Professional Documents
Culture Documents
aysssi,+Article12
aysssi,+Article12
aysssi,+Article12
ربيع
المقدمة :إن اهلدف األساسي من ممارسة القاضي لسلطته يف جمال تقدير األدلة هو الوصول إىل احلقيقة ،وفيما إذا كان
من املمكن أن يتحول الشك املفرتض إىل يقني قائم.
من املعروف أن التحقيق االبتدائي يسعى يف املقام األول إىل مجع األدلة وتقديرها تقديرا أوليا ،أما مرحلة احملاكمة فتهدف
أساسا إىل متحيص األدلة وتقديرها بصفة هنائية ،وعليه جيوز القول بأن الشك يف مرحلة التحقيق االبتدائي يفسر أحيانا
ضد مصلحة املتهم ،أما يف مرحلة التحقيق النهائي فيفسر الشك ملصلحته وبقوة القانون.
القول أعاله صحيح يف اجلملة ،ألنه إذا رجحت أدلة إدانة املتهم بعد انتهاء التحقيق االبتدائي فهذا يكون كافيا لرفع
الدعوى اجلنائية ضده ،مع أن الرجحان ال ينفي الشك متاما ،بل يتسع لقدر منه ،أما حكم اإلدانة فال يبىن إال على
اليقني ،وهلذا يكون صحيح القول بأن الشك ال مينع سلطة االهتام من رفع الدعوى ،لكن الشك –أيا ما كان قدره -يعد
مانعا لإلدانة وموجبا حبكم بالرباءة أثناء نظر الدعوى أمام قاضي املوضوع.340
وزيادة يف اإليضاح نشري إىل أن االهتام يبدأ عادة بالشك فيما إذا كان املتهم قد ارتكب اجلرمية ،وقاضي املوضوع بعد
ذلك يستهدف أساسا متحيص هذا الشك وحتري الوقائع اليت نتج عنها ،ليصل إىل حكمة فيما إذا كاهنذا الشك قد حتول
إىل يقني بىن عليه اإلدانة ،أم أن ما لديه من أدلة ال تكفي للوصول على هذا اليقني وعندئذ يبقى الشك قائما ومعه
تستحيل اإلدانة.341
ومعىن ذلك أن الشك أو الشبهة هي نقطة االنطالق يف اإلجراءات اجلنائية ،ومنذ ارتكاب الواقعة يكفي جمرد الشك
لالستمرار يف اإلجراءات ضد املتهم ،حيث أن الشبهة يف مرحلة االهتام –االستدالل -تكفي لرتجيح جانب االهتام،
وكذلك مرحلة التحقيق االبتدائي ،فإن هذا الشك القائم يف صاحل االهتام ،والذي بناء عليه اختذت اإلجراءات ضد املتهم،
ي كون قابال ألن يتالشى أو يتضاعف ،وذلك ألن سلطة التحقيق االبتدائي مكلفة أساسا بالبحث عن األدلة اليت تفيد يف
الكشف عن احلقيقة على حنو إما ينتهي بتعزيز الشك أو الشبهة أو بنفيهما ،فإذا تعززت الشبهة انقلبت إىل احتمال وهو
أمر يعين تضاعف فرص الرتجيح يف صاحل االهتام ،وعندئذ حتال الدعوى إىل احملكمة للفصل فيها وعليه تعمل احملكمة
على استبعاد كل فرص الشك يف ثبوت اجلرمية ونسبتها للمتهم ،والقاعدة أن الشك يف مرحلة االهتام يفسر ضد املتهم
بينما يف مرحلة احلكم يفسر يف صاحله.
*طالب دكتوراه ،ختصص القانون الدويل العام والعلوم السياسية /جامعة حممد األول ،كلية احلقوق وجدة ><Khaledhamad631@gmail.com
-340د/عوض حممد عوض ،المبادئ العامة في قانون االجراءات الجنائية-،منشأة املعارف ،االسكندرية ،ص.210 :
-341د/فاضل زيدان حممد ،سلطة القاضي في تقدير األدلة ،دار الثقافة للنشر والتوزيع-عمان ،0212ص.122 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
وهنا يكون احلكم قد جاء بناء على اقتناع قاضي املوضوع ويكون خاليا من الشك والتخمني ومبنيا على اجلزم واليقني،
وهذا مبدأ عاما يسود قوانني اإلجراءات اجلنائية عموما ،ومنها التشريع املغريب الذي نص يف قانون املسطرة اجلنائية يف املادة
( )013على أن "حيكم القاضي حسب اقتناعه الصميم" وأكدته حمكمة النقض بقرارها عدد 11تاريخ 11نونرب 1112
بقوله" :األحكام اجلنائية تبىن على اجلزم واليقني ال على جمرد الشك والتخمني".
من العرض السابق ميكن أن نستخلص أن األساس الذي تقوم عليه عملية تقدير الدليل وفقا للقناعة القضائية يتوجب أن
تقوم على اليقني.
إذن ماهو املدلول القانوين القتناع القاضي؟ وكيف يكون القاضي قناعته؟ وكيف يصل إىل اليقني؟ وماهي درجة اليقني اليت
تتطلبها األحكام اجلنائية؟ وهل لليقني شروط جيب أن تتوافر فيه؟ وهل يوجد فرق بني اليقني واالقتناع؟
للوقوف على إجابة هلذه التساؤالت ،وحماولة اإلحاطة مبدلول القناعة القضائية سنتعرف على ماهيتها وأسسها( أوال)
وطريقة تكوينها واستقرار اليقني القضائي (ثانيا).
أوال :ماهية وأسس القناعة القضائية :االقتناع يقصد منه التوصل ألحد أمرين:
األول :هو إذعان القاضي وتسليمه بنشوء حق الدولة يف معاقبة املتهم (يف حالة ثبوت اجلرمية اليقيين)
والثاني :هو إذعانه وتسليمه بعدم نشوء حق الدولة يف معاقبة املتهم ويكون ذلك يف حالة عدم ثبوت اجلرمية أو
الشك يف وقائعها أو يف نسبتها للمتهم.342
فإذا كان االقتناع القضائي بنشوء حق الدولة يف معاقبة املتهم إذا متت إدانته بأيت نقضا وهدما ألصل الرباءة يف املتهم ،فإن
ذلك يستوجب أن يصل االقتناع إىل حد اجلزم ،كما أنه من جهة أخرى يعترب االقتناع باإلدانة أو الرباءة هو استخالص
هلما –الرباءة أو اإلدانة -من عناصر اإلثبات املطروحة على بساط البحث كإستخالص النتائج من املقدمات ،األمر الذي
يستوجب تواؤم هذا االستخالص مع مقتضيات العقل واملنطق.343
وللوق وف على ماهية وأسس القناعة القضائية يقتضي ذلك تبيان أوصاف هذا املبدأ أوالكما يقتضي منا كذلك تبيان
أساس وطبيعة هذا املبدأ ،كما تناوهلا الفقه القانوين وذلك بغية توضيح حقيقة هذا املبدأ ،حيث أنه ميكن القاضي من
استخالص عناصر اقتناعه من أي دليل يطمئن إليه طاملا له مأخذه الصحيح من األوراق ،344وقيامه على أساس قانوين
صحيح.345
فإذا كان هذا املبدأ يعين حرية القاضي اجلنائي يف تقديره لألدلة املعروضة عليه ،أي أن له احلرية يف أن خيتار األدلة اليت
يعول عليها ،وأن يستفي مصادر اقتناعه من أي دليل دون إلزامه باالستهداء بدليل دون آخر ،فإن املبدأ هبذا املعىن يدخل ٌ
-342د/كمال عبد الواحد اجلوهري ،تأسيس االقتناع القضائي والمحاكمة الجنائية العادلة ،دار حممود للنشر والتوزيع ،1111ص.11 :
-343د/حممد عبد الشايف ،مبدأ حرية القاضي في االقتناع -دراسة تحليلية وتأصيلية مقارنة ،طبعة ،1110ص.121 :
-344د/أمحد ضياء الدين حممد ،مشروعية الدليل في المواد الجنائية –دراسة تحليلية مقارنة لنظريتي اإلثبات والمشروعية في مجال اإلجراءات الجنائية ،دار
النهضة العربية ،طبعة ،0212ص.033 :
-345د/رءوف عبيد ،ضوابط تسبيب األحكام الجنائية ،دار اجلليل للطباعة ،الطبعة الثالثة ،1113ص.111 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
يف نطاق مبدأ حرية اإلثبات باعتباره املنظم لنظام اإلثبات يف املواد اجلنائية بصورة عامة 346وإمنا ما نود التطرق إليه بالشرح
هو ما يتعلق حبقيقة ومدى اقتناع القاضي باعتباره اخلطوة التالية ملسألة اختيار كافة األطراف للدليل اجلنائي الواجب
تقدميه يف الواقعة حمل اإلثبات ،حيث يأيت دور القاضي لفهم ومتحيص وحتليل ودراسة الدليل املعروض عليه الستلهام يقينه
منه ،وذلك لالستعانة به يف هناية األمر يف بناء عقيدته اليت هي أساس حكمه ودعامته الرئيسية.
