Professional Documents
Culture Documents
2y10UquQyT9AlMvszQFEYIgo7.eSj1nGsJ1WSj5gEmVVEp6NOfFAo627a
2y10UquQyT9AlMvszQFEYIgo7.eSj1nGsJ1WSj5gEmVVEp6NOfFAo627a
مقدمة
أمحد هللا رب العاملني ،وأصلي وأسلم على املبعوث رمحة وهداية للعاملنيٍ ،
حممد ﷺ وآله
وصحبه والتابعني ،اللهم إان نربأ من حولنا وطولنا وقواتنا ،ونلوذ حبولك وطولك وقوتك ،فال
تكلنا إىل أنفسنا طرفة عني وال قبضتها اي أرحم الرامحني ،اللهم إان نسألك اي حنان اي منان اي
بديع السماوات واألرض اي ذا اجلالل واإلكرام أن جتعل أقوالنا وأعمالنا وحركاتنا وسكناتنا لك
خالصة إنك على كل شيء قدير ،اللهم إان نسألك إمياان ال يرتد ،ونعيما ال ينفد ،وقرة عني
ال تنقطع ،ونسألك مرافقة النبيني يف اجلنة...
أمس احلاجة إىل استلهام رأي القرآن الكرمي ِ
أما بعد :فإن املسلمني اليوم ،وكل يوم يف ّ
يف قضاايهم وتصوراهتم ،وهم اليوم يعيشون عصرا تتنازعه األفكار من كل صوب ،وتتناوشه
النظرايت البشرية من كل حدب ،ويف هذا الضجيج من الرؤى املتباينة ،والتقدم التقين الباهر
يشعرون ابلقلة والذلة ،وبعضهم يشعر فكراي أو عملياً أبن التدين عامة سبب من أسباب
جرمتوحرمت بل َّ الرجوع احلضاري ،خالطني بني دايانت عزلت أصحاهبا عن واقع احلياة َّ
التقدم والعلم واملعرفة ،وما هنض أتباعها إال بعد أن قالوا(:اشنقوا آخر قيصر أبمعاء آخر
قسيس) ،وبني دين أول كلماته( :اقرأ) ،وتكررت فيه الدعوة إىل عمارة األرض وإاثرة خريها
وارتفاق عطائها والسري يف مناكبها ،أكثر مما تكرر فيه احلديث عن األحكام والفروع ،فالفروع
وحديث القرآن الكرمي عنها ال يتجاوز 11/1من جمموع آايت القرآن الكرمي ،هي جممل
آايت األحكام تقريبا ،أما عمارة األرض وخالفة احلياة فيدور أغلب القرآن الكرمي عليها وما
يقدم هلا وما يدور حوهلا من بناء اإلنسان الصاحل الذي يُصلح األرض بصالح نفسه ،ويربطها
ابرتباطه هو ابهلل رب العاملني.
5
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
6
املقدمة
علماء التفسري واللغة ،وما يدعم ذلك من ومضات السنة النبوية املطهرة ،وما خيدم هدف
البحث من الدراسات اإلنسانية ،دون اإلفراط يف الشروح؛ حرصا على عدم خروج البحث
عن مساره.
وحرصت على مجع اآلايت املتعلقة ابملوضوع ،مث تصنيفها من حيث أمجعُها للقضية، َ
ورتبتها من حيث املكيةُ واملدنيةُ ،حىت تعطي صورة كاملة عن القضية -والزمن جزء من رسم
وحرصت على أن تكون العناصر املعنونة من صميم اآلايت القرآنية؛
َ تلك الصورة الصادقة،-
جراي على املعتمد من املناهج يف هذا اللون من ألوان التفسري املوضوعي((( ،أما يف الشرح
واالستنباط ،فأفدت من كتب التفسري يف كل املدارس من مأثور ورأي ،فمررت على مدارس
متعددة وألوان متباينة ،زماان ،ومكاان ،واجتاها ،ومنهاجا ،وفكرا ،كما أفدت من السنة ،وهي
الشارح الُ ِمبني والُ َمبِّني آلايت القرآن الكرمي ،وأفدت مما قدمه اجلهد البشري من دراسات
إنسانية أو عربية يف هذا الصدد ،حسب الطاقة والوسع ،وحسب طبيعة الدراسة.
ً
سابعا :الدراسات السابقة:
احلق أين مل أقف على دراسة علمية تتناول جانب السنن يف القلة والكثرة ،وكل ما وقفت
عليه مقاالت ورصد آلايت القلة والكثرة ،ومن تناول القلة والكثرة يف دراسة علمية تناوهلا من
جانب أصويل أومن جانب لغوي بعيد عن قضية الدراسة هنا.
ً
ثامنا :هيكل البحث:
اشتمل البحث على مقدمة ،وثالثة فصول ،وخامتة.
الفصل األول :القلة :مفهومها وصفاهتا وسنن هللا فيها ،وفيه أربعة مباحث:
املبحث األول :مفهوم سنة هللا يف القلة ،يف اللغة ،والقرآن ،وورود لفظة القلة ومرادفاهتا
يف القرآن الكرمي.
املبحث الثاين :القلة احملمودة وصفاهتا يف القرآن الكرمي.
((( انظر :املدخل إىل التفسري املوضوعي ،ألستاذان د عبد الستار فتح هللا سعيد ط:دار التوزيع والنشر اإلسالمية ،ط
الثانية1141،ه1991،م،ص .95،06
8
املقدمة
9
الفصل األول:
القِ ّلة :مفهومها ،وصفاهتا،
وسنن اهلل فيها.
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
الفصل األول
القلة :مفهومها ،وصفاتها ،وسنن اهلل فيها،
وفيه أربعة مباحث
املبحث األول
مفهوم سنة اهلل يف القلة ،يف اللغة والقرآن ،وورودها ومرادفاتها
يف القرآن الكريم.
مفهوم سنة :السنة (هي القانون الضابط املهيمن ،والفعل النافذ احلاكم الذي جيري
(((
ابطراد وثبات وعموم ومشول ،مرتبًا على سلوك البشر).
القلة يف اللسان العربي:
القلة ومادهتا يف اللسان العريب دالة على عدد من املعاين نريد أن نقف أمامها،وردت ِ
ونفيد من خالهلا ما يعيننا على حسن التعامل مع سنة هللا ﷻ يف القلة يف القرآن الكرمي ،فالتصور
أساس السلوك ،واحلكم على الشيء فرع عن تصوره.
ومن تتبع اللسان العريب ،عبرْ لسان العرب ،وأساس البالغة ،واخلصائص ،والتهذيب،
واملقاييس ،وما دار حول ذلك من معاجم وقواميس جند الكلمة تدور حول هذه الدالالت:
تدل املادة على االرتفاع ،وعلى العلو ،والتفرد ،واالنفراد ،وتدل على أهنا معتمد غريها،
وارتفاع غريها هبا ،و قمة الشيء وأعاله ،والنهضة من عثرة ،والنهوض من علة ،والنهوض من
فقر ،والسرعة ،واخلسة والدانءة ،النذارة ،وعدم االستقرار ،والنقص ،والصغر .يكىن هبا عن
العزة وتدل على اجلهالة.
((( مفهوم السنن الرابنية من اإلدراك إىل التسخري :للباحث ،ط :مكتبة الشروق الدولية ،بتقدمي د .حممد عمارة،
ص.11:
13
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
وأورد هنا من نصوص اللغة ما يؤيد ما قلناه دون إغراق يف النقل ،بل ما متس إليه احلاجة،
(((
وتوجبه ضرورة االعتماد واالستناد ،وحنيل يف النصوص املتشاهبة على األقدم زمنا ،فالكل ميتح
من إانء واحد وإن اختلفت املشارب واملوارد :غرفا من البحر أو رشفا من الدمي.
ورجل قُلٌّ :قَصريُ اجلُثَّة»َ .وقَ َال : ال
َ ق
َ ،الل
ٌ ق
ُ و ،قليل و ه �ف ،ًة ل
ّ يقل قِ
قَ َال اللَّْيث« :قَ َّل الشيءُ ُّ
ٌ ٌ َ ُ َ
((( ِ ِ الر َجال :اخلسيس الدَّينءَُ .وفيِ احلَ ِديثِّ : «القل من ِّ
(الرباَ(((وإ ْن َكثُر �فَُه َو إلىَ قُ ّل) أَي :إلىَ غريهُُّ :
ِ
أسه ،و�قُلّةُ اجلَبَ ِل :أ َْعلاَ هُ). قلّة .قَ َال اللَّْيث :و�قُلَّةُ كل َش ْيء :ر ُ
صر ،واخلسة ،كما تدل على االرتفاع والعلو. ِ
فهنا تدل كما هو واضح على الق َ
قل الشيء يقل قلة ،وهو قليل .والقل :القلة ،كالذل والذلة ...وفالن قل ابن قل ،إذا ّ و(
(((
كان ال يعرف هو وال أبوه...والقلة :قلة اجلبل ،واستقل القوم :مضوا لسبيلهم).
وهنا تدل تلك النصوص على جهالة املوسوم ابلقلة ،وعدم معرفة أصوله ،وتدل على
االرتفاع ،والعلو ،والسري قدما.
ْالفرق َبني ْال َي ِسري والقليل:
عدد �يَُقال قوم قَلِيل وقليلونَ ،ومن الْ ُق ْرآن (لشرذمة قَلِيلُو َن) يُِريد صان الْ َ ِ
(الْقلَّة �تَْقتَضي �نُْق َ
عدد َوِهي ددهم ينقص َعن عدَّة َغريهم َوِهي نقيض الْ َك�ثَْرة َولَْي َست الْ َك�ثَْرة إِلاَّ ِزياَ َدة الْ َ أَن َع ْ
ض ِيه
ضي ما �ي ْقتَ ِ ِ ِ
است َع َارة وتشبيه واليسري من الأْ َ ْشيَاء َما �يَ�تَيَ َّسر تحَْصيله أَو طلبه َولاَ �يَْقتَ َ َ
فيِ َغريه ِ
ْ
ِ ِ
عدد أَال ترى أَنه �يَُقال عدد قَليل َولاَ �يَُقال عدد يسري َولَكن �يَُقال َمال ِ
صان الْ َ الْ َقليل من �نُْق َ
ِ ِ ِ لأِ
َّيء على اسم الش ْ اس ْتعمل الْيَسري فيِ َموضع الْ َقليل فقد ْجي ِري ْ يسري َن مجع مثله �يَ�تَيَ َّسر فَِإن ْ
وأتخ ُذ بيَ ٍد على رأس البئر .واإلبل ْتمَتَح يف سَيرْها ،أي :ترا ِوح أبيديها و�تَتَ َمتَّح ،العني: ٍ ك ِّ
الرشاء ُتمَ ُّد بيَد ُ ((( اَملْت ُحَ :ج ْذبُ َ
(.)691 /3
((( واحلديث :أخرجه ابن أيب شيبة يف املسند .702/1 :وهو حديث صحيحَ ،شريك -وهو ابن عبد هللا النخعي،-
وإن كان سيئ احلفظ -متابع .وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح .حجاج :هو ابن حممد املصيصي األعور ،والركني
بن الربيع :هو ابن عميلة الفزاري الكويف.وأخرجه احلاكم 73/2من طريق اإلمام أمحد ،هبذا اإلسناد ،لكن حترف فيه
َشريك إىل إسرائيل وأخرجه أبو يعلى ( )2405و ( )8435و ( ، )9435والشاشي ( ، )808والطرباين يف «الكبري»
( ،)83501وابن عدي يف «الكامل» 3331/4من طرق عن شريك ،به .وأخرجه ابن ماجه ( ، )9722والشاشي
( ، )908والطرباين يف «الكبري» ( ، )93501واحلاكم 73/2و 813-713/4من طريق إسرائيل ،عن الركني ،به.قال
احلاكم :هذا حديث صحيح اإلسناد ،ومل خيرجاه ،ووافقه الذهيب.
((( هتذيب اللغة ( ،)232 /8مقاييس اللغة.5/3:
((( جممل اللغة البن فارس( :ص.)627 :
14
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
(((
َغريه إِذا قرب ِمْنهُ)
ع أنجْ ُ ِد
(((
َوقد َكا َن لَ ْولاَ ال ُق ُّل طَالّ َ صُر ال ُق ُّل الْ َفىت دون مهّه
َوقد ي ْق ُ
وإذا انتقلنا إىل الراغب األصفهاين يف املفردات وجدانه يرى أن ِ
(:القلَّةُ والكثرة يستعمالن
كل واحد من الكثرة الصغر يستعمالن يف األجسام ،مث يستعار ّ يف األعداد ،كما أ ّن العظم و ّ
الصغر لآلخر ...ويكنىّ باِ لْ ِقلَّ ِة عن ال ّذلّة اعتبارا مبا قال الشاعر:
والعظم ،ومن القلّة و ّ
(((
ــــــــــــزة للكــــــــــاثر
وإمنـــــــــــــــــا الــــــع ّ ولست ابألكثر منهم حصا
َ رَّ ُ لاً
﴿واذك ُروا إذ كنْ ُت ْم قَل ِي فَك َ
ثك ْ ْ ُ ُْ
(وعلى ذلك قولهَ :
العزة
ّ عن اترة هبا نىّ ويك ]86 اف/ ر األع [سورة ﴾ م ِ
كل ما ن أ وذاك ، ُ ْ
﴿وقل ِيل ما هم﴾ [ص]24 /
ََ ٌ
ور﴾[سورة سبأ]13 / الش ُك ُ
َ َّ ََ ٌ
﴿وقل ِيل م ِْن عِبادِي اعتبارا بقوله:
ّ ّ
وحب ،و�قُلَّةُ اجلبلَ :ش َع ُفهُ اعتبارا بقلّته إىل ما عداه
جرة ّ َّ َّ
وجوده.وال ُقلةُ :ما أَ�قَلهُ اإلنسان من ّ يعز يَِق ُّل
ّ
(((
من أجزائه)،
ويقولون( :وصعدوا قلّة اجلبل وقلل اجلبال ،وفرس قلقل :سريع .ورجل قلقل :خفيف
يستقل هبذا األمر :ال
ّ مستقل بنفسه إذا كان ضابطاً ألمره .وهو ال
ّ ماض .ومن اجملاز :هو
يطيقه .واستقلّوا عن دايرهم ،واستقلّت خيامهم ،واستقل القوم عن جملسهم ،واستقلّوا يف
استقل البناء :أانف ،وبناء مستقل .واستقل فالناستقل الطائر يف طريانه ...و ّ
مسريهم .و ّ
الرعدة .وبلغ املاء قلة رأسه ،وهم
القلّ :
غضباً :شخص من مكانه لفرط غضبه ،وقيل :هو من ّ
يضربن القلل ،ورجل طويل القلّة وهي القامة .ورجل قليل :صغري اجلثّة ...ونسوةٌ قالئل ،ورجل
يقل عن كذا :يصغر عنه .وتقلقل يف البالد :طالت أسفاره. قليل .وقوم أقلة :خساس .وهو
(ّ ((1
وقلقل احلزن دمعي :أساله ).وصاحب البصائر يرى معاين قريبة من املعاين اليت نص عليها
(((1
أصحاب اللسان واملفردات
ومن هذه التطوافة يف كتب اللغة ندرك أن القلة تستعمل يف املعاين السابقة ،ومن تتبع
آايت القرآن يف بيان معىن القلة جند أن القرآن الكرمي تناوهلا هبذه الصورة أيضا ،كما سريد
ذلك يف حديث القرآن عن القلة ،ودوران الكلمة فيه ،وهذا يشري أيضا إىل أن حديث القرآن
عن القلة تناول جوانبها ودالالهتا اللغوية ،كما سنقف عليه بعد إن شاء هللا.
ألفاظ القلة ومقارباتها يف القرآن الكريم
ورد التعبري عن القلة يف القرآن الكرمي بعبارات متعددة دارت حول ما أييت:
-1قليل ،مبواطنه املتنوعة ،وصوره املتعددة( :قليال ،قليل ،قليلون ،قليلة ،أقل)
-2شرذمة.
-3أمة.
-4فريق.
كما وردت الداللة على القلة ابلنص على العدد ،مثل :قال رجالن ،سبعني رجال،
عشرون صابرون ،مائة صابرة ،دراهم معدودة ،اثين عشر نقيبا ،أو ابستخدام لفظة تدل على
القلة مثل :يستضعفون ،يسري ،قتور ،أو الرتكيب الدال عليها مثل التبعيض ،واالستثناء...
وحنو ذلك.
أنواع القلة يف القرآن الكريم:
وقد تناول القرآن الكرمي احلديث عن القلة تناوال واضحا يبني خصائصها ويربز مساهتا،
وابلتأمل يف حصر اآلايت اليت تدل على القلة صراحة أو ضمنا ميكننا أن نقسم القلة إىل
نوعني جامعني:
النوع األول :القلة احملمودة:
وهي اليت ورد التعبري عنها يف القرآن الكرمي يف مقام املدح ألصحاهبا ،والداللة على أهنم
تفردوا بسمات واتصفوا بصفات يرضاها هللا ﷻ ويدعو إليها ،سواء كانت تلك الصفات رايدة
وسبقا يف وقت يندر فيه السبق والرايدة ،أو إمياان يستحق أن يؤيده هللا وأيوي أهله ،ويرزقهم
من الطيبات لعلهم يشكرون ،أو ثباات يف ميدان القتال واجلهاد يف سبيل هللا ،أو يقينا صادقا يف
العدد والعُدد ،أو دواما على األمانة وبعدا عن اخليانة ،أو سبقهم يف
نصرة هللا على الرغم من قلة َ
العلم واملعرفة ،أو شكرهم على العطاء مع قلة الشاكرين وكثرة اجلاحدين ،أو عدالتهم يف الشركة
16
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
واخللطة ،وبعدهم عن البغي على اخللطاء ،أو رضاهم مبا قسم هللا هلم من زخرف الدنيا وزينة
احلياة ،مع إمياهنم ورؤيتهم لكثرة مال الكافرين اجلاحدين وولدهم ،وحنو ذلك مما سنقف عليه
تفصيال عند تناول اآلايت الكرمية إن شاء هللا.
وهي اليت ورد احلديث عنها بصورة تنفر منها ،وتبعد عنها ،وتدل على اتصاف أصحاهبا
بصف����������ات ال يرضاها هللا ﷻ ،وال تقبلها الفطر الس����������وية ،والنفوس األبي����������ة ،ينعى القرآن على
أصحاهب����������ا ،وحيذر من مغبة امليل إليها ،مثل وصف ما لدى املفرتين أبنه ليس فالحا بل متاع
قليل ،ال يلبث أن يزول وحيول ،أو أن أماهنم ال يستمر ،وعدواهنم على املرسلني ال يدوم ،بل
عما قليل ليصبحن اندمني ،اندمني على إنكارهم وش����������نيع صنيعهم مع األنبياء واملرس����������لني ،أو
وصف ش����������كرهم مع عظم ما ينعم به عليهم أبنه قليل ،ال يتناس����������ب مع حقيق الشكر وواجب
االعرتاف ،أو وصف التذكر الصادر من بعض البش����������ر أبن����������ه قليل على الرغم من توفر دواعي
التذكر ،وأس����������باب التفكر ،أو النكري عليهم أهنم اس����������تبدلوا الذي ه����������و أدىن ابلذي هو خري،
فيشرتون آبايت هللا مثناً قليالً ،ويبيعون دينهم بعرض من الدنيا زائل ،وعطاء من احلياة حائل،
أو وصف متاع احلياة أبنه يف جنب اآلخرة قليل ،أو النعي على بين إس����������رائيل أبهنم ال يؤمنون
إال قليالً ،أو وصف متعتهم وفرحهم يف احلياة أبنه قليل ،أو أهنم ال أيتون البأس إال قليالً ،وحنو
ذلك مما سيتضح عند تناول اآلايت الكرمية إبذن هللا.
ولنتناول أوال القلة احملمودة وصفاهتا يف الصفحات القادمة:
17
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
املبحث الثاني
القلة احملمودة صفاتها وخصائصها يف القرآن الكريم
ومن خالل تتبع اآلايت الكرمية ميكن أن نتبني القلة احملمودة ،وأهم مساهتا على النحو
التايل:
القلة هم اخلالصة املصطفاة والبقية املنتقاة
القلة احملمودة هي يف كل مكان اخلالصة املصطفاة ،والبقية املنتقاة ،املنتقاة من كل
شيء :زماان ،ومكاان ،وأفرادا ،ومعادن ،هم الرواحل اليت تتحمل إذا َك َّل غريها ،وتصرب إذا َم َّل
سواها ،حتمل محلها وكثريا من محل غريها ،فهي الرائدة يف املتاهة ،وهي القائدة يف اضطراب
األمور ،ولقد قيل يف واحد من مثل هذه النماذج ،وهو صاحب عمامة علمية رائدة:
أولت عمامتك العمائم كلها فخراً تقاصر دونه التيجان
إن الزعـــامة والطــــــــــريق خمُوفَةٌ غريُ الزعامة والطريق أمـــان
تلك القلة هي اليت تقل عند الطمع ،وتكثر عند الفزع ،فهم -حبق خالصة جنسهم ،وبقية
نوعهم ،ولقد تبني من خالل َس ْوق القرآن الكرمي لتلك النماذج القليلة ما يؤكد تفردهم
وندرهتم ،وقلتهم (مبا تعنيه مادة القلة من داللة) فيما يتصفون به ،وإذا طالعنا القلة اليت عربت
البحر مع طالوت ،عرفنا إىل أي مدى تتضح فيهم تلك الصفة ،فهم قلة لكنهم هم ،هم
وحدهم الذين عربوا النهر مع طالوت ،وهم هم وحدهم الذين أدركوا واعني قوانني هللا يف النصر
واهلزمية إدراكا عمليا ،وإن أدركه غريهم إدراكا ثقافيا معرفيا ،وسيَبِني لنا يف الصفحات القادمة
كم كانوا واعني بل واعبني( ((1لقيَم يندر أن جيمعها سواهم ،ويقل وجودها فيمن عداهم،
وتلك من سنن هللا ﷻ يف خلقه وانموسه يف عباده ،لقد سئل احلسن عن الذين عربوا النهر
ال :بلَىَ ،ولَ ِكن تفاضلوا بمِ َا شحت س الْ َق ْوم جمَِ ًيعا َكانُوا ُمؤمنني الَّذين جاوزوا ؟! ف َق َ
َ (:أَلَْي
أنفسهم من الجِْ َهاد فيِ َسبيله)(.((1
َّيء وعبا وأوعبه :واستوعبه :أخذه أجمْ ع ،احملكم واحمليط األعظم.)773 /2( :
( ((1وعب الش ْ
( ((1تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني.)842 /1( :
18
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
فالذين عربوا النهر كانوا كلهم مؤمنني لكن الذين صربوا ،وصابروا ،ودعوا غريهم إىل
ين يَظُنُّو َن أهنم مالقوا هللا (أي� :يَ�تَ�يََّقْنون أَ�نَُّه ْم ُمالقُوا َّ ِ
املصابرة هم خالصة هؤالء ،فهؤالء َ الذ َ
ص من أهل البصرية ،قالوا :ال تفزعوا من كثرة عددهم هَِّ
اب الشهادة وهم اخلُْل ُ الل ويتوقعون ثو َ
الل مع َّ ِ َكم ِمن فِئ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَبت فِئةً َكثِريًة بإِِ ْذ ِن هَِّ
ين ابلنصر الصاب ِر َ الل وإرادته ومعونتهَ ... ،و هَُّ َ َ َْ َ َ ْ ْ َ
(((1
واملعونة).
و(كذلك اخلواص يف كل وقت يقل عددهم ولكن جيل قدرهم ((1().وتلك القلة اليت
يصطفيها هللا ﷻ هي اخلالصة اليت يقوم عليها بناء احلياة ،وتنهض هبا الرايدة والقيادة ،وتتقدم
األمم ،وتستعاد القيم ،واملتأمل لكل قليل يف احلياة واألحياء جيده بقية جنسه ،وخالصة نوعه،
فالذهب سيد املعادن وهو بينهم قل ،واألنبياء هم رواد األمم وهم بني أقوامهم قلة ،والدعاة
الصادقون هم األدالء للبشر وهم بني املدعوين قلة ،واألزمنة املفضلة بني سائر األزمنة قلة،
واألماكن املقدسة بني األماكن قلة:
تعــــــــــــريان أنّـــــا قــــليل عــــــديــــــــــدان فقـــــلت هلا إن الكـــرام قلــــــيل
ومـــــا ضــــــران أان قـــــــليل وجــــــاران عزيز وجـــــار األكــــــثرين ذليل
وما مات منا سيد حتف أنفه وال طل منا حيث كان قتـيل
(((1
إذا مــــــات منا سيد قام ســــــيد قؤول ملا قال الكـــــــــــــرام فعول
فهذه القلة على الرغم من أهنا يف عني غريها قلة ،إال أهنم يف واقع العمل كثرة؛ ألهنم قلة
عاملة( ،والقلة العاملة هتزم الكثرة النائمة).
هم املنصورون يف كل زمان
املتتب����������ع آلايت القلة يف القرآن الكرمي ،والراصد لطبيع����������ة القلة يف واقع احلياة واألحياء
جي����������د أن القلة العاملة يف كل زمان هم املنصورون ،ملا يش����������تملون عليه من مسات وخصائص،
تع����������وض قلة عددهم بكثرة يقينهم واعتمادهم ،وببذهلم م����������ا ال يبذله غريهم من الكثرة النائمة
اهلائمة ،اليت تقف عند حدود الش����������كل واملظهر فتغرهم كثرهت����������م وخيدعهم عددهم ،والراصد
لنص����������ر املؤمنني يف غزواهتم كلها جيد أهنم مل يبلغوا ع����������دد عدوهم ،بل مل يتعدوا ثلث عدوهم،
واملعركة الوحيدة اليت قالوا فيها (لن نغلب اليوم من قلة)( ،((1هي املعركة اليت س����������جل القرآن
الكرمي عليهم فيها اهلزمية ،ونسبها إىل هذه الكثرة َاملعجبة ،والعدد الذي اعتمدوا يف حساهبم
َ َ ْ َ رَ َ ُ ُ هَّ ُ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ نْ ْ ْ َ َ ْ ُ ْ َ رْ َ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ
ثتك ْم فل ْم تغ ِن عنك ْم ش��يْ ًئا ي إِذ أعجبتكم ك عليه﴿،لقد نصك َم الل يِف مواطِن كثِري ٍة ويوم حن ٍ
يَّ َ َ َ ْ َ َ ْ ُ أْ
ك ُم ال ْر ُض ب ِ َما َر ُح َب ْت ُث َّم َولْ ُت ْم ُم ْدب ِ ِر َين﴾ س����������ورة التوبة( .)25( :فالقليل من ذوي العزائم وضاقت علي
الصادقة والنفوس اليت أش����������ربت حب اإلميان وامتألت غرية عليه -يفعل ما ال يفعله الكثري من
(((1
ذوى األهواء املختلفة ،والنزعات املتضاربة)
وسر ذلك أن القلة احملمودة هلا حساب آخر غري حساب الكثرة املعتمدة على َعددها وعُددها،
(وق����������د يك����������ون عدوك كثرياً لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية ،وقد تكون يف قلة من العدد ،لكن لك
����������ب َعلَْي ِه ُم القتال �تََولَّْواْ إِالَّرصي����������د من ألوهية عالية ،وه����������ذا ما يريد احلق أن يلفتنا إليه بقوله�{:فلَ َّما ُكتِ
َ
َ َ
قَلِي�����ل����اً} .كلم����������ة {إِالَّ قَلِيالً} جاءت لتخدم قضية ،لذلك جاء يف آخر القصة قوله تعاىل﴿ :كم مِن
ّ
ْ َ َ ََ
ف َِئ�� ٍة قَلِيل�� ٍة غل َب ْت ف َِئ ًة كثِ َريةً بِإِذ ِن اهلل﴾ [س����������ورة :البقرة ،]249 :أي :أن الغلبة أتيت إبذن هللا ،إذن فالش����������يء
املرئ����������ي واحد ،لكن وجهة نظر الرائني فيه ختتلف على قدر رصيدهم اإلمياين ...فالعدو قد يكون كثرياً
أمامنا وحنن قلة ،وكلنا رأى العدو كثرياً ورأى نفس����������ه قليالً ،لكن املواجيد ختتلف أان سأحسب نفسي ومعي
(((1
ريب ،وغريي رآهم كثريين وقال :ال نقدر عليهم؛ ألنه أخرج ربه من احلساب).
وإذا تتبعنا عدد القلة يف جيش طالوت الذين كتب هلم وهبم النصر على جالوت وجنوده
صور َعن عُثْ َمان بن َع َّفان أَنه �قََرأَ ثالمثائة اَّ أو َ يزيدون ْ ُقليال(،أخرج سعيد بن َمْن ُ وجدانهم
ِ ه ِن
م يال ِ ل ق ل إ ُ
ه
ْ
ِن
م واب{فَ رَش ُ
بض َعة عشر عدَّة أهل بدر)، .
(((2
و
َ ْ ثالمثائة يل ل ق
َ ل
ْ ا : ال
َ ق
َ م} ِ ِ
(ألن املقاييس ليست بكثرة اجلمع ،ولكن بنصرة احلق سبحانه وتعاىل ).والفئة القليلة
(((2
تكون قلتها يف الظاهر املرئي للناس أما القوة املعنوية والروحية واليت هي أساس النصر فتلك
هلا مقاييس أخرى ،مقاييس البصرية ال البصر ،فاإلمداد على قدر االستعداد( ،والفئة القليلة
الع َددكثرهتا يف العُدَّة و َ كل لوازم احلرب ،والفئة الكثرية ،تظهر َ العتَاد و ِّ تكون قلَّتُها يف األفراد و َ
ِ
يوضح احلق سبحانه أن كل لوازم احلرب ،والفئة القليلة إمنا �تَ ْغلب إبذن هللا تعاىل .وهكذا ِّ و ِّ
األسباب تقضي بغلبة الفئة الكثرية ،لكن مشيئته سبحانه تغلب األسباب وتصل إىل ما شاءه
وألمر ما ذكر هللا ﷻ تلك النماذج يف القلة جليل النصر األول؛ يفيدون منه ،ويقفون
عنده ،ويقيمون دولتهم على أساس تلك املفاهيم اليت تبين احلضارة وتنشئ االستمرار احلقيق
يف رايدة الدنيا ابسم الدين.
وحري مبن انتدب نفسه لبالغ رسالة هللا للناس واستهدف إانرة الدنيا ابلدين أن يعي هذه
املفاهيم ،حىت ال تبهره الكثرة فتقهره ،فينتقل من دور املبهور إىل دور املقهور أو املسحور ،أو إىل
دور احلمامة ينظر إليه الثعبان فتنشل وتنحل وكان مبكنتها أن تطري ،وواقع األمة املسلمة اليوم
ونظرهتا للعامل الغريب خري شاهد على هذا ،فوعي املسلم بسنة هللا يف القلة والكثرة يقيه هذه النظرة
ويعفيه من تلك الوهدة.
أهل اختبار وابتالء
ميزات القلة وصفاهتم ال أتيت هكذا ضربة الزب ،وال تكون لكل حي ،بل بعد تضحيتهم
مبا ال يضحي به غريهم ،وصربهم على ما ال يصرب عليه سواهم ،فالقلة أتيت بعد اختبار ينخل
الغث من السمني ،ومييز اخلبيث من الطيب.
من هنا تتعرض القلة للتمحيص واالبتالء فيفوز بوصفها من حتقق بصفاهتا ،ويبعد عنها
من ال يستطيع دفع مهرها ،ولذا تعرض بنو إسرائيل مع طالوت لالختبار واالبتالء ،حىت يتبني
ود ِم ْن َه َذا صَ الصابر اجملاهد من اخلائر اجلبان ،واملقدام اجلسور من اخلائف الرعديد (فالْ َم ْق ُ
الل �تعالىَ أ َّ َّ ِ ِِ ِ الص ِّديق ع ِن ِ ِ ِ لاِ ِ ِ
ين
َن الذ َ الزنْد ِيقَ ،والْ ُم َواف ُق َع ِن الْ ُم َخالف� ،فَلَ َّما ذَ َكَر هَُّ ََ ا بْتلاَ ء أَ ْن �يَتَ َم�يََّز ّ ُ َ ّ
ب ِمْنهُ فَِإنَّهُ لاَ ين لاَ يَ ْشَربُو َن ِم ْن َه َذا ال�نَّْه ِرَ ،وأ َّ َّ ِ لهِ ِ ِ
َن ُك َّل َم ْن َش ِر َ يَ ُكونُو َن أ َْهلاً ََذا الْقتَال ُه ُم الذ َ
ك الْ ِقتَ ِال ،لاَ َجَرَم أَقْ َد ُموا َعلَى ِ
يدةٌ َع ْن َذل َ يَ ُكو ُن َمأْذُوناً فيِ َه َذا الْ ِقتَ ِالَ ،وَكا َن فيِ �قَْلبِ ِه ْم �نَْفَرةٌ َش ِد َ
ِ (((2
يق َع ِن الْ َع ُد ّو). ف ،و َّ ِ ِِ ِ ِ
الصد ُ الش ُّْرب� ،فَتَ َم�يََّز الْ ُم َواف ُق َع ِن الْ ُم َخال َ
ولكل اختبار نتيجة ،ولكل بالء عطاء ،ولكل شدة رخاء ،وهللا غالب على أمره ،ولكن
أكثر الناس ال يعلمون ،وأتيت نتيجة اختبار القلة يف هذا املوقف مباشرة إذ يصرب على القتال
من مل يشرب من النهر أصالً ،ويرتدد من اغرتف غرفة بيده ،وال يقوى على العزم فضال عن
السري والقتال من عب وأترع ،فبشم وترنح ،وأخلد إىل األرض غري مأسوف عليه؛ ذلك أن من
مل يصرب على املاء كيف يصرب على بذل الدماء؟! ،ومن مل يتحمل العطش كيف يتحمل وهج
( ((2تفسري الشعراوي.)6546 /11( :
( ((2مفاتيح الغيب.)905 /6( :
21
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
املاء ،علم أنه يطيع فيما عدا ذلك، السيوف وتطاير األعضاء؟!( ،فمن ظهرت طاعته يف �ترك ِ
َْ
ورخص للمطيعني شه َوتُه يف املاء ،وعصى األمر ،فهو ابلعصيان يف الشدائد أحرى َّ ومن غلبته ْ
اع ال�نَّْفس يف هذه احلال. يف الغُرفة لريتفع عْنهم أذى العطَش بعض ِ
تفاع ،وليكسروا نز َ
االر ِ َ ْ
طالوت ،فمن اغرتف مْنها غرفة بيد الزهد ،وأقبل على َ الدنْيا ب�نََه ِر
أح َس َن من شبه ُّ
ولقد ْ
التأهب آلخرته ،وقلَّت سالمته إِالَّأكب عليها ،صدَّته عن ُّ
وم ْن َّ ما يعينه من أمر آخرته ،جناَ ،
(((2
الل).
يتدارَكه هَّ
أ ْن َ
(وحكمة هذا االمتحان :ليتخلص للجهاد املطيعون املخلصون ،إذ ال يقع النصر إالَّ
(((2
هبم).
هم ً
دائما حلمة واحدة
املتتبع للقلة وواقعها جيد أهنا حلمة واحدة ،وسبيكة متماسكة ،انصهر بعضها يف بعض ،حيرص
كل منهم على اآلخر ،ينصحه ويعظه ويرشده ويهديه ،ذلك ما صنعته القلة مع طالوت ،وهذا ما
بعضهم مع بعض ،يعرض عاشته القلة مع النيب ﷺ ،ومن طالع سرية القلة معه ﷺ عرف حاهلم ِ
الواحد على أخيه ماله ،ومتاعه ،وزرعه ،وضرعه ،وعلى اجلانب اآلخر يتأىب أخوه فاألول يعطي يف
سخاء واآلخر يتعفف يف إابء ،ومبثل تلك النماذج اليت تعطي الواجب قبل أن تطالب ابحلق ،وتعيش
ابلفضل قبل العدل تقوم النهضات وتستمر احلضارات ،وإذا رجعنا إىل داللة القلة وألفاظها يف اللغة
أعطتنا من املعاين ما يسند تلك النظرة ،ويقوي تلك الفكرة( ،فالْ ِفئةُ :الجْ م لأِ
ض ُه ْم قَ ْداعةََُّ ،ن �بَْع َ َ ََ َ
اعةً)( ،((2فلفظة الفئة تدل على اجلماعية والتماسك ،كما تدل على رجوع ص ُاروا جمََ َ ض فَ َ فَاءَ إِلىَ �بَْع ٍ
ض ُه ْم �يَْرِج ُع إِلىَ َّاس م ْش�ت َّقةٌ ِمن الْ َفي ِء وهو ُّ لأِ بعضهم على بعض(،فَالْ ِفئةُ :الجْ م ِ
الر ُجوعََُّ ،ن �بَْع َ اعةُ م َن الن ِ ُ َ َ ْ َ ُ
(َ((2 َ ََ َ
ِ ِ لأِ ِ ت ُم َؤ ِّخَرةُ الجَْْي ِ �بع ٍ ِ ِ
ش يَفيءُ إلَ�يَْها ، ).وهم(:اجلماعة من الناس ً
قليال ش فئَةًََّ ،ن الجَْْي َ ضَ ،ومْنهُ سمُّيَ ْ َْ
(((2
كان عددهم أو كثريا).
