aysssi,+Article12

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 16

‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .

‬ربيع‬

‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬


‫*‬
‫خالد حمد‬

‫المقدمة‪ :‬إن اهلدف األساسي من ممارسة القاضي لسلطته يف جمال تقدير األدلة هو الوصول إىل احلقيقة‪ ،‬وفيما إذا كان‬
‫من املمكن أن يتحول الشك املفرتض إىل يقني قائم‪.‬‬
‫من املعروف أن التحقيق االبتدائي يسعى يف املقام األول إىل مجع األدلة وتقديرها تقديرا أوليا‪ ،‬أما مرحلة احملاكمة فتهدف‬
‫أساسا إىل متحيص األدلة وتقديرها بصفة هنائية‪ ،‬وعليه جيوز القول بأن الشك يف مرحلة التحقيق االبتدائي يفسر أحيانا‬
‫ضد مصلحة املتهم‪ ،‬أما يف مرحلة التحقيق النهائي فيفسر الشك ملصلحته وبقوة القانون‪.‬‬
‫القول أعاله صحيح يف اجلملة ‪ ،‬ألنه إذا رجحت أدلة إدانة املتهم بعد انتهاء التحقيق االبتدائي فهذا يكون كافيا لرفع‬
‫الدعوى اجلنائية ضده‪ ،‬مع أن الرجحان ال ينفي الشك متاما‪ ،‬بل يتسع لقدر منه‪ ،‬أما حكم اإلدانة فال يبىن إال على‬
‫اليقني‪ ،‬وهلذا يكون صحيح القول بأن الشك ال مينع سلطة االهتام من رفع الدعوى‪ ،‬لكن الشك –أيا ما كان قدره‪ -‬يعد‬
‫مانعا لإلدانة وموجبا حبكم بالرباءة أثناء نظر الدعوى أمام قاضي املوضوع‪.340‬‬
‫وزيادة يف اإليضاح نشري إىل أن االهتام يبدأ عادة بالشك فيما إذا كان املتهم قد ارتكب اجلرمية‪ ،‬وقاضي املوضوع بعد‬
‫ذلك يستهدف أساسا متحيص هذا الشك وحتري الوقائع اليت نتج عنها‪ ،‬ليصل إىل حكمة فيما إذا كاهنذا الشك قد حتول‬
‫إىل يقني بىن عليه اإلدانة‪ ،‬أم أن ما لديه من أدلة ال تكفي للوصول على هذا اليقني وعندئذ يبقى الشك قائما ومعه‬
‫تستحيل اإلدانة‪.341‬‬
‫ومعىن ذلك أن الشك أو الشبهة هي نقطة االنطالق يف اإلجراءات اجلنائية‪ ،‬ومنذ ارتكاب الواقعة يكفي جمرد الشك‬
‫لالستمرار يف اإلجراءات ضد املتهم‪ ،‬حيث أن الشبهة يف مرحلة االهتام –االستدالل‪ -‬تكفي لرتجيح جانب االهتام‪،‬‬
‫وكذلك مرحلة التحقيق االبتدائي‪ ،‬فإن هذا الشك القائم يف صاحل االهتام‪ ،‬والذي بناء عليه اختذت اإلجراءات ضد املتهم‪،‬‬
‫ي كون قابال ألن يتالشى أو يتضاعف‪ ،‬وذلك ألن سلطة التحقيق االبتدائي مكلفة أساسا بالبحث عن األدلة اليت تفيد يف‬
‫الكشف عن احلقيقة على حنو إما ينتهي بتعزيز الشك أو الشبهة أو بنفيهما‪ ،‬فإذا تعززت الشبهة انقلبت إىل احتمال وهو‬
‫أمر يعين تضاعف فرص الرتجيح يف صاحل االهتام‪ ،‬وعندئذ حتال الدعوى إىل احملكمة للفصل فيها وعليه تعمل احملكمة‬
‫على استبعاد كل فرص الشك يف ثبوت اجلرمية ونسبتها للمتهم‪ ،‬والقاعدة أن الشك يف مرحلة االهتام يفسر ضد املتهم‬
‫بينما يف مرحلة احلكم يفسر يف صاحله‪.‬‬

‫*طالب دكتوراه‪ ،‬ختصص القانون الدويل العام والعلوم السياسية ‪ /‬جامعة حممد األول‪ ،‬كلية احلقوق وجدة >‪<Khaledhamad631@gmail.com‬‬
‫‪ -340‬د‪/‬عوض حممد عوض‪ ،‬المبادئ العامة في قانون االجراءات الجنائية‪-،‬منشأة املعارف‪ ،‬االسكندرية‪ ،‬ص‪.210 :‬‬
‫‪ -341‬د‪/‬فاضل زيدان حممد‪ ،‬سلطة القاضي في تقدير األدلة‪ ،‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪-‬عمان ‪ ،0212‬ص‪.122 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫وهنا يكون احلكم قد جاء بناء على اقتناع قاضي املوضوع ويكون خاليا من الشك والتخمني ومبنيا على اجلزم واليقني‪،‬‬
‫وهذا مبدأ عاما يسود قوانني اإلجراءات اجلنائية عموما‪ ،‬ومنها التشريع املغريب الذي نص يف قانون املسطرة اجلنائية يف املادة‬
‫(‪ )013‬على أن "حيكم القاضي حسب اقتناعه الصميم" وأكدته حمكمة النقض بقرارها عدد ‪ 11‬تاريخ ‪ 11‬نونرب ‪1112‬‬
‫بقوله‪" :‬األحكام اجلنائية تبىن على اجلزم واليقني ال على جمرد الشك والتخمني"‪.‬‬
‫من العرض السابق ميكن أن نستخلص أن األساس الذي تقوم عليه عملية تقدير الدليل وفقا للقناعة القضائية يتوجب أن‬
‫تقوم على اليقني‪.‬‬
‫إذن ماهو املدلول القانوين القتناع القاضي؟ وكيف يكون القاضي قناعته؟ وكيف يصل إىل اليقني؟ وماهي درجة اليقني اليت‬
‫تتطلبها األحكام اجلنائية؟ وهل لليقني شروط جيب أن تتوافر فيه؟ وهل يوجد فرق بني اليقني واالقتناع؟‬
‫للوقوف على إجابة هلذه التساؤالت‪ ،‬وحماولة اإلحاطة مبدلول القناعة القضائية سنتعرف على ماهيتها وأسسها( أوال)‬
‫وطريقة تكوينها واستقرار اليقني القضائي (ثانيا)‪.‬‬
‫أوال‪ :‬ماهية وأسس القناعة القضائية‪ :‬االقتناع يقصد منه التوصل ألحد أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬هو إذعان القاضي وتسليمه بنشوء حق الدولة يف معاقبة املتهم (يف حالة ثبوت اجلرمية اليقيين)‬
‫والثاني‪ :‬هو إذعانه وتسليمه بعدم نشوء حق الدولة يف معاقبة املتهم ويكون ذلك يف حالة عدم ثبوت اجلرمية أو‬
‫الشك يف وقائعها أو يف نسبتها للمتهم‪.342‬‬
‫فإذا كان االقتناع القضائي بنشوء حق الدولة يف معاقبة املتهم إذا متت إدانته بأيت نقضا وهدما ألصل الرباءة يف املتهم‪ ،‬فإن‬
‫ذلك يستوجب أن يصل االقتناع إىل حد اجلزم‪ ،‬كما أنه من جهة أخرى يعترب االقتناع باإلدانة أو الرباءة هو استخالص‬
‫هلما –الرباءة أو اإلدانة‪ -‬من عناصر اإلثبات املطروحة على بساط البحث كإستخالص النتائج من املقدمات‪ ،‬األمر الذي‬
‫يستوجب تواؤم هذا االستخالص مع مقتضيات العقل واملنطق‪.343‬‬
‫وللوق وف على ماهية وأسس القناعة القضائية يقتضي ذلك تبيان أوصاف هذا املبدأ أوالكما يقتضي منا كذلك تبيان‬
‫أساس وطبيعة هذا املبدأ‪ ،‬كما تناوهلا الفقه القانوين وذلك بغية توضيح حقيقة هذا املبدأ‪ ،‬حيث أنه ميكن القاضي من‬
‫استخالص عناصر اقتناعه من أي دليل يطمئن إليه طاملا له مأخذه الصحيح من األوراق‪ ،344‬وقيامه على أساس قانوين‬
‫صحيح‪.345‬‬
‫فإذا كان هذا املبدأ يعين حرية القاضي اجلنائي يف تقديره لألدلة املعروضة عليه‪ ،‬أي أن له احلرية يف أن خيتار األدلة اليت‬
‫يعول عليها‪ ،‬وأن يستفي مصادر اقتناعه من أي دليل دون إلزامه باالستهداء بدليل دون آخر‪ ،‬فإن املبدأ هبذا املعىن يدخل‬ ‫ٌ‬