:0أوصاف مبدأ االقتناع :قد وصف هذا املبدأ "بقاعدة حرية القاضي يف تكوين اقتناعه" 347فهل وصف اقتناع القاضي
يف ذاته باحلرية يعرب عن جوهر هذا املبدأ أو يفسر داللته احلقيقية؟
يف الواقع إن القاضي اجلنائي يستلهم عناصر اقتناعه ومكونات هذا االقتناع من أي دليل ،ولكن بشرط أن يكون الدليل
مشروع وقد طرح أمامه ومتت مناقشته باإلضافة إىل ذلك أوجب املشرع على القاضي تسبب حكمه ،وأن يكون اقتناعه
قائما على املنطق والعقل ،فمع هذه الشروط يصبح وصف االقتناع باحلرية هي مسألة حمل نظر ،خاصة أن القيود أو
الضوابط أو االستثناءات اليت حتد من حرية القاضي يف تكوين اقتناعه وعقيدته ،قد متليها االعتبارات اخلاصة حبماية حق
املتهم بالدفاع أو الرغبة يف منع التحكم الذي قد يؤدي إليه اإلسراف يف االطمئنان إىل نتائج هذا املبدأ.348
ويوصف املبدأ أيضا "باالقتناع الذايت للقاضي" وذلك للداللة على قيام القاضي باحلكم يف دعواه وفقا ملا ميليه عليه ضمريه
بواسطة أدلة يستشعر منها قدرته على توليد وتكوين يقينه بثبوت االهتام ضد املتهم.349
كما يوصف هذا املبدأ "بالوجداين" ،350حيث يكون اقتناع القاضي اجلنائي مرتوكا لوجدانه واطمئنانه الداخلي بثبوت
الواقعة املعروضة عليه أو عدم ثبوهتا.
وهذا الوصف يوضح الطبيعة الداخلية لالقتناع باعتباره أساسا عملية وجدانية شخصية حتدث آثارا يف وجدان القاضي
جتعله يف حالة يستطيع مبقتضاها النطقبحكمه.
وهذا الوصف قد ال يكون كافيا أيضا للتعبري عن حقيقة وجوهر االقتناع ذلك ألن االقتناع يف حد ذاته -دون أي وصف
له -ال يكون إال داخليا ونابعا من ذات الشخص ،فال يعقل لذلك أن ينشأ االقتناع من غري ذات القاضي أو فرضه عليه
من اخلارج أي من ذات أخرى غري ذاته ،وهو ما أكدته عبارة "اقتناعه الصميم" اليت وردت يف املادة 013من ق.م.ج.م
فلفظ "صميم" يفيد أن االقتناع جيب أن يكون ذاتيا نابعا من "صميم" معتقد القاضي ،وال ميكن أن يكون مفروضا عليه
من خارج ذاته ،لذلك فإن وصف اقتناع القاضي اجلنائي بأنه داخلي أو باطين أو وجداين ،ال يضيف إليه وصفا كان
ينقصه ألهنا أوصاف ال تعرب عن كل حقيقته وإمنا هو وصفا يبني ويوضح أساسا وعاء االقتناع .351كما أن االرتياح
واالطمئنان الذي يوصف به القناعة جيب أن يكون قد استقام على أدلة من شأهنا أن تفضي إىل ذلك وفقا ملقتضيات
العقل واملنطق.352
من هنا ميكن القول بأن وصف االقتناع بالعقلي أو العقالين هو وصف يصيب جوهر هذا املبدأ على اعتبار أن حقيقة ما
ميارسه القاضي من عملية ذهنية جتاه ما يقدم إليه من أدلة يف الدعوى تنشأ أصال من وعيه وإدراكه لكافة أدلة الدعوى.
:0طبيعة القناعة القضائية :ذهب الفقه يف اجتاهات متعددة يف تفسري طبيعة االقتناع الواجب توافره لدى القاضي
فاعتربه البعض 353جمرد رأي قضائي يبديه القاضي يف قيمة الدليل املعرض عليه ،ويف موضع آخر يف الفقه 354يشكل
االقتناع منطقة وسط بني "االعتقاد" املبين على أسباب شخصية و"اليقني" الذي يستوي على أسباب كافية من الناحية
الشخصية واملوضوعية إنه ينطلق من االعتقاد ليتجه إىل اليقني ،يتفوق على االعتقاد يف وضعيته ،أي استقامته على أدلة
وضعية ،وخيتلف عن اليقني يف استقامته على تسبيب ليس صارما مائة يف املائة ،ويدع وراءه قدرا من االحتمالية ،فاقتناع
القاضي هو يف حقيقته اعتقاد يقوم أساسا على أسباب شخصية صحت لديه ،لكنها ال تصح لدى غريه –وحسب هذا
الرأي فإن ذلك ما يفسر االكتفاء باألغلبية يف إصدار احلكم -لكنه يتفوق على االعتقاد يف استقامته على أدلة موضوعية
تقربه من اليقني ،لكنه ليس يقينا الستقامته على تسبيب وقبول والتسبيب هو باألكثر أمر شخصي ال يتسم بصرامة
اليقني .وهذا -عند أصحاب هذا الرأي -ما يفسر استحالة اشرتاط اإلمجاع لصدور احلكم واستحالة اشرتاط أن يكون
اقتناع قاضي املوضوع كافيا حلمل حمكمة النقض على االقتناع هي األخرى ،وألن هذا االقتناع من جهة أخرى ال جيري يف
فلك قانوين فإنه يفلت متاما من رقابة حمكمة النقض وهذا ما يسلم به الفقه وقضاء النقض.
وهناك رأي فقهي آخر 355يقضي بأن االقتناع الذايت للقاضي الواحد يظل يف تطور مستمر أثناء نظر الدعوى بني الصعود
واهلبوط ،ويف هذا الرأي فإن اليقني القضائي عند القاضي يظهر دفعة واحدة ،فكل إضافة جديدة ألدلة الدعوى تؤدي إىل
حتسن يطرأ على اقتناع القاضي وبالعكس ،فإن كل حذف لدليل من أدلة اإلثبات أو إضافة لدليل من أدلة النفي يؤدي
إىل إضعاف هذا االقتناع ،وهذا الشيء يؤدي بالقاضي -على حسب الظروف -أن يعدل من صيغة اقتناعه اليت سبق أن
حددها واالقتناع يف هذا الرأي هو بطبيعته تقريبيا ألن القاضي ال ميكنه وال يستطيع أن يتحقق من مجيع الشروط والعناصر
اليت يتوقف عليها صدق اقتناعه ومطابقته للوقائع ،فهو ال ميكنه التأكد من أنه مل ينس شرطا أو عنصرا جوهريا يتوقف
عليه صدق وواقعية االقتناع ،وال ميكنه التأكد من حصر الوقائع واملعاين القانونية حصرا جامعا مانعا ،فإنه مهما بلغ من
الدقة ومهما اتبع من مناهج علمية قائمة على املالحظة واملشاهدة اليت تتم عن طريق احلواس ،ومهما حرص على أن
يتحقق من توافر مجيع الشروط اجلوهرية القتناعه ،فإن قصارى ما يستطيع اجلزم به هو أنه مىت حتققت بعض الشروط
اخلاصة فمن احملتمل أن حيدث اقتناعه على درجة التقريب ،وقد تكون درجة االحتمال كبرية جدا لكن دون أن تبلغ أبدا
مبلغ اليقني ،والقاضي نفسه ال جيهل أن االقتناع الذي حيصله هو اقتناع نسيب ألنه يعتقد أنه لن يصل يوما إىل احلقيقة
املطلقة وأن اقتناعه خالل ممارسة احملاكمة ميكن تعديله دائما باقتناع أكثر أو أقل دقة من سابقه إذا ما ظهرت أدلة أخرى
حبسب الظروف ،ومع ذلك فإن اقتناعه الذايت األخري سيظل تقريبيا.
