َقبْ ُل َوم ِْن َب ْع ُد َو َي ْو َمئذ َي ْف َر حُ‬‫ضعِ ِسن َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َْ ََ ْ َ َْ ُ َ‬
‫اللُ‬‫هَّ‬
‫ٍ‬
‫َ ْ َ هَّ اَ خُ ْ ِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مِن بع ِد غلب ِ ِهم َس رْيغل ِب هَّون َ ْ‪ 3‬رُ ُ يِف َ ب ِ ْ َ َ ُ ِ َ ُ َ ْ‬
‫ص اللِ ين اَص من يشاء وهو العزِ يز الرحِيم حْ‪ 5‬وعد اللِ ل يل ِف‬ ‫المؤمنون ‪ َ 4‬بِن ْ رَ ِ‬
‫ادل نْ َيا َو ُه ْم َعن آْالَخِرة َِ‬ ‫ون َظا ه ًِرا م َِن َ‬
‫ال َيا ة ِ ُّ‬ ‫َ َُْ َ‬
‫م‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫‪6‬‬
‫َ َُْ َ‬
‫ون‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ِ‬
‫اس‬ ‫َّ‬ ‫انل‬ ‫ك َّن أ ك َ‬
‫ث‬ ‫ِ‬
‫َ ْ َ ُ ََ‬
‫وعد ه و ل‬
‫ِ‬
‫ُ ْ اَ ُ َ‬
‫هم غ ف ِلون ‪ ﴾7‬سورة الروم‪7/1:‬؛ جيد مدى حرص القرآن الكرمي على توعية املسلمني مبا يدور‬
‫حوهلم من أحداث‪ ،‬يرتتب عليها كثري مما خيصهم‪ ،‬ويظهر منها أمران‪(:‬األول‪ :‬مدى وعي‬
‫اجملموعة املسلمة ‪ -‬على قلتها وضعفها املادي‪ -‬أبحداث العامل الكربى‪ ،‬وصراع العمالقة من‬
‫حوهلا‪ ،‬وأثره عليها إجيااب وسلبا‪ .‬الثاين‪ :‬تسجيل القرآن هلذه األحداث‪ ،‬وتوجيه النظر إىل‬
‫(((‬
‫عوامل التغري‪ ،‬واالنتقال من الواقع إىل املتوقع يف ضوء السنن‪).‬‬
‫‪ -3‬إعداد حماضن علمية خاصة بتكوين القادة‪ ،‬على مستوى العلوم الشرعية‬
‫واالجتماعية والسياسية‪ ،‬وتشرف عليها هيئة عاملية‪ ،‬تستقل ماليا وإداراي عن رعاية دولة‬
‫بعينها؛ حىت تكون حرة اإلرادة‪ ،‬قادرة على االستقالل العلمي والعملي‪ ،‬كما يفاد يف ذلك من‬
‫اخلربات العلمية العاملية اليت متأل أصقاع العامل اإلسالمي وتوضع برامج تربوية وعلمية وعملية‬
‫تؤهلهم للقيام ابملهمة املنوطة هبم يف قيادة األمة وإرشادها‪ ،‬واألمة غنية بفضل هللا ﷻ ابلعقول‬
‫اليت حتتاج من يفيد منها والطاقات املؤهلة للقيام هبذه املهمة‪.‬‬
‫‪ -4‬اإلفادة من احملاضن العلمية القائمة كل يف جمال ختصصه لتكون رافدا من الروافد‬
‫املهمة يف تزويد اجملتمع مبا يتطلبه من رموز علمية وقيادية تتحمل املهمة أو جزءا منها‪.‬‬
‫‪ -5‬تفعيل دور العلم الكربى كاألزهر والزيتونة والقرويني واألموي واجلامعة اإلسالمية‬
‫ودار العلوم ابهلند وغريها‪ ،‬لتقوم مبهمتها الرمسية واخلروج هبا من حالة اجلمود واهلمود إىل حالة‬
‫الوعي احلقيقي والسعي اجلاد إلخراج األمة من وهدهتا والسري هبا قدما إىل مصاف الرايدة‬
‫احلضارية‪.‬‬
‫‪ -6‬تفعيل الوقف اإلسالمي ورصد قدر مناسب منه ملثل هذا البناء البشري املتني‪،‬‬
‫فال أوىل به منه‪ ،‬وال أحوج إىل الوقف من هذا املشروع الذي يبين أمة‪ ،‬وميهد جليل تتبعه‬
‫أجيال‪ ،‬ودعوة أهل الفضل إىل املشاركة يف هذا اهلم العام الذي له ما بعده من تبصري األمة‬
‫برسالتها وحتميلها مبهمتها‪.‬‬
‫((( أولوايت احلركة اإلسالمية يف املرحلة القادمة‪511 :‬‬

‫‪113‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪ -7‬توظيف القدر املتاح من اإلعالم املسلم خلدمة هذا املشروع الرايدي‪ ،‬ميهد له‬
‫ويعلن عنه‪ ،‬ويغري الناس مبا له من أثر وفضل‪ ،‬ويساعد يف توعية األمة خبطورة خلوها من هذه‬
‫القلة الرائدة‪ ،‬وتوعية هذه القلة مبهمتها عرب وسائله اجلاذبة واملؤثرة‪ ،‬واليت أثبتت جتربة األايم أن‬
‫أثره ال ينكر بل ال يقاوم يف اخلري والشر‪ ،‬وهذا ما عرب عنه "الطيب برغوث" يف دراسته املتميزة‬
‫عن سنن الصريورة واالستخالف يف ضوء التدافع والتجدد احلضاري يف حديثه عن خصائص‬
‫ومقومات التجدد احلضاري بقوله‪( :‬الشرط الثاين يف الفعل التجديدي وهو وصل احلاضر‬
‫ابلعصر‪ ،‬خاصة إذا كانت األمة يف وضع املستضعف أو املتطلع إىل االنعتاق من التخلف‬
‫والتبعية واالستضعاف‪ ،‬حيث يتحتم عليها التواصل البصري مع ثقافة العصر وحضارته؛ استفادة‬
‫من معطياته وخرباته‪ ،‬وفهما الجتاهاته وجماالت وآليات الصراع فيه‪ ،‬وارتقاء إىل مستوى التفاعل‬
‫(((‬
‫الواعي معه أو الفعل اإلجيايب فيه كلما أمكن ذلك‪).‬‬
‫‪ -8‬استكتاب العقول الرائدة وأصحاب التجارب واخلربات الناجحة يف هذا‬
‫امليدان من تربويني وشرعيني واجتماعيني وإصالحيني وكل من له ُشغل ّ‬
‫ابهلم اإلسالمي العام‬
‫ليقدم تصوره يف جماله‪ ،‬ونتاج خربته موثقا‪ ،‬ويف األمة من اخلربات املتناثرة والعقول املهاجرة ما‬
‫يكفي ويغين إذا صحت العزمية وسلمت النوااي ويسرت السبل وهذا عينه ما تنبه له شيخنا‬
‫الشيخ الصادق عرجون يف كتابه النافع واملاتع (سنن هللا يف اجملتمع من خالل القرآن الكرمي)‪،‬‬
‫حني تسائل ‪ -‬بعد رحلة علمية قوية مؤصلة‪ -‬عن املخرج ملا فيه املسلمون اليوم وقد وضح‬
‫الصبح لذي عينني‪ ،‬وابن النهار لذي ابصرين‪ ،‬وخلص إىل وجوب أن تكون هناك (دراسة‬
‫حتليلية تصف الداء يف لطف ال يزعج املريض‪ ،‬وتضع أمامه الدواء‪ ،‬وذلك يف خطة إجيابية‬
‫يسجلها العلماء ورواد اإلصالح اإلسالمي مكتوبة يف هدوء احلق‪ ،‬ترفع إىل املسئولني عن‬
‫التنفيذ يف مجيع األوطان اإلسالمية تذاع يف رفق بني سائر املسلمني ليفهموا دائهم ودوائهم‪،‬‬
‫وعلى العلماء يف صورة مجاعية حيققها موسم احلج ‪-‬وهو املؤمتر الذي أمر هللا بعقده‪ -‬أن‬
‫يتابعوا السعي وراء هذه اخلطة ليتعرفوا العقبات اليت تقف دون تطبيقها عمليا‪ ،‬واملشاكل اليت‬
‫تعرتضها‪ ،‬ليشاركوا يف حلها حالّ ال يهدم بناء دون أن يقيم على أرضه بناء يقوم مقامه وعلى‬
‫أسس من القرآن الكرمي العظيم‪ ،‬وجيب أن تكون احللول يف مستوى واقع األمة اإلسالمية‪ ،‬فال‬
‫(((‬
‫حتلق يف مساء اخليال وتنسى أزمات األمة)‬
‫((( مدخل إىل سنن الصريورة االستخالفية على ضوء نظرية التدافع والتجديد احلضاري‪.281،381 ،‬‬
‫((( ‪ -‬سنن هللا يف اجملتمع‪ ،‬الدار السعودية للنشر والتوزيع‪ ،‬ط الثالثة‪4891 /4041،‬م‪ ،‬حديث األستاذ أيب احلسن‬
‫الندوي عن قيادة اإلسالم للعامل‪ ،‬فصل هنضة العامل اإلسالمي‪ ،‬من كتابه الراقي‪ :‬ماذا خسر العامل ابحنطاط املسلمني‪،‬‬