‫‪ -342‬د‪/‬كمال عبد الواحد اجلوهري‪ ،‬تأسيس االقتناع القضائي والمحاكمة الجنائية العادلة‪ ،‬دار حممود للنشر والتوزيع ‪ ،1111‬ص‪.11 :‬‬
‫‪ -343‬د‪/‬حممد عبد الشايف‪ ،‬مبدأ حرية القاضي في االقتناع‪ -‬دراسة تحليلية وتأصيلية مقارنة‪ ،‬طبعة ‪ ،1110‬ص‪.121 :‬‬
‫‪ -344‬د‪/‬أمحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل في المواد الجنائية –دراسة تحليلية مقارنة لنظريتي اإلثبات والمشروعية في مجال اإلجراءات الجنائية‪ ،‬دار‬
‫النهضة العربية‪ ،‬طبعة ‪ ،0212‬ص‪.033 :‬‬
‫‪ -345‬د‪/‬رءوف عبيد‪ ،‬ضوابط تسبيب األحكام الجنائية‪ ،‬دار اجلليل للطباعة‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ ،1113‬ص‪.111 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫يف نطاق مبدأ حرية اإلثبات باعتباره املنظم لنظام اإلثبات يف املواد اجلنائية بصورة عامة‪ 346‬وإمنا ما نود التطرق إليه بالشرح‬
‫هو ما يتعلق حبقيقة ومدى اقتناع القاضي باعتباره اخلطوة التالية ملسألة اختيار كافة األطراف للدليل اجلنائي الواجب‬
‫تقدميه يف الواقعة حمل اإلثبات‪ ،‬حيث يأيت دور القاضي لفهم ومتحيص وحتليل ودراسة الدليل املعروض عليه الستلهام يقينه‬
‫منه‪ ،‬وذلك لالستعانة به يف هناية األمر يف بناء عقيدته اليت هي أساس حكمه ودعامته الرئيسية‪.‬‬
‫‪ :0‬أوصاف مبدأ االقتناع‪ :‬قد وصف هذا املبدأ "بقاعدة حرية القاضي يف تكوين اقتناعه"‪ 347‬فهل وصف اقتناع القاضي‬
‫يف ذاته باحلرية يعرب عن جوهر هذا املبدأ أو يفسر داللته احلقيقية؟‬
‫يف الواقع إن القاضي اجلنائي يستلهم عناصر اقتناعه ومكونات هذا االقتناع من أي دليل‪ ،‬ولكن بشرط أن يكون الدليل‬
‫مشروع وقد طرح أمامه ومتت مناقشته باإلضافة إىل ذلك أوجب املشرع على القاضي تسبب حكمه‪ ،‬وأن يكون اقتناعه‬
‫قائما على املنطق والعقل‪ ،‬فمع هذه الشروط يصبح وصف االقتناع باحلرية هي مسألة حمل نظر‪ ،‬خاصة أن القيود أو‬
‫الضوابط أو االستثناءات اليت حتد من حرية القاضي يف تكوين اقتناعه وعقيدته‪ ،‬قد متليها االعتبارات اخلاصة حبماية حق‬
‫املتهم بالدفاع أو الرغبة يف منع التحكم الذي قد يؤدي إليه اإلسراف يف االطمئنان إىل نتائج هذا املبدأ‪.348‬‬
‫ويوصف املبدأ أيضا "باالقتناع الذايت للقاضي" وذلك للداللة على قيام القاضي باحلكم يف دعواه وفقا ملا ميليه عليه ضمريه‬
‫بواسطة أدلة يستشعر منها قدرته على توليد وتكوين يقينه بثبوت االهتام ضد املتهم‪.349‬‬
‫كما يوصف هذا املبدأ "بالوجداين"‪ ،350‬حيث يكون اقتناع القاضي اجلنائي مرتوكا لوجدانه واطمئنانه الداخلي بثبوت‬
‫الواقعة املعروضة عليه أو عدم ثبوهتا‪.‬‬
‫وهذا الوصف يوضح الطبيعة الداخلية لالقتناع باعتباره أساسا عملية وجدانية شخصية حتدث آثارا يف وجدان القاضي‬
‫جتعله يف حالة يستطيع مبقتضاها النطقبحكمه‪.‬‬
‫وهذا الوصف قد ال يكون كافيا أيضا للتعبري عن حقيقة وجوهر االقتناع ذلك ألن االقتناع يف حد ذاته‪ -‬دون أي وصف‬
‫له‪ -‬ال يكون إال داخليا ونابعا من ذات الشخص‪ ،‬فال يعقل لذلك أن ينشأ االقتناع من غري ذات القاضي أو فرضه عليه‬
‫من اخلارج أي من ذات أخرى غري ذاته‪ ،‬وهو ما أكدته عبارة "اقتناعه الصميم" اليت وردت يف املادة ‪ 013‬من ق‪.‬م‪.‬ج‪.‬م‬
‫فلفظ "صميم" يفيد أن االقتناع جيب أن يكون ذاتيا نابعا من "صميم" معتقد القاضي‪ ،‬وال ميكن أن يكون مفروضا عليه‬
‫من خارج ذاته‪ ،‬لذلك فإن وصف اقتناع القاضي اجلنائي بأنه داخلي أو باطين أو وجداين‪ ،‬ال يضيف إليه وصفا كان‬
‫ينقصه ألهنا أوصاف ال تعرب عن كل حقيقته وإمنا هو وصفا يبني ويوضح أساسا وعاء االقتناع‪ .351‬كما أن االرتياح‬

‫‪ -346‬د‪/‬أمحد ضياء الدين حممد‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.033 :‬‬


‫‪347‬‬
‫‪ -‬د‪/‬رءوف عبيد‪ ،‬ضوابط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪211 :‬‬
‫‪ -348‬د‪/‬مأمون حممد سالمة‪ ،‬قانون اإلجراءات الجنائية معلقا عليه بالفقه وأحكام النقض‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬الطبعة األوىل‪ 1112 ،‬ص‪ 123 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪349‬‬
‫‪-Aly rached: De la intim convicion du juge –these editions A.podon-Paries1942-p139‬‬
‫‪ -350‬د‪/‬أمحد اخلمليشي‪ ،‬شرح قانون المسطرة الجنائية‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬الطبعة اخلامسة‪ ،‬مطبعة املعارف اجلديدة‪ ،‬الرباط ‪ ،0221‬ص‪.131 :‬‬
‫‪ -351‬د‪/‬أمحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.031 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫واالطمئنان الذي يوصف به القناعة جيب أن يكون قد استقام على أدلة من شأهنا أن تفضي إىل ذلك وفقا ملقتضيات‬
‫العقل واملنطق‪.352‬‬
‫من هنا ميكن القول بأن وصف االقتناع بالعقلي أو العقالين هو وصف يصيب جوهر هذا املبدأ على اعتبار أن حقيقة ما‬
‫ميارسه القاضي من عملية ذهنية جتاه ما يقدم إليه من أدلة يف الدعوى تنشأ أصال من وعيه وإدراكه لكافة أدلة الدعوى‪.‬‬
‫‪ :0‬طبيعة القناعة القضائية‪ :‬ذهب الفقه يف اجتاهات متعددة يف تفسري طبيعة االقتناع الواجب توافره لدى القاضي‬
‫فاعتربه البعض‪ 353‬جمرد رأي قضائي يبديه القاضي يف قيمة الدليل املعرض عليه‪ ،‬ويف موضع آخر يف الفقه‪ 354‬يشكل‬
‫االقتناع منطقة وسط بني "االعتقاد" املبين على أسباب شخصية و"اليقني" الذي يستوي على أسباب كافية من الناحية‬
‫الشخصية واملوضوعية إنه ينطلق من االعتقاد ليتجه إىل اليقني‪ ،‬يتفوق على االعتقاد يف وضعيته‪ ،‬أي استقامته على أدلة‬
‫وضعية‪ ،‬وخيتلف عن اليقني يف استقامته على تسبيب ليس صارما مائة يف املائة‪ ،‬ويدع وراءه قدرا من االحتمالية‪ ،‬فاقتناع‬
‫القاضي هو يف حقيقته اعتقاد يقوم أساسا على أسباب شخصية صحت لديه‪ ،‬لكنها ال تصح لدى غريه –وحسب هذا‬
‫الرأي فإن ذلك ما يفسر االكتفاء باألغلبية يف إصدار احلكم‪ -‬لكنه يتفوق على االعتقاد يف استقامته على أدلة موضوعية‬
‫تقربه من اليقني‪ ،‬لكنه ليس يقينا الستقامته على تسبيب وقبول والتسبيب هو باألكثر أمر شخصي ال يتسم بصرامة‬
‫اليقني‪ .‬وهذا ‪-‬عند أصحاب هذا الرأي‪ -‬ما يفسر استحالة اشرتاط اإلمجاع لصدور احلكم واستحالة اشرتاط أن يكون‬
‫اقتناع قاضي املوضوع كافيا حلمل حمكمة النقض على االقتناع هي األخرى‪ ،‬وألن هذا االقتناع من جهة أخرى ال جيري يف‬
‫فلك قانوين فإنه يفلت متاما من رقابة حمكمة النقض وهذا ما يسلم به الفقه وقضاء النقض‪.‬‬
‫وهناك رأي فقهي آخر‪ 355‬يقضي بأن االقتناع الذايت للقاضي الواحد يظل يف تطور مستمر أثناء نظر الدعوى بني الصعود‬
‫واهلبوط‪ ،‬ويف هذا الرأي فإن اليقني القضائي عند القاضي يظهر دفعة واحدة‪ ،‬فكل إضافة جديدة ألدلة الدعوى تؤدي إىل‬
‫حتسن يطرأ على اقتناع القاضي وبالعكس‪ ،‬فإن كل حذف لدليل من أدلة اإلثبات أو إضافة لدليل من أدلة النفي يؤدي‬
‫إىل إضعاف هذا االقتناع‪ ،‬وهذا الشيء يؤدي بالقاضي ‪-‬على حسب الظروف‪ -‬أن يعدل من صيغة اقتناعه اليت سبق أن‬
‫حددها واالقتناع يف هذا الرأي هو بطبيعته تقريبيا ألن القاضي ال ميكنه وال يستطيع أن يتحقق من مجيع الشروط والعناصر‬
‫اليت يتوقف عليها صدق اقتناعه ومطابقته للوقائع‪ ،‬فهو ال ميكنه التأكد من أنه مل ينس شرطا أو عنصرا جوهريا يتوقف‬
‫عليه صدق وواقعية االقتناع‪ ،‬وال ميكنه التأكد من حصر الوقائع واملعاين القانونية حصرا جامعا مانعا‪ ،‬فإنه مهما بلغ من‬
‫الدقة ومهما اتبع من مناهج علمية قائمة على املالحظة واملشاهدة اليت تتم عن طريق احلواس‪ ،‬ومهما حرص على أن‬
‫يتحقق من توافر مجيع الشروط اجلوهرية القتناعه‪ ،‬فإن قصارى ما يستطيع اجلزم به هو أنه مىت حتققت بعض الشروط‬
‫اخلاصة فمن احملتمل أن حيدث اقتناعه على درجة التقريب‪ ،‬وقد تكون درجة االحتمال كبرية جدا لكن دون أن تبلغ أبدا‬
‫مبلغ اليقني‪ ،‬والقاضي نفسه ال جيهل أن االقتناع الذي حيصله هو اقتناع نسيب ألنه يعتقد أنه لن يصل يوما إىل احلقيقة‬

‫‪ -352‬د‪ /‬علي راشد‪ ،‬رسالة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.121‬‬