كما أن هذا االجتاه الفقهي فرق بني مبدأ "االقت ناع الذايت" للقاضي اجلنائي وبني مبدأ "االقتناع اليقيين" للقاضي ،ويف
تفسري ذلك أنه جيب التمييز بني نوعني للحقيقة الواقعية اليت يسطرها القاضي يف احلكم اجلنائي الصادر باإلدانة ،فالنوع
األول وهو "حقيقة الواقعة" وتبوث نسبتها للمتهم ،فإنه يتصل هبذه احلقيقية ويالزمها مبدأ "االقتناع الذايت" للقاضي
اجلنائي .والنوع الثاين هو" حقيقة اإلدانة" ويتصل هبذه احلقيقة وحيكمها يف اإلثبات مبدأ االقتناع اليقيين "للقاضي بتبوت
اإلدانة.356
ويرى هذا االجتاه أن اخللط بني املبدأين -االقتناع الذايت واالقتناع اليقيين – واخللط بني احلقيقتني -حقيقة الواقعة وحقيقة
اإلدانة -هو أمر غري جائز ألن هناك فرق بني درجيت االقتناع وفرق بني طبيعة احلقيقتني ،فكل نوع من نوعي احلقيقة
السابقتني يرتبط به ويتالزم معه وحيكمه "درجة معينة من االقتناع" ختتلف عن الدرجة اليت حتكم النوع اآلخر فاحلقيقة
اخلاصة بوقوع اجلرمية وثبوت نسبتها إىل املتهم حيكمها مبدأ "االقتناع الذايت للقاضي" بينما احلقيقة اخلاصة باإلدانة
حيكمها مبدأ آخر أو درجة أخرى من االقتناع أال وهو مبدأ "االقتناع اليقيين" للقاضي.
وهناك اجتاه آخر 357يرى بأن القناعة هي نوعا من نفاذ البصرية ملعطيات اخلصومة الواقعية والقانونية ويكون على درجة
من الوضوح حبيث يبدو متقاربا من املعاين األخالقية واجلمالية الفنية.
وبعض الفقه 358اعترب القناعة يقينا وميز بني أنواع خمتلفة لليقني فمنها اليقني احلدسي املبين على البداهة ،واليقني
االستقرائي الذي ينتج عن التحليل واالستبيان واليقني املعنوي وهو الذي تقوم عليه القناعة القضائية والذي يعد حالة
ذهنية تستنتج من الوقائع املعروضة على بساط البحث احتماالت ذات ثقة عالية من اليقني الذي يصل إليه القاضي
نتيجة استبعاد أسباب الشك بطريقة قاطعة.
كما يذهب جانب آخر من الفقه 359إىل القول بأن اليقني القضائي الذي ينبغي أن تقوم عليه األحكام اجلنائية ليس هو
اليقني باملعىن الفلسفي أو اللغوي ،كحالة نفسية وذهنية تلتصق فيها حقيقة الشيء يف الذهن على حنو ال تثري شكاوال
حتتمل جهال وال غلطا ،بل هو يقني قائم على تسبيب وأدلة وضعية ،لذلك فهو يقني تقرييب ،يوصف يف العلم بأنه اقتناع
وهو حالة ذهنية تتوفر فيها لدى القاضي من األدلة الوضعية ما يكفي إلذعانه بالتسليم بثبوت الواقعة كما أثبتها يف
حكمه.
من كل ما سبق يتضح لنا وجود عدة تصورات ملبدأ القناعة عند القاضي اجلنائي وهذه التصورات ميكن القول عنها أهنا
تتسم باخللط .فكما رأينا يع تربها البعض جمرد "رأي" وهذا الشيء يتناىف مع أساس القناعة القضائية واليت تقوم على قواعد
عقلية علمية ومنطقية ،فالرأي هو وجهة نظر قد تكونعابرة أو قد تكون غري مبنية على أسس علمية ،أو قد تكون مبنية
على أسس غري كافية أو قد تكون نابعة من قياس حدث معني حبدث آخر ليس له باألول عالقة أو قد تكون وجهة نظر
شخصيه مبطلقها ،وهذا الشيء يتناقض مع ماهو مقرر يف جمال القانون حيث األحكام فيه ال تبىن على جمرد آراء
ووجهات نظر بل إهنا تبىن على أسس من العقالنية واملنطقية.
وقد صور البعض القناعة على أهنا اعتقاد ونرى بأن لفظ "االعتقاد" يتضمن معىن االحتمالية والشك وعدم اليقني وعدم
الرجحان فهو أقرب للتخمني يف حني أن األحكام اجلنائية جيب أن تبىن على اجلزم واليقني اخلايل من أدىن شك وال تبىن
على الظن واالحتمال.
ومن الفقه من صور القناعة على أهنا نفاذ بصرية من قبل القاضي ،يف حني أن نفاذ البصرية تعترب مدلوال على مدى
النشاط الذهين املبذول من طرف القاضي للوصول إىل احلقيقة وإتقانه استخدام الوسائل القانونية اليت أمده هبا املشرع من
أجل الوصول إىل هذه احلقيقة ،ولكن هذا النشاط أو هذه الوسائل ال ميكن أن تكون قناعة وإن كانت طريقا رئيسيا
يؤدي إىل القناعة ،آلن نفاذ البصرية تعترب صفة يف القاضي اجلنائي املؤهل تأهيال قانونيا وعلميا.
ومن الفقه من اعترب القناعة تقع يف منطقة وسط بني االعتقاد واليقني.
ولكن هذا التصور ال يدل على املفهوم القانوين للقناعة ألهنا حسب هذا التصور تنبع من االعتقاد وتتجه حنو اليقني يف
حني ك ما رأينا ال عالقة بني االعتقاد والقناعة فمرتكزات األولىتختلف اختالفا جوهريا من املرتكزات اليت تقوم عليها
القناعة وطبيعتها العلمية والعقلية املستمدة من االستنتاج واالستقراء.
أما عن تصويرها بعملية صعود وهبوط لدى القاضي أثناء العملية القضائية ،ال ميكن التسليم به ،ألن التأرجح ليس من
طبيعة القناعة القضائية اليت تستمد أساسها من العقل واملنطق املقرون مع القانون بصورة نشاط ذهين يقوم به القاضي،
فهذا النشاط ال ميكن أن يكون بوتقة لتجميع األدلة بصورة عددية إن زاد دليال فيها زادت درجة القناعة وإن نقص منها
واحدا اضمحلت هذه القناعة.