والفئة ،اجلماعة اليت يرجع إليها يف الشدائد ،من قوهلم :فاء يفيء إذا رجع ،وقد يكون
الرجل الواحد فئة تشبيها ،وامللك فئة الناس ،واجلبل فئة ،واحلصن ،كل ذلك تشبيه)( ،((2ويف
قوهلم َك ْم ِم ْن فِئَ ٍة اآلية ،حتريض ابملثال وحض واستشعار للصرب ،واقتداء مبن صدق ربه،
الل مع َّ ِ
الصاب ِر َ
ين بنصره وأتييده. و «إذن هللا» هنا متكينه وعلمه ،فمجموع ذلك هو اإلذنَ ،و هَُّ َ َ
هم السابقون إىل اإلميان والناصرون للحق والدعوات
أكد القرآن الكرمي من خالل رصد آايت القلة والكثرة فيه أن السابقني إىل اإلميان
﴿ح ىَّت
َ تعاىل:
قال ْ َ ُ وتبلغ اَّهبم الرسالة، الدعوة، قلةْ ،وهم مْ ْالذين تقوم لُّعليهم للدعوات و َالناصر َين
َ َ َ َْ ْ َ نْ َ ْ َ نْ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َّ ُّ ُ َ
ي َوأهلك إِل َم ْن َس َب َق َعليْهِ الق ْول َو َم ْن آ ََم َن
ي اثن ِ
ك زوج ِ
َ ْ
إِذا جاء أمرنا اَّوفار اتلنور قلنا احِل فِيها مِن ٍ
َ ٌ َ َ ََُ
(((3
أقر بوحدانية هللا مع نوح من قومه إال قليل). يقول(:وما َوما آ َم َن معه إِل قل ِيل ﴾ سورة هود)40(:
ّ
وعلى الرغم من إسراف كثري من املفسرين يف القول يف هذا القليل إال أننا نقف عند
ما ورد يف القرآن الكرمي ،وال نتجاوزه ،إمياان منا أنه لو كان يف تفصيله فائدة ملا أغفله القرآن،
قال أبو جعفر (:والصواب من القول يف ذلك أن يقال كما قال هللا( :وما آمن معه إال قليل)
،يصفهم أبهنم كانوا قليال ،ومل حيُ ّد عددهم مبقدار ،وال خرب عن رسول هللا ﷺ صحيح ،فال
حد من كتاب هللا ،أو أثر عن حد هللا ،إذ مل يكن ملبلغ عدد ذلك ٌّ ينبغي أن �يُتَجاوز يف ذلك ُّ
رسول هللا ﷺ)( ((3وهذا القليل السابق إىل اإلميان هو الذي يلتفت إىل مراد هللا ﷻ ،دون الوقوف عند
الظاهر ،ف�يُ�نَِّف ُذ كما نفذ نوح والقلة املؤمنة معه ،دون أن يتوقف عند أسباب األرض ،بل ميتد نظره
ونظرهم إىل مسبب األرض والسماوات ،من يف يده األسباب وهو رهبا ،فإن نوحا ومن
معه من القلة املؤمنة السابقة إىل إجابة دعوة التوحيد نفذوا مراد رهبم ،على الرغم من سخرية
ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ َ لُ َّ َ َ َّ َ َ ْ َ أَ ٌ ْ َ
خ ُر وا مِن ُه قال إِن ت ْسخ ُر واِ َ
س ِ ه ِ
م ْ
الغالبة منهم﴿،و َيصن َع الفلك و كم َا مر َ عليهِ َ مل مِن ق ْ
و الكثرة
ُّ َ
َ خُ ْ َ َ ْ َْ ُ َ
ون َم ْن يَأتِيهِ َعذ ٌ َ َ ْ ُ َ َ َّ َ
حل عليْهِ َ
اب يزِ يهِ َو ي ِ م َِّنا فإ ِنا ن ْسخ ُر مِنك ْم ك َما ت ْسخ ُر ون 38فسوف تعلم
يم ﴾39سورة :هود.38،39: َع َذ ٌ
اب ُمقِ ٌ
فإنه (ملا حت ّقق مبا أمر هللا به مل أيبه عند إمضاء ما كلّف به مبا مسع من القيل ،ونظر
إىل املوعود بطرف التصديق فكان كاملشاهد له قبل الوجود ((3().فحمله ذلك ومن معه على
السمع والطاعة على الرغم من فقد األسباب وكثرة السخرية واالستعجاب.
وأما عن عدد هؤالء القلة فقد قيل( :كانوا مثانية :نوح ِ
عليه ،وأهلُه ،وبنوه الثالثةُ، ٌ
ٍ
ومخس نسوة ،وعنه أيضاً :أهنم كانوا ونساؤهم .وعن ابن إسحق :كانوا عشرًة :مخسةَ ٍ
رجال،
َ ُ
وحام وايفث ِ
سام ٌ نوح ٌ أوالد ٍ
عشرةً سوى نسائهم .وقيل كانوا اثنني وسبعني رجالً وامرأةً و ُ
رجال ونص ُفهم نساء واعتبار ِ
املعية يف إمياهنم لإلمياء ونساؤهم فاجلميع مثانيةٌ وسبعون نص ُفهم ٌ
ُ
ُ
إىل املعية يف مقر األمان والنجاة) فما يكون هؤالء يف أمة أرسل إليها نوح ؟!
(((3
إجابة احلق قلة وصف أعداء احلق هلم بسرعة إجابتهم، ُ
ومما يدل على أن السابقني إىل
َ َ رَ ً ْ اَّ ك َف ُر وا م ِْن قَ ْو ِمهِ َما نَ َر َ
َ َ ذَّ أَ ْ
﴿ف َق َال ال َ
َ
شا مِثل َنا َو َما اك إِل ب َ َ ِين
الْ ل م َوهذا َّما ورد اَّيف ق ذَّوله تعاىل َ:نُ
ُ ُ ْ َ َ ْ ُ َ
ِين ُه ْم أ َراذِلَا بَاد َِي َّ َ ََ َ
الرأ ِي َو َما ن َرى لك ْم َعليْ َنا م ِْن فض ٍل بَل نظ ُّنك ْم ك إل ال َ
ن اَ َراك اتبع ِ
َ
ك ذِبِني ﴾ سورة :هود.)27( :
فهؤالء أسلموا ابدي الرأي ،أي :أول األمر ،وفور وصول الدعوة إليهم ،ودون تفكر بل بظاهر
من الرأي -،يف زعمهم -وتلك اليت عابوها عليهم هي طبيعة النفوس الصافية ،والقلوب الرائقة الفائقة،
اليت ال حيول بينها وبني احلق حائل ،وال مينعها من اإلميان بداية ظهوره مانع.
إن قوم نوح ملا رأوا إميان هؤالء مسرعني قالوا ما قالوا ،وتلك عجيبة الكثرة والغالبني أن يعدوا ما
ميدح به عيبا ،وهي سنة ماضية يف الزمان واملكان واألمم واألفراد:
(((3
كانت ذنواب فقل يل كيف أعتذر إذا حمــــــاسين الاليت أدل هبا
وهؤالء هم الذين حيرص عليهم وال يفرط يف صحبتهم لقد أرشد هللا ﷻ رسوله إىل
مالزمتهم؛ ألن هبم تقوم الدعوات وتنشأ احلضارات ،وما أعظم قول هللا يف أمثال هؤالء لرسوله
ﷺ:
( ((3لطائف اإلشارات.)631 /2( :
( ((3إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي.)802 /4( :
( ((3البيت للبحرتي ،انظر ديوانه 459/1:ت :كامل الصرييف ،ط :دار املعارف ،والبيت من قصيدته الرائية اليت ميدح
فيها علي بن مر الطائي ،مجهرة األمثال ،574/1:وهناية األرب.29/2:
24
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
فلقد أمر هللا رسوله ﷺ هنا أبمرين :تالوة ما أوحي إليه من كتاب ربه ،والصرب مع الذين يدعون
رهبم ابلغداة والعشي يريدون وجهه ،وأمره ﷻ أبن ال يعدو عينيه عنهم ،فالوحي واتباع كلماته ،والقلة
العاملة احملمودة ،مها جناحا النصر واحلضارة ،ودعامتا البقاء واالستمرار ،وهذا ما جعل نوحا
ميتنع عن طرد القلة معه الذين وصفوا أبهنم( :أراذل) ،من قِبَ ِل الكثرة اجلاهلة ،ويف تعليل نوح لعدم
ص ِة فيِ قِلَّ ِة
اض لِتَ ْك ِم ِيل الْ َفائِ َد ِة ِم َن الْ ِق َّ
يل) ْاعترِ َ ٌ
ٌ
طردهم حيتاج إىل مزيد أتمل(،وجمُ لَةُ(:وما آمن معه إِلاَّ قَلِ
َ ْ َ َ َ ََُ
ِ ِ (((3
الس ِفينَ ِة أُممًَ ا لقلة َع َدده ْم)
ِ َّ ِ ِ ين َركِبُوا فيِ َّ الصالحِِني( ((3().ولَيس الَّ ِ
ذ
َْ َ َ َّ َ
وهي كذلك السنة يف القلة.
ْ َ
.. الرأ ِي﴾ ك إ اَّل ذَّال َ
ِين ُه ْم أراذ نُِلا باد َِي َّ َ َ َ َّ َ َ َ
﴿وما نراك اتبع ِ
(أي :دون ترو وال تفكري..وهذه هتمة كذلك توجه دائماً من املأل العالني جلموع
املؤمنني..أهنا ال ترتوى وال تفكر يف اتباع الدعوات .ومن مث فهي متهمة يف اتباعها واندفاعها،
وال يليق ابلكرباء أن ينهجوا هنجها ،وال أن يسلكوا طريقها .فإذا كان األراذل يؤمنون ،فما
«وما نَرى لَ ُك ْم َعلَْينا
يليق إذن ابلكرباء أن يؤمنوا إميان األراذل وال أن يدعوا األراذل يؤمنون! َ
ض ٍل» ..يدجمون الداعي مبن تبعوه من األراذل! ما نرى لكم علينا من فضل جيعلكم أقرب ِم ْن فَ ْ
إىل اهلدى ،أو أعرف ابلصواب .فلو كان ما معكم خرياً وصواابً الهتدينا إليه ،ومل تسبقوان
أنتم إليه! وهم يقيسون األمور ذلك القياس اخلاطئ الذي حتدثنا عنه .قياس الفضل ابملال،
والفهم ابجلاه ،واملعرفة ابلسلطان..فذو املال أفضل .وذو اجلاه أفهم .وذو السلطان أعرف!!
هذه املفاهيم وتلك القيم اليت تسود دائماً حني تغيّب عقيدة التوحيد عن اجملتمع ،أو تضعف
آاثرها ،فرتتد البشرية إىل عسورة هود اجلاهلية .ويف التعقيب على قصة نوح وقومه ما حيقق
عددا من احلكم الباهرة ،والسنن احلاكمة ،اليت ال تتخلف وال تتبدل.
25
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
وهؤالء القلة هم السابقون إىل اإلميان يف كل زمان ومكان ،وكما كانوا مع نوح عليه
السالم ،كانوا مع موسى عليه السالم ،ومع حممد -صلى هللا عليه وسلم -ومع األنبياء
واملصلحني يف كل العصور وعلى تطاول الدهور ،وكالم فرعون عن أتباع موسى عليه السالم
يظهر هذه السنة جيدا؛ إذ قال عنهم:
َ َل ِم ٌ َّ جَ َّ ُ ْ نَ َ َ ُ َ ٌَ َ ُ َ َ َّ َ ُ اَ
﴿إن هؤلءِ ل رِ ْ
يع حاذ ُِرون ﴾ 56سورة الشعراء.)56-54( : شذِمة قل ِيلون ِ 54إَونهم لَا لغائظون ِ 55إَونا َ
ِ ِ
فوصفهم أبهنم شرذمة ،وهي :الطائفة والبقية القليلة ،فهم كانوا السابقني إىل دعوة
موسى ،واملستجيبني لنداء اإلميان ،بني هذه األعداد الغفرية اليت ذكرها املفسرون يف
عدد جيش فرعون فضال عن رعيته ،وهكذا السابقون إىل اإلميان قلة�( ،يَْعنيِ ُه ْم قَلِيل فيِ
ٌ
فَ ،ه َذا �تَْف ِس ُري ف ،وفِرعو ُن وأَصحابه ِستَّةَ ِ
آالف أَلْ ٍ َكثِ ٍري ،وَكا َن أَصحاب موسى ِس َّ ِ ِ
ت مائَة أَلْ ٍ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُُ َْ ُ ُ َ َ
ِ ِ (((3
ي). الس ّد ّ
ُّ
وقد حرص فرعون على وصفهم مبالزمة القلة من خالل هذا اللفظ(لشرذمة) ،ومن
خالل مجعهم على(قليلون) ،فهو يؤكد قلتهم هبذه الصورة لفظا ومعىن( ،وقيل :قليلون ،ألن
كل مجاعة منهم كان يلزمها معىن القلة؛ فلما مجع ،مجع مجاعاهتم قيل :قليلون)( ((3وقد ظلمهم
فرعون هبذا الوصف ،وبغى عليهم وعدا.
ووصف الطاغني هلم أبهنم أراذل أو شرذمة ال يقلل من سبقهم ،وال يكدر من صفوهم
فالسابقون السابقون أولئك املقربون ،أولئك الذين يؤمنون بال تردد ،ويعتنقون بال صوارف،
أمن
ويقبلون بال اشرتاط ،حسبهم أهنم عرفوا طريقهم ووجدوا ضالتهم ،وهللا ورسوله يف ذلك ّ
أهنم َسبقوا يف اإلميان فذكرهم هللا ﷻ أبن السبق َ
وأكرم ،ولقد عتب هللا على قوم زعموا
ك ْم بَل هَّ ُ لاَ
َّ ْ َ ُ لَيَ َ اَ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ
الل َي ُم ُّن أْ َِ ﴿ي ُم ُ ُّنون َعليْك أن أ ْسل ُموا قل ل ت ُم ُّنوا ع إِس م وحده،
منة ْ من هللا إْ
حمض َ
ات َوال ْر ِض َو هَّ ُ ب َّ
الس َم َ َ َ
الل َي ْعل ُم غيْ َ َّ
ِني ( )17إن هَّ َ ْ
يمان إن كنْ ُت ْم َصادِق ََ َ َ ُ ْ َ
َ ْ ُ ْ
الل او ِ ِ عليكم أن هداكم ل ِِل ِ ِ
َْ ُ َ بَ ِص ٌ
ري ب ِ َما تع َملون،﴾18سورة :ق.)18،17( :
إن هؤالء ال يبالون ابملال فال يشغل ابهلم ،وال يلهثون وراء السلطان ،فال يهز يقينهم،
وال يركعون للمنصب والوجاهة ،فالنفوس الكبرية ال تكثر يف أعينها األشياء مهما تكاثرت ،وال
تشغلها لعاعات الدنيا مهما أبرقت ،ف(صانع احلياة يدوس األلقاب برجله وحيطمها ،وميضي
يصنع احلياة من موطن التخصص والفن واإلبداع .هو مليء النفس وال حيتاج أحداً مللئها.
الذي يُطالب ابملسؤوليات واأللقاب الدعوية والنقابة واإلمارة على املؤمنني إمنا هو العاجز
سن علماً وال ختصصاً وال فنّاً ،فيطلب التعويض إبنعام األلقاب عليه ،ويعارك، الذي ال يحُ ُ
اليس مهساً وسعياً ،وأما املقتدر فيتقدم
ويناضل دون مكتسباته السابقة ،وميأل الكو َ وخيتلف،
(((4
تقدم الواثق)
وداود رمز من رموز القلة اليت أثرت احلياة وأنقذت بين إسرائيل من ويالت جالوت،
والصفات اليت بدا هبا تؤكد هذه الصفة لدى تلك القلة املؤثرة يف اتريخ احلياة ،بدا ذلك يف
ثيابه اليت لقي هبا جالوت ،ويف سالحه الذي قتله به ،ويف عدم احتفاله بوجاهته ومنصبه،
وجنده وحاشيته ،حىت أغاظ ذلك جالوت وكسر نفسه كسرا وهزمه هزمية وقتله أوال روحا
س ِد ْر ًعا َولاَ أَ ْن يحَْ ِم َل ِونفساً قبل أن ِيقتله بنياانًِ وجسداًَ ِ( ،كا َنِ غُلاَ ًما �يَْر َعى الْغَنَ َمَ ،ولمَْ �يَِْقبَ ْل أَ ْن �يَْلبَ َِ
احتَ َمى َعلَْيه إِ َذا لمَْ يَ ْستَع َّد لَهَُ ،وقَ َالَ :ه ْل أَناَ وتَ ،و ْسلاَ ًحا ،بَ ْل حمََ َل مقْلاَ َعهُ َوح َج َارتَهُ ،فَ َسخَر مْنهُ َجالُ ُ
ِ بمِِ ِ ِ ِ
اح�تََّز َرأْ َسهَُُ َ ،و َج ُاءَ
صَر َعهُ فَدَناَ مْنهُ فَ ْ اب احلجر َرأْ َسهُ فَ َ َص َ ب �فتَ ْخُر ُج إِليََّ باِ لْمقْلاَ ِع؟ �فََرَماهُ َد ُاوُد قْلاَ عه فَأ َ َك ْل ٌ
ِ ِ ف داود ،وَكا َن لَه َّ َّ ِ ِ ِِ ِ
الﷻ﴿:وَآتاه اهلل يلَ ،ك َما قَ َ الشأْ ُن الذي َور َث به ُم ْل َك إ ْسَرائ َ وت �فَعُ ِر َ َ َ ُ ُ َ ُ بِ ْه ْفَأَلْ َقاهُ حْإِلىَ ْ َطَالُ ََّ
ال ُمل َك َوال ِك َمة َو َعل َم ُه م َِّما يَشاءُ﴾(.((4
(شاء هللا أن يرى القوم وقتذاك أن األمور ال جتري بظواهرها ،إمنا جتري حبقائقها .وحقائقها
يعلمها هو ومقاديرها يف يده وحده .فليس عليهم إال أن ينهضوا هم بواجبهم ،ويفوا هللا بعهدهم،
مث يكون ما يريده هللا ابلشكل الذي يريده.
وقد أراد أن جيعل مصرع هذا اجلبار الغشوم على يد هذا الفىت الصغري ،لريى الناس
أن اجلبابرة الذين يرهبوهنم ضعاف ،ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حني يشاء هللا أن يقتلهم..
وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها هللا .فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم
امللك بعد طالوت ،ويرثه ابنه سليمان ،فيكون عهده هو العهد الذهيب لبين إسرائيل يف اترخيهم
( ((4صناعة احلياة ،حملمد أمحد الراشد.46 :
( ((4تفسري املنار.)983 /2( :
28
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
(((4
الطويل جزاء انتفاضة العقيدة يف نفوسهم بعد الضالل واالنتكاس والشرود)
إن قيمة املرء يف نفسه ،ومكانته هو الذي يصنعها ،بعيدا عن زخرف الدنيا ،وشارات
احلياة ،وواقع الناس ينبئ بذلك إنباءً ،فأحرص الناس على وجاهتهم وتقدمهم هم أكثر الناس
فراغا ،فاملمتلئ من داخله ليس يف حاجة إىل من ينعم عليه بشارة أو عبارة ،ولعل هذا من
ِح َكم هللا يف﴿ :إال من اغرتف غرفة بيده﴾؛ رمزاً للتقلل مما يثقل البدن ،ويُعتِم النفس،
فالذي يتخفف من حاجاته األساسية يكون على ترك غريها أقدر ،وامليدان ميدان قتال ودماء،
وبذل وأشالء ،والذي ال يصرب على ترك املاء ال يصرب على مالقاة األعداء ،ومقارعة األبطال،
أما الذي يكرع حىت ميتلئ ،ويعب حىت يتورم فال يقوى على مقاومة نفسه ،ومن ال يقوى على
مقاومة نفسه ال يقوى على مقارعة غريه.
وهم علماء فقهاء
العلم أساس احلضارة ،به تنشأ وعليه تقوم ،وبدونه ال تستمر وال تزدهر ،وحضارة ال
تتبىن العلم وال تعتمد عليه حضارة شوهاء ،ترف -إن رفت -جبناح واحد ،أو هي عرجاء
متشي – إن مشت -على ساق واحدة ،من هنا كان أول ما نزل يف بناء حضارة اإلسالم
ْ َ ْ َّ ُ َ هَ َ َّ
(اقرأ) ،ومن هنا كان العلم قبل العقيدة ﴿فاعلم أنه ال إِل إِال الل﴾،سورة :حممد)19(:
والقلة الرائدة العاملة ال تكون مؤثرة إال ابلعلم؛ لذا ترى من أبرز صفات القلة أهنم
عاملون فاقهون ،وهذا شأن القلة ،تكون أكثر أهل أمتها علما ،وأوفرها فهما ألهنم الرادة الذين
يسبقون ،والقادة الذين يدلون قومهم إىل مواطن اهلدى والفالح.
وهؤالء العلماء هم األصفياء اخلُلَّص ،واخلواص من عباد هللا ﷻ ؛ ولذا أطلعهم
بعلمه على معرفة عدد هؤالء األولياء من عباده ،أهل الكهف الدعاة الصابرين الفارين بدينهم
اص ِ
عباده ،ومن كان قريبا يف احلال من الظلم وأهله( ،ملا كانوا من أوليائه فال يعلمهم إال خو َّ
منهم فهم يف كتم الغرية ،وإيواء السرت ،ال يطّلع األجانب عليهم ،وال يعلمهم إال قليل؛ أل ّن احلق
ﷻ يسرت أولياءه عن األجانب ،فال يعلمهم إال أهل احلقيقة فاألجانب ال يعرفون األقارب ،وال
(((4
تشكل أحوال األقارب على األقارب)((،((4مث أخرب أن عامل ذلك من البشر قليل)
( ((4يف ظالل القرآن.)962 /1( :
( ((4لطائف اإلشارات.)983 /2( :
( ((4الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز.)805 /3( :
29
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
وهؤالء العاملون هم الذين وفقوا لعلم الصواب وإصابة احلق( ،وهم الذين أصابوا الصواب
وعلموا إصابتهم)((4(().
إن هؤالء القلة هم أهل العلم بزماهنم ،وأهل الوعي بشأهنم ،وما يلزمهم يف وقتهم ،وذلك
العلم أحد األسباب الرئيسة اليت تبىن عليها احلضارة ،وتؤسس عليها الدعوة إىل هللا ﷻ،
وحتفظ هذه احلضارة من التفسخ واالحنالل.
والناظر يف القلة مع داوود يرى أهنم علماء واعبون وفقهاء فامهون ،بدا ذلك يف ترتيب
الدعاء لديهم كما بدا يف نصحهم ملن معهم ،وحرصهم على هدايتهم ،ومما يدل على ذلك
ين قالوا﴿ : ﴿كم ّمِن ف َِئ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَ َب ْت ف َِئ ٍة َكثِ َريةً بِإِذْ ِن اهلل﴾�ت ْقويةُ قلوب الَّ ِ
ذ َ
أيضا قوهلم:
َ َ ال َطاقَ َة نَلَا ايلوم بَال َ
ُ َ
العدد ،وإِنمَّ ا العربةُ ابلتَّأْييد ا ِإلهلي ،مث وت َو ُجنودِه ِ﴾ واملعىن :ال ِعربة بكثرِة ِ جِ
ُ َ َ ُ ُ َ َ ذَّ ََ
آم ُنوا َم َع ُه قالوا
ين َ ال َ قال﴿ :واهلل َم َع الصابرين﴾ .وهذا من تمَ ِام قوهلم﴿((4().فل َّما جاوزه هو و ِ
اَل طاقَ َة نَلَا يْالَ ْو َم بال ُ َ
اس�تََقلُّوا أَ�نُْف َس ُه ْم َع ْن لَِق ِاء َع ُد ِّوِه ْم لِ َك�ثَْرتهِِ ْم ،فَ َش َّج َع ُه ْم
ْ ِ
ي َ
أ ﴾
ِ ِه دونوت َو ُج ُ
جِ
ِ ٍ (((4
س َع ْن َك�ثَْرِة َع َد ٍد َولاَ ع َدد) يَل الل ح ٌّق ،فَِإ َّن النَّصر ِمن ِعْن ِد هَِّ
الل َن وع َد هَِّ عُلَ َم ُاؤُه ْم الْ َعالِ ُمو َن بأِ َّ
َ ْ ْ َ ْ َ ْ َ
مؤمنون باهلل
ومن صفات القلة أهنم مؤمنون ابهلل إمياان يقينيا عمليا فهم يدركون أن اإلميان أساس
لصبرِْ -الَّ ِذي ُه َو ِم ْن لاِ ِ ِ ِ ِ ِ
ص َام باِ َّ (إن الإِْ ميَا َن بِل َقاء هللا �تََعالىَ فيِ الآْ خَرِةَ ،وا ْعت َ
النصر والتأييدَّ ،
ص ِر الْ َع َد ِد الْ َقلِ ِيل َعلَى الْ َع َد ِد
ْ ان ِم ْن أسباب ن
َ ان -س�بب ِ
ََ َ
ان الْبرِ ِ وَكمالِِه ِمن ثمََر ِ
ات الإِْ ميَ ِ
َ ْ َ َ ّ
أَرَك ِ
ْ
َ ْ ْ َ َ َ َ ََ ْ ًَ َ َ ذَّ َ َ ُ ُّ َ َ َّ ُ ْ ُ لاَ ُ ِ ِ ِ
ك �قَْولُهُ ﷻ﴿ :قال الِين يظنون أنهم م قو اهللِ كم مِن ف ِئ ٍة قل ِيل ٍة غلبت ف ِئة الَْ َكثري َو َْذل َ
ُ َ َ َّ
كثِرية بإذن اهللِ َواهلل مع الصابر َ ًَ
(((5
ين﴾سورة البقرة)249( : ِِ ِِ ِ
وهذا اإلميان هو الذي حيملهم على التمسك مببدئهم ،والتضحية يف سبيله ،والصرب على
مشاقه ،لعلمهم إن هللا انصر دينه ،ومؤيد أهله
31
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
ويف اختيارهم الدعاء بلفظ الربوبية فيه ما فيه من وعيهم وحسن صلتهم برهبم ،و(هذه
(ر�بَّنَآ) إنه مل يقل :اي هللا ،بل
هي الشحنة اإلميانية ملن يريد أن يواجه عدوه فهو ينادي قائالَ :
(ر�بَّنَآ)؛ ألن الرب هو الذي يتوىل الرتبية والعطاء ،بينما مطلوب «هللا» هو العبودية يقولَ :
املوقف الصعب «اي ربنا» أي اي من خلقتنا وتتوالان والتكاليف؛ لذلك ينادي املؤمن ربه يف
َ ْ ْ َ َ ْ َ َ رْ ً
ومتدان ابألسباب ...وعندما نتأمل كلمة ﴿أف ِرغ علينا َصبا﴾ تفيدان أهنم طلبوا أن ميأل هللا
ْ
﴿و َث ّبِ ْت أق َد َام َنا﴾ حىت يواجهوا العدو إبميان،َ قلوهبم ابلصرب ويكون أثر الصرب تثبيت األقدام
وعند هناية الصرب وتثبيت األقدام أييت نصر هللا للمؤمنني على القوم الكافرين ،وأتيت النتيجة
ْ ُ َ
(((5
للعزم اإلمياين والقتال يف قوله احلق﴿:ف َه َز ُموه ْم بِإِذ ِن اهلل﴾...
ويف ترتيب الدعاء :حسن صلة ،وجودة وعي ،من طلب إفراغ الصرب ،مث تثبيت األقدام،
وهو مرتب على سابقه ،مث النصر على الكافرين ،وهو نتيجة املقدمتني السابقتني ،واستخدام
لفظ( :الكافرين)فيه حتضيض عليهم ،واستجالب للنصر على هؤالء الكافرين ،فلم يقولوا
انصران على عدوان ،بل على القوم الكافرين ،حتضيضا عليهم وبياان لسبب طلب نصرهم على
هؤالء الذين جحدوا هللا يف ربوبيته وألوهيته ،ففي هذا الدعاء مع حسن الصلة ودقة الوعي
( ترتيب بليغ إذ سألوا أوالً إفراغ الصرب يف قلوهبم الذي هو مالك األمر ،مث ثبات القدم يف
مداحض احلرب املسبب عنه ،مث النصر على العدو املرتتب عليهما غالباً.
(((5 �فهزموهم بإِِ ْذ ِن هَِّ
الل :فكسروهم بنصره ،أو مصاحبني لنصره إايهم إجابة لدعائهم). ََ َ ُ ُ ْ
ومن لطائف صاحب البحر مجعُه لبعض اللمسات اليت يتميز هبا يف قوله( :فَ ِزعُوا
ك إِ ْش َع ٌار َّال علَى الإِْ صلاَ ِح وعلَى الْم ْل ِ ِ ِ
ك ،فَفي َذل َ ْ ََ ُ ب الد ِّ َ ُّع ِاء للِهَِّ ﷻ �فَنَ َاد ْوا بِلَ ْف ِظ َّ
الر ِّ إِلىَ الد َ
الص�بَْر َحتىَّ يَ ُكو َن ُم ْس�تَْعلِيًا َعلَْي ِه ْم،
ب َعلَْي ِه ُم َّ ص َّ باِ لْعُبُوديَّةَ .و�قَْولهُُْم :أَفْ ِر ْغ َعلَ�يْنَا َ
ص�بًْرا ُس َؤ ٌال بأَِ ْن يَ ُ
ِِ
ض الْ ِقتَ ِالَ ،وُه َو اح ِ ف وهم َكالْمظْروفِني فِ ِيه.و�ثبِت أَقْدامنا �فلاَ �تزُّل عن م َد ِ
َويَ ُكو َن لهَُْم َكالظَّْر َ ُ ْ َ ُ َ َ َّ ْ َ َ ََ َ ْ َ
ِ
الصبرِْ َسأَلُوا كِنَايَةٌ َع ْن تَ ْش ِجي ِع �قُلُوبهِِ ْم َو�تَْق ِويَتِ َهاَ ،ولَ َّما َسأَلُوا َما يَ ُكو ُن ُم ْس�تَْعلِيًا َعلَْي ِه ْم ِم َن َّ
صِ ِ ِ ِ
ف َي :أعنا عليهم ،وجاؤا باِ لْ َو ْ ص ْران َعلَى الْ َق ْوم الْكاف ِر َ
ين أ ْ اخ َهاَ .وانْ ُيت أَقْ َدام ِه ْم َوإِ ْر َس َ �تَثْبِ َ
َصنَ َامَ ،وفيِ �قَْولهِِ ْمَ :ر�بَّنَا ،إِ�قَْر ٌار للِهَِّ ﷻ ِ لخِ ِ ِ
الْ ُم ْقتَضي ُ ْذلاَ ن أ َْع َدائ ِه ْمَ ،وُه َو الْ ُك ْفُرَ ،وَكانُوا �يَْعبُ ُدو َن الأْ ْ
ِ ِ (((5
باِ لْ َو ْح َدانِيَّ ِةَ ،وإِ�قَْر ٌار لَهُ باِ لْعُبُوديَّة).
( ((5تفسري الشعراوي.)6501 /2( :
( ((5أنوار التنزيل وأسرار التأويل.)251 /1( :
( ((5البحر احمليط يف التفسري ،)295 /2(:اللباب يف علوم الكتاب،)982 /4(:وتفسري املنار()983 /2
32
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
33
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
(و�ثَبِّ ْ
ت أَقْ َد َامنَا). الصرب على مشاهدة املخاوف وهو املراد بقوهلمَ : األولَّ :
الثاين :أن يكون قد وجد من اآلالت واألدوات ما ميكنه أن يقف ويثبت ،وال يصري
ملجأ إىل الفرار.
ص ْرناَ َعلَى ال َق ْوِمالعدو؛ حىت يقهره ،وهو املراد من قوهلم (وانْ ُ القوة على ِّ الثالث :زايدة َّ
ِ
ال َكاف ِر َ
ين)
(((5
وهذا هو ترتيب العقل والواقع ،مبا يشعر أبهنم واعون واعبون لسنن هللا ﷻ يف احلياة(،
اتالص�بر سبب لِل�ثَّب ِ ِِ ض بحِ َس ِ ٍ وه ِذ ِ
ب الأْ سباب الْغَالبَة ،فَ َّ ُْ َ َ ٌ َ َ عْ �ب
َ ى ل
َ ع
َ َّب
ٌ ت
رَ م
ُ ا ه
َ ض
ُ ع
ْ �ب
َ ة
ُ ث
َ َّ
لاَ �ث ال ور
ُ ُم
ُ لأْ ا ه ََ
ِ ِ باِ
لصبرِْ املؤمنون هلل َعَّز و َج َّل الْغَال ِ باِ ِ ِ
ب َعلَى َ َّاس َّ َّص ِرَ ،وأ ْ
َج َد ُر الن ِ ب م ْن أسباب الن ْ الَّذي ُه َو َسبَ ٌ
ِِ (((6
أ َْمره).
القراءات يف اآلية الكرمية وعالقتها بالسننية يف القلة
ومن القراءات الواردة يف اآلايت الكرمية اليت تعقب على قصة املأل من بين إسرائيل ما
يفيد يف أتكيد السننية فيما حوته اآلايت الكرمية ،فقد ورد فيها( :ولوال دفاع هللا الناس) ،وهي
(((6
قراءة :انفع ،وأيب جعفر ،ويعقوب ،وورد فيها(:لوال دفع هللا الناس) وهي قراءة الباقني
(وقَ ْد سمََّى َه َذا َد�فًْعا َعلَى قَِراءَ ِة الجُْ ْم ُهوِر باِ ْعتِبَا ِر أَنَّهُ ِمْنهُ ُسْب َحانَهُ ،إِ ْذ َكا َن ُسنَّةً ِم ْن ُسنَنِ ِه َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ باِ ِ ِ ِ ِ لاِ ِ
ني َوأ َْه ِلصلح َ اًّ
َن ُكل م ْن أ َْه ِل الحَْ ّق الْ ُم ْ اعا قَراءَة ناَ ف ٍع ْعتبَار أ َّ فيِ يَ ،وسمََّاهُ دفَ ًفيِ ا ْجت َم ِاع الْبَ َشر ّ
ِ ِ
ين �يَُقا ِوُم الآْ َخَر َو�يَُقاتِلُهُ). ِِ ِ
الْبَاط ِل الْ ُم ْفسد َ
(((6
ولعل تذييل اآلية الكرمية هبذا التذييل ليكون هناية وتعقيبا على كل ما مضى من
اآلايت املتعلقة هبذه القصة وما قبلها ،كما يرى صاحب التحرير والتنوير :أن هذه اآلية
ِ السالَِفةُ لِتَ ْدفَع ع ِن َّ ِ َشار بهِ ِ ِ ِ
ص ِر َما السام ِع الْ ُم�تَبَ ّ َ َ ت َّ ت َا الآْياَ ُ ذيلت ( ُك َّل الْ َوقَائ ِع الْ َعجيبَة الَّتيِ أ َ َ ْ
ون َه ِذ ِه ضم ِ ِ ِ ِ لهِ فيِ ِ ِِ ِ ِ ِ ِ فيِ ِ ِ
يخَُام ُرهُ م ْن تَطَلُّب الحْ ْك َمة َح َدثاَ ن َهذه الْ َوقَائ ِع َوأ َْمثَا َا َه َذا الْ َعالمَ َول َك ْون َم ْ ُ
ِِ ِ الآْ يَِة ِع�بَْرًة َم ْن ِعبرَِ الأْ َ ْك َو ِان َو ِح ْك َمةً ِم ْن ِح َك ِم التَّا ِر ِ
َح ٌد يخَ ،ونُظُِم الْعُ ْمَران الَّتيِ لمَْ �يَْهتَد إلَ�يَْها أ َ
ِ ِِ ِ ِ ِ �قبل �نز ِ ِ ِ ِ
فت َعلَى الْعبرَِ الْ َماضيَة َك َما عُط َ ول َهذه الآْ يَةَ ،و�قَْب َل إِ ْد َراك َما فيِ َمطَا ِو َيها ،عُط َف ْ َْ َ ُُ
( ((5اللباب يف علوم الكتاب.)982 /4( :
( ((6تفسري املنار .)983 /2(:
( ((6القراءات العشر املتواترة ،ص،14حممد راجح كرمي،:ط :دار املهاجر ،املدينة املنورة ،ط :الثالثة4141،هـ4991،م.