‫‪-353‬د‪/‬وجدي راغب‪ ،‬النظرية العامة في العمل القضائي‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬االسكندرية ‪ ،1111‬ص‪.231 :‬‬
‫‪354‬‬
‫‪ -‬د‪/‬حممد زكي أبو عامر‪ ،‬اإلثبات في المواد الجنائية‪ ،‬محادثة فقهية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.121 :‬‬
‫‪ -355‬د‪/‬كمال اجلوهري‪ ،‬تأسيس االقتناع القضائي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.121 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫املطلقة وأن اقتناعه خالل ممارسة احملاكمة ميكن تعديله دائما باقتناع أكثر أو أقل دقة من سابقه إذا ما ظهرت أدلة أخرى‬
‫حبسب الظروف‪ ،‬ومع ذلك فإن اقتناعه الذايت األخري سيظل تقريبيا‪.‬‬
‫كما أن هذا االجتاه الفقهي فرق بني مبدأ "االقت ناع الذايت" للقاضي اجلنائي وبني مبدأ "االقتناع اليقيين" للقاضي‪ ،‬ويف‬
‫تفسري ذلك أنه جيب التمييز بني نوعني للحقيقة الواقعية اليت يسطرها القاضي يف احلكم اجلنائي الصادر باإلدانة‪ ،‬فالنوع‬
‫األول وهو "حقيقة الواقعة" وتبوث نسبتها للمتهم‪ ،‬فإنه يتصل هبذه احلقيقية ويالزمها مبدأ "االقتناع الذايت" للقاضي‬
‫اجلنائي‪ .‬والنوع الثاين هو" حقيقة اإلدانة" ويتصل هبذه احلقيقة وحيكمها يف اإلثبات مبدأ االقتناع اليقيين "للقاضي بتبوت‬
‫اإلدانة‪.356‬‬
‫ويرى هذا االجتاه أن اخللط بني املبدأين‪ -‬االقتناع الذايت واالقتناع اليقيين – واخللط بني احلقيقتني‪ -‬حقيقة الواقعة وحقيقة‬
‫اإلدانة‪ -‬هو أمر غري جائز ألن هناك فرق بني درجيت االقتناع وفرق بني طبيعة احلقيقتني‪ ،‬فكل نوع من نوعي احلقيقة‬
‫السابقتني يرتبط به ويتالزم معه وحيكمه "درجة معينة من االقتناع" ختتلف عن الدرجة اليت حتكم النوع اآلخر فاحلقيقة‬
‫اخلاصة بوقوع اجلرمية وثبوت نسبتها إىل املتهم حيكمها مبدأ "االقتناع الذايت للقاضي" بينما احلقيقة اخلاصة باإلدانة‬
‫حيكمها مبدأ آخر أو درجة أخرى من االقتناع أال وهو مبدأ "االقتناع اليقيين" للقاضي‪.‬‬
‫وهناك اجتاه آخر‪ 357‬يرى بأن القناعة هي نوعا من نفاذ البصرية ملعطيات اخلصومة الواقعية والقانونية ويكون على درجة‬
‫من الوضوح حبيث يبدو متقاربا من املعاين األخالقية واجلمالية الفنية‪.‬‬
‫وبعض الفقه‪ 358‬اعترب القناعة يقينا وميز بني أنواع خمتلفة لليقني فمنها اليقني احلدسي املبين على البداهة‪ ،‬واليقني‬
‫االستقرائي الذي ينتج عن التحليل واالستبيان واليقني املعنوي وهو الذي تقوم عليه القناعة القضائية والذي يعد حالة‬
‫ذهنية تستنتج من الوقائع املعروضة على بساط البحث احتماالت ذات ثقة عالية من اليقني الذي يصل إليه القاضي‬
‫نتيجة استبعاد أسباب الشك بطريقة قاطعة‪.‬‬
‫كما يذهب جانب آخر من الفقه‪ 359‬إىل القول بأن اليقني القضائي الذي ينبغي أن تقوم عليه األحكام اجلنائية ليس هو‬
‫اليقني باملعىن الفلسفي أو اللغوي‪ ،‬كحالة نفسية وذهنية تلتصق فيها حقيقة الشيء يف الذهن على حنو ال تثري شكاوال‬
‫حتتمل جهال وال غلطا‪ ،‬بل هو يقني قائم على تسبيب وأدلة وضعية‪ ،‬لذلك فهو يقني تقرييب‪ ،‬يوصف يف العلم بأنه اقتناع‬
‫وهو حالة ذهنية تتوفر فيها لدى القاضي من األدلة الوضعية ما يكفي إلذعانه بالتسليم بثبوت الواقعة كما أثبتها يف‬
‫حكمه‪.‬‬

‫‪ -356‬د‪/‬كمال اجلوهري‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.121 :‬‬


‫‪357‬‬
‫‪Caudement yves- les méthodes du juge administratif Paris 1 2, p 1‬‬
‫مشار إليه عند د‪ /‬فاضل زيدان حممد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.112 :‬‬
‫‪ -358‬د‪/‬أمحد فتحي سرور‪ ،‬الوسيط في اإلجراءات الجنائية‪ ،‬اجلزء االول‪ ،‬مطبعة جامعة القاهرة ‪ ،1111‬ص‪.222 :‬‬
‫‪ -‬د‪/‬حممد جنيب حسين‪ ،‬شرح قانون اإلجراءات اجلنائية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة ‪ ،1131‬ص‪.103 :‬‬
‫‪ -359‬د‪/‬حممد زكي أبو عامر‪ ،‬اإلثبات في المواد الجنائية‪ -‬محاولة فقهية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.121 :‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬حممد زكي أبو عامر‪ ،‬شائبة اخلطأ اجلنائي ونظرية الطعن فيه رسالة دكتوراه جامعة اإلسكندرية ‪ ،1111‬ص‪.12 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫من كل ما سبق يتضح لنا وجود عدة تصورات ملبدأ القناعة عند القاضي اجلنائي وهذه التصورات ميكن القول عنها أهنا‬
‫تتسم باخللط‪ .‬فكما رأينا يع تربها البعض جمرد "رأي" وهذا الشيء يتناىف مع أساس القناعة القضائية واليت تقوم على قواعد‬
‫عقلية علمية ومنطقية‪ ،‬فالرأي هو وجهة نظر قد تكونعابرة أو قد تكون غري مبنية على أسس علمية‪ ،‬أو قد تكون مبنية‬
‫على أسس غري كافية أو قد تكون نابعة من قياس حدث معني حبدث آخر ليس له باألول عالقة أو قد تكون وجهة نظر‬
‫شخصيه مبطلقها‪ ،‬وهذا الشيء يتناقض مع ماهو مقرر يف جمال القانون حيث األحكام فيه ال تبىن على جمرد آراء‬
‫ووجهات نظر بل إهنا تبىن على أسس من العقالنية واملنطقية‪.‬‬
‫وقد صور البعض القناعة على أهنا اعتقاد ونرى بأن لفظ "االعتقاد" يتضمن معىن االحتمالية والشك وعدم اليقني وعدم‬
‫الرجحان فهو أقرب للتخمني يف حني أن األحكام اجلنائية جيب أن تبىن على اجلزم واليقني اخلايل من أدىن شك وال تبىن‬
‫على الظن واالحتمال‪.‬‬
‫ومن الفقه من صور القناعة على أهنا نفاذ بصرية من قبل القاضي‪ ،‬يف حني أن نفاذ البصرية تعترب مدلوال على مدى‬
‫النشاط الذهين املبذول من طرف القاضي للوصول إىل احلقيقة وإتقانه استخدام الوسائل القانونية اليت أمده هبا املشرع من‬
‫أجل الوصول إىل هذه احلقيقة‪ ،‬ولكن هذا النشاط أو هذه الوسائل ال ميكن أن تكون قناعة وإن كانت طريقا رئيسيا‬
‫يؤدي إىل القناعة‪ ،‬آلن نفاذ البصرية تعترب صفة يف القاضي اجلنائي املؤهل تأهيال قانونيا وعلميا‪.‬‬
‫ومن الفقه من اعترب القناعة تقع يف منطقة وسط بني االعتقاد واليقني‪.‬‬
‫ولكن هذا التصور ال يدل على املفهوم القانوين للقناعة ألهنا حسب هذا التصور تنبع من االعتقاد وتتجه حنو اليقني يف‬
‫حني ك ما رأينا ال عالقة بني االعتقاد والقناعة فمرتكزات األولىتختلف اختالفا جوهريا من املرتكزات اليت تقوم عليها‬
‫القناعة وطبيعتها العلمية والعقلية املستمدة من االستنتاج واالستقراء‪.‬‬
‫أما عن تصويرها بعملية صعود وهبوط لدى القاضي أثناء العملية القضائية‪ ،‬ال ميكن التسليم به‪ ،‬ألن التأرجح ليس من‬
‫طبيعة القناعة القضائية اليت تستمد أساسها من العقل واملنطق املقرون مع القانون بصورة نشاط ذهين يقوم به القاضي‪،‬‬
‫فهذا النشاط ال ميكن أن يكون بوتقة لتجميع األدلة بصورة عددية إن زاد دليال فيها زادت درجة القناعة وإن نقص منها‬
‫واحدا اضمحلت هذه القناعة‪.‬‬
‫ومن الفقه من حدد طبيعة القناعة القضائية على أساس أهنا اليقني ذاته‪ ،‬وهذا االجتاه يكون قد اقرتب وتتالمس مع طبيعة‬
‫القناعة‪ ،‬إال أنه ولكي يكون هلذا اليقني مدلوال خاصا جيب أن يتصل بالقناعة القضائية ويستمد مقوماته من خصائصها‬
‫فاملعيار الذي يفرق بني اليقني القضائي ‪ la certitude judicaire‬باعتباره درجة اإلثبات املطلوبة وبني الشك املربئ هو‬
‫‪360‬‬
‫إما االقتناع الذي يكاد يكون يقينا ‪convaincus au point d’en être surs‬‬