ومن الفقه من حدد طبيعة القناعة القضائية على أساس أهنا اليقني ذاته ،وهذا االجتاه يكون قد اقرتب وتتالمس مع طبيعة
القناعة ،إال أنه ولكي يكون هلذا اليقني مدلوال خاصا جيب أن يتصل بالقناعة القضائية ويستمد مقوماته من خصائصها
فاملعيار الذي يفرق بني اليقني القضائي la certitude judicaireباعتباره درجة اإلثبات املطلوبة وبني الشك املربئ هو
360
إما االقتناع الذي يكاد يكون يقينا convaincus au point d’en être surs
360
- Mohamed Jalal el ssaid, la présomption d’innocence, Edition la porte, Rabat 1 1 Page 2 1
مشار إليه عند د /حممود نصر ،السلطة التقديرية ،مرجع سابق ،ص.223 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
وإما اليقني املعنوي أو اليقني اإلقناعي 361le certitude moralالذي يدركهالقاضي يف ذات اللحظة اليت تتالشى
األسباب النافية حبيث ال يكون بإمكاهنا أن تزعزع املعىن الذي تفرضه األسباب املؤيدة ،فهنا يأخذ االقتناع معىن اليقني
وهو املعىن الذي يوافق على مضمونه معظم الفقه.362
فالقناعة هي نوع من اليقني اخلاص بالعمل القضائي بوجه عام ،وهذا اليقني اخلاص هو القناعة القضائية وهو الذي
يشكل جوهر ا لسلطة التقديرية للقاضي يف جمال تقدير األدلة وهو يقني علمي ألنه منطقي يف بناءه.363
ولعلنا ندرك بأن اليقني يف داللته القانونية هو حالة ذهنية أو عقالنية ،تؤكد وجود احلقيقة ،ويتم التوصل إليها مبا يستنتجه
القاضي من خالل ما يعرض عليه من وقائع يف الدعوى واليت تولد لديه ثقة عالية من التأكيد وتستبعد كل شك حول
النتيجة النهائية اليت وصل إليها يف حكمه ،وعندما يصل القاضي إىل هذه املرحلة من اليقني فإنه يقتنع باحلقيقة ،وعليه
يكون االقتناع هو مثرة اليقني وليس اليقني ذاته ،364فاليقني إذن يستمده القاضي من وقائع القضية وأدلة اإلثبات أما
االقتناع فهو الشعور الذي يتولد بعد يقينه بالوصول إىل احلقيقة .365إذن فهو اقتناع عقالين Razionalفذلك يدل على
جوهر املبدأ وعلى حقيقة ما ميارسه القاضي من عملية ذهنية جتاه ما يقدم إليه من أدلة يف الدعوى ،هذه العملية اليت متيز
اقتناعه عن غريه من أنواع اليقني األخرى اليت تبعد كثريا عن منطق العقل ،فحاله اليقني الواجب توافرها لدى القاضي
اجلنائي كأساس القتناعه تنشأ أصال عن وعيه وإدراكه لكافة أدلة الدعوى ،مث تدقيقه فيها واستنتاجه منها كافة العناصر
املكونة هلذا اليقني ،حبيث يصل يف النهاية إىل أن يرتاح ضمريه لقراره ويتقبل العقل حلكمه ،فهو يعتمد أساسا يف بناء
اقتناعه على عملية منطقية تقوم على االستنتاج واالستنباط حبيث تصل يف هنايتها إىل نتيجة معينة ،وهذا األمر تستلزمه
طبيعة اليقني الواجب توافره لدى القاضي الذي ال يكفي لنشأته ولصحته جمرد وصفه بأنه داخلي أو باطين بل البد أن
يكون يقينا قضائيا ذو طبيعة موضوعية عقلية تكفي أسبابه إلحداثه لدى نفوس الكافة وذلك الرتكازه أصال على أسانيد
منطقية توصل حتما إىل نفس النتيجة.366
نستنتج بأن اليقني القضائي ميثل جوهر التوصل إىل االقتناع لدى القاضي ،الذي ال يعدو إال أن يكون مبثابة املظهر
اخلارجي له فإذا كان اليقني هو العلم األكيد بوجود الشيء أو عدمه والذي يستنبطه القاضي من األدلة املعروضة عليه،
أما االقتناع فهو رضا القاضي بالنتيجة اليت وصل إليها وهو املرحلة األخرية يف احملاكمة اجلنائية ،إال أنه يف الواقع إن اليقني
واالقتناع شيئان متالزمان ،حبيث ال ميكن تصور أحدمها دون اآلخر.367
وعليه يقصد باليقني تلك احلالة النفسية والذهنية اليت تتكون لدى القاضي نتيجة ملسببات موضوعية هي األدلة اليت تؤثر
يف ضمريه وجتعله يتأكد من صحة حدوث واقعة ،مل حتدث حتت عينيه ،حدوثا يتطابق ولو على حنو ما مع شكل اكتماهلا
يف الواقع أبان وقوعها ،وأدوات يقينه يف ذلك هي االستنتاج واالستقراء* القائم على املنطق ،368وذلك من خالل قيامه
مبجهود ذهين يتمثل يف االستدالل العقلي هبدف إدراك عناصر اإلثبات من حيث تكاملها ووحدهتا عن طريق استقراء
نتيجة من أخرى.
وجتدر اإلشارة إىل انه إذا كانت األحكام جيب أن تبىن على اجلزم واليقني ووجوب تسببيها ،فإن ذلك ال يكون فقط يف
أحكام اإلدانة فقط كما ذهب إليه الفقه السائد 369بل البد أن تكون يف أحكام الرباءة أيضا كما أكد ذلك املشرع
املغريب يف املادة 232فقرة 1من ق .م.ج حني قال" :جيب أن حيتوي احلكم على األسباب الواقعية القانونية اليت ينبين
عليها احلكم أو القرار أو األمر ولو يف حالة الرباءة".
فاليقني جيب أن يتوافر حىت يف جمال الشك ،ألن الشك املوضوعي الذي يكون حمله "الوقائع" تتأسس عليها املسؤولية
اجلنائية للمتهم ،أي الشك الناتج عن أدلة تساوت بشأهنا فرص اإلدانة والرباءة ،وألن الشك واليقني أمورا ذهنية ،فإن
مقياس الشك يتمثل فيما جيده القاضي داخل وجدانه من عدم اطمئنان أو حرج وتردد وارتياب ،فهو مبعىن آخر يقني من
القاضي بضعفقيمة الدليل ،فهو مل يصل إىل شكه ما مل يقتنع بأن األدلة ال تشكل قوة إزاء االهتام ،وبالتايل فإن قناعته
هي اليت قادته إىل هذا الشك .وهذا هو معىن القول بان كافة األحكام جيب أن تؤسس على اليقني املكون للقناعة
القضائية.
وخنلص أنه يف األحكام اجلنائية جيب تسطري القناعة حىت لو كان احلكم بالرباءة.
ثانيا :طريقة تكوين القناعة القضائية واستقرار اليقين القضائي :الشك أنه يقع التزام قانوين على عاتق القاضي اجلنائي
يتمثل يف ضرورة الفصل يف موضوع الدعوى اليت ينظرها ،ويف سبيل هذا االلتزام يقوم بعدة عمليات ذهنية من اجل تكوين
اقتناعه بصدد ثبوت نسبة الواقعة املادية إىل املتهم املقدم للمحاكمة وثبوت مسؤوليته اجلنائية عنها ،ففي هذه احلالة يقضي
باإلدانة ،أما إذا مل تثبت مسؤوليته اجلنائية عنها فإن القاضي يصدر حكمه بالرباءة.
واالقتناع القضائي يقوم على عنصرين ،370األول املنهج ،أي كيفية االقتناع ،والثاين املضمون أي النتيجة ،والعنصر األول
هو ما سنتناوله بالتحليل باعتبار أن عملية االقتناع يف جوهرها إمنا عملية ذهنية جتري على مراحل متعددة بعضها مركب
ومتداخل .وكل مرحلة يعتمد فيها القاضي على مصادر معينة تشرتك كلها يف تكوين مضمون االقتناع.
وأول مرحلة من مراحل تكوين االقتناع هي مرحلة التلقي واستدعاء القواعد القانونية واجبة التطبيق على وقائع القضية.
368
-أمحد ضياء الدين حممد ،مشروعية الدليل ،مرجع سابق ،ص212:
369
-حممود جنيب حسين ،شرح اإلجراءات الجنائية ،مرجع سابق ،ص121 :
-حممود مصطفى ،اإلثبات في المواد الجنائية في القانون المقارن-اجلزء االول ،الطبعة االوىل ،مطبعة جامعة القاهرة ،1111ص31 :
-حممد زكي أبو عامر ،اإلثبات في المواد الجنائية ،مرجع سابق ،ص 12 :أو ما بعدها.
-مأمون حممد سالمة ،اإلجراءات الجنائية ،مرجع سابق ،ص112 :
-370كمال اجلوهري ،تأسيس االقتناع القضائي ،مرجع سابق ،ص 12 :وما بعدها.
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
أما املرحلة الثانية فهي مرحلة حتصيل االقتناع واستقرار اليقني القضائي .ففي املرحلة األوىل من مراحل تكوين االقتناع
القضائي يتلقى القاضي اجلنائي كل املعلومات اليت جتعله قادرا على حتديد الوقائع املنتجة يف الدعوى اليت ينظرها ،ويف هذه
املرحلة يفهم وقائع النزاع جيدا من مصادر خمتلفة ومتنوعة ألن هذه املصادر هي اليت تعينه على الفصل يف موضوع
الدعوى ،،ألن وقوف القاضي على الوقائع املنتجة يف الدعوى يرشده إىل ترشيح واختيار القواعد القانونية اليت تنطبق على
موضع الدعوى سواء القواعد القانونية املوضوعية املتعلقة بقواعد قانون العقوبات أو القواعد القانونية الشكلية املتعلقة
بقواعد قانون اإلجراءات اجلنائية (املسطرة اجلنائية).