( ((6تفسري املنار.)093 /2( :
34
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
َ َ
﴿وقال ل ُه ْم نَبِ ُّي ُه ْم﴾ [سورة البقرةَ ]247 :وَما بعده من ُرُؤوس الآْ ِيَ .وعدل َعن الْ ُم�تََعارف
َ �قَْولُهُ:
وك َسبِ ِيل الاِ ْستِ�ئْنَاف).
ِ (((6 ف ،وسلُ ِ
ِ لهِ ِ ِ
فيِ أ َْمثَا َا م ْن �تَْرك الْ َعطْ َ ُ
وما يؤكد السننية يف القلة ومهمتها يف احلياة ونظرهتا للمقاييس واملعايري ،واستمدادهم
للقوة احلقيقية اختفاء األشخاص من العرض القرآين هبدوء وظهور احلكمة املاضية الثابتة اليت
هي سنة هللا اليت ال تتخلف وال تتأجل ،سنته يف القلة املؤمنة الصابرة ،والكثرة املغرورة املتكربة،
اليت تتكرر يف كل زمان ومكان ،ويف كل عصر ومصر.
وما جرى على داود هو ما جيري على القلة يف كل زمان ومكان فهي سنة ماضية،
وانموس ال يتبدل وال يتخلف ،ولقد رصد لنا القرآن الكرمي منوذجا آخر من مناذج القلة
بدت يف عينه الدنيا قليلة ،ابلنسبة إىل صادق موعود هللا ﷻ وعظيم إنعامه على املؤمنني،
إنه صاحب ذي اجلنتني ،الذي وقف أمام صاحبه معلما ومرشدا ،ومبينا وهاداي ،ذاكرا له
أن القلة يف الدنيا ال تعين القلة يف اآلخرة وأن الغىن يف األوىل ليس دليال على وفرة املال يف
الثانية ،ومقاييس العاجلة ليست مقاييس الباقية ،وبعد حوار طويل رصده القرآن الكرمي ،أكد
له املؤمن أنه وإن كان يف املال ُخلواً َ ،ويف األوالد قُالً فاهلل خري وأبقى..
لاً ُ َ ُ ُ ََ ذَّ َ
ك م ِْن تُ َراب ث َّم م ِْن ن ْطفة ث َّم َس َّو ََ َحُ َ َ هَ ُ َ ُُ َ َُ َ ُُ َ
كف ْر َ
اك َر ُج
اَّ اَ ٍ ْ ٍ تَ ب ِاَالِي خل ْق ﴿قال ل صا اَحِب ُه وهو ياوِر َه أ
هَّ َ ُ َ َ َ َ هَّ ُ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َّ ُ َ هَّ ُ َ َ رْ
ش ُك ب ِ َر ّيِب أ َحدا 38ولول إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الل ل قوة إِل بِاللِ
َّ ُ ْ َ ً
37لكِنا َهو َ الل ر ّيِب ول أ ِ
َ َ َّ ْ َ َ اً لدَ ً
إِن ت َر ِن أنا أقل مِنك مال َو َو ا ﴾39سورة الكهف.39_37:
ْ َ
وهذا القول من املؤمن بيان و ٍاع للقلة يف الدنيا وصفاهتا ،وهو مثل يتكرر يف كل زمان
ب الجَْ�نَّ�تَينْ ِ َو َع ِش َريتِِهَ ،وُه َو ال لَه ،ولاَ ع ِشريَةِ ،مثْل ص ِ
اح ِ ِ ِ
َه َو �قَْو ُل الْ ُم ْؤم ِن الَّذي لاَ َم َ ُ َ َ َ ُ َ ومكان ،و( ُ
ك ال الْ ُم ْؤِم ُن لِْل َكافِ ِر :إِ ْن �تََرِن أَ�يَُّها َّ
الر ُج ُل أَناَ أَقَ َّل ِمْن َ ول :قَ َ
اب� ،يَُق ُ ِمثْل َس ْلما َن و ُ ٍ
ب و َخبَّ ٍ
ص َهْي َ ُ َ َ
َمالاً َوَولَ ًدا) هكذا يف نظرك ،وأنت الكثري املال الوافر العشرية والعيال ،فإين بفضل هللا (((6
عزيز ،وبعطائه غين ،وبرضاه مطمئن ،وبتأييده آمن ،فأان عبده وهو سيدي( ،وهكذا تنتفض
عزة اإلميان يف النفس املؤمنة ،فال تبايل املال والنفر ،وال تداري الغىن والبطر ،وال تتلعثم يف
احلق ،وال جتامل فيه األصحاب .وهكذا يستشعر املؤمن أنه عزيز أمام اجلاه واملال ،وأن ما عند
هللا خري من أعراض احلياة ،وأن فضل هللا عظيم وهو يطمع يف فضل هللا .وأن نقمة هللا جبارة
وأهنا وشيكة أن تصيب الغافلني املتبطرين ((6().إنه مثل يتكرر يف الزمان واملكان واألفراد وتلك
مسة السنة املاضية ،والقانون الذي ال يتبدل وال يتحول.
الصرب والثبات وطاعة القواد
ومن صفات القلة احملمودة اليت جرت هبا سنة القرآن الكرمي ،الصرب والثبات ،بدا ذلك
يف القلة املؤمنة مع طالوت ،وبدا عمليا يف غزوات النيب ﷺ ويبدو ذلك صراحة يف طلب القرآن
الكرمي منهم الصرب والثبات على مالقاة الكفار يف احلرب وبيان أهنم ال يفقهون:
َ ْ ْ َ ُ ْ ْ ُ ْ رْ ُ َ ع الْق َ ْ ُ ْ َ لَىَ َ
ون َصا ب ِ ُر ون َيغل ُِبوا ِش ع م ك ِن
م ن ك ي ن ِ إ ل
ِ ا ت ِ ِني ن ِ
م ؤ م ال ضِ رب َح ّ
﴿ يَا أ ُّي َها انلَّ ُّ
َ اَ ْ َ َ َ َّ َ ذَّ َ َ َ َ ًْ ُ يِ ْ ُ ِ ٌ ْ ْ َ َ نْ
ِين كف ُر وا بِأ ن ُه ْم ق ْو ٌم ل َيفق ُهون ()65 ي ِإَون يَك ْن مِنك ْم م َِئة َ َيغل ُِبوا أ لفا مِن ال ِ مِائت
َ َ نْ ُ ُ ْ َ ًْ َ ْ َ ُ ْ ْ ُ ْ ٌَ َ ٌَ َ ْ هَّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ َ َّ آْ َ َ َّ َ
يال َن خفف الل عن َكم وعل ِم أ َن فِيكم ضعفا فإ ِن يكن مِنكم مِئة صا بِرة يغل ِبوا مِائت ِ
الصا بر َ اللِ َو هَّ ُ
الل َم َع َّ هَّ ْ ْ َ نْ ْ َ ُ ْ ْ ُ ْ ٌْ َ ْ ُ
ين ﴾ سورة األنفال.)66(: ِِ ي بِإ ِذ ِن
ِإَون يكن مِنكم أ لف يغل ِبوا أ لف ِ
اع ِة الْ ُق َّو ِاد -الْ ِفئَةَ الْ َكثِ َريَة الَّتيِ أ َْع َوَزَها َّ ِ ب -باِ َّ ِ ِ ِ
الص�بُْر لصبرِْ َوال�ثَّبَات َوطَ َ (إَحَِّن الْفئَةَ الْ َقليلَةَ قَ ْد �تَ ْغل ُ
ت ُس�نَّتُهُ بأَِ ْن يَ ُكو َن الن ْ
َّص ُر أَ�ثًَرا َي َجَر ْ ين:أ ْ
هللا مع َّ ِ
الصاب ِر َ
ِ
صَر َ َ اع ِة الْ ُق َّو ِاد؛ لأِ َّ
َن نَ ْ ادَ ،م َع طَ َ الاِتَ ُ
َو ّ
ِ ِ ِ ِ ِ
اه ٌد فيِ ُك ِّلب ُه ْم أ َْع َوا ٌن ل َع ُد ِّوه ْم َعلَى أَ�نُْفس ِه ْمَ ،وَه َذا ُم َش َ َن أ َْهل الجََْزِع والجُْنْ ِ
الصبرْ َ ،وأ َّ َ (َ ((6
ات و َّ ِ
لل�ثَّبَ َ
انَ ،وُه َو َكثِريٌ لاَ ُمطَّ ِرٌد ) َزم ٍ
َ
شاكرون ً
عمال
وإذا كانت القلة العاملة هم العاملون الواعبون ملا دق على غريهم ،فهم كذلك الشاكرون
عمالً ال قوالً ،واملستشعرون لنعمة هللا تعاىل عليهم يدفعهم علمهم إىل الشكر الصادق ،وهو
الشكر العملي ،الذي ال يتوقف عند شقشقة اللسان وطمطمة األسنان ،بل يعلمون أن
العلم يولد العمل ،والشكر من جنس النعمة اليت رزقوها ،كما أخرب هللا تعاىل عن آل داود يف
ك ُْ َ ُ َ َ ُ َ ُ ْ ً َ َ ٌ ْ َ َ َّ ُ
ور﴾سورة سبأ .)13( :أي( :وقلنا هلم اعملوا قوله﴿:اعملوا آ َل داوود شكرا وقل ِيل مِن عِبادِي الش
شكرا له على ما أنعم عليكم من النعم اليت خصكم هبا عن سائر خلقه بطاعة هللا اي آل داود ً
مع الشكر له على سائر نعمه اليت عمكم هبا مع سائر خلقه ،وتُرك ذكر“ :وقلنا هلم” اكتفاء
بداللة الكالم على ما ترك منه)(.((6
ولعل السر يف التعبري عن الشكر ابلعمل فلم يقل هللا ﷻ :اشكروا ،بل قال :اعملوا
شكرا ،ما يظهر أهنم مطالبون أبن يكون شكرهم شكراً عملياً ،ال شكرا قولياً( ،وأخرج قوله:
(اع َملُوا) :اشكروا ربكم بطاعتكم
اود) ألن معىن قولهْ :آل َد َ
(اع َملُوا َ
(ش ْكًرا) مصدرا من قولهْ :ُ
إايه ،وأن العمل ابلذي رضي هللا ،هلل شكر ).وهؤالء الشاكرون شكرا عمليا قليلون ،وتلك
(((6
سنة هللا تعاىل يف خلقه وعباده ،أي (:وقليل من عبادي املخلصو توحيدي واملفردو طاعيت
أقل النَّاس الْ ُمؤمن)( ،((7فاملخلصون يف توحيدهم
وشكري على نعميت عليهم ).أَيُّ (:
(((6
واملفردون للطاعة والشكر على النعمة هم الشاكرون عمالً ،وهم أقل الناس كما جرت بذلك
سنة هللا تعاىل يف القلة.
والشكور( :املتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ،ومع ذلك ال
الشكر نعمةٌ تستدعي شكراً آخر ال إىل هنايته؛ ولذلك قيل :الشكور َ يوىف حقه؛ ألن توفيقه
(((7
من يرى عجزه عن الشكر ((7().والشكور(:العامل بطاعيت شكرا لنعميت)
وواقع الناس ينبئ أبن القليل منهم من يشكر على هذا النحو ،فيشكر على املنع
كما يشكر على األخذ ،ويشكر على البالء كما يشكر على الرخاء ،ويشكر على القليل
كما يشكر على الكثري ،ويشكر بقلبه وكل جوارحه ،وهذا الصنف يف الناس ال أقول قليل
بل اندر ،فالكثري من الناس من يهش للعطاء وأيسى يف البالء ،قليل من الناس (من أيخذ
النعمة من هللا وال حيملها على األسباب فال يشكر الوسائط ويشكر هللا .واألكثرون أيخذون
(((7
النعمة من هللا ،وجيدون اخلري من قبله مث يتقلدون املنّة من غري هللا ،ويشكرون غري هللا).
َ َ ٌ ْ َ َ َّ ُ
الشكورُ﴾ إِ ْخبَ ٌار َع ِن الْ َواقِ ِع ،((7().وهذا يقول ابن كثري رمحه هللاَ :و�قَْولُهُ﴿ :وقل ِيل مِن عِبادِي
َن العاملني قَلِيل( ((7().هذا هو عني السننية يف صفة تلك القلةَ (.وإِ ْذ َكا َن الْ َع َم ُل ُش ْكًرا أَفَ َاد أ َّ
إخبار بواقع .وصدق هللا العظيم ،الشاكرون هلل على نعمه قليل ،ويف كل زمان ومكان؛ وذلك
(((7
الستيالء الغفلة على القلوب من جهة ،وجلهل الناس برهبم وإنعامه من جهة أخرى).
( ((6جامع البيان .)863 /02( :
( ((6جامع البيان.)963 /02( :
( ((7تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني.)01 /4( :
( ((7أنوار التنزيل وأسرار التأويل (.)442 /4
( ((7التفسري الوسيط للواحدي ،)984 /3(:تفسري البغوي.)476 /3(:وتفسري السمعاين.)223 /4(:
( ((7لطائف اإلشارات ،)971 /3( :بتصرف يسري.
( ((7تفسري ابن كثري .)105 /6( :
( ((7التحرير والتنوير.)361 /22( :
( ((7أيسر التفاسري للجزائري.)013 /4( :
37
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
وهذه سنة هللا تعاىل اليت ال تتبدل وال تتخلف واليت يعرب عنها املفسرون بعادة هللا ﷻ( ،وقد
ََ ٌ
﴿وقل ِيل جرت عادته ﷻ بكثرة اخلبيث من كل شيء ،وقلة الطيب من كل شيء ،قال ﷻ:
تكاد الش ُكور ﴾ ،ويف احلديث الصحيح« :النّاس ٍ ِ ٍ ما ُه ْم﴾ ﴿،وقَلِيل ِمن ِع ِ
كإبل مائة ال ُ ُ ُ َّ ي
َ باد َ ٌ ْ
احلةَ» ،وقال الشاعر: تجَِ ُد فيها ر ِ
َ
ِ
أحدا
ني أفتَ ُحها َعلَى كثري ولكن ال أرى َ إنيّ ألفتَ ُح َعينيِ َ ح َ
فأهل الصفا قليل يف كل زمان) (((7
38
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
وبني اإلمام الرازي السننية يف قلة الصاحلني الذين ال يبغي بعضهم على بعض وأسباب
َ َّ ُ ََ ٌ ذلك أبن ( الحْ ْكم بِِقلَّ ِة أ َْه ِل الخَْ ِ َكثِري فيِ الْ ُقر ِ
ور﴾ ك ُ ﴿وقل ِيل م ِْن عِبادِي الش ال �تََعالىَ :
آن ،قَ َ يرْ ٌ
ََ ٌ َ ُ
ْ ُ َ
ْ ِ
ال َد َ ُاوُد َه َذا الْ َم ْوض ِع﴿ :وقلِيل ما هم﴾َ ،و َح َكى �تََعالىَ عن إبليس فيِ [سورة سبأَ ،]13 :وقَ َ
َن الدَّو ِ
اع َي إِلىَ الدُّ�نْيَا َّ ين﴾ [سورة األعراف ،]17 :وسبب الْ ِقلَّ ِ ث ُه ْم شاكِر َ ﴿وال جَت ُد أك َ
رَ ْ َ
َ أ ة َ ََ ُ ِ ِ أنَّهُ قَ َ
ال:
ب أ َْه ِل الخَْيرِْ ت الْ ِقلَّةُ فيِ َجانِ ِ ب و�قع ِ
السبَ ِ َ ََ َكثِ َريةٌ ،وهي احلواس الباطنة والظاهرة ...فَلِ َه َذا َّ
َّر.((8()،ب أ َْه ِل الشِّ والْ َك�ثْرةُ فيِ َجانِ ِ
َ َ
يل َّما ُه ْم أي وهم قليل ،وما مزيدة لإلهبام والتعجب من قلتهم(((8().واملعىن أن (وقَلِ
ٌ َ
(((8
الصاحلني الذين ال يظلمون قليل)
وتذييل اجلملة الكرمية هبذا الوصف يبني نفاسة القلة ،وسنة هللا ﷻ فيها ،اليت تؤكدها
(وفيِ تَ ْذيِ ِيلوقائع األحداث ودنيا الناس ،وهناك دواعي هلذه القلة وعوامل ساعدت عليهاَ ،
وسني لِ َما ُه َو ُم�تََقَّرٌر فيِ ال�نُُّف ِ الصالحِِ
َّ ن مث لهَ ما أَ ْن ي ُكوناَ ِ ٌّ ح ) م ه ا م يل كَلاَ ِم ِه بَِقولِِه( :وقَلِ
َ َ َ َ ُ َ ْ ُ َ ٌ ْ َ
ثةُك َك رْ َخْ َ ُ َ َّ ّ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ اَ ِ ٍ
ال �تََعالىَ ﴿:قل ل يستوِي البِيث والطيِب ولو أعجب اس ِة ُك ِّل َش ْيء قَل ٍيل ،قَ َ ِ
م خَْْن �نََف َ
اعي إِلىَ لَ َّذ ِ َن الدَّو ِ السبب فيِ َذلِ َ ِ ِ ِ ِ ِ
ات الدُّ�نْيَا َ ك م ْن َجانب الحْ ْك َمة :أ َّ َ يث﴾[سورة املائدةَ ]100 :و َّ َ ُ الب ِ ِ
ب وف بجِ َو ِاذ ِ س َع ِز َيزةُ الْوقُ ِ ِ اه َدةَ ال�نَّْف ِ ِ
وع ،فَالإْ نْ َسا ُن محَْ ُف ٌ َ ُ وب َومجَُ َ َكث َريةٌ َوالْ َم ْش َي َم َع الهََْوى محَْبُ ٌ
اض َعن ين َوالحْ ْك َمةَُ ،وفيِ أسباب الْ َك َم ِال إِ ْعَر ٌ
ِ
ُ اعي الحَْ ِّق َوالْ َك َم ِال �فَُه َو ال ِّد ات ،وأ ََّما دو ِ
َ السيِّئَ َ َ
َّ ِ
ِ ِ ِ ِ همِ ِ ِ ِ الش ِ
ض اض َعسريٌ لاَ يَ ْسلُ ُكهُ إِلاَّ َم ْن سمََا بِدينه َو َّته إِلىَ الشََّرف ال�نَّْف َسانيِِّ َوأ َْعَر َ َّه َواتَ ،وُه َو إِ ْعَر ٌ َ
ِ باِ ِ َّ ِ (((8 فيِ َّ ِ ِ نيِ ِ
ك ُه َو الْعلةُ َه َذا الحُْ ْكم لْقلة) َّه َوا ِّ ،فَ َذل ََع ِن الدَّاعي الش ْ
َ َ َ َ َ َ َ
وشرط﴿:قال أ َرأ ْي َتك هذا استثناهم من حتكمه فيهم ،واستيالئه عليهم ،وأقسم على ذلك
َ َّ ْ َ لَيَ َّ َ ْ َ َّ ْ َ ىَ َ ْ ْ َ َ أَ َ ْ َ َ َّ ُ ّ َّ َ ُ اَّ َ ذَّ
وألحتنكن (�يَْعنيِ : الِي كرمت ع لئِن أخرت ِن إِل يو ِم القِيامةِ لحتن ِكن ذرِيته إِل قل ِيل﴾
علي ،عن ابن عباس( :ألستو ّلني). و(عن (((8
قليال). َحتَ ِويَ َّن»)(،((8أو(:ألحتوين َعلَى ذريته إِلاَّ «لأَ ْ
ّ
( ،((8وعن احلسن ( :لأَُ ْهلِ َك�نَُّه ْم باِلإِْ ْضلاَ ِل {إِال قَلِيال} �يَْعنيِ :الْ ُم ْؤِمنِ َني((8().أو ألستأصلنهم،
اح�تَنَ َك ِت َّ ِ
صلَ�تَْها، السنَةُ أ َْم َوالهَُْم؛ إِ َذا ْ
استَأْ َ وأستقصي ما عندهم فال يند منهم أحد ،تقول العرب( :قَد ْ
ٍِ ِ ِ
صاهُ) ( ((9وهذا قسم من الشيطان أنه لن ينجو ك �فُلاَ ٌن َما عْن َد �فُلاَ ن م َن الْع ْل َم؛ إِ َذا ْ
اس�تَْق َ اح�تَنَ َ
َو ْ
من حبائله وشراكه إال هؤالء ( ،فألستولني عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم يف
قبضة يدي أصرف أمرهم .((9().وواقع احلياة يؤكد تلك السنة املاضية ،والصفة احلاكمة للقلة
احملمودة العاملة.
مؤيدون منصورون
القلة احملمودة مؤيدة بنصر هللا ﷻ وأتييده ،وهذا موطن قوهتم ،وسر هنضتهم ،مهما
رآهم الناس قلة ،فهم يف الواقع هلم مدد إهلي ،واإلمداد على قدر االستعداد ،واجلود على
قدر اجملهود ،وإذا أيد هللا عبدا فما تكون الدنيا وما عليها ،وإذا خاله نصر هللا فال يغين عنه
ت﴿ك ْم م ِْن ف َِئة قَل ِيلَة َغلَ َب ْ َ
كثري وال قليل ،وهذا ما تعيه القلة املؤمنة مع طالوت إذ قالوا:
ٍ ٍ
الل َم َع َّ
الصابر َ َ ً َ َ ً ْ هَّ
اللِ َو هَّ ُ
ين﴾ سورة البقرة.)249( :هكذا إبذن هللا ،أي :بنصره وأتييده، ِ ِ ف ِئة كثِرية بِإِذ ِن
َّ َ ْ حْ َ ْ ْ وت َو آ َتَاهُ هَّ ُ ُ َ َ
هَّ َ َ َ ُ ُ
ود َجال َ ْ ُ َ
الل ال ُملك َوال ِك َمة لَىَ َو َعل ْ َم ُه َ م َِّما َ أْ فعل﴿ ،ف َه َز ُموه ْم بِإِذ ِن اللِ وقتل داو َوقد
ضل ع ال َعالم َ ْ ُ َ
ت ال ْر ُض َول ِ َّ هَّ َ َ َ ْ َ ْ ََ َ هَّ َ يَش ُ َ اَ ْ
ني ِ كن الل ذو ف ٍ اء َول ْو ل د ف ُع اللِ انلَّاس َبعض ُه ْم ب ِ َبع ٍض لف َسد ِ
حْ َ ّ َّ ْ َ َ ُ هَّ َ ْ ُ َ َ َ َ
ني ﴾ ،سورة :البقرة.249،250: ك لَ ِمن ا لْمرسلِ
َ ُْ َ َ َ ات اللِ نتلوها عليْك بِال ِق ِإَون 251ت ِلك آ َي
ِ ِ ِ ِ ِ
ي ،فَِإ َذا (والْ َم ْعنىَ أَنَّهُ لاَ ع�بَْرةَ بِ َك�ثَْرِة الْ َع َدد إِنمََّا الْع�بَْرةُ باِ لتَّأْيِيد الإِْ لهَ ِّيَ ،والن ْ
َّص ِر َّ
الس َما ِو ِّ َ
ت الْ ِمحنةُ �فلاَ م�ن َفعةَ فيِ َك�ثرِة الْع َددِ ِ ِ ِ َّ ِ ِ ِ
ضَّرَة الْقلَّة َوال ّذلةَ ،وإ َذا َجاء فيِ ِ
َْ َ َْ َ َ ْ َ َ َجاءَت الد َّْولَةُ �فَلاَ َم َ
َّة(،((9().أ ََّما �قولُهُ :واُللهَّ مع َّ ِ والْعد ِ
ُّصَرةُ)((،((9والعزيز: ين �فَلاَ ُش�بَْهةَ أ َّ
َن الْ ُمَر َاد الْ َمعُونَةُ َوالن ْ الصاب ِر َ َْ َ َ َ َ ُ
( ((8تفسري جماهد.)834( :
( ((8تفسري مقاتل بن سليمان.)122 /5( :
( ((8جامع البيان.)984 /71( :
( ((8تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني.)92 /3( :
( ((9تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني ،)92 /3( :املوسوعة القرآنية.)151 /8( :
( ((9يف ظالل القرآن.)8322 /4( :
( ((9مفاتيح الغيب ،)315 /6(:اللباب يف علوم الكتاب.)882 /4( :
( ((9مفاتيح الغيب.)415 /6( :
40
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
من أعزه هللا ،والذليل من أذله هللا ،فال تغين الكثرة مع خذالنه ،وال تضر القلة مع نصره،
(((9
{وهللا مع الصابرين} ابلنصر واملعونة والتوفيق ،فأعظم جالب ملعونة هللا صرب العبد هلل)،
من هبا على ّ وإذا كانت القلة املؤمنة مع طالوت قد وعت هذه السنة الرابنية ،فإن َهللا ﷻ قد
ْ ُ َ ْ ْ َ ٌ ْ ُ
ذكرهم بذلك َ فقال﴿ :واذك ُروا إِذ أن ُت ْم قل ِيل ُم ْس َتض َّ َعفون
القلة َ املؤمنة مع رسول هللا ﷺ ،إذ َّ
خَ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ُ ُ َّ ُ َ َ ُ ْ َ َّ َ ُ ْ َ رْ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ ّ َ َ َ ُ ْ أْ ْ
ات لعلكم يِف الر ِض تافون أن يتخطفكم انلاس فآ َواكم وأيدكم بِن ِ
صه ِ ورزقكم مِن الطيِب ِ
َْ ُ َ
تشك ُرون﴾ سورة األنفال.)26( :
فهذه منة مين هللا تعاىل هبا على عباده ،أهنم كانوا قليال فكثرهم وأيدهم بنصره ،ومدهم
مبدده .وتلك نعمة مين هللا تعاىل هبا على القلة يف عهد النيب ﷺ ويذكرهم مبا كانوا فيه من القلة
وقرهبم إىل إقامة
والذلة...( ،مث ما نقلهم إليه من اإلمكان والبسطة ،ووجوه األمان واحليطةّ ،
فمهد هلم يف ظل أبوابه
الشكر على جزيل تلك القسم ،وإدامة احلمد على مجيل تلك النّعمّ ،
للعدو إليهم -بيمن رعايته -سبيال...ورزق األشباح والظواهر من طيبات مقيال ،ومل جيعل ّ
الغذاء ،ورزق األرواح والسرائر من صنوف الضياء .وحقيقة الشكر على هذه النعم الغيبة عنها
(((9
ابالستغراق يف شهود املنعم).
استجابة اهلل للقلة الصابرة
القلة احملمودة جماب دعاؤها ،مستجاب نداؤها؛ ألهنا بذلت األسباب وتوكلت على الوهاب،
عرفت قوانني هللا يف النصر فاتبعتها ،وأدركت سنن اهلزمية فاجتنبتها ،والناظر يف ُمثل القلة الواردة
يف القرآن الكرمي جيد ذلك واضحا بينا ،فالقلة املؤمنة مع طالوت حقق هللا رجاءها واستجاب
ِ ِ
صَرُه ْم َعلَى الْ َق ْوم الْ َكاف ِر َ
ين: الص�بَْر َعلَْي ِه ْمَ ،و�ثَبَّ َ
ت أَقْ َد َام ُه ْمَ ،ونَ َ دعاءها ،وأعطاها سؤهلاَ ( ،وأَ�فَْر َغ َّ
ضلِ ِه ورحمْ تِ ِه ظَ َّن من قَ َالَ :كم ِمن فِئ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَبت فِئةً َكثِريةً بإِِ ْذ ِن هَِّ ِِ
الل، َْ َ َ ْ ْ َ َْ وت َو ُجنُوده َو َح َّق َق بَِف ْ َ َ َ َجالُ َ
الل)(((9؛ وذلك جراي على سنة هللا املاضية من أن هللا ﷻ {مع َّ ِ وهزموهم بإِِ ْذ ِن هَِّ
ين}ابلنصر الصاب ِر َ ََ َ َ َُ ُ ْ
واملعونة( ، ).واإلاثبة) .
(((9 (((9
واملتتبع لآلايت الكرمية اليت صورت أتييد هللا ﷻ للقلة الصابرة ،ومعونته هلم ،يدرك كيف
نسب هللا ﷻ الدفع إىل نفسه مباشرة مع أن القلة املؤمنة هي املدافعة ،وهي املقاتلة ،وهي املباشرة
لتلك األسباب احلسية واملعنوية اليت مصريها النصر والتأييد لبيان تلك السنة اليت ال تتخلف
حينما أيخذ البشر أبسباب هللا ﷻ ،وحيسنون التعامل مع سننه(،وقد نسب (عز امسه) الدفع إىل
نفسه؛ ألنه سنة من سننه يف اجملتمع البشرى ،وعليه بين نظام هذا العامل حىت يرث هللا األرض ومن
عليها)(.((9
إهنا السنة اليت ال تتخلف وال تتأجل وقانون هللا ﷻ املاضي يف عباده ،ومن حرص على نصر
هللا له وأتييده دعوته فليسلك سبيل القلة املؤمنة اليت وفت هلل بسننه ووىف هللا ﷻ هلا بعدله وعطائه.
وإذا كانت تلك صفات القلة احملمودة فللقلة بعض الصفات املذمومة كذلك ،وهذا ما
نتناوله يف الصفحات القادمة إن شاء هللا ﷻ.
42
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
املبحث الثالث
القلة املذمومة وصفاتها
القلة الواردة يف القرآن الكرمي كما مر بعضها حممود ،وهذا وقفنا على صفاته ،وعرفنا أهم
ما مييزه ،أما القلة املذمومة فقد عرض القرآن الكرمي هلا كذلك بياان لصفاهتا ،وتعريفا ملالحمها؛
كي حتذرها كل قلة تريد الشهود احلضاري ،وحتقق خريية األمة ،وهي رسالتها وهدفها يف سبيل
مرضات هللا ﷻ،ومن تتبع تلك األوصاف ندرك أن الوصف ابلقلة املذمومة ورد يف مواطن
متعددة ،منها :وصف متاع احلياة وزخرفها ابلقلة ،ووصف زمان الكافرين أبنه قليل ،ووصف
متاع أهل سبأ ابلقلة بعد أن جحدوا نعمة هللا ﷻ ،ووصف اللبث يف الدنيا كلها ابلنسبة
لآلخرة ابلقلة ،ووصف سكىن من بطروا معيشتهم يف الدنيا ابلقلة ،ووصف متاع اجلاحدين
وطعام اجملرمني أبنه قليل ،كما وردت القلة يف وصف شكر عموم الناس ،ووصف إمياهنم،
وتذكرهم ،ويف الصفحات اآلتية نعاجل صفات القلة املذمومة على النحو اآليت:
متاع احلياة الدنيا قليل
الدنيا ظل زائل ،ومتاع حائل ،وعرض ال يبقى وال يدوم ،متاعها مهما كثر قليل،
َ اَ
﴿ول
ْ ترَ
الذم يف ق َّوله ذَّ ﷻ:
ْ َ
ابلقلة ،يف لَىَمقام
ْ ترَ
متاعها
َ
وصف
َ لاَ ٌ
مهما َز ْاد َضننيَ ْ ،وقد ورد
ُ
وعطاؤها
ُ
َ هَّ ََ َ ٌ َ ُ َ َ َ ُ ُ ُ َ َ َُ
ِين َيف ُ ون َ
ِب إن ال َ
تقولوا ل ِما ت ِصف ألسِنتكم الكذِب هذا ح ل وهذا ح َرام لتِ ف وا ع اللِ الكذ ِ
لَىَ هَّ ْ َ َ اَ ُ ْ ُ َ َ َ ٌ َ ٌ َ َ ُ ْ َ َ ٌ َ
ٌ
ع اللِ الكذِب ل يفل ِحون متاع قل ِيل ولهم عذاب أ يِلم ﴾ سورة النحل.117،116:
أي :متاعهم هذا يف الدنيا قليل ،قال الزجاج يف معاين القرآن( :املعىن َمتاعهم هذا الذي
(((
متاع قليل).
فعلوه ِ
والقرآن الكرمي يبني للجاحدين هنا أن ما يبذلونه يف الدنيا من أجل حصوهلم على
متاعها ،وما يفرتونه رغبةً يف نعيمها قليل ،ال يستحق هذا العناء والبالء،أي(:ما يفرتون ألجله
ذاب أَلِ ٌيم يف اآلخرة ،((().وهو ليس شيئا أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريبَ .ولهَُْم َع ٌ
ذاب أَلِ ٌيم) ،أي:
يل َولهَُْم َع ٌ
ِ
ائهم(،متاعٌ قَل ٌ
َ مذكورا إذا قيس ابملضار اليت يعاقبون هبا على افرت
إن (املنافع اليت قد حتصل هلم على ذلك يف الدنيا ال يعت ّد هبا ىف نظر العقالء إذا ووزن بينها
((( معاين القرآن وإعرابه للزجاج.)222 /3( :
((( أنوار التنزيل وأسرار التأويل)442 /3( :
43
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
املضار اليت يف اآلخرة ،فما متاع الدنيا إال ظل زائل مث يفىن ويبقى هلم العذاب األليم
ّ وبني
حني مصريهم إىل رهبم مبا اجرتحوا من السيئات ،ودنّسوا به أنفسهم من أوضار اإلمث والفجور
ُ
وصورهم فأحسن صورهم ،وحنو اآلية قوله﴿ :ن َم ّت ِ ُع ُه ْم
والكذب على ابرئهم الذي خلقهم ّ
َ
ذاب غل ِيظٍ﴾ سورة لقمان.24 :
َ قَل ِيلاً ُ َ ْ َ ُ ْ
ُّ َّ
ثم نضطرهم إِىل ع ٍ
(((
ومجلة (متاع قليل) استئناف بياين ملا سبق ،وهو تعليل لنفي الفالح عن الذين يفرتون
على هللا الكذب؛ ( فإهنم ابفرتائهم الكذب قد خسروا خسراان مبينا..ذلك أن هذا الذي
عاد عليهم من كذهبم وافرتائهم ،هو شيء اتفه ،اسرتضوا به أهواءهم يف هذه احلياة الدنيا،
فأوقعهم يف هذا الذي هم فيه ،من عدوان على حرمات هللا ،وعصيان هلل ،وشرك به..وذلك
هو اخلسران املبني!)(((.
وهي دعوة لكل قلة رائدة أن تتخلى عن صفات القلة املذمومة من �بَْه ٍر مبتاع احلياة
وتنازل عن املبادئ السامية؛ فكل ذلك يف جنب اآلخرة قليل( ،ويفالقليل ،و�بي ٍع للقيم العاليةٍ ،
َْ
هذه اآلية تلقني جليل وعظة اجتماعية مستمرة املدى ،فأي جمتمع أراد أن حيتفظ أبسباب
العزة واحلياة املطمئنة والرزق امليسور عليه أن يلتزم حدود هللا يف اإلخالص له والعدل
القوة و ّ
واإلحسان وسائر األعمال الصاحلة ،وأن يعرتف بفضله ،ويداوم على ذكره وشكره وأن يبتعد
أخل بذلك اختلّت شؤونه ((( وإسراف .فإذا ّكل ما فيه ظلم وإمث وبغي ومنكر واحنراف عن ّ
وانفرط كيانه وغدا عرضة للنوائب والكوارث).
ووصف متاع احلياة ابلقلة هنا وحتذير املقبلني عليه أبهنم يبيعون من أجله كل غال،
ويرتخصون يف سبيله بكل سبيل وصف يف مقام الذم ،وهو وصف اثبت ثبات سنن هللا ﷻ
ال يتغري وال يتبدل.