‫‪360‬‬
‫‪- Mohamed Jalal el ssaid, la présomption d’innocence, Edition la porte, Rabat 1 1 Page 2 1‬‬
‫مشار إليه عند د‪ /‬حممود نصر‪ ،‬السلطة التقديرية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.223 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫وإما اليقني املعنوي أو اليقني اإلقناعي ‪361le certitude moral‬الذي يدركهالقاضي يف ذات اللحظة اليت تتالشى‬
‫األسباب النافية حبيث ال يكون بإمكاهنا أن تزعزع املعىن الذي تفرضه األسباب املؤيدة‪ ،‬فهنا يأخذ االقتناع معىن اليقني‬
‫وهو املعىن الذي يوافق على مضمونه معظم الفقه‪.362‬‬
‫فالقناعة هي نوع من اليقني اخلاص بالعمل القضائي بوجه عام‪ ،‬وهذا اليقني اخلاص هو القناعة القضائية وهو الذي‬
‫يشكل جوهر ا لسلطة التقديرية للقاضي يف جمال تقدير األدلة وهو يقني علمي ألنه منطقي يف بناءه‪.363‬‬
‫ولعلنا ندرك بأن اليقني يف داللته القانونية هو حالة ذهنية أو عقالنية‪ ،‬تؤكد وجود احلقيقة‪ ،‬ويتم التوصل إليها مبا يستنتجه‬
‫القاضي من خالل ما يعرض عليه من وقائع يف الدعوى واليت تولد لديه ثقة عالية من التأكيد وتستبعد كل شك حول‬
‫النتيجة النهائية اليت وصل إليها يف حكمه‪ ،‬وعندما يصل القاضي إىل هذه املرحلة من اليقني فإنه يقتنع باحلقيقة‪ ،‬وعليه‬
‫يكون االقتناع هو مثرة اليقني وليس اليقني ذاته‪ ،364‬فاليقني إذن يستمده القاضي من وقائع القضية وأدلة اإلثبات أما‬
‫االقتناع فهو الشعور الذي يتولد بعد يقينه بالوصول إىل احلقيقة‪ .365‬إذن فهو اقتناع عقالين ‪ Razional‬فذلك يدل على‬
‫جوهر املبدأ وعلى حقيقة ما ميارسه القاضي من عملية ذهنية جتاه ما يقدم إليه من أدلة يف الدعوى‪ ،‬هذه العملية اليت متيز‬
‫اقتناعه عن غريه من أنواع اليقني األخرى اليت تبعد كثريا عن منطق العقل‪ ،‬فحاله اليقني الواجب توافرها لدى القاضي‬
‫اجلنائي كأساس القتناعه تنشأ أصال عن وعيه وإدراكه لكافة أدلة الدعوى‪ ،‬مث تدقيقه فيها واستنتاجه منها كافة العناصر‬
‫املكونة هلذا اليقني‪ ،‬حبيث يصل يف النهاية إىل أن يرتاح ضمريه لقراره ويتقبل العقل حلكمه‪ ،‬فهو يعتمد أساسا يف بناء‬
‫اقتناعه على عملية منطقية تقوم على االستنتاج واالستنباط حبيث تصل يف هنايتها إىل نتيجة معينة‪ ،‬وهذا األمر تستلزمه‬
‫طبيعة اليقني الواجب توافره لدى القاضي الذي ال يكفي لنشأته ولصحته جمرد وصفه بأنه داخلي أو باطين بل البد أن‬
‫يكون يقينا قضائيا ذو طبيعة موضوعية عقلية تكفي أسبابه إلحداثه لدى نفوس الكافة وذلك الرتكازه أصال على أسانيد‬
‫منطقية توصل حتما إىل نفس النتيجة‪.366‬‬
‫نستنتج بأن اليقني القضائي ميثل جوهر التوصل إىل االقتناع لدى القاضي‪ ،‬الذي ال يعدو إال أن يكون مبثابة املظهر‬
‫اخلارجي له فإذا كان اليقني هو العلم األكيد بوجود الشيء أو عدمه والذي يستنبطه القاضي من األدلة املعروضة عليه‪،‬‬
‫أما االقتناع فهو رضا القاضي بالنتيجة اليت وصل إليها وهو املرحلة األخرية يف احملاكمة اجلنائية‪ ،‬إال أنه يف الواقع إن اليقني‬
‫واالقتناع شيئان متالزمان‪ ،‬حبيث ال ميكن تصور أحدمها دون اآلخر‪.367‬‬

‫‪ -361‬علي راشد‪ ،‬رسالة‪ ،‬مرجع سابق ص‪.10 :‬‬


‫‪ -362‬حممد زكي أبو عامر‪ ،‬اإلثبات‪ -‬محاولة فقهية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.121 :‬‬
‫‪ -363‬فاضل زيدان حممد‪ ،‬سلطة القاضي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.112 :‬‬
‫‪ -364‬علي راشد‪ ،‬رسالة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.110 :‬‬
‫‪ -365‬حممد بازي‪" ،‬سلطة القاضي يف تقدير االعرتاف اجلنائي يف القانون املغريب املقارن"‪ ،‬المجلة المغربية للدراسات القانونية والقضائية‪ ،‬عدد ‪ 1‬أكتوبر ‪ ،0212‬ص‪:‬‬
‫‪.23‬‬
‫‪ -366‬أمحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ 031 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -367‬حممد بازي‪ ،‬سلطة القاضي في تقدير االعتراف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.21 :‬‬
‫*‪-‬االستنتاج يقصد به استخراج النتائج من املقدمات وهو االستدالل املؤلف من احلكم على ص دق قضية تسمى بالنتيجة لثبوت ذلك احلكم يف قضية أو عدة قضايا‬
‫تسمى باملبادئ‪ .‬أما االستقراء فهو احلكم على الكلي لثبوت ذلك احلكم يف اجلزئي‪.‬‬
‫مشار إليه لدى أ‪ .‬احلسن بيهي‪ :‬مرجع سابق‪ -‬هامش رقم ‪ ،11‬ص‪.21 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫وعليه يقصد باليقني تلك احلالة النفسية والذهنية اليت تتكون لدى القاضي نتيجة ملسببات موضوعية هي األدلة اليت تؤثر‬
‫يف ضمريه وجتعله يتأكد من صحة حدوث واقعة‪ ،‬مل حتدث حتت عينيه‪ ،‬حدوثا يتطابق ولو على حنو ما مع شكل اكتماهلا‬
‫يف الواقع أبان وقوعها‪ ،‬وأدوات يقينه يف ذلك هي االستنتاج واالستقراء* القائم على املنطق‪ ،368‬وذلك من خالل قيامه‬
‫مبجهود ذهين يتمثل يف االستدالل العقلي هبدف إدراك عناصر اإلثبات من حيث تكاملها ووحدهتا عن طريق استقراء‬
‫نتيجة من أخرى‪.‬‬
‫وجتدر اإلشارة إىل انه إذا كانت األحكام جيب أن تبىن على اجلزم واليقني ووجوب تسببيها‪ ،‬فإن ذلك ال يكون فقط يف‬
‫أحكام اإلدانة فقط كما ذهب إليه الفقه السائد‪ 369‬بل البد أن تكون يف أحكام الرباءة أيضا كما أكد ذلك املشرع‬
‫املغريب يف املادة ‪ 232‬فقرة ‪ 1‬من ق‪ .‬م‪.‬ج حني قال‪" :‬جيب أن حيتوي احلكم على األسباب الواقعية القانونية اليت ينبين‬
‫عليها احلكم أو القرار أو األمر ولو يف حالة الرباءة"‪.‬‬
‫فاليقني جيب أن يتوافر حىت يف جمال الشك‪ ،‬ألن الشك املوضوعي الذي يكون حمله "الوقائع" تتأسس عليها املسؤولية‬
‫اجلنائية للمتهم‪ ،‬أي الشك الناتج عن أدلة تساوت بشأهنا فرص اإلدانة والرباءة‪ ،‬وألن الشك واليقني أمورا ذهنية‪ ،‬فإن‬
‫مقياس الشك يتمثل فيما جيده القاضي داخل وجدانه من عدم اطمئنان أو حرج وتردد وارتياب‪ ،‬فهو مبعىن آخر يقني من‬
‫القاضي بضعفقيمة الدليل‪ ،‬فهو مل يصل إىل شكه ما مل يقتنع بأن األدلة ال تشكل قوة إزاء االهتام‪ ،‬وبالتايل فإن قناعته‬
‫هي اليت قادته إىل هذا الشك‪ .‬وهذا هو معىن القول بان كافة األحكام جيب أن تؤسس على اليقني املكون للقناعة‬
‫القضائية‪.‬‬
‫وخنلص أنه يف األحكام اجلنائية جيب تسطري القناعة حىت لو كان احلكم بالرباءة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬طريقة تكوين القناعة القضائية واستقرار اليقين القضائي‪ :‬الشك أنه يقع التزام قانوين على عاتق القاضي اجلنائي‬
‫يتمثل يف ضرورة الفصل يف موضوع الدعوى اليت ينظرها‪ ،‬ويف سبيل هذا االلتزام يقوم بعدة عمليات ذهنية من اجل تكوين‬
‫اقتناعه بصدد ثبوت نسبة الواقعة املادية إىل املتهم املقدم للمحاكمة وثبوت مسؤوليته اجلنائية عنها‪ ،‬ففي هذه احلالة يقضي‬
‫باإلدانة‪ ،‬أما إذا مل تثبت مسؤوليته اجلنائية عنها فإن القاضي يصدر حكمه بالرباءة‪.‬‬
‫واالقتناع القضائي يقوم على عنصرين‪ ،370‬األول املنهج‪ ،‬أي كيفية االقتناع‪ ،‬والثاين املضمون أي النتيجة‪ ،‬والعنصر األول‬
‫هو ما سنتناوله بالتحليل باعتبار أن عملية االقتناع يف جوهرها إمنا عملية ذهنية جتري على مراحل متعددة بعضها مركب‬
‫ومتداخل‪ .‬وكل مرحلة يعتمد فيها القاضي على مصادر معينة تشرتك كلها يف تكوين مضمون االقتناع‪.‬‬
‫وأول مرحلة من مراحل تكوين االقتناع هي مرحلة التلقي واستدعاء القواعد القانونية واجبة التطبيق على وقائع القضية‪.‬‬

