إتحاف أهل المحبة وفضل رجب

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 158

‫اسم الكتاب‪ :‬إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫اسم املؤلف‪ :‬عبدالعزيز بن عبداهلل عرفة السليامين‬


‫الطبعة األوىل ‪ 1429‬هـ ‪ 2008 -‬م‬
‫مجيع احلقوق حمفوظة للمؤلف‬
‫عدد الصفحات‪158 :‬‬
‫قياس القطع‪21 × 15 :‬‬
‫ردمك‪:‬‬

‫ملراسلة املؤلف عىل العنوان التايل‪abo.omar.alsulaimani@hotmail.com :‬‬

‫مجيع احلقوق حمفوظة‪ ،‬ال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه أو ختزينه يف نطاق استعادة‬
‫املعلومات أو نقله بأي شكل من األشكال دون إذن خطي مسبق من املؤلف‬
‫‪All rights reserved. No part of this book may be reproduced, stored in a retrieval‬‬
‫‪system or transmitted in any form by any means without prior permission in writing‬‬
‫‪the author.‬‬
‫اعتنى به العبد األقل‬
‫غايل بن عبداهلل بن حسني العطاس احلسيني‬
‫غفر اهلل له ولوالديه ولسائر املؤمنني‬
‫‪ghali-alattas@hotmail.com‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫ﭑﭒﭓ‬

‫احلمد هلل وما توفيقي إال باهلل والصالة والسالم عىل سيدنا حممد الذي بعثه‬
‫اهلل رمحة خللقه فاجتباه واصطفاه‪ ،‬وعىل آله وأصحابه ما قامت األشياء باهلل‪،‬‬
‫اللهم اجعل صالتك ورمحتك وبركتك عىل سيد املرسلني وإمام املتقني وخاتم‬
‫النبيني‪..‬‬
‫ِ‬
‫جمالس ال ُقربة»‪..‬‬ ‫«إحتاف أهل املحبة ِ‬
‫بأدلة‬ ‫َ‬ ‫أما بعدُ فهذا الكتاب الذي َّ‬
‫سمي ُت ُه‬
‫ال حيتاج إىل تقديم‪ :‬ألنه مقدِّ َمة املقدمات؛ فهو مأخوذ من قواعد أهل الكامل من‬
‫السادات ‪ِ ،‬‬
‫ومن روايس احلجج الب ِّينات‪ّ ،‬‬
‫وأن املحبة ال حتتاج إىل براهني عقلية أو‬
‫ُحجج نقلية‪ ،‬بل يكفي فيها أهنا أحلان الغرام‪ ،‬تُبيح عن أشواق اهليام‪ ،‬وخالصة‬
‫أعظم مقا ٍم ملن‬
‫ُ‬ ‫احلب يف قلوبنا لبدر التامم‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫َّ‬ ‫الكالم ‪ ،‬سبحان من َأنزل‬
‫اتبع حبيـبي حممد عليه الصالة والسالم وع َّظمه قلب ًا وقوالً وفع ً‬
‫ال نال اإلنعام‪،‬‬
‫حلسنى ُيشري أن العبادة تذ ُّلل للمحبوب امللك‬
‫واملقصد األسنى لرشح األسامء ا ُ‬
‫وحمبوب عند اهلل تعاىل ورسوله سيدنا حممد‬
‫ٌ‬ ‫حمب هلل ورسوله‬ ‫ُ‬
‫والذليل ٌّ‬ ‫العالَّم‪،‬‬
‫عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫وإليك أهيا القارئ ما جيمعك حلرضة السعادة يف ِز ِّي الوفادة‪ ،‬فعليك بأصول‬
‫العبادة؛ حتى تكون ِمن أهل احلسنى وزيادة‪ ،‬وصىل اهلل عىل صاحب القول‬
‫ُؤمنُوا‪ ،‬وال ت ِ‬
‫ُؤمنُوا حتى حتا ُّبوا‪َ ،‬أ َوال أد ُّلكم عىل‬ ‫تدخلون اجلنَّ َة حتى ت ِ‬
‫َ‬ ‫البديع «ال‬

‫‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫السالم بينكم)‪.‬‬ ‫يشء إذا فعلت ُُموه حتا َب ْبتُم ؛ ُ‬


‫أفشوا َّ‬
‫موار َد األحكام عىل ِقسمني كام قال العلامء‬
‫وأحب أن أذكر شيئ ًا مهام‪ :‬وهو أن ِ‬ ‫ُّ‬
‫املحققون‪:‬‬
‫يسمى (املقاصد) وهي ال ُّطرق ا َّلتي تؤ ّدي للمصالح النافعة واملهمة‬
‫األول َّ‬
‫للبرشية‪.‬‬
‫ثانيا (وسائل) وهي ال ُّطرق ا َّلتي توصل إىل هذه (املقاصد)‪ ..‬وال شك أن‬
‫حكمها كحكم املقاصد من حتريم أو حتليل‪ ،‬وكام قال أهل القواعد َّ‬
‫(إن ُحكم‬
‫الوسائل ُحكم املقاصد)‪ ..‬غري أهنا أخفض رتب ًة ِمن املقاصد يف حكمها؛ ألهنا‬
‫ُ‬
‫وعوامل إلبراز حكمها‪ ،‬ويتجلىَّ فهم ما ذكرنا‪ ،‬فيام قاله اإلمام القرايف‬ ‫ُ‬
‫وسائط‬
‫ُ‬
‫«أفضل الوسائل»‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أفضل املقاصد‬ ‫يف «تنقيح الفصول» ص‪ ( :449‬فالوسيلة إىل‬
‫«متوسط ٌة»)‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫متوس ٌط‬
‫«أقبح الوسائل»‪ ،‬وإىل ما هو ِّ‬
‫ُ‬ ‫وإىل أقبح املقاصد‬
‫النفيس وهتيئة املناخ إلبراز احلكم وسيلة إىل الوسيلة‪ ،‬وهنا تتجلىَّ‬
‫ُّ‬ ‫فاالستعدا ُد‬
‫القاعدة املتفق عليها‪:‬‬
‫ك َّلما ارتفع اعتبار املق�صد ارتفع اعتبار الو�سيلة‬
‫فاهلل عز وجل هو املقصد األعىل‪ ،‬والرسول صىل اهلل عليه وسلم هو الوسيلة‬
‫لعبادته؛ فإذا َع َّظمنا الوسيلة فقد عظمنا املقصد‪ ،‬وإن حصل ِمن نقص يف حق‬
‫الوسيلة وهو ح ُّبنا ملوالنا رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم يتبعه نقص يف اإليامن‬
‫أمجعني»‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫والناس‬ ‫وو َل ِد ِه‬
‫أحب إليه من والده َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫أكون‬ ‫«ال يؤم ُن أحدُ كُم حتى‬
‫وخ ْف ٌت لإلحسان‪ ،‬وترك التعظيم حلبيبه صىل اهلل عليه وسلم ا َّلذي َأمر به يف‬
‫كتابه‪ ،‬واألدب ا َّلذي نرشه بني عباده‪ ..‬والنصوص يف هذا متكاثرة‪.‬‬
‫فهيا نبحث عىل ما يع ِّظم الوسيلة بأعظم طريقة؛ لنُكتَب يف ديوان ِ‬
‫املح ِّبني‬ ‫َّ‬
‫واملح ُبوبني؛ َّ‬
‫ألن مدح الوسيلة هو مدح املقصد‪..‬‬

‫‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫ولع َّلنا نجد يف االتباع والتَّعظيم واليقني وما يلحق به ُس ُب ً‬


‫ال للوصول‪ ،‬فإن‬
‫بعدد أنفاس اخلالئق‪..‬‬‫ِ‬ ‫الطرائق‬
‫َ‬
‫وه َّيا لنبحث عن طريقة أكثر انتشار ًا ‪ ،‬وأكثر ُعرف ًا‪ ،‬وأبسط فه ًام ؛ وهو‪ :‬أن‬
‫ِ‬
‫األكوان‬ ‫نجتمع لتحقيق املنهج الر َّباين يف صورة مناقب إنسان األعيان سيد‬
‫رب العاملني ورمحة اهلل للعاملني‪،‬‬ ‫ِ‬
‫سيدنا حممد سيد املح ِّبني واملح ُبوبني وحبيب ِّ‬
‫الذي أنزل اهلل عليه ﮋ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﮊ [آل عمران‪ ]٣١ :‬أي‪:‬‬
‫يف حبي هلل يحُ ْ بِ ْبكُم اهلل؛ وهذا ا َّلذي جعل احلبيب املتع ِّبد ا ُملنيب يلجأ إىل التكرار‬
‫يف العبارة عند مناجاة ربه احلبيب املجيب القريب؛ وهو أنه رأى َّ‬
‫أن ألفاظ اللغة‬
‫ب يف كل دعوة‪ ،‬أنه يف ظاهره تكرار‪ ،‬ويف‬ ‫عجزت عن مالحقة َج َي َشانه املن َْص ِّ‬
‫خالق عظي ٍم كري ٍم ٍ‬
‫معط‬ ‫لرب ٍ‬‫يدر مدرار‪ ،‬ووالء عبد مصطفى خمتار‪ٍّ ،‬‬ ‫باطنه هيام ُّ‬
‫عزيز غفار‪ ،‬اللهم اجعلنا من أهل االستغفار املنيبني الشاكرين بالليل والنهار ‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أكون عبد ًا شكورا» ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫متبعني حلبيبك املختار القائل ‪َ « :‬أ َفال‬
‫هل ا َمل َح َّبة بِ َأد َّلة‬
‫«إحتاف َأ ِ‬
‫َ‬ ‫وهذا الذي جعلني أمجع هذه الرسالة ا َّلتي سميتها‬
‫مالس ال ُق ْر َبة» نفع اهلل هبا وبام جاء فيها وجعلها ذخرا‪.‬‬
‫جَ َ‬

‫‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫التمهيد وفيه أصول‬


‫األصل األول‪ :‬حكم املختلف فيه‪..‬‬
‫هل جيوز اإلنكار عىل الذي فعل شيئ ًا اختلف العلامء يف حكمه بني َح ْظ ٍر‬
‫ٍ‬
‫وإباحة؟‬
‫أما جواب هذا السؤال‪ ،‬فقد تولىَّ اإلجاب َة عليه العلامء املحققون املحدثون‬
‫مصيب؟‬ ‫ٍ‬
‫جمتهد‬ ‫واألصوليون‪ ،‬فإن علامء األصول اختلفوا‪ :‬هل ُّ‬
‫كل‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫جواز اإلنكار عىل‬ ‫مصيب)‪ ،‬فعد ُم‬ ‫ٍ‬
‫جمتهد‬ ‫(أن ك َُّل‬
‫‪ .1‬فعىل أحد املذهبني وهو‪َّ :‬‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫فاعل املخت َلف يف حتريمه َبينِّ ٌ ظاهر‪.‬‬
‫ِ‬
‫اإلنكار عىل‬ ‫ِ‬
‫جواز‬ ‫املصيب واحدٌ ) فعد ُم‬
‫َ‬ ‫‪ .2‬وعىل املذهب اآلخر وهو‪َّ :‬‬
‫(أن‬
‫مرفوع‬
‫ٌ‬ ‫واإلثم‬
‫َ‬ ‫(املخطئ غري متعينِّ ٍ لنا ‪،‬‬
‫َ‬ ‫ظاهر أيض ًا‪ .‬ألن‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫فاعل املختلف فيه َبينِّ ٌ‬
‫نعلم كون الفاعل للمختلف فيه خمطئ ًا ؟‬ ‫اإلنكار ونحن ال ُ‬
‫ُ‬ ‫جيوز‬
‫عنهم) فكيف ُ‬
‫ِ‬
‫فرع عن ( تعيني كونه خمطئ ًا) لك َّن خطأه ُ‬
‫غري متعينِّ فال إنكار‪،‬‬ ‫فإن ( اإلنكار) ٌ‬
‫جيل‪.‬‬
‫وهذا دليل واضح ٌّ‬
‫ومهم ذكره يف «إحياء‬
‫ٌّ‬ ‫«وحتقيق ًا ملا ذكرنا» فلحجة اإلسالم الغزايل كال ٌم مفيدٌ‬
‫علوم الدين»‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫قلت‪ :‬إذا كان ال يع رَت ُض عىل ِ‬
‫احلنف ِّي يف النكاح بال و ٍّيل ‪ ،‬ألنه يرى أنه‬ ‫«فإن َ‬
‫ُْ َ‬
‫حق ‪ ،‬فينبغي أن ال يعرتض عىل املعتزيل يف قوله‪ ( :‬إن اهلل تعاىل ال يرى)‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫ٌّ‬
‫ليس من اهلل تعاىل)‪ ،‬وقوله‪ ( :‬كال ُم اهلل خملوق)‪ .‬وال‬ ‫والرش َ‬
‫ِّ‬ ‫( إن اخلري من اهلل‬
‫وي يف قوله‪ ( :‬أن اهلل تعاىل ِج ْس ٌم) و (له ُصورةٌ) و( أنه ُم ْست َِق ٌّر عىل‬ ‫عىل احلَ َش ِّ‬
‫ش)‪ .‬بل ال ينبغي أن ُيعرتض عىل َف ْل َس ِف ٍّي يف قوله‪ ( :‬األجسا ُد ال تُب َع ُث وإنام‬ ‫ال َع ْر ِ‬
‫تُب َع ُث النفوس)؛ ألن هؤالء أيض ًا أ َّدى اجتهادهم إىل ما قالوه ‪ ،‬وهم يظنُّون أن‬

‫‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫ذلك هو احلق‪.‬‬
‫نص احلديث‬ ‫ُ‬
‫فبطالن َم ْن خيالف َّ‬ ‫ُ‬
‫بطالن مذهب هؤالء ظاهر‪،‬‬ ‫فإن قلت‪:‬‬
‫الصحيح أيض ًا ظاهر‪ ،‬وكام ثبت بظواهر النصوص أن اهلل تعاىل ُيرى واملعتزيل‬
‫ِ‬
‫كمسألة‬ ‫خالف فيها احلنفي‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫مسائل‬ ‫ينكرها‪ ،‬فكذلك ثبت بظواهر النصوص‬
‫النكاح بال ويل‪ ،‬ومسألة ُش ْف َعة ِ‬
‫اجلوار ‪..‬ونظائرها‪.‬‬
‫مصيب) وهي‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫جمتهد‬ ‫فاعلم‪ :‬أن املسائل تنقسم إىل ما يتصور أن يقال فيه‪ُّ :‬‬
‫(كل‬
‫ٌ‬
‫احل ِّل واحلرمة‪ ،‬وذلك هو الذي ال ُيعرتض عىل املجتهدين‬ ‫(أحكام األفعال يف ِ‬
‫ُ‬
‫خطؤهم قطع ًا ال ظن ًا‪ .‬وإىل ما ال يتصور أن يكون املصيب فيه‬ ‫ُ‬ ‫فيه) إذا مل ُيعلم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إال واحد؛ كمسألة الرؤية وال َقدَ ِر وقدَ ِم الكالم‪ . »...‬اهـ‪ - .‬ثم َّ‬
‫توسع اإلما ُم‬
‫الغزايل يف تقرير الفرق بني األحكام املتعلقة بأفعال اجلوارح ‪ ،‬واألحكام املتعلقة‬
‫بالعقائد ‪ .-‬انظر «اإلحياء» ‪. 322/2‬‬
‫وحتقيقا هلذا األصل قال سلطان العلامء يف «شجرة املعارف واألحوال»‬
‫ص‪:379‬‬
‫ف يف وجوبه‬ ‫اخت ُِل َ‬
‫«اإلنكار متع ِّلق بام ُأمجع عىل إجيابه أو حتريمه ‪ ،‬فمن ترك ما ْ‬
‫ف يف حتريمه‪ :‬فإن ق َّلد بعض العلامء يف ذلك فال إنكار عليه ‪ ،‬إال‬ ‫أو فعل ما اخت ُِل َ‬
‫حكمه يف مثلها‪ ،‬فإن كان جاه ً‬
‫ال مل ُينكَر عليه‪ ،‬وال‬ ‫َ‬ ‫أن ُي َق ِّلده يف مسألة َينْ ُق ُض‬
‫ْكر عليه ألنّه مل يرتكب محُ َّرما‪ ،‬فإنه ال يلزمه‬
‫بأس بإرشاده إىل األصلح‪ .‬وإنَّام مل ُين ْ‬
‫العامي التزا ُم مذهب معينَّ ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫تقليد من قال بالتحريم وال باإلجياب‪ ،‬وال يلزم‬
‫فإن الناس يف زمن الصحابة ريض اهلل عنهم إىل أن ظهرت املذاهب مل يزا ُلوا‬ ‫َّ‬
‫يق ِّلدون العلامء يف الوقائع املختلف فيها من غري التزام ملذهب مع ومل ي ِ‬
‫نكر‬ ‫ُ‬ ‫ينَّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ذلك أحد من العلامء‪ ،‬ومل يقل أحد من املفتِني مل ْن استفتاه إذا استفتي‪ :‬فال ت ََس ْل‬
‫األحو ُط‬
‫َ‬ ‫نعلمه بالرضورة‪ .‬وال بأس بإرشاد العا ّمي إىل ما هو‬
‫غريي ‪ ،‬وهذا مما ُ‬