صفاء زمان الكافرين يف الدنيا ُ
قليل
ومتضي آايت القلة تصور للواعبني يف كل زمان ومكان أن صفاء زمان الكافرين يف الدنيا
ص ٍر بسنن هللا ﷻ يف املكذبني ،وليكون ذلك تسرية وتطمينا قليل ،حىت تكون األمة على بَ َ
للدعاة واملصلحني ،أن هؤالء وإن صفا هلم زماهنم إال أنه صفاء قليل ،ال يلبث أن أيتيه الكدر،
يَ
﴿ع َّما قَل ٍِيل لُ ْصبِ ُح َّن نَادِم َِني﴾سورة املؤمنون 40:أي( :عن وقت قليل ليندمن
َ
ويعقبه البالء ،فهم
((( تفسري املراغي ،)551 /41( :حبر العلوم.)592 /2( :
((( التفسري القرآين للقرآن.)783 /7( :
((( التفسري احلديث.)591 /5( :
44
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
(((
على تكذيبهم لك ،وذلك حني ينزل هبم العذاب).
وورود (ما) هنا يؤكد هذه القلة ،والصفاء الذي ال يدوم( ،و«ما» صلة لتوكيد معىن القلة،
ِِ
ني على التكذيب إذا عاينوا العذاب ((().وهي تفيد القلة يف صبِ ُح َّن اندم َ أو نكرة موصوفة .لَيُ ْ
الصفاء ،والقلة يف زمان الصفاء ،و(ما) ( ...مزيدة بني اجلار واجملرور للتوكيد ...و «قَلِ ٍيل» صفة
(((
لزمن حمذوف ،أي :عن زمن قليل).
وهذا الندم الذي سيعاينونه عند رؤية العذاب إمنا هو بسبب عنادهم وبعدهم عن احلق،
ني َعلَى َما َوقَ َع ِم�نْ ُه ْم ِِ وإصرارهم على ما هم فيه من الكفر( ،ع َّما قَلِ ٍيل ِمن َّ ِ
صبِ ُح َّن ناَ دم َ
الزَمان لَيُ ْ َ َ
ار والْم ْجرورِ يدةٌ �بَينْ َ الجَْ ِّ ِ
ز م » ٍ
يل ِ
لَق ا م
َّ «ع : فيِ ا) (م و ،رِ فْ ك
ُ ل
ْ ا ى ل
َ ع صرا ِ
ر َم ِن التَّ ْك ِذ ِ
يب والْعِنَ ِاد والإِْ
ُ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ
الزم ِ ِ ِ ِ ِِ ِ
ان ،أي :بعد زمان قليل ليصرين اندمني على التكذيب)(((( ،ليصري ّن مكذبوك لل�تَّْوكيد لقلَّة ََّ
بعد زمن قليل اندمني على ما فعلوا ،وستحل هبم نقمتنا ،وال ينفعهم الندم حينئذ.((1().
ووصف زمن صفائهم ابلقلة هنا وصف يف موطن الذم ،وموضع اإلنكار ،وهو سنة
ماضية يف اجلاحدين واملنكرين أهنم ال يطول أماهنم وال يستمر نعيمهم ،بل أتتيهم عقوبتهم ليال
أو هنارا فيصبحوا كأن مل يغنوا ابألمس؛ عربة للناظرين وآية من آايت هللا رب العاملني.
وصف متاع أهل سبأ
أهل سبأ أهل نعمة حاضرة ،ومتاع مقيم ،مجع من نضرة الدنيا أوعبها وأمشلها :جنان
نضرة ،عن ميني ومشال ،ورزق غدق ال خيشى فواته ،وال يتوقع نفاده ،وبلدة طاب نعيمها،
ٌ َ َ َ اَ َ
البذل﴿لق ْد كن ل ِسبأ يِف َم ْسك َن ِ ِه ْم آ َيَة
وتستوجب هَ دْ نعمة ُ تستحق الشكر، وطاب أهلها ،وتلك
ْ ُ َ َ ٌ
لةٌ َط ّي َبة َو َر ٌّب غ ُف ٌْ ُ لُ
ْ ْ َّ ُ َ
ور 15فأع َرضوا َ ِ
ك ْم َواشك ُروا ُل بَ َ
ُ ِ ال كوا م نِْن رِز ِق رب
ٍ ْ ني َوش َِم
ٍ ان ع ْن يَ ِم
ِ ْ َجَ َّن َت
يَ ْ
كل خْ ٍط َوأثل َو ْ مَ يَ
َ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ ِ َ َ َّ َ ُ ْ َ َّ َ ْ ْ َ َّ َ نْ َ َ ْ ُ َ
ش ٍء م ِْن س ِْد ٍر ٍ ي ذوات أ ٍ فأرسلنا علي ِهم سيل الع ِرم وبدلاهم جِبنتي ِهم جنت ِ
َ
ِيل﴾ سبأ.)16( : قل ٍ
مجعت اآلية الكرمية من نعيم الدنيا أوفره ،ومن متاع احلياة أغزره ،وعربت اآلية الكرمية
عن هذا النعيم بدقة ابهرة ،ما يدعو إىل العظة ،ويستجلب الشكر ،فتقدمي اجلار واجملرور يف:
(لسبأ) يفيد االختصاص ،كأنه صنع هلم رغبة يف انتفاعهم ابآلايت ،ومسى هللا منازهلم سكنا
((( اهلداية إىل بلوغ النهاية ،)5694 /7( :الوجيز للواحدي.)747( :
((( أنوار التنزيل وأسرار التأويل.)88 /4( :
((( اللباب يف علوم الكتاب.)412 /41( :
((( فتح القدير للشوكاين ،)275 /3( :التفسري املظهري.)183 /6( :
( ((1تفسري املراغي ،)32 /81( :مراح لبيد لكشف معىن القرآن اجمليد.)88 /2( :
45
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
يف قوله( :يف مسكنهم)،وليس كل ما يعيش فيه املرء يسمى سكنا ،إمنا السكن ما مجع ما
يُ ْسكن النفس ،وتَسكن إليه الروح ،ويهدأ معه اإلنسان وتنعم به احلياة ،والتعبري بلفظ:
(آية) ،إرشاد إىل غرابة ما لديهم من النعيم ،ووفرة ما عندهم من املتاع ،حىت كان ذلك عجيبة
من العجائب ،والتعبري عن الزروع واحلدائق ابجلنة فيه ما فيه فليس كل بستان جنة إمنا البستان
اجلنة ما تتكاثف أشجاره ،وتتعانق أغصانه حىت يسرت الداخل عن اخلارج ،واخلارج عن الداخل
فتتكاثف ظالله ،وتتوارد مثاره ،ويستطاب هواؤه ،ويرق عليله ،والتعبري( :عن ميني ومشال)،
تعبري رائق فائق ففي كل اجتاه تنظره جتد اجلنان اليت تريح النظر ،وتهُ دئ اخلاطر ،والتعبري بلفظ
(رزق)فيه من اإلكرام ما فيه ،واختيار لفظ الربوبية اليت تفيض إنعاما وعطاء ،من مجلة النعيم،
ولكنهم بدلوا نعمة هللا كفرا ،وأحلوا قومهم دار البوار( ،بينما شجر القوم خري الشجر ،إذ
ب ُك ْف ِرِه ْم َو ِش ْركِ ِه ْم باِ ِللهََّ ،وتَ ْك ِذيبِ ِه ُم الحَْ َّق
ك بِسبَ ِ
َ َ
صريه هللا من شر الشجر أبعماهلم ( ((1().و َذلِ
َ
اط ِل)(((1؛(أعرضوا عن شكر هللا ،وعن العمل الصاحل ،والتصرف احلميد وع ُدولهِِم عْنه إِلىَ الْب ِ
َ َُ ْ َ ُ
فيما أنعم هللا عليهم ،فسلبهم سبب هذا الرخاء اجلميل الذي يعيشون فيه وأرسل السيل
اجلارف الذي حيمل العرم يف طريقه وهي احلجارة لشدة تدفقه ،فحطم السد وانساحت املياه
فطغت وأغرقت مث مل يعد املاء خيزن بعد ذلك فجفت واحرتقت .وتبدلت تلك اجلنان الفيح
ناه ْم بجِ َ�نَّ�تَْي ِه ْم َج�نَّ�تَينْ ِ َذواتيَْ أُ ُك ٍل :خمَْ ٍط َوأَثْ ٍل
«وبَ َّدلْ ُ
صحراء تتناثر فيها األشجار الربية اخلشنةَ :
َو َش ْي ٍء ِم ْن ِس ْد ٍر قَلِ ٍيل» ..واخلمط شجر األراك أو كل شجر ذي شوك .واألثل شجر يشبه
ناه ْم بمِ ا ِ
ك َجَزيْ ُ الطرفاء .والسدر النبق .وهو أجود ما صار هلم ومل يعد هلم منه إال قليل! «ذل َ
(((1
َك َف ُروا»..واألرجح أنه كفران النعمة).
ووصف متاعهم ابلقلة هنا وصف يف مقام الذم؛ ألنه يف مقام العقوبة على ما قدموا،
واجلزاء على ما اقرتفوا من نكران النعم ،وهذه سنة هللا ﷻ يف جحد النعمة بعد معرفتها والتمتع
هبا ،وهي سنة ال تتبدل وال تتحول.
(مل يعرفوا قدر نعمتهم ،ومل يشكروا سالمة أحواهلم ،وانتظام أمورهم ،فهاموا يف أودية
فخروا يف أودية الصغار على أذقاهنم ،وأذاقهم هللا من كاسات اهلوان الكفران على وجوههمّ ،
ما كسر مخار بطرهم فأماكنهم منهم خالية ،وسقوفها عليهم خاوية ،وغرابن الدمار فيها
(((2
انعبة)
(إن بطر النعمة ،وعدم الشكر عليها ،هو سبب هالك القرى .وقد أوتوا من نعمة هللا
ذلك احلرم اآلمن فليحذروا إذن أن يبطروا ،وأال يشكروا ،فيحل هبم اهلالك كما حل ابلقرى
اليت يروهنا ويعرفوهنا ،ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية« ..لمَْ تُ ْس َك ْن ِم ْن �بَْع ِد ِه ْم إِلاَّ
قَلِيلاً » وبقيت شاخصة حتدث عن مصارع أهلها ،وتروى قصة البطر ابلنعمة وقد فين أهلها
ِ
ني».«وُكنَّا نحَْ ُن الْوا ِرث َ
فلم يعقبوا أحدا ،ومل يرثها بعدهم أحد َ
(((2
(((2
قليال).
قليال ووقتاً ً فيِ الدُّ�نْيَا�(،يَْعنيِ :إِلىَ َم ْوتهِِ ْم)( ،((2أي( :ميهلهم يف الدنيا ً
إمهاال ً
وهللا ﷻ يبني للمؤمنني الصادقني أن متاع هؤالء ال يدوم؛ فال يغرنكم ما هم فيه ،فهو
ظل زائل ،وعارية مسرتدة ،يبتليهم هللا هبا ويبتلي هبا غريهم ،فكأنه ﷻ يقول(:لاَ �تَْنظُُروا إِلىَ
فع ّما قَلِ ٍيل �يَُز ُ
ول َه َذا ُكلُّهُ َع�نْ ُه ْم، َما َه ُؤلاَ ِء الْ ُك َّفا ِر ُمترْ فون فِ ِيهِ ،م َن النِّ ْع َمة والغِْبطَة َو ُّ
الس ُروِرَ ،
يه ﴿ السيِئ ِة ،فَِإنمََّا نمَُّد لهَ م فِيما هم فِ ِيه استِ ْدراجا ،وجمَِ يع ما هم فِ ِ ويصبِحو َن مرتهَ ْ بأِ لهِِ
ْ َ ً َ ُ َ ُْ نني ْ َ َْع َََّما ُ َُم ْ َ َّ َّ ْ َ ُ (ْ ُ َ ُْ ((2 َ ُ ْ َ ُ ٌ ُ َُّ َ َ ُ
متَاعٌ قل ِيل ثم مأواهم جهنم وبِئس ال ِمهاد﴾
والوصف بقلة العدد هنا من مواطن الوصف ابلقلة املذمومة ،ومعىن اآلية الكرمية(:إذا
ف ناَ ِصًرا َوأَقَ ُّل َع َد ًدا)،
َض َع ُ
عاينوا ما يعدهم رهبم من العذاب وقيام الساعة (فَ َس�يَْعلَ ُمو َن َم ْن أ ْ
أجند هللا الذي أشركوا به ،أم هؤالء املشركون به)((،((2فهو التهديد الظاهر وامللفوف ملن يبلغه
هذا األمر مث يعصي .بعد التلويح ابجلد الصارم يف التكليف بذلك البالغ ،وإذا كان املشركون
يركنون إىل قوة وإىل عدد ،ويقيسون قوهتم إىل قوة حممد ﷺ واملؤمنني القالئل معه ،فسيعلمون
انصراً َوأَقَ ُّل َع َدداً» وأي َضعف ِ
«م ْن أ ْ َ ُحني يرون ما يوعدون -إما يف الدنيا وإما يف اآلخرةَ -
(((2
الفريقني هو الضعيف املخذول القليل اهلزيل!)
قلة شكر عموم الناس
القرآن الكرمي َ يف مواطن متعددة منها قول هللا
َ
ابلقلة لشكر عموم الناس يف
َ َ
ورد الوصف
ْ َ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ ُ َّ ْ َ َ أْ ْ َ َ َ أْ ْ َ َ َ لاً َ َ ْ ُ ُ ْ ُ ذَّ
ما تشك ُرون﴾ امللك: ﷻ ﴿قل ه َو الِي أنشأكم وجعل لكم السمع والبصار والفئِدة قل ِي
َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ لاً َ َ ْ ُ َ أْ َ َّ ُ َََ
ض َوجعلنا لكم فِيها معايِش قل ِي ما تشك ُرون﴾سورة ﴿ولق ْد َمك َّناك ْم يِف ال ْر ِ ( ،)23وقوله ﷻ
األعراف ،)10( :وقوله:
( ((2تفسري القرآن العزيز البن أيب زمنني ،)773 /3( :تفسري السمعاين..)532 /4( :
( ((2اهلداية إىل بلوغ النهاية.)5375 /9( :
( ((2تفسري ابن كثري.)291 /2( :
( ((2جامع البيان ،)176 /32(:تفسري ابن فورك.)66 /3( :
( ((2يف ظالل القرآن.)7373 /6( :
49
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
َن ش ْكر نِعم ِة هَِّ ال :قَلِيلاً ما تَ ْش ُكرو َن و َذلِ لأِ فَلِ َه َذا قَ َ
ف تِْل َ
ك النِّ ْع َمةَ إِلىَ ص ِر َ
الل ﷻ ُه َو أَ ْن يَ ْ ك َّ ُ َ ْ َ ُ َ َ َ
ضاتِِه فَأَ�نْتُ ْم ما شكرمت نعمته ب َم ْر َ صر والْ َع ْقل لاَ إِلىَ طَلَ ِ
الس ْم َع َوالْبَ َ َ َ َ ضاهَُ ،وأَ�نْتُ ْم لَ َّما َ
صَر�فْتُ ُم َّ ِ
َو ْجه ِر َ
(((3
ألبتة)
قلة إميان املدعوين
من املواطن اليت ورد فيها ذم القلة ،أو التعبري عنها يف مقام الذم ،وصف إميان املدعوين
لاً
﴿و َما ُه َو ب ِ َق ْو ِل َشاع ٍِر قَلِي َما تُ ْؤم ُِنونَ﴾سورة :احلاقة .)41( :واملعىن:
َ ابلقلة ،وورد ذلك يف قوله ﷻ:
(((3
(أقلكم من يُؤمن)
والقلة هنا تدل على العدم ،أو الوجود غري املفيد فهو أشبه ابلعدم ،أي( :ال تصدقون
قل ما
أبن القرآن من عند هللا ،وأريد ابلقليل نفي إمياهنم أصلاً ،كما تقول ملن ال يزوركَّ :
أتتينا ،وأنت تريد :ال أيتينا أصلاً )(( ،((3أَي :لاَ تؤمنون أصال ،((3().فالقلة مبعناها األصلي،
أو داللتها الفرعية على العدم هنا يف موطن الذم.
قلة تذكر املدعوين
من املواطن اليت ورد فيها احلديث عن القلة يف مقام الذم ،وصف تذ ّكر املدعوين ابلقلة،
َ لاً َ َ َ َّ َ اَ َ اَ َ
﴿ول بِق ْو ِل كه ٍِن قل ِي ما تذك ُرون﴾،سورة: وقد ورد ذلك يف مواطن متعددة منهاَ قوله ﷻ:
ْ اَ
ات َول ال ُم يِس ُء َّ ُ َ ُ َ ﴿و َما ي َ ْس َتوي أْال ْع ىَم َو بْالَ ِصري َوال َ
ِين آ َمنوا َوع ِملوا الص حِ َ
ال ِ
ذَّ ُ احلاقة .)42( :وقوله ﷻَ :
َ ِ
كشِ ُف ُّ َّ ْ يجُ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ َ اَ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ لاً
وءالس َ قل ِي َما ت َتذك ُرونَ﴾،سورة غافر ،)58( :وقوله ﷻ ﴿:أمن ِيب المضطر إِذا دعه وي
َ َ ْ َ ُ ُ ْ ُ َ َ َ أْ َ ْ َ هَ ٌ َ َ هَّ َ لاً َ َ َ َّ ُ َ
ون﴾ ،سورة النمل .)62( :والتذكر هنا مبعىن ويجعلكم خلفاء الر ِض أإل مع اللِ قل ِي ما تذكر
االتعاظ ،يقول الطربي( :قليال ما تعتربون به ((3().أو (:قليال ما تتعظون وتعتربون فرتاجعون
احلق ،((3().أو أن املراد أقلكم املتذكر ،فالقلة هنا إما يف فعل التذكر ،وإما يف عدد املتذكرين،
(((3
أو املراد قلة زمن التذكر
واملراد من القلة هنا :إما الندرة ،وإما العدم ،على عادة القرآن الكرمي يف التعبري ابلقلة على
العدم أو الفعل غري املفيد الذي وجوده كالعدم ،وتذييل اآلية الكرمية بنفي التذكر إشارة على
ِ
العدم
يد هبا ُ لتأكيد معىن القلَّ ِة اليت أر َ وضوح هذه النعم اليت دهلم القرآن عليها( ،وما مزيدةٌ
الكالم بنفي التذك ِر عنهم إيذا ٌن َّ
أبن ِ وعدم اجلدوى ويف تذييل أو ما جيري جمراه يف احلقارِة ِ
يتوقف إال على التوجه إليه
ُ الوضوح حبيث ال
ِ وغيب وأنَّه من
ذكي َكل َكوز يف ذه ِن ِّ
مضمونَهُ مر ٌ
وتذكره)(.((4
وقد يكون املراد من القلة :الوجود القليل ،وذلك ما كان يظهر منهم على ندرة،
(والْ ِقلَّةُ هو إِ�قرارهم إِ َذا سئِلُوا من خلَ َقهم؟ قَالُوا :هَِّ
الل)( ((4وقد قرئ ابلغيبة ،وهلا داللة إضافية، َ ُ َ َْ ُ ُ ْ ُ َ ْ َ ُ ْ
ِ
اخلطاب عنهم ِ ِ
االمتثال ابألمر والنهي وصرف سوء حالهِ م يف عدم هي(:اإليذان ابقتضاء ِ
(((4
وحكاية جناايتهِ م لغ ِريهم بطريق املباالة)
ِ
النعي على من يشرتي بآيات اهلل مثنا ً
قليال
كل عوض عن آايت هللا قليل ،فال يشرتى هبا سواها ،وال يعدل هبا غريها ،فمن ذا
الذي يستبدل الذي هو أدىن ابلذي هو خري؟ ،ولقد وردت القلة يف موطن الذم يف النعي
ْ هَّ َ َ لاً َّ َ اَ َ ْ ترَ
﴿ول تش ُ وا ب ِ َع ْه ِد اللِ ث َم ًنا قل ِي إِن َما عِن َد على من يشرتي آبايت هللا مثنا قليالً ،قال ﷻ:
ان باِ هَِّ
اضوا ع ِن الإِْ يمَْ ِ هَّ ُ َ َيرْ ٌ َ ُ ْ ْ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ
لل َعَرض اللِ هو خ لكم إِن كنتم تعلمون﴾،سورة النحل.)95( :أي( :لاَ �تَْعتَ ُ َ
الحْ ي ِاة الدُّ�نيا وِزي�ن�تها ،فَِإ�نَّها قَلِيلَةٌ ،ولَو ِحيزت لاِ ب ِن آدم الدُّ�نيا بحِ َذافِ ِريها لَ َكا َن ما ِعْن َد هَِّ
الل ُه َو َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َْ َ َ َ َْ َ َ ََ ََ
ِ ِ (((4 ِ ِ ِ ِ ِ
الل َو�ثََوابُهُ َخ�يٌْر ل َم ْن َر َجاهُ َو َآم َن به َوطَلَبَهَُ ،و َحف َظ َع ْه َدهُ َر َجاءَ َم ْوعُوده)
َيَ :جَزاءُ هَّ
َخ�يٌْر لَهُ ،أ ْ
ومن نظر إىل موعود هللا ﷻ ونظر إىل الدنيا استقل الدنيا مبا فيها ومن فيها ،فال خيتار
على مراد هللا شيئاً ،ومل مينعه من تنفيذ أمره عرض من أعراض الدنيا( ،فال ختتاروا على القيام
حبق هللا والوفاء بعهده عوضا يسريا مما تنتفعون به من حطام دنياكم من حاللكم وحرامكم، ّ
فإ ّن ما أع ّد هللا لكم يف جناته -بشرط وفائكم إلميانكم -يوىف ويربو على ما تتعجلون به من
(((4
حظوظكم ((4().ذلك أن (كل ما يف الدنيا قليل)
( ((4إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي.)592 /6( :
( ((4البحر احمليط يف التفسري.)562 /01( :
( ((4إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي.)112 /3( :
( ((4تفسري ابن كثري.)006 /4( :
( ((4لطائف اإلشارات.)813 /2( :
( ((4أيسر التفاسري للجزائري.)451 /3( :
52
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
املبحث الرابع
سنن اهلل يف القلة
الناظر يف آايت القلة يف القرآن الكرمي جيد أهنا متضي يف خط واحد ،وتسعى إىل هدف
حمدد ،مبا يربز صورة متكاملة عن قضية كلية ،هلا مالحمها ومساهتا ،وهلا أصول جامعة ،ونظائر
متناسقة ،وميكن أن نرصد تلك السننية يف خطوتني:
• األوىل يف بيان مالمح الرتابط السنين يف آايت القلة.
• والثانية يف بيان األصول اجلامعة لقضية السننية يف القلة
مالمح الرتابط السنين يف آيات القلة
الناظر يف آايت القلة الواردة يف القرآن الكرمي جيد هذا اخليط الدقيق الرقيق الذي يربطها
وجيمعها من أوهلا إىل آخرها ،ال تنقض آية أختها ،وال تشاكسها وال تعكر صفوها ،وال تكدر
رواءها ،بل متشي يف مسارها ،وتؤكد عطاءها ،وترسخ داللتها ،سواء ذلك يف وصف الفئة
املؤمنة اليت اتبعت نوحا ،وآمنت به إذ كذبه الناس ،وانصرته إذ ختلى عنه البشر ،القريب
والغريب والصديق والعدو حىت ابنه الذي هو من صلبه ،ختلى عن دعوته وهجر رسالته.
والفئة القليلة من قوم نوح هي ،هي ،اليت وصفها قومها أبهنم أراذل بل (أراذلنا)،
وأهنم متسرعون يف اإلميان (ابدي الرأي) ،وأهنم ليس هلم على قومهم فضل وال سبق ،وهذه
الصفات وتلك اخليوط الدقيقة اليت وقفنا أمامها تفصيال لدى احلديث عن صفات القلة ،هي
هي اليت تتكرر يف كل قلة ،مبا يؤكد خط السننية يف تلك اآلايت الكرمية ،كما تلمح التهم
أتباع الرسول ﷺ ،ورغبة أهل مكة يف أن جيعل
نفسها والصفات ذاهتا تتكرر يف اهتام قريش َ
هلم الرسول يوما وهلؤالء يوما حىت نزل القرآن الكرمي ينهى رسول هللا عن ذلك ويصف هؤالء
أبهنم ﴿يريدون وجهه﴾ ،سورة الكهف ،28:وأيمر نبيه أبن ال يعدو وجهه عنهم بقوله﴿:
ُ القلة
اص ْ َ ْ ْ َ جَ
ُ َ َ ً َ لَ اَ َ ْ ُ يَ ُ َُّ َّ َ َ َواتْل َما أ يِ َ
ب ت اَد مِن د و نِهِ ملتحد ا 27و رِ
َ ْ َ
اب ر ْبِك ل ْمبدِل ل ِك ِما تِهِ و لن ِ ِ وح إ ِلْك م ِْن ك َِت
َ َ َ َ يِّ ُ ُ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ُ َ َ
ينة
َ
ِين يَ ْد ُعون َر َ َّب ُه ْم بِالغد ا ة ِ والعك َم َع ذَّال َ َْ َ َ
عيناك عنه ُم ت ِر حْيد زِ ش ي ِر يد ون وجهه و ل ت َعد ِ
ُّ ْ َ َ اَ ُ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ ْ ْ َ َ َّ
نف حْس
ال ُّق مِنْ ات َب َع َه َواهُ َو اَك َن أ ْم ُرهُ فُ ُر ًطا َ 28وقل َ طع من أ غفلنا قلبه عن ذِك ِر نا َ و ال َيا ة ِ ادل نيا و ل ت ِ َ
ْ ْ رُ َ ُ ِ َ ْ َ
َ ّ ُ ْ َ ْ َ َ ُ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ َّ ْ َ ْ َ َّ ْ َ َ
سا دِق َها ِإَون ح َ
اط ب ِ ِهم ارا أ َني نَ ً
ِلظا لِم َ
ِ ر بِكم فمن شاء فليؤمِن ومن شاء فليكفر إ ِنا أ عتد نا ل
ُ َ ذَّ َّ رَّ َ ُ َ َ َ ْ ُ ْ َ َ ً ْ يثوا ُي َغاثُوا ب َما ء اَك ل ْ ُم ْهل ي َ ْشو ي ال ْ ُو ُ َْ َ ُ
جوهَ بِئ َس الشاب وساء ت مر تفقا 29إ ِن الِين آ َمنوا
َ
ِ ِ ِ ٍ يستغِ
َّ اَ ُ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ََ الص حِ َ ُ
َو َعملوا َّ
ضيع أ جر من أ حسن عمل﴾ ،سورة الكهف.29،28، ات إ ِنا ل ن ِ ال ِ ِ
53
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
َ اَ َ ْ ُ ذَّ َ َ ْ ُ َ َ َّ ُ ْ ْ َ َ َ ْ َ يِّ ُ ُ َ
يد ون وينهاه عن طردهم بقوله﴿:و ل تطردِ الِين يد عون ر بهم بالغد ا ة ِ والعش ير
َ َ َ َ ْ ْ ْ ِ يَ ْ َ َ ْ ُ َ ُ ِ ْ َ ِ َ ُ َ ك م ِْن ح َِسا به ْم م ِْن يَ ْ
ش ٍء َو َما م ْ َ َُْ َ َ َْ َ
حِسا َبِك اَ علي ِهم مِن ش ٍء فتطرد هم ف َتكون ِن ِ ِ وجهه ما علي
َ ْ َ َّ هَّ ُ َ َ ْ ْ ْ َ ْ َ َ ُ َ َُ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َّ َ ََ َ َ َ َّ
الظا لِم َ
ني 52و كذ ل ِك فتنا بعضهم بِبع ٍض يِلقولوا أ هؤ لءِ من الل علي ِهم مِن بين ِنا أ ليس م َِن َ َ ِ
َّ
الشا كِر َ هَّ ُ ْ َ
ين ﴾53سورة األنعام.53،52: ِ الل بِأ علم ب ِ
فهؤالء الذين وصفوا ابلقلة قدميا وحديثا ويف واقعنا الذي نعيشه وتتأكد فيه سنن هللا ﷻ
أتكدا يربهن على صالحية اإلسالم لكل زمان ومكان واستيعابه لشؤون الدنيا واآلخرة ،هؤالء
هم خالصة قومهم وبقية جنسهم وجوهر أهل زماهنم ،وهم الذين وعدوا ابلنصر يف كل زمان
لتحقق شروط النصر فيهم وهم أهل االبتالء واالختبار ،والفرز والتمحيص ،وهم دائما حلمة
واحدة ،تلمح ذلك يف حديث اآلايت عن أتباع نوع ويف بياانت القرآن املتعددة وعباراته
املوحية املوجهة ،يف مثل قوله( :وما نرى لكم)،وقوله( :بل نظنكم)،وقوله( :ومن آمن) ،كما
تلمح هذا التماسك يف الفئة املؤمنة مع طالوت يف قوله( :هو والذين آمنوا معه)،وقوله( :قال
الذين يظنون أهنم مالقوا هللا كم من فئة قليلة غلبت فئة كثرية إبذن هللا وهللا مع الصابرين)،
وقوله( :فهزموهم إبذن هللا).
والفئة اليت آزرت رسول هللا ﷺ وآمنت به ،تبدو فيها هذه الصفات اليت بدت يف
قوم نوح ويف الذين انصروا طالوت من عدم االحتفال ابملال واجلاه واملنصب والسلطان،
وأهنم املسارعون إىل التصديق ابلنبوة والرسالة ،وهم الذين مجعهم اإلسالم وألف بينهم فكانوا
(فئة)،يفئ بعضهم إىل بعض ،ويتضام كل أخ إىل أخيه ،حىت يصري به وله عضدا وأزرا ،حىت
أذاب هذا الدين فوارق اجلنس واللون والعرق واللسان والزمان واملكان ،فصارت جنسيتهم
دينهم كما يقول األستاذ اإلمام حممد عبده ،فأصبح عمر العدوي ،وأبو بكر التيمي،
وبالل احلبشي ،وسلمان الفارسي ،وصهيب الرومي يف هللا إخوة ،وأهل مكة أحزاب وشيع
وإن كانوا من قريش:
إن العروبة يف بـــــــــــــــدر قد اقتتلت سيفا لسيف وكان الكل عرابان
هلب كخ ٍ
ــــــالد قاد ابسم هللا فرســــــــاان جهل يف غيه وأبو ٍ
فهل أبو ٍ
عروبتان فــــــذي نــــــــور وذي ظلم شتان بينهما ،شتان ،شـــــــــــتاان
(((4
فإن نضــــــــــــح به اي أهل أمـــــــــــــتنا فإن أمتـــــــنا أوىل ضـــــحايــــــــــــــــاان
( ((4من قصيدة للدكتور حسان حتحوت ،رمحه هللا ألقاها يف حماضرة بعنوان(:جراح وأفراح) ،يف جامعة العني.
54
الفصل األول :القلة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
إن تلك القلة قدميا وحديثا ويف كل زمان ومكان هم السابقون إىل اإلميان ،وهم أهل
العلم والفقه ،وهم الواعون الواعبون لسنن هللا يف احلياة واألحياء ،وهم أصحاب العزم واحلزم،
واإلرادة املاضية النافذة اليت تعوض قلة العدد بكثرة الثر وتعوض الكم ابلكيف وهم يف كل
زمان على صلة ابهلل عبادة ودعاء وصلة ورجاء ،وهم مثال يف الصرب والثبات وطاعة القواد
تلمحهم مع طالوت ميتنعون عن الشرب وإن كان أمرا حيواي ،ويعربون معه النهر وهم يرون
عدوهم يزيد يف العدد والعُدد والقوة والسالح والعتاد ،وهم مع رسول هللا ﷺ (يروهنم مثليهم
رأي العني) ،ولكن هللا يلقي يف قلوهبم السكينة ،ويغشيهم النعاس أمنة منه ،ويثبت أقدامهم،
ويربط على قلوهبم.
كما جتد اآلايت اليت تصف القلة يربطها خيط واحد واضح من عالقتهم ابحلياة
واألحياء ،كوصف متاع احلياة الدنيا أبنه قليل ،وأن أمان الكافرين يف الدنيا يزول وال يدوم،
وصف عموم الناس بقلة الشكر ،وقلة التذكر وقلة العلم وقلة الفهم وقلة العقل ،واخليط اجلامع
هلذه األشياء هي احلياة وما فيها وما يدور حوهلا ،ويغري الناس هبا.
وال شك أن هذا كله يؤدي بعد مجعه إىل تكوين صورة صحيحة فصيحة دقيقة واضحة
عن القلة مدحا وذما ،وإبراز موقف القرآن منها ،وتلك منهجية القرآن يف رسم صورة واضحة
املعامل بينة املالمح عن القلة اليت تناوهلا ،تسلم كل آية إىل أختها ،يف تناسق بديع ميهد فيه
السابق لالحق ويؤكد فيه الالحق على السابق يف تناغم واتساق .
األصول اجلامعة لقضية السننية يف القلة
بعد رصد اآلايت اليت تناولت القلة مكية ومدنية ،وسواء كانت تلك القلة يف األفراد أو
األمم أو األشياء ودرسها وأتمل دالالهتا ميكن أن نستخلص يف نقاط السنن املاضية واألصول
اجلامعة يف قضية القلة على النحو التايل:
1.1أهنم السابقون إىل اإلميان والصابرون على ابتالءاته.
2.2أهنم الثابتون يف األزمات واالختبار.
3.3أهنم يخُ تارون بعد ابتالء واختبار.
4.4أهنم الناصرون للحق والدعوات.
5.5أهنم الشاكرون قوال وعمال.
6.6أهنم فقهاء علماء واعون ابلدنيا واعبون ابحلياة.
55
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
تلك بعض األصول اجلامعة اليت ميكن أن تصور لنا سنن هللا ﷻ يف القلة يف ضوء اآلايت
الكرمية واليت ميكن أن يفيد منها املسلمون عامة واملعنيون بنهضة األمة خاصة وسيَبِني ذلك يف
صفحات آتية لدى احلديث عن رايدة القلة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة ،وفقه
صناعة القلة الرائدة.
56
الفصل الثاني:
الكثرة مفهومها وصفاهتا
وسنن اهلل فيها
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
املبحث األول
مفهوم الكثرة يف اللسان العربي والقرآن الكريم
وردت مادة الكثرة وتقلباهتا يف اللسان العريب مشتملةً على عدد من املعاين ميكن أن
نتلمسها على النحو اآليت:
( الكثرة :نقيض القلة ...وقد كثر الشيء فهو كثري .وقوم َكثريٌ ،وهم َكثريو َن .وأ ْك�ثََر
الرجل ،أي كثر ماله( ((().ويقال :كاثرانهم فكثرانهم ،أي غلبناهم ابلكثرة...واستكثرت من
وعدد كاثٌِر،
الشيء ،أي أكثرت منه .وال ُك�ثُْر ابلضم من املال :ال َكثريُ ...والتكا�ثُُر :املكاثَرةٌُ .
أي َكثريٌ .قال األعشى:
ــــــــــــــــــــزةُ للكـــــــــــاثِِر
حصى وإنمَّــا العِ َّ لست ابأل ْكثَ ِر منهم ً و َ
وفالن �يَتَ َك�ثَُّر مبال غريه...والكوثر من الرجال :السيد ال َكثريُ اخلري ...وال َك ْو�ثَُر من
(((
الغبار :ال َكثريُ.
فيح يَ ُد ُّل ِخلاَ َ
صح ٌ
الراء أَصل ِ
اف َوالثَّاءُ َو َّ ُ ْ ٌ َ ويذكر ابن فارس يف مقاييس اللغة أن (الْ َك ُ
َّيءُ الْ َكثِريُ). ِ ِ
ك الش ْالْقلَّ ِةِ .م ْن َذل َ
(((
60
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
61
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
ً
ثانيا :الكثرة املذمومة
وتبدو الكثرة املذمومة يف القرآن الكرمي من خالل تعبري القرآن وحديثه عنها يف معرض
الذم واإلنكار ،سواء كان ذلك على سبيل البيان؛ ألن كثريا من الناس يضلون أبهوائهم بغري
علم ،أو بيان أن كثريا من الناس عن آايت هللا غافلون ،أو بيان دعوى األقوام أهنم ال يفقهون
كثريا مما يقوله األنبياء واملرسلون ،وتنكبهم الصراط املستقيم ،وإضالل األصنام لكثري من
الناس ،وأن كثريا من القرون بني عاد ومثود هلكوا بذنوهبم ،وأن كثريا منهم بلقاء رهبم كافرون،
وإضالل الشياطني لكثري منهم ،وبيان أن كثريا من اخللطاء يبغي بعضهم على بعض ،إال الذين
آمنوا وعملوا الصاحلات ،وأن هؤالء قليلون ،أو أن املرء لو أطاع أكثر من يف األرض ألضلوه
عن سبيل هللا ،وبيان طبيعة أكثر الناس وأن أكثرهم ال يعلمون ،وال يعقلون ،وال يسمعون،
وال يؤمنون ابهلل إال وهم مشركون ،ومتضي الكثرة يف القرآن الكرمي لتبني للناس أن أكثر أهل
الكتاب ال عهد هلم ،وأن كثريا منهم فاسقون ،وأن كثريا منهم ساء ما كانوا يعملون ،وأن كثريا
منهم عموا وصموا ،وبيان أن الكثرة املعادية هلل ﷻ ال تغين عن أصحاهبا شيئا ،أو أن اخلبيث ال
يساوي الطيب ولو أعجب الناس كثرة اخلبيث ،أو ذم كثري من أهل الكتاب الذين يودون أن
يردوا املؤمنني عن إمياهنم ،أو كثرة النجوى يف غري أمر بصدقة أو معروف أو إصالح بني الناس.