‫‪368‬‬
‫‪ -‬أمحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪212:‬‬
‫‪369‬‬
‫‪ -‬حممود جنيب حسين‪ ،‬شرح اإلجراءات الجنائية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪121 :‬‬
‫‪ -‬حممود مصطفى‪ ،‬اإلثبات في المواد الجنائية في القانون المقارن‪-‬اجلزء االول‪ ،‬الطبعة االوىل‪ ،‬مطبعة جامعة القاهرة ‪ ،1111‬ص‪31 :‬‬
‫‪ -‬حممد زكي أبو عامر‪ ،‬اإلثبات في المواد الجنائية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ 12 :‬أو ما بعدها‪.‬‬
‫‪ -‬مأمون حممد سالمة‪ ،‬اإلجراءات الجنائية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪112 :‬‬
‫‪ -370‬كمال اجلوهري‪ ،‬تأسيس االقتناع القضائي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ 12 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫أما املرحلة الثانية فهي مرحلة حتصيل االقتناع واستقرار اليقني القضائي‪ .‬ففي املرحلة األوىل من مراحل تكوين االقتناع‬
‫القضائي يتلقى القاضي اجلنائي كل املعلومات اليت جتعله قادرا على حتديد الوقائع املنتجة يف الدعوى اليت ينظرها‪ ،‬ويف هذه‬
‫املرحلة يفهم وقائع النزاع جيدا من مصادر خمتلفة ومتنوعة ألن هذه املصادر هي اليت تعينه على الفصل يف موضوع‬
‫الدعوى‪ ،،‬ألن وقوف القاضي على الوقائع املنتجة يف الدعوى يرشده إىل ترشيح واختيار القواعد القانونية اليت تنطبق على‬
‫موضع الدعوى سواء القواعد القانونية املوضوعية املتعلقة بقواعد قانون العقوبات أو القواعد القانونية الشكلية املتعلقة‬
‫بقواعد قانون اإلجراءات اجلنائية (املسطرة اجلنائية)‪.‬‬
‫وللتوضيح نقول بان القاضي كما علمنا يكون اقتناعه من عدة مصادر منها قراءة ملف القضية واالستماع إىل مرافعة‬
‫الدفاع‪ ،‬فملف القضية يضم كل ما يساعد القاضي على فهم الوقائع ومالبساهتا‪ ،‬فإطالع القاضي إذن على ملف القضية‬
‫قبل الشروع بإجراءات احملاكمة ميكنه من التعرف على املوضوع وما قد يثار من دفوع شكلية أو جوهرية‪ ،‬وميكنه كذلك‬
‫من متابعة الدفاع فيما قد يثريه من دفوع وما يطلبه من طلبات أثناء إجراءات احملاكمة‪ ،‬ليعمل على تقييم هذه الدفوع أو‬
‫الطلبات مبا خيدم عملية "االقتناع" والتوصل إىل حكم عادل‪.371‬‬
‫وما يستخلصه القاضي من ملف الدعوى عند قراءته إياه وإطالعه عليه وعلى الوقائع اليت فيه‪ ،‬هو حتديد القواعد القانونية‬
‫واجبة التطبيق سواء القواعد املوضوعية أو اإلجرائية‪ ،‬فالقواعد املوضوعية تثري يف ذهن القاضي االسم القانوين هلذه الوقائع‬
‫كأن تكون اجلرمية "قتل عمد" وكأن يكون هذا القتل العمد هو قتال «بالسم» أو عن سبق اإلصرار‪ ،‬أو كأن يكون هذا‬
‫القتل العمد مقرتنا مجناية أو مقرتنا مجنحة‪.‬‬
‫كما أن إطالع القاضي يرشده إىل حتديد دور املتهم‪ ،‬هل هو فاعال أصليا أم أنه جمرد شريك‪ .‬مبعىن أن القواعد القانونية‬
‫املوضوعية الواجبة التطبيق قد تكون يف جمال الوصف القانوين للفعل‪ ،‬أو يف جمال صور الركن املادي والركن املعنوي‬
‫للجرمية‪ ،‬وكذلك جمال سلطان النص اجلنائي من حيث الزمان ومن حيث املكان إىل آخر ذلك من جماالت‪.‬‬
‫ويف قراءة ملف القضية من قبل القاضي إمكانية أن ترشده هذه القراءة إىل اختيار وتطبيق القواعد القانونية اإلجرائية‬
‫ويكون ذلك ملعرفة كيفية حتريك الدعوى اجلنائية والقيود اليت ترد على حرية النيابة العامة يف حتريكها‪...‬اخل‪ ،‬وكذلك حتديد‬
‫جمال االختصاص احمللي أو املكاين‪ ،‬كذلك يتبني القاضي من خالل قراءته مللف القضية مدى شرعية اإلجراءات اجلنائية‬
‫واألدلة املقدمة يف الدعوى‪.‬‬
‫إن اختيار القاضي للقاعدة اليت تنطبق بالفعل على وقائع القضية يتوقف على تفسريه الصحيح للوقائع اليت يقرأها‪ ،‬ألنه يف‬
‫ذلك جيري عملية املطابقة بني الواقعة املادية وبني الواقعة النموذجية الواردة يف النص القانوين واجب التطبيق‪ ،‬فالواقعة‬
‫املادية هي اليت تستثري ذهن القاضي لتطبيق القواعد القانونية اليت يرشحها بصفة مبدئية على الواقعة املادية‪.‬‬
‫واملصدر الثاين من مصادر تلقي القاضي اجلنائي عند تكوين اقتناع هو االستماع إىل مرافعة الدفاع ألن ذلك ميثل ضمانة‬
‫هامة ومؤثرة يف جمرى سري احملاكمة من جانب‪ ،‬وطبيعة القتناع القاضي والنتيجة اليت توصل إليها من جانب آخر‪ ،‬وعلة‬
‫ذلك انه يكفي املتهم أن يدفع التهمة عن نفسه بأحد أسباب اإلباحة أو بأحد موانع املسؤولية أو العقاب‪ ،‬لينتقل عبء‬

‫‪371‬‬
‫‪ -‬كمال اجلوهري‪ ،‬تأسيس االقتناع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪11 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫حتري احلقيقة إىل القاضي يف ضوء األدلة ولكن ليسعلى القاضي حتمل عبء اإلثبات – أو يرد على ما دفع به املتهم ردا‬
‫سائغا ال لبس وال غموض فيه‪.372‬‬
‫فحق الدفاع يقتضي متكني املتهم من أن يعرض على قاضيه حقيقة ما يراه يف الواقعة املسندة إليه‪ ،‬ويستوي يف هذا الصدد‬
‫أن يكون منكرا بارتكابه للوقائع املسندة إليه أو معرتفا هبا‪ ،‬ذلك إنه يكون قد يتوخى من وراء إنكاره الوصول إىل تأكيد‬
‫براءته‪ ،‬وقد يكون اعرتافه مصورا أو مربزا ما أحاط به من ظروف ومالبسات فيكون من بينها ما يدل على انه كان يف‬
‫حالة دفاع شرعي‪ ،‬أو يكون من بيبنها بعض الظروف املعفية من العقاب أو املخففة له‪.373‬‬
‫وعليه تعد املرافعة وسيلة فعالة يف تكوين عقيدة القاضي اجلنائي‪ ،‬حيث أهنا تسمح له بان يتأكد من مدى تكامل أركان‬
‫الواقعة املسندة للمتهم من الناحيتني الواقعية والقانونية‪ ،‬وحتديد مدى قيام األركان والشروط اليت يستوجبها القانون ودرجة‬
‫نسبتها للمتهم وحتديد مدى مسؤوليته عنها‪.‬‬
‫أما املرحلة الثانية من مراحل تكوين االقتناع‪ -‬املرحلة األوىل كانت هي االستماع والتلقي واستدعاء القواعد القانونية واجبة‬
‫التطبيق على وقائع القضية – فهي مرحلة حتصيل االقتناع واستقرار اليقني القضائي‪.‬‬
‫فمن املعروف أن غرض اإلجراءات اجلنائية هو كشف احلقيقة الواقعية واليت تعين النموذج الواقعي لكيفية حدوث الواقعة‬
‫اإلجرامية أو عدم حدوثها‪ ،‬وطريقة ارتكاهبا ومن اشرتك أو ساهم فيها‪ ،‬وغري ذلك من التفصيالت والدقائق كما حدثت‬
‫بالفعل على مسرح اجلرمية‪ ،‬وعليه فاحلقيقة الواقعية ليست جمرد حقيقة اجلرمية‪ ،‬وإمنا هي أيضا حقيقة اجملرم سواء كان فاعال‬
‫أم شريكا‪.374‬‬
‫لذلك نستطيع القول أن احلقيقة الواقعية هي ذاهتا مضمون االقتناع‪ ،‬فهي تشكل جوهره وكيانه سواء كانت تلك احلقيقة‬
‫متمثلة يف اإلدانة أو يف الرباءة‪ ،‬ذلك ألن مضمون االقتناع هو عبارة عن النتيجة اليت خلص إليها القاضي على اعتبار أن‬
‫كيان االقتناع يتألف من الوقائع املادية اليت تثبت لدى القاضي وتثبت مسؤولية اجلاين عنها أو عدم مسؤوليته‪ ،‬وكذلك‬
‫يتألف االقتناع من القواعد القانونية اليت طبقها على هذه الوقائع‪ ،‬وأخريا اجلزاء اجلنائي الذي استقر وجدان القاضي على‬
‫النطق به وتطبيقه على اجلاين‪.‬‬
‫األدلة القائمة يف الدعوى وظيفتها نقل وتصوير الواقع أمام القاضي ليتمكن من تكوين اقتناعه‪ ،‬أي تكوين تصور مؤكد‬
‫عن كيفية حدوث تلك الواقعة وهو ما يسمى باليقني القضائي الذي يعد حالة ذهنية أو عقالنية تؤكد وجود هذه‬
‫احلقيقة‪ ،375‬فالقاضي اجلنائ ي عن طريق التحليل واالستنتاج ميكنه التوصل إىل الكيفية اليت متت هبا اجلرمية كما حدثت‬
‫على أرض الواقع‪ ،‬ولكن الذي يصل إليه ليس يقينا مطلقا ولكنه يقينا نسبيا‪ .376‬ألن نتائجه ال تتسم باإلطالق املطلق‪،‬‬
‫فالنتائج اليت يتمكن التوصل إليها تكون عرضة للتنوع واالختالف يف التقدير من قاض إىل آخر‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫‪ -‬د‪ /‬كمال اجلوهري‪ ،‬تأسيس االقتناع القضائي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪10 :‬‬
‫‪373‬‬
‫‪ -‬د‪ /‬حسن صادق املرصفاوي‪ ،‬ضمانات المحاكمة في التشريعات العربية‪ ،‬مطبعة حمرم بك‪ -‬اإلسكندرية‪ ،‬سنة ‪ ،1112‬ص‪10 :‬‬
‫‪ -374‬د‪ /‬هاليل عبد اهلل امحد‪ ،‬الحقيقة بين الفلسفة العامة واإلسالمية وفلسفة اإلثبات الجنائي‪ ،‬دار النهضة العربية ‪ ،1111‬ص‪.212 :‬‬
‫ص‪022:‬‬ ‫‪ -375‬بنفس املعىن د‪ /‬آمال عبد الرحيم عثمان‪" ،‬النموذج القانوين للجرمية"‪ ،‬مجلة العلوم القانونية واالقتصادية‪ ،‬العدد األول يناير ‪ ،1110‬السنة الرابعة عشر‪،‬‬
‫‪376‬‬
‫‪ -‬د‪ /‬امحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪211 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫ومع أن اليقني القضائي يتسم بالذاتية والنسبية إال أنه مع ذلك ما زال مرضيا للذهن البشري‪ ،‬ألن كل ما ميكن أن ينشد‬
‫من العدالة البشرية هو يقني معقول‪ ،‬ألن ضمري القاضي العادل جيب أن ميلي عليه أحكاما يقرها العقل واملنطق وتكون‬
‫جمردة من األهواء واملصاحل الشخصية ويكون قد وصل إليها عن طريق نشاط ذهين طبيعي‪.377‬‬
‫واليقني الذي حيقق أعلى درجة من العدالة جيب أن يتسم بالثبات‪ ،‬وثبات اليقني معناه إذا ما عرضت القضية اليت مت‬
‫التوصل فيها لدرجة معينة من اليقني من قبل القاضي‪ ،‬على قاضي آخر أو ثالث أو رابع لوصلوا مجيعهم إىل نفس درجة‬
‫اليقني اليت وصل إليها القا‪ :‬ي األول‪ ،‬أو يصلوا إىل درجة قريبة منه خبصوص نفس القضية‪.‬‬
‫فاليقني الثابت هو يقني مشرتك بني مجيع القضاة أو معظمهم إذا ما تواجدوا بنفس الظروف واملالبسات خبصوص قضية‬
‫معينة‪ ،‬وبعبارة أخرى هو القاسم املشرتك الذي جيمع بني جمموعة من القضاة خبصوص إدانة أو براءة شخص معني‪.378‬‬
‫وعليه ميكننا أن خنلص إىل أن اقتناع القاضي مير بعدة مراحل ذهنية تتمثل يف تفهم العقل ألدلة الواقعة حمل البحث‪،‬‬
‫الشيء الذي خيلق عند القاضي حالة من اليقني بصحة الواقعة وصواب قراره جتاهها‪ ،‬واضعا أمام الكافة يف الوقت نفسه‬
‫معامل احلقيقة اليت أدركها‪.‬‬
‫وإن اقتناع القاضي يتكون أساس من نوعني من العناصر‪ ،‬األوىل هي العناصر املوضوعية أي تلك املعطيات األساسية اليت‬
‫تتمثل يف أدلة الدعوى وما حتدثه يف الضمري من آثار ذات طبيعة إجيابية أو سلبية‪.‬‬
‫والثانية هي العناصر الذاتية اليت تكم ن يف خربة القاضي السابقة وقدراته الذهنية والعقلية على استيعاب تلك األدلة والبناء‬
‫عليها واستنباط كافة ما تتضمنه من آثر قادرة على خلق حالة اليقني لديه باإلضافة إىل بقية العوامل الذاتية األخرى اليت‬
‫متثل حبق جوهر االقتناع لديه‪.‬‬
‫والسؤال املطروح يف هذا املضمار هل لليقني القضائي وقتا ينشأ فيه؟ وما هي شروط الوصول إليه؟ وما هي خصائصه‬
‫وأوصافه‪.‬‬
‫‪ .0‬وقت نشأة اليقين القضائي‪ :‬إن حتديد وقتا لنشأة اليقني القضائي هي مسالة ال حيكمها ضابط معني‪ ،‬ألن‬
‫االقتناع كما ا وضحنا هو حالة ذهنية ونفسية جوهرها رغبة التيقن عند القاضي‪ ،‬لذلك فإن حتديد وقت بعينه لنشوء‬
‫اليقني داخل العملية القضائية يكون أمرا غري منطقي‪ ،‬ألن يف احلقيقة القاضي منذ بدء نظر الدعوى – حىت منذ بدء‬
‫قراءته مللف القضية‪ -‬وهو حياول اإلملام بكافة عناصرها وإدراك ما يعرض عليه من أدلتها‪.‬‬
‫فالقاضي خالل مراحل ممارسته إلجراءات الدعوى تتكامل وتتآزر لديه مقومات ذلك االقتناع وترتاكم عناصره يف ذات‬
‫الوقت الذي يعمل فيه ذهنه وعقله على استنتاج مسببات يقينية من مكونات الدعوى حبيث يصل األمر إىل الدرجة اليت‬
‫يستشعر فيها يقينه بثبوت الواقعة أو عدم ثبوهتا‪ ،‬ولكن هذا ال يعين أهنا حلظة نشوء اليقني بل هي حلظةاكتماله‪.379‬‬