‫‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫يف دينه‪ ،‬وال بأس بمناظرة املجتهد لريجع إىل الدليل الراجح‪ .‬واختالف العلامء‬
‫أن الفعل الذي هنَى عنه مجُ َم ٌع عىل‬ ‫اإلنكار إالَّ ملن َع ِل َم َّ‬
‫ُ‬ ‫رمحة؛ وعىل هذا فال جيوز‬
‫جممع عىل إجيابه‪ .»...‬اهـ‪.‬‬‫ٌ‬ ‫يأمر به‬
‫الفعل الذي ُ‬‫َ‬ ‫حتريمه‪َّ ،‬‬
‫وأن‬
‫وواقع‬
‫َ‬ ‫وقال أيضا رمحه اهلل يف موضع آخر ص‪« :377‬فمن َح ِف َظ امل َّت َف َق عليه‬
‫املختلف فيه‪ :‬فإن كان يعتقدُ التحريم َف َعله أو تركه فقد أثم‪ ،‬وإن مل يعتقد ذلك‬
‫َ‬
‫بعض العلامء فال حرج عىل ا ُملق ِّلدين‪ ،‬التفاق املسلمني عىل‬ ‫مل يأثم؛ ألنه إن ق َّلد َ‬
‫َفي فيام يعتقده احلنفي إذا مل‬ ‫ِ‬
‫حلن ِّ‬
‫ذلك يف احلديث والقديم‪ ،‬فال ُينْكر الشافعي عىل ا َ‬
‫احتج َم وصلىَّ من غري جتديد‬
‫َ‬ ‫الشافعي إذا‬
‫ِّ‬ ‫احلنفي عىل‬
‫ُّ‬ ‫يتطهر ِمن َم ِّس النساء‪ ،‬وال‬
‫وتر َك بسملة الفاحتة يف‬
‫تزو َج بغري ُشهود‪َ ،‬‬ ‫املالكي إذا َّ‬
‫ِّ‬ ‫الشافعي عىل‬
‫ُّ‬ ‫وضوء‪ ،‬وال‬
‫صالته»‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫أما و ُّيل العلامء وعامل ُ األولياء حميي الدين النووي فقال يف «رشح مسلم» ‪23/2‬‬
‫عند كالمه عىل حديث تغيري املنكر ما نصه‪« :‬ثم إن العلامء إنام ينكرون ما ُأمجِ َع‬
‫يب)‬ ‫ِ ِ‬ ‫ف فيه فال إنكار فيه؛ ألن عىل أحد املذهبني‪ُّ :‬‬
‫عليه‪ ،‬أما ا ُملخت َل ُ‬
‫(كل جمتهد ُمص ٌ‬
‫املختار عند كثريين من املحققني أو أكثرهم‪ ،‬وعىل املذهب اآلخر‬ ‫ُ‬ ‫وهذا هو‬
‫مرفوع عنه) ‪ ...‬وذكر أقىض القضاة‬
‫ٌ‬ ‫واإلثم‬
‫ُ‬ ‫غري متعينِّ ٍ لنا‬
‫واملخطئ ُ‬
‫ُ‬ ‫(املصيب واحدٌ‬
‫ُ‬
‫أبو احلسن املاوردي البرصي الشافعي يف كتابه «األحكام السلطانية» خالف ًا بني‬
‫حيمل الناس عىل مذهبه فيام‬ ‫السلطان احلسب َة هل له أن َ‬
‫ُ‬ ‫أن من ق َّلدَ ُه‬ ‫ِ‬
‫العلامء يف َّ‬
‫ِ‬
‫االجتهاد ‪ ،‬أم ال يغري ما كان عىل‬ ‫ب من ِ‬
‫أهل‬ ‫ِ‬ ‫اخت َل َ‬
‫ف فيه الفقهاء إذا كان املحتس ُ‬
‫ِ‬
‫مذهب غريه؟ (واألصح أنَّه ال ُي َغيرِّ ُ ) ملا ذكرناه‪ ،‬ومل يزل اخلالف يف الفروع بني‬
‫ب وال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصحابة والتابعني فمن بعدهم ريض اهلل عنهم أمجعني‪ ،‬وال ينك ُر حمتس ٌ‬
‫«ليس للمفتي وال للقايض أن ِ‬
‫يعرت َض عىل من‬ ‫غريه عىل غريه‪ ،‬وكذلك قالوا‪َ :‬‬
‫خالفه إذا مل خيالِ ْ‬
‫ف نص ًا أو إمجاع ًا أو قياس ًا جل َّي ًا‪ .‬واهلل أعلم»‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫أن ِمن شرَ ِ‬


‫ط‬ ‫قال الفتى املكي أبو عمر السليامين ‪ :‬وأقوال العلامء الدالة عىل َّ‬
‫ْ‬
‫وليس خمتلف ًا فيه) ٌ‬
‫كثري‬ ‫َ‬ ‫إنكار املنكر عىل فاعله‪ ،‬أن يكون (مجُ َمع ًا عىل حتريمه‬
‫ُ‬
‫يطول تت ُّب ُعها‪ ،‬وما أوردناه هنا منها يكفي للداللة‪.‬‬
‫ونختم كالمنا بكالم احلافظ ابن رجب احلنبيل يف «جامع العلوم واحلكم»‬
‫املختلف‬
‫ُ‬ ‫إنكار ُه ما كان جممع ًا عليه‪ ،‬فأما‬
‫ُ‬ ‫ب‬ ‫«واملنكر الذي ِ‬
‫جي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ص‪ 284‬حيث قال‪:‬‬
‫فيه ِ‬
‫فم ْن أصحابنا َمن قال ‪ :‬ال جيب إنكاره عىل من َف َع َل ُه سوا ًء كان جمتهد ًا أو‬
‫مقلد ًا ملجتهد تقليد ًا سائغ ًا»‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قال الفتى املكي‪ :‬ألن اإلنكار الذي حيصل من كثري من اجلهالء‪ ،‬عىل كثري‬
‫السبب األول خلَ ْل ِع‬
‫ُ‬ ‫الص ِ‬
‫الح والعطاء‪ ،‬هو‬ ‫من أعامل اخلري والنَّامء الستقطاب َّ‬
‫ِ‬
‫أغلب مملكته ضعف ًا أو قرس ًا‪،‬‬ ‫وانحسار ظِ ِّل ِه عن‬
‫ِ‬ ‫الفكر اإلسالمي عن عرشه‬
‫ٍ‬
‫أفكار‬ ‫أوقف مسري َة التقدُّ م الفكري‪ ،‬وجعل املسلمني يعيشون يف َغ َب ِ‬
‫ش‬ ‫َ‬ ‫حتى‬
‫ب‬ ‫والتعص ِ‬ ‫قعدت ِ‬
‫اهل َم ُم و ُأشعلت نار الرصاع املذهبي والطائفي‬ ‫ِ‬ ‫وأحالم ‪ ،‬حتى ُأ‬
‫ُّ‬
‫فأورث األحقا َد والضغائن ‪ ،‬وكان عون ًا ألعداء‬ ‫َ‬ ‫اآلخر بفكره‪،‬‬ ‫القبيل وإقصاء َ‬
‫ِ‬ ‫الو َه ِن‬
‫وتفتيت تالحم هذه األمة املقدسة‪ ،‬مما أعان عىل نرش‬ ‫اإلسالم عىل َب ِّث َ‬
‫والنصف‬
‫ُ‬ ‫ال نص ُف ُه ِع ْلامين ال يريدون اإلسالم‪،‬‬
‫فأنبت جي ً‬
‫َ‬ ‫(الضار) ‪،‬‬
‫الفكر الوافد َّ‬
‫اآلخر جامدون متشدِّ ُدون‪ ،‬وكال الفريقني ِم ْع َو ٌل هلدم هذا الصرَّ ْ ِح العظيم ‪،‬‬
‫فليتن َّبه املسلم ولي ُعدْ إىل صوابه وكتابه واملنهج الذي هو مصدر سعادة البرشية‬
‫واإلنسانية واحلمد هلل أوال وآخرا ‪.‬‬
‫تعام َل السلف مع املبتدعني ؟‬
‫األصل الثاين‪ :‬كيف َ‬
‫املبتد ِع وجمالستِ ِه‬
‫رأيت كتاب ًا فيه نصوص وتوصيات للطالب يقول‪( :‬حترم زيار ُة ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫النصيحة له واإلنكار عليه) ال أدري كيف يمنعون التحدث مع‬ ‫إال عىل وجه‬
‫املبتدعني وزيارهتم؟!‬

‫‪11‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫مع أن أهل احلديث كلهم قبلوا رواي َة املبتد ِع الذي ال يدعو لبدعته ‪ ،‬ور ُّدوا‬
‫رواية الداعية لبدعته‪ ،‬قال ابن حبان‪ :‬إن الداعي َة إىل البِدَ ِع ال جيوز االحتجاج‬
‫به عند أئمتنا قاطبة ال أعلم بينهم فيه خالفا‪ .‬اهـ‪ .‬ووافقهم احلاكم فيام نقله‬
‫ابن أمري احلاج‪.‬‬
‫قال الفتى املكي أبو عمر السليامين‪ ،‬عن عامل التحقيق سيدي أمحد بن الصديق‪:‬‬
‫ما فائد ُة هذا االشرتاط؟!‬
‫قلت من مشكاة شيخنا وسيدنا‪ :‬بل احتج مجهور احلفاظ بأحاديث الدعاة‬
‫ُ‬
‫كح ِريز بن عثامن‪ ،‬وعمران بن حطان‪ ،‬وشبابة بن سوار‪ ،‬وعبد‬
‫إىل بدعتهم؛ َ‬
‫احلميد احلامين‪ ..‬وأرضاهبم‪ ،‬والقاعدة تقول‪ُّ :‬‬
‫(كل مبتد ٍع داعي ٌة) ألن االنتساب‬
‫باإلعالن واإلظهار ‪ -‬وإن مل حتصل دعوة بالفعل ‪ -‬وهذه‬‫ِ‬ ‫للمذهب دعاي ٌة‬
‫كل إمام‪ ،‬حتّى حكى الربقي يف «الطبقات»‪:‬‬ ‫املخالفة موجودة يف كل طبقة وعند ِّ‬
‫رويت عن داود بن احلصني‪ ،‬وثور بن زيد‪ - ..‬وذكر غريمها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أن مالكا ُس ِئ َل كيف‬
‫ِ‬
‫األرض‬ ‫وكانوا ُي ْر َمون بال َقدَ ر ‪ -‬فقال مالك‪ :‬كانوا ألن ِخي ُّروا من السامء إىل‬
‫أسهل عليهم من أن َيكذبوا ِك ْذب ًة‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫احتج الشيخان واجلمهور الذين منهم ابن حبان واحلاكم ‪-‬احلاكيان هلذا‬
‫َّ‬ ‫وقد‬
‫ِ‬
‫بأحاديث املبتدعة الداعني إىل بدعتهم‪ ،‬وقد مجع احلافظ أسامء من‬ ‫اإلمجاع‪-‬‬

‫ يعني أهنم قبلوا كالم املبتدع الذي ال يدعوا إىل بدعته‪.‬‬
‫ هل هناك نسبة أو وجه شبه أو معيار يف القياس بني مرشوعية املولد الذي يتبع الدليل‬
‫اخلاص والعام واستحسنه العقالء والنبالء والعلامء والعوام وبني ما اشمأزَّ ت منه َّ‬
‫األمة‬
‫ربأت باتفاق األعالم كبدعة القدر َّية املض ِّللة وا ُملفسدة لألنام ؟! وأساس مذهب‬ ‫و َت ْ‬
‫القدْ َر ِة لإلنسان وأنه ُح ُّر اإلرادة مخُ ٌ‬
‫تار‬ ‫إنكار قدر اهلل‪ ،‬واملغاال ُة يف إثبات ُ‬
‫ُ‬ ‫القدرية هو‪:‬‬
‫يف أعامله كلها‪ ،‬ح ّتى قال زعيمهم معبد بن عبداهلل اجلهني قولته املشهورة‪( :‬ال َقدَ َر ‪،‬‬
‫واألمر ُأ ُنف)‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪12‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫فسمى نحو السبعني‪ ،‬وقد ذكر الذهبي يف‬


‫روى هلم البخاري من املبتدعة بالتش ُّيع َّ‬
‫ترمجة أيب أمحد احلاكم من «الطبقات» أنه قال‪ :‬سمعت أبا احلسن الغازي يقول‪:‬‬
‫قلت‪ :‬شأنه يف التش ُّيع‪،‬‬
‫سألت البخاري عن أيب غسان فقال‪ :‬عام تسأل عنه؟ ُ‬
‫ُ‬
‫فقال‪ :‬هو عىل مذهب أئمة أهل بلده الكوفيني‪ ،‬ولو رأيتم عبيد اهلل بن موسى‬
‫وأبا نعيم ومجيع مشاخينا الكوفيني ملا سألتمونا عن أيب غسان‪ :‬يعني لشدَّ تهِ م يف‬
‫التشيع ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مع أن كبرية االبتداع ككبرية الك َِذ ِ‬
‫ب وأ َط ّم‪..‬‬ ‫ُ‬
‫نظرت إىل مناهج بدعهم لرأيت كذب ًا ُبواح ًا ‪ ،‬وخمالف ًة لآليات واألحاديث‬
‫َ‬ ‫فإذا‬
‫الصحيحة الرصحية‪ ،‬لكنهم اعتمدوا يف التصحيح عىل االجتهاد املطلق يف حالة‬
‫الراوي وقرائن املتا َبعات للرواة‪ ،‬وتت ُّبع الطرق والشواهد ‪ ،‬التي منها (موافقة‬
‫األصول‪ ،‬واستعامل ثاقب العقول)‪ .‬وهذه احلقيقة مؤ ِّكدَ ٌة حلقيقة العمل باحلديث‬
‫الضعيف؛ تراهم يضعون رشوط ًا للعمل به ثم خيالفوهنا ويذكرون الضعيف‬
‫يضم صحاح ًا عقدوا اإلمجاع عىل صحته إال وفيه‬
‫ُّ‬ ‫ويستدلون به‪ ،‬ما ِمن كتاب‬
‫جيل‬
‫حديث مردود أو مريض مفؤود أو ضعيف منكر جمحود؛ وهذا يدل عىل أمر ّ‬
‫ومؤهل اجتهادي‪ ،‬واستقراء‬
‫َّ‬ ‫حل ِديث َّية‪ :‬إيامن قلبي‪ ،‬وذوق روحي‪،‬‬ ‫َّ‬
‫(إن الصنعة ا َ‬