‫‪114‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫وقد قدم الشيخ رمحه هللا هذه الدراسة السننية الراقية وهذا االقرتاح إىل رابطة العامل‬
‫اإلسالمي وما زال أمله وأملنا معقودا ‪ -‬بعد هللا ‪-‬يف الرابطة وكل رابطة تتقدم حلمل العبء‬
‫وترود الناس إىل مكان الصدارة والقيادة‪.‬‬
‫‪ -8‬استدعاء تراثنا احلي ليعيش معنا هذه الدورة احلضارية اليت تكتب من جديد‬
‫حسب التغري السنين يف الكون واحلياة‪ ،‬وحسب قانون التداول احلضاري الذي رصده القرآن‬
‫الكرمي وعين بتأكيده‪ ،‬ونرتشف منه جتارب القرون املاضية اليت ثبت على مدار التاريخ رايدهتا‬
‫وقيادهتا لنهضات ظلت قروان مشاعل نور ومنارات هدى يفيء إليها الناس من شرق وغرب‪.‬‬
‫(وال خيفى أن أي خلل يف عالقة احلاضر ابلرتاث احلضاري لألمة‪ ،‬سيجعل حركة التجديد‬
‫متتد يف فراغ‪ ،‬وستجد نفسها بعد فتور محاسة البداية‪ ،‬وكأهنا تتحرك يف مكاهنا‪ ،‬إن مل تتقهقر‬
‫إىل الوراء؛ ألهنا ال جتد السند الفكري والنفسي واالجتماعي الذي مينحها مربرات االستمرارية‪،‬‬
‫ويضمن هلا حيوية التجدد واالندفاع‪ ،‬ويقيها خماطر التذبذب والتأرجح بني التيارات الفكرية‬
‫والكتل احلضارية املتدافعة‪ ،‬الذي قد يفقدها هويتا وميسخها خلقا اجتماعيا آخر!‪ ،‬ويكفي يف‬
‫هذا السياق استحضار مسار ومآالت جتربة النهضة احلديثة يف العامل اإلسالمي‪ ،‬وعجزها عن‬
‫حل معادلة التواصل األصيل مع الذات‪ ،‬وما جنم عن ذلك من ازدواجية وتذبذب واهتالك وهدر‬
‫لإلمكاانت واإلرادات احلضارية لألمة‪ ،‬ومضاعفة هلمومها‪ ،‬ومباعدة بينها وبني طموحاهتا‪..‬‬
‫للتأكد فعال كيف مسخت هذه النهضة مسخا‪ ،‬وأفرغت من حمتواها احلضاري األصيل! ومن‬
‫هنا فإن الشرط األساس األول يف الفعل التجديدي‪ ،‬هو وصل احلاضر ابملاضي وصال واعيا‪ ،‬عن‬
‫طريق استيعاب ثوابت اخلربة الذاتية لألمة‪ ،‬ومتثل روحها واستصحاهبا إىل احلاضر‪ ،‬وإدماجها يف‬
‫(‪((1‬‬
‫العصر ابستمرار)‬

‫ص ‪. 772/ 852‬‬
‫(‪ -((1‬مدخل على سنن الصريورة االستخالفية على ضوء نظرية التدافع والتجديد‪ ،‬الطيب برغوث‪،281 ،181 ،‬‬
‫حنو حركة إسالمية عاملية واحدة‪ ،‬فتحي يكن‪،‬ط‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة اخلامسة ‪7041 ،‬ه‪7891 /‬م‪،‬ص ‪ 44‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪ -8‬استلهام حركات اإلصالح والتجديد يف العصور السابقة‬


‫كل ما‬‫فلكل فضل السبق وبداية الشرارة‪ ،‬على تطاول الرقعة املكانية والزمانية نفيد من ٍ‬
‫ٍّ‬
‫يناسب عصران ويزهي حياتنا‪ ،‬فقد كانت وما زالت عند كثري من املنصفني زادا حقيقيا يغري‬
‫ابلتقدم والرايدة‪ ،‬وقد قال غوستاف لوبون يف كتابه حضارة العرب(‪...‬إن جامعات الغرب مل‬
‫تعرف هلا مدة مخسة قرون موردا علميا سوى مؤلفاهتم ‪ -‬أي‪ :‬املسلمني‪ -‬وإهنم هم الذين م ّدنوا‬
‫أوربة مادة وعقال وأخالقا‪ ،‬وإن التاريخ مل يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه يف وقت قصري‪ ،‬وإهنم مل‬
‫يفقهم قوم يف اإلبداع الفين) ويقول‪( :‬كان أتثري العرب يف األقطار اليت فتحوها عظيما جداً‬
‫يف احلضارة‪ ،‬ولعل فرنسة كانت أقل حظا منهم‪ ،‬فقد رأينا البالد تتبدل صورهتا حينما خيفق علم‬
‫الرسول الذي أظلها أبسرع ما ميكن‪ ،‬ازدهرت فيها العلوم والفنون والزراعة أي ازدهار‪ ...‬ومل‬
‫يقتصر العرب على ترقية العلوم مبا اكتشفوه‪ ،‬فالعرب قد نشروها كذلك مبا أقاموا من اجلامعات‬
‫وما ألفوا من الكتب‪ ،‬فكان هلم األثر البالغ يف أوربة من هذه الناحية‪ ،‬ولقد كان العرب أساتذة‬
‫لألمم املسيحية عدة قرون‪ ،‬وإننا مل نطلع على علوم القدماء إال بفضل العرب‪ ،‬وإن التعليم يف‬
‫جامعاتنا مل يستغن عما نقل على لغاتنا من لغات العرب)(‪ ،((1‬واملتابع لقصة احلضارة لوول‬
‫ديورانت جيد من هذه األمثلة الشيء الكثري‪.‬‬
‫‪ -9‬اإلنسان قبل البنيان والساجد قبل املساجد‬
‫من اخلطوات العملية اليت جيب على املعنيني مبستقبل األمة يف ضوء علم السنن أو علم‬
‫االستشراف وما يسميه بعضهم علم االسرتاتيجية ‪،‬أن يكون اهتمام املؤسسات السابقة واجلهات‬
‫املهتمة هبذا الشأن منصبا على اإلنسان أوال قبل املناهج واألدوات والوسائل‪ ،‬كما نرى يف واقع‬
‫املسلمني اآلن؛ فاإلنسان قبل البنيان‪ ،‬والساجد قبل املساجد‪ ،‬ولعل اجلد يف تلك النظرة إىل‬
‫اإلنسان هو حمور األساس يف النجاح والنصر والتمكني‪ ،‬فما يفيد إذا وفران مؤسسات تصفر فيها‬
‫الريح بال عقول قادرة على إدارهتا وملئها مبا حتتاجه األمة من أفكار ورؤى‪ ،‬وما يفيد إذا عددان‬
‫من عالمات جناحنا أننا أسسنا من اهليئات واملؤسسات كذا وكذا دون أن يكون لدينا القدرة على‬
‫احلشد اإلنساين‪ ،‬واالنتخاب البشري‪ ،‬الذي يزين هذه البناايت الضخمة والصروح الفخمة‪ ،‬كما‬
‫قال أبو الطيب يف بيته الرائد‪:‬‬