ولنتناول الكثرة يف القرآن هبذا الرتتيب يف الصفحات القادمة فنبدأ ابلكثرة احملمودة
وصفاهتا وخصائصها كما وردت يف القرآن الكرمي.
62
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
املبحث الثاني
الكثرة احملمودة صفاتها وخصائصها يف القرآن الكريم
إذا تتبعنا اآلايت اليت تصف الكثرة احملمودة يف القرآن الكرمي ميكن أن نتناوهلا على
النحو اآليت:
امتنان اهلل -تعاىل -على قوم صاحل بكثرة العدد
كثرة العدد نعمة ،إذا وضعت يف مكاهنا ،وأفيد منها على الوجه املرضي ،وقدميا
كان العرب يتمدحون هبا .والكثرة احملمودة نعمة من هللا ﷻ ،امنت هبا على قوم صاحل
فقال يف معرض تذكريهم بنعمه عليهم ،ودعوته أن يَفيدوا من الكثرة يف الدعوة إليه وليس
هَّ
يل اللِ َم ْن
َ َ َ َ ُ
اط تلاًوع ُِد ون ُ َو ت ُص ُّد ون ع ْنَ َسب ك ّل رِ َ
ص
ُ
ب وا ﴿و اَل َت ْق ُع ُ
د الصد عن سبيلهَ :
اَ ِ ِ رَّ َ ٍ ُ ِ ْ ِ ُ ْ
ُ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ
ث ك ْم َو انظ ُر وا كيْف ك ن اَع ق َِبة
فك َ آ ََم َن بِهِ َو تبْغون َها ع َِو ًجا َو اذ ك ُر وا إ ِ ذ كن ُت ْم قل ِي
ْ ْ
ين ﴾ سورة األعراف.)86( : ال ُمف ِ
س ِد َ
والكثرة هنا إما كثرة حقيقية ابلعدد ،أو كثرة عن طريق الغىن الذي يكثر القليل ،ويقوي
الضعيف ،ويعطي للمرء يف احلياة قيمته ومكانته ،أو تكثري ابلقوة بعد الضعف ،أو بطول
(.من عليهم بتكثري ّ
(((
األعمار بعد قصرها من قبل((( ،أو تكون الكثرة ابلربكة يف النسل واملال
العدد؛ ألن ابلتناصر والتعاون متشي األمور وحيصل املراد .ويقال كما أن كل أمر ابألعوان
واألنصار خريا أو شرا ،فال نعمة فوق اتفاق األنصار يف اخلري ،وال حمنة فوق اتفاق األعوان
يف الشر((().ويف تكثري عددهم إعزاز هلم وتقدمي على غريهم ،مضت بذلك سنة هللا يف الكثرة
عندما تكون كثرة حممودة تعز أهلها ،وتعلي مكاهنم.
َعَّزًة لِ َك�ثَْرِة َع َد ِد ُك ْم
صرتمُ أ ِ ضع ِف ِِ ِ
ني لقلَّت ُك ْم فَ ِ ْ ْ
َي ُ :ك�نْتُ ْم ُم ْستَ ْ َ َ
ِ ِ
(واذْ ُكُروا إ ْذ ُك�نْتُ ْم قَليلاً فَ َك�ثََّرُك ْم أ ْ
َ
ك وانْظُروا َكيف كا َن عاقِبةُ الْم ْف ِس ِدين أَي ِمن الأْ ُم ِم الخْ الِيةِ الل علَي ُكم فيِ َذلِ فَاذْ ُكروا نِعمةَ هَِّ
َ ْ َ َ ََ َ ُ َ َ ُ ْ َ َْ ْ ُ َْ
الل وتَ ْك ِذيبِ اصي هَِّ اب والنَّ َك ِال باِ جترِ ائِ ِهم علَى مع ِ ِ ِ بهِِ ِ ِ
َ ْ َ ْ َ ََ (((لْ َماضيَة َوَما َح َّل ْم م َن الْ َع َذ َ والقرون ا
ُر ُسلِ ِه ).فأهلكهم هللا وابتالهم بنقص من األموال واألوالد والثمرات ،حىت صاروا أثرا بعد
عني ،وحديثا غابرا يف الداثرين.
((( النكت والعيون.)932 /2( :
((( إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي.)842 /3( :
((( لطائف اإلشارات.)055 /1( :
((( تفسري ابن كثري.)204 /3( :
63
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
64
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
ُْ ُ َ
ون﴾األعراف .)188( :ومعىن الستكثرت من اخلري أي( :الستكثرت من العمل يؤمِن
الصاحل ((().أو( :الستكثرت من النفع وما أصابين الضر.((().
واالستكثار هنا سواء كان يف جلب اخلري والنفع أو دفع الشر والضر
استكثار ممدوح ،واآلية تشري إىل أن النيب ﷺ أمر( بتصريح اإلقرار ابلتربي عن
على
حوله ومنّته ،وأن قيامه وأمره ونظامه بطول ربّه ومنّته ولذلك تتجنّس ّ
ميسين ،ومن يسر خيصين ،ولو كان األمر األحوال ،وختتلف األطوار فمن عسر ّ
مبرادي ،ومل يكن بيد غريي قيادي لتشاهبت أحوايل يف اليسر ،ولتشاكلت أوقايت
يف البعد من العسر ،((().فاالستكثار هنا ممدوح والكثرة هنا حممودة كما هو بني.
سؤال موسى اهلل أن جيعل معه أخاه هارون وزيرا كي يعينه على أن
يسبحا اهلل كثريا ويذكراه كثرياً
الذكر والتسبيح للمؤمن زاد ميضي به يف طريقه إىل هللا ﷻ ،يستعني هبما
على احملن ،ويتقوى هبما على الزمن ،ويسلو هبما يف نوازل الدهر ومفاجع األايم،
ومها كذلك هدف يسعى له املؤمن ،سيما إذا كان مع املرء أخ صاحل ،إذا نسي
ذكره ،وإذا ذكر أعانه ،ومن هنا طلب موسى من ربه ﷻ أن جيعل معه
الذكر فهي هارون وزيرا؛ ليسبحاه كثريا ،ويذكراه كثريا .فالكثرة هنا َيف التسبيح و
َ ُ َ َ ْ اج َع ْل ل َو ز ً
يرا مَ ِْن أ ه يِل 29ه ُار ون َأ يِخ 30 ﴿و ْ
كثرة حممودة ،قال موسى َ :
ْ يَ يِ ُ ِ َ َ رْ ْ َ ْ
ريا َ 33و نَذ ك َر َك كث ِ ً
ريا 34
ْ َ ّ َ َ
ك كث ِ ً ش ك ُه يِف أ ْم ِري 32ك نسبِح
ْ
اش ُد د بِهِ أ ْز رِي َ 31وأ
َ َ َْ ُ ِ
َ ُ ْ َ َ َ ُ ىَ
صريا 35قال قد أ و تِيت سؤ لك يا موس ﴾36سورة طه.36/29:
ك ُكنْ َ
ت ب َنا بَ ِ ً َّ َ
إ ِن
ِ
ت
ك ُكْن َ(ونَ ْذ ُكَرَك َكثِ ًريا) فنحمدك (إِنَّ َ
َ واملعىن( :كي نعظمك ابلتسبيح لك كثريا
(((1
ص ًريا) يقول :إنك كنت ذا بصر بنا ال خيفى عليك من أفعالنا شيء). بِنَا ب ِ
َ
ويف طلب موسى إشراك أخيه هارون معه يف الرسالة ،بيان لطلب
حبق ربه
العون به على بالغ الرسالة ،ويف هذا بيان (أ ّن طلبه مشاركة أخيه له ّ
65
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
تعليال لطلب الرسالة؛ ك َكثِرياً َونَ ْذ ُكَرَك َكثِرياً»((1().؛ ً ظ نفسه حيث قالَ « :ك ْي نُ َسبِّ َح َ ال حب ّ
وتبييناً لباعث الرغبة ،ويف إطالق الكثرة مشول للزمان ،واملكان ،واألحوال ،كأنه قال نسبحك
اه ٌد ( :لاَ يَ ُكو ُن الْ َعْب ُد ِم َن ال مجُ ِ
ونذكرك يف كل وقت ويف كل مكان وعلى كل حال ،قَ َ َ
ك ُكْنت بِنَا ب ِ ِ اع ًدا وم ْ ِ ِ الل َكثِريا ،حتىَّ ي ْذ ُكر هَّ ِ َّ ِ
ص ًريا} ضطَج ًعاَ .و�قَْولُهُ{ :إنَّ َ َ َ اللَ قَائ ًما َوقَ َ ُ ين هََّ ً َ َ َ الذاك ِر َ
ِ
ك الحَْ ْم ُد َعلَى ك إِياَّناَ ال�نُّ�بَُّوةََ ،و�بَْعثَتِ َ
ك لَنَا إِلىَ َع ُد ِّو َك ف ْر َع ْو َن� ،فَلَ َ ك لَنَاَ ،وإِ ْعطَائِ َ
اص ِط َفائِ َ
َي :فيِ ْ أْ
ك) ِ
َذل َ
(((1
وليس املراد من التسبيح يف اخللوات واجللوات فحسب ،بل املراد ما يشمل تسبيح
الثالثة األخريةِ ك َكثِرياً َونَ ْذ ُكَرَك َكثِرياً} غايةٌ لألدعية احلال وتسبيح املقال فقوله{:كي نُ َسبّ َح َ
فإن فعل فيها كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثِراً لفعل اآلخر ،ومضاعفاً له
وأتييده إذ ليس املر ُاد ابلتسبيح ِ مكثر له يف نفسه أيضاً بسبب تقويتِه ِ
بسبب انضمامه إليه ٌ
والذكر ما يكون منهما ابلقلب أو يف اخللَوات حىت ال يتفاوت حالُه عند التعدد واالنفر ِاد بل
ودعوة املَردة العُتاة إىل احلق وذلك مما ال ريب يف ِ أداء الرسالة، ما يكون منهما يف تضاعيف ِ
التعدد واالنفراد؛ فإن كالًّ َمنهما يصدر عنه بتأييد اآلخر من إظهار ِ اختالف حالِه يف حاليت
نعت ملصدر حمذوف أو احلق ما ال يكاد يصدر عنه مثلُه يف حال االنفراد وكثرياً يف املوضعني ٌ ِّ
(((1
زمان حمذوف) ٍ
ويف طلب موسى وترتيب دعائه من اللطائف الكثري ،منها ما يفيده التقدمي والتأخري،
ومنها ما يفيده التذييل ،ومنها أدب الدعاء ،ومقدمات الرجاء ،فقبل رجاؤه واستجيب دعاؤه
وأعني على كثرة التسبيح والذكر ،وكان من نصره ما كان( .وال شك أن االجتماع على العبادة
والذكر سبب يف دوامهما وتكثريمها ...ولذلك ورد الرتغيب يف االجتماع على الذكر :واجلمع
يف الصالة ليقوى الضعيف ابلقوي ،والكسالن ابلنشيط ،وقيل :املراد بكثرة التسبيح والذكر
ما يكون منها يف تضاعيف أداء الرسالة ودعوة املردة العتاة ،ألنه هو الذي خيتلف يف حاليت
التعدد واالنفراد ،فإن ُكالًّ منهما يصدر منه ،بتأييد اآلخر ،من إظهار احلق ،ما ال يصدر منه
(((1
حال االنفراد .واألول أظهر)
66
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
وال شك أن تكاليف الدعوة وأعباء التعامل مع الناس حتتاج إىل حسن صلة ابهلل قوية؛
تعني على مواصلة اخلري ،ونشر الفضيلة ،وبالغ الرسالة للناس ،ومن أكثر األمور إعانة على
ذلك التسبيح والذكر ،وحسن الثناء على امللك الوهاب من بيده مقاليد األمور ،ومفاتيح
القلوب( ،واألمر اجلليل الذي هو مقدم عليه حيتاج إىل التسبيح الكثري ،والذكر الكثري،
واالتصال الكثري .فموسى يطلب أن يشرح هللا صدره وييسر له أمره وحيل عقدة من لسانه
ويعينه بوزير من أهله..
كل أولئك ال ليواجه املهمة مباشرة ولكن ليتخذ ذلك كله مساعدا له وألخيه على التسبيح
ك ُكْنت بِنا ب ِ ِ
صرياً» ..تعرف الكثري ،والذكر الكثري ،والتلقي الكثري ،من السميع البصري« ..إنَّ َ َ َ
وسى َعلَْي ِه (و َعلَّ َل ُم َ
حالنا وتطلع على ضعفنا وقصوران وتعلم حاجتنا إىل العون والتدبريَ )..
(((1
67
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
وذكر هللا كثريا وتسبيحه ابلعشي واإلبكار من املعينات على كل ما طلبه موسى ،من
بالغ الرسالة ،والصرب على أذى املدعوين ،والربكة يف العمل والوقت ،ولذا أرشد هللا زكراي بعد
ك َكث ِ ً
ريا
َ ْ ُ ْ َ َّ َ
نعمته اليت أنعم هبا عليه أن يذكره كثريا ويسبحه ابلعشي واإلبكار،فقال له﴿:واذكر رب
إْ ْ َ َْ
َوسبح بالع يِّ َ َّ ْ
البكارِ ﴾سورة مرمي.)41(:
شو ِ ِ ِ ِ
وذكر هللا كثرياً سبب الفالح يف الدنيا واآلخرة ،يف َالسلم واحلرب ،ويف الشدة والرخاء،
ً َ ْ
يت ْم ف َِئة فاثبُ ُتواِ ِ ولذا أوصى هللا ﷻ به املؤمنني إذا لقوا فئة مقاتلة ﴿،يَا أ ُّي َها ذَّال َ
ِين آ ََم ُنوا إ َذا لَق ُ
هَّ َ َ ً َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ َ ْ ُ
َواذك ُروا الل كثِريا لعلكم تفل ِحون﴾ سورة األنفال.)45( :
وأمر هللا تعاىل به يف وقت ابتغاء فضل هللا ورزقه ،فهو يعني على تذكر فضل هللا ﷻ
ارها ودوامها وهي َ
وإنعامه ،ورد النعمة إليه ،وذكر هذه النعمة وشكره عليه وهذا سبب استمر
ُ أْ الصلاَ ةُ فَانْتَ رِ ُ
سنة اثبتة هلل ﷻ يف الشكر والشاكرين﴿،فَإ َذا قُض َيت َّ
شوا يِف ال ْر ِض َوابْ َتغوا م ِْن ِ ِ ِ
هَّ َ َ ً َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ َ ْ ُ هَّ َ ْ
فض ِل اللِ َواذك ُروا الل كثِريا لعلكم تفل ِحون﴾سورة اجلمعة.)10( :
وذكر هللا معني على التأسي ابلقدوة الصاحلة ،واملثل الكامل ﷺ وذكر هللا كثريا جملبة
للمغفرة واألجر العظيم ،كما أن ذكر هللا كثريا عصمة للناس أن يقولوا ماال يفعلون ،وذكر هللا
كثريا من أسباب عصمة اإلنسان أن يقول ما ال يفعل.
تفضيل اهلل -تعاىل -لبين آدم على كثري ممن خلق
َم َّن هللا تعاىل على بين آدم مبنن كربى ،ومنح عظمى ،منها :أنه كرمهم بصور من
التكرمي ،وألوان من اإلكرام واإلنعام ،ومحلهم يف الرب والبحر ،ورزقهم من الطيبات ،وفضلهم
على كثري ممن خلق تفضيال ،والكثرة هنا كثرة حممودة إذ قد ذكرها هللا ﷻ يف مقام املن
ْ رَّ َ بْ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ مَ َ ْ ُ َََ َ
اه ْم م َِن َّ
الط ّي ِ َب ِ
ات حل َناه ْم يِف البِ والح ِر ورزقن ﴿ولق ْد ك َّر ْم َنا بَنيِ آ َدم و واإلنعام ،قال ﷻ:
ْ َ ََْ َْ َ َّ ْ َ ُ ْ لَىَ َ
ري م َِّمن خلقنا تف ِ
ضيل﴾ سورة اإلسراء.)70( : َ
وفضلناهم ع كث ِ ٍ
وهذا التكرمي متعدد األوجه ،متنوع اجلنبات ،مثل :هيمنتهم على من سواهم من اخللق،
وتسخري احلياة هلم ،وأبن هلم عقوال ومتييزا ،أو ابألمر والنهي ،أو الكالم واخلط والبيان (،((1
(ومن التكرمي ما ألقى عليهم من حمبة اخلالق حىت أحبوه ،ومن التكرمي لقوم توفيق صدق القدم،
(((2
علو اهلمم)
ولقوم حتقيق ّ
( ((1انظر :جامع البيان ،)5 /51( :و النكت والعيون.)752 /3( :
( ((2لطائف اإلشارات.)163 /2( :
68
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
ومن تكرمي هللا ﷻ لإلنسان أن(:كرمه خبلقته على تلك اهليئة ،هبذه الفطرة اليت جتمع
بني الطني والنفخة ،فتجمع بني األرض والسماء يف ذلك الكيان! وكرمه ابالستعدادات اليت
أودعها فطرته واليت استأهل هبا اخلالفة يف األرض ،يغري فيها ويبدل ،وينتج فيها وينشئ،
ويركب فيها وحيلل ،ويبلغ هبا الكمال املقدر للحياة .وكرمه بتسخري القوى الكونية له يف
األرض وإمداده بعون القوى الكونية يف الكواكب واألفالك..وكرمه بذلك االستقبال الفخم
الذي استقبله به الوجود ،وبذلك املوكب الذي تسجد فيه املالئكة ويعلن فيه اخلالق جل شأنه
تكرمي هذا اإلنسان! وكرمه إبعالن هذا التكرمي كله يف كتابه املنزل من املأل األعلى الباقي يف
ضيلاً » ..فضلناهم هبذا االستخالف ض ْلناهم على َكثِ ٍري ممِ َّن خلَ ْقنا �ت ْف ِ
ْ َ َ القرآن«...وفَ َّ ُ ْ َ
َ األرض..
يف ملك األرض الطويل العريض .ومبا ركب يف فطرهتم من استعدادات جتعل املخلوق اإلنساين
فذا بني اخلالئق يف ملك هللا ...ومن التكرمي أن يكون اإلنسان قيما على نفسه ،حمتمال تبعة
اجتاهه وعمله .فهذه هي الصفة األوىل اليت هبا كان اإلنسان إنساان .حرية االجتاه وفردية التبعة.
(((2
وهبا استخلف يف دار العمل).
تفضيل اهلل ﷻ داود وسليمان على كثري من عباده املؤمنني
ومن مواطن الكثرة احملمودة ما اعرتف به داوود وسليمان ،أبن هللا ﷻ قد آاتمها
علما وفضلهما على كثري من عباده املؤمنني؛ ألن الكثرة هنا يف مقام االمتنان واالعرتاف
َ َّ َ َ لَىَ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ َ ْ َ َ ْ ً َ َ اَ حْ َ ْ ُ للِهَّ ذَّ
ري م ِْن
ٍ ِ ث ك ع ان لض ف ِي
ال ابلفضل هلل ﷻ ﴿،ولقد آ َتينا داوود وسليمان عِلما وقال المد ِ
َ ْ ْ َ
عِبادِه ِ ال ُمؤ ِمن ِني﴾ سورة النمل. )15( :
ومن عليهما فالكثرة هنا كثرة حممودة وليس كل علم بل علم خاص أيدمها هللا ﷻ به ّ
اللُ بِعِْل ِم ِه،((2(). ك ممِ َّا َخ َّ
ص ُه ُم هَّ ِ ك َع ْل ُم كَلاَ ِم الطَّيرِْ َوالد
َّو ِّ
ابَ ،و َغ�يُْر َذل َ َ
بفهمه واإلفادة منهِ ،
(و َذل َ
َ
أو هو علم القضاء ،والتفضيل ابلكتاب والنبوة وامللك(( ،((2ويف اآلية دليل على أن التفضيل
الذي حيصل ابلعلم ال حيصل بغريه من الصفات ،فأخرب أبهنما شكرا هللا على عظيم ما أنعم
(((2
به عليهما)
70
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
ويف سياق امتنان هللا ﷻ على عباده ابملطر الذي حييي به أنعاما وأانسي كثريا ،منة
أخرى منه ﷻ ،أبن جعل من هذا الغيث جنات من خنيل وأعناب ،هلم فيها فواكه كثرية،
ومنها أيكلون ،والكثرة احملمودة هنا تبدو يف َم َّن هللا ﷻ على خلقه ابلفواكه الكثرية اليت سبب
حياهتا ومنائها واحد وهو املاء ،وأنواعها وأصنافها متعددة ،فهي ختضع يف هذا البقاء والنماء
لسنن هللا ﷻ اليت ال تتبدل وال تتحول ،والسننية هنا واالطراد �بَنِّي من خالل خضوع الفاكهة
َ ُ ذَّ
﴿وه َو الِي حتكمها يف النشوءلُّ والبقاء والنماء َ ،كما قال ﷻ يضبطها وسنة الكثرية َ لقانون
ْ نَْْ َ َ ْ َ نْ َ َ َّ َْ َ أْ
َم َّد ال ْر َض َو َج َعل ف َ
ِيها َر َو يِ َ َ َ ً َ ْ
ي ُيغ يِش
ي اثن ِ ك اثل َم َر ِ
ات جعل فِيها ز وج ِ اس وأ نهارا ومِن ِ
( ((2تفسري املنار.)851 /4( :
( ((2لطائف اإلشارات.)936 /2( :
71
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
ات َو َج َّن ٌ
ات جاو َر ٌ ون َ 3و ف أْالَ ْر ِض ق َِط ٌع ُم َت َ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ
ر ك ف ت ي م و ِق ل ات ار إ َّن ف َذ ل َِك آَل َيَ َّ
الليْ َل انلَّ َه َ
ُ َ ّ ُِ ُ ْ ىَ يِ ٍ ٍ يِ ِ
لَىَ َ
ضل َب ْعض َها ع صنْ َ ان َو َغيرْ ُ َْ ٌ َ َ ْ ٌ َ خَ ٌ م ِْن أَ ْع َ
ان يسق ب ِ َما ٍء َو ا ح ٍِد َو نف ِ ٍ و ِ ون ص
ِ ِيل ن و ع ر ز و ابٍ ن
َ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ آَ َّ أْ ُ ُ َْ
ات ل ِقو ٍم يع ِقلون ﴾4سورة الرعد.4،3: بع ٍض يِف الك ِل إ ِن يِف ذ ل ِك ل َي ٍ
72
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
ضرب اهلل ﷻ األمثال للناس يهتدي بها كثري و َي ِضل بها كثري
مضت سنة هللا ﷻ يف خلقه أن يقيم عليهم احلجة ،ويعلمهم البينة؛ لئال يكون للناس
ضل هبا كث َريا ويهدي على هللا حجة بعد الرسل ،ومن ذلك أن ضرب هلم يف كتابه األمثال ي ِ
َ ُ َّ هَّ َ اَ َ ْ َ ْ َ ْ َ رْ
وض ًة َف َما فَ ْو َق َها فَأ َّما ذَّالِينَض َب َم َثلاً َما َبعُ ﷻ ﴿:حْ إِن الل ل يست َح يِي ذَّ أ ن ي هبا كث َرياَ ،قال
َ لاً
َ اد هَّ َُ َ َ َ َ ُ َ ُ َ َ ِ َ َ َّ َ
الل ب ِ َهذ ا َمث ِين كف ُر وا ف َيقولون َماذ ا أ ر ال ُّق م ِْن َر ّب ِ ِه ْم َوأ َّما ال
أ ن ُه َ ف َي ْعل ُمون آ ََم ُنوا
ري ا َو َما يُض ُّل بهِ إ اَّل الْ َفا ِ َ
سقِني ﴾ سورة البقرة.)26(:
َو َي ْه ِد ي بهِ َكث ِ ً بهِ َكث ِ ً
ري ا
ُ ُّ
ضل
ِ ِ ِ ِ ِ ي ِ
وقد يتساءل سائل كيف يضل به كثريا ويهدي به كثريا ،فاملتوقع أن يكون بعض
الفريقني كثريا واآلخر قليال ،وابلنظر يظهر أن هذا فيه بيان قيمة املهتدين وإن كانوا يف أعني
َن الْ َك�ثرَة والْ ِقلَّةَ أَمر ِان نِسبِيَّ ِ لأِ فيِ
ان، َْ ْ الناس قلة ،فهم يف الواقع ونفس األمر كثرة� (،فَلاَ �تَنَا َ �بَ�يْ�نَُه َما َّ َْ َ
الضلاَ ِل ،أ َْو تَ ُكو ُن الْ َك�ثَْرةُفَالْ ُم ْهتَ ُدو َن فيِ أَ�نُْف ِس ِه ْم َكثِريٌَ ،وإِ َذا ُو ِص ُفوا باِ لْ ِقلَّ ِة فَبِالنِّ ْسبَ ِة إِلىَ أ َْه ِل َّ
اص ،فَ ُس ُّموا َكثِ ًريا َذ َهاباً إِلىَ الحَِْقي َق ِةَ ،ك َما قَ َ
ال باِ لنِّ ْسبَ ِة إِلىَ الحَِْقي َق ِةَ ،والْ ِقلَّةُ باِ لنِّ ْسبَ ِة إِلىَ الأْ َ ْش َخ ِ
الش ِ
َّاعُر:
(((2
إِ َّن الْ ِكَر َام َكثِريٌ فيِ الْبِلاَ ِد َوإِ ْن �قَلُّوا َك َما َغ�يُْرُه ْم �قَلُّوا َوإِ ْن َك�ثُُروا
( ((2البحر احمليط يف التفسري ،)202 /1( :الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل.)811 /1( :
73
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
املبحث الثالث
الكثرة املذمومة صفاتها وخصائصها يف القرآن الكريم
وإذا تتبعنا الكثرة املذمومة يف القرآن الكرمي ،وجدانها تدور حول بعض املعاين اليت ميكن
أن نردها إىل أصول جامعة على النحو التايل:
•وصف أكثر الناس
•وصف أكثر أهل الكتاب
•وصف الكثرة ملفردات من األشياء
وصف أكثر الناس
َ َ
﴿ألا خلق هللا ﷻ اخللق وهو هبم أعلم ،وبطبائعهم أخرب ،وخبلجات صدورهم أبصر،
ْ َّ َ َ
َي ْعل ُم َم ْن َخل َق َو ُه َو الل ِط ُيف ال َخبِير﴾سورة امللك ،14:ووصفهم هللا ﷻ وصفا ال يستطيعه غريه،
وال يقدر على القطع به سواه؛ ألنه األعلم بطوااي النفوس ،وخبااي الصدور ،وخفااي السرائر،
ووردت آايت القرآن الكرمي تؤكد هذا الوصف يف مواطن متعددة ،ذلك الوصف الذي يؤكده
الواقع ،وتدعمه جتارب احلياة ،وميكن أن نتابع وصف القرآن للكثرة من الناس من خالل هذه
الصفات:
كثري من الناس عن آيات اهلل غافلون
ومثُال ،والسعيد من اعترب والشقي ِ
بث هللا ﷻ يف اخللق آايت وعبرَ ا ،ويف الكون عظات ُ
يدكر ،وقد مضى حكم هللا ﷻ وسنته يف خلقه أبن كثريا منهم عن آايت هللا من تعداها ومل َّ
َ َ َّ ً ْ
َ َ َ َ ُ َ ََْ َُ ّ َ يْ َ
اس ع ْن آ َيَات َِنا ِإَون كث ِ ً
ريا م َِن انلَّ ِ جيك ب ِ َب َدن ِك لتِ َكون ل َِم ْن خلفك آ َيَة
غافلون ،قال ﷻ﴿ :فالوم نن ِ
ََ ُ َ
ون﴾ سورة يونس .)92( :وقد وردت هذه اآلية الكرمية يف بيان هالك فرعون الذي ذكر بوصفه لغاف ِل
دون امسه ،حىت ميضي وصفه على كل (فرعون) ما بقيت احلياة ،وتلك بعض مالمح السننية
يف القرآن الكرمي ،فهي ال حتدد االسم ،وال الزمان ،وال املكان؛ حىت يفيد الناس من الوصف،
وال يتوقفوا عند االسم والرسم ،ولكن أكثر الناس غافلون عن هذه العرب ،وتلك الفوائد اليت
تبقى ما بقي اإلنسان ،وتتعاقب ما تعاقب الليل والنهار ،ومعىن (غافلون) أي (:ساهون،
74
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
ملن خلقك ،ابلقاف :أي لتكون خلالقك آية كسائر آايته .وجيوز أن يراد :ليكون طرحك على
الساحل وحدك ومتييزك من بني املغرقني -لئال يشتبه على الناس أمرك ،ولئال يقولوا -الدعائك
العظمة :إ ّن مثله ال يغرق وال ميوت -آية من آايت هللا اليت ال يقدر عليها غريه ،وليعلموا َّ
أن
«ننحيك» ابحلاء املشددة ذلك تعمد منه إلماطة الشبهة يف أمرك( ، ).وقرأ أيب بن كعب ّ
(((3
(((3
من التنحية ،وهي قراءة حممد بن السميع اليماين ويزيد الربيدي)
وكثرة التأكيدات الواردة يف اآلية الكرمية من :إن ،وامسية اجلملة ،والالم يظهر مدى غفلة
ض ِيه يد لِما �ت ْقتَ ِ ِ يض بهِِ ْم َوأ َّ
َك َدهُ َه َذا التَّأْك َ َ َ الناس عن العربة ،على الرغم من ظهورها ،وفيه (�تَْع ِر ٌ
يدو الْغَ ْفلَ ِة ع�نها علَى ِشد ِ
َّة ظُ ُهوِرَها �فَلاَ �يَ�تََف َّكرو َن فيِ
ُ َ َْ َ َي إِ�نَُّه ْم لَ َش ِد ُ ِِ ِ ِ ِ
ش َّدةُ الْغَ ْفلَة م ْن �قَُّوة ال�تَّْنبِيه ،أ ْ
ِ بهِ ِِ ِِ ِ بهِ
ني َك َما يمَُُّرو َن َعلَى أَسبا َا َو�نَتَائج َها َوح َك ِم هللا ف َيهاَ ،ولاَ �يَْعتَبرِ ُو َن َاَ ،وإِنمََّا يمَُُّرو َن َعلَ�يَْها ُم ْع ِرض َ
ث وعواقِبِها واستِبانَِة سن ِن ِ ِ ِ ِ
هللا َم َسارِِح األنعامَ ،وف ِيه َذمٌّ ل ْلغَ ْفلَ ِةَ ،و َع َدِم ال�تََّف ُّك ِر فيِ أسباب الحََْواد ِ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ
(((3 فِيها ،لِلاِ ْعتِبا ِر والاِ تِّع ِ
اظ بهَِا). َ َ َ َ
أكثر الناس ال يشكرون
نِعم اإلله على العباد كثرية ،ومننه على خلقه ال حتد وال تعد ومع ذلك أكثرهم ال
يشكرون ،مضت بذلك سنة هللا ﷻ ،فاهلل ذو فضل على الناس ،ولكن أكثرهم ال يشكرون،
يشكرون ،ووردت اآلايت القرآنية َ
وقد بذل إبليس يف ذلك واجتهد أن يكون أكثر الناس ال
َ َ ذَّ ىَ َ َ
ِين خلَىَ َر ُجوا م ِْن
قال ﷻ﴿:أل ْم ت َر ذَإِل الذلكْ ،وأيده َو َاقعَ َالناس وحياهتمَ ُ ، على الكرمية دالة
ْ ُ َ
اه ْم إن هَّ َ َّ
َّ ْ َ ُ ُ ُ هَّ ُ ُ َ ُُ ٌ
َ ُ
اسالل لو فض ٍل ع انلَّ ِ ِ الل ُموتوا ثم أحي ت فقال لهمدِيَارِه ِْم َوه ْم ألوف حذ َر ال َم ْو ِ
ِ ِ اَ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ َّ َ ْ
ك رَ َ
: َيأ ) نور
لاَ َ ْ ُ َ ْ لاَك ش ي َّاس
ُ ن ال ر �ثك َ
أ ن
َ َ َّ ْ َك ل(و ،َ البقرة243: ﴾سورة ون ر ك ش ي ل ِ
اس انل ث كن أ
ول ِ
ان َه ِذ ِه ُّ �ي ُقومو َن بحِ ُق ِ ِ
َي َه َذا َشأْ ُن أَ ْكثَ ِر النَّاسِ ِ
السنَّة؛ أ ْ
يدو َن ِمن �بي ِ
ْ ََ وق َهذ ِه النِّ ْع َم ِةَ ،ولاَ يَ ْستَ ِف ُ َ ُ ُ
ِ ِ
بمِ برِ
ك أَ�يَُّها املؤمنون ،بَ ِل ْاعتَ ُوا َا �نََزَل َعلَْي ُك ْم فيِ َغ ْفلَتِ ِه ْم َو َج ْهله ْم ْك َمة َرّب ْم� ،فَلاَ تَ ُكونُوا َك َذل َ
هِِ ِ بحِِ ِ
طث الْ َك ْو ِنَ ،حتىَّ ممِ َّا �يَْن ِزُل بِ ُك ْم ِم َن الْ�بَلاَ ِء إِ َذا َوقَ َع ِمْن ُك ْم �تَْف ِري ٌيدوا ِمن ُك ِل حو ِاد ِ ِِ ِ ِ
َوتأَ ََّدبُوا به لتَ ْستَف ُ ْ ّ َ َ
ض الشُّئُ ِ
ون)( ،((3واطراد السنة هنا واضح من أتكيد القرآن الكرمي وتعبريه ،وواقع الناس فيِ �بَْع ِ
يؤكد ذلك واطراده.
أكثر الناس ال يعلمون
ومن وصف القرآن الكرمي ألكثر الناس :أهنم ال يعلمون ،ورد ذلك يف آايت متعددة،
وقد ورد نفي العلم عن أكثر الناس يف مقامات متعددة ،ومواطن شىت ،ومن خالل تتبع اآلايت
الكرمية ندرك اآليت:
نفي العلم -عن أكثر الناس -أن الدين هو :الرباءة من عبادة ما سوى هللا تعاىل،
اَّ ُ َ َ ُُْ َ
َ تعاىل﴿:ما ت اَّعبد َ
ون م ْ َِن اَّ دونِهِ إِل
للِهَّ ُ ْ حْ هوْ َالدين القيمْ ،
قال
هَّ ُ َ ْ ُ َ التوحيدْ له عز ُ وجل َ
َ َوإخالص
ْ َ ً َ َّ ْ ُ ُ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ
الك ُم إِل ِ أ َم َر أل ت ْع ُب ُدوا ان إ ِ ِن
أسماء سميتموها أنتم وآ َباؤكم َما أنزل الل بِها مِن سلط ٍ
اَ ْ َ َ ك رَ َ
ْ َ اَّ َّ ُ َ َ ّ ُ ْ َ
اس ل َيعل ُمون﴾،سورة يوسف)40( : ث انلَّ ِ ِين الق ّي ِ ُم َول ِ
ك َّن أ إِل إِياه ذل ِك ادل
واملعىن( :ولكن أهل الشرك ابهلل جيهلون أن الدين القيم هو الرباءة مما سوى هللا ﷻ فال يعلمون
(((3
حقيقته).