وللتوضيح نقول بان القاضي كما علمنا يكون اقتناعه من عدة مصادر منها قراءة ملف القضية واالستماع إىل مرافعة
الدفاع ،فملف القضية يضم كل ما يساعد القاضي على فهم الوقائع ومالبساهتا ،فإطالع القاضي إذن على ملف القضية
قبل الشروع بإجراءات احملاكمة ميكنه من التعرف على املوضوع وما قد يثار من دفوع شكلية أو جوهرية ،وميكنه كذلك
من متابعة الدفاع فيما قد يثريه من دفوع وما يطلبه من طلبات أثناء إجراءات احملاكمة ،ليعمل على تقييم هذه الدفوع أو
الطلبات مبا خيدم عملية "االقتناع" والتوصل إىل حكم عادل.371
وما يستخلصه القاضي من ملف الدعوى عند قراءته إياه وإطالعه عليه وعلى الوقائع اليت فيه ،هو حتديد القواعد القانونية
واجبة التطبيق سواء القواعد املوضوعية أو اإلجرائية ،فالقواعد املوضوعية تثري يف ذهن القاضي االسم القانوين هلذه الوقائع
كأن تكون اجلرمية "قتل عمد" وكأن يكون هذا القتل العمد هو قتال «بالسم» أو عن سبق اإلصرار ،أو كأن يكون هذا
القتل العمد مقرتنا مجناية أو مقرتنا مجنحة.
كما أن إطالع القاضي يرشده إىل حتديد دور املتهم ،هل هو فاعال أصليا أم أنه جمرد شريك .مبعىن أن القواعد القانونية
املوضوعية الواجبة التطبيق قد تكون يف جمال الوصف القانوين للفعل ،أو يف جمال صور الركن املادي والركن املعنوي
للجرمية ،وكذلك جمال سلطان النص اجلنائي من حيث الزمان ومن حيث املكان إىل آخر ذلك من جماالت.
ويف قراءة ملف القضية من قبل القاضي إمكانية أن ترشده هذه القراءة إىل اختيار وتطبيق القواعد القانونية اإلجرائية
ويكون ذلك ملعرفة كيفية حتريك الدعوى اجلنائية والقيود اليت ترد على حرية النيابة العامة يف حتريكها...اخل ،وكذلك حتديد
جمال االختصاص احمللي أو املكاين ،كذلك يتبني القاضي من خالل قراءته مللف القضية مدى شرعية اإلجراءات اجلنائية
واألدلة املقدمة يف الدعوى.
إن اختيار القاضي للقاعدة اليت تنطبق بالفعل على وقائع القضية يتوقف على تفسريه الصحيح للوقائع اليت يقرأها ،ألنه يف
ذلك جيري عملية املطابقة بني الواقعة املادية وبني الواقعة النموذجية الواردة يف النص القانوين واجب التطبيق ،فالواقعة
املادية هي اليت تستثري ذهن القاضي لتطبيق القواعد القانونية اليت يرشحها بصفة مبدئية على الواقعة املادية.
واملصدر الثاين من مصادر تلقي القاضي اجلنائي عند تكوين اقتناع هو االستماع إىل مرافعة الدفاع ألن ذلك ميثل ضمانة
هامة ومؤثرة يف جمرى سري احملاكمة من جانب ،وطبيعة القتناع القاضي والنتيجة اليت توصل إليها من جانب آخر ،وعلة
ذلك انه يكفي املتهم أن يدفع التهمة عن نفسه بأحد أسباب اإلباحة أو بأحد موانع املسؤولية أو العقاب ،لينتقل عبء
371
-كمال اجلوهري ،تأسيس االقتناع ،مرجع سابق ،ص11 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
حتري احلقيقة إىل القاضي يف ضوء األدلة ولكن ليسعلى القاضي حتمل عبء اإلثبات – أو يرد على ما دفع به املتهم ردا
سائغا ال لبس وال غموض فيه.372
فحق الدفاع يقتضي متكني املتهم من أن يعرض على قاضيه حقيقة ما يراه يف الواقعة املسندة إليه ،ويستوي يف هذا الصدد
أن يكون منكرا بارتكابه للوقائع املسندة إليه أو معرتفا هبا ،ذلك إنه يكون قد يتوخى من وراء إنكاره الوصول إىل تأكيد
براءته ،وقد يكون اعرتافه مصورا أو مربزا ما أحاط به من ظروف ومالبسات فيكون من بينها ما يدل على انه كان يف
حالة دفاع شرعي ،أو يكون من بيبنها بعض الظروف املعفية من العقاب أو املخففة له.373
وعليه تعد املرافعة وسيلة فعالة يف تكوين عقيدة القاضي اجلنائي ،حيث أهنا تسمح له بان يتأكد من مدى تكامل أركان
الواقعة املسندة للمتهم من الناحيتني الواقعية والقانونية ،وحتديد مدى قيام األركان والشروط اليت يستوجبها القانون ودرجة
نسبتها للمتهم وحتديد مدى مسؤوليته عنها.
أما املرحلة الثانية من مراحل تكوين االقتناع -املرحلة األوىل كانت هي االستماع والتلقي واستدعاء القواعد القانونية واجبة
التطبيق على وقائع القضية – فهي مرحلة حتصيل االقتناع واستقرار اليقني القضائي.
فمن املعروف أن غرض اإلجراءات اجلنائية هو كشف احلقيقة الواقعية واليت تعين النموذج الواقعي لكيفية حدوث الواقعة
اإلجرامية أو عدم حدوثها ،وطريقة ارتكاهبا ومن اشرتك أو ساهم فيها ،وغري ذلك من التفصيالت والدقائق كما حدثت
بالفعل على مسرح اجلرمية ،وعليه فاحلقيقة الواقعية ليست جمرد حقيقة اجلرمية ،وإمنا هي أيضا حقيقة اجملرم سواء كان فاعال
أم شريكا.374
لذلك نستطيع القول أن احلقيقة الواقعية هي ذاهتا مضمون االقتناع ،فهي تشكل جوهره وكيانه سواء كانت تلك احلقيقة
متمثلة يف اإلدانة أو يف الرباءة ،ذلك ألن مضمون االقتناع هو عبارة عن النتيجة اليت خلص إليها القاضي على اعتبار أن
كيان االقتناع يتألف من الوقائع املادية اليت تثبت لدى القاضي وتثبت مسؤولية اجلاين عنها أو عدم مسؤوليته ،وكذلك
يتألف االقتناع من القواعد القانونية اليت طبقها على هذه الوقائع ،وأخريا اجلزاء اجلنائي الذي استقر وجدان القاضي على
النطق به وتطبيقه على اجلاين.
األدلة القائمة يف الدعوى وظيفتها نقل وتصوير الواقع أمام القاضي ليتمكن من تكوين اقتناعه ،أي تكوين تصور مؤكد
عن كيفية حدوث تلك الواقعة وهو ما يسمى باليقني القضائي الذي يعد حالة ذهنية أو عقالنية تؤكد وجود هذه
احلقيقة ،375فالقاضي اجلنائ ي عن طريق التحليل واالستنتاج ميكنه التوصل إىل الكيفية اليت متت هبا اجلرمية كما حدثت
على أرض الواقع ،ولكن الذي يصل إليه ليس يقينا مطلقا ولكنه يقينا نسبيا .376ألن نتائجه ال تتسم باإلطالق املطلق،
فالنتائج اليت يتمكن التوصل إليها تكون عرضة للتنوع واالختالف يف التقدير من قاض إىل آخر.
372
-د /كمال اجلوهري ،تأسيس االقتناع القضائي ،مرجع سابق ،ص10 :
373
-د /حسن صادق املرصفاوي ،ضمانات المحاكمة في التشريعات العربية ،مطبعة حمرم بك -اإلسكندرية ،سنة ،1112ص10 :
-374د /هاليل عبد اهلل امحد ،الحقيقة بين الفلسفة العامة واإلسالمية وفلسفة اإلثبات الجنائي ،دار النهضة العربية ،1111ص.212 :
ص022: -375بنفس املعىن د /آمال عبد الرحيم عثمان" ،النموذج القانوين للجرمية" ،مجلة العلوم القانونية واالقتصادية ،العدد األول يناير ،1110السنة الرابعة عشر،
376
-د /امحد ضياء الدين حممد ،مشروعية الدليل ،مرجع سابق ،ص211 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
ومع أن اليقني القضائي يتسم بالذاتية والنسبية إال أنه مع ذلك ما زال مرضيا للذهن البشري ،ألن كل ما ميكن أن ينشد
من العدالة البشرية هو يقني معقول ،ألن ضمري القاضي العادل جيب أن ميلي عليه أحكاما يقرها العقل واملنطق وتكون
جمردة من األهواء واملصاحل الشخصية ويكون قد وصل إليها عن طريق نشاط ذهين طبيعي.377
واليقني الذي حيقق أعلى درجة من العدالة جيب أن يتسم بالثبات ،وثبات اليقني معناه إذا ما عرضت القضية اليت مت
التوصل فيها لدرجة معينة من اليقني من قبل القاضي ،على قاضي آخر أو ثالث أو رابع لوصلوا مجيعهم إىل نفس درجة
اليقني اليت وصل إليها القا :ي األول ،أو يصلوا إىل درجة قريبة منه خبصوص نفس القضية.