‫(‪ ((1‬حضارة العرب‪.66 ،62:‬‬

‫‪116‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫(‪((1‬‬
‫إذا مل يكن فوق الكرام كرام‬ ‫وما تنفع اخليل الكرام وال القنا‬
‫واملتأمل للقلة الرائدة اليت رابها رسول هللا ﷺ‪ ،‬جيد اهتمامه ابإلنسان قبل أي شيء آخر‪،‬‬
‫فانتصر هبم حني أخرجهم من بداة جفاة إىل رادة وقادة‪ ،‬يعلمون الدنيا معىن احلضارة واملدنية‪ ،‬ويبعثون‬
‫يف نفوسهم معىن العزة والكرامة‪ ،‬وما موقف ربعي بن عامر وحديثه عنا ببعيد‪.‬فهذا هو مؤشر النصر‬
‫احلقيقي يف تكوين القادة الرادة الذين يقولون يف حزم‪ ،‬ويعملون يف عزم شأن اجليل القرآين الفريد‬
‫الذي رابه الرسول ﷺ‪ ،‬هبذه املنهجية القرآنية‪ ،‬وكان مؤشرا من مؤشرات انتصاره‪ ،‬فلقد انتصر ﷺ‬
‫(يوم أن صنع أصحابه  صورا حية من إميانه‪ ،‬أتكل الطعام ومتشي يف األسواق‪ ،‬يوم صاغ من كل‬
‫فرد منوذجا جمسما لإلسالم‪ ،‬يراه الناس فريون اإلسالم‪ .‬إن النصوص وحدها ال تصنع شيئا‪ ،‬وإن‬
‫املصحف وحده ال يعمل حىت يكون رجال‪ ،‬وإن املبادئ وحدها ال تعيش إال أن تكون سلوكا‪ ،‬ومن‬
‫مث جعل حممد ﷺ هدفه األول أن يصنع رجاالً ال أن يلقي مواعظ‪ ،‬وأن يصوغ ضمائر ال أن يدبج‬
‫خطبا‪ ،‬وأن يبين أمة ال أن يقيم فلسفة‪ ،‬أما الفكرة ذاهتا فقد تكفل هبا القرآن الكرمي‪ ،‬وكان عمل حممد‬
‫أن حيول الفكرة اجملردة إىل رجال تلمسهم األيدي وتراهم العيون‪...‬ولقد انتصر حممد بن عبد هللا يوم‬
‫صاغ من فكرة اإلسالم شخوصاً‪ ،‬وحول إمياهنم ابإلسالم عمالً‪ ،‬وطبع من املصحف عشرات من‬
‫النسخ مث مئات وألوفا‪ ،‬ولكنه مل يطبعها ابملداد على صحائف الورق‪ ،‬إمنا طبعها ابلنور على صحائف‬
‫من القلوب‪ ،‬وأطلقها تتعامل مع الناس وأتخذ منهم وتعطي‪ ،‬وتقول ابلفعل والعمل ما هو اإلسالم‬
‫(‪((1‬‬
‫الذي جاء به حممد بن عبد هللا من عند هللا‪).‬‬
‫وهذا ما يصرخ به عالمة اهلند األستاذ أبو احلسن الندوي يف كتابه املاتع (ماذا خسر‬
‫العامل ابحنطاط املسلمني)‪ ،‬بعد ما شخص الداء ووصفه وصف الطبيب املاهر كأنه حييا بني‬
‫ظهراين العرب غدوا ورواحا‪ ،‬فاملهم لديه بل(املهم األهم لقادة العامل اإلسالمي ومجعياته وهيئاته‬
‫الدينية وللدول اإلسالمية غرس اإلميان يف قلوب املسلمني‪ ،‬وإشعال العاطفة الدينية‪ ،‬ونشر‬
‫الدعوة إىل هللا ورسوله‪ ،‬واإلميان ابآلخرة على منهاج الدعوة اإلسالمية األوىل‪ ،‬ال تدخر يف ذلك‬
‫وسعا‪ ،‬وتستخدم لذلك مجيع الوسائل القدمية واحلديثة‪ ،‬وطرق النشر والتعليم‪ ،‬كتجوال الدعاة يف‬
‫القرى واملدن‪ ،‬وتنظيم اخلطب والدروس‪ ،‬ونشر الكتب واملقاالت‪ ،‬ومدارسة كتب السرية‪ ،‬وأخبار‬
‫الصحابة‪ ،‬وكتب املغازي والفتوح اإلسالمية‪ ،‬وأخبار أبطال اإلسالم وشهدائه‪ ،‬ومذاكرة أبواب‬
‫اجلهاد‪ ،‬وفضائل الشهداء)(‪.((1‬‬
‫(‪ -((1‬انظر ديوانه ص‪113:‬‬
‫(‪ ((1‬دراسات إسالمية‪ ،‬لألستاذ سيد قطب‪ ،‬ط‪:‬دار الشروق‪ 3931،‬هـ ‪3791 /‬م‪ ،‬ص‪ ،82 /62‬ابختصار‪.‬‬
‫(‪ ((1‬ماذا خسر العامل ابحنطاط املسلمني‪ ،‬أليب احلسن الندوي‪ ،‬ط‪ :‬دار املعارف‪ ،‬ط السابعة‪8041 ،‬ه ‪8891 /‬م‪،‬‬

‫‪117‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪ -10‬دقة االنتخاب ومهارة االختيار‬


‫كما ال يفوتنا التنبيه على أمهية مصداقية االختيار‪ ،‬ودقة الفرز هلذه القلة الرائدة‪ ،‬فما‬
‫كل من تلقاه يصلح هلا‪ ،‬وال كل فصيح يصيح‪ ،‬وال كل من يصيح قادر على الرايدة والقيادة‪،‬‬
‫فميدان الكالم غري ميدان العمل‪ ،‬وميدان العمل غري ميدان اجلهاد‪ ،‬وميدان اجلهاد غري ميدان‬
‫اجلهاد املنتج الفاعل املؤثر‪ ،‬فتختار هلذا املشروع الضخم (جمموعة من النوابغ املخلصني الذين‬
‫تتوافر فيهم الصفات العقلية والنفسية واإلميانية والسلوكية‪ ،‬وأن يزكيهم عدد من الشخصيات‬
‫املعروفة‪ ،‬البصرية خبصائص الرجال‪ ،‬وأن يعقد هلم بعض االختبارات املتنوعة حتريرية وشفهية‪،‬‬
‫(‪((1‬‬
‫وحيسن أن يكونوا يف معهد يتعايشون فيه وحييون حياة رابنية‪ ،‬علمية دعوية أخوية جهادية)‬
‫ومن خالل هذا احلشد لنوعيات خاصة ميكن أن خيتار من بني هؤالء من يصلح‬
‫بعد التجربة واالختبار‪ ،‬خاصة بعد الرصد الراقب واملتابعة الواعية من تلمع فيه صفات الرايدة‬
‫والقيادة‪ ،‬وهذا ال أييت من خالل اجلمع العشوائي بل بعد انتخاب أفضل العناصر املؤهلة مث فرزها‬
‫ليتميز منهم من يتميز‪ ،‬وساعتها يتقدم اخلبري اجملرب امليداين ليختار على بصرية ووعي‪ ،‬و(لن‬
‫ختطئ عينك الرائد أبداً‪ ،‬ولعلك تصادف فىت من انشئة الدعوة مل يبلغ مبلغ الرجال‪ ،‬فتدرك أنه‬
‫هلا‪ ،‬وليس هو ابلذي مييز مقدمات الدعوة بعد‪...‬أول ما تقع عليه عينك‪ ،‬ومن النظرة األوىل‬
‫تقول‪ :‬هذا مبتغاي‪ .‬وملثل هذا نفتش عن منهجية الرتبية‪ ،‬وحناول تلمس املدارج اليت أتخذ‬
‫به صعدا‪ .‬لو كانت جمرد صيحة لرتكنا كل فصيح يصيح‪ ،‬لكنه علم الدعوة يقول‪ :‬ال‪ ،‬ليس‬
‫هو الصياح‪ ،‬وال جمرد العواطف‪ ،‬وال قفزات املستعجل‪ ،‬إمنا هي أنغام احلداء اليت تقود القوافل‬
‫فتوصلها‪ ،‬والبد أن نُعلم كل فصيح هذه الصنعة‪ .‬يف األنغام جتانس وتوافق‪ ،‬ومجال وتناسب‪،‬‬
‫وتدرج واستمرار‪ ،‬من الصفات املتماثالت‪ ،‬ولكن فيها أيضاً من النقائض‪ :‬السرعة والسكون‪،‬‬
‫والراتبة والتجديد‪ ،‬والعلو واهلبوط‪ ،‬وكل هذا التماثل والتناقض الزم لرتبية الرائد‪ ،‬فمتماثالته‬
‫تؤدي به إىل استواء النفس‪ ،‬ووحدة الفكر واتساقه‪ ،‬ومنهجية السري‪ ،‬والثبات على االرتباط‬
‫ابملنطلقات اإلميانية األساسية‪ ،‬وتناقضاته متكنه من التكيف مع الظرف‪ ،‬واملرونة إزاء املفاجأة‪،‬‬
‫(‪((1‬‬
‫وإتقان التملص واإلفالت والفر إذا مل �يُتَح له االقتحام ومواصلة الكر)‬

‫ص‪ ،172‬أولوايت احلركة اإلسالمية يف املرحلة القادمة‪ 37 :‬وما بعدها‪.‬‬


‫(‪ ((1‬أولوايت احلركة اإلسالمية يف املرحلة القادمة‪ ،48،58،‬بتصرف يسري‪.‬‬
‫(‪ ((1‬فضائح الفنت‪ ،‬حملمد أمحد الراشد‪،‬ص‪.6:‬‬