العلم عن َ أكثر الناس يف بيان مقام العلم أبولياء اَّهللا تعاىل ،يف قوله﴿ :
َ وورد نفي َ
ْ ً
اجة ف َنف ِس َي ْع ُق َ يَ
شء إل َح َ ْ اَ
َ ْ ُ ْ َ هَّ ْ َ ُ ُ
ْ َْ ُ َ ُ ْ ُ ُ ْ َ َ َّ َ َ
وب يِ ولما دخلوا مِن حيث أم َرهم أبوهم ما كن يغنيِ عنهم مِن اللِ مِن ْ ٍ ِ
اَ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ َّ ْ َ ُ َ َ َّ َ ْ
ك رَ َ َ َ َ َّ ذَ ُ
ون ﴾68قال ابْ ُن َعبَّ ٍ
اس( :لاَ �يَْعلَ ُم اس ل يعلم ث انلَّ ِ قضاها ِإَون ُه لو عِل ٍم ل ِما علمناه ول ِ
كن أ
َ
(((3
الْمش ِركون ما أهلم هللا أولياءه).
ُُْ َ
ْ
وورد نفي العلم عنهم يف مقام بيان معرفتهم أبن وعد هللا حق ،قال ﷻَ ﴿:وأق َس ُموا
اَ َ ْ َ ُ َ هَّ َ ْ َ َ ْ َ ْ اَ َ ْ َ ُ هَّ ُ َ ْ َ ُ ُ َ ىَ َ ْ ً َ َ ْ َ ًّ َ َ َّ َ ْ رَ
كن أكث انل ِاس ل يعلمون﴾
َّ َ بِاللِ جهد أيمان ِ ِهم ل يبعث الل من يموت بل وعدا عليهِ حقا ول ِ
(((3
أي( :ولكن أكثر قريش ال يعلمون وعد هللا عباده ،أنه ابعثهم يوم القيامة بعد مماهتم أحياء).
ونفى علمهم مبعرفة البعث فقال ﷻ( :و ِ
لك َّن أَ ْك�ثََر الن ِ
َّاس لاَ �يَْعلَ ُمو َن) ،أي :أَ�نَُّه ْم َ (((3
َم�بْعُوثُو َن.
76
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
ونفى هللا ﷻ عدم علم أكثر الناس أبن هللا قادر على أن ينزل آية ،وال يعلمون ما
يرتتب على نزول اآلية ورفضهم هلا من وجوب حلول العذاب َكما مضت بذلك َسنة هللا ﷻ
َ َ ُ َ ْ اَ ُ ّ َ َ َ ْ َ ٌ ْ َ ّ ُ ْ َّ هَّ َ َ ٌ لَىَ ْ ُ زَّ َ َ ً َ َ َّ ْ رَ َ ُ اَ
ثه ْم ل ك ن أك نل آ َية ول ِ يف خلقه﴿ ،وقالوا لول ن ِزل عليهِ آ َية مِن ربِهِ قل إِن الل قادِر ع أن ي ِ
ون﴾( ،و ِ َ َُْ َ
لك َّن أَ ْك�ثََرُه ْم الَ �يَْعلَ ُمو َن أبن هللا قادر على أن ينزهلا .ويقال :ال �يَْعلَ ُمو َن مبا يف َ يعلم
(((3
نزول اآلية ألنه لو نزلت اآلية عليهم ومل يؤمنوا ؛ استوجبوا العذاب).
وهؤالء الطالبون آلية من هللا ﷻ ال يعلمون أن اآلايت جتري على سنن اثبتة وقوانني هلل
ﷻ يف عباده ،فال تنزل تلبية لطلب املدعوين ،وإال لو نزلت وكذبوا هبا لكان يف ذلك هالكهم؛
لكثرة تكذيبهم ،وخلالفت تلك اآلية سنة هللا ﷻ يف استئصال املكذبني ،ورسالة النيب ﷺ يف
األمة عامة ال يرد عليها سنة االستئصال فيكون يف ذلك تعارض لسنن هللا ﷻ وهذا ال يكون،
ت الْم َخالَِف ِة لِسنَنِ ِه ﷻ فيِ ول -آيةٌ ِمن ربِِه ِمن ا ِ
َ ْ َّ َ لآْياَ
الرس ِ ِ
(هلاَّ أُنْ ِزَل َعلَْيه -أَ ِي َّ ُ فهم قالواَ :
ُ ُ
ان، خ ْل ِق ِه ،ممِ َّا ا�ق�ترحنَا علَي ِه ،وجع ْلنَاه َشرطًا لإِِ ميَانِنَا بِِه؟ وقِيل :إِ َّن مرادهم آيةٌ م ْل ِجئَةٌ إِلىَ الإِْ ميَ ِ
َُ َ ُ ْ َ ُ َ َ ْ ََ ْ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ
ِ َّ ِ ِ ِ ِ َّ ِ ِ ِ ِ ِ
ص َل (قُ ْل إن هللاَ قَادٌر َعلَى ب َولاَ �يُْعتَ ُّد به إ ْن َح َ اختيَ ٌار� ،فَلاَ �يَُو َّجهُ إلَْيه الطلَ ُ اضطَر ٌار لاَ ْ َوالإْ لجَْاءُ ْ
ول :إِ َّن هللاَ �تََعالىَ قَ ِادٌر َعلَى �تَْن ِز ِيل آيٍَة َي :قُ ْل أَ�يَُّها َّ
الر ُس ُ ِ
أَ ْن �يُ�نَِّزَل آيَةً َولَك َّن أَ ْك�ثََرُه ْم لاَ �يَْعلَ ُمو َن) أ ْ
الرس ِ ِ ِ ممِ َّا ا�ق�ترحوا ،وإِنمََّا �ي�ن ِزلهُ ا إِ َذا ا�قتَض ِ
ول ت َش ْه َو�تُُه ْم ب�تَْعجي ِز َّ ُ ت ح ْك َمتُهُ �تَْن ِزيلَ َها ،لاَ إِ َذا �تََعلَّ َق ْ ْ َ ْ ْ ََ ُ َ َُّ َ
ِ ِ ِ ِ ِ ٍ فيِ ِ ِ
ين إلىَ الآْياَ ت الْ ُم ْق�تََر َحة لمَْ يَ ُك ْن أ َُّمة م َن الأْ َُمم َس�بَبًا ل ْله َدايَةَ ،وقَ ْد ِ ِ ِ
بِطَلَبِ َها ،فَِإ َّن إِ َجابَةَ الْ ُم َعاند
َ
ِ (((4 ِ لاِ ِ ِ مضت س�نَّته ﷻ فيِ الأْ َ�قو ِام ،بأَِ ْن �يعاقِب الْمع ِج ِز ِ
صال). ك بِ َع َذاب ا ْستْئ َ ين ل ُّلر ُس ِل بِ َذل َ
َُ َ ُ َ ّ َ َْ َ َ ْ ُ ُُ
كما أهنم ال يقدرون املعجزة الكربى وهي القرآن الكرمي وحصروا أنفسهم يف املعجزات
احلسية اليت تنتهي ابنتهاء زماهنا ،ومل يدروا أن القرآن جتاوز الزمان واملكان ،وحاجات البشر،
ففيه لكل زمان ما يعجز أهله ويرشدهم إىل صدق قائله.
علمهم أبن العطاء واملنع َ اَمن َّ هللا ،قال ﷻ: ٌ
علم أكثر ْالناس به: تعاىل ُ نَ
حْ ُ َ
َ َ ومما ْنفى هللا
ُ ْ ال َس َنة قالوا لَا َهذه ِ ِإَون تُصبْ ُه ْم َس ّي َئة َي َّطيرَّ ُ وا ب ُم ىَ
وس َو َم ْن َم َع ُه أل إِن َما َطائ ِ ُره ْم عِن َد ﴿فإذا َج َ
اءت ُه ُم َ
ِ ِ ِ ِ ِ
هَّ َ َ َّ َ ْ رَ َ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ
كن أكثهم ل يعلمون﴾ سورة األعراف.)131( : اللِ ول ِ
فهم ال يعلمون أن العطاء واملنع من هللا ،وأن تطريهم غري مبين على وعي وال بصرية؛
ألن مقاليد األمور كلها بيد امللك ،لكنهم ال يرون ذلك وال يلحظون أنه فضل هللا يؤتيه من
يشاء ،فالشكور يرد النعمة إىل مصدرها ،ويسند الفضل إىل صاحب الفضل.
واألرض هلل .ورد نفي علم أكثر َالناس أبن وعد هللا حق ،وأن كل ما يف السماوات
َّ َ َ َ أْ َ ْ َ اَ َّ َ ْ َ هَّ َ ٌّ َ َ َّ َ ْ رَ َ ُ ْ اَ اَ َّ للِهَّ َ
كن أكثهم ل ات والر ِض أل إِن وعد اللِ حق ول ِ ذلك يف قوله ﷻ﴿ :أل إِن ِ ما يِف السماو ِ
َ َُْ َ
ون﴾ ،أي (:أ ّن كل ما يف السموات وكل ما يف األرض من شيء ،هلل ِم ْلك ،ال شيء يعلم
فيه ٍ
ألحد سواه) ((4(.فالوجود كله يف يديه ،واخلري كله منه وإليه.
نفي علم أكثر الناس مبا يصلح للناس
ونفى هللا ﷻ علم أكثر الناس مبا فيه مصلحة األانم ،وأن النسخ واإلحكام من لدن عالم
الغيوب ،وأنك اي رسول هللا ال أتتيهم بشيء من عند نفسك بل (الذي أتتيهم به من عند
َ َنْ ً اَ َ
هللا انسخه ومنسوخه ،وهم ال يعلمون حقيقة صحته)( ،((4قال ﷻِ﴿ :إَوذا بَ َّدلا آ َيَة َمكن آ َيَ ٍة
َ هَّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ زَّ ُ َ ُ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ترَ َ ْ َ ْ رَ ُ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ
ون﴾ سورة النحل( .)101( :فيه وجهان: نل قالوا إِنما أنت مف ٍ بل أكثهم ل يعلم والل أعلم بِما ي ِ
(((4
أحدمها :ال يعلمون جواز النسخ .الثاين :ال يعلمون سبب ورود النسخ)
نفي علم أكثر الناس باحلق
كما نفى هللا ﷻ َ علم أكثر الناس ابحلق ،ومعرفتهم به ،فال يدرون ما أيخذون وما
ْ ك ْم َه َذا ذ ِْك ُر َم ْن َم يِ َ
ًَ ُْ َ ُ َُْ َ ُ ُ خَّ َ ُ
ع َوذِك ُر َم ْن يدعون ،فقال ﷻ ﴿:أ ِم اتذوا م ِْن دونِهِ آَل ِهة قل هاتوا برهان
َ ْ َ ْ َ ْ رَ ُ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ حْ َ َّ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ
ون﴾.واملعىن( :بل أكثر هؤالء املشركني ال يعلمون قب يِل بل أكثهم ل يعلمون الق فهم مع ِرض
الصواب فيما يقولون وال فيما أيتون ويذرون ،فهم معرضون عن احلق جهال منهم به ،وقلَّة
(((4
فهم)(،((4أو(ال يصدقون ابلقرآن ،ويقال ابلتوحيد)
أكثر الناس ال يعلمون قدر عظمة اهلل
الناظر يف ملك هللا ﷻ يبهره هذا العلم احملكم وهذا الرتتيب الدقيق الذي يشمل كل
شيء من أصغر ذرة إىل أكرب جمرة ،ومن علم اإلنسان إىل علم احليوان والنبات واحلشرات،
فكل حبسبان ،وكل يدل على عظمة خالقه ،والناس يف غفالهتم عن هذا اإلدراك سادرون ،ويف
غيهم يعمهون ،ولقد ضرب هللا ﷻ مثاالً الفتاً ألنظار الناس واضحاً بيناً ال حيتاج إىل عمق يف
العلم ،وال مهارة دقيقة يف اإلدراك بل يراه العامي والعامل ،وكل يفهمه حسب معطياته وقدراته:
( ((4جامع البيان.)301 /51( :
( ((4جامع البيان.)792 /71:
( ((4النكت والعيون.)412 /3( :
( ((4جامع البيان.)724 /81( :
( ((4حبر العلوم.)424 /2( :
78
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
ولقد قال هللا ﷻ ذلك لقريش ردا على ختوفهم من اإلميان وأهنم خيشون إن هم اتبعوا
اهلدى أن يتخطفوا من أرضهم ،فذكرهم هللا ﷻ أبنه هو الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من
( ((4جامع البيان.)484 /91(:
( ((4جامع البيان.)535 /91(:
( ((4حبر العلوم.)106 /2( :
( ((4جامع البيان.)982 /81(:
79
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
خوف وجىب إليهم مثرات كل شيء ،واملتأمل يف اآلية الكرمية يدرك أن املراد ابلثمرات هنا
ليست مثرات الفاكهة بل (مثرات كل شيء) ،أي :خالصة كل شيء ،وأفضل ما فيه سواء كان
ذلك يف الطعام أو الشراب ،أو الثياب ،أو العقول البشرية ،أو اخلربات اإلنسانية ،أو غريها
من مثرة كل شيء ،واألايم تزيد هذه النبوءة القرآنية أتكيداً ،فما زلنا نرى مثرات كل شيء جتىب
إىل هذه البالد املباركة ،قدميا وحديثاً ،ومع ذلك (هم غافلون عن االستدالل ،وأن من رزقهم
(((5
وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا ،ومينع الكفار عنهم يف إسالمهم).
نفي علم أكثر الناس بأن للذين ظلموا عذابا غري عذاب الدنيا
ونفى هللا ﷻ عن أكثر الناس علمهم أبن للظاملني عذااب غري عذاهبم َ يف الدنيا ،وأنه انزل هبم
َّ ذَّ َ َ َ ُ َ َ ً ُ َ َ َ َ َ َّ ْ رَ َ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ
ون ﴾. كن أكثهم ل يعلم ما مل يتوبوا ال حمالة ،قال ﷻِ﴿:إَون ل ِلِين ظلموا عذابا دون ذل ِك ول ِ
اب)( ((5أو( :أ ّن هللا انصر لدينه ،((5().أو (أ َّ ك الْع َذ ِِ ِ
َن واملعىن :أكثرهم ال يعلمون (أَ�نَُّه ْم َذائ ُقو َذل َ َ
ِ بهِِ (((5
اب ناَ زٌل ْم).
الْ َع َذ َ
نفي علم أكثر الناس باملتقني ً
حقا
َ َ
﴿وْ َما ل ُه ْم الناس أبن أولياء هللا هم املتقون حقا ،قال ﷻ: أكثر َ ْ ونفى هللا ﷻ علم
حْ َ َ ِ َ َ اَ ُ َ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َ ُ ُ اَّ ُ َّ ُ َ ْ َ َ اَّ ُ َ ّ َ ُ ُ هَّ ُ َ ُ ْ َ ُ ُّ َ
ج ِد الرام وما ك نوا أ و يِلاء ه إ ِن أ و يِلاؤه إ ِل المتقون
أ ل يع ِذ َبهم الل وهم يصد ون ع ِن المس ِ
ْ رَ َ ُ ْ اَ َ ْ َ ُ َ َ
ون ﴾ سورة األنفال( .)34( :ولكن أكثر املشركني ال يعلمون أن أولياء هللا ك َّن أ كثهم ل يعلم َو ل ِ
(((5
املتقون ،بل حيسبون أهنم أولياء هللا).
نفي علم أكثر الناس أن اهلل وحده هو احلقيق باحلمد
هللا ﷻ وحده هو احلقيق ابحلمد والثناء ،واجلدير ابلشكر والدعاء ،لفضله وإنعامه،
رُ َ اَ لاً رَ َ َ هَّ ُ َلاً
شك ُء الل َمث َر ُج فِيهِ وبره وإكرامه ،وأكثر الناس ال يعلمون ذلك ،قال ﷻ﴿ :ضب
َ ْ رَ ُ ُ ْ اَ َ ْ َ َ
ُ َ َ ُ َ َ َ ُ لاً َ َ ً َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ َلاً حْ َ ْ ُ للِهَّ َ ْ
ِ بل أكثهم ل يعل ُمون﴾ سورة الزمر: ان مث المد متشاكِسون ورج سلما ل ِرج ٍل هل يستوِي ِ
( (.)29إمنا احلمد الكامل هو هلل خالصا؛ ألنه هو املنعم واخلالق ،والرازق ولكن أكثر
80
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
(((5
مستحق لصفات اجلالل).
ّ هؤالء الكفرة ال يعلمون أهنا كذلك ((5().فـ (الثناء له ،وهو
أكثر الناس ال يعلمون مدار العطاء واملنع
يعطي هللا ﷻ ومينع ،ويهب وينزع حلِ َك ٍم يعلمها ،وأسرا ٍر يريب هبا عباده ،منها االبتالء
َ َ َ َّ إْ ْ َ َ رُ ٌّ َ َ ُ َ
ض د اَعنا ث َّم إِذا واالختبار ،وإقامة سورة احلجة على عباده ،قال ﷻ﴿َ :فإِذا مس ِ
النسان
َ ْ رَ َ ُ ْ اَ َ ْ َ ٌَْ َ ْ َْ ُ ُ لَىَ ُ ْ ً َّ َ َ َّ َ نْ
ك َّن أكثهم ل يعل ُمون﴾ سورة الزمر.)49( : خ َّولَاهُ ن ِع َمة مِنا قال إِن َما أوت ِيته ع عِل ٍم بل يِ َ
ه ف ِتنة َول ِ
الضر الذي كانوا فيه فتنة هلم ،يعين بالء ابتليناهم واملعىن( :عطيتنا إايهم تلك النعمة من بعد ّ
(ولَ ِك َّن أَ ْك�ثََرُه ْم) جلهلهم ،وسوء رأيهم (ال �يَْعلَ ُمو َن) ألي سبب أعطوا
َ به ،واختبارا اختربانهم به
يل إَِنمَّ ا َكا َنَن َه َذا الت ْ ِ
َّخو َ ذلك ،((5().أو ال يعلمون (البلوى من النعمى ((5().وال يعلمون (أ َّ
لأِ ِ لاِ ِ ِ (((5
َجل ا ْختبَار).
ْ
أكثر الناس ال يعلمون سنن اهلل املاضية
أكثر الناس ال يعلمون حكم هللا ﷻ يف خلقه ،وسننه املاضية يف عباده ،وأن ما تصري
إليه األمور جتري حبسبان وقدر معلوم ،خلالق األرض والسماء ،وأن الكون مسطوره ومنظوره
جيري (حبسبان)وأنه ﷻ لذلك وضع (امليزان) وخلقه مجيعا (كل يف فلك يسبحون) ،وما جيري
اشترَ َ اهُ م ِْن م رْ َْ َ َ َ ذَّ
ِص ّ َ أْ ِي
ال عامل َاحلياة جيري يف عامل َ األحياء َ ،قال ﷻ لدَيف َشأن يوسف ﴿:وقال
يف َ
َّ َ َ َ ْ َ َ َّ ْ
ْ ََ َ ىَ ْ ْ
خذهُ َو ً ا َوكذل ِك َمك َّنا ل ِسورة يوسف يِف ال ْر ِض َولنِ ُ َعل َِم ُه َ
اِلم َرأتِهِ أك ِر يِم مث َواهُ عس أن َينفعنا أ ْو نت ِ
اَ َ ْ َ َ
اس ل يعل ُمون﴾ سورة يوسف.)21( :
َ هَّ ُ اَ ٌ لَىَ َ ْ َ َ َّ َ ْ
ك رَ َ
ث انلَّ ِ كن أ م ِْن تَأْو أْ َ َ
ِيث والل غل ِب ع أم ِره ِ ول ِ يل الحاد ِ ِ ِ
أي( :لاَ يَ ْد ُرو َن ِح ْك َمتَهُ فيِ َخ ْل ِق ِهَ ،و�تَلَطَُّفهُ لِ َما يُِر ُ
يد)(َّ ،((6
(أن األمر كله بيد هللا ((6().أو:
(ال يعلمون أن سنة هللا ماضية وأن أمره هو الذي يكون ،((6().وقد مضت سنة هللا تعاىل اليت
أرادها يف يوسف؛ ألن أمره غالب ،وحكمه انفذ وال يقع يف ملكه إال ما يريد.
82
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
وبني القرآن الكرمي علة رفضهم احلق ،وكرههم له؛ أبنه( :خيالف شهواهتم وأهوائهم
فلذلك أنكروه ،وإمنا قيد احلكم ابألكثر ألنه كان منهم من ترك ا ِإلميان استنكافاً من توبيخ
قومه ،أو لقلة فطنته وعدم فكرته ال كراهة للحق ،((7().واحلق ال يتبع األهواء بل يفرض نفسه
ويتبعه الناس ألنه احلق ،وإال لو اتبع هوى كل هاو ملا قرت احلياة ،ولو كان هذا احلق ميشي
على رغبات الناس وجاء (موافقاً ألهوائهم الباطلة لفسد نظام العامل ،وختصيص العقالء ابلذكر
(((7 حيث عبرَّ مبن َّ
ألن غريهم تبع).
كثري من الناس بلقاء ربهم كافرون
وتتم اآلايت اطراد سنة هللا ﷻ يف األكثرية ،فهم ال َيؤمنون ،وهم للحق كارهون،
خلَ َق هَّ ُ
ْ َ َ ُْ َ َّ َ
ات الل َّ
الس َم َ
او ِ وه��م بلقاء رهب��م ك��اف��رون ،فيقول ﷻََ ﴿:ول ْم َي َتفك ُروا يِف أنفسِ ِهم ما
ال ّق َوأَ َ َ
ون ،﴾8 َ َ ّ ْ َ اَ ُ َ
اس بِل ِقاءِ رب ِ ِهم لكف ِر ِإَون َكث ِ ً
ريا م َِن انلَّ ِ
َّ
ج ٍل ُم َس ىًّم َو أْال ْر َض َو َما بَيْ َن ُه َما إ ِ اَّل ب حْ َ
ِ ِ
أي(:وإن كثريا من الناس بلقاء رهبم جاحدون منكرون؛ جهال منهم أبن معادهم إىل هللا
84
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
بعد فنائهم ،وغفلة منهم عن اآلخ��رة( ((7().أَي :جاحدون ،ولقاء َرهبم ُه َو الْ�بَْعث �يَْوم
الْ ِقيَ َامة ((7().ذلك أهنم مل ينظروا يف اآلايت والعرب ،نظر املتبصر ،راغب اإلميان ،بل حجبتهم
حق النظر ،ووضع النظر موضعه أمثر له أهواؤهم ومنعتهم شهواهتم وشبهاهتم( ،إ ّن من نظر ّ
العلم واجبا ،فإذا استبصر بنور اليقني أحكام الغائبات ،وعلم موعوده الصادق يف املستأنف-
جن��ا ع��ن ك�� ّد ال�ت�ردد والتجويز .فسبيل م��ن صحا عقله أال جينح إىل التقصري فيما ب��ه كمال
(((7
سكونه).
أكثرهم غريُ مقتصرين على ما ِ
مقرر ملَا قبلَهُ ببيان أن َ
(تذييل ٌ
ٌ وختام اآلية بتلك اجلملة
َّفك ِر فيما يُرشدهم إىل معرفتِها من ِ
خلق اض عن الت ُّ ذُكر من ِ
الغفلة عن أحو ِال اآلخرِة واإلعر ِ
بلقاء حسابِه ﷻ وعات بل هم منكرون جاحدون ِ األرض وما بينهما من املصنُ ِ ات و ِ السمو ِ
ُ
وجزائِه ابلبعث)
ِ (((7
86
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
وإن الكثرة لتكون أحياانً سبباً يف اهلزمية ،ألن بعض الداخلني فيها ،التائهني يف غمارها ،ممن
مل يدركوا حقيقة العقيدة ال�تي ينساقون يف تيارها ،تتزلزل أقدامهم وترجتف يف ساعة الشدة
فيشيعون االضطراب واهلزمية يف الصفوف ،فوق ما ختدع الكثرة أصحاهبا فتجعلهم يتهاونون
يف توثيق صلتهم ابهلل ،انشغاالً هب��ذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر يف احلياة .لقد
قامت كل عقيدة ابلصفوة املختارة ،ال ابلزبد الذي يذهب جفاء ،وال ابهلشيم الذي تذروه
ْ َْ َْ ُ ََ ْ َ َ ُ
اء ك ُمالرايح!) ((8(.وهذا ما وضحته اآلية األخرى يف قوله ﷻ ﴿ :إ ِ ن تستفتِحوا فقد ج
ُ ْ
َْ ُ َُ ْ َ َ
َ ُ َُ ْ ْ َ
خَيرْ ٌ لك ْم ِإَون ت ُعود وا ن ُع ْد َو ل ْن تغنيِ َ عنك ْم ف َِئ ُتك ْم سورة الفتح ِإَون تن َت ُهوا ف ُه َو
ال ُم ْؤ ِمن َِني ﴾ سورة األنفال.)19( :فإن (من غلبته قدرة األحد مل
ْ
الل َم َعت َو أَ َّن هَّ َ
َ ْ ً َ َ ْ َ رُ َ ْ
شيئا و لو كث
(((8
تغن عنه كثرة العدد).
وصف أكثر أهل الكتاب
وتنتقل سنة الكثرة من وصف عموم الناس ،إىل وصف بين إسرائيل ،وهم شرحية من
الناس هلم من الصفات ما يستدعي الوقوف أمامهم ،وحتليل تلك األوصاف اليت مل يكتف
القرآن الكرمي أبن يشاركوا عموم الناس فيما وصفوا به بل خصهم بصفات اطردت فيهم اطرادا
سننياً ،فقد وصفهم أبن أكثرهم فاسقون ،وأن كثريا منهم ساء ما يعملون ،وأن كثريا منهم عموا
وصموا ،وكثريا منهم يودون أن يردوا املؤمنني من بعدهم كفارا حسداً من عند أنفسهم ،وأن
كثريا منهم يصدون عن سبيل هللا ،وأن أكثرهم ال يعقلون ،وأن كثريا منهم يتولون الذين كفروا،
وأن كثريا من األحبار والرهبان أيكلون أموال الناس ابلباطل ويصدون عن سبيل هللا ،وجاء
الواقع على مدار الزمن يؤكد تلك األوصاف؛ فسبحان من وصفهم هبا من حكيم خبري ،ومن
تتبع آايت الكثرة الدالة على تلك الصفات أن نصنف وصف أهل الكتاب حسب الكثرة
على النحو اآليت:
88
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
90
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
الذي كانوا يستوجبون به السخط من هللا ﷻ ،ويوجب هلم العقوبة والعذاب وفيِ الْع ِ
ذاب ُه ْم َ َ
(((9
خالِ ُدو َن يعين :دائمون).
كثري من األحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اهلل
أكد القرآن الكرمي للمؤمنني أن كثريا من أهل الكتاب أيكلون أموال الناس ابلباطل
عن طريق الرشاوى والراب والسحت ،ويزعمون ألتباعهم أهنم يفتوهنم من الوحي ،وينفروهنم عن
الكتاب ،قال ﷻ:بْ الصفة َيف أهل
الناس قدميا وحديثا يَ ْهذه ُ َ
أكد واقع أْ َ
الدخول يف ذَّ اإلسالم ،و َّ َ
َ
َ ُ َ ْ َ َ ُّ ْ
ان لَأكلون أ ْم َوال انلَّ ِ
اس بِالَاط ِِل َو َي ُص ُّ َدون ِ اَ الره َب ِين آ ََم ُنوا إن كث ِ ً
ريا م َِن الحب ْارِ و ِ ذَّ
﴿يَا أ ُّي َها ال َ
هَّ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ ْ ُ َ َّ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ ُ َ َ هَّ َ َ ْ َ
اب أ يِل ٍم
يل اللِ فب ّرِشهم بِعذ ٍ يل اللِ والِين يك زِنون اذلهب والفِضة ول ينفِقونها يِف سب ِ ِ عن سب ِ ِ
﴾ سورة التوبة.)34(:
فهؤالء األحبار والرهبان جيعلون من أنفسهم وجيعلهم قومهم أرابابً تُتبع وتطاع وهم فيما
يشرعون أيكلون أموال الناس ابلباطل ويصدون عن سبيل هللا .وأكل أموال الناس كان يتمثل
يف صور شىت وال يزالون.
املبحث الرابع
سنن اهلل يف الكثرة
املتأمل آلايت الكثرة يف القرآن الكرمي جيد خيطا دقيقا رقيقا يربطها ،وسياجا واضحا
حيكم صورهتا ،مبا يؤكد السننية فيها ،وأن اآلايت متضي بطريقة يكمل بعضها بعضا ،ويؤكد
بعضها بعضا يف غري تنافر وال غرابة ،بل الكل ميضي ليؤكد هدفا واحدا ،ويسعى ليؤدي رسالة
واضحة ،وميكن أن نتابع رسم تلك الصورة الرائقة الفائقة يف خطوتني:
األوىل :مالمح الرتابط السنين يف آايت الكثرة
الثانية :األصول اجلامعة لسنن هللا يف الكثرة
وميكن أن نتناول ذلك على النحو اآليت:
ً
أوال :مالمح الرتابط السنين يف آيات الكثرة:
وإذا نظران إىل آايت الكثرة وتفحصنا سريها ودالالهتا ،رأينا أهنا متضي يف خط واحد،
وهتدف إىل رسالة واضحة ،يف كل اآلايت الكرمية ،مبا يربز السننية الواضحة والقاعدية املطردة،
فهي مثالً أتيت يف مواطن لوم قوم نوح له على كثرة جداله هلم ،وإحلاحه يف دعوهتم ،وترد يف
موطن وصف قوم فرعون الذين طغوا يف البالد فأكثروا فيها الفساد ،ويف موطن لوم هللا ﷻ
للضالني من اجلن الذين استكثروا من اإلنس ووصف أكثر الناس أبهنم يضلون عن سبيل هللا،
وأن أكثر اجلن واإلنس ذرأهم جلهنم ،وبيان أن كثريا من الناس عن آايت هللا غافلون ،وبيان
أن كثريا من اخللطاء يبغي بعضهم على بعض ،وبيان أن أكثر الناس ال يشكرون ،وأن أكثرهم
ال يعقلون ،وأن أكثرهم ال يعلمون ،وأن أكثرهم جيهلون ،وأن أكثرهم فاسقون ،وأن أكثرهم
ال يعقلون ،وبيان أنه ال يستوي اخلبيث والطيب ولو أعجبت الرائي كثرة اخلبيث .املتتبع هلذه
اآلايت الكرمية جيد اخليط الذي يربطها واحملور الذي تدور حوله ،هو وصف أكثر الناس
ووصف أكثر أهل الكتاب وهو من وصف البعض بعد الكل أو وصف اخلاص بعد العام،
ووصف ملفردات من األشياء متجانسة كما مر يف صلب البحث؛ مبا يشعر الناظر املتأمل أن
هذه السنة متكاملة املعامل واضحة املالمح بينة القسمات ،جلية الصفات.
92
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
ومن بينات الداللة السننية يف تلك اآليات ما يأتي:
• تعبريات القرآن الكرمي عنها جبالء ووضوح أبلفاظ تؤكد سننيتها مثل التعبري عنها
ابألحكام العامة اليت تتسم ابلشمول والعموم ،والقابلة للتطبيق يف أفراد كثرية مثل( :أكثر
الناس)( ،أكثرهم)(،كثري منهم) ،وحنو ذلك من العبارات اليت تبني السننية واحلُ ْكمية يف
الداللة.
• األحكام املطلقة الواردة يف اآلايت( ،أكثرهم ،كثري ،أكثر الناس ،كثري منهم،) ،
وهذا اإلطالق الذي تعرب عنه اآلايت الكرمية مسة من مسات السنن الرابنية ،وخصيصة من
خصائصها ،سواء كانت سننا تتعلق ابلكون واحلياة ،أو سننا اجتماعية ،أو اترخيية ،فردية أو
مجاعية.
• كما أن من بينات الداللة السننية يف آايت القلة والكثرة ،ما ورد يف تعقيب القرآن
على كثري من اآلايت اليت تتناول وصف تلك السنة ،من مثل قوله ﷻ بعد احلديث عن قوم
ْ َ َ ُ هّ َ ْ ُ َ َ َ
ات اللِ نتلوها َعليْك طالوت وقصة الذين خرجوا من دايرم وهم ألوف حذر املوت﴿:ت ِلك آي
ْ َ ب حْ َ
ال ّ ِق ِإَونَّ َك ل ِم َن ال ُم ْر َسلِني﴾سورة البقرة .252:بلفظ (اآلايت) ،يقول ابن القيم يف زاد املسري( :أي: ِ
كمك حكمهم ،فمن صدقك، ني ُح ِ نقص عليك من أخبار املتقدمني .وإِنَّ َ ِ
ُ ك لَم َن الْ ُم ْر َسل َ َ
فسبيله سبيل من صدقهم ،ومن عصاك ،فسبيله سبيل من عصاهم،((9().وتلك كلها عني
السنن الرابنية يف خصائصها وبياهنا ويف داللتها وتعبريها.
وقد عقب هللا تعاىل هذه السنن الواردة يف قصة األلوف َ واملأل من بين إسرائيل من بعد
َهّ ُ َ ْ لَىَ ُ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ْ هّ
ك َّن الل ذو فض ٍل عت األ ْرض َولـ ِ﴿ول ْوال دف ُع اللِ انلَّاس َبعض ُه ْم ب ِ َبع ٍض لف َسد ِموسى بقوله:
َْ َ
العال ِمني﴾سورة البقرة251:
• التعبري القرآين عن الشخص الذي تدور عليه آية الكثرة أو تعقب عليه ابلوصف ال
ابالسم وال ابلرسم ،مما يعطي مشوال لكل من وصف وصفه ،ونسج على منواله ،وتلك واضحة
َ ُ َ َ َْ َْ َُ ّ َ
جيك ب ِ َب َدن ِك ل َِتكون
يف عدم ذكر اسم فرعون الذي عقب هللا ﷻ على إغراقه بقوله ﴿فاليوم نن ِ
ْ
ل َِم ْن َخل َف َك آيَ ًة ﴾،حىت ميضي وصفه على كل (فرعون) ما بقيت احلياة ،وتلك بعض مالمح
السننية يف القرآن الكرمي ،فهي ال حتدد االسم ،وال الزمان ،وال املكان؛ حىت يفيد الناس من
الوصف ،وال يتوقفوا عند االسم والرسم ،ولكن أكثر الناس غافلون عن هذه العرب ،وتلك
الفوائد اليت تبقى ما بقي اإلنسان ،وتتعاقب ما تعاقب الليل والنهار.
• كثرة التأكيدات يف التعقيب على بعض آايت الكثرة لفتا ألنظار الناس وبياان
لسننية اآلايت الكرمية مما يدعو إىل لفت أنظار الناس إليها وتنبيههم إىل اإلفادة
منها؛ ألهنا تتكرر مع غريه كما حدثت له ،كما يقول صاحب املنار يف بيان أثر
يد لِما �ت ْقتَ ِ
ض ِيه ِش َّدةُ ا لْغَ ْفلَ ِة ِم ْن �قَُّوِة ِ فرعون(:وأ َّ
َك َدهُ َه َذا التَّأْك َ َ َ َ املؤكدات الواردة يف شأن
َّة ظُ ُهو ِرَها �فَلاَ �يَ�تََف َّك ُرو َن فيِ أَسبابهَِا يد و ا لْغَ ْفلَ ِة ع�نها علَى ِشد ِ
َ َْ َ َي إِ�نَُّه ْم لَ َش ِد ُ ِ
ال�تَّْنبِيه ،أ ْ
ِ بهِ ِِ ِِ ِ
ني َك َما يمَُُّرو َن َعلَى َو�نَتَائج َها َوح َك ِم هللا ف َيهاَ ،ولاَ �يَْعتَبرِ ُو َن َاَ ،وإِنمََّا يمَُُّرو َن َعلَ�يَْها ُم ْع ِرض َ
استِبَانَِة ِ ِِ ِِ ِ ِ
َم َسا رِِح األنعامَ ،وفيه َذ مٌّ ل ْلغَ ْفلَةَ ،و َع َدِم ال�تََّف ُّك ِر فيِ أسباب الحََْوادث َو َع َواقبِ َها َو ْ
(((9
اظ بهَِا).هللا فِيها ،لِلاِ ْعتِبا ِر والاِ تِّع ِ
سن ِن ِ
َُ
َ َ َ َ
ثانيا :األصول اجلامعة لسنن اهلل يف الكثرة
بعد رصد اآلايت اليت تناولت الكثرة :مكية ومدنية ،وسواء كانت تلك الكثرة يف األمم،
أو األفراد أو األشياء ودرسها وأتمل دالالهتا ميكن أن نستخلص يف نقاط السنن املاضية
واألصول اجلامعة يف قضية الكثرة على النحو التايل:
•أن الكثرة مشلت يف آايهتا األفراد واألمم.