‫‪377‬‬
‫‪ -‬د‪ /‬هاليل عبد اإلله امحد‪ ،‬الحقيقة بين الفلسفة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪302 :‬‬
‫‪378‬‬
‫‪ -‬د‪ / /‬هاليل عبد اإلله امحد‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪302 :‬‬
‫‪379‬‬
‫‪ -‬د‪ /‬امحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪011 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫فالقاضي إذن ومن خالل ما يطرح عليه من وقائع يقوم باستخالص الضروري منها واستخالص ما يعد صاحلا لتحقيق‬
‫الفروض القانونية‪ ،‬وال ميكنه ذلك ما مل يبدأ بوضع تصور عقلي عما يفرتض انه من العناصر ذات األثر يف موضع الدعوى‬
‫ويتعني عليه يف ذات احلني أن يقتنع بصحة هذه الوقائع وثبوهتا قبل تكيفها بغية إعمال القانون عليها‪.380‬‬
‫وجيب اإلشارة هنا إىل أن التصور العقلي وإعمال ذهن وعقل القاضي ملا يعرض عليه من وقائع هو مرهون بعلم القاضي‬
‫ومبا يتمتع به من ثقافة قانونية‪ ،‬حيث أن العملية الذهنية ال يتسىن لنا التحقق من مصداقيتها ومن سالمة مفهوم القاضي‬
‫هلا إال بانعكاسهما يف استخالصه هذه الوقائع من جمموع ما يعرض عليه وقناعته حياهلا‪.‬‬
‫‪ .0‬شروط الوصول إلى اليقين‪ :‬يقصد بشروط الوصول إىل اليقني القضائي هي تلك املقتضيات اليت ترتتب على وجودها‬
‫الوصول إىل مرحلة اليقني القضائي‪ ،‬واليت ال يتصور وجوده بدون هذه الشروط‪ ،‬فهي املدخل احلقيقي واملنفذ الطبيعي له‪.‬‬
‫وهذه الشروط هي‪:381‬‬
‫األول‪ :‬الرغبة في الوصول إلى الحقيقة الواقعية‪ :‬ختتلف تقديرات القضاة للواقعة اإلجرامية وصحة إسنادها ملرتكبيها‪،‬‬
‫وهذا يعود الختالف وسائل حبثهم عن حقيقتها‪ ،‬كما ويعود لفهمهم ألدلة ارتكاهبا‪ ،‬ونتيجة هذا االختالف تتباين‬
‫أحكامهم‪ .‬ولكن هذا ال يعين تنوع حقيقة تلك الواقعة وحقيقة شخص مرتكبها‪ ،‬ألن هدف العدالة يبقى دائما هو‬
‫الوصول إىل تلك احلقيقة‪.‬‬
‫فعملية اإلثبات يف مجلتها هتدف إىل إدانة املسيء وضمان محاية الربيء من خالل نظام يستطيع القاضي عن طريقة‬
‫التوصل إىل الكشف عن كافة عناصر الواقعة اإلجرامية كما حدثت على قدر اإلمكان‪.‬‬
‫من هنا تظهر لنا مدى خطورة وظيفة القاضي ملا حتدثه من آثار جسيمة يف مصائر األفراد واجملتمع‪ ،‬فاجملتمع يبصر بعيين‬
‫القاضي لريى حقيقة الواقعة اإلجرامية حمل الدعوى والوقوف على شخصية املذنب‪.382‬‬
‫وقد أناط املشرع مهمة كشف احلقيقة للقاضي دون غريه (املادة ‪ 100‬من قانون املسطرة اجلنائية املغريب)‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫نشؤ حالة من اليقني لدى القاضي توضح مدى اطمئنان ضمريه بتوصله إىل تلك احلقيقة‪.‬‬
‫وعليه ميكن القول بان رغبة القاضي األكيدة يف الكشف والوصول إىل حقيقة الواقعة اإلجرامية تعترب املقدمة الرئيسية اليت‬
‫تعينه يف وصوله إىل تلك الغاية‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬عدم التحيز المسبق لرأي ما أو التجاه معين‪ :‬املوقف املوضوعي هو شرط أساسي إلمكان وصول القاضي‬
‫حلالة اليقني املطلوب كأساس لصدور حكمه وعلة ذلك هو ضرورة فحصه لوقائع الدعوى املعروضة عليه بذهن خال‬
‫وبعيد عن التحيز ألي رأي أو اجتاه مسبق‪ ،‬حىت ال تكون هناك إمكانية لتأييد ذلك الرأي وحىت ال يكون أسريا له وجيعله‬
‫يهدر كل ما خيالفه ومن مت يباعد يف النهاية بينه وبني إدراك احلقيقة‪ ،‬فعلى القاضي أال يتأثر مبوقف احد طريف اخلصومة‬