فاليقني الثابت هو يقني مشرتك بني مجيع القضاة أو معظمهم إذا ما تواجدوا بنفس الظروف واملالبسات خبصوص قضية
معينة ،وبعبارة أخرى هو القاسم املشرتك الذي جيمع بني جمموعة من القضاة خبصوص إدانة أو براءة شخص معني.378
وعليه ميكننا أن خنلص إىل أن اقتناع القاضي مير بعدة مراحل ذهنية تتمثل يف تفهم العقل ألدلة الواقعة حمل البحث،
الشيء الذي خيلق عند القاضي حالة من اليقني بصحة الواقعة وصواب قراره جتاهها ،واضعا أمام الكافة يف الوقت نفسه
معامل احلقيقة اليت أدركها.
وإن اقتناع القاضي يتكون أساس من نوعني من العناصر ،األوىل هي العناصر املوضوعية أي تلك املعطيات األساسية اليت
تتمثل يف أدلة الدعوى وما حتدثه يف الضمري من آثار ذات طبيعة إجيابية أو سلبية.
والثانية هي العناصر الذاتية اليت تكم ن يف خربة القاضي السابقة وقدراته الذهنية والعقلية على استيعاب تلك األدلة والبناء
عليها واستنباط كافة ما تتضمنه من آثر قادرة على خلق حالة اليقني لديه باإلضافة إىل بقية العوامل الذاتية األخرى اليت
متثل حبق جوهر االقتناع لديه.
والسؤال املطروح يف هذا املضمار هل لليقني القضائي وقتا ينشأ فيه؟ وما هي شروط الوصول إليه؟ وما هي خصائصه
وأوصافه.
.0وقت نشأة اليقين القضائي :إن حتديد وقتا لنشأة اليقني القضائي هي مسالة ال حيكمها ضابط معني ،ألن
االقتناع كما ا وضحنا هو حالة ذهنية ونفسية جوهرها رغبة التيقن عند القاضي ،لذلك فإن حتديد وقت بعينه لنشوء
اليقني داخل العملية القضائية يكون أمرا غري منطقي ،ألن يف احلقيقة القاضي منذ بدء نظر الدعوى – حىت منذ بدء
قراءته مللف القضية -وهو حياول اإلملام بكافة عناصرها وإدراك ما يعرض عليه من أدلتها.
فالقاضي خالل مراحل ممارسته إلجراءات الدعوى تتكامل وتتآزر لديه مقومات ذلك االقتناع وترتاكم عناصره يف ذات
الوقت الذي يعمل فيه ذهنه وعقله على استنتاج مسببات يقينية من مكونات الدعوى حبيث يصل األمر إىل الدرجة اليت
يستشعر فيها يقينه بثبوت الواقعة أو عدم ثبوهتا ،ولكن هذا ال يعين أهنا حلظة نشوء اليقني بل هي حلظةاكتماله.379
377
-د /هاليل عبد اإلله امحد ،الحقيقة بين الفلسفة ،مرجع سابق ،ص302 :
378
-د / /هاليل عبد اإلله امحد ،املرجع السابق ،ص302 :
379
-د /امحد ضياء الدين حممد ،مشروعية الدليل ،مرجع سابق ،ص011 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
فالقاضي إذن ومن خالل ما يطرح عليه من وقائع يقوم باستخالص الضروري منها واستخالص ما يعد صاحلا لتحقيق
الفروض القانونية ،وال ميكنه ذلك ما مل يبدأ بوضع تصور عقلي عما يفرتض انه من العناصر ذات األثر يف موضع الدعوى
ويتعني عليه يف ذات احلني أن يقتنع بصحة هذه الوقائع وثبوهتا قبل تكيفها بغية إعمال القانون عليها.380
وجيب اإلشارة هنا إىل أن التصور العقلي وإعمال ذهن وعقل القاضي ملا يعرض عليه من وقائع هو مرهون بعلم القاضي
ومبا يتمتع به من ثقافة قانونية ،حيث أن العملية الذهنية ال يتسىن لنا التحقق من مصداقيتها ومن سالمة مفهوم القاضي
هلا إال بانعكاسهما يف استخالصه هذه الوقائع من جمموع ما يعرض عليه وقناعته حياهلا.
.0شروط الوصول إلى اليقين :يقصد بشروط الوصول إىل اليقني القضائي هي تلك املقتضيات اليت ترتتب على وجودها
الوصول إىل مرحلة اليقني القضائي ،واليت ال يتصور وجوده بدون هذه الشروط ،فهي املدخل احلقيقي واملنفذ الطبيعي له.
وهذه الشروط هي:381
األول :الرغبة في الوصول إلى الحقيقة الواقعية :ختتلف تقديرات القضاة للواقعة اإلجرامية وصحة إسنادها ملرتكبيها،
وهذا يعود الختالف وسائل حبثهم عن حقيقتها ،كما ويعود لفهمهم ألدلة ارتكاهبا ،ونتيجة هذا االختالف تتباين
أحكامهم .ولكن هذا ال يعين تنوع حقيقة تلك الواقعة وحقيقة شخص مرتكبها ،ألن هدف العدالة يبقى دائما هو
الوصول إىل تلك احلقيقة.
فعملية اإلثبات يف مجلتها هتدف إىل إدانة املسيء وضمان محاية الربيء من خالل نظام يستطيع القاضي عن طريقة
التوصل إىل الكشف عن كافة عناصر الواقعة اإلجرامية كما حدثت على قدر اإلمكان.
من هنا تظهر لنا مدى خطورة وظيفة القاضي ملا حتدثه من آثار جسيمة يف مصائر األفراد واجملتمع ،فاجملتمع يبصر بعيين
القاضي لريى حقيقة الواقعة اإلجرامية حمل الدعوى والوقوف على شخصية املذنب.382
وقد أناط املشرع مهمة كشف احلقيقة للقاضي دون غريه (املادة 100من قانون املسطرة اجلنائية املغريب) ،وذلك من خالل
نشؤ حالة من اليقني لدى القاضي توضح مدى اطمئنان ضمريه بتوصله إىل تلك احلقيقة.
وعليه ميكن القول بان رغبة القاضي األكيدة يف الكشف والوصول إىل حقيقة الواقعة اإلجرامية تعترب املقدمة الرئيسية اليت
تعينه يف وصوله إىل تلك الغاية.
الثاني :عدم التحيز المسبق لرأي ما أو التجاه معين :املوقف املوضوعي هو شرط أساسي إلمكان وصول القاضي
حلالة اليقني املطلوب كأساس لصدور حكمه وعلة ذلك هو ضرورة فحصه لوقائع الدعوى املعروضة عليه بذهن خال
وبعيد عن التحيز ألي رأي أو اجتاه مسبق ،حىت ال تكون هناك إمكانية لتأييد ذلك الرأي وحىت ال يكون أسريا له وجيعله
يهدر كل ما خيالفه ومن مت يباعد يف النهاية بينه وبني إدراك احلقيقة ،فعلى القاضي أال يتأثر مبوقف احد طريف اخلصومة
380
-د /حامت بكا ،سلطة القاضي اجلنائي ،مرجع سابق ،ص121 :
-381مزيدا من التفاصيل عند
د /أمحد ضياء الدين حممد ،مشروعية الدليل ،مرجع سابق ،ص 011 :وما بعدها
د /حممود نصر ،السلطة التقديرية ،مرجع سابق ص 223 :وما بعدها
382
-د /أمحد ضياء الدين حممد ،مشروعية الدليل ،مرجع سابق ،ص012 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
من أول وهلة ،بل عليه أن يدرك دائما أن بإمكان الدفاع إن يدحض أدلة الثبوت أو أن حيدث العكس .كما أن التحيز
يدفع بالقاضي عن احليدة اليت هي عماد االطمئنان إىل ما يصدره من قضاء وما ينجزه من إجراءات ،383فعدم التحيز هو
إحدى الضمانات املهمة األساسية إلحقاق العدالة.