•أن منها ما يتعلق ابلناس ،ومنها ما يتعلق أبهل الكتاب، ،ويف كل متضي يف سننية
مطردة تزيدها احلياة أتكيدا ،خاصة يف املقدور على معرفته من واقع الناس وأحداث
احلياة.
•أن الكثرة تكون حممودة إذا كانت فيما يفيد كالكثرة يف عدد القبيل واآلل الذين
يستعان هبم يف قضاء املراد ،والتغلب على األعداء.
•أن الكثرة تكون حممودة إذا كان العدد فيها ال يؤثر على النوع ،والكم فيها ال يفسد
الكيف ،بل يدعمه ويقويه.
•أهنا تكون حممودة يف استجالب اخلري ،واحلرص عليه.
•أهنا تكون حممودة يف ابب ذكر هللا ﷻ ،وشكره وتسبيحه.
•وتكون حممودة إذا كانت يف جانب النفع عامة للبالد والعباد ،كالكثرة يف الغيث
املفيد الذي حييي هللا به البالد ويقيت به العباد.
94
الفصل الثاني :الكثرة :مفهومها ,وصفاتها ,وسنن اهلل فيها
تلك بعض األصول اجلامعة اليت ميكن أن تصور لنا سنن هللا ﷻ يف القلة يف ضوء اآلايت
الكرمية ،واليت ميكن أن يفيد منها املسلمون عامة واملعنيون بنهضة األمة خاصة ،وسيبني ذلك
يف صفحات آتية لدى احلديث عن رايدة القلة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة،
وفقه صناعة القلة الرائدة .وهذا ما ستعاجله الصفحات اآلتية بعون هللا وتيسريه.
95
الفصل الثالث:
موقف املسلمني من سنة اهلل
يف القلة والكثرة
بني الوعي والسعي
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
الفصل الثالث
موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
وفيه مبحثان
املبحث األول :رايدة القلة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة وموقف األمة منها
املبحث الثاين :فقه صناعة القلة الرائدة ،يف ضوء هذه السنة وموقف األمة منها.
املبحث األول
ريادة القلة وأثرها يف الشهود احلضاري لألمة املسلمة،
وموقف األمة منها
99
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
والناظر يف أنواع القلة اليت حفل هبا التاريخ البشري قدميا وحديثا جيد أن هلا أثرها البارز
ومهمتها اليت ال تنكر ،فالقلة املؤمنة مع نوح واليت وصفها قومه أبهنم أراذل وأهنم اتبعوه
ابدي الرأي بال تفكر وال وعي ،هي الفئة اليت عمرت األرض وبلغت رسالة هللا ﷻ وحفظ هبم
هللا ﷻ البشرية من الفناء ،وأصحاب الكهف الذين لبثوا يف كهفهم ثالث مئة سنني وازدادوا
تسعا بعدا عن طواغيت األرض وظلمهم وأناي بدعوهتم من أن يستأصلها البغاة الطغاة ،رواد
يف احلفاظ على دينهم ،ويوسف يف أهل مصر فرد واحد لكنه استطاع أن يعرب هبم سين الغالء
والبالء ،وأن يكون ذلك مفتاح إسالمهم له وإمياهنم بدينه ،استطاع أن يقود هذه األمة مبا لديه
من حفظ وأمانة ،وعلم وختصص ،وذو القرنني فرد وهو من القلة لكنه استطاع أن يفيد من
القوم الذين ال يكادون يفقهون قوال ،وكيف آثر أن يشركهم معه يف البناء احلضاري الذي يفوق
بناء السد ،فبناء اإلنسان وداللته على مكامن نفسه وإرشاده إىل قدراته واكتشاف نفسه أمر
ال يقدر بثمن وتبذل فيه املهج والنفوس ،وأهل بدر الذين كانوا مقارنة بعدوهم قلة استطاعوا
أن يفرقوا -إبمياهنم وبذهلم وتضحيتهم -بني احلق والباطل هلم وملن بعدهم حىت مسى هللا ﷻ
يوم لقائهم بعدوهم (يوم الفرقان) ،وكان هلم بعد يف جمتمع النبوة وما بعده شأن أي شأن،
وهكذا كل قلة يف كل زمان ومكان.
الرواد يف كل زمان قلة ،وأن الفاعلني وقد حفلت آايت القرآن الكرمي ابحلديث عن أن َّ
يف جمرى احلياة قلة ،وأن النهضات البشرية واحلضارية واإلصالحية محل لوائها قلة ،وأن الكثرة
ب الليل ،أو هباء كحطْ ِمجع خْ َ َ السيل ،أو غري الفاعلة ال وزن هلا وال قيمة فهي غثاء كغثاء
هَّ َ ُ َ َّ ُ رْ َ ََ َ ْ َ َ خْ َ ُ َ َّ ُْ
تذروه الرايح﴿ ،قل ال يستوِي البِيث و ِ
ول كك َُ ب َول ْو أعجب الط ّي ُ َْ َ
يث فاتقوا الل يا أ يِ ثة الب ِ ِ
َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ َ أْ َ بْ
ون﴾ املائدة( .)100( :وقد جرت عادته ﷻ بكثرة اخلبيث من كل شيء، اب لعلكم تفل ِح الل ِ
ََ ٌ
﴿وقل ِيل م ِْن عِباد َِي وقلة الطيب من كل شيء ،قال ﷻ﴿ :وقل ٌِيل ما ُه ْم﴾،سورة ص، »24«:
ائة ال تكاد تجَِ ُد فيها ر ِ كإبل ِم ٍ ك َُّ ُ
(((
احلةَ» َ ُ ٍ اس
ُ ّ«الن الصحيح: احلديث ويف سبأ»13«: سورة ﴾ ور الش
وقال الشاعر:
ِ
أحداني أفتَ ُحها َعلَى كثري لكن ال أرى َ إنيّ ألفتَ ُح َعينيِ َ ح َ
(((
((( أخرجه البخاري ،ابب رفع األمانة ،401/8 ،ومسلم ابب الناس كإبل مائة.3791/4 ،
((( انظر البيت يف العقد الفريد.251/2:
100
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
101
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
الذي جاء حبثه يف موضوع خاص أال وهو الثبات يف املعركة .إال أن هذه اخلصوصية ليست
حمصورة يف املعركة القتالية ،فمعارك احلياة كثرية ،فمعركة بناء اجملتمع كذلك حتتاج إىل التوازن
نفسه .ونَ ْذ ُر اإلنسان نفسه ،وما وهبه هللا من قوة وعمر يف سبيل فهم مشكالت املسلمني،
يشمل كذلك نفس التوازن ،سواء ذلك يف بناء الفرد واجملتمع.
ومعركة التعامل مع سنن هللا على أساس الوعي ،أمر يشمل الكافرين واملؤمنني ،وأن
الفقه لسنن هللا يعطي النتائج حىت للكافرين ،وملا قال تعاىل «:يغلبوا ألفاً من الذين كفروا »
أعقبه بقوله « أبهنم قوم ال يفقهون » فهذا يدل على تدخل فقه الكافرين أيضاً ،كماً وكيفاً،
والسيما الفقه لسنن احلياة الدنيا كما سنبحثه فيما أييت ،ألن هللا ميد املؤمنني والكافرين:
ّ َ حَ ْ ُ َ اَ َ َ َ ّ َ ْ َ َ
﴿ ك ن ِمد هـؤالء َوهـؤالء مِن عطاء َربك َوما كن عطاء َربك مظ ً َ ُ الُ ًّ ُّ ُّ َ ُ
(((
ورا﴾.سورة اإلسراء - ِ ِ
ملاذا الفئة املؤمنة قليلة
وحتدثت عنها يف ثنااي القرآن الكرمي ،جيد أهنا
ْ رصدتهْ ا،
املتأمل للقلة يف اآلايت اليت َ
قاعدة مطردة ،وسنة حاكمة ،وأن الفئة املؤمنة دائما قلة ،فالذين عربوا النهر مع طالوت قلة،
والذين اتبعوا نوحا يف دعوته قلة ،والذين آووا ونصروا قلة ،وهكذا يف سننية ماضية ،وانموس
ال يتخلف وال يتأجل ( ،فهذه هي القاعدة يف حس الذين يوقنون أهنم مالقوا هللا .القاعدة:
أن تكون الفئة املؤمنة قليلة ألهنا هي اليت ترتقي الدرج الشاق حىت تنتهي إىل مرتبة االصطفاء
واالختيار .ولكنها تكون الغالبة؛ ألهنا تتصل مبصدر القوى؛ وألهنا متثل القوة الغالبة .قوة هللا
(((
الغالب على أمره ،القاهر فوق عباده ،حمطم اجلبارين ،وخمزي الظاملني وقاهر املتكربين)
خطورة عدم وجود القلة العاملة
تروده ،وخنبة سابقة تراتد له مواطن واجملتمع الذي خيلو من قلة تقوده ،وفئة خمتارة ُ
اخلري ،تكون وارده إليها ،وفرطا له لديها ،تدله عليها ،وترشده إليها ،وحتذره من مغبات الشر
والفساد ،وحتذره منها ،جمتمع على خطر عظيم؛ ألن القلة الرائدة يف كل جمتمع مبثابة العقل
الواعي ،والذاكرة الواعبة اليت حتفظ األمة ،وحتفظ هلا ،وتعي أسباب عزها ونصرها ،وعوامل
َ َ اَ اَ َ
الكرمي يف َق جْوله﴿ :فل ْول كنذَّ م َِن
القرآن َ لاً
عنهم اَّ
اليت يعرب أْ َ وهؤالء هم أولو البقية
وفسادهاُ ُ ، ْحتللها
َّ َْ َ
ِك ْم أولو بَقِ َّي ٍة َينْ َه ْو َن َعن الف َسادِ ف ال ْر ِض إل قل ِي م َِّم ْن أنَيْ َنا مِنْ ُه ْم َوات َب َع ال َ
ْ ْ ُ ُُ
ِين ِ يِ ِ ون مِن قبل
القر ِ
َ َ اَ ُ جُ ْ َ َُ َ ُْ ُ
ظلموا ما أت ِرفوا فِيهِ وكنوا م ِرمِني﴾ سورة هود.)116( :
((( حىت يغريوا ما أبنفسهم.43،53:
((( يف ظالل القرآن.962/1 :
102
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
(وهذا النظر إىل املوضوع يبني خطورة أن يبقى يف اجملتمع أعداد ،مهما كانوا قلة ،ال
يتمتعون ابلوعي التام لقضااي اجملتمع .وكذلك ،خطورة عدم وجود العدد الكايف ،أو احلد
األدىن ،من الذين يعون األمور على هذا األساس من النظر .وإدراك ضرر وجود غري الواعني يف
األمة ،يولد لدى اجملتمع شعوراً ابخلطر ،أن يكون املركب الذي يسري ابجملتمع ،حيتوي على
مناذج ال تعرف سنن طفو األجسام على املاء ،فيسعون حبسن نية ،أو سوء نية ،خلرق السفينة،
كما ورد يف احلديث الشريف الصحيح ).
((( (((
((( إشارة إىل حديث السفينة( :مثل القائم على حدود هللا والواقع فيها) ،واحلديث خرجه الباري يف صحيحه من
حديث النعمان بن بشري ،ابب هل يقرع يف القسمة واالستهام فيه.391/3،
((( حىت يغريوا ما أبنفسهم ،جودت سعيد ،ط الثالثة7931 ،هـ7791،م.53،63 :
( ((1تفسري املنار.401/7 :
103
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
104
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
القدرة ،يفعل هللا هبم ما يريد ،وينفذ هبم ما خيتار إبذنه ،ليس هلم من األمر شيء ،وال حول
هلم وال قوة ،ولكن هللا خيتارهم لتنفيذ مشيئته ،فيكون منهم ما يريده إبذنه ،وهي حقيقة خليقة
أبن متأل قلب املؤمن ابلسالم والطمأنينة واليقني ،إنه عبد هللا ،اختاره هللا لدوره ،وهذه منة من
قدر هللا النافذ .مث يكرمه هللا -بعد كرامة
هللا وفضل .وهو يؤدي هذا الدور املختار ،وحيقق َ
االختيار -بفضل الثواب .ولوال فضل هللا ما فعل ،ولوال فضل هللا ما أثيب .مث إنه مستيقن
من نبل الغاية طهارة القصد ونظافة الطريق ،فليس له يف شيء من هذا كله أرب ذايت ،إمنا هو
منفذ ملشيئة هللا اخلرية قائم مبا يريد .استحق هذا كله ابلنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه
(((1
إىل هللا يف خلوص)
ورصد ِ
القرآن الكرمي هلا وإذا تتبعنا القلة ومهمتها يف هنضات األمم عرفنا قيمتها وأثرهاُ ،
دليل صدق ،وبرهان حق على هذا األثر للقلة العاملة ،وواقع الناس ِبفطَ ِرهم السوية وإدراكهم
السليم يعي هذا األمر ويعمل يف ضوئه ،فالعرب ببساطتهم وصفاء فطرهتم يعرفون هذه املعادلة
وكالمهم يف دواوينهم اليت حفظت خصائصهم يف ذلك غين عن التعقيب.
وهذه القلة املختارة والصفوة املنتقاة هي اليت تؤثر وال تتأثر ،وتقود وال تقاد ،و�تُْتبع وال
�تَْتبع ،أما الكثرة الفارغة من كل عطاء ،والقاعدة عن كل مضاء ،فال تقوم هبا حضارة ،وال
تنهض عليها أمة ،وال يؤسس عليها متكني( ،إن الكثرة العددية ليست بشيء ،إمنا هي القلة
العارفة املتصلة الثابتة املتجردة للعقيدة .وإن الكثرة لتكون أحياانً سبباً يف اهلزمية ،ألن بعض
الداخلني فيها ،التائهني يف غمارها ،ممن مل يدركوا حقيقة العقيدة اليت ينساقون يف تيارها ،تتزلزل
أقدامهم وترجتف يف ساعة الشدة فيشيعون االضطراب واهلزمية يف الصفوف ،فوق ما ختدع
الكثرة أصحاهبا فتجعلهم يتهاونون يف توثيق صلتهم ابهلل ،انشغاالً هبذه الكثرة الظاهرة عن
اليقظة لسر النصر يف احلياة .لقد قامت كل عقيدة ابلصفوة املختارة ،ال ابلزبد الذي يذهب
(((1
جفاء ،وال ابهلشيم الذي تذروه الرايح!)
( ((1الظالل.072/1:
( ((1يف ظالل القرآن.)8161 /3( :
105
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
106
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
وحينما تدرك هذه الطالئع تلك العاقبة وتدرك قبلها اتفاق السمات واخلصائص ،وتوافق
املالمح والصفات ،أيتيها شيء من برد اليقنيَ ،ورْو ِح اإلميان وهدوء االطمئنان إىل سالمة
العاقبة ،وحني تدرك أتييد هللا ﷻ للقلة العاملة وتغيري نواميس الكون هلا بسننه اخلارقة ،توقن
من نصر هللا هلا ،ومحايته لبقائها.
تغيري نواميس الكون للقلة املؤمنة
وهذه القلة املؤمنة مرعية بعني هللا ﷻ ويف عنايته؛ إهنا البقية الباقية اليت تسعى لتعبيد
الناس هلل ،وهتيئة الوجود ألرقى حاالت الشهود ،تتحمل ما تتحمل يف سبيل تعريف الناس
برهبم ،وصلتهم به ،وداللتهم عليه ،وهي من أجل ذلك استحقت أن حتظى برعاية هللا ﷻ
وأتييده ،فيغري هلا النواميس وخيضع السنن اجلارية يف حقها للسنن اخلارقة ،فالكل مربوب هلل
رب العاملني ،واملتأمل للقلة مع داوود جيد بوضوح هذا التغيري ،فداود قتل جالوت مبقالع،
بسيط ،والعدد القليل الذي عرب النهر هو الذي هتيأت له األسباب للغلبة على الكثرة املغرورة،
والقلة املؤمنة مع نبينا حممد ﷺ هي اليت تغري هلا وهبا الناموس احلاكم والسنن اجلارية ،فانتصروا
يصلون إىل ثلثي عدد جيش عدوهم ،والقلة املؤمنة مع نوح هي اليت غري يف بدر وغريها وهم ال ِ
هللا ﷻ هلا السنن اجلارية فأرسل هلا الطوفان ،ومحله على ذات ألواح ودسر ،جتري أبعني هللا
ﷻ جزاء ملن كان كفر( ،إن عصر اخلوارق مل ميض! فاخلوارق تتم يف كل حلظة -وفق مشيئة هللا
الطليقة -ولكن هللا يستبدل أبمناط من اخلوارق أمناطاَ أخرى ،تالئم واقع كل فرتة ومقتضياهتا.
تدق بعض اخلوارق على بعض العقول فال تدركها ،ولكن املوصولني ابهلل يرون يد هللا وقد ِ
دائماً ،ويالبسون آاثرها املبدعة .والذين يسلكون السبيل إىل هللا ليس عليهم إال أن يؤدوا
يدعوا األمور هلل يف طمأنينة وثقة .وعندما واجبهم كامالً ،بكل ما يف طاقتهم من جهد ،مث َ
يُغلبون عليهم أن يلجأوا إىل الناصر املعني وأن جيأروا إليه كما جأر عبده الصاحل نوح«:فَ َدعا
ربَّه أيَِن م ْغلُوب ،فَا�نتَ ِ
ص ْر» ،مث ينتظروا فرج هللا القريب .وانتظار الفرج من هللا عبادة فهم على َُ ّ َ ٌ ْ
(((1
هذا االنتظار مأجورون).
107
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
108
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
املبحث الثاني
فقه صناعة القلة الرائدة وموقف األمة منها
إذا أتملنا واقع املسلمني بني املاضي واحلاضر ،وموقفهم من سنة هللا يف القلة والكثرة،
رأينا أن وعي املسلمني هبا وعنايتهم أبثرها ،أو إمهاهلم هلا وعدم اهتمامهم هبا هو الذي شكل
حمور األساس وحجر الزاوية يف فرتات االنتصار أو االنكسار ،فيوم أن وعى املسلمون – على
ضوء مقاصد القرآن ،وفلسفته للقلة والكثرة بل سنته فيها -يوم أن وعوا أثر القلة يف الشهود
احلضاري وقيمة هذا التضام والتجمع على مستوى العلماء واألمراء ،والنخبة الفكرية والعلمية
وعلى مصاف الساسة واحلكام ،والزهاد وأرابب السلوك ،يوم أن عزوا وقدموا للبشرية -فضال
عن اإلسالم أروع صور احلضارة ،وأرقى مناذج اإلنسان عندما يبدع ويبتكر يف ضوء مقوالت
الوحي ومتطلبات السماء ،ويوم أن أغفلوا النظر إىل هذه السنة املاضية وأمهلوا التعامل معها
يوم أن أصبحوا غثاء كغثاء السيل أو هباء تذروه الرايح ،فال وزن يف عامل احلضارة ،وال قيمة
انطبقت يف دنيا األرقام ،وال سبق يف جمال العلم وال رايدة يف جانب االجتماع ،وكانوا هم من
ال َّق َو بْالَاط َِل فَأَماَّ
الل حْ َ
َ َ َ َ رْ ُ ُهّ
َ غريهم﴿.كذل ِك ي ِ
ضب
َ
عليهم السنة يف القلة َ والكثرة كما انطبقت على
َْ ُهّ
ضب الل األمثال﴾ سورة الرعد:
َ َ َ َ رْ ُ ْ ََ ْ ُ ُ
ُ َّ َ َّ َ َ َ
َ َ َُ َ ْ َ ُ َُ
َّ
الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع انلاس فيمكث يِف األر ِض كذل ِك ي ِ
من اآلية. 17:
وإذا سألنا التاريخ عن فرتات الشهود احلضاري لألمة املسلمة أخربان أهنا تلك الفرتات
اليت فهم املسلمون فيها أثر هذه القلة ومهمتها يف الشهود احلضاري وإهناض األمة ،وقد بدا
ذلك يف عصور متتابعة ،فيوم أن تصدر العلماء إلرشاد األمة ونصح األمراء ابلكتاب والسنة،
يوم أن وصلت األمة إىل مرحلة مشهودة من التمكني ،وإذا نظران إىل حمنة ضياع األقصى وكيف
عاد إىل دوحة اإلسالم وحصن املسلمني عرفنا مهمة القلة من العلماء الرواد الذين تعاونوا مع
األمراء احلكماء يف معركة حطني اليت انتصر فيها صالح الدين األيويب ،عام 583هـ ،واليت مل
تكن وليدة تراتيب إدارية وعسكرية فقط ،بل تراتيب تربوية لنفوس اجليش واألمة ،وليس على
مستوى املرحلة الزمنية للمعركة بل على تطاول أجيال متعاقبة يف عهود زنكي ونور الدين مث
صالح الدين ( ،فإن عددا من الدعاة والعلماء قد وقفوا مع هؤالء األبطال الثالثة – زنكي
ونور الدين وصالح الدين - ،وكان على رأس هؤالء املؤرخ هباء الدين أبو احملاسن بن شداد
109
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
(632/539ه) ،والفقيه ضياء الدين عيسى بن حممد اهلكاري (585هـ) ،واملؤرخ املعروف
عبد هللا حممد األصفهاين املعروف ابلعماد الكاتب597( ،ه) الذي كان قلمه كما يصفه
املؤرخون أشد وأنكى على الصليبيني من سيوف اجملاهدين ،إذ به مجع صالح الدين عساكر
املسلمني ،وأبسلوبه البليغ املؤثر ألف بني قلوهبم وحبب االستشهاد إىل نفوسهم)(((.
وعي العلماء وفقههم مبتطلبات احلضارة وإقرار شؤون الدولة ومصاحل العباد ومثَّل َُ
ورعايتهم ،جانبا مهما من عالقتهم ابألمراء ومدى أتثريهم فيهم ومساعهم رأيهم ،فقد أشار
القاضي الفاضل على صالح الدين بعد صلح الرملة (588ه) بتأجيل احلج إىل سنة أخرى
ألسباب عرضها عليه؛ مؤيدا إقناعه بفتوى دينية نصها :أن االنقطاع لكشف مظامل اخللق أهم
(((
من كل ما يتقرب به إىل هللا)
واملطالع حلقب التاريخ املتطاولة يف حياة املسلمني يرى رايدة القلة والتكامل بينها وبني
األمة عن طريق قيادهتا وتبصريها ،مما كان له أبعد األثر يف هنضة األمة فالتكامل بني الساسة
والدعاة يف العصر اململوكي والعثماين كان له أثره البالغ يف حضارة األمة واستقرارها ،كما ال
خيفى على املطالع للتاريخ مدى التكامل بني أمراء املماليك والعلماء يف مقاومة التتار ،وإذا
نظران إىل بالد املغرب وبالد اهلند واستعرضنا مواقف العلماء والقلة الرائدة وأثرها ابألمساء
واألرقام؛ عرفنا مدى أثر الوعي بسنة القلة ورايدهتا يف الشهود احلضاري.
ووجود هذه القلة الرائدة اآلمرة ابملعروف الناهية عن املنكر الداعية إىل صراط هللا
املستقيم ضرورة من ضرورات املنهج اإلهلي ذاته؛ (فهذه اجلماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه
هذا املنهج ويتحقق يف صورته الواقعية ،هو الوسط اخليرّ املتكافل املتعاون على دعوة اخلري،
املعروف فيه هو اخلري والفضيلة واحلق والعدل ،واملنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم،
عمل اخلري فيه أيسر من عمل الشر ،والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة ،واحلق فيه أقوى
من الباطل ،والعدل فيه أنفع من الظلم ،فاعل اخلري فيه جيد على اخلري أعواان ،وصانع الشر
فيه جيد مقاومة وخذالانً .ومن هنا تربز قيمة هذا التجمع ،إنه البيئة اليت ينمو فيها اخلري واحلق
بال كبري جهد ،ألن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه ،واليت ال ينمو فيها الشر والباطل إال
(((
بعسر ومشقة ،ألن كل ما حوله يعارضه ويقاومه)...
((( املسلمون من التبعية والفتنة إىل القيادة والتمكني ،د عبد احلليم عويس،411 ،ط :مكتبة العبيكان ،ط أوىل
7241هـ 6002 ،م.
((( السابق ،نقال عن :املؤرخني املعاصرين لصالح الدين األيويب ،لنظري حسان سعداوي.23 ،13 :
((( يف ظالل القرآن.544 ،444/1 :
110
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
وميكن أن نرصد بعض اخلطوات العملية اليت من شأهنا أن تساعد يف صناعة القلة الرائدة
على النحو التايل:
-1إدراك أمهية هذه القلة الرائدة ،والقناعة العملية وليست الفكرية أو النظرية
مبدى حاجة األمة إىل رايدة حقيقية إن مل تكن على املستوى الرمسي من احلكومات والدول
ابهلم اإلسالمي العام ،واملنشغلني به؛ فقد
فلتكن على مستوى أصحاب الرأي والفكر واملعنيني ّ
ثبت عمليا أن غياب الوعي وعدم اإلدراك احلقيقي ملدى خطورة فراغ األمة من قلة رائدة أثّر
أتثريا مروعا يف عدم بروز هذه القلة ،وعدم العناية هبا إذا برزت ،وبدا ذلك بصورة ملحوظة
الفتة يف عدم تفرغ كفاايت علمية حلمل ما خلقت من أجله من وعي يكون أساسا للسعي،
ومن مث توعية األمة برسالتها ومهمتها حسب طبيعة كل مرحلة من املراحل اليت متر هبا واملكان
الذي تشغله ،فما يصلح يف وقت قد ال يصلح يف وقت آخر ،وما ينفع يف زمان قد ال ينفع
يف زمان آخر وما يفيد قوما قد ال يَِفيد منه آخرون ،وقد حوت الشريعة اإلسالمية من عوامل
السعة واملرونة ما أثبت لدى البعيد قبل القريب صالحيتها لكل زمان ومكان.
وهذه القناعة العملية احلقيقية ليست ابألمر السهل اليسري بل حتتاج إىل توطني النفس
واكتشاف نقطة البداية؛ ألن معرفة مدى حاجة األمة إىل قلة رائدة هلا أثر تربوي وفكري
وعلمي يستطيع أن يؤثر وال يتأثر وجيذب وال ينجذب أمر هام ومؤثر ،واكتشاف نقطة
البداية هذه له ما بعده من تكاليف ومشاق( ،ولعل أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ
أننا جنهل النقطة اليت منها نبدأ اترخينا ،ولعل أكرب أخطاء القادة أهنم يُسقطون من حساهبم
هذه املالحظة االجتماعية ،ومن هنا تبدأ الكارثة ،وخيرج قطاران عن طريقه حيث يسري خبط
(((
عشواء ،وال عجب فإن كوارث التاريخ اليت حتيد ابلشعب عن طريقه ليست بشاذة)
111
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
-2إعداد قيادات املستقبل ،يف ضوء النظرة االستشرافية العامة اليت تنوران هبا
قضية السنن بصفة خاصة؛ فإن أوجب الواجبات لدارس السنن أن يَفيد منها ،ويَفيد من
تيارها وال يصادمها ،خاصة أن من خصائصها عدم التبدل أو التغري ،فإذا وعينا ثباهتا واطرادها
فلنَفد منها على ضوء خصائصها ومساهتا ،وقد ثبت ُسننيّا من خالل عرض هذه السنة يف القلة
والكثرة :أن الرايدة لكل أمر ال تكون لعامة الناس وال جلمهور البشر بل لفئة هلا من الوعي
ما يعينها على إحسان السعي ،وهلا من العلم ما ييسر هلا إتقان العمل ،وقد سبقنا الغرب
يف هذه الدراسات االستشرافية واملستقبلية بصورة جعلته يَفيد من السنن وإن مل يُسندها إىل
رهبا وجمريها ،لكن على عادة السنن أهنا تعطي من حيسن التعامل معها دون تفريق بني مسلم
وكافر ،وتلك من خصائص السنن اليت ال تتخلف ،فرأينا الدراسات الرقمية واإلحصائية اليت
متهد الختاذ القرار الصحيح ،وكثري من أعمالنا ارجتايل حلظي ،ال ميهد له بدراسة وال يبىن على
معرفة متينة ومعلومة قوية ،وهذا ما جعل أعمالنا ختضع إىل حد كبري ملفاجئات القدر ،مع
أننا أوىل الناس ابلوعي ابلسنن فكل شيء يف ديننا (حبسبان)،وبـ (تقدير العزيز العليم) عبادةً
ومعاملةً ،وفرائض وسننا ،وهناك تالزميات بني الفرائض والسنن ومواقعها يف خريطة العمل
اإلسالمي.
والناظر يف منهجية القرآن الكرمي جيد أنه عين ابلنظرة املستقبلية حىت يف العهد املكي الذي
بدا فيه للناظر املتأمل معاانة املسلمني فيه ،لكن القرآن الذي هوكلمة هللا اخلامتة للبشرية يهيئ األمة
املسلمة لتكون رائدة ميدان وفارسة مضمار ،فهو منذ البداية (يوجه أنظار املسلمني إىل الغد املأمول،
واملستقبل املرجتى ،ويبني هلم أن الفلك يتحرك ،والعامل يتغري ،واألحوال تتحول ،فاملهزوم قد ينتصر،
واملنتصر قد يهزم ،والضعيف قد يقوى ،والدوائر تدور ،سواء أكان ذلك على املستوى احمللي أم
العاملي ،وعلى املسلمني أن يهيئوا ويرتبوا بيتهم ملا يتمخض عنه الغد القريب أو البعيد)(((.
واملتأمل لسورة القمر مثالً ورصدها املركز لغزوة بدر جيد مدى عناية القرآن الكرمي ابلنظرة
﴿س ُي ْه َز ُم الْ َ
ج ْم ُع َ املستقبلية ،وإرشادها املسلمني ملا سيكون بعد سنني ،فما ابن معىن قوله ﷻ:
َ ُ َ ُّ َ ُّ
الدبُر﴾ (سورة القمر )45:لعمر بن اخلطاب وقت نزوهلا وما فهمها إال يوم بدر حني رأى ويولون
(((
رسول هللا ﷺ ،يثب يف الدرع ويتلوها،
((( أولوايت احلركة اإلسالمية يف املرحلة القادمة ،د.يوسف القرضاوي، 411 ،
((( لباب النقول.99/1:
112
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
ُ َ ْ ىَ أْ َ ُ
الر وم 2يِف أ د ن ال ْر ِض َوه ْم ت ُّ املتأمل لصدر سورة الروم يف قوله ﷻ﴿:الم أْ َ 1غل َِب ِ و
ني للِهَّ ِ ال ْم ُر م ِْن َقبْ ُل َوم ِْن َب ْع ُد َو َي ْو َمئذ َي ْف َر حُضعِ ِسن َ ْ ْ َْ ََ ْ َ َْ ُ َ
اللُهَّ
ٍ
َ ْ َ هَّ اَ خُ ْ ِ ُ ُ َّ ُ َ مِن بع ِد غلب ِ ِهم َس رْيغل ِب هَّون َ ْ 3رُ ُ يِف َ ب ِ ْ َ َ ُ ِ َ ُ َ ْ
ص اللِ ين اَص من يشاء وهو العزِ يز الرحِيم حْ 5وعد اللِ ل يل ِف المؤمنون َ 4بِن ْ رَ ِ
ادل نْ َيا َو ُه ْم َعن آْالَخِرة َِ ون َظا ه ًِرا م َِن َ
ال َيا ة ِ ُّ َ َُْ َ
م ل ع ي 6
َ َُْ َ
ون م ل ع ي ل ِ
اس َّ انل ك َّن أ ك َ
ث ِ
َ ْ َ ُ ََ
وعد ه و ل
ِ
ُ ْ اَ ُ َ
هم غ ف ِلون ﴾7سورة الروم7/1:؛ جيد مدى حرص القرآن الكرمي على توعية املسلمني مبا يدور
حوهلم من أحداث ،يرتتب عليها كثري مما خيصهم ،ويظهر منها أمران(:األول :مدى وعي
اجملموعة املسلمة -على قلتها وضعفها املادي -أبحداث العامل الكربى ،وصراع العمالقة من
حوهلا ،وأثره عليها إجيااب وسلبا .الثاين :تسجيل القرآن هلذه األحداث ،وتوجيه النظر إىل
(((
عوامل التغري ،واالنتقال من الواقع إىل املتوقع يف ضوء السنن).
-3إعداد حماضن علمية خاصة بتكوين القادة ،على مستوى العلوم الشرعية
واالجتماعية والسياسية ،وتشرف عليها هيئة عاملية ،تستقل ماليا وإداراي عن رعاية دولة
بعينها؛ حىت تكون حرة اإلرادة ،قادرة على االستقالل العلمي والعملي ،كما يفاد يف ذلك من
اخلربات العلمية العاملية اليت متأل أصقاع العامل اإلسالمي وتوضع برامج تربوية وعلمية وعملية
تؤهلهم للقيام ابملهمة املنوطة هبم يف قيادة األمة وإرشادها ،واألمة غنية بفضل هللا ﷻ ابلعقول
اليت حتتاج من يفيد منها والطاقات املؤهلة للقيام هبذه املهمة.
-4اإلفادة من احملاضن العلمية القائمة كل يف جمال ختصصه لتكون رافدا من الروافد
املهمة يف تزويد اجملتمع مبا يتطلبه من رموز علمية وقيادية تتحمل املهمة أو جزءا منها.
-5تفعيل دور العلم الكربى كاألزهر والزيتونة والقرويني واألموي واجلامعة اإلسالمية
ودار العلوم ابهلند وغريها ،لتقوم مبهمتها الرمسية واخلروج هبا من حالة اجلمود واهلمود إىل حالة
الوعي احلقيقي والسعي اجلاد إلخراج األمة من وهدهتا والسري هبا قدما إىل مصاف الرايدة
احلضارية.
-6تفعيل الوقف اإلسالمي ورصد قدر مناسب منه ملثل هذا البناء البشري املتني،
فال أوىل به منه ،وال أحوج إىل الوقف من هذا املشروع الذي يبين أمة ،وميهد جليل تتبعه
أجيال ،ودعوة أهل الفضل إىل املشاركة يف هذا اهلم العام الذي له ما بعده من تبصري األمة
برسالتها وحتميلها مبهمتها.
((( أولوايت احلركة اإلسالمية يف املرحلة القادمة511 :
113
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
-7توظيف القدر املتاح من اإلعالم املسلم خلدمة هذا املشروع الرايدي ،ميهد له
ويعلن عنه ،ويغري الناس مبا له من أثر وفضل ،ويساعد يف توعية األمة خبطورة خلوها من هذه
القلة الرائدة ،وتوعية هذه القلة مبهمتها عرب وسائله اجلاذبة واملؤثرة ،واليت أثبتت جتربة األايم أن
أثره ال ينكر بل ال يقاوم يف اخلري والشر ،وهذا ما عرب عنه "الطيب برغوث" يف دراسته املتميزة
عن سنن الصريورة واالستخالف يف ضوء التدافع والتجدد احلضاري يف حديثه عن خصائص
ومقومات التجدد احلضاري بقوله( :الشرط الثاين يف الفعل التجديدي وهو وصل احلاضر
ابلعصر ،خاصة إذا كانت األمة يف وضع املستضعف أو املتطلع إىل االنعتاق من التخلف
والتبعية واالستضعاف ،حيث يتحتم عليها التواصل البصري مع ثقافة العصر وحضارته؛ استفادة
من معطياته وخرباته ،وفهما الجتاهاته وجماالت وآليات الصراع فيه ،وارتقاء إىل مستوى التفاعل
(((
الواعي معه أو الفعل اإلجيايب فيه كلما أمكن ذلك).