‫ هلل در اإلمام البخاري يف كالمه عىل أشياخه الشيعة ‪ ،‬ومما يدل عىل علو شأنه يف هذا‬
‫املقام أنه يمتلك حيوي ًة عقلي ًة وفكري ًة يف مناخ اجتامعي ُح ٍّر منفتح َّأدى وأنتج إىل إبراز‬
‫رموز راسخة يف الترشيع وتطوير عملية االجتهاد ونشوء االجتاهات الفقهية‪ .‬إن مدحه‬
‫عمق يف فك ٍر يسعى للتقريب بني املذاهب والتعايش الذي‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الشيعة يدل عىل‬ ‫لشيوخه‬
‫نحن يف حاجته اآلن‪ ،‬إن املقارن َة بني منهج اإلمام البخاري مع املبتدعني ووصفه هلم‬
‫حتصل منهم وأخذ عنهم علام وافر ًا ظهر‬ ‫واعرتاف اإلمام ذاته بأهنم أساتذته ‪َّ ،‬‬‫ِ‬ ‫بالعلم‬
‫عليه حتى أصبح م َّت َفق ًا عىل جاللته ‪ .‬وانظر يا أخي إىل تعامل بعض أهل العلم املعارصين‬
‫مع املبتدعني؛ الذي يتهمهم بالضالل فضال عن الشتائم والسباب ‪ ،‬ويأمر يف الكتب‬
‫املدرسية هبجرهم‪ ،‬ليس ما أحكيه تارخيا مىض وانقىض بل هو حارض يمأل الواقع‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫قوي‪ ،‬مقرون بأصل التعظيم النبوي) جتتمع فتكون هي ضوء ًا يكشف الراوي‬
‫والرواية بكل عناية ودراية‪ ،‬فيخرج الدليل كالقمر يف ظالم الليل‪ُ ،‬يستنبط منه‬
‫مسموع‪ ..‬وتنترش الفروع‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫احلكم وتُصاغ املسألة‪ ..‬هذا مقرو ٌء وذاك‬
‫َ‬
‫حصل مع املبتدعني من الرعيل األول وب َّينوا‬ ‫َ‬
‫التعايش قد‬ ‫والذي نخ ُل ُص به‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫كيف التعامل معهم‪ ،‬وكام ذكرنا (أخذوا عنهم) ‪.‬‬
‫َّهموهنم‬ ‫ِ‬ ‫فنقول قوال رصحي ًا للمعارصين الذين‬
‫يشمئزون من املخالفني هلم ويت ُ‬
‫ُّ‬
‫وكذلك يعملون عىل إقصائهم ‪!.‬‬
‫واملرشعني‬
‫ِّ‬ ‫ما قولكم فيام ذكرنا من تعامل كبار احلفاظ والعلامء املجتهدين‬
‫املتبوعني مع املبتدعني‪ ،‬وكيف أخذوا عنهم ونقلوا ثقافتهم وبنو جمدهم‬
‫ومنهجهم بمشاركة بعض املبتدعني حقا‪ ،‬فهل لكم أسوة هبم ؟ وإن مل يكن‪..‬‬
‫كيف اعتمدتم عىل علمهم ؟!‬
‫فاألصول املدعومة بصحيح املنقول ورصيح املعقول‪ ،‬والذي شارك يف‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫فحول من املجتهدين‪ :‬أخذوا عن ا ُملبتدعني َ‬
‫وس َبكوا الدواوين‪ ،‬حتَّى‬ ‫بنائها‬
‫أصبحت بنا ًء قو ّي ًا ظاهر ًا جل ّي ًا‪.‬‬
‫أن سل َفنَا الذي بنا هذا املجد ِمن فقه الفروع قد كان‬ ‫ومل أذكر هذا إال لتَع َلم َّ‬
‫عيش املبتدعون‪ ،‬فحصل تلقيح لألفكار‪ ،‬لكنهم أخرجوها‬ ‫ِ‬
‫ساحة الفكر َي ُ‬ ‫معه يف‬
‫واضح ًة كضوء النهار‪ ،‬ومل يخُ رجوهم ولكنهم أخرجوا ضالل أفكارهم وظالم‬
‫اعتقادهم‪ ،‬كام أن سامء اإلسالم التي أظ َّلتهم مل تَدَ ْعهم يتناحروا أو يتنافروا أو‬
‫يتدابروا (كام نرى يف بعض املنتسبني للعلم) الذين َحكموا هبجر ومقاطعة أهل‬
‫البدع ‪ -‬عىل رأهيم ‪-‬و َأنكروا وجودهم حتت ِم َظ َّل ِة الدين الذي َقبِ َل الطوائف‬
‫واملذاهب وجعل أفكارها ذخائر ال رضائر قوال وفعال ﮋ ﭱ ﭲ‬
‫ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬

‫‪14‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ‬
‫ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮊ [آل عمران‪. ]١٠٣ :‬‬

‫األصل الثالث‪ :‬األخذ بظواهر النصوص‪..‬‬


‫إن العمل بظاهر األلفاظ دون مضموهنا ُم ْبطِ ٌل للرشع‪ .‬وقد ذ َّم اهلل من اتبع‬
‫الظاهر فقال‪ :‬ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ [الروم‪ ]٧ :‬وكام قال اإلمام القايض‬
‫أبو بكر بن العريب يف «األحكام الصغرى» مط ّبق ًا هلذه القاعدة بعد أن ذكرها‬
‫يف كالمه عىل آية الوضوء ما نصه‪« :‬فلو غسل املتوضئ رأسه بدال عن املسح‬
‫ألجزأه؛ ألنه أتى باملسح وزيادة‪ ،‬وقيل ‪ :‬ال جيزئ؛ عم ً‬
‫ال بظاهر النص !!»‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫‪. 310/1‬‬
‫إن أعظم تطبيق هلذه القاعدة حديث «كل بدعة ضاللة» ُيشكل عىل كل من أخذ‬
‫َ‬
‫أصول الرشع حلديث‬ ‫بظاهر اللفظ؛ لذا قرروا أنه‪ :‬عام مخُ َصص ببدعة حسنة‪ ،‬ت ِ‬
‫ُالئ ُم‬ ‫ٌّ َّ ٌ‬
‫« َم ْن َس َّن يف اإلسالم ُسنَّ ًة َح َسنَ ًة فل ُه أجرها‪ »...‬احلديثان مشهوران‪ ،‬أخرجهام أمحد‬
‫املخصص‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وأهم ما جيب معرفته نوع‬
‫ُّ‬ ‫ومسلم والرتمذي والنسائي‪ ...‬وغريهم‪،‬‬
‫التخصيص بالعادة ليس باطالً‪ ،‬بل هو ِمن متام االستدالل ووضع اللفظ‬
‫َ‬ ‫كام َّ‬
‫أن‬
‫عىل مدلوله‪ ،‬وأنه رضوري للعمل بالنصوص‪ ،‬وأنه قول سائر األصوليني‪ ..‬ال‬
‫إقرار نبي اهلل صىل اهلل عليه وسلم أهل البلدين مكة واملدينة‬
‫بعضهم‪ ،‬واألصل‪ُ :‬‬
‫عىل أعرافهم‪ ،‬وطل ُب ُه أن تستمر أحكام األعراف؛ وهذا أحدُ ها ‪ :‬قوله ألم املؤمنني‬
‫السيدة عائشة عندما أنكحت ذات قرابة هلا من األنصار‪:‬‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪َ :‬ف َهلاّ بعثت ُْم معهم َمن ُي َغنِّ ْيهم‬
‫ْ‬ ‫«أهديت ُُم اجلاري َة إىل َب ْيتِها؟‬
‫األنصار قو ٌم فيهم غزل»‪ .‬وهذا‬
‫َ‬ ‫يقول‪ :‬أتيناكُم أتيناكُم فح ُّيونا نح ِّييكُم ‪ ،‬فإن‬
‫باب كبري واسع‪ .‬كذلك أعطانا الشارع الكريم الفراس َة املطلق َة يف متييز األشياء‬

‫‪15‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫ومعرفتها واحلكم عليها عن طريق القلب املؤمن كام جاء يف حديث‪« :‬البرِ ُّ ما‬
‫وتر َّد َد وإن َ‬
‫أفتاك‬ ‫س َ‬‫حاك يف النَّ ْف ِ‬
‫ب‪ ،‬واإل ْث ُم ما َ‬
‫واطمأن إليه ال َق ْل ُ‬
‫َّ‬ ‫َّت إليه النَّ ْف ُس‬
‫اطمأن ْ‬
‫ُون وأفت َْو َك» واملقصود ِمن هذا احلديث الذي يأمرنا به رسولنا صىل اهلل عليه وسلم‬ ‫ا ُمل ْفت َ‬
‫بيد َك ٌ‬
‫دليل‬ ‫ثمرات عقولنا‪ :‬إما أن يكون ِ‬
‫ُ‬ ‫لتظهر‬ ‫أن نجعل عالق ًة وثيق ًة بيننا وبني قلوبِنا‬
‫َ‬
‫نفس شيطان ّي ٌة‬ ‫االطالع عليه‪ ،‬فكراهت َُك ُ‬
‫غري معتدٍّ هبا؛ ألهنا ٌ‬ ‫َ‬ ‫كرهت‬
‫َ‬ ‫عىل اإلباحة ثم‬
‫الرشع عىل إباحته بل واستحبابه‪ ،‬وإما أن يكون ال َ‬
‫دليل عندك عىل‬ ‫ُ‬ ‫َص‬
‫تكره ما ن َّ‬
‫َ‬
‫ونفور يوجب لك الكراهة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫بأن ما يحَ دُ ُ‬
‫ث عند الناس عاد ٌة‬ ‫التحريم ولكن َأ َ‬
‫خذت َّ‬
‫دليل اإلثم فال تفعل ذلك األمر الذي َ‬
‫حاك منه يف صدرك‪.‬‬ ‫فتلك الكراهة حينئذ ُ‬
‫َنـزل منـزلتها؛ فإليك ٌ‬
‫مثال َح ّي فيام ذكرناه‬ ‫َّ‬
‫وإن األفعال تؤ ِّيدُ األقوال‪ ،‬وت ّ‬
‫عن البدعة وختصيصها‪ ،‬ونَرى كيف تَعامل معها عظامء هذه األُ َّمة من اخللفاء‬
‫باهر‪ ،‬فقد جاء سيدنا‬
‫واضح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ظاهر‬
‫ٌ‬ ‫الراشدين املهديني‪ ،‬وعملهم ُيعترب ٌ‬
‫دليل‬
‫عمر بن اخلطاب الذي فتح لنا لالجتهاد أبواب ًا‪ ،‬ووقف بذاته عىل الصواب‪ ،‬وكيف‬
‫كان يستنبط حتَّى كان كالمه فصل اخلطاب؛ فقد نظر إىل املجتمع اإلسالمي‬
‫يف العاصمة اإلسالمية املدينة املنورة ا َّلتي َّ‬
‫أسسها إمام األنبياء وسيد األصفياء‬
‫واألتقياء سيدنا حممد صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬واستلمها ِمن خليفة رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وس َّلم سيدنا أيب بكر الصديق ونظر إىل رشائح املجتمع فوجده مراتب‬
‫فأسس هلم أرض ًا بجوار املسجد‬ ‫ِ‬
‫كالكون متعدِّ د الثقافات حكمة اهلل يف الربيات‪َّ ،‬‬
‫يزفروا فيه الزفرات‪ ،‬و ُيظهروا فيه األعراف والعادات‪ ،‬وكأنه منتدى ألوامر‬
‫النفوس‪ ،‬وعواطف القلوب‪ ،‬واجتهادات األفكار‪ ،‬وأنغام األصوات‪ ،‬والتباهي‬
‫بكامل األجسام والعضالت‪ ،‬ولِبرُ وز اهلوايات‪ ،‬وإظهار الكفاءات لكل رشائح‬
‫املجتمع وكل طبقاته وكل هواياته كام جاء يف «موطأ مالك» (‪ )422‬؛ عن مالك‬
‫أن عمر بن اخلطاب َبنَى َر ْح َب ًة يف ناحية املسجد‪ ،‬ت َُس َّمى ا ْل ُب َط ْي َحا َء‪.‬‬
‫أنَّه بلغه َّ‬

‫‪16‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫أن َي ْل َغ َط‪ ،‬أو ُينشد ِشعر ًا‪ ،‬أو َيرفع صوتَه‪َ ،‬ف ْل َيخرج إىل‬
‫وقال‪َ « :‬م ْن كان ُيريدُ ْ‬
‫الر ْح َب ِة»‪ .‬فريض اهلل عن أمري املؤمنني املؤمن بتعدُّ د ثقافات الكون وحقوق‬ ‫هذه َّ‬
‫النفوس يف اهلوايات واألعراف والعادات‪ ،‬وهي عبارة عن استهالك للطاقات‬
‫وإظهار للكفاءات‪ ،‬وهذا الذي قال فيه نبي اهلدى صىل اهلل عليه وسلم‪َّ :‬‬
‫«إن‬
‫احلق عىل قلب عمر ولسانه»‪.‬‬
‫َّ‬
‫فإن كان هذا حق يا أخي ِمن أهل احلق و َمنفعتُه ظهرت بجدٍّ وصدق ملاذا ال‬
‫يكون عندنا منتدى جيمع اآلراء واألفكار والتوجهات بدون إقصاء أحد وقبول‬
‫االستامع ألَ ِّي أحد‪ ،‬ونحن نملك املواد واملوارد واملنهج ؟!‬
‫و َف َع َل عمر ريض اهلل عنه هذا َأ َمام الصحابة األجالء الذين فتحوا األمصار‬
‫وال ُبلدان‪ ،‬ودخلوا قلوب أهلها ومل يقولوا يف فعلته هذه‪ ( :‬يا عمر هذه بدعة ) !‬
‫ذكرت واحلمد هلل أد َّلة عقل َّية‬
‫ُ‬ ‫وإن كان ما ذكرتُه آنف ًا ِمن فوائد املقدمة‪ ،‬فإين‬ ‫ْ‬
‫ونقل َّية خمدومة بقواعد االستنباط منتظمة ُبأ ُسس حتقيق ا َملناط‪ ،‬ترى فيها قواعد‬
‫عز وجل ختدم ا َملقاصد‬ ‫فقه َّية و ُأ ُسس أصول َّية ونظريات كُل َّية‪ ،‬وكلها ِمن فضل اهلل َّ‬
‫ومجعت يف‬
‫ُ‬ ‫اعتمدت يف األد َّلة كلها عىل تنوير ا َملقاصد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الرشع َّية التعليل َّية؛ ألنيِّ‬
‫ٍ‬
‫جمتهد إلظهار هذه ا َمل َح َّجة البيضاء والتي كلها رائعة‬ ‫رش ٍع‬ ‫املسألة ُج ْهدَ كل ُم ِّ‬
‫الصفاء ممزوجة ببياض النقاء‪ ،‬وال تخَ رج عن ما قاله العارفون‪« :‬العبادات طاعة‬
‫طوع َّية ممزوجة باملح َّبة القلبية أساسها املعرفة اليقينية تُفيض لسعادة أبد َّية»‪.‬‬
‫فإن ما كتبته ِغراس العبادة وثمرة السعادة قائمة عىل أشجار أهل الفضل أهل‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫فإليك يا أخي ما أرجو أن ينفعك و َيسرُ ّ ك‪..‬نفعني اهلل به يف‬ ‫اإلرادة والقيادة‪،‬‬
‫الدارين وصىل اهلل عىل سيد األولني واآلخرين ‪.‬‬