‫‪118‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي‬

‫‪ -11‬وال يفوتنا هنا أن نغري القائمني بصناعة القلة إبدامة النظر يف اتريخ املصلحني‬
‫اجملددين‪ ،‬كاألفغاين وحممد عبده‪ ،‬وحممد بن عبد الوهاب ورشيد رضا‪ ،‬والسنوسي‪ ،‬اإلدريسي‬
‫والبشري اإلبراهيمي‪ ،‬وابن ابديس‪ ،‬وبديع الزمان النورسي‪ ،‬وأورانك ذيب ‪ ،‬وأمحد السرهندي‪،‬‬
‫والبنا‪ ،‬واملودودي‪ ،‬والندوي‪ ،‬وغريهم مما يزخر هبم اترخينا احلديث واملعاصر‪ ،‬وهللا وحد بيده‬
‫مقاليد األمور‪ ،‬وإليه يرجع األمر كله‪.‬‬
‫‪ - 12‬أما عن املنهج واحملتوى‪ ،‬فهو واضح وضوح الشمس نِّ ٌ‬
‫بي بيا َن الدليل الساطع‪،‬‬
‫والربهان القاطع‪ ،‬هو نفس املنهج الذي اختاره هللا للبشرية‪ ،‬كلها‪ ،‬منهج جيمع بني متطلبات‬
‫العصر وضرورات الواقع‪ ،‬املنهج املتكامل الشامل لكل جنبات احلياة‪ ،‬فال يتضخم فيه شيء‬
‫على حساب آخر‪ ،‬وال يضمر فيه معىن حتيفا أو انتقاصا‪( ،‬وهو نفس املنهج الذي أخرج من‬
‫متاهات اجلاهلية خري أمة أخرجت للناس‪ ،‬والذي ميلك أن خيرج يف كل زمان ومكان اجليل‬
‫(‪((1‬‬
‫القائم على احلق‪ ،‬اجملاهد من أجله‪ ،‬الذي ال يضره من خالفه حىت أييت أمر هللا)‬
‫‪ - 13‬االنتقال من طور الكالم والتنظري إىل طور العمل والبناء‬
‫فقد ثبت واقعا‪ ،‬أن ميدان الكالم غري ميدان العمل وميدان العمل غري ميدان العمل املنتج‬
‫البناء‪ ،‬وسيظل الناس وقوفا حىت يقرنوا بني الكالم والعمل‪(،‬إن أصحاب األقالم يستطيعون‬
‫أن يصنعوا شيئا كثريا‪ ،‬ولكن بشرط واحد‪ :‬أن ميوتوا هم لتعيش أفكارهم‪ ،‬أن يطعموا أفكارهم‬
‫من حلومهم ودمائهم‪ ،‬فِداء لكلمة احلق‪ ،‬أن يقولوا ما يعتقدون أنه احلق‪ ،‬إن أفكاران وكلماتنا‬
‫تظل جثثا هامدة‪ ،‬حىت إذا متنا يف سبيلها أو غذيناها ابلدماء‪ ،‬انتفضت حية‪ ،‬وعاشت بني‬
‫األحياء‪...‬والكلمة ذاهتا ‪-‬مهما تكن خملصة وخالقة‪ -‬فإهنا ال تستطيع أن تفعل شيئا‪ ،‬قبل أن‬
‫تستحيل حركة‪ ،‬وأن تتقمص إنساان‪ ،‬الناس هم الكلمات احلية اليت تؤدي معانيها أبلغ أداء‪،‬‬
‫إن الفارق األساسي بني العقائد والفلسفات ‪ ،‬أن العقيدة كلمة حية تعمل يف كيان إنسان‪،‬‬
‫ويعمل على حتقيقها إنسان‪ ،‬أما الفلسفة فهي كلمة ميتة‪ ،‬جمردة من اللحم والدم‪ ،‬تعيش يف‬
‫(‪((1‬‬
‫ذهن‪ ،‬وتبقى ابردة ساكنة هناك)‬
‫وهذا هو السبيل الوحيد الذي ينقل الكالم من ميدان الرتف العلمي والسرف الثقايف‬
‫إىل ميدان اإلنتاج الفاعل البناء‪ ،‬ومن ميدان القول إىل ميدان التطبيق العملي الذي أيخذ بيد‬
‫البشرية إىل مراقي الصعود والكمال البشري‪.‬‬
‫(فإذا أراد العامل اإلسالمي أن يستأنف حياته‪ ،‬ويتحرر من رق غريه‪ ،‬وإذا كان يطمح‬
‫(‪ ((1‬حنو حركة إسالمية عاملية‪ ،‬فتحي يكن‪ ،‬ط‪:‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط اخلامسة‪7041،‬ه ‪7891/‬م‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫(‪ ((1‬دراسات إسالمية‪ 041 ،931 :‬ابختصار‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫إىل القيادة‪ ،‬فالبد إذن من االستقالل التعليمي‪ ،‬بل البد من الزعامة العلمية‪ ،‬وما هي ابألمر‬
‫اهلني؛ إهنا حتتاج إىل تفكري عميق‪ ،‬وحركة تدوين وأتليف واسعة‪ ،‬وخربة إىل درجة التحقيق‬
‫والنقد بعلوم العصر‪ ،‬مع التشبع بروح اإلسالم‪ ،‬واإلميان الراسخ أبصوله وتعاليمه‪ ،‬إهنا ملهمة‬
‫تنوء ابلعصبة أويل القوة‪ ،‬إمنا هي من شأن احلكومات اإلسالمية‪ ،‬فتنظم لذلك مجعيات‪ ،‬وختتار‬
‫هلا أساتذة ابرعني يف كل فن‪ ،‬فيضعون منهاجا تعليميا‪ ،‬جيمع بني حمكمات الكتاب والسنة‪،‬‬
‫وحقائق الدين اليت ال تتبدل وبني العلوم العصرية النافعة والتجربة واالختيار‪ ،‬ويدونون العلوم‬
‫العصرية للشباب اإلسالمي على أساس اإلسالم وبروح اإلسالم‪ ،‬وفيها كل ما حيتاج إليه النشء‬
‫اجلديد‪ ،‬مما ينظمون به حياهتم‪ ،‬وحيافظون به على كياهنم‪ ،‬ويستغنون به عن الغرب‪ ،‬ويستعدون‬
‫به للحرب‪ ،‬ويستخرجون به كنوز أرضهم‪ ،‬وينتفعون خبريات بالدهم‪ ،‬وينظمون مالية البالد‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ويديرون حكوماته على تعاليم اإلسالم‪ ،‬حبيث يظهر فضل النظام اإلسالمي يف‬
‫إدارة البالد وتنظيم الشئون املالية على النظم األوربية‪ ،‬وتنحل مشاكل اقتصادية عجزت أوراب‬
‫عن حلها‪ ،‬وابالستعداد الروحي‪ ،‬واالستعداد الصناعي واحلريب واالستقالل التعليمي ينهض‬
‫العامل اإلسالمي‪ ،‬ويؤدي رسالته‪ ،‬وينقذ العامل من االهنيار الذي يهدده‪ ،‬فليست القيادة ابهلزل‪،‬‬
‫إمنا هي جد اجلد‪ ،‬فتحتاج إىل جد واجتهاد‪ ،‬وكفاح وجهاد‪ ،‬واستعداد أي استعداد‬
‫(‪((1‬‬
‫كل امرئ جيري إىل يوم اهلياج مبا استعدا)‬

‫إننا أمة متلك من مقومات البقاء والنماء ما ال يتوفر لغريها من األمم‪ ،‬فقط حنتاج أن‬
‫ندرك رسالتنا ونعرف غايتنا‪ ،‬ومنضي بعزم إىل هدفنا بعد وضوح الغاية واستبانة الطريق‪ ،‬وقد‬
‫رصد هللا ﷻ ألمتنا من عوامل البقاء والنماء ما ميدها مبصادر القوة ومينحها دميومة احلياة؛‬
‫ألهنا األمة اخلامتة‪ ،‬صاحبة الرسالة األخرية‪ ،‬واحلضارة العاملية‪ ،‬واملنهج الوسط الذي جيمع بني‬
‫مقوالت الدين ومتطلبات احلياة‪.‬‬