كما أن علة عد م التحيز املسبق تكمن يف جعل ذهن القاضي أن يكون دائما قادرا على تسجيل كل ما قد يتناوله أثناء
حبثه من أمور تتشابك فيما بينها مكونة معطيات إجيابية أو سلبية يعتمد عليها يف إصدار حكمه.384
فالتحيز املسبق لرأي معني يعد نقيضا حلرية القاضي يف البحث عن احلقيقة ويدفعه إىل أن يكون أسريا لذلك الرأي.
وجتدر اإلشارة يف هذا املقام إىل وجود فارقا بني التحيز املسبق لرأي عند القاضي وبني وضع االفرتاضات من قبله .فإذا
كان التحيز خيلق عند القاضي حالة تدفعه لتأييد الرأي الذي حتيز له والبحث من قبله عن كل ما يؤكده ،فإن وضع
االفرتاضات يهدف إىل جمرد وضع افرتاض نظري ما يزال يتأرجح بني الصدق والكذب واإلنكار والتأييد ،فوضع
االفرتاضات هو عبارة عن وضع صور حيتملها املوضوع املطروح عليه ،مث اختيار الصورة اليت يطمئن إىل تطابقها مع الواقعة
فعال ومن مث بيين حكمه عليها ،وهو ما أكدته حمكمة النقض املصرية حني قضت "بأن ال مطعن على احلكم أن يكون
عند استعراض تلك الصور قد بدا فيه مايدل على تردده يف االقتناع حبقيقة الصورة اليت وقعت هبا احلادثة ما دام انه قد
انتهى بعد ذلك بتأكيد اقتناعه بثبوت الوقائع املكونة للصورة اليت اختذها أساسا حلكمه ،إذ املعول عليه يف األحكام هو
385
اجلزء الذي يبدو فيه اقتناع القاضي دون غريه من األجزاء اخلارجة عن سياق ا القتناع"
ويتحقق احلياد أساسا حني يعتقد الناس يف قضاهتم ذلك ،أي بقدر ما يظن الناس فيهم ذلك ،ال بقدر ما يظنه القضاة
يف أنفسهم ،فحياد القاضي ليس جمرد إعتقاد يعتقده أو موقف يقفه.386
ومن بديهي القول بأن القاضي إن أراد الوصول إىل مرحلة اليقني فيجب عليه دائما أن يكون ملزما بعدم التحيز املسبق
لرأي معني.
الثالث :حسن ممارسة القاضي لدوره الكامل في العملية اإلثباتية :أساس وظيفة القاضي هو اجلانب القانوين ،ولكن
وكون وظيفة القاضي هلا طبيعة خاصة تتحدد فيها اجلوانب املختلفة ،فيكون عندها اجلانب االجتماعي واجلانب النفسي
ال يقالن أمهية عن اجلانب القانوين الذي هو أساس وظيفته .وذلك ألن القاضي اجلنائي ليس باحثا قانونيا رغم ما متثله
النصوص القانونية من أمهية مشرتكة بينها ،إذ تعد أساسا لوظيفة كالمها ،وكما يقال ليس القاضي اجلنائي إال طبيبا نفسيا
تقوم مهمته على هتذيب النفوس وإصالح ما هبا من عوج.387
فوظيفة القاضي ال تقتصر على جمرد القصاص وتوقيع اجلزاء ،فهو حبكم وظيفته أحوج الناس إىل الدراية بأسرار النفس
البشرية ومكوناهتا ،فهذه الدراية ترتك انعكاساهتا على فهم القاضي لنفسيته أوال ،ونفسية باقي أطراف الدعوى اجلنائية
-383د /عبد الواحد العلمي ،شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية ،اجلزء الثاين ،مطبعة النجاح اجلديدة ،0221ص.112 :
-384د /امحد ضياء الدين حممد ،شرعية الدليل ،مرجع سابق ،ص.011 :
385
-ننقض مصري -1123/2/21جمموعة املبادئ القانونية رقم -11السنة ،0ص01 :
مشار إليه عند د /حممود نصر ،السلطة التقديرية ،مرجع سابق ،ص221 :
386
-د /عوض حممد عوض ،المبادئ العامة ،مرجع سابق ص221 :
387
-د /حممد ضياء الدين حممد ،مرجع سابق ،ص222 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
ثانيا ،مث أخريا يف إدراكه وحسن تقديره ألدلة الدعوى ،ألنه من املؤمل أن يقوم القضاة مبحاكمة جرائم ال جمرمني ،فال يكفي
أن يهتم القاضي بتفسري النصوص وتطبيق العقوبات املقررة لكل جرمية فقط ،بل البد أن يهتم أيضا ،ويف كثري من
احلاالت ،بشخص املتهم والعوامل النفسيةواالجتماعية اليت دفعته الرتكاب اجلرمية ،فهذه العوامل تكون اهلادي و املرشد له
يف إقرار العدالة.388
ورغم أن ما سبق ال ميكن تعميمه حبق مجيع القضاة ،حيث انه أمر تعوزه الدقة ،إال أن مدلوله وأمهيته يكمنان يف أمهية
الدراسة النفسية بالنسبة للقاضي اجلنائي ،فمعرفة النفس متثل خطوة الزمة ملعرفة نفس الغري ،كما أن دراسة علم النفس
تعمل على حترير القاضي من تأثري نزاعاته الشخصية ،مما يكون له أثرا فعاال على ختليص عقيدته يف النهاية من الكثري مما
يعرتيها من هفوات النفس أو زالهتا.389
ولقد أدرك املشرع املغريب ما للعامل الذايت من التأثري يف وجدان القاضي حني أوجب عليه أن يقدم تصرحيا بذلك إىل
الرئيس األول جمللس األعلى او الرئيس األول حملكمة االستئناف وذلك يف ظروف معينة أورد بياهنا يف املادة 012من قانون
املسطرة اجلنائية.
ونعترب أن املشرع املغريب قد اعرتف مبا يسمى بظاهرة التقمص أو االندماج ،identificationمبعىن أن القاضي يف مثل
هذه احلالة سيتصور شخصه حمل اخلصماملشابه له ،ويتقمص شخصيته ويندمج فيها دون شعور أو وعي منه ،هذا
االعرتاف نستشفه من حاالت جتريح القاضي الوارد ذكرها يف املادة 012سالفة الذكر ،ومن عبارة "أو أي سبب آخر
لتنحيته" الوارد ذكرها يف املادة ، 012وعلة ذلك أن القاضي قد يتجه عطفه أو غله ،على الرغم منه ،حنو اخلصم فيقضي
له مبا يتمىن أن يقضي به لنفسه.
إن إحساس القاضي بأنه يقوم بواجبه القضائي هو شيء متليه أمهية وظيفته اليت يعد اليقني الركن الركني فيها ،فيقني
القاضي هو وليد عملية ذهنية ونفسية خمربها األساسي يكمن يف ضمريه ،لذلك فإنه من املنطقي أن يتمثل الطريق لتكوين
ذلك اليقني لديه يف إحساسه ومدى إدراكه لكافة إجراءات الدعوى ،ليست باعتبارها اجملرد وداللتها الصماء ،بل من
حيث ما تثريه من انعكاسات نفسية قادرة على خلق تلك العقيدة وإرساء ذلك اليقني لديه ،وإمهال ذلك اجلانب احليوي
يف وظيفة القاضي حيول دون إدراكه لغايته ويعوقه عن الصول إىل ذلك اليقني.