‫ئ‬

‫‪17‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫األول‬ ‫الدَّ ُ‬
‫ليل َّ‬
‫وإن مل َي ِرد هلا دليل‬
‫الرشع باعتبار جنسها فهي مرشوعة ْ‬
‫ُ‬ ‫إن ال ُق ْر َبة إذا َش ِهدَ‬
‫َّ‬
‫مقرر يف قواعد الفقه وأصوله‪.‬‬
‫خاص ‪ ،‬كام هو َّ‬
‫ٌّ‬
‫وهذه ال ُقربة ا َّلتي هي االجتامع للموالد وسامع املناقب النبوية‪ ،‬أو لسام ِع قصة‬
‫اإلرساء واملعراج‪ ،‬أو لسامع مناقب السيدة خدجية ريض اهلل عنها‪ ،‬أو أي جزء من‬
‫النبي صلىَّ اهلل عليه‬
‫«توقري ِّ‬
‫ُ‬ ‫السرية النبوية‪ ..‬قد شهد الرشع باعتبار جنسها وهو‬
‫ِِ‬
‫نص بعينها‪.‬‬‫وس َّلم‪ ،‬و احرتامه وإجالله»‪ ،‬فهي مرشوعة وإن مل َي ِرد فيها ٌّ‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل ال َّثاين‬
‫احتاج له أهل الزمان ِمن أساليب أو‬
‫َ‬
‫ف يف مرشوعيته مما است ِ‬
‫ُحدث أو‬ ‫ما اخت ُِل َ‬
‫ِ‬
‫وسائل؛ َفف ْع ُل ُه َأ ْولىَ ‪ .‬كام نص عليه العز بن عبد السالم‪َّ ،‬‬
‫ورجحه القرايف يف سنن‬
‫املهتدين «املقام السادس»‪.‬‬
‫وهذه املجالس قد ُاختلف يف مرشوعيتها؛ فقال هبا األكثر‪ ،‬وك َِر َهها قوم‬
‫مرشوع عىل هذه القاعدة الفقهية‪ ،‬فاجلمهور استح َّبها (علامؤهم‬ ‫ٌ‬ ‫آخرون‪ ،‬فهو‬
‫وعوا ُّمهم) ومل ْ َي ُش َّذ إال َمن جمَ َدَ عىل ُح َّج ٍة واهية ِمن غري مراعاة لألدلة النقلية‬
‫والعقلية التي ن ََّص ْت عىل ال ُقربة والنَّدب إليها‪.‬‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل ال َّثالث‬
‫كل ما ي ِ‬
‫وه ُم يف جانبه صىل اهلل عليه وس َّلم ن ْقص ًا من‬ ‫قال األئمة ا ُملح ِّق ُقون‪ :‬إِ َّن َّ ُ‬
‫رض ذلك‬ ‫العبارات يف بعض األخبار والقصص؛ يجَ ب إنقاصها وحذفها‪ ،‬وال َي ُّ‬
‫َّقص يف حقه صىل اهلل عليه وسلم فإنه ِجي ُ‬
‫ب‬ ‫يرفع إهيام الن ِ‬
‫صحتها‪ ،‬وكل ما ُ‬
‫يف ّ‬

‫ حتى ال يكون من املتشابه الذي ُيفيض إىل الزيغ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫لتعظيم ِه وال َيضرُ ُّ ‪« .‬فالعلة واحدة»‪.‬‬


‫ِ‬ ‫زيادته؛ ألنه وسيل ٌة‬
‫«س ِئ َل ُ‬
‫شيخ‬ ‫قال احلافظ السيوطي ىف كتابه «تنـزيه األنبياء عن تسفيه األغبياء»‪ُ :‬‬
‫اإلسالم قايض القضاة شهاب الدين ابن حجر بام نصه‪ :‬ما ُ‬
‫يقول أئمة الدين‬
‫يف هذه املوالد التي يصنعها الناس محَ ّب ًة يف النبي صىل اهلل عليه وس َّلم‪ ،‬غري أن‬
‫اخلاص والعا ِّم يذكرون ‪ -‬أي يف‬
‫ِّ‬ ‫الو َّعاظ يف جمالسهم احلافلة املشتملة عىل‬
‫بعض ُ‬
‫سياق احلكايات ‪ -‬أشيا َء مخُ َّلة بكامل التَّعظيم؛ حتى يظهر من السامعني هلا ُح ٌ‬
‫زن‬
‫رح ُم ال يف ح ِّيز َمن ُي َع َّظم! ؛ ِمن ذلك أهنم يقولون‪ :‬إن‬
‫َو ِر َّقة‪ ،‬فيبقى يف ح ِّي ِز من ُي َ‬
‫يأخذنه ل َعدَ ِم مالِه ‪ -‬أي ‪ :‬ليس له ٌ‬
‫مال ‪ -‬إالَّ حليم ًة رغبت‬ ‫ْ‬ ‫ا َملر ِ‬
‫اضع َحضرَ ْ ن ومل‬ ‫َ‬
‫وكثري يف هذا املعنى ِّ‬
‫املخل بالتّعظيم يف ذلك ؟‬ ‫ٌ‬ ‫يف رضاعه؛ شفق ًة عليه‪..‬‬
‫ف ِمن اخل ما ي ِ‬
‫وه ُم يف ا ُملخبرَ عنه‬ ‫يكون َفطِن ًا َأ ْن يحَ ِذ َ‬
‫ُ‬ ‫فأجاب بام نصه‪ :‬ينبغي ملن‬
‫َبرَ ُ‬
‫ب ‪ .‬هذا جوابه بحروفه» اهـ‪.‬‬ ‫رضه ذلك؛ بل يجَ ِ ُ‬ ‫ن ْقص ًا‪ ،‬وال َي ُّ‬

‫الرابع‬ ‫الدَّ ُ‬
‫ليل َّ‬
‫إن األد ّلة النقلية وال ِ‬
‫اهني العقلية قائم ٌة باستحسان شكر الواسطة يف إيصال‬ ‫برَ‬
‫اخلري والنّ ْفع‪.‬‬
‫وال واسط َة أعظم من موالنا رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪ِ ،‬‬
‫ومن ُشك ِْره‬ ‫َ‬
‫نجتمع؛ مأمورين بقوله تعاىل ‪ :‬ﮋ ﯓ ﯔ ﯕ ﮊ‬ ‫َ‬ ‫وتَعظيمه وتَوقريه أن‬
‫ِ‬
‫اإليامن به واالعرتاف‬ ‫[الرشح‪ ، ]4 :‬وهذا خرب يتضمن األمر بر ْفع ِذكره بِ َأمر ٍ‬
‫زائد عىل‬ ‫ٌ َ َّ‬
‫ٍ‬
‫واجتامعات‬ ‫ِ‬
‫كمجالس شكره‪،‬‬ ‫برسالته‪ ،‬وال يكون ذلك إِالَّ بتخصيص وسائل‪:‬‬
‫تعظيم‬
‫ٌ‬ ‫بفضل ِه وشرَ َ فِ ِه من شعائر اإلسالم‪ ،‬وعَقدُ ا َمل ْج ِلس‬
‫ِ‬ ‫فاإلقرار‬
‫ُ‬ ‫ذكر ِه‪،‬‬
‫لرفع ِ‬
‫للشعائر‪ ،‬واألفضل أن َيظهر املجلس يف (التلفاز) إلغا َظ ِة أعداء الدِّ ين‪ ،‬و َق ْرع‬
‫أسامعهم برسالته وسيادته عىل املخلوقني‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل اخلامس‬
‫وإظهار توقريه ورشفه زيادة خري؛ واهلل تعاىل يقول ﮋ ﮜ‬
‫َ‬ ‫تعظيم ُه‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫ﮝ ﮞ ﮟ ﮊ [احلج‪:]٧٧ :‬‬
‫ويف املجالس نَذكر ح ّق ًا ِمن ح ِ‬
‫قوقه ا ّلتي ال تحُ ْ ىَص‪ ،‬ونَتح َّق ُق من قوله َج ّل ذكره‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ﮋ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮊ[ النور‪ ، ]٦٣ :‬ف َيتعينَّ ذكر‬
‫بالسيادة ا ّلتي يتَحتَّم أمرها عند‬
‫التّعظيم بوسائله؛ يف القلب واللسان‪ ،‬فنذكره ّ‬
‫ذكره صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬ون َُذكِّر بعضنا أن اهلل هنى املؤمنني أن يقولوا للنبي‬
‫ٍ‬
‫تنقيص وقل َة َأ َد ٍ‬
‫ب‬ ‫صىل اهلل عليه وسلم ‪ :‬ر ِ‬
‫اعنَا ؛ َسدّ ًا للذريعة‪ ،‬وقطع ًا ملا فيه إهيام‬ ‫َ‬
‫يف جانبه صىل اهلل عليه وسلم ولو من بعيد‪..‬‬
‫ﮋ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﮊ [البقرة‪ِ ]١٠٤ :‬‬
‫وذكْر‬
‫اسمه صىل اهلل عليه وسلم بِدون سيادة ‪ -‬وإن قصد به متك ِّل ٌم غاية التَّعظيم ‪ -‬فهو‬
‫(والتمس ُك بالعموم واجب)‪.‬‬ ‫م ِ‬
‫وهم للنَّقص؛ «بحسب ال ُع ْرف والعادة اجلارية»‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬

‫السادس‬ ‫الدَّ ُ‬
‫ليل َّ‬
‫إن املجالس ت َُذكّرنا أن االجتامع انعقد عىل ُح ِّ‬
‫ب َمن أمرنا اهلل بمخاطبته يف‬
‫التَّشهد يف الصالة؛ يقول ا ُملصليِّ ‪َّ :‬‬
‫«السالم عليك أيهُّ ا النَّبي» فهي (واجبة)‪،‬‬
‫الصالة واجبة‪( ،‬وال ُيبطل يشء منهام الصالة)‪.‬‬
‫وكذلك إجابته يف َّ‬
‫الزخمْشرَ ي يف تفسري قوله تعاىل‪ :‬ﮋ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬
‫قال َّ‬
‫وحد‬
‫(إن اهلل سبحانه وتعاىل َّ‬ ‫[األنفال‪]٢٤ :‬‬ ‫ﯠﯡ ﯢﯣ ﯤ ﮊ‬
‫الضمري؛ يعنى‪ :‬يف ( َد َعاكُم)؛ ألن استجابة رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬ ‫ّ‬
‫كاستجابته سبحانه وتعاىل‪ ،‬وإنام َي ْذكر أحدمها مع اآلخر للت َّْو ِكيد‪ .‬واملراد‬

‫‪20‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫ُ‬
‫البعث والتَّحريض‪ ،‬وكام روى أبو‬ ‫ُ‬
‫واالمتثال‪ ،‬وبالدعوة‪:‬‬ ‫باالستجابة‪ :‬الطاع ُة‬
‫هريرة‪ :‬أن النبي صىل اهلل عليه وسلم َم َّر عىل باب ُأبيَ ِّ بن كعب؛ فناداه وهو يف‬
‫قال‪:‬كنت‬
‫ُ‬ ‫الصالة‪ ،‬ف َع ِج َل يف صالته ثم جاء فقال‪« :‬ما َمنَ َع َك عن إجابتي؟ ‪،‬‬
‫ُأصليِّ ‪ ،‬قال‪ :‬أمل تخُبرَ يف ما أوحي إ َّيل‪ ،‬استجيبوا هلل َّ‬
‫وللرسول؟ قال‪ :‬ال َج َر َم ال‬
‫تدعوين إِالَّ َأج ْبت َُك»‪ .‬وفيه قوالن ‪:‬‬
‫ُص به رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬ ‫أحدمها‪ :‬أن هذا مما اخت َّ‬
‫الثاين‪ :‬أن دعاءه كان ألمر ال يحَ تمل التأخري‪ ،‬وإذا وقع ِم ْثله للمصليِّ َف َله أن‬
‫َيقطع صالته)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫الرسول صلىَّ اهلل عليه وس َّلم ُم ْط َلقا‬
‫صحيح‪ ،‬وهو ُيفيد إجابة َّ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫احلديث‬ ‫قلت ‪:‬‬
‫ُ‬
‫ال يف خصوص أمر واجب التعجيل ‪ -‬ولو كان ُيصليِّ فريضة ‪ -‬فإجابته عليه‬
‫الصالة والسالم طاع ٌة ُمف َ‬
‫رتضة‪ ،‬وكذلك‪ :‬الصالة عليه صىل اهلل عليه وسلم يف‬
‫الصالة واجبة‪.‬‬
‫أن اهلل تعاىل أوجب الصالة‬‫بل من أحكام واجبات املحبة‪ ،‬ورشوط ال ُق ْر َبة‪َّ :‬‬
‫ور َّغب فيها برتغيب بالِغ‪،‬‬
‫عليه صىل اهلل عليه وسلم عند سامع اسمه الرشيف‪َ ،‬‬
‫جزل عليها الثواب اجلسيم‪ ،‬وأخرب عنه أنه ُيصليِّ بذاته املقدسة ومالئكته‬ ‫و َأ َ‬
‫عليه صىل اهلل عليه وسلم وعىل َمن ُيصليِّ عليه بكل واحدة عرشا؛ تعظي ًام‬
‫ل َقدْ ره‪ ،‬وتنوهي ًا برشف َمقامه وفضله‪.‬‬
‫نجتمع و َن ْع ِقدُ ا َملجالس ا ّلتي ُخ ِّص َصت لتعظيم رمحة اهلل ا ُمل ْر َسلة‬
‫ُ‬ ‫فكيف ال‬
‫لسعادة عباد اهلل!‬

‫‪21‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫السابع‬ ‫الدَّ ُ‬
‫ليل َّ‬
‫(وهو األهم)‪ :‬أنه مل َي ِرد النَّهي عن هذه ا َملجالس أصال‪ ،‬ودليل استحباهبا هو‪:‬‬
‫املوافقة ألصول الشرَّ يعة‪.‬‬
‫وعىل فرض ُورود النَّهي ‪َ -‬تن َُّـزالً مع َمن َش َّذ – نقول‪:‬‬
‫أالدب ُمقدم على االمتثال‬
‫ألن النبي صىل اهلل عليه وس َّلم َأ َّقر أبا بكر وعل ّيا َريض اهلل عنهام عىل خمالفة‬
‫َّ‬
‫ومتضمن معنى‬
‫ِّ‬ ‫َأ ْم ِره؛ فدَ َّل إقراره عىل ‪ :‬أن األدب مقدَّ م عىل االمتثال ‪،‬‬