‫‪380‬‬
‫‪ -‬د‪ /‬حامت بكا‪ ،‬سلطة القاضي اجلنائي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪121 :‬‬
‫‪ -381‬مزيدا من التفاصيل عند‬
‫د‪ /‬أمحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ 011 :‬وما بعدها‬
‫د‪ /‬حممود نصر‪ ،‬السلطة التقديرية‪ ،‬مرجع سابق ص‪ 223 :‬وما بعدها‬
‫‪382‬‬
‫‪ -‬د‪ /‬أمحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪012 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫من أول وهلة‪ ،‬بل عليه أن يدرك دائما أن بإمكان الدفاع إن يدحض أدلة الثبوت أو أن حيدث العكس‪ .‬كما أن التحيز‬
‫يدفع بالقاضي عن احليدة اليت هي عماد االطمئنان إىل ما يصدره من قضاء وما ينجزه من إجراءات‪ ،383‬فعدم التحيز هو‬
‫إحدى الضمانات املهمة األساسية إلحقاق العدالة‪.‬‬
‫كما أن علة عد م التحيز املسبق تكمن يف جعل ذهن القاضي أن يكون دائما قادرا على تسجيل كل ما قد يتناوله أثناء‬
‫حبثه من أمور تتشابك فيما بينها مكونة معطيات إجيابية أو سلبية يعتمد عليها يف إصدار حكمه‪.384‬‬
‫فالتحيز املسبق لرأي معني يعد نقيضا حلرية القاضي يف البحث عن احلقيقة ويدفعه إىل أن يكون أسريا لذلك الرأي‪.‬‬
‫وجتدر اإلشارة يف هذا املقام إىل وجود فارقا بني التحيز املسبق لرأي عند القاضي وبني وضع االفرتاضات من قبله‪ .‬فإذا‬
‫كان التحيز خيلق عند القاضي حالة تدفعه لتأييد الرأي الذي حتيز له والبحث من قبله عن كل ما يؤكده‪ ،‬فإن وضع‬
‫االفرتاضات يهدف إىل جمرد وضع افرتاض نظري ما يزال يتأرجح بني الصدق والكذب واإلنكار والتأييد‪ ،‬فوضع‬
‫االفرتاضات هو عبارة عن وضع صور حيتملها املوضوع املطروح عليه‪ ،‬مث اختيار الصورة اليت يطمئن إىل تطابقها مع الواقعة‬
‫فعال ومن مث بيين حكمه عليها‪ ،‬وهو ما أكدته حمكمة النقض املصرية حني قضت "بأن ال مطعن على احلكم أن يكون‬
‫عند استعراض تلك الصور قد بدا فيه مايدل على تردده يف االقتناع حبقيقة الصورة اليت وقعت هبا احلادثة ما دام انه قد‬
‫انتهى بعد ذلك بتأكيد اقتناعه بثبوت الوقائع املكونة للصورة اليت اختذها أساسا حلكمه‪ ،‬إذ املعول عليه يف األحكام هو‬
‫‪385‬‬
‫اجلزء الذي يبدو فيه اقتناع القاضي دون غريه من األجزاء اخلارجة عن سياق ا القتناع"‬
‫ويتحقق احلياد أساسا حني يعتقد الناس يف قضاهتم ذلك‪ ،‬أي بقدر ما يظن الناس فيهم ذلك‪ ،‬ال بقدر ما يظنه القضاة‬
‫يف أنفسهم‪ ،‬فحياد القاضي ليس جمرد إعتقاد يعتقده أو موقف يقفه‪.386‬‬
‫ومن بديهي القول بأن القاضي إن أراد الوصول إىل مرحلة اليقني فيجب عليه دائما أن يكون ملزما بعدم التحيز املسبق‬
‫لرأي معني‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬حسن ممارسة القاضي لدوره الكامل في العملية اإلثباتية‪ :‬أساس وظيفة القاضي هو اجلانب القانوين‪ ،‬ولكن‬
‫وكون وظيفة القاضي هلا طبيعة خاصة تتحدد فيها اجلوانب املختلفة‪ ،‬فيكون عندها اجلانب االجتماعي واجلانب النفسي‬
‫ال يقالن أمهية عن اجلانب القانوين الذي هو أساس وظيفته‪ .‬وذلك ألن القاضي اجلنائي ليس باحثا قانونيا رغم ما متثله‬
‫النصوص القانونية من أمهية مشرتكة بينها‪ ،‬إذ تعد أساسا لوظيفة كالمها‪ ،‬وكما يقال ليس القاضي اجلنائي إال طبيبا نفسيا‬
‫تقوم مهمته على هتذيب النفوس وإصالح ما هبا من عوج‪.387‬‬
‫فوظيفة القاضي ال تقتصر على جمرد القصاص وتوقيع اجلزاء‪ ،‬فهو حبكم وظيفته أحوج الناس إىل الدراية بأسرار النفس‬
‫البشرية ومكوناهتا‪ ،‬فهذه الدراية ترتك انعكاساهتا على فهم القاضي لنفسيته أوال‪ ،‬ونفسية باقي أطراف الدعوى اجلنائية‬

‫‪ -383‬د‪ /‬عبد الواحد العلمي‪ ،‬شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬مطبعة النجاح اجلديدة ‪ ،0221‬ص‪.112 :‬‬
‫‪ -384‬د‪ /‬امحد ضياء الدين حممد‪ ،‬شرعية الدليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.011 :‬‬
‫‪385‬‬
‫‪ -‬ننقض مصري ‪ -1123/2/21‬جمموعة املبادئ القانونية رقم ‪ -11‬السنة ‪ ،0‬ص‪01 :‬‬
‫مشار إليه عند د‪ /‬حممود نصر‪ ،‬السلطة التقديرية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪221 :‬‬
‫‪386‬‬
‫‪ -‬د‪ /‬عوض حممد عوض‪ ،‬المبادئ العامة‪ ،‬مرجع سابق ص‪221 :‬‬
‫‪387‬‬
‫‪ -‬د‪ /‬حممد ضياء الدين حممد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪222 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫ثانيا‪ ،‬مث أخريا يف إدراكه وحسن تقديره ألدلة الدعوى‪ ،‬ألنه من املؤمل أن يقوم القضاة مبحاكمة جرائم ال جمرمني‪ ،‬فال يكفي‬
‫أن يهتم القاضي بتفسري النصوص وتطبيق العقوبات املقررة لكل جرمية فقط‪ ،‬بل البد أن يهتم أيضا‪ ،‬ويف كثري من‬
‫احلاالت‪ ،‬بشخص املتهم والعوامل النفسيةواالجتماعية اليت دفعته الرتكاب اجلرمية‪ ،‬فهذه العوامل تكون اهلادي و املرشد له‬
‫يف إقرار العدالة‪.388‬‬
‫ورغم أن ما سبق ال ميكن تعميمه حبق مجيع القضاة‪ ،‬حيث انه أمر تعوزه الدقة‪ ،‬إال أن مدلوله وأمهيته يكمنان يف أمهية‬
‫الدراسة النفسية بالنسبة للقاضي اجلنائي‪ ،‬فمعرفة النفس متثل خطوة الزمة ملعرفة نفس الغري‪ ،‬كما أن دراسة علم النفس‬
‫تعمل على حترير القاضي من تأثري نزاعاته الشخصية‪ ،‬مما يكون له أثرا فعاال على ختليص عقيدته يف النهاية من الكثري مما‬
‫يعرتيها من هفوات النفس أو زالهتا‪.389‬‬
‫ولقد أدرك املشرع املغريب ما للعامل الذايت من التأثري يف وجدان القاضي حني أوجب عليه أن يقدم تصرحيا بذلك إىل‬
‫الرئيس األول جمللس األعلى او الرئيس األول حملكمة االستئناف وذلك يف ظروف معينة أورد بياهنا يف املادة ‪ 012‬من قانون‬
‫املسطرة اجلنائية‪.‬‬
‫ونعترب أن املشرع املغريب قد اعرتف مبا يسمى بظاهرة التقمص أو االندماج ‪ ،identification‬مبعىن أن القاضي يف مثل‬
‫هذه احلالة سيتصور شخصه حمل اخلصماملشابه له‪ ،‬ويتقمص شخصيته ويندمج فيها دون شعور أو وعي منه‪ ،‬هذا‬
‫االعرتاف نستشفه من حاالت جتريح القاضي الوارد ذكرها يف املادة ‪ 012‬سالفة الذكر‪ ،‬ومن عبارة "أو أي سبب آخر‬
‫لتنحيته" الوارد ذكرها يف املادة ‪ ، 012‬وعلة ذلك أن القاضي قد يتجه عطفه أو غله‪ ،‬على الرغم منه‪ ،‬حنو اخلصم فيقضي‬
‫له مبا يتمىن أن يقضي به لنفسه‪.‬‬
‫إن إحساس القاضي بأنه يقوم بواجبه القضائي هو شيء متليه أمهية وظيفته اليت يعد اليقني الركن الركني فيها‪ ،‬فيقني‬
‫القاضي هو وليد عملية ذهنية ونفسية خمربها األساسي يكمن يف ضمريه‪ ،‬لذلك فإنه من املنطقي أن يتمثل الطريق لتكوين‬
‫ذلك اليقني لديه يف إحساسه ومدى إدراكه لكافة إجراءات الدعوى‪ ،‬ليست باعتبارها اجملرد وداللتها الصماء‪ ،‬بل من‬
‫حيث ما تثريه من انعكاسات نفسية قادرة على خلق تلك العقيدة وإرساء ذلك اليقني لديه‪ ،‬وإمهال ذلك اجلانب احليوي‬
‫يف وظيفة القاضي حيول دون إدراكه لغايته ويعوقه عن الصول إىل ذلك اليقني‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إتباع مراحل التسلسل العقلي والبحث المنطقي في تناول وتمحيص األدلة‪ :‬إلمكان وصول القاضي اجلنائي‬
‫إىل حالة اليقني البد له أن يقوم بسلسلة من العمليات العقلية اليت متكنه من وزن األدلة وحسن تقديرها‪ ،‬ليستخلص منها‬
‫يف النهاية العناصر القادرة على خلق حالة اليقني لديه‪ .‬وهذا أمر طبيعي مرده أن جوهر اليقني ومضمونه يكمن أساسا يف‬
‫سلسلة من املراحل الذهنية والنفسية تظهر يف تفهم العقلورضاء الضمري واستشعار اليقني مث إظهار االقتناع واإلعالن عنه‬
‫بأمل الوصول يف النهاية إىل احلقيقة‪.390‬‬