الرابع :إتباع مراحل التسلسل العقلي والبحث المنطقي في تناول وتمحيص األدلة :إلمكان وصول القاضي اجلنائي
إىل حالة اليقني البد له أن يقوم بسلسلة من العمليات العقلية اليت متكنه من وزن األدلة وحسن تقديرها ،ليستخلص منها
يف النهاية العناصر القادرة على خلق حالة اليقني لديه .وهذا أمر طبيعي مرده أن جوهر اليقني ومضمونه يكمن أساسا يف
سلسلة من املراحل الذهنية والنفسية تظهر يف تفهم العقلورضاء الضمري واستشعار اليقني مث إظهار االقتناع واإلعالن عنه
بأمل الوصول يف النهاية إىل احلقيقة.390
-388حممد فتحي ،علم النفس الجنائي -علما وعمال ،اجلزء األول ،مرجع سابق ،ص 112 :وما بعدها
389
-حممد فتحي ،املرجع السابق ،ص013 :
-390د /أمحد ضياء الدين حممد ،مشروعية الدليل ،مصدر سابق ص.211 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
هذا النشاط الذهين الذي ميارسه القاضي حنو أدلة الدعوى هبدف الوصول إىل اليقني املنشود يتناقض متاما مع اإلنطباعات
العاطفية والسطحية العابرة ألن هذه األخرية ال ترقى إىل مستوى اليقني من حيث قدرهتا على التأثري يف القاضي موضوعيا
وتزويده بأسباب حكمه ،فهي جمرد مشاعر نفسية أو عاطفية مل تستند يف كليتها إىل تلك املقدمات الذهنية الناجتة عن
قيام العقل بدوره يف االستدالل واالستنتاج ،باإلضافة إىل أن اعتماد اليقني أساسا على النشاط الذهين هو مدعاة جللب
الثقة يف نتائجه واالطمئنان إىل كافة أحكامه.391
وتتلخص خطوات االستدالل يف قيام القاضي بإدراك الواقعة حمل اإلثبات ،واإلحاطة بكافة عناصرها ،مع ما يقتضيه ذلك
من قيامه بتحديد أبعادها ومجع كافة بياناهتا مث تنظيمها وترتيبها ،وبعد ذلك االنتقال إىل املرحلة الثانية اليت تستلزم فيه
فرض الفروض املختلفة اليت تفرتض حدوث الواقعة ،مث تأيت املرحلة الثالثة اليت تتلخص يف حماولة تنقية هذه الفروض
واستبعاد الغري منطقي فيها ،ليبقى ما يقبل منها التحقق .وهذا يفرض عليه ضرورة أن يبدأ يف ذلك التحقق العقالين
والبحث عن كل ما يثنيه ويؤكده أو ينفيه ويستبعده دون حتيز أو إنفعال ليتسىن له من خالل ذلك النشاط الذهين التوصل
إىل حالة اليقني القضائي املعقول .392فخطوات القاضي تتسلسل إذن بني اإلطالع واإلملام ،فالبحث واالستقصاء ،مث
الفحص والتدقيق ،فاالستنباط واالستخالص.ليبدأ دوره يف التأثر واالقتناع ،لينتقل بعد ذلك إىل التدليل والتعليل.
الخامس :التعويل على األسباب واألدلة القضائية :يقصد بذلك الشرط ،اعتماد القاضي يف استيفائه ليقينه على أدلة
قضائية مستمدة أساسا من أوراق الدعوى ،ويعد هذا الشرط ضمانة أكيدة للعدالة حىت ال حيكم القاضي اجلنائي
مبعلوماته الشخصية أو بناء على رأي الغري .393باإلضافة إىل ذلك فإنه يشرتط ضرورة طرح الدليل باجللسة حىت تتاح
الفرصة الكاملة لكافة األطراف ليتفحصوه وميحصوه ليستطيعوا تفنيده أو تأييده.
كما ويشرتط بالدليل أن يكون موضوعيا حىت ميكن أن تتحقق به حالة اليقني املطلوبة ،فاليقني وإن كان إحساسا
شخصيا إال أنه موضوعي األسباب.
:3خصائص اليقين :من خالل ما سبق ميكن استنباط أهم اخلصائص اليت تتميز هبا حالة اليقني القضائي فهي تتمثل بـ:
أوال :الطبيعة املزدوجة واملختلطة بني الذاتية واملوضوعية ،فاليقني القضائي ذايت اإلحساس وموضعي األسباب.
ثانيا :يتصف اليقني القضائي بالنسبية ،ألن نتائجه ليست مطلقة وهذا بسبب التقدير الذايت للمسببات املوضوعية
اليت ميكن أن تؤدي إىل االختالف والتنوع يف التقدير من قاض إىل آخر.
ثالثا :هو يقني عقالين وهذا بسبب مقدماته العقلية ،وما ميارسه القاضي من أجل الوصول إليه من نشاط ذهين طبيعي
الخالصة :وخنلص إىل إن احلقيقية القضائية ال تدرك مباشرة ،وإمنا يتم التوصل إليها من تدقيق ومتحيص أدلة اإلثبات،
فهي ليست شيء مطلق ولكنها نشاط ذهين موضوعي ،لذلك فإن احلقيقة اليت يعلنها احلكم اجلنائي ال يلزم دوما أن
تكون هي ذاهتا احلقيقة املطلقة فهي نسبية.
391
-على راشد ،مرجع سابق ،ص121 :
392
-امحد ضياء الدين حممد ،مشروعية الدليل ،مرجع سابق ،ص211 :
393
-أمحد فتحي سرور ،الشرعية واإلجراءات الجنائية ،اجلزء األول ،مرجع سابق ،ص222 :
خالد محد القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية العدد الثالث .ربيع
كما أن عملية تكوين القناعة تستلزم االستدالل الدقيق واحلذر لوقائع الدعوى وظروفها احمليطة من قبل القاضي اجلنائي
الذي جيب أن يكون على قدر عال من اإلدراك والدقة والرتوي والذكاء واملنطق السليم واملنهجية املنتظمة فالقناعة
القضائية هي املرتكز الذي تقوم عليه سلطته التقديرية يف جمال تقدير األدلة ،فهي عنوان احلقيقة وحمل ثقة اخلصوم والكافة
طاملا أحيطت بالضمانات الكافية.
الئحة المراجع:
.1أمحد اخلمليشي ،شرح قانون المسطرة الجنائية ،اجلزء الثاين ،الطبعة اخلامسة ،مطبعة املعارف اجلديدة ،الرباط .0221
.0أمحد ضياء الدين حممد ،مشروعية الدليل في المواد الجنائية –دراسة تحليلية مقارنة لنظريتي اإلثبات والمشروعية
في مجال اإلجراءات الجنائية ،دار النهضة العربية ،طبعة .0212
.2أمحد فتحي سرور ،الوسيط في اإلجراءات الجنائية ،اجلزء االول ،مطبعة جامعة القاهرة .1111
.1بنفس املعىن د /آمال عبد الرحيم عثمان ،النموذج القانوني للجريمة ،جملة العلوم القانونية واالقتصادية ،العدد األول
يناير ،1110السنة الرابعة عشر.
.2حسن صادق املرصفاوي ،ضمانات المحاكمة في التشريعات العربية ،مطبعة حمرم بك -اإلسكندرية ،سنة .1112
.3رءوف عبيد ،ضوابط تسبيب األحكام الجنائية ،دار اجلليل للطباعة ،الطبعة الثالثة .1113
.1عبد الواحد العلمي ،شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية ،اجلزء الئاين ،مطبعة النجاح اجلديدة .0221
.1عوض حممد عوض ،المبادئ العامة في قانون االجراءات الجنائية-،منشأة املعارف ،االسكندرية.
.1فاضل زيدان حممد ،سلطة القاضي في تقدير األدلة ،دار الثقافة للنشر والتوزيع-عمان .0212
.12كمال عبد الواحد اجلوهري ،تأسيس االقتناع القضائي والمحاكمة الجنائية العادلة ،دار حممود للنشر والتوزيع .1111
.11مأمون حممد سالمة ،قانون اإلجراءات الجنائية معلقا عليه بالفقه وأحكام النقض ،دار الفكر العريب ،الطبعة األوىل1112 ،
.10حممد بازي ،سلطة القاضي في تقدير االعتراف الجنائي في القانون المغربي المقارن ،اجمللة املغربية للدراسات القانونية
والقضائية ،عدد 1أكتوبر .0212
.12حممد زكي أبو عامر ،شائبة اخلطأ اجلنائي ونظرية الطعن فيه رسالة دكتوراه جامعة اإلسكندرية .1111
.11حممد عبد الشايف ،مبدأ حرية القاضي في االقتناع -دراسة تحليلية وتأصيلية مقارنة،طبعة .1110
.12حممد جنيب حسين ،شرح قانون اإلجراءات اجلنائية ،دار النهضة العربية ،القاهرة .1131
.13حممود مصطفى ،اإلثبات في المواد الجنائية في القانون المقارن-اجلزء االول ،الطبعة االوىل ،مطبعة جامعة القاهرة
.1111
.11ننقض مصري -1123/2/21مجموعة المبادئ القانونية رقم -02السنة .0
.11هاليل عبد اهلل امحد ،الحقيقة بين الفلسفة العامة واإلسالمية وفلسفة اإلثبات الجنائي ،دار النهضة العربية .1111
.11وجدي راغب ،النظرية العامة في العمل القضائي ،دار املعارف ،االسكندرية .1111
مراجع بالفرنسية:
1 Caudement yves- les méthodes du juge administratif Paris 1 2, p 1 .
2 Mohamed Jalal el ssaid, la présomption d’innocence, Edition la porte, Rabat 1 1
Aly rached: De la intim convicion du juge –these editions A.podon-Paries1942