‫(‪ ((1‬ماذا خسر العامل ابحنطاط املسلمني‪.772 ،672 :‬‬

‫‪120‬‬
‫اخلامتة‬
‫اخلامتة‬

‫اخلامتة أسأل اهلل حسنها‬


‫وبعد هذه الرحلة مع سنة من سنن هللا ﷻ ويف ضوء كتابه الكرمي‪ ،‬دستور البشرية‬
‫وهاديها‪ ،‬ومرشدها إىل نفعها وخريها وحاديها‪ ،‬عرفنا من خالهلا مفهوم سنة هللا ﷻ يف القلة‬
‫والكثرة‪ ،‬تتبعنا معىن القلة والكثرة لغة وقرآان‪ ،‬وابن من خالل هذا التتبع مدى التوافق والتطابق‬
‫بني اللغة ومضامني القرآن الكرمي‪ ،‬كما ابن من خالل التتبع صفات القلة احملمودة ومدى وعي‬
‫املسلمني احلريصني على الشهود احلضاري هبا واحلرص على التحلي بصفاهتا‪ ،‬وأن خيطا رفيعا‬
‫يربط بني القلة احملمودة على تطاول الزمان واملكان‪ ،‬من لدن نوح إىل حممد ﷺ إىل القلة يف‬
‫العصر احلديث‪ ،‬والصحوة اإلسالمية املعاصرة‪ ،‬كما ابنت صفات القلة املذمومة ومدى أثرها‬
‫يف فقدان خصائص القلة احلقيقية‪ ،‬ومدى السننية يف األوىل والثانية‪.‬‬
‫كما اتضح من خالل املعايشة صفات الكثرة احملمودة وكيف يَفيد منها املسلمون يف‬
‫عصرهم احلاضر‪ ،‬وصفات الكثرة املذمومة وكيف يتقيها من يرغب يف الصالح والفالح‪،‬‬
‫والسننية املطردة يف ذلك‪.‬‬
‫كما اتضح مدى حاجة املسلمني إىل الوعي هبذه السنة خاصة والسنن عامة‪ ،‬استشرافا‬
‫إىل مستقبل يكون رائدا كما أراد هللا ﷻ‪ ،‬وابن موقف املسلمني من سنة هللا يف القلة والكثرة‪،‬‬
‫ورايدة القلة العاملة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة‪ ،‬وأن صناعة هذه القلة ابت‬
‫من الواجبات املتحتمة على األمة املسلمة أفرادا ومجاعات وشعواب وحكومات‪ ،‬ويزداد التحتم‬
‫على قدر الوعي مبدى خطورة فقد القلة الرائدة‪ ،‬وأن صناعة هذه القلة ليس من املستحيل‪ ،‬بل‬
‫العامل كله من حولنا ميضي هبذه املنهجية اليت سبق القرآ ُن هبا ودعا إليها وأكدها‪ ،‬وأن غياب‬
‫احلكومات الراعية ملثل ذلك ال يعفي النخبة املثقفة والقيادة الفكرية من املسؤولية واملسائلة‬
‫أمام هللا والتاريخ‪.‬‬
‫وهللا وحده بيده مقاليد األمور وهو وحده املستعان وعليه التكالن‪.‬‬
‫الفقري إىل عفو ربه واملنسلخ من حوله وطوله وقوته والالئذ حبول هللا وطوله وقوته‬
‫رمضان خميس زكي الغريب‬
‫حائل‪ /‬اململكة العربية السعودية‬
‫يف اخلامس من شهر ربيع األول عام ‪1433‬ه‬
‫الثامن والعشرين من يناير ‪2012‬م‬

‫‪123‬‬
‫املصادر واملراجع‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫أهم املصادر واملراجع‬


‫أوالً‪ :‬القرآن الكرمي‪.‬‬
‫اثنياً‪:‬‬
‫‪ 1.1‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ :‬عبد الرمحن بن أيب بكر‪ ،‬جالل الدين السيوطي (املتوىف‪911 :‬هـ)‪،‬‬
‫احملقق‪ :‬حممد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬الناشر‪ :‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬الطبعة‪1394 :‬هـ‪/‬‬
‫‪ 1974‬م‪.‬‬
‫‪2.2‬أساس البالغة‪ :‬أبو القاسم حممود بن عمرو بن أمحد‪ ،‬الزخمشري جار هللا (املتوىف‪538 :‬هـ)‪،‬حتقيق‪:‬‬
‫حممد ابسل عيون السود‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت – لبنان‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪1419 ،‬‬
‫هـ ‪ 1998 -‬م‬
‫‪ 3.3‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل‪ :‬انصر الدين أبو سعيد عبد هللا بن عمر بن حممد الشريازي البيضاوي‬
‫(املتوىف‪685 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬حممد عبد الرمحن املرعشلي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار إحياء الرتاث العريب – بريوت‪،‬‬
‫الطبعة‪ :‬األوىل ‪ 1418 -‬هـ‬
‫‪4.4‬أيسر التفاسري لكالم العلي الكبري‪ :‬جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر‬
‫اجلزائري‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة العلوم واحلكم‪ ،‬املدينة املنورة‪ ،‬اململكة العربية السعودية‪ ،‬الطبعة‪:‬‬
‫اخلامسة‪1424 ،‬هـ‪2003/‬م‬
‫‪5.5‬حبر العلوم‪ :‬أبو الليث نصر بن حممد بن أمحد بن إبراهيم السمرقندي (املتوىف‪373 :‬هـ)‪.‬‬
‫‪6.6‬البحر احمليط يف التفسري‪ :‬أبو حيان حممد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثري‬
‫الدين األندلسي (املتوىف‪745 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬صدقي حممد مجيل‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الفكر – بريوت‪،‬‬
‫الطبعة‪ 1420 :‬هـ‪.‬‬
‫‪7.7‬البحر املديد يف تفسري القرآن اجمليد‪ :‬أبو العباس أمحد بن حممد بن املهدي بن عجيبة ‪،‬حلسين‬
‫األجنري الفاسي الصويف (املتوىف‪1224 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬أمحد عبد هللا القرشي رسالن‪ ،‬الناشر‪:‬‬
‫الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة‪ ،‬الطبعة‪ 1419 :‬هـ‪.‬‬
‫‪8.8‬الربهان يف علوم القرآن‪ :‬املؤلف‪ :‬أبو عبد هللا بدر الدين حممد بن عبد هللا بن هبادر الزركشي‬
‫(املتوىف‪794 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬حممد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪ 1376 ،‬هـ ‪ 1957 -‬م‪،‬‬
‫الناشر‪ :‬دار إحياء الكتب العربية عيسى الباىب احلليب وشركائه‪.‬‬
‫‪9.9‬املسلمون من التبعية والفتنة إىل القيادة والتمكني‪ ،‬د عبد احلليم عويس‪،114 ،‬ط‪ :‬مكتبة‬
‫العبيكان‪ ،‬ط أوىل ‪1427‬هـ ‪2006 ،‬م‪.‬‬
‫‪1010‬أولوايت احلركة اإلسالمية يف املرحلة القادمة‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬ط‪ :‬مكتبة وهبة‪.‬‬
‫‪1111‬بصائر ذوي التمييز يف لطائف الكتاب العزيز‪ :‬املؤلف‪ :‬جمد الدين أبو طاهر حممد بن يعقوب‬