-8استكتاب العقول الرائدة وأصحاب التجارب واخلربات الناجحة يف هذا
امليدان من تربويني وشرعيني واجتماعيني وإصالحيني وكل من له ُشغل ّ
ابهلم اإلسالمي العام
ليقدم تصوره يف جماله ،ونتاج خربته موثقا ،ويف األمة من اخلربات املتناثرة والعقول املهاجرة ما
يكفي ويغين إذا صحت العزمية وسلمت النوااي ويسرت السبل وهذا عينه ما تنبه له شيخنا
الشيخ الصادق عرجون يف كتابه النافع واملاتع (سنن هللا يف اجملتمع من خالل القرآن الكرمي)،
حني تسائل -بعد رحلة علمية قوية مؤصلة -عن املخرج ملا فيه املسلمون اليوم وقد وضح
الصبح لذي عينني ،وابن النهار لذي ابصرين ،وخلص إىل وجوب أن تكون هناك (دراسة
حتليلية تصف الداء يف لطف ال يزعج املريض ،وتضع أمامه الدواء ،وذلك يف خطة إجيابية
يسجلها العلماء ورواد اإلصالح اإلسالمي مكتوبة يف هدوء احلق ،ترفع إىل املسئولني عن
التنفيذ يف مجيع األوطان اإلسالمية تذاع يف رفق بني سائر املسلمني ليفهموا دائهم ودوائهم،
وعلى العلماء يف صورة مجاعية حيققها موسم احلج -وهو املؤمتر الذي أمر هللا بعقده -أن
يتابعوا السعي وراء هذه اخلطة ليتعرفوا العقبات اليت تقف دون تطبيقها عمليا ،واملشاكل اليت
تعرتضها ،ليشاركوا يف حلها حالّ ال يهدم بناء دون أن يقيم على أرضه بناء يقوم مقامه وعلى
أسس من القرآن الكرمي العظيم ،وجيب أن تكون احللول يف مستوى واقع األمة اإلسالمية ،فال
(((
حتلق يف مساء اخليال وتنسى أزمات األمة)
((( مدخل إىل سنن الصريورة االستخالفية على ضوء نظرية التدافع والتجديد احلضاري.281،381 ،
((( -سنن هللا يف اجملتمع ،الدار السعودية للنشر والتوزيع ،ط الثالثة4891 /4041،م ،حديث األستاذ أيب احلسن
الندوي عن قيادة اإلسالم للعامل ،فصل هنضة العامل اإلسالمي ،من كتابه الراقي :ماذا خسر العامل ابحنطاط املسلمني،
114
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
وقد قدم الشيخ رمحه هللا هذه الدراسة السننية الراقية وهذا االقرتاح إىل رابطة العامل
اإلسالمي وما زال أمله وأملنا معقودا -بعد هللا -يف الرابطة وكل رابطة تتقدم حلمل العبء
وترود الناس إىل مكان الصدارة والقيادة.
-8استدعاء تراثنا احلي ليعيش معنا هذه الدورة احلضارية اليت تكتب من جديد
حسب التغري السنين يف الكون واحلياة ،وحسب قانون التداول احلضاري الذي رصده القرآن
الكرمي وعين بتأكيده ،ونرتشف منه جتارب القرون املاضية اليت ثبت على مدار التاريخ رايدهتا
وقيادهتا لنهضات ظلت قروان مشاعل نور ومنارات هدى يفيء إليها الناس من شرق وغرب.
(وال خيفى أن أي خلل يف عالقة احلاضر ابلرتاث احلضاري لألمة ،سيجعل حركة التجديد
متتد يف فراغ ،وستجد نفسها بعد فتور محاسة البداية ،وكأهنا تتحرك يف مكاهنا ،إن مل تتقهقر
إىل الوراء؛ ألهنا ال جتد السند الفكري والنفسي واالجتماعي الذي مينحها مربرات االستمرارية،
ويضمن هلا حيوية التجدد واالندفاع ،ويقيها خماطر التذبذب والتأرجح بني التيارات الفكرية
والكتل احلضارية املتدافعة ،الذي قد يفقدها هويتا وميسخها خلقا اجتماعيا آخر! ،ويكفي يف
هذا السياق استحضار مسار ومآالت جتربة النهضة احلديثة يف العامل اإلسالمي ،وعجزها عن
حل معادلة التواصل األصيل مع الذات ،وما جنم عن ذلك من ازدواجية وتذبذب واهتالك وهدر
لإلمكاانت واإلرادات احلضارية لألمة ،ومضاعفة هلمومها ،ومباعدة بينها وبني طموحاهتا..
للتأكد فعال كيف مسخت هذه النهضة مسخا ،وأفرغت من حمتواها احلضاري األصيل! ومن
هنا فإن الشرط األساس األول يف الفعل التجديدي ،هو وصل احلاضر ابملاضي وصال واعيا ،عن
طريق استيعاب ثوابت اخلربة الذاتية لألمة ،ومتثل روحها واستصحاهبا إىل احلاضر ،وإدماجها يف
(((1
العصر ابستمرار)
ص . 772/ 852
( -((1مدخل على سنن الصريورة االستخالفية على ضوء نظرية التدافع والتجديد ،الطيب برغوث،281 ،181 ،
حنو حركة إسالمية عاملية واحدة ،فتحي يكن،ط :مؤسسة الرسالة ،الطبعة اخلامسة 7041 ،ه7891 /م،ص 44وما
بعدها.
115
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
116
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
(((1
إذا مل يكن فوق الكرام كرام وما تنفع اخليل الكرام وال القنا
واملتأمل للقلة الرائدة اليت رابها رسول هللا ﷺ ،جيد اهتمامه ابإلنسان قبل أي شيء آخر،
فانتصر هبم حني أخرجهم من بداة جفاة إىل رادة وقادة ،يعلمون الدنيا معىن احلضارة واملدنية ،ويبعثون
يف نفوسهم معىن العزة والكرامة ،وما موقف ربعي بن عامر وحديثه عنا ببعيد.فهذا هو مؤشر النصر
احلقيقي يف تكوين القادة الرادة الذين يقولون يف حزم ،ويعملون يف عزم شأن اجليل القرآين الفريد
الذي رابه الرسول ﷺ ،هبذه املنهجية القرآنية ،وكان مؤشرا من مؤشرات انتصاره ،فلقد انتصر ﷺ
(يوم أن صنع أصحابه صورا حية من إميانه ،أتكل الطعام ومتشي يف األسواق ،يوم صاغ من كل
فرد منوذجا جمسما لإلسالم ،يراه الناس فريون اإلسالم .إن النصوص وحدها ال تصنع شيئا ،وإن
املصحف وحده ال يعمل حىت يكون رجال ،وإن املبادئ وحدها ال تعيش إال أن تكون سلوكا ،ومن
مث جعل حممد ﷺ هدفه األول أن يصنع رجاالً ال أن يلقي مواعظ ،وأن يصوغ ضمائر ال أن يدبج
خطبا ،وأن يبين أمة ال أن يقيم فلسفة ،أما الفكرة ذاهتا فقد تكفل هبا القرآن الكرمي ،وكان عمل حممد
أن حيول الفكرة اجملردة إىل رجال تلمسهم األيدي وتراهم العيون...ولقد انتصر حممد بن عبد هللا يوم
صاغ من فكرة اإلسالم شخوصاً ،وحول إمياهنم ابإلسالم عمالً ،وطبع من املصحف عشرات من
النسخ مث مئات وألوفا ،ولكنه مل يطبعها ابملداد على صحائف الورق ،إمنا طبعها ابلنور على صحائف
من القلوب ،وأطلقها تتعامل مع الناس وأتخذ منهم وتعطي ،وتقول ابلفعل والعمل ما هو اإلسالم
(((1
الذي جاء به حممد بن عبد هللا من عند هللا).
وهذا ما يصرخ به عالمة اهلند األستاذ أبو احلسن الندوي يف كتابه املاتع (ماذا خسر
العامل ابحنطاط املسلمني) ،بعد ما شخص الداء ووصفه وصف الطبيب املاهر كأنه حييا بني
ظهراين العرب غدوا ورواحا ،فاملهم لديه بل(املهم األهم لقادة العامل اإلسالمي ومجعياته وهيئاته
الدينية وللدول اإلسالمية غرس اإلميان يف قلوب املسلمني ،وإشعال العاطفة الدينية ،ونشر
الدعوة إىل هللا ورسوله ،واإلميان ابآلخرة على منهاج الدعوة اإلسالمية األوىل ،ال تدخر يف ذلك
وسعا ،وتستخدم لذلك مجيع الوسائل القدمية واحلديثة ،وطرق النشر والتعليم ،كتجوال الدعاة يف
القرى واملدن ،وتنظيم اخلطب والدروس ،ونشر الكتب واملقاالت ،ومدارسة كتب السرية ،وأخبار
الصحابة ،وكتب املغازي والفتوح اإلسالمية ،وأخبار أبطال اإلسالم وشهدائه ،ومذاكرة أبواب
اجلهاد ،وفضائل الشهداء)(.((1
( -((1انظر ديوانه ص113:
( ((1دراسات إسالمية ،لألستاذ سيد قطب ،ط:دار الشروق 3931،هـ 3791 /م ،ص ،82 /62ابختصار.
( ((1ماذا خسر العامل ابحنطاط املسلمني ،أليب احلسن الندوي ،ط :دار املعارف ،ط السابعة8041 ،ه 8891 /م،
117
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
118
الفصل الثالث :موقف املسلمني من سنة اهلل يف القلة والكثرة بني الوعي والسعي
-11وال يفوتنا هنا أن نغري القائمني بصناعة القلة إبدامة النظر يف اتريخ املصلحني
اجملددين ،كاألفغاين وحممد عبده ،وحممد بن عبد الوهاب ورشيد رضا ،والسنوسي ،اإلدريسي
والبشري اإلبراهيمي ،وابن ابديس ،وبديع الزمان النورسي ،وأورانك ذيب ،وأمحد السرهندي،
والبنا ،واملودودي ،والندوي ،وغريهم مما يزخر هبم اترخينا احلديث واملعاصر ،وهللا وحد بيده
مقاليد األمور ،وإليه يرجع األمر كله.
- 12أما عن املنهج واحملتوى ،فهو واضح وضوح الشمس نِّ ٌ
بي بيا َن الدليل الساطع،
والربهان القاطع ،هو نفس املنهج الذي اختاره هللا للبشرية ،كلها ،منهج جيمع بني متطلبات
العصر وضرورات الواقع ،املنهج املتكامل الشامل لكل جنبات احلياة ،فال يتضخم فيه شيء
على حساب آخر ،وال يضمر فيه معىن حتيفا أو انتقاصا( ،وهو نفس املنهج الذي أخرج من
متاهات اجلاهلية خري أمة أخرجت للناس ،والذي ميلك أن خيرج يف كل زمان ومكان اجليل
(((1
القائم على احلق ،اجملاهد من أجله ،الذي ال يضره من خالفه حىت أييت أمر هللا)
- 13االنتقال من طور الكالم والتنظري إىل طور العمل والبناء
فقد ثبت واقعا ،أن ميدان الكالم غري ميدان العمل وميدان العمل غري ميدان العمل املنتج
البناء ،وسيظل الناس وقوفا حىت يقرنوا بني الكالم والعمل(،إن أصحاب األقالم يستطيعون
أن يصنعوا شيئا كثريا ،ولكن بشرط واحد :أن ميوتوا هم لتعيش أفكارهم ،أن يطعموا أفكارهم
من حلومهم ودمائهم ،فِداء لكلمة احلق ،أن يقولوا ما يعتقدون أنه احلق ،إن أفكاران وكلماتنا
تظل جثثا هامدة ،حىت إذا متنا يف سبيلها أو غذيناها ابلدماء ،انتفضت حية ،وعاشت بني
األحياء...والكلمة ذاهتا -مهما تكن خملصة وخالقة -فإهنا ال تستطيع أن تفعل شيئا ،قبل أن
تستحيل حركة ،وأن تتقمص إنساان ،الناس هم الكلمات احلية اليت تؤدي معانيها أبلغ أداء،
إن الفارق األساسي بني العقائد والفلسفات ،أن العقيدة كلمة حية تعمل يف كيان إنسان،
ويعمل على حتقيقها إنسان ،أما الفلسفة فهي كلمة ميتة ،جمردة من اللحم والدم ،تعيش يف
(((1
ذهن ،وتبقى ابردة ساكنة هناك)
وهذا هو السبيل الوحيد الذي ينقل الكالم من ميدان الرتف العلمي والسرف الثقايف
إىل ميدان اإلنتاج الفاعل البناء ،ومن ميدان القول إىل ميدان التطبيق العملي الذي أيخذ بيد
البشرية إىل مراقي الصعود والكمال البشري.
(فإذا أراد العامل اإلسالمي أن يستأنف حياته ،ويتحرر من رق غريه ،وإذا كان يطمح
( ((1حنو حركة إسالمية عاملية ،فتحي يكن ،ط:مؤسسة الرسالة ،ط اخلامسة7041،ه 7891/م ،ص.23 :
( ((1دراسات إسالمية 041 ،931 :ابختصار.
119
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
إىل القيادة ،فالبد إذن من االستقالل التعليمي ،بل البد من الزعامة العلمية ،وما هي ابألمر
اهلني؛ إهنا حتتاج إىل تفكري عميق ،وحركة تدوين وأتليف واسعة ،وخربة إىل درجة التحقيق
والنقد بعلوم العصر ،مع التشبع بروح اإلسالم ،واإلميان الراسخ أبصوله وتعاليمه ،إهنا ملهمة
تنوء ابلعصبة أويل القوة ،إمنا هي من شأن احلكومات اإلسالمية ،فتنظم لذلك مجعيات ،وختتار
هلا أساتذة ابرعني يف كل فن ،فيضعون منهاجا تعليميا ،جيمع بني حمكمات الكتاب والسنة،
وحقائق الدين اليت ال تتبدل وبني العلوم العصرية النافعة والتجربة واالختيار ،ويدونون العلوم
العصرية للشباب اإلسالمي على أساس اإلسالم وبروح اإلسالم ،وفيها كل ما حيتاج إليه النشء
اجلديد ،مما ينظمون به حياهتم ،وحيافظون به على كياهنم ،ويستغنون به عن الغرب ،ويستعدون
به للحرب ،ويستخرجون به كنوز أرضهم ،وينتفعون خبريات بالدهم ،وينظمون مالية البالد
اإلسالمية ،ويديرون حكوماته على تعاليم اإلسالم ،حبيث يظهر فضل النظام اإلسالمي يف
إدارة البالد وتنظيم الشئون املالية على النظم األوربية ،وتنحل مشاكل اقتصادية عجزت أوراب
عن حلها ،وابالستعداد الروحي ،واالستعداد الصناعي واحلريب واالستقالل التعليمي ينهض
العامل اإلسالمي ،ويؤدي رسالته ،وينقذ العامل من االهنيار الذي يهدده ،فليست القيادة ابهلزل،
إمنا هي جد اجلد ،فتحتاج إىل جد واجتهاد ،وكفاح وجهاد ،واستعداد أي استعداد
(((1
كل امرئ جيري إىل يوم اهلياج مبا استعدا)
إننا أمة متلك من مقومات البقاء والنماء ما ال يتوفر لغريها من األمم ،فقط حنتاج أن
ندرك رسالتنا ونعرف غايتنا ،ومنضي بعزم إىل هدفنا بعد وضوح الغاية واستبانة الطريق ،وقد
رصد هللا ﷻ ألمتنا من عوامل البقاء والنماء ما ميدها مبصادر القوة ومينحها دميومة احلياة؛
ألهنا األمة اخلامتة ،صاحبة الرسالة األخرية ،واحلضارة العاملية ،واملنهج الوسط الذي جيمع بني
مقوالت الدين ومتطلبات احلياة.
120
اخلامتة
اخلامتة
123
املصادر واملراجع
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
126
املراجع
الفريوزآابدى (املتوىف817 :هـ)،احملقق :حممد علي النجار ،الناشر :اجمللس األعلى للشئون اإلسالمية
-جلنة إحياء الرتاث اإلسالمي ،القاهرة.،
1212التحرير والتنوير «حترير املعىن السديد وتنوير العقل اجلديد من تفسري الكتاب اجمليد»:
حممد الطاهر بن حممد بن حممد الطاهر بن عاشور التونسي (املتوىف 1393هـ)،الناشر :الدار
التونسية للنشر– تونس ،سنة النشر 1984 :هـ
1313تفسري ابن فورك من أول سورة املؤمنون -آخر سورة السجدة :حممد بن احلسن بن فورك
األنصاري األصبهاين ،أبو بكر (املتوىف406 :هـ)،دراسة وحتقيق :جمموعة من الباحثني ،الناشر:
جامعة أم القرى -اململكة العربية السعودية ،الطبعة األوىل 2009 - 1430 :م.
1414تفسري أيب السعود = إرشاد العقل السليم إىل مزااي الكتاب الكرمي :أبو السعود العمادي حممد
بن حممد بن مصطفى (املتوىف982 :هـ)،الناشر :دار إحياء الرتاث العريب – بريوت
1515التفسري احلديث [مرتب حسب ترتيب النزول] :حممد عزت دروزة :الناشر :دار إحياء الكتب
العربية – القاهرة ،الطبعة 1383 :هـ.
1616تفسري الشعراوي – اخلواطر :حممد متويل الشعراوي (املتوىف1418 :هـ)،الناشر :مطابع
أخبار اليوم( ،ليس على الكتاب األصل -املطبوع -أي بياانت عن رقم الطبعة أو غريه ،غري
أن رقم اإليداع يوضح أنه نشر عام 1997م)
1717تفسري القرآن العزيز :أبو عبد هللا حممد بن عبد هللا بن عيسى بن حممد املري ،اإللبريي
املعروف اببن أيب َزَمنِني املالكي (املتوىف399 :هـ)،احملقق :أبو عبد هللا حسني بن عكاشة
-حممد بن مصطفى الكنز ،الناشر :الفاروق احلديثة -مصر /القاهرة ،الطبعة :األوىل،
1423هـ 2002 -م
1818تفسري القرآن العظيم البن أيب حامت :أبو حممد عبد الرمحن بن حممد بن إدريس بن املنذر
التميمي ،احلنظلي ،الرازي ابن أيب حامت (املتوىف327 :هـ) ،أسعد حممد الطيب ،الناشر:
مكتبة نزار مصطفى الباز -اململكة العربية السعودية ،الطبعة :الثالثة 1419 -هـ
1919تفسري القرآن العظيم :أبو الفداء إمساعيل بن عمر بن كثري القرشي البصري مث الدمشقي
(املتوىف774 :هـ)،احملقق :سامي بن حممد سالمة ،الناشر :دار طيبة للنشر والتوزيع ،الطبعة:
الثانية 1420هـ 1999 -م.
2020تفسري القرآن :أبو املظفر ،منصور بن حممد بن عبد اجلبار ابن أمحد املروزى السمعاين
التميمي احلنفي مث الشافعي (املتوىف489 :هـ)،احملقق :ايسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن
غنيم ،الناشر :دار الوطن ،الرايض – السعودية ،الطبعة :األوىل1418 ،هـ1997 -م
2121تفسري املاوردي = النكت والعيون :أبو احلسن علي بن حممد بن حممد بن حبيب البصري
البغدادي ،الشهري ابملاوردي (املتوىف450 :هـ)،احملقق :السيد ابن عبد املقصود بن عبد الرحيم،
الناشر :دار الكتب العلمية -بريوت /لبنان.
127
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
2222تفسري املراغي :أمحد بن مصطفى املراغي (املتوىف1371 :هـ)،الناشر :شركة مكتبة ومطبعة
مصطفى الباىب احلليب وأوالده مبصر ،الطبعة :األوىل 1365 ،هـ 1946 -م
2323التفسري املظهري :املظهري ،حممد ثناء هللا ،احملقق :غالم نيب التونسي ،الناشر :مكتبة
الرشدية ،الباكستان ،الطبعة 1412 :هـ.
2424تفسري جماهد :أبو احلجاج جماهد بن جرب التابعي املكي القرشي املخزومي (املتوىف:
104هـ)،احملقق :الدكتور حممد عبد السالم أبو النيل ،الناشر :دار الفكر اإلسالمي احلديثة،
مصر ،الطبعة :األوىل 1410 ،هـ 1989 -م
2525تفسري مقاتل بن سليمان :أبو احلسن مقاتل بن سليمان بن بشري األزدي البلخى (املتوىف:
150هـ)،احملقق :عبد هللا حممود شحاته ،الناشر :دار إحياء الرتاث – بريوت ،الطبعة :األوىل
1423 -هـ.
2626هتذيب اللغة ،املؤلف :حممد بن أمحد بن األزهري اهلروي ،أبو منصور (املتوىف370 :هـ)،احملقق:
حممد عوض مرعب ،الناشر :دار إحياء الرتاث العريب – بريوت ،الطبعة :األوىل2001 ،م
2727تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنان :عبد الرمحن بن انصر بن عبد هللا السعدي
(املتوىف1376 :هـ)،احملقق :عبد الرمحن بن معال اللوحيق ،الناشر :مؤسسة الرسالة ،الطبعة :األوىل
1420هـ 2000-م.
2828جامع البيان يف أتويل القرآن :حممد بن جرير بن يزيد بن كثري بن غالب اآلملي ،أبو جعفر
الطربي (املتوىف310 :هـ)،احملقق :أمحد حممد شاكر ،الناشر :مؤسسة الرسالة ،الطبعة :األوىل،
1420هـ 2000 -م
2929صحيح البخاري ،املؤلف :حممد بن إمساعيل أبو عبدهللا البخاري اجلعفي ،احملقق :حممد زهري بن انصر الناصر ،الناشر:
دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية إبضافة ترقيم حممد فؤاد عبد الباقي)،الطبعة :األوىل،
1422هـ
3030اجلامع ألحكام القرآن ،تفسري القرطيب :أبو عبد هللا حممد بن أمحد بن أيب بكر بن فرح
األنصاري اخلزرجي مشس الدين القرطيب (املتوىف 671 :هـ)،ت حقيق :أمحد الربدوين إبراهيم
أطفيش ،الناشر :دار الكتب املصرية – القاهرة ،الطبعة :الثانية 1384 ،هـ 1964 -م،
3131مجهرة األمثال :أبو هالل احلسن بن عبد هللا بن سهل بن سعيد بن حيىي بن مهران العسكري
(املتوىف :حنو 395هـ)،الناشر :دار الفكر – بريوت
3232حىت يغريوا ما أبنفسهم ،جودت سعيد ،ط الثالثة1397 ،هـ1977،م.
3333خزانة األدب ولب لباب لسان العرب :عبد القادر بن عمر البغدادي (املتوىف:
1093هـ)،حتقيق وشرح :عبد السالم حممد هارون ،الناشر :مكتبة اخلاجني ،القاهرة ،الطبعة:
الرابعة 1418 ،هـ 1997 -م.
3434دراسات إسالمية ،لألستاذ سيد قطب ،ط :دار الشروق 1393 ،هـ 1973 /م .
128
املراجع
3535الدر املنثور :عبد الرمحن بن أيب بكر ،جالل الدين السيوطي (املتوىف911 :هـ)،الناشر :دار
الفكر – بريوت.
3636ديوان املتنيب ط :دار الزهراء ،بريوت لبنان،عناية د عبد الوهاب عزام
3737روح البيان :إمساعيل حقي بن مصطفى اإلستانبويل احلنفي اخللويت ،املوىل أبو الفداء (املتوىف:
1127هـ)،الناشر :دار الفكر – بريوت.
3838زاد املسري يف علم التفسري :مجال الدين أبو الفرج عبد الرمحن بن علي بن حممد اجلوزي
(املتوىف597 :هـ)،احملقق :عبد الرزاق املهدي ،الناشر :دار الكتاب العريب – بريوت،الطبعة:
األوىل 1422 -هـ
3939سنن ابن ماجه ،املؤلف :ابن ماجة أبو عبد هللا حممد بن يزيد القزويين ،وماجة اسم أبيه يزيد
(املتوىف273 :هـ)،حتقيق :حممد فؤاد عبد الباقي ،الناشر :دار إحياء الكتب العربية -فيصل
عيسى البايب احلليب.
4040سنن أيب داود ،املؤلف :أبو داود سليمان بن األشعث بن إسحاق بن بشري بن شداد بن
الس ِج ْستاين (املتوىف275 :هـ)،احملقق :حممد حميي الدين عبد احلميد ،الناشر: ِ
عمرو األزدي ّ
املكتبة العصرية ،صيدا – بريوت،
4141سنن الرتمذي ،املؤلف :حممد بن عيسى بن َس ْورة بن موسى بن الضحاك ،الرتمذي ،أبو
عيسى (املتوىف279 :هـ)،حتقيق وتعليق،:أمحد حممد شاكر وآخرين الناشر :شركة مكتبة
ومطبعة مصطفى البايب احلليب – مصر ،الطبعة :الثانية 1395 ،هـ 1975 -م.
4242سنن هللا يف اجملتمع ،الدار السعودية للنشر والتوزيع ،للعالمة حممد الصادق عرجون ،ط
الثالثة1984 /1404،م
-434343شرح ديوان أيب متام للتربيزي ،ط:دار الكتاب العريب ،ط الثانية1414،ه1994،م.
4444شروط النهضة ،مالك بن نيب،47 :ط :دار الفكر1399ه 1979،م.
4545الصحاح اتج اللغة وصحاح العربية :أبو نصر إمساعيل بن محاد اجلوهري الفارايب (املتوىف:
393هـ)،حتقيق :أمحد عبد الغفور عطار ،الناشر :دار العلم للماليني – بريوت ،الطبعة:
الرابعة 1407هـ 1987 -م.
4646صناعة احلياة ،حملمد أمحد الراشد ،ط:دار احملراب.
-474747العقد الفريد :أبو عمر ،شهاب الدين أمحد بن حممد بن عبد ربه ابن حبيب ابن
حدير بن سامل املعروف اببن عبد ربه األندلسي (املتوىف328 :هـ)،الناشر :دار الكتب العلمية
– بريوت ،الطبعة :األوىل 1404 ،هـ.
4848فضائح الفنت ،حملمد أمحد الراشد ،ط :دار احملراب.
4949املدخل إىل التفسري املوضوعي ،ألستاذان د عبد الستار فتح هللا سعيد ط:دار التوزيع والنشر
اإلسالمية ،ط الثانية1411،ه1991،م.
129
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
5050غرائب القرآن ورغائب الفرقان :نظام الدين احلسن بن حممد بن حسني القمي النيسابوري
(املتوىف850 :هـ)،احملقق :الشيخ زكراي عمريات ،الناشر :دار الكتب العلمية – بريوت،
الطبعة :األوىل 1416 -هـ.
5151الفروق اللغوية :أبو هالل احلسن بن عبد هللا بن سهل بن سعيد بن حيىي بن مهران العسكري
(املتوىف :حنو 395هـ)،حققه وعلق عليه :حممد إبراهيم سليم ،الناشر :دار العلم والثقافة للنشر
والتوزيع ،القاهرة – مصر.
5252يف ظالل القرآن :سيد قطب إبراهيم حسني الشاريب (املتوىف1385 :هـ)،الناشر :دار الشروق
-بريوت -القاهرة،الطبعة :السابعة عشر 1412 -هـ
5353القراءات العشر املتواترة ،هبامش املصحف الكرمي ،حممد علي كرمي ،ط :دار املهاجر ،املدينة
املنورة ،ط :الثالثة1414،هـ1994 ،م.
5454الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل :أبو القاسم حممود بن عمرو بن أمحد ،الزخمشري جار
هللا (املتوىف538 :هـ)،الناشر :دار الكتاب العريب – بريوت ،الطبعة :الثالثة 1407 -هـ،
الكتاب مذيل حباشية (االنتصاف فيما تضمنه الكشاف) البن املنري اإلسكندري (ت )683
وختريج أحاديث الكشاف لإلمام الزيلعى]
5555الكشف والبيان عن تفسري القرآن ::أمحد بن حممد بن إبراهيم الثعليب ،أبو إسحاق (املتوىف:
427هـ)،حتقيق :اإلمام أيب حممد بن عاشور ،مراجعة وتدقيق :األستاذ نظري الساعدي،
الناشر :دار إحياء الرتاث العريب ،بريوت – لبنان ،الطبعة :األوىل ،1422هـ 2002 -م.
5656لباب التأويل يف معاين التنزيل :عالء الدين علي بن حممد بن إبراهيم بن عمر الشيحي أبو
احلسن ،املعروف ابخلازن (املتوىف741 :هـ)،احملقق :تصحيح حممد علي شاهني ،الناشر :دار
الكتب العلمية – بريوت ،الطبعة :األوىل 1415 -هـ
5757اللباب يف علوم الكتاب :أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل احلنبلي الدمشقي النعماين
(املتوىف775 :هـ)،احملقق :الشيخ عادل أمحد عبد املوجود والشيخ علي حممد معوض ،الناشر :دار الكتب
العلمية -بريوت /لبنان ،الطبعة :األوىل 1419 ،هـ 1998-
5858لطائف اإلشارات ،تفسري القشريي :عبد الكرمي بن هوازن بن عبد امللك القشريي (املتوىف:
465هـ)،احملقق :إبراهيم بسيوين ،الناشر :اهليئة املصرية العامة للكتاب – مصر،الطبعة :الثالثة.
5959ماذا خسر العامل ابحنطاط املسلمني ،أليب احلسن الندوي ،ط :دار املعارف ،ط السابعة،
1408ه 1988 /م.
6060جممل اللغة البن فارس ،املؤلف :أمحد بن فارس بن زكرايء القزويين الرازي ،أبو احلسني
(املتوىف395 :هـ)،دراسة وحتقيق :زهري عبد احملسن سلطان ،دار النشر :مؤسسة الرسالة –
بريوت ،الطبعة الثانية 1406 -هـ 1986 -م
6161حماسن التأويل :املؤلف :حممد مجال الدين بن حممد سعيد بن قاسم احلالق القامسي (املتوىف:
130
املراجع
1332هـ)،احملقق :حممد ابسل عيون السود ،الناشر :دار الكتب العلمية ،بريوت ،الطبعة:
األوىل 1418 -هـ.
6262احملرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز :أبو حممد عبد احلق بن غالب بن عبد الرمحن بن متام
بن عطية األندلسي احملاريب (املتوىف542 :هـ)،احملقق :عبد السالم عبد الشايف حممد ،الناشر:
دار الكتب العلمية – بريوت ،الطبعة :األوىل 1422هـ.
6363املخصص :أبو احلسن علي بن إمساعيل بن سيده املرسي (املتوىف458 :هـ)،احملقق :خليل
إبراهيم جفال ،الناشر :دار إحياء الرتاث العريب – بريوت،الطبعة :األوىل1417 ،هـ 1996م.
6464مدخل على سنن الصريورة االستخالفية على ضوء نظرية التدافع والتجديد ،الطيب برغوث.
6565مراح لبيد لكشف معىن القرآن اجمليد :حممد بن عمر نووي اجلاوي البنتين إقليما ،التناري
بلدا (املتوىف1316 :هـ)،احملقق :حممد أمني الصناوي ،الناشر :دار الكتب العلمية – بريوت،
الطبعة :األوىل 1417 -هـ.
6666مستخرج أيب عوانة :أبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم النيسابوري اإلسفراييين (املتوىف:
316هـ)،حتقيق :أمين بن عارف الدمشقي ،الناشر :دار املعرفة – بريوت ،الطبعة :األوىل،
1419هـ1998 -م.
6767املستدرك على الصحيحني :أبو عبد هللا احلاكم حممد بن عبد هللا بن حممد بن محدويه بن
نُعيم بن احلكم الضيب السورة طهماين النيسابوري املعروف اببن البيع (املتوىف405 :هـ)،حتقيق:
مصطفى عبد القادر عطا ،الناشر :دار الكتب العلمية – بريوت ،الطبعة :األوىل1411 ،
– 1990
6868مسند ابن أيب شيبة :أبو بكر بن أيب شيبة ،عبد هللا بن حممد بن إبراهيم بن عثمان بن
خواسيت العبسي (املتوىف235 :هـ)،احملقق :عادل بن يوسف العزازي و أمحد بن فريد املزيدي،
الناشر :دار الوطن – الرايض ،الطبعة :األوىل1997 ،م.
6969مسند البزار املنشور ابسم البحر الزخار :أبو بكر أمحد بن عمرو بن عبد اخلالق بن خالد
بن عبيد هللا العتكي املعروف ابلبزار (املتوىف292 :هـ) ،احملقق :حمفوظ الرمحن زين هللا،
وآخرين ،الناشر :مكتبة العلوم واحلكم -املدينة املنورة ،الطبعة :األوىل( ،بدأت 1988م،
وانتهت 2009م)
7070معامل التنزيل يف تفسري القرآن :حمليي السنة ،أيب حممد احلسني بن مسعود بن حممد بن الفراء
البغوي الشافعي (املتوىف 510 :هـ)،احملقق :عبد الرزاق املهدي،الناشر :دار إحياء الرتاث
العريب –بريوت ،الطبعة :األوىل 1420 ،هـ
7171معجم الفروق اللغوية ،املؤلف :أبو هالل احلسن بن عبد هللا بن سهل بن سعيد بن حيىي بن
مهران العسكري (املتوىف :حنو 395هـ)،احملقق :الشيخ بيت هللا بيات ،ومؤسسة النشر اإلسالمي،
الناشر :مؤسسة النشر اإلسالمي التابعة جلماعة املدرسني بـ «قم» ،الطبعة :األوىل1412 ،هـ.
131
سنة اهلل يف القلة والكثرة يف ضوء القرآن الكريم
7272معجم مقاييس اللغة ،املؤلف :أمحد بن فارس بن زكرايء القزويين الرازي ،أبو احلسني (املتوىف:
395هـ)،احملقق :عبد السالم حممد هارون ،الناشر :دار الفكر ،عام النشر1979 :م.
7373مفاتيح الغيب = التفسري الكبري :أبو عبد هللا حممد بن عمر بن احلسن بن احلسني التيمي
الرازي امللقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (املتوىف606 :هـ)،الناشر :دار إحياء الرتاث
العريب – بريوت ،الطبعة :الثالثة 1420 -هـ.
7474املفردات يف غريب القرآن :أبو القاسم احلسني بن حممد املعروف ابلراغب األصفهاىن
(املتوىف502 :هـ)،احملقق :صفوان عدانن الداودي،الناشر :دار القلم ،الدار الشامية -دمشق
بريوت ،الطبعة :األوىل 1412 -هـ.
7575مفهوم السنن الرابنية من اإلدراك إىل التسخير :رمضان مخيس زكي الغريب ،ط :مكتبة
الشروق الدولية ،بتقدمي د.حممد عمارة.
الزْرقاين (املتوىف1367 :هـ)،الناشر :مطبعة 7676مناهل العرفان يف علوم القرآن :حممد عبد العظيم ُّ
عيسى البايب احلليب وشركاه ،الطبعة :الطبعة الثالثة.
7777منهجية الرتبية الدعوية ،حممد أمحد الراشد ،ط :دار احملراب ،ط :أوىل1422هـ2001 ،م.
7878املوسوعة القرآنية :إبراهيم بن إمساعيل األبياري (املتوىف1414 :هـ)،الناشر :مؤسسة سجل
العرب ،الطبعة 1405 :هـ.
7979حنو حركة إسالمية عاملية ،فتحي يكن ،ط :مؤسسة الرسالة ،ط اخلامسة1407،ه 1987/م.
8080هناية األرب يف فنون األدب :أمحد بن عبد الوهاب بن حممد بن عبد الدائم القرشي
التيمي البكري ،شهاب الدين النويري (املتوىف733 :هـ)،الناشر :دار الكتب والواثئق القومية،
القاهرة ،الطبعة :األوىل 1423 ،هـ.
8181اهلداية إىل بلوغ النهاية يف علم معاين القرآن وتفسريه ،وأحكامه ،ومجل من فنون علومه :أبو
حممد مكي بن أيب طالب حمَّوش بن حممد بن خمتار القيسي القريواين مث األندلسي القرطيب
املالكي (املتوىف437 :هـ)،احملقق :جمموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا والبحث
العلمي -جامعة الشارقة ،إبشراف أ .د :الشاهد البوشيخي ،الناشر :جمموعة حبوث الكتاب
والسنة -كلية الشريعة والدراسات اإلسالمية -جامعة الشارقة ،الطبعة :األوىل1429 ،
هـ 2008 -م.
8282الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز :أبو احلسن علي بن أمحد بن حممد بن علي الواحدي،
النيسابوري ،الشافعي (املتوىف468 :هـ)،حتقيق :صفوان عدانن داوودي ،دار النشر :دار القلم
،الدار الشامية -دمشق ،بريوت،الطبعة:األوىل 1415،هـ.
8383الوسيط يف تفسري القرآن اجمليد :أبو احلسن علي بن أمحد بن حممد بن علي الواحدي،
النيسابوري ،الشافعي (املتوىف468 :هـ) ،حتقيق وتعليق :الشيخ عادل أمحد عبد املوجود
وآخرين ،الناشر :دار الكتب ،العلمية ،بريوت – لبنان ،الطبعة :األوىل 1415 ،هـ1994 -
132
فهرس احملتويات
الفهرس
.
136