‫‪ -388‬حممد فتحي‪ ،‬علم النفس الجنائي‪ -‬علما وعمال‪ ،‬اجلزء األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ 112 :‬وما بعدها‬
‫‪389‬‬
‫‪ -‬حممد فتحي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪013 :‬‬
‫‪ -390‬د‪ /‬أمحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل‪ ،‬مصدر سابق ص‪.211 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫هذا النشاط الذهين الذي ميارسه القاضي حنو أدلة الدعوى هبدف الوصول إىل اليقني املنشود يتناقض متاما مع اإلنطباعات‬
‫العاطفية والسطحية العابرة ألن هذه األخرية ال ترقى إىل مستوى اليقني من حيث قدرهتا على التأثري يف القاضي موضوعيا‬
‫وتزويده بأسباب حكمه‪ ،‬فهي جمرد مشاعر نفسية أو عاطفية مل تستند يف كليتها إىل تلك املقدمات الذهنية الناجتة عن‬
‫قيام العقل بدوره يف االستدالل واالستنتاج‪ ،‬باإلضافة إىل أن اعتماد اليقني أساسا على النشاط الذهين هو مدعاة جللب‬
‫الثقة يف نتائجه واالطمئنان إىل كافة أحكامه‪.391‬‬
‫وتتلخص خطوات االستدالل يف قيام القاضي بإدراك الواقعة حمل اإلثبات‪ ،‬واإلحاطة بكافة عناصرها‪ ،‬مع ما يقتضيه ذلك‬
‫من قيامه بتحديد أبعادها ومجع كافة بياناهتا مث تنظيمها وترتيبها‪ ،‬وبعد ذلك االنتقال إىل املرحلة الثانية اليت تستلزم فيه‬
‫فرض الفروض املختلفة اليت تفرتض حدوث الواقعة‪ ،‬مث تأيت املرحلة الثالثة اليت تتلخص يف حماولة تنقية هذه الفروض‬
‫واستبعاد الغري منطقي فيها‪ ،‬ليبقى ما يقبل منها التحقق‪ .‬وهذا يفرض عليه ضرورة أن يبدأ يف ذلك التحقق العقالين‬
‫والبحث عن كل ما يثنيه ويؤكده أو ينفيه ويستبعده دون حتيز أو إنفعال ليتسىن له من خالل ذلك النشاط الذهين التوصل‬
‫إىل حالة اليقني القضائي املعقول‪ .392‬فخطوات القاضي تتسلسل إذن بني اإلطالع واإلملام‪ ،‬فالبحث واالستقصاء‪ ،‬مث‬
‫الفحص والتدقيق‪ ،‬فاالستنباط واالستخالص‪.‬ليبدأ دوره يف التأثر واالقتناع‪ ،‬لينتقل بعد ذلك إىل التدليل والتعليل‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬التعويل على األسباب واألدلة القضائية‪ :‬يقصد بذلك الشرط‪ ،‬اعتماد القاضي يف استيفائه ليقينه على أدلة‬
‫قضائية مستمدة أساسا من أوراق الدعوى‪ ،‬ويعد هذا الشرط ضمانة أكيدة للعدالة حىت ال حيكم القاضي اجلنائي‬
‫مبعلوماته الشخصية أو بناء على رأي الغري‪ .393‬باإلضافة إىل ذلك فإنه يشرتط ضرورة طرح الدليل باجللسة حىت تتاح‬
‫الفرصة الكاملة لكافة األطراف ليتفحصوه وميحصوه ليستطيعوا تفنيده أو تأييده‪.‬‬
‫كما ويشرتط بالدليل أن يكون موضوعيا حىت ميكن أن تتحقق به حالة اليقني املطلوبة‪ ،‬فاليقني وإن كان إحساسا‬
‫شخصيا إال أنه موضوعي األسباب‪.‬‬
‫‪ :3‬خصائص اليقين‪ :‬من خالل ما سبق ميكن استنباط أهم اخلصائص اليت تتميز هبا حالة اليقني القضائي فهي تتمثل بـ‪:‬‬
‫أوال‪ :‬الطبيعة املزدوجة واملختلطة بني الذاتية واملوضوعية‪ ،‬فاليقني القضائي ذايت اإلحساس وموضعي األسباب‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬يتصف اليقني القضائي بالنسبية‪ ،‬ألن نتائجه ليست مطلقة وهذا بسبب التقدير الذايت للمسببات املوضوعية‬
‫اليت ميكن أن تؤدي إىل االختالف والتنوع يف التقدير من قاض إىل آخر‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬هو يقني عقالين وهذا بسبب مقدماته العقلية‪ ،‬وما ميارسه القاضي من أجل الوصول إليه من نشاط ذهين طبيعي‬
‫الخالصة‪ :‬وخنلص إىل إن احلقيقية القضائية ال تدرك مباشرة‪ ،‬وإمنا يتم التوصل إليها من تدقيق ومتحيص أدلة اإلثبات‪،‬‬
‫فهي ليست شيء مطلق ولكنها نشاط ذهين موضوعي‪ ،‬لذلك فإن احلقيقة اليت يعلنها احلكم اجلنائي ال يلزم دوما أن‬
‫تكون هي ذاهتا احلقيقة املطلقة فهي نسبية‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫‪ -‬على راشد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪121 :‬‬
‫‪392‬‬
‫‪ -‬امحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪211 :‬‬
‫‪393‬‬
‫‪ -‬أمحد فتحي سرور‪ ،‬الشرعية واإلجراءات الجنائية‪ ،‬اجلزء األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪222 :‬‬
‫خالد محد‬ ‫القناعة القضائية في مجال تقدير األدلة الجنائية‬ ‫العدد الثالث ‪ .‬ربيع‬

‫كما أن عملية تكوين القناعة تستلزم االستدالل الدقيق واحلذر لوقائع الدعوى وظروفها احمليطة من قبل القاضي اجلنائي‬
‫الذي جيب أن يكون على قدر عال من اإلدراك والدقة والرتوي والذكاء واملنطق السليم واملنهجية املنتظمة فالقناعة‬
‫القضائية هي املرتكز الذي تقوم عليه سلطته التقديرية يف جمال تقدير األدلة‪ ،‬فهي عنوان احلقيقة وحمل ثقة اخلصوم والكافة‬
‫طاملا أحيطت بالضمانات الكافية‪.‬‬

‫الئحة المراجع‪:‬‬
‫‪ .1‬أمحد اخلمليشي‪ ،‬شرح قانون المسطرة الجنائية‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬الطبعة اخلامسة‪ ،‬مطبعة املعارف اجلديدة‪ ،‬الرباط ‪.0221‬‬
‫‪ .0‬أمحد ضياء الدين حممد‪ ،‬مشروعية الدليل في المواد الجنائية –دراسة تحليلية مقارنة لنظريتي اإلثبات والمشروعية‬
‫في مجال اإلجراءات الجنائية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬طبعة ‪.0212‬‬
‫‪ .2‬أمحد فتحي سرور‪ ،‬الوسيط في اإلجراءات الجنائية‪ ،‬اجلزء االول‪ ،‬مطبعة جامعة القاهرة ‪.1111‬‬
‫‪ .1‬بنفس املعىن د‪ /‬آمال عبد الرحيم عثمان‪ ،‬النموذج القانوني للجريمة‪ ،‬جملة العلوم القانونية واالقتصادية‪ ،‬العدد األول‬
‫يناير ‪ ،1110‬السنة الرابعة عشر‪.‬‬
‫‪ .2‬حسن صادق املرصفاوي‪ ،‬ضمانات المحاكمة في التشريعات العربية‪ ،‬مطبعة حمرم بك‪ -‬اإلسكندرية‪ ،‬سنة ‪.1112‬‬
‫‪ .3‬رءوف عبيد‪ ،‬ضوابط تسبيب األحكام الجنائية‪ ،‬دار اجلليل للطباعة‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪.1113‬‬
‫‪ .1‬عبد الواحد العلمي‪ ،‬شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية‪ ،‬اجلزء الئاين‪ ،‬مطبعة النجاح اجلديدة ‪.0221‬‬
‫‪ .1‬عوض حممد عوض‪ ،‬المبادئ العامة في قانون االجراءات الجنائية‪-،‬منشأة املعارف‪ ،‬االسكندرية‪.‬‬
‫‪ .1‬فاضل زيدان حممد‪ ،‬سلطة القاضي في تقدير األدلة‪ ،‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪-‬عمان ‪.0212‬‬
‫‪ .12‬كمال عبد الواحد اجلوهري‪ ،‬تأسيس االقتناع القضائي والمحاكمة الجنائية العادلة‪ ،‬دار حممود للنشر والتوزيع ‪.1111‬‬
‫‪ .11‬مأمون حممد سالمة‪ ،‬قانون اإلجراءات الجنائية معلقا عليه بالفقه وأحكام النقض‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬الطبعة األوىل‪1112 ،‬‬
‫‪ .10‬حممد بازي‪ ،‬سلطة القاضي في تقدير االعتراف الجنائي في القانون المغربي المقارن‪ ،‬اجمللة املغربية للدراسات القانونية‬
‫والقضائية‪ ،‬عدد ‪ 1‬أكتوبر ‪.0212‬‬
‫‪ .12‬حممد زكي أبو عامر‪ ،‬شائبة اخلطأ اجلنائي ونظرية الطعن فيه رسالة دكتوراه جامعة اإلسكندرية ‪.1111‬‬
‫‪ .11‬حممد عبد الشايف‪ ،‬مبدأ حرية القاضي في االقتناع‪ -‬دراسة تحليلية وتأصيلية مقارنة‪،‬طبعة ‪.1110‬‬
‫‪ .12‬حممد جنيب حسين‪ ،‬شرح قانون اإلجراءات اجلنائية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة ‪.1131‬‬
‫‪ .13‬حممود مصطفى‪ ،‬اإلثبات في المواد الجنائية في القانون المقارن‪-‬اجلزء االول‪ ،‬الطبعة االوىل‪ ،‬مطبعة جامعة القاهرة‬
‫‪.1111‬‬
‫‪ .11‬ننقض مصري ‪ -1123/2/21‬مجموعة المبادئ القانونية رقم ‪ -02‬السنة ‪.0‬‬
‫‪ .11‬هاليل عبد اهلل امحد‪ ،‬الحقيقة بين الفلسفة العامة واإلسالمية وفلسفة اإلثبات الجنائي‪ ،‬دار النهضة العربية ‪.1111‬‬
‫‪ .11‬وجدي راغب‪ ،‬النظرية العامة في العمل القضائي‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬االسكندرية ‪.1111‬‬
‫مراجع بالفرنسية‪:‬‬
‫‪1‬‬ ‫‪Caudement yves- les méthodes du juge administratif Paris 1 2, p 1 .‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪Mohamed Jalal el ssaid, la présomption d’innocence, Edition la porte, Rabat 1 1‬‬
‫‪Aly rached: De la intim convicion du juge –these editions A.podon-Paries1942‬‬

You might also like