‫‪126‬‬
‫املراجع‬

‫الفريوزآابدى (املتوىف‪817 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬حممد علي النجار‪ ،‬الناشر‪ :‬اجمللس األعلى للشئون اإلسالمية‬
‫‪ -‬جلنة إحياء الرتاث اإلسالمي‪ ،‬القاهرة‪.،‬‬
‫‪1212‬التحرير والتنوير «حترير املعىن السديد وتنوير العقل اجلديد من تفسري الكتاب اجمليد»‪:‬‬
‫حممد الطاهر بن حممد بن حممد الطاهر بن عاشور التونسي (املتوىف ‪1393‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬الدار‬
‫التونسية للنشر– تونس‪ ،‬سنة النشر‪ 1984 :‬هـ‬
‫‪1313‬تفسري ابن فورك من أول سورة املؤمنون ‪ -‬آخر سورة السجدة‪ :‬حممد بن احلسن بن فورك‬
‫األنصاري األصبهاين‪ ،‬أبو بكر (املتوىف‪406 :‬هـ)‪،‬دراسة وحتقيق‪ :‬جمموعة من الباحثني‪ ،‬الناشر‪:‬‬
‫جامعة أم القرى ‪ -‬اململكة العربية السعودية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ 2009 - 1430 :‬م‪.‬‬
‫‪1414‬تفسري أيب السعود = إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي‪ :‬أبو السعود العمادي حممد‬
‫بن حممد بن مصطفى (املتوىف‪982 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬دار إحياء الرتاث العريب – بريوت‬
‫‪1515‬التفسري احلديث [مرتب حسب ترتيب النزول]‪ :‬حممد عزت دروزة‪ :‬الناشر‪ :‬دار إحياء الكتب‬
‫العربية – القاهرة‪ ،‬الطبعة‪ 1383 :‬هـ‪.‬‬
‫‪1616‬تفسري الشعراوي – اخلواطر‪ :‬حممد متويل الشعراوي (املتوىف‪1418 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬مطابع‬
‫أخبار اليوم‪( ،‬ليس على الكتاب األصل ‪ -‬املطبوع ‪ -‬أي بياانت عن رقم الطبعة أو غريه‪ ،‬غري‬
‫أن رقم اإليداع يوضح أنه نشر عام ‪ 1997‬م)‬
‫‪ 1717‬تفسري القرآن العزيز‪ :‬أبو عبد هللا حممد بن عبد هللا بن عيسى بن حممد املري‪ ،‬اإللبريي‬
‫املعروف اببن أيب َزَمنِني املالكي (املتوىف‪399 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬أبو عبد هللا حسني بن عكاشة‬
‫‪ -‬حممد بن مصطفى الكنز‪ ،‬الناشر‪ :‬الفاروق احلديثة ‪ -‬مصر‪ /‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪،‬‬
‫‪1423‬هـ ‪2002 -‬م‬
‫‪ 1818‬تفسري القرآن العظيم البن أيب حامت‪ :‬أبو حممد عبد الرمحن بن حممد بن إدريس بن املنذر‬
‫التميمي‪ ،‬احلنظلي‪ ،‬الرازي ابن أيب حامت (املتوىف‪327 :‬هـ)‪ ،‬أسعد حممد الطيب‪ ،‬الناشر‪:‬‬
‫مكتبة نزار مصطفى الباز ‪ -‬اململكة العربية السعودية‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثالثة ‪ 1419 -‬هـ‬
‫‪ 1919‬تفسري القرآن العظيم‪ :‬أبو الفداء إمساعيل بن عمر بن كثري القرشي البصري مث الدمشقي‬
‫(املتوىف‪774 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬سامي بن حممد سالمة‪ ،‬الناشر‪ :‬دار طيبة للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة‪:‬‬
‫الثانية ‪1420‬هـ ‪ 1999 -‬م‪.‬‬
‫‪ 2020‬تفسري القرآن‪ :‬أبو املظفر‪ ،‬منصور بن حممد بن عبد اجلبار ابن أمحد املروزى السمعاين‬
‫التميمي احلنفي مث الشافعي (املتوىف‪489 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬ايسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن‬
‫غنيم‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الوطن‪ ،‬الرايض – السعودية‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪1418 ،‬هـ‪1997 -‬م‬
‫‪2121‬تفسري املاوردي = النكت والعيون‪ :‬أبو احلسن علي بن حممد بن حممد بن حبيب البصري‬
‫البغدادي‪ ،‬الشهري ابملاوردي (املتوىف‪450 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬السيد ابن عبد املقصود بن عبد الرحيم‪،‬‬
‫الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بريوت ‪ /‬لبنان‪.‬‬
‫‪127‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪ 2222‬تفسري املراغي‪ :‬أمحد بن مصطفى املراغي (املتوىف‪1371 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬شركة مكتبة ومطبعة‬
‫مصطفى الباىب احلليب وأوالده مبصر‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪ 1365 ،‬هـ ‪ 1946 -‬م‬
‫‪2323‬التفسري املظهري‪ :‬املظهري‪ ،‬حممد ثناء هللا‪ ،‬احملقق‪ :‬غالم نيب التونسي‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة‬
‫الرشدية‪ ،‬الباكستان‪ ،‬الطبعة‪ 1412 :‬هـ‪.‬‬
‫‪2424‬تفسري جماهد‪ :‬أبو احلجاج جماهد بن جرب التابعي املكي القرشي املخزومي (املتوىف‪:‬‬
‫‪104‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬الدكتور حممد عبد السالم أبو النيل‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الفكر اإلسالمي احلديثة‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪ 1410 ،‬هـ ‪ 1989 -‬م‬
‫‪ 2525‬تفسري مقاتل بن سليمان‪ :‬أبو احلسن مقاتل بن سليمان بن بشري األزدي البلخى (املتوىف‪:‬‬
‫‪150‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬عبد هللا حممود شحاته‪ ،‬الناشر‪ :‬دار إحياء الرتاث – بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‬
‫‪ 1423 -‬هـ‪.‬‬
‫‪2626‬هتذيب اللغة‪ ،‬املؤلف‪ :‬حممد بن أمحد بن األزهري اهلروي‪ ،‬أبو منصور (املتوىف‪370 :‬هـ)‪،‬احملقق‪:‬‬
‫حممد عوض مرعب‪ ،‬الناشر‪ :‬دار إحياء الرتاث العريب – بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪2001 ،‬م‬
‫‪ 2727‬تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنان‪ :‬عبد الرمحن بن انصر بن عبد هللا السعدي‬
‫(املتوىف‪1376 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬عبد الرمحن بن معال اللوحيق‪ ،‬الناشر‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‬
‫‪1420‬هـ ‪ 2000-‬م‪.‬‬
‫‪ 2828‬جامع البيان يف أتويل القرآن‪ :‬حممد بن جرير بن يزيد بن كثري بن غالب اآلملي‪ ،‬أبو جعفر‬
‫الطربي (املتوىف‪310 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬أمحد حممد شاكر‪ ،‬الناشر‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪،‬‬
‫‪ 1420‬هـ ‪ 2000 -‬م‬
‫‪ 2929‬صحيح البخاري‪ ،‬املؤلف‪ :‬حممد بن إمساعيل أبو عبدهللا البخاري اجلعفي‪ ،‬احملقق‪ :‬حممد زهري بن انصر الناصر‪ ،‬الناشر‪:‬‬
‫دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية إبضافة ترقيم حممد فؤاد عبد الباقي)‪،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪،‬‬
‫‪1422‬هـ‬
‫‪3030‬اجلامع ألحكام القرآن‪ ،‬تفسري القرطيب‪ :‬أبو عبد هللا حممد بن أمحد بن أيب بكر بن فرح‬
‫األنصاري اخلزرجي مشس الدين القرطيب (املتوىف ‪671 :‬هـ)‪،‬ت حقيق ‪ :‬أمحد الربدوين إبراهيم‬
‫أطفيش‪ ،‬الناشر ‪ :‬دار الكتب املصرية – القاهرة‪ ،‬الطبعة ‪ :‬الثانية ‪1384 ،‬هـ ‪ 1964 -‬م‪،‬‬
‫‪3131‬مجهرة األمثال‪ :‬أبو هالل احلسن بن عبد هللا بن سهل بن سعيد بن حيىي بن مهران العسكري‬
‫(املتوىف‪ :‬حنو ‪395‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬دار الفكر – بريوت‬
‫‪3232‬حىت يغريوا ما أبنفسهم‪ ،‬جودت سعيد‪ ،‬ط الثالثة‪1397 ،‬هـ‪1977،‬م‪.‬‬
‫‪3333‬خزانة األدب ولب لباب لسان العرب‪ :‬عبد القادر بن عمر البغدادي (املتوىف‪:‬‬
‫‪1093‬هـ)‪،‬حتقيق وشرح‪ :‬عبد السالم حممد هارون‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‪:‬‬
‫الرابعة‪ 1418 ،‬هـ ‪ 1997 -‬م‪.‬‬
‫‪3434‬دراسات إسالمية‪ ،‬لألستاذ سيد قطب‪ ،‬ط‪ :‬دار الشروق‪ 1393 ،‬هـ ‪1973 /‬م ‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫املراجع‬

‫‪3535‬الدر املنثور‪ :‬عبد الرمحن بن أيب بكر‪ ،‬جالل الدين السيوطي (املتوىف‪911 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬دار‬
‫الفكر – بريوت‪.‬‬
‫‪3636‬ديوان املتنيب ط‪ :‬دار الزهراء‪ ،‬بريوت لبنان‪،‬عناية د عبد الوهاب عزام‬
‫‪3737‬روح البيان‪ :‬إمساعيل حقي بن مصطفى اإلستانبويل احلنفي اخللويت ‪ ،‬املوىل أبو الفداء (املتوىف‪:‬‬
‫‪1127‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬دار الفكر – بريوت‪.‬‬
‫‪3838‬زاد املسري يف علم التفسري‪ :‬مجال الدين أبو الفرج عبد الرمحن بن علي بن حممد اجلوزي‬
‫(املتوىف‪597 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬عبد الرزاق املهدي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتاب العريب – بريوت‪،‬الطبعة‪:‬‬
‫األوىل ‪ 1422 -‬هـ‬
‫‪ 3939‬سنن ابن ماجه‪ ،‬املؤلف‪ :‬ابن ماجة أبو عبد هللا حممد بن يزيد القزويين‪ ،‬وماجة اسم أبيه يزيد‬
‫(املتوىف‪273 :‬هـ)‪،‬حتقيق‪ :‬حممد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار إحياء الكتب العربية ‪ -‬فيصل‬
‫عيسى البايب احلليب‪.‬‬
‫‪ 4040‬سنن أيب داود ‪،‬املؤلف‪ :‬أبو داود سليمان بن األشعث بن إسحاق بن بشري بن شداد بن‬
‫الس ِج ْستاين (املتوىف‪275 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬حممد حميي الدين عبد احلميد‪ ،‬الناشر‪:‬‬ ‫ِ‬
‫عمرو األزدي ّ‬
‫املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا – بريوت‪،‬‬
‫‪4141‬سنن الرتمذي‪ ،‬املؤلف‪ :‬حممد بن عيسى بن َس ْورة بن موسى بن الضحاك‪ ،‬الرتمذي‪ ،‬أبو‬
‫عيسى (املتوىف‪279 :‬هـ)‪،‬حتقيق وتعليق‪،:‬أمحد حممد شاكر وآخرين الناشر‪ :‬شركة مكتبة‬
‫ومطبعة مصطفى البايب احلليب – مصر‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثانية‪ 1395 ،‬هـ ‪ 1975 -‬م‪.‬‬
‫‪4242‬سنن هللا يف اجملتمع‪ ،‬الدار السعودية للنشر والتوزيع‪ ،‬للعالمة حممد الصادق عرجون‪ ،‬ط‬
‫الثالثة‪1984 /1404،‬م‬
‫‪ -434343‬شرح ديوان أيب متام للتربيزي‪ ،‬ط‪:‬دار الكتاب العريب‪ ،‬ط الثانية‪1414،‬ه‪1994،‬م‪.‬‬
‫‪4444‬شروط النهضة‪ ،‬مالك بن نيب‪،47 :‬ط‪ :‬دار الفكر‪1399‬ه ‪1979،‬م‪.‬‬
‫‪4545‬الصحاح اتج اللغة وصحاح العربية‪ :‬أبو نصر إمساعيل بن محاد اجلوهري الفارايب (املتوىف‪:‬‬
‫‪393‬هـ)‪،‬حتقيق‪ :‬أمحد عبد الغفور عطار‪ ،‬الناشر‪ :‬دار العلم للماليني – بريوت‪ ،‬الطبعة‪:‬‬
‫الرابعة ‪ 1407‬هـ‍ ‪ 1987 -‬م‪.‬‬
‫‪4646‬صناعة احلياة‪ ،‬حملمد أمحد الراشد ‪ ،‬ط‪:‬دار احملراب‪.‬‬
‫‪ -474747‬العقد الفريد‪ :‬أبو عمر‪ ،‬شهاب الدين أمحد بن حممد بن عبد ربه ابن حبيب ابن‬
‫حدير بن سامل املعروف اببن عبد ربه األندلسي (املتوىف‪328 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية‬
‫– بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪ 1404 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪4848‬فضائح الفنت‪ ،‬حملمد أمحد الراشد‪ ،‬ط‪ :‬دار احملراب‪.‬‬
‫‪4949‬املدخل إىل التفسري املوضوعي‪ ،‬ألستاذان د عبد الستار فتح هللا سعيد ط‪:‬دار التوزيع والنشر‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ط الثانية‪1411،‬ه‪1991،‬م‪.‬‬
‫‪129‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪5050‬غرائب القرآن ورغائب الفرقان‪ :‬نظام الدين احلسن بن حممد بن حسني القمي النيسابوري‬
‫(املتوىف‪850 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬الشيخ زكراي عمريات‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية – بريوت‪،‬‬
‫الطبعة‪ :‬األوىل ‪ 1416 -‬هـ‪.‬‬
‫‪5151‬الفروق اللغوية‪ :‬أبو هالل احلسن بن عبد هللا بن سهل بن سعيد بن حيىي بن مهران العسكري‬
‫(املتوىف‪ :‬حنو ‪395‬هـ)‪،‬حققه وعلق عليه‪ :‬حممد إبراهيم سليم‪ ،‬الناشر‪ :‬دار العلم والثقافة للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬القاهرة – مصر‪.‬‬
‫‪5252‬يف ظالل القرآن‪ :‬سيد قطب إبراهيم حسني الشاريب (املتوىف‪1385 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬دار الشروق‬
‫‪ -‬بريوت‪ -‬القاهرة‪،‬الطبعة‪ :‬السابعة عشر ‪ 1412 -‬هـ‬
‫‪5353‬القراءات العشر املتواترة‪ ،‬هبامش املصحف الكرمي‪ ،‬حممد علي كرمي‪ ،‬ط‪ :‬دار املهاجر‪ ،‬املدينة‬
‫املنورة‪ ،‬ط‪ :‬الثالثة‪1414،‬هـ‪1994 ،‬م‪.‬‬
‫‪5454‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل‪ :‬أبو القاسم حممود بن عمرو بن أمحد‪ ،‬الزخمشري جار‬
‫هللا (املتوىف‪538 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬دار الكتاب العريب – بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثالثة ‪ 1407 -‬هـ‪،‬‬
‫الكتاب مذيل حباشية (االنتصاف فيما تضمنه الكشاف) البن املنري اإلسكندري (ت ‪)683‬‬
‫وختريج أحاديث الكشاف لإلمام الزيلعى]‬
‫‪5555‬الكشف والبيان عن تفسري القرآن‪ ::‬أمحد بن حممد بن إبراهيم الثعليب‪ ،‬أبو إسحاق (املتوىف‪:‬‬
‫‪427‬هـ)‪،‬حتقيق‪ :‬اإلمام أيب حممد بن عاشور‪ ،‬مراجعة وتدقيق‪ :‬األستاذ نظري الساعدي‪،‬‬
‫الناشر‪ :‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت – لبنان‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل ‪ ،1422‬هـ ‪ 2002 -‬م‪.‬‬
‫‪5656‬لباب التأويل يف معاين التنزيل‪ :‬عالء الدين علي بن حممد بن إبراهيم بن عمر الشيحي أبو‬
‫احلسن‪ ،‬املعروف ابخلازن (املتوىف‪741 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬تصحيح حممد علي شاهني‪ ،‬الناشر‪ :‬دار‬
‫الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل ‪ 1415 -‬هـ‬
‫‪5757‬اللباب يف علوم الكتاب‪ :‬أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل احلنبلي الدمشقي النعماين‬
‫(املتوىف‪775 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬الشيخ عادل أمحد عبد املوجود والشيخ علي حممد معوض‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب‬
‫العلمية ‪ -‬بريوت ‪ /‬لبنان‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪ 1419 ،‬هـ ‪1998-‬‬
‫‪5858‬لطائف اإلشارات‪ ،‬تفسري القشريي‪ :‬عبد الكرمي بن هوازن بن عبد امللك القشريي (املتوىف‪:‬‬
‫‪465‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬إبراهيم بسيوين‪ ،‬الناشر‪ :‬اهليئة املصرية العامة للكتاب – مصر‪،‬الطبعة‪ :‬الثالثة‪.‬‬
‫‪5959‬ماذا خسر العامل ابحنطاط املسلمني‪ ،‬أليب احلسن الندوي‪ ،‬ط‪ :‬دار املعارف‪ ،‬ط السابعة‪،‬‬
‫‪1408‬ه ‪1988 /‬م‪.‬‬
‫‪6060‬جممل اللغة البن فارس‪ ،‬املؤلف‪ :‬أمحد بن فارس بن زكرايء القزويين الرازي‪ ،‬أبو احلسني‬
‫(املتوىف‪395 :‬هـ)‪،‬دراسة وحتقيق‪ :‬زهري عبد احملسن سلطان‪ ،‬دار النشر‪ :‬مؤسسة الرسالة –‬
‫بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1406 -‬هـ ‪ 1986 -‬م‬
‫‪6161‬حماسن التأويل‪ :‬املؤلف‪ :‬حممد مجال الدين بن حممد سعيد بن قاسم احلالق القامسي (املتوىف‪:‬‬
‫‪130‬‬
‫املراجع‬