‫ أما سيدنا أبو بكر ريض اهلل عنه فقد جاء يف املوطأ‪ ،‬والصحيحني‪ ..‬وغريهم‪َّ :‬‬
‫أن أبا بكر‬
‫َّأم الناس يف غياب رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فلام جاء رسول اهلل وهم يف صالهتم‬
‫اصطف مع الناس خلف أيب بكر فصفق الناس ‪ ،‬وكان أبوبكر ال يلتفت يف صالته‪ ،‬فلام‬‫َّ‬
‫أكثر الناس من التصفيق التفت أبوبكر‪ ،‬فلام رأى أبو بكر النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫َ‬
‫مصطف ًا خلفه مع ال َّناس استأخر ح َّتى استوى يف الصف بعدما أمره النبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم بأن يبقى عىل حالته ‪ ،‬فلم يمتثل ألمر رسول اهلل ‪ ،‬فقال له رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم بعدما فرغوا من الصالة‪« :‬يا أبا بكر ‪ ،‬ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟! فقال‬
‫أبو بكر‪ :‬ما كان البن أيب قحافة ‪ ،‬أن ُيصليِّ َ بني يدي رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم»‬
‫احلديث ‪.‬‬
‫أما سيدنا عيل عليه السالم ففي الصحيحني وغريمها‪ ،‬عن الرباء ريض اهلل عنه قال‪ :‬أن‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم ملا أراد أن يعتمر أرسل إىل أهل مكة يستأذهنم ليدخل مكة‪،‬‬
‫فاشرتطوا عليه أن ال يقيم هبا إال ثالث ليال ‪ ،‬وال يدخلها إال بجلبان السالح ‪ ،‬وال يدعو‬
‫منهم أحدا ‪ ،‬قال ‪ :‬فأخذ يكتب الرشط بينهم عيل بن أيب طالب ‪ ،‬فكتب ‪ :‬هذا ما قاىض عليه‬
‫حممد رسول اهلل ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬لو علمنا أنك رسول اهلل مل نمنعك ولبايعناك ‪ ،‬ولكن اكتب‪ :‬هذا ما‬
‫قاىض عليه حممد بن عبد اهلل ‪ ،‬فقال‪« :‬أنا واهلل حممد ابن عبد اهلل ‪ ،‬وأنا واهلل رسول اهلل‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫وكان ال يكتب قال ‪ :‬فقال ‪ -‬أي رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم – لع ٍّ‬
‫يل‪ :‬امح (رسول اهلل) ‪،‬‬
‫فقال عيل ‪ :‬واهلل ال أحموه أبدا ‪ ،‬قال‪ :‬فأرينه ‪ ،‬قال ‪ :‬فأراه إياه ‪ ،‬فمحاه النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫بيده‪»...‬احلديث‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫عمل َمن ُييس ُء األدب معه‬ ‫ينضم لألد َّلة ا َّلتي تخُبرِ ُ‬
‫بح ُبوط َ‬ ‫ُّ‬ ‫االمتثال ‪ .‬وهذا دليل‬
‫صىل اهلل عليه وس َّلم‪ ،‬فلو فرضنا أنه َأ َم َرنا بعدم االجتامع يف ا َملجالس ّ‬
‫نص ًا‪ ..‬لكان‬
‫األدب معه عليه الصالة والسالم يوجب علينا ذلك االجتامع‪ ،‬وإظهار التعظيم‬
‫رضنا مخُ الفة َأ ْم ِره النَّاتج عن‬
‫حلرضته الذي هو أعظم صلة بعد اإليامن به‪ ،‬وال َي ّ‬
‫وه ْضم حقوقه عليه الصالة والسالم؛ وذلك لتعظيم ذاته ا ُملقدَّ َس ِة يف‬ ‫تواضعه َ‬
‫السموات عىل كل املخلوقات‪ ،‬فكيف ومل َي ِر ْد نهَ ْ ٌي يف ذلك واحلمد هلل‪ ،‬ويؤيد هذا‬
‫َّ‬
‫ويزيده وضوحا‪..‬‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل ال َّثامن‬
‫قال األصويل ا َملعقويل اإلمام ال َقرايف يف «تنقيح الفصول» «قاعدة املقصد‬
‫خالف من كتاب اهلل وسنة نبيه عليه‬ ‫َ‬ ‫يوجدُ عالمِ إِالَّ وقد‬
‫والوسيلة» قال‪ :‬ال َ‬
‫ض ِ‬
‫راج ٍح عليها عند خمالفتها‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫الصالة والسالم أد َّلة كثرية؛ ولكن ُمل ِ‬
‫عار ٍ‬
‫وقال أيضا ُمت َِّم ًام‪ :‬والعلم بعدم ا ُملعارض يتوقف عىل َمن له أهل َّية استقراء‬
‫الرشيعة‪ ،‬حتّى حيسن أن يقول‪ :‬ال ُم ِ‬
‫عار َض هلذا احلديث‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وتأكيد ًا لكالم اإلمام القرايف فقد أفتَوا باستحباب أمور كثرية ورد النهي عنها؛‬
‫منها‪ :‬ما أفتى به العز بن عبد السالم بجواز القيام للناس عند دخوهلم ا َملحافِل‬
‫إن ُأذ َية املسلم برتك القيام له عند‬
‫إذا كان ترك القيام هلم فيه ُأ ْذ َية‪ ..،‬وقال‪َّ ( :‬‬
‫دخوله ُمؤ ٍّد إِىل العداوة والبغضاء)‪ ،‬مع أن احلديث الصحيح لفظه‪« :‬وكانوا إذا‬
‫علمون ِمن كراه َّيتِ ِه لذلك»‪ .‬أخرجه الرتمذي وقال‪ :‬حس ٌن‬
‫َ‬ ‫رأو ُه مل يقوموا إليه ملا َي‬
‫صحيح‪.‬‬
‫ٌ‬
‫شارب َيفتِ ُل ُه إذا َغ ِضب؛ كام‬
‫ٌ‬ ‫وهذا سيدنا عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه كان له‬
‫جاء يف «ا ُملو َّطأ» وكذا اإلمام مالك كام جاء يف «املدارك»‪ ،‬مع أن النَّص واضح‬

‫‪23‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الشارب وأع ُفوا ال ّلحى»‪.‬‬ ‫«ح ُّفوا َّ‬


‫ورصيح‪ُ :‬‬
‫ون ومل يعرتض عليهم اخلاضبون بأهنم‬ ‫كبري من الصحابة ال يخَ ِض ُب َ‬
‫وكان عد ٌد ٌ‬
‫«اآلداب الرشعية واملِنَح ا َملرع ّية» البن مفلح احلنبيل‬
‫َ‬ ‫(ارتكبوا محُ َّرما)؛ كام جاء يف‬
‫‪353/3‬؛ منهم‪ :‬عيل بن أيب طالب‪ ،‬وعمر بن اخلطاب‪ ،‬واحلسن بن عيل‪،‬‬
‫واحلسني بن عيل بن أيب طالب‪ ،‬و ُأبيَ ابن كعب‪ ،‬وأنس ابن مالك‪ ،‬والدّ ليل‬
‫«إن اليهو َد والنصارى ال يص ُب ُغون فخالفوهم»‪.‬‬ ‫واضح متفق عليه‪ ،‬ولفظه‪َّ :‬‬
‫آخر أو بغري َش ْع ٍر؛‬
‫بش ْع ٍر َ‬ ‫ومنهم من َأجاز َو ْصل َّ‬
‫الشعر للمرأة ُمطلق ًا‪ ،‬سواء كان َ‬
‫إذا كان بإذن الزوج‪ ،‬كام ذكر ذلك احلافظ ابن حجر يف «فتح الباري»‪،308/10‬‬
‫مع َأ َّن الدليل واضح‪ ،‬بل ذكر ‪ -‬أي ابن حجر ‪ -‬بعد كال ٍم أن السيد َة عائش َة‬
‫بالشعر‪ ،‬وقالت ‪ :‬إن املراد بالوصل‪ :‬املرأة َت ْف ُجر يف‬
‫الشعر َّ‬ ‫َّ‬
‫رخ َصت يف َو ْصل َّ‬
‫َصل ذلك بالقيادة ‪ -‬يف الفسق والفجور ‪ ،-‬مع أن احلديث وارد‪:‬‬ ‫شباهبا ثم ت ُ‬
‫الواص َل َة وا ُملست ِ‬
‫َوص َل َة»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫«لع َن اهلل‬
‫َّنميص بقوهلم‪( :‬جيوز بإذن الزوج إال إن وقع‬
‫بعض احلنابلة الت َ‬
‫(ومنها) أجاز ُ‬
‫فيحر ُم) كام ذكر احلافظ ابن حجر يف «الفتح»‪ 310/10‬ما نصه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫تدليس‬
‫ٌ‬ ‫فيه‬
‫امتنع وإال فيكون‬
‫َ‬ ‫أشهر شعار ًا للفواجر‬
‫َ‬ ‫ص‬
‫(قال بعض احلنابلة‪ :‬إن كان الن َّْم ُ‬
‫تنـزهي ًا ‪ -‬أي مكروه ًا كراه ًة تنـزهيي ًة ‪ -‬ويف رواية ُ‬
‫جيوز بإذن الزوج إال إن وقع به‬
‫َّطريف إذا كان بإذن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والنقش والت‬ ‫والتحمري‬
‫ُ‬ ‫ف‬
‫حل ُّ‬
‫فيحر ُم‪ ،‬قالوا ‪ :‬وجيوز ا َ‬
‫تدليس ُ‬
‫ٌ‬
‫الزوج ألنه من الزينة)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وذكر أيض ًا ما أخرج الطربي من طريق أيب إسحاق عن امرأته أهنا دخلت‬
‫عىل عائشة وكانت شا َّبة ُيعجبها اجلامل ‪ ،‬فقالت‪ :‬املرأة ُحتف جبينها لزوجها؟‬
‫ِ‬
‫استطعت»‪،‬‬ ‫فقالت ‪ -‬السيدة عائشة بثقة وثبات وجرأة ‪« : -‬أميطي عنك األذى ما‬

‫ راجع « َمطالِع َ‬


‫األ ِه َّلة» للمؤ ِّلف‬

‫‪24‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫حف الوجه عن أمحد بن حنبل؛‬


‫بل ذكر صاحب «املغني» ابن قدامة فتوى بجواز ِّ‬
‫ف فقال‪:‬‬
‫حل ِّ‬
‫حف الوجه فقال مهنا ‪ :‬سألت أبا عبد اهلل عن ا َ‬
‫حيث قال‪ :‬فأما ُّ‬
‫احلف من‬
‫ُّ‬ ‫ليس به بأس للنساء وأكرهه للرجال‪ .‬اهـ‪75/1 .‬؛ قال النووي‪:‬‬
‫مجلة النَّامص‪ .‬كام ذكر احلافظ ابن حجر يف «الفتح»‪ :317/10‬قال النووي ‪:‬‬
‫احلف فإنَّه ِمن ِ‬
‫مجلة النَّامص‪ .‬مع أن الدَّ ليل باملنع واضح‬ ‫ُّ‬ ‫جيوز التز ُّين بام ذكر إال‬
‫ِ‬
‫الواشامت‬ ‫يف صحيح البخاري‪ ،‬عن ابن مسعود ريض اهلل عنه قال‪( :‬لع َن اهلل‬
‫خلق اهلل)‪ .‬بل السيدة‬ ‫ِ‬
‫للحسن املغيرِّ ات َ‬ ‫وا ُملست ِ‬
‫َوشامت وا ُمل َتن َِّم َصات وا ُمل َت َف ِّل َجات‬ ‫ْ‬
‫أسامء بنت أيب بكر الصديق ريض اهلل عنهام كانت يدُ ها موشوم ًة كام ذكر احلافظ‬
‫(دخلت مع أيب‬
‫ُ‬ ‫قال‪ :‬أخرج الطربي بسند صحيح عن قيس بن أيب حازم قال‪:‬‬
‫عىل أيب بكر الصديق فرأيت يد أسام َء موشوم ًة)‪.‬‬
‫جلزئي فهو أصل كُليِّ ؛ حيث‬
‫أما قول السيدة عائشة الذي عارضت به النَّص ا ُ‬
‫إن الزينة للنساء واجبة لقوله تعاىل‪ :‬ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ‬
‫[النور‪]٣١ :‬‬ ‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮊ‬
‫اآلية‪ ،..‬أما السادة احلنابلة الذين أباحوا التَّنميص بأمر الزوج‪ ،‬استدلوا باألصل‪،‬‬
‫وال َأ َرى إال أنهَّ م َأسقطوا دليل املنْع لكثرة االحتامل؛ حيث أن القاعدة املتفق‬
‫َص َس َق َط به االستدالل)‪ .‬وقال ابن عابدين‬
‫عليها تقول ( إذا طرأ االحتامل عىل ن ٍّ‬
‫حممول عىل ما إذا فع َل ْت ُه للتز ُّين‬
‫ٌ‬ ‫يف «حاشيته» ‪ :373/6‬ولعله ‪ -‬أي التحريم ‪-‬‬
‫لألجانب‪ ،‬وإالَّ فلو كان يف وجهها َش َعر ين ُف ُر ُ‬
‫زوجها عنها بسببه‪ ،‬ففي حتريم‬
‫الزينة للنساء مطلوب ٌة للتحسني‪ ،‬إالَّ ْ‬
‫أن يحُ َم َل عىل ما ال رضور َة‬ ‫إزالته ُب ْعدٌ ؛ َّ‬
‫ألن ِّ‬
‫بأس‬ ‫ِِ‬
‫َتارخان َّية» عن املضمرات‪ :‬وال َ‬ ‫إليه ملا يف نتفه بالنَّامص من اإليذاء‪ ،‬ويف «الت ْ‬
‫بأخذ احلاجبني وشعر الوجه ما مل يشبه املخنَّث‪ .‬اهـ ‪ .‬وابن عابدين مرجع السادة‬ ‫ِ‬

‫األحناف يف وقته‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫آخر ُي َضم لألقوال التي أباحت ما ُذكر يف احلديث‪ ،‬وهبذا تدخل‬ ‫فهذا ٌ‬
‫قول ٌ‬
‫قاعدة اإلنكار التي ذكرناها يف املقدمة عىل هذا احلكم‪.‬‬
‫فسلفنا الصالح ِمن العلامء قد استنبطوا أحكام ًا كثرية‪ْ ،‬‬
‫وإن مل يكن هلا دليل‪،‬‬
‫أو كان دليلها مردود ًا ُبأصوهلم‪ ،‬وعندهم قواعد أمجعوا عليها يف إعامل األد َّلة‪،‬‬
‫وهذه كتب األصول والفروع وجتديد الفروع مل يرتكوها جامدة أو قديمة بل‬
‫سمونه‪ :‬املطلق ا ُملق َّيد‪،‬‬
‫عملوا عىل جتديدها وإنطاقها وإسكاهتا‪ ،‬وهذا الذي ُي ُّ‬
‫خصص‪ ،‬واملجمل املبينَّ ‪ ،‬والنَّاسخ واملنسوخ‪ ،‬مجعها َمن أ َّلف يف‬ ‫والعام ا ُمل َّ‬
‫أصول الفريقني كـ«مجع اجلوامع»‪ ،‬وكذلك َمن أ َّلف يف أصول األئمة كـ«إعالم‬
‫املوقعني»‪ ،‬و«رفع املالم»‪ ،‬و«درء املنقول با َملعقول» وكُتب التعارض والرتجيح‬
‫أن كل ما ُأحدث اجتهدوا فيه‪ ،‬ولِكُل َحدَ ث دليل‬
‫كثرية‪ ..‬وهذا دليل واضح عىل َّ‬
‫إ َّما مؤ ِّيد أو مانِع‪.‬‬
‫فمسألة (االجتامع لالحتفال بمولد سيد ولد آدم) صىل اهلل عليه وسلم ِمن باب‬
‫أن ُي ْظ ِهروا أد َّلته و ُيب ِّينوا موقفه من الرشيعة‪ْ ،‬‬
‫وإن ظهرت فيه موانع كالغلو‬ ‫َأ ْولىَ ْ‬
‫أن َير ُّدوهم إىل الصواب يف كل باب ِمن أبواب‬
‫حلدِّ فعىل العلامء ْ‬
‫أو اخلروج عن ا َ‬
‫الترشيع ‪..‬واهلل املستعان‪.‬‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل التَّاسع‬
‫ف أحدُ األصول ا ّلتي ُت ْبنَى عليها األحكام‪.‬‬
‫َقرر يف علم األصول‪ :‬أن ال ُع ْر َ‬
‫ت ّ‬
‫وصدَ َق العالمة ابن عابدين عندما َأ ْر َج َز يف رسالته «آداب املفتي» قائالً‪:‬‬
‫َ‬
‫�دار‬
‫الـحك�م قـ�د ُي ُ‬
‫ُ‬ ‫لـ�ذا علي�ه‬ ‫اعتب�ار‬
‫ُ‬ ‫ف يف الَّش�رَّ ِع ل�ه‬
‫وال ُع ْ�ر ُ‬
‫خاص بام جاء يف الشرَّ ع مطلقا‪ ،‬ال ضابط فيه‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫وهو‬

‫‪26‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫وال ُع ْرف نوعان‪ :‬صحيح وفاسد‪ .‬فالصحيح‪ :‬ما تعارفه النّاس ُدون أن يحُ ِّرم‬
‫حالالً أو يحُ َّل حراما‪ .‬والفاسد‪ :‬عكسه‪.‬‬
‫أن مجَ السنا َح َّق َق استحباهبا ال ُع ْرف أيض ًا‪ ،‬و َأ ْم ُر التَّعظيم‬
‫ومن قاعدة ال ُع ْرف‪ :‬نَجد َّ‬
‫ج َعلها ُق ْربة واجبة‪ ،‬أما إن ُق ِرئَت هبا مبادئ العلوم (توحيد‪ ،‬فقه‪ ،‬آداب) فقد‬
‫«طلب العل ِم فريض ٌة»‪ ،‬وهذا ما نرجوه من أهل ا َملجالس‬
‫ُ‬ ‫اكتنفتها قاعدة عريضة‬
‫ِ‬
‫جتمعني معهم؛ حلاجة النَّاس ُفرادى ومجاعات ورشائح املجتمعات‪.‬‬ ‫وا ُمل‬
‫ِ‬
‫فاألحكام ا َّلتي ُت ْبنَى عىل ال ُع ْرف‪ :‬تتغيرَّ بتغيرُّ ِ ه؛ كام هو معلو ٌم و ُم َّ‬
‫قر ٌر يف الفقه‬
‫الع ْلم قدي ًام كانت املساجد عطا ًء ونام ًء ‪ ،‬واآلن أصبحت‬ ‫وأصوله؛ ألَ َّن روافِدَ ِ‬
‫َ‬
‫ا َملدارس هلا عطاء حمدود‪ ،‬حتى َأص َبح فيها ُ‬
‫فضل ا ُملنعم مجَ ْحود‪ ،‬وكذلك ُ‬
‫أدب‬
‫وكرام ُة املسلم وشهام ُت ُه فيها مفقو ٌد !‬
‫تنبيه‪ :‬جيب أن نذكره يف مسألة ال ُع ْرف؛ وهو أنه قد َن َّبه أشياخنا ا ُملح ِّققون من‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫عم ِلهم‬ ‫ِ‬
‫قديمة يفتون هبا؛ ألهنم ال‬ ‫بمسائل‬ ‫خطأ الفقهاء املق ِّلدين املعارصين؛ ومن َ‬
‫ِ‬
‫زالوا ُمتأ ّثرين بأعراف تقا َد َم عهدها‪ ،‬واندثر أثرها كأنهَّ ا نُصوص رشع َّية ال َيتغيرَّ‬
‫ف؛‬ ‫الع ْلم َّية يتأخر‪ ،‬والتقدُّ م الع ْلمي َي ِق ُ‬
‫حكْمها و ال يتبدَّ ل؛ مما جعل ركب القافلة ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫التمسك باألعراف القديمة البالية‪ ،‬فنجدُ أهل ا َملجالس ليس فيهم من‬
‫ُّ‬ ‫والسبب هو‬
‫يقر ُأ كتاب ًا ل شدهم أو ينصحهم‪ ،‬فرشف ِ‬
‫الع ْلم يزيدهم تعظي ًام ومعرف ًة وأخالق ًا‬ ‫ُ‬ ‫يرُ‬ ‫َ‬
‫وا ِّطالع ًا عىل ما ينفعهم ويزيد يف تقدُّ مهم‪ ،‬وهذا ما سنعرفه يف الدليل اآليت‪.‬‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل العارش‬
‫قال ابن القيم يف «إعالم املوقعني» ‪ :‬فصل يف تغري الفتوى واختالفها بحسب‬
‫تغيري األزمنة واألمكنة واألحوال والن َّيات والعوائد‪ :‬هذا ٌ‬
‫فصل ‪ -‬أي تغيري‬

‫‪27‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الفتوى واختالفها ‪ -‬عظيم النَّفع ِجدا؛ وقع بسبب اجلهل به ‪ -‬أي بوجوب تغيري‬
‫عظيم يف الرشيعة‪َ ،‬أ ْو َجب من احلرج‬
‫ٌ‬ ‫الفتوى واختالفها إذا تغيرَّ الزمان ‪ٌ -‬‬
‫غلط‬
‫وا َملش َّقة ما ال سبيل إليه ‪ ،‬جعل كثري ًا من الناس ال َيعرف ‪ -‬أي ‪ :‬فضل الرشيعة‬
‫‪ -‬وتأثريها وعظمتها ‪ ،‬وما َيعلم َّ‬
‫أن الرشيعة الباهرة التي يف أعىل ُرتب املصالح‬
‫وج ْل ِ‬
‫ب مصاحله ‪ . ...-‬اهـ‪.‬‬ ‫ال تأيت به ‪ -‬أي ‪ :‬بحل مشاكله َ‬
‫ثم أطال رمحه اهلل يف تقرير ذلك الفصل الذي ُيعترب أص ً‬
‫ال ‪ ،‬وذكر أمثلته من‬
‫املسائل والفروع بام يطول نقله‪ ،‬واملقصود من هذا‪ :‬أن األحكام تتبع العوائد‬
‫واألعراف بحسب األزمنة واألمكنة‪ ،‬وتَتغري بتغيرُّ ها‪.‬‬
‫والذي أريد أن أقوله‪ :‬أن هذه ا َملجالس ا َّلتي ُيقرأ فيها نصوص تعظيمه‬
‫الصحابة‬ ‫ِ‬
‫«كق َّصة املولد‪ ،‬واإلرساء واملعراج‪ ،‬واملديح» كوهنا مل تكن يف عرص ّ‬
‫ال ومنرب ًا إلبراز مناقب سيد الكائنات‪ ،‬وأسلوبا‬
‫َمظهر ًا للتوقري والتعظيم‪ ،‬ومحَ ف ً‬
‫رائع ًا لتصوير مجال وكامل سيد السادات؛ ألنه صلىَّ اهلل عليه وس َّلم كان بينهم‬
‫وج ِهه‪ ،‬ويطربون بسامع صوته‪ ،‬وينهلون من َب ِّث روحه‬ ‫َيكتحلون من أسارير ْ‬
‫ِ‬ ‫صلىَّ اهلل عليه وس َّلم‪ ،‬فقد ع َّلمهم َّ‬
‫ب‪ ،‬ول َّقن َُهم الذكر واألدب‪،‬‬‫بمسالك الحْ ُ ِّ‬ ‫الشوق َ‬
‫نح ُهم أخالق ًا يحُ ّبها املوىل و ُيك ِْرم أهلها بأعىل‬
‫يف َأ ْح َسن طريق و َأن َْور َد ْرب‪ ،‬و َم َ‬
‫َمقامات و َأنظم ُرتَب‪ ،‬أما يف عرصنا فصارت هذه ا َملجالس هي حادي األرواح‬
‫سهل َأ ْح َسن طريق‬ ‫ِ‬
‫جلامل زين املالح‪ ،‬وسبيل التوفيق والتَّحقيق من سرية من َّ‬
‫اختصه اهللُ بالقرآن الذي‬
‫َّ‬ ‫للجنة بالد األفراح‪ ،‬وبينَّ نِظام عادة الليايل واأل َّيام‪،‬‬
‫الزمن ودستور احلياة يف َشتَّى نواحيها؛ ُيساير التقدُّ م‬
‫هو معجزة الدَّ هر وكتاب َّ‬
‫الفكْر والعقل من أوهام اجلمود‪.‬‬‫الع ْلمي ويدعو إِلىَ تحَ رير ِ‬

‫‪28‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل احلادي عرش‬
‫إِ َّن هذه ا َملجالس صارت شعار ًا ظاهر ًا حادث ًا؛ وذلك َّ‬
‫ألن هلا أص ً‬
‫ال يف الرشيعة‬
‫الر َغبات لمِحاسنها‪ ،‬حتَّى َأصبحت نُجوم اهلداية ا َّلتي ظهرت‬
‫كام ذكرنا‪ ،‬وك ُثرت َّ‬
‫يف سامء هذه األ َّمة ا َملرحومة‪ ،‬وحدَ ثها ال َيقل عام اختص به علامء املسلمني يف‬
‫تصنيف ِع ْلم الفقه و سائر علوم الدين من التأصيل والتفصيل والتدقيق والتأليف‬
‫وحدَ ث ًا مه ًام يف الدِّ ين‪ ،‬مل تكن معروفة‬‫والتدريس‪ ،‬حتَّى أصبحت شعار ًا ظاهر ًا‪َ ،‬‬
‫يف صدر اإلسالم‪َ ،‬ف ِل َم ال نقول عىل حدوث هذه ا ُملؤ َّلفات وا ُملصنَّفات‪َ :‬أ َّن ذلك‬
‫اجتِ َثا ُثه؟! وكام قال ابن الصالح (يف‬ ‫ُم ْبتدَ ع َينبغي اجتنابه‪ ،‬وشعار ًا محُ دَ ث ًا َيتعينَّ ْ‬
‫الرسالة التي َر َّد هبا عىل العز بن عبد السالم)‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫احلوادث ذوات وجوه ِ‬
‫خمتلفة مشتبهة‪ ،‬فمن مل يميز ‪ -‬وال َيفهم ‪ -‬كان‬ ‫ِ‬ ‫إِ َّن‬
‫ِ‬
‫كالمه‪ :‬أي ا ْل َب ِليد ا َّلذي ال‬ ‫بصدد إحلاق اليشء منها بغري نظريه‪ .‬اهـ‪ .‬و َمعنى‬
‫ُيلحق اليشء بنظريه؛ ُي ِشري لِ ِع ْلم األشباه والنظائر ‪ -‬احلادث أيض ًا ا ُملبتَدع ‪ -‬الذي‬
‫ُأحدث لِ ُيفيد و َيزيد املنهج وضوح ًا ف ُقبِل و َأصبح ُد َّرة يف سلك مؤلفات املنهج‪،‬‬
‫واهلل املو ِّفق‪.‬‬
‫ُظهور املولد إن العلامء ا ُملحققني وإجازهتم له تؤكِّد فائدته وثمرته؛ وهذا‬
‫احلافظ أبو ُزرعة العراقي عندما ُسئل عن فعل املولد َأ ُمستحب هو أو مكروه؟‬
‫وهل َو َرد فيه يشء‪ ،‬أو فعله من ُيقتدى به؟ فأجاب ما نصه‪:‬‬
‫(�إطعام الطعام ُم�س َت َح ٌّب يف ُكل وقت؛ فكيف �إذا َ‬
‫ان�ض َّم لذلك‬
‫ال�شهر َّ‬
‫ال�شريف‪ ،‬وال َنعلم‬ ‫ال�سرور بظهور نور النبوة يف هذا َّ‬ ‫ُّ‬
‫ال�سلف؛ وال َيلزم من كونه بدعة كونه مكروها؛ فكم‬ ‫ذلك من َّ‬
‫من بدعة م�ستح ّبة بل واجبة)‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل ال َّثاين عرش‬
‫إذا كانت ا َملجالِس تَنرش املح َّبة بني املسلمني‪ ،‬بسرية َمصدر ا َملح َّبة حبيب رب‬
‫مهمة؛ وكام قال ابن‬ ‫الر َّباين َّ‬
‫فإن عالقتها باملنهج َّ‬ ‫العاملني صىل اهلل عليه وسلم‪َّ ،‬‬
‫وأول ما ُأ ْل ِقي‬ ‫ِ‬
‫العريب ا ُملعافري يف كتابه «رساج املريدين» يف االسم (ا ُملحب) ‪َّ :‬‬
‫أن الشرَّ ع مل َي ِرد إِالَّ بلفظ ا َملح َّبة خاصة‪ ،‬و َأ ْد َخل فيها َمن ال‬ ‫إليكم معرش ا ُمل ِر ِ‬
‫يدين َّ‬
‫يدري‪ :‬الشوق والعشق؛ ومل َي ِرد هبام شرَ ْ ٌع ال يف الصحيح وال يف السقيم‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫حلب أعطاك إغالق ًا عن نزهة املشتاق‪ ،‬بعد‬ ‫ونقول له ‪ :‬إِ َّن االستغراق يف ا ُ‬
‫ُمكَا َبدة األشواق يف مصارع العشاق‪.‬‬
‫«العشق من غري ٍ‬ ‫ِ‬
‫ريبة‬ ‫ُ‬ ‫وي رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪:‬‬ ‫بل الع ْشق ورد؛ كام ُر َ‬
‫للذنوب»‪ .‬أخرجه الدَّ يلمي وهو ضعيف جد ًا‪ ،‬و َأ ْع َظم ِمن هذا قال صلىَّ‬ ‫ك َّف َار ٌة ُّ‬
‫اهلل عليه وس َّلم‪« :‬أوىص اهلل إليَّ أن ِ‬
‫أمس َك خدجية‪ ،‬و ُكن ُْت هلا عاشق ًا»‪ .‬احلديث‬
‫أخرجه أبو صالح ا ُملؤ ِّذن يف «مناقب فاطمة» وهو ضعيف جد ًا‪ .‬إِالَّ أنيِّ َأرى أنَّه‬
‫صحيح ا َملعنى؛ بام جاء يف أحاديث كثرية‪ ،‬ليس هذا مقام ذكرها‪.‬‬
‫صح َحه شيخ شيوخنا‬
‫َّ‬ ‫الصحيح يف العشق؛ والذي‬ ‫َ‬
‫احلديث َّ‬ ‫وال َننْسى‬
‫السيد أمحد بن صديق يف «درء الضعف عن حديث من عشق ف َعف»‪ ،‬وسبقه‬
‫يف التَّصحيح ابن حزم ‪ -‬وهو من املتشددين يف التصحيح ‪ -‬و َأثبته يف «طوق‬
‫احلاممة»‪ ،‬وصححه احلافظ ابن كثري يف «البداية والنهاية» يف ترمجة حممد بن داود‬
‫بن عيل أبو بكر الفقيه ابن الفقيه الظاهري‪ ،‬وكذلك صححه احلافظ عالء الدين‬
‫ُم ْغ َلطاي يف «الواضح املبني»‪ ،‬وقال احلافظ السخاوي يف «املقاصد احلسنة» بعد‬
‫«الروضة» فعدَّ وذكر‬
‫إيراد سند الزبري بن َبكَّار‪ :‬وهو سند صحيح‪ .‬والنووي يف َّ‬
‫صحته‬
‫من مجلة الشهداء (امليت عشقا)‪ ،‬وسبقه إىل ذلك الرافعي‪ ،‬وأشار إىل َّ‬
‫احلافظ الفقيه أبو الوليد ال َب ِ‬
‫اجي املالكي؛ بقوله‪:‬‬

‫‪30‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫ص�اح َح ّق�ا‬
‫ِ‬ ‫فتل�ك ش�هاد ٌة ي�ا‬ ‫إذا م�ات ا ُملح�ب ج�وى ِ‬
‫وعش�ق ًا‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫إىل احلبر اب�ن عب�اس تَر ّق�ى‬ ‫ٍ‬
‫ثق�ات‬ ‫ثق�ات ع�ن‬ ‫ٌ‬ ‫روا ُه لن�ا‬
‫وقال القشريي‪:‬‬
‫ِ‬
‫الش�هداء‬ ‫كان�ت َمنازل�ه م�ع‬
‫ْ‬ ‫ح�ب إذا تُ�وفيِّ َ صاب�ر ًا‬ ‫إن ا ُمل َّ‬
‫ِ‬
‫ال�داء‬ ‫ما وناهيك�م هب�ذا‬ ‫ِعل ً‬ ‫يروي�ه أق�وا ٌم َغ�دَ وا يف صدقه�م‬ ‫ِ‬

‫وقال ابن صائغ يف «مصارع العشاق»‪:‬‬


‫كان َب�ر ًا بالعب�اد وواصلا‬‫وم�ن َ‬ ‫ٍ‬
‫أمح�د‬ ‫ق�د جا َءنَ�ا ع�ن َس� ِّي ِد اخلل�ق‬
‫س ِ‬
‫ن�ازال‬ ‫ِ‬
‫الف�راد ِ‬ ‫يم�وت ش�هيد ًا يف‬ ‫وج�دَ ُه‬
‫ُ‬ ‫ُ�م ْ‬
‫�ب َيكت ُ‬ ‫ب�أن ال�ذي يف احلُ ِّ‬
‫فما في�ه م�ن َش ٍّ‬
‫�ك مل�ن كان عاقلا‬ ‫س�ه ٍر‬
‫علي ب�ن ُم ِ‬
‫روا ُه س�ويدٌ ع�ن ِّ‬
‫س�قي ًام علي ً‬
‫لا باهل�وى متش�اغال‬ ‫غرم� ًا‬
‫م�ات ُم َ‬
‫َ‬ ‫وم�اذا كثير ًا لل�ذي‬
‫األجر باطال‬ ‫يذهب‬ ‫ِ‬
‫الوجد كي ال‬ ‫من‬ ‫ن�ور ناظ�ري‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫س�أكت ُُم م�ا ألق�اه ي�ا َ‬
‫مات شهيد ًا»‪ .‬ويف رواية‪:‬‬ ‫فامت َ‬ ‫ولفظ احلديث كام جاء‪َ « :‬م ْن َع ِش َق َف َع َّ‬
‫ف َو َكت ََم َ‬
‫مات شهيد ًا» ويف رواية‪َ « :‬م ْن َع ِش َق َف َع َّ‬
‫ف َف َكت ََم‬ ‫فامت َ‬ ‫ف َ‬ ‫« َم ْن َع ِش َق َف َظ ِف َر َف َع َّ‬
‫َف َصبرَ َ َ‬
‫فامت فهو شهيدٌ »‪.‬‬
‫تتنـزل‬ ‫فتَكفي جمالسنا يا ُع َّشاق أن تع ِّلمنا ا َملحبة وتَنرش بيننا َّ‬
‫الرمحة وفيها َّ‬
‫السكينة وتَسقينا الو َّد؛ يقول اهلل عز وجل‪ :‬ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫َّ‬
‫[مريم‪.]٩٦ :‬‬ ‫ﭕﭖﭗ ﭘﭙﮊ‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل ال َّثالث عرش‬
‫الراجح وا َملعقول الذي أخذ به علامء األمة‪ :‬تقديم كل ما كانت مصلح ُت ُه‬ ‫من َّ‬
‫مفسدَ تِ ِه؛ لو ُقدِّ رت املفسدة فيه‪.‬‬
‫راجحة عىل َ‬

‫‪31‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫ونصوص األئمة والفقهاء من أهل املذاهب األربعة وغريها عىل هذا تكاد‬
‫تنحرص‪ ،‬قال ابن تيمية يف كتاب «االختيارات العلمية» يف باب األذان واإلقامة‪:‬‬
‫و َأ َّما ما ِس َوى الت َْأ ِذين َق ْبل ال َف ْجر ِمن تسبيح‪ ،‬ونشيد‪ ،‬ورفع األصوات بدعاء‪،‬‬
‫ونحو ذلك يف املآذن؛ فهذا ليس بمسنون عند األئمة‪ ،‬بل قد ذكر طائفة من‬
‫أصحاب مالك والشافعي وأمحد أن هذا من مجلة البدع املكروهة‪ ،‬ومل يقم دليل‬
‫رشعي عىل استحبابه‪ ،‬وال حدث سبب يقتيض إحداثه‪ ،‬حتى ُيقال إنه من البدع‬
‫اللغوية؛ ا َّلتي َد َّلت الرشيعة عىل استحباهبا‪ ،‬وما كان كذلك مل يكن ألحد أن َيأمر‬
‫الرزق به‪ ،‬وإِ ْن شرَ َ َطه‬ ‫ِ‬
‫واقف ‪ -‬أي‬
‫ٌ‬ ‫به وال ُينْك َر عىل من تركه‪ ،‬وال ُيع ِّلق استحقاق ِّ‬
‫مقبول ‪ ،-‬وإذا قيل‪ :‬إن هذه األصوات مصلح ٌة راجح ٌة عىل مفسدهتا؛ فنقترص‬
‫عىل ذلك القدر الذي تحَ ُص ُل به ا َملصلحة‪ ،‬دون ِّ‬
‫الزيادة ا َّلتي هي ضرَ ر بال مصلحة‬
‫راجحة‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قال احلافظ السخاوي يف «القول البديع»‪ :‬قد أحدث ا ُملؤذنون الصالة‬ ‫ُ‬
‫والسالم عىل رسول اهلل صلىَّ اهلل عليه وس َّلم َع ِقب األذان للفرائض اخلمس‪،‬‬
‫الصبح واجلمعة؛ فإهنم ُي َقدِّ مون ذلك فيهام عىل األذان‪ ،‬وال ا َملغرب فإِنهَّ م ال‬
‫إال ُّ‬
‫ال لِضيق و ْقتِها‪ .‬اهـ‪.‬‬‫يفعلون ذلك أص ً‬
‫ويف «فتاوى» شيخ اإلسالم زكر ّيا األنصاري أنه ُسئل عام َأحدثه ا ُملؤ ِّذنون؛ هل‬
‫السنة أو ال؟‬
‫لذلك أصل يف ُّ‬
‫فأجاب ‪ :‬بأنه قد صح أن النَّبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم قال‪« :‬إذا َس ِم ْعت ُُم ا ُملؤ ِّذن‬
‫وقاس ِأئمتُنا املؤ ِّذ َن عىل السامع يف الصالة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يقول ثم َص ُّلوا َّ‬
‫عيل»‬ ‫مثل ما ُ‬‫فقولوا َ‬
‫السالم عليه ‪ -‬صىل اهلل عليه وسلم ‪-‬؛ فصارت‬ ‫كره إفرادها عن َّ‬ ‫وصرَ َّ حوا بأنَّه ُي َ‬
‫السالم َع ِقب األذان‪ ،‬فاألصل ٌ‬
‫ثابت واهل ْيئة بدع ٌة حسنة‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫اهل َ ْيئة املشهورة من َّ‬
‫ويف «فتاوى ابن حجر الفقهية»‪ :‬قد أحدث ا ُملؤ ِّذنون الصالة والسالم عىل‬

‫‪32‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫رسول اهلل صلىَّ اهلل عليه وس َّلم َع ِقب األذان للفرائض اخلَمس والذي فعله‬
‫عم ما َفعل جزاه اهلل خريا»‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫«صالح الدِّ ين ‪ -‬أي ‪ :‬األيويب ‪ ،-‬فن َ‬
‫الذكر عند ُطلوع‬ ‫و َذكَر َأسيادنا علامء مكة املكرمة قدس اهلل أرواحهم هيئة ِّ‬
‫ف ِ‬ ‫ِ‬
‫ور َّقة ‪ -‬أي يف املقامات الرقيقة ‪ ( :-‬يا‬ ‫الفجر بمكَّة‪ ،‬بأصوات َشج َّية؛ ُك ّلها َ‬
‫أس ٌ‬
‫واسع املغفرة * يا جابر القلوب املنكرسة * يا دائم املعروف * يا كثري اخلري * يا‬
‫من هو باملعروف معروف * يا ذا املعروف ا َّلذي ال ينقطع أبدا * َأ ْصبِح واحلمد‬
‫هلل عىل فضله وإحسانه * َأ ْصبِح واحلمد هلل َر ِّب العاملني)‪.‬‬

‫الرابع عرش‬ ‫الدَّ ُ‬


‫ليل َّ‬
‫ومن املقاصد العا َّمة لإلسالم (تزكية النَّفس) وهو مقصد ثابت ن َّص ًا‬
‫واستقراء ًا‪.‬‬
‫القرآن الكريم البعث َة النبو َّية بتزكية النَّفس ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ُ‬ ‫فقد َع َّلل‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﮊ [البقرة‪ ]١٥١ :‬وإِ َّن ِمن تزكية‬
‫اإلنسان‪ :‬تزكية عقله‪ ،‬فالشرَّ ْ ع َعمل عىل حتريك العقول وإطالقها من قيودها‪،‬‬
‫و َأ ْزهق عنها أوهام وخرافات كانت تُع ِّطلها؛ وهذا هو حفظ العقل‪ ،‬وليس حفظ‬
‫العقل منحرصا يف حتريم ا ُمل ْس ِكرات؛ فكم من عقول ضائعة وهي مل ت ََر ومل ْ تَعرف‬
‫ُ‬
‫اجلهل واخلُمول‪..‬‬ ‫ُم ْس ِكرا َق ْط‪ ،‬ولكن َأ ْسكَرها‬
‫وبالتَّأ ُّمل يف هذه ا َملجالس‪َ :‬أ َليست هي مجَ االت َر ْحبة للعمل والنُّضج رَّ‬
‫والت ِّقي‬
‫بأحوال األُمة ومتط َّلباهتا؛ من خالل النَّ َظر والتقدير العقيل‪ ،‬أليست ِ‬
‫احلكمة ضا َّلة‬ ‫َّ ُ‬
‫ُطورها لِتكون موطن الدَّ ْرس‪ ،‬وسامع‬ ‫ِ‬
‫ا ُملؤمن؟ فكيف ال نُكثر هذه ا َملجالس ون ِّ‬
‫ما تَرتاح إليه النَّ ْفس‪ ،‬ومنتدى البحث‪ ،‬ونادي احلي‪ ،‬ومجَ مع للفضالء واملر ِّبني‬
‫الفقهاء‪ ،‬ومركز لالستشارة والفتوى‪ ،‬وعرض للمواهب لرعايتها وتوجيهها‪..‬‬

‫‪33‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫قال ابن عبد السالم‪ :‬و َمن َت َت َّبع مقاصد الشرَّ ع يف ج ْلب املصالح و َد ْرء املفاسد؛‬
‫عرفان بأن هذه املصلحة ال جيوز إمهاهلا‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫ٌ‬ ‫حصل له ِمن جمموع ذلك اعتقا ٌد أو‬
‫هذه املفسدة ال جيوز قرباهنا‪ ،‬وإن مل يكن فيها إمجاع‪ ،‬وال نص‪ ،‬وال قياس خاص؛‬
‫فإن َف ْهم الرشع يوجب ذلك‪ .‬اهـ‪« .‬حكمة بليغة»‪.‬‬
‫َّ‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل اخلامس عرش‬
‫مقاصد الكتاب والسنة ك ّلها قائمة عىل أساس فكرة تعليل الرشيعة‬
‫وأحكامها‪.‬‬
‫(خالصة) هذا التعليل‪ :‬تتمثل يف كون الرشيعة ُمع َّللة برعاية املصالح؛‬
‫و ُ‬
‫وكام قال الشاطبي ‪ -‬بعد االستقراء‪ :‬وهو النظر يف األدلة الكُل َّية واجلزئ َّية‪ ،‬وما‬
‫انطوت عليه من العمومات ‪ -‬ما نصه‪ :‬واملعتمد إنام هو أنَّا استقرينا من الرشيعة‬
‫أهنا وضعت ملصالح العباد‪ .‬اهـ‪« .‬املوافقات» ‪. 6/2‬‬
‫سألة كون الشارع قاصد ًا للمحافظة‬ ‫وأهم َم ْس َلك إلثبات مقاصد الشرَّ يعة هي َم َ‬
‫ِ‬
‫واحلاج َّية‪ ،‬والتحسين َّية)‪.‬‬ ‫عىل القواعد الثالث (الرضورية‪،‬‬
‫و َّملا كانت القواعد الثالث أصل األصول يف الشرَّ يعة؛ فهي قضية ال حتتمل‬
‫ال َّظن‪ ،‬وال ُيقيمها إِالَّ الدَّ ليل القطعي؛ وهو روح ا َملسألة؛ وذلك َّ‬
‫أن القواعد‬
‫الثالث ال َيرتاب يف ثبوهتا (رشع ًا) أحدٌ ممن َينتمي إىل االجتهاد من أهل الشرَّ ع‪،‬‬
‫وال َيرتاب يف أن اعتبارها مقصو ٌد للرشع‪.‬‬
‫ٍ‬
‫قصود رشعي فهو أيض ًا مقصو ٌد‬‫أن ما كان خادم ًا ومقوي ًا لمِ‬
‫وثبت باالستقراء َّ‬
‫ُ ّ‬
‫للشارع؛ وهو ما يكون وسيلة أو تبع ًا‪ ،‬والعالق ُة بينهام كالعالقة بني املندوب‬
‫واملحرم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والواجب واملكروه‬

‫‪34‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫فمجالس ال ُقربات إن مل تكن واجبة فهي مندوبة ‪ -‬كام ذكرنا سابق ًا ‪( -‬بالعموم)‬
‫َ‬
‫صبحت تربو َّية تعليم َّية ‪ -‬أي رضورية ‪ -‬كام‬
‫ْ‬ ‫وقد َيرتقي حكمها للوجوب؛ إذا َأ‬
‫سلفت وباهلل التوفيق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َأ‬

‫السادس عرش‬ ‫الدَّ ُ‬


‫ليل َّ‬
‫إذا كانت املجالس للتعظيم وهو َأصل يف التَّرشيع‪ ،‬فام عالقة الترشيع‬
‫بالعقل؟‬
‫ونوضحه يف املقالة ا َّلتي سنقررها من كالم أهل التحقيق‬
‫ِّ‬ ‫هذا ما سنَعرفه‬
‫والتنظري والتطبيق‪.‬‬
‫حل ْسن وال ُقبح ذاتِ َّيينْ َعقل َّيينْ ‪.‬‬
‫إن أهل التَّحقيق واإلنصاف قد َأثبتوا كون ا ُ‬
‫َّ‬
‫قال العز بن عبد السالم‪ :‬ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل؛‬
‫إذ ال يخَ فى عىل عاقل ‪ -‬قبل ورود الرشع ‪ -‬أن تحَ صيل املصالح ا َملحضة و َدرء‬
‫ا َملفاسد ا َملحضة عن َّن ْفس اإلنسان وعن غريه حممو ٌد حس ٌن‪ ،‬واتفق ا ُ‬
‫حلكَامء عىل‬
‫ذلك‪ ،‬وكذلك الرشائع عىل حتريم الدِّ ماء واألَ ْبضاع واألموال واألعراض‪ ،‬وإن‬
‫والر ْجحان‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫اختلف يف ذلك؛ فالغالب أن ذلك ألجل االختالف يف التساوي ُّ‬
‫ذ كر صاحب «التحرير والتنوير» عن قتادة‪( :‬ليس ِمن ُخ ُل ٍق َح َسن كان أهل‬
‫اجلاهلية َيعملون به و َيستحسنونه إِالَّ أمر اهلل به‪ ،‬وليس من ُخ ُلق كانوا َيتعايرونه‬
‫بينهم إِالَّ نهَ ى عنه و َقدح فيه؛ وإنام نهَ ى عن سفاسف األخالق و َمذا ِّمها) اهـ‪.‬‬
‫وهناك أمور تُؤ ِّكدُ ما ذكرنا‪:‬‬
‫‪ .1‬وليس أ َد ّل عىل ذلك و ُمؤكِّد َله‪ ،‬إِالَّ أن َّ‬
‫الرسول صلىَّ اهلل عليه وس َّلم كان‬
‫ُمتخ ِّلق ًا هبذه األخالق قبل الوحي وقبل البعثة‪ُ ،‬م ْستحسن ًا إ َّياها بعقله َّ‬
‫السليم‬
‫وفطرته النق َّية‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫‪ .2‬السيدة خدجية تستحسن أيض ًا هذه ِ‬


‫الف َعال الكريمة وترتضيها من سيدنا أيب‬
‫القاسم صلىَّ اهلل عليه وس َّلم زوجها‪ ،‬وتعتربها من مكارمه وفضائله‪ ،‬وليست يف‬
‫هذه مستند ًة إىل أي ُحكم شرَ عي‪.‬‬
‫أن هذه األفعال ال يمكن أن تَلقى من اهلل إِالَّ َّ‬
‫الرىض‬ ‫‪ .3‬سيدتنا خدجية تُوق ُن َّ‬
‫ِ‬
‫الرعاية والتَكريم واجلزاء‬ ‫وا َملحبة‪ ،‬وال يمكن أن َيلقى صاحبها من اهلل إِالَّ َّ‬
‫احلسن؛ فهي (حكيمة الرشائع اإلنسانية ريض اهلل تعاىل عنها)‪.‬‬
‫أمور‬ ‫حلكامء قالوا‪ :‬إِ َّن فساد اخلَمر و ُفحش ِّ‬
‫الزنى و َأذى ا َملحيض ٌ‬ ‫َّ‬
‫وإن العلامء ا ُ‬
‫َّص وبعده‪..‬‬
‫قائمة واقعة قبل الن ِّ‬
‫ِ‬
‫وحاسمة‬ ‫وهذا احلافظ الق ِّيم ابن الق ِّيم اجلوزية رمحه اهلل تعاىل كتب فصوالً بديعة‬
‫يف املوضوع‪ ،‬وذلك يف اجلزء الثاين ِمن كتابه «مفتاح دار السعادة ومنشور والية‬
‫أن ن ِ‬
‫ُدرك و ُنبينِّ َ يف ما يأيت ونَعقد تنبيه ًا ُمهماّ ً كام قال‬ ‫ِ‬
‫الع ْلم واإلرادة»‪ ،‬ولكن يجَ ب ْ‬
‫ُ‬
‫أهل التَّرشيع‪:‬‬
‫«إِ َّن تحَ سني ال َع ْق ِل وت َ‬
‫َقبيح ُه ال ُي ْفيض إىل القول بإمكان االستغناء عن الدِّ ين‬
‫ويطىء»‪.‬‬ ‫ألن ال َع ْقل إدراكه غَري تام‪ ،‬بل إنه ُيدرك و َيعجز و ُيصيب خُ ْ‬
‫ورشيعته؛ َّ‬
‫قال اإلمام ابن الق ِّيم‪( :‬بل غاية العقل أن ُي ِ‬
‫درك باإلمجال ُحس َن ما َيأيت الشرَّ ع‬
‫بتفصيله أو ُقبحه‪ ،‬ف ُيدركه العقل مجلة‪ ،‬و َيأيت الرشع بتفصيله؛ وهذا كام أن العقل‬
‫ُي ِ‬
‫درك ُحسن العدْ ل‪ ،‬و َأ ّما كون هذا الفعل ا ُملعينَّ عَدْ الً أو ُظ ْل ًام فهذا مما َيعجز‬
‫العقل عن إِدراكه يف كل فعل و َع ْقد‪ .‬وكذلك َيعجز عن إدراك ُحسن كل فعل‬
‫ِ‬
‫الصحيح من ذلك‬ ‫و ُقبحه فتأيت الشرَّ ائع بتفصيل ذلك وتبيينه‪ ،‬وما أدركه العقل َّ‬
‫وقت ومل ِ‬
‫تد العقل‬ ‫ت قبيح ًا يف ٍ‬ ‫تأيت الرشائع بتقريره‪ .‬وما كان حسن ًا يف و ْق ٍ‬
‫يهَ‬ ‫َ َ‬
‫لوقت ُحسنه ِمن وقت ُقبحه أتت الرشائع باألمر به يف وقت ُحسنه وبالنَّهي عنه‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬
‫فسدة وال تعلم‬ ‫ٍ‬
‫صلحة و َم‬ ‫يف وقت ُقبحه‪ .‬وكذلك الفعل يكون مشتم ً‬
‫ال عىل َم‬

‫‪36‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الرشائع‬
‫ُ‬ ‫العقول‪ :‬مفسد ُت ُه َأ ُ‬
‫رجح أم َمصلح ُت ُه؟ ف َيتوقف العقل يف ذلك‪ ،‬فتأيت‬
‫وتأمر براجح املص ْلحة‪ ،‬وتَنهى عن راجح املفسدة‪ .‬وكذلك الفعل‬
‫ُ‬ ‫ببيان ذلك‪،‬‬
‫يكون مصلحة لشخص مفسدة لغريه‪ ،‬والعقل ال يدرك ذلك فتأيت الرشائع ببيانه‬
‫فتأمر به من هو َمصلح ٌة له‪ ،‬وتَنهى عنه من حيث هو َمفسد ٌة يف حقه‪ .‬وكذلك‬
‫الفعل يكون مفسد ًة يف الظاهر ويف ِضمنِ ِه َمصلحة عظيمة ال يهَ تدي إليها العقل؛‬
‫عجز العقل عن إدراكه ِمن ُحسن األفعال‬ ‫فال ُي ْع َلم إِالَّ بالرشع‪ ،‬هذا مع َأ َّن ما َي َ‬
‫الرسل‬
‫فاحلاجة إىل ُّ‬
‫َ‬ ‫و ُقبحها ليس بدون ‪ -‬أي ليس بأقل ‪ -‬ما ت ِ‬
‫ُدركه من ذلك‪.‬‬
‫حاجة‪ ،‬فليس العالمَ إىل يشء َأ َ‬
‫حوج منهم إىل املرسلني‬ ‫ضرَ ور َّية‪ ،‬بل هي فوق كل َ‬
‫صلوات اهلل عليهم أمجعني)‪ .‬اهـ‪« .‬مفتاح دار السعادة» ‪.117/2‬‬
‫تعرض اإلمام الشاطبي ِمرار ًا لِبيان هذا ال ُقصور يف إدراك العقل‬ ‫وقد َّ‬
‫للمصالح وا َملفاسد‪ ،‬وكثري ًا ما َيستشهدُ عليه بأهل الفرتات؛ ا َّلذين وقعوا يف كثري‬
‫َ‬
‫من التَّخ ُّبط وسوء التَّقدير والتَّدبري‪ ،‬ولكن مع االعرتاض أدركوا بعقوهلم أشياء‬
‫قد وافقت‪ ،‬وجاء الرشع بإقرارها وتصحيحها‪ ،‬فألجل هذا ك ّله وقع اإلعذار‬
‫واإلنذار وبعث اهلل النَّب ِّيني‪.‬اهـ‪ .‬انظر «االعتصام» ‪.321/2‬‬
‫حق معرفتها إِالَّ‬
‫(إن املصالح ا َّلتي تقوم هبا أحوال العبد ال َيعرفها َّ‬
‫النَّتيجة‪َّ :‬‬
‫خالقها وواضعها‪ ،‬وليس للعبد هبا ِع ْلم إِالَّ ِمن بعض الوجوه)‪ .‬اهـ‪« .‬املوافقات»‬
‫‪. 349/1‬‬
‫السليامين فتح اهلل عليه‪َّ :‬‬
‫إن حقيقة النتيجة ووضوحها نجده يف‬ ‫قال أبو عمر ُّ‬
‫كالم اإلمام سيدنا العز بن عبد السالم؛ حيث قال‪:‬‬
‫ف بالرضورات والتجارب والعادات‬ ‫ُعر ُ‬
‫صالح واملفاسدَ الدنيو َّية ت َ‬
‫َ‬ ‫(إن ا َمل‬
‫وإن َمن أراد َأ ْن َيعرف ا ُملناسبات يف ا َملصالح وا َملفاسد‪،‬‬
‫والظنون املعتربات‪َّ ،‬‬
‫رجوحها؛ فل َيعرض ذلك عىل عقله بتقدير أن الشرَّ ع مل َي ِرد به‪،‬‬ ‫ِ‬
‫راجحها من َم ُ‬‫َ‬

‫‪37‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫كم منها يخَ رج عن ذلك‪ ،‬إِالَّ التع ُّبدات ا َّلتي‬


‫ثم َيبني عليه األحكام؛ فال يكاد ُح ٌ‬
‫مل يوقف عىل مصاحلها و َمفاسدها)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وتع َّقب عليه اإلمام الشاطبي بقوله‪ ( :‬ليس كام قال ِمن كل وجه؛ بل ذلك ِمن‬
‫َبعض الوجوه دون بعض)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫العز يف تَع ُّقبه‪ ،‬وف املاء ِ‬
‫باملاء‪ .‬فالدِّ ين باعتبار‬ ‫َ‬ ‫سرَّ‬ ‫إن الشاطبي مل ْ يخَ تلف عن ِ ِّ‬ ‫قلت‪َّ :‬‬
‫ُ‬
‫العقل ُيعطي شيئ ًا منها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َمصدره ُيعطي يقين ًا و ُطمأنينة يف التَّحسني والتَّقبيح َق َّلام‬
‫رء ا َملفاسد‪ُ ،‬يعطي‬ ‫وبإضفائه معنى التَّعبد واخلضوع هلل عىل جلب ا َملصالح ود ِ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫وجد َّية ال سبيل إىل تَوفريها إِالَّ به‪ ،‬و ُيو ِّفر حوافز ُأخرى تحَ ِمل‬ ‫لألمور ُقدس َّية ِ‬

‫والتهيب؛ ا ُملتم ِّثل يف ال َّثواب‬


‫التغيب رَّ‬
‫النَّاس عىل العمل الصالح ال َبنَّاء بأسلوب رَّ‬
‫والعقاب‪ .‬وألجل هذا كله كانت َمصلحة الدِّ ين هي َأ ْولىَ ا َملصالح‪ ،‬و َأ ْوالها‬
‫بالرعاية‪..‬‬
‫ِّ‬
‫كرنا يف هذا املوضوع الذي فيه تَنوير ال ُعقول وموافقة األصول‪ ،‬ا َّلذي‬
‫فام َذ ْ‬
‫جاءت به الرشيعة ال َغ ّراء عىل لسان سيد األنبياء سامء األنبياء واملرسلني‪ ،‬و ُأفق‬
‫والصاحلني‪ ،‬ورمحة اهلل للعاملني‪ ..‬أليس َح ّق ًا له واعرتاف ًا بفضله؛ ْ‬
‫أن نَعقد‬ ‫األولياء ّ‬
‫ِ‬
‫له مجَ لسا تَت َل َّقح فيه أفكار املحبني وتُنرش األخالق احلميدة بينهم‪ ،‬وت ُ‬
‫ُرفع دعو ًة‬
‫«هم القو ُم ال َيشقى‬
‫والسعادة َت ُع ّمهم ُ‬
‫تَنفعهم وتَنفحهم‪ ،‬وتُقضىَ فيه حاجتهم‪َّ ،‬‬
‫جليسهم»‪.‬‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل السابع عرش‬
‫أن تَرجيح ُحب الرسول صلىَّ اهلل عليه وس َّلم عىل ُح ِّ‬
‫ب النَّفس‬ ‫نَع َلم مجيع ًا َّ‬
‫رشط يف كامل اإليامن دون أصله‪ ،‬وأنه صلىَّ اهلل عليه وس َّلم لجَ دير أن يكون َأ َحب‬
‫للحب سببني كام قال العز بن عبد السالم‪:‬‬ ‫ألن ُ‬‫ِمن األن ُفس؛ َّ‬

‫‪38‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫األول‪ :‬الرشف والكامل‪ .‬الثَّاين‪ :‬اإلنعام واإلفضال‪.‬‬


‫َّ‬
‫أن ن ْفسه صىل اهلل عليه وسلم أكمل األنفس وأرشفها؛ فينبغي ْ‬
‫أن يكون‬ ‫والشك َّ‬
‫ُح ُّبه عىل قدر كامله‪ .‬وأ َّما اإلنعام واإلفضال املربوط باألسباب؛ فال إنعام ألحد‬
‫أتم ِمن إنعامه علينا صلىَّ اهلل عليه وس َّلم وإحسانه إلينا؛ ألنّه َع ّر َفنا بر ّبنا وبام‬
‫َّ‬
‫شرَ َ عه لنا‪ ،‬وكان َسبب ًا يف فوزنا بدار القرار‪ ،‬واخلَالص ِمن عذاب النار‪ ،‬وكيف ال‬
‫حب إلينا ِمن أن ُفسنا األ َّمارة بالسوء التي ما تقاعدنا بيشء‬ ‫يكون َمن هذا شأنه َأ َّ‬
‫ِمن الفالح إِالَّ بسببها‪ ،‬وال وق ْعنا يف يشء ِمن القبائح إِالَّ بشهوهتا وط َلبها‪.‬‬
‫َأخرج البخاري ِمن َحديث أيب عقيل زهرة بن معبد؛ َأنّه َسمع جدَّ ه عبد اهلل بن‬
‫هاشم قال‪ :‬كنّا مع رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم وهو آخذ ب َيد عمر بن اخلطاب‬
‫ريض اهلل عنه‪ ،‬فقال له عمر‪« :‬يا رسول اهلل ‪ -‬صىل اهلل عليه وسلم ‪ -‬ألَنت َأ ُّ‬
‫حب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إِ َّيل من كل يشء إِالَّ من ن ْفيس‪ ،‬فقال ُّ‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم‪ :‬ال وا َّلذي َن ْفيس‬
‫حب إليك من نفسك‪ .‬فقال له عمر‪ :‬فإنه اآلن واهلل ألنت َأ ُّ‬
‫حب‬ ‫بيده حتّى أكون َأ َّ‬
‫ِ‬
‫إِ َّيل من ن ْفيس‪ .‬فقال ُّ‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم‪ :‬اآلن يا عمر»‪.‬‬
‫ب اإلنسان‬
‫ب االختيار؛ ألن ُح َّ‬ ‫قال اخلَ َّطايب‪:‬مل ُي ِرد به ُح َّ‬
‫ب ال ّطبع‪ ،‬بل أراد به ُح َّ‬
‫طبع‪ ،‬وال سبيل إىل َق ْلبِه‪ ،‬فمعناه ال ت َْصدُ ق يف ح ِّبي حتّى ُت ْفني يف طاعتي‬
‫نفسه ٌ‬
‫ِ‬
‫نفسك‪ ،‬وت ُْؤثر ِرضاي عىل هواك‪ ،‬وإِ ْن كان فيه هالكك‪ .‬اهـ ‪ .‬رشح ُّ‬
‫«السنة»‬ ‫َ‬
‫للبغوي ‪. 51/1‬‬
‫فدافع احلُب ُم َؤ ِّثر قوي يف إجياد جمالس احلُب وانتشارها‪ ،‬ليتَعلم فيها املرء كيف‬
‫يقطع هوى نفسه‪ ،‬ويتعلم فيها كيف يصل إىل قلبه فريى آثار ربه عز وجل‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل ال َّثامن عرش‬
‫جليل؛ إِ َّن قض َّية املولد ليست ُم ِّ‬
‫تأخرة‪ ،‬بل‬ ‫ٍ‬ ‫ونَذكر يف هذا الدليل تأييدَ وتأكيدَ‬
‫قد َأ َّلف فيه حممد بن عمر الواقدي صاحب ا َملغازي‪ ،‬وكتاب الفتوح املتوفىَّ سنة‬
‫ست وقيل‪ :‬تسع ومئتني‪ ،‬وله يف ذلك كتابان‪ :‬كتاب «املولد النبوي» وكتاب‬
‫السهييل يف «الروض» منها‪ ،‬وكذلك َأ َّلف يف املولد من‬
‫«النُّور النبوي» كام َينْ ُقل ُّ‬
‫األقدمني احلافظ أبو عبد اهلل حممد بن عائذ صاحب السرية املشهورة واملتوفىَّ سنة‬
‫ثالثة وثالثني ومئتني‪ ،‬واحلافظ أبو بكر بن أيب عاصم صاحب التصانيف الكثرية‬
‫أن َأ َّول َمن َأ َّلف يف املولد النبوي‬
‫املتوفىَّ سنة سبع وثامنني و مئتني‪ ،‬وذكر بعضهم َّ‬
‫هو احلافظ أبو اخل َّطاب ابن دحية ال َك ْلبي املتوفىَّ سنة ثالثة