‫‪1332‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬حممد ابسل عيون السود‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة‪:‬‬
‫األوىل ‪ 1418 -‬هـ‪.‬‬
‫‪ 6262‬احملرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز‪ :‬أبو حممد عبد احلق بن غالب بن عبد الرمحن بن متام‬
‫بن عطية األندلسي احملاريب (املتوىف‪542 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬عبد السالم عبد الشايف حممد‪ ،‬الناشر‪:‬‬
‫دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪ 1422‬هـ‪.‬‬
‫‪6363‬املخصص‪ :‬أبو احلسن علي بن إمساعيل بن سيده املرسي (املتوىف‪458 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬خليل‬
‫إبراهيم جفال‪ ،‬الناشر‪ :‬دار إحياء الرتاث العريب – بريوت‪،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪1417 ،‬هـ ‪1996‬م‪.‬‬
‫‪6464‬مدخل على سنن الصريورة االستخالفية على ضوء نظرية التدافع والتجديد‪ ،‬الطيب برغوث‪.‬‬
‫‪6565‬مراح لبيد لكشف معىن القرآن اجمليد‪ :‬حممد بن عمر نووي اجلاوي البنتين إقليما‪ ،‬التناري‬
‫بلدا (املتوىف‪1316 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬حممد أمني الصناوي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية – بريوت‪،‬‬
‫الطبعة‪ :‬األوىل ‪ 1417 -‬هـ‪.‬‬
‫‪6666‬مستخرج أيب عوانة‪ :‬أبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم النيسابوري اإلسفراييين (املتوىف‪:‬‬
‫‪316‬هـ)‪،‬حتقيق‪ :‬أمين بن عارف الدمشقي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار املعرفة – بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪،‬‬
‫‪1419‬هـ‪1998 -‬م‪.‬‬
‫‪6767‬املستدرك على الصحيحني‪ :‬أبو عبد هللا احلاكم حممد بن عبد هللا بن حممد بن محدويه بن‬
‫نُعيم بن احلكم الضيب السورة طهماين النيسابوري املعروف اببن البيع (املتوىف‪405 :‬هـ)‪،‬حتقيق‪:‬‬
‫مصطفى عبد القادر عطا‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية – بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪1411 ،‬‬
‫– ‪1990‬‬
‫‪6868‬مسند ابن أيب شيبة‪ :‬أبو بكر بن أيب شيبة‪ ،‬عبد هللا بن حممد بن إبراهيم بن عثمان بن‬
‫خواسيت العبسي (املتوىف‪235 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬عادل بن يوسف العزازي و أمحد بن فريد املزيدي‪،‬‬
‫الناشر‪ :‬دار الوطن – الرايض‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪1997 ،‬م‪.‬‬
‫‪6969‬مسند البزار املنشور ابسم البحر الزخار‪ :‬أبو بكر أمحد بن عمرو بن عبد اخلالق بن خالد‬
‫بن عبيد هللا العتكي املعروف ابلبزار (املتوىف‪292 :‬هـ)‪ ،‬احملقق‪ :‬حمفوظ الرمحن زين هللا‪،‬‬
‫وآخرين‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة العلوم واحلكم ‪ -‬املدينة املنورة‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪( ،‬بدأت ‪1988‬م‪،‬‬
‫وانتهت ‪2009‬م)‬
‫‪7070‬معامل التنزيل يف تفسري القرآن‪ :‬حمليي السنة ‪ ،‬أيب حممد احلسني بن مسعود بن حممد بن الفراء‬
‫البغوي الشافعي (املتوىف ‪510 :‬هـ)‪،‬احملقق ‪ :‬عبد الرزاق املهدي‪،‬الناشر ‪ :‬دار إحياء الرتاث‬
‫العريب –بريوت‪ ،‬الطبعة ‪ :‬األوىل‪ 1420 ،‬هـ‬
‫‪7171‬معجم الفروق اللغوية‪ ،‬املؤلف‪ :‬أبو هالل احلسن بن عبد هللا بن سهل بن سعيد بن حيىي بن‬
‫مهران العسكري (املتوىف‪ :‬حنو ‪395‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬الشيخ بيت هللا بيات‪ ،‬ومؤسسة النشر اإلسالمي‪،‬‬
‫الناشر‪ :‬مؤسسة النشر اإلسالمي التابعة جلماعة املدرسني بـ «قم»‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪1412 ،‬هـ‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم‬

‫‪7272‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬املؤلف‪ :‬أمحد بن فارس بن زكرايء القزويين الرازي‪ ،‬أبو احلسني (املتوىف‪:‬‬
‫‪395‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬عبد السالم حممد هارون‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الفكر‪ ،‬عام النشر‪1979 :‬م‪.‬‬
‫‪7373‬مفاتيح الغيب = التفسري الكبري‪ :‬أبو عبد هللا حممد بن عمر بن احلسن بن احلسني التيمي‬
‫الرازي امللقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (املتوىف‪606 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬دار إحياء الرتاث‬
‫العريب – بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثالثة ‪ 1420 -‬هـ‪.‬‬
‫‪ 7474‬املفردات يف غريب القرآن‪ :‬أبو القاسم احلسني بن حممد املعروف ابلراغب األصفهاىن‬
‫(املتوىف‪502 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬صفوان عدانن الداودي‪،‬الناشر‪ :‬دار القلم‪ ،‬الدار الشامية ‪ -‬دمشق‬
‫بريوت‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل ‪ 1412 -‬هـ‪.‬‬
‫‪ 7575‬مفهوم السنن الرابنية من اإلدراك إىل التسخير‪ :‬رمضان مخيس زكي الغريب‪ ،‬ط‪ :‬مكتبة‬
‫الشروق الدولية‪ ،‬بتقدمي د‪.‬حممد عمارة‪.‬‬
‫الزْرقاين (املتوىف‪1367 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬مطبعة‬ ‫‪7676‬مناهل العرفان يف علوم القرآن‪ :‬حممد عبد العظيم ُّ‬
‫عيسى البايب احلليب وشركاه‪ ،‬الطبعة‪ :‬الطبعة الثالثة‪.‬‬
‫‪7777‬منهجية الرتبية الدعوية‪ ،‬حممد أمحد الراشد ‪،‬ط‪ :‬دار احملراب‪ ،‬ط‪ :‬أوىل‪1422‬هـ‪2001 ،‬م‪.‬‬
‫‪7878‬املوسوعة القرآنية‪ :‬إبراهيم بن إمساعيل األبياري (املتوىف‪1414 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬مؤسسة سجل‬
‫العرب‪ ،‬الطبعة‪ 1405 :‬هـ‪.‬‬
‫‪7979‬حنو حركة إسالمية عاملية‪ ،‬فتحي يكن‪ ،‬ط‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط اخلامسة‪1407،‬ه ‪1987/‬م‪.‬‬
‫‪ 8080‬هناية األرب يف فنون األدب‪ :‬أمحد بن عبد الوهاب بن حممد بن عبد الدائم القرشي‬
‫التيمي البكري‪ ،‬شهاب الدين النويري (املتوىف‪733 :‬هـ)‪،‬الناشر‪ :‬دار الكتب والواثئق القومية‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪ 1423 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪8181‬اهلداية إىل بلوغ النهاية يف علم معاين القرآن وتفسريه‪ ،‬وأحكامه‪ ،‬ومجل من فنون علومه‪ :‬أبو‬
‫حممد مكي بن أيب طالب حمَّوش بن حممد بن خمتار القيسي القريواين مث األندلسي القرطيب‬
‫املالكي (املتوىف‪437 :‬هـ)‪،‬احملقق‪ :‬جمموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا والبحث‬
‫العلمي ‪ -‬جامعة الشارقة‪ ،‬إبشراف أ‪ .‬د‪ :‬الشاهد البوشيخي‪ ،‬الناشر‪ :‬جمموعة حبوث الكتاب‬
‫والسنة ‪ -‬كلية الشريعة والدراسات اإلسالمية ‪ -‬جامعة الشارقة‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪1429 ،‬‬
‫هـ ‪ 2008 -‬م‪.‬‬
‫‪8282‬الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز‪ :‬أبو احلسن علي بن أمحد بن حممد بن علي الواحدي‪،‬‬
‫النيسابوري‪ ،‬الشافعي (املتوىف‪468 :‬هـ)‪،‬حتقيق‪ :‬صفوان عدانن داوودي‪ ،‬دار النشر‪ :‬دار القلم‬
‫‪ ،‬الدار الشامية ‪ -‬دمشق‪ ،‬بريوت‪،‬الطبعة‪:‬األوىل‪ 1415،‬هـ‪.‬‬
‫‪8383‬الوسيط يف تفسري القرآن اجمليد‪ :‬أبو احلسن علي بن أمحد بن حممد بن علي الواحدي‪،‬‬
‫النيسابوري‪ ،‬الشافعي (املتوىف‪468 :‬هـ)‪ ،‬حتقيق وتعليق‪ :‬الشيخ عادل أمحد عبد املوجود‬
‫وآخرين‪ ،‬الناشر‪ :‬دار الكتب ‪،‬العلمية‪ ،‬بريوت – لبنان‪ ،‬الطبعة‪ :‬األوىل‪ 1415 ،‬هـ‪1994 -‬‬
‫‪132‬‬
‫فهرس احملتويات‬
‫الفهرس‬

‫فهرس املوضوعات‬ ‫‪‬‬


‫مقدمة ‪5........................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬القلة‪ :‬مفهومها‪ ،‬وصفاهتا‪ ،‬وسنن هللا فيها ‪11..............‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم سنة هللا يف القلة‪ ،‬يف اللغة والقرآن‪13.........‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬القلة احملمودة صفاهتا وخصائصها يف القرآن‪18.......‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬القلة املذمومة وصفاهتا ‪43........................‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬سنن هللا يف القلة‪53...............................‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬الكثرة مفهومها‪ ،‬وصفاهتا‪ ،‬وسنن هللا فيها ‪58..............‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم سنة هللا يف الكثرة‪ ،‬يف اللغة والقرآن‪60........‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬الكثرة احملمودة‪ ،‬صفاهتا وخصائصها يف القرآن‪63.....‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬الكثرة املذمومة‪ ،‬صفاهتا وخصائصها يف القرآن ‪74...‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬سنن هللا يف الكثرة ‪92.............................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف املسلمني من سنة هللا يف القلة والكثرة ‪97..........‬‬
‫املبحث األول‪ :‬رايدة القلة وأثرها يف الشهود احلضاري ‪99...........‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬فقه صناعة القلة الرائدة وموقف األمة منها‪109.......‬‬
‫اخلامتة ‪123..........................................................‬‬
‫املصادر واملراجع ‪126................................................‬‬

‫‪.‬‬

‫‪136‬‬

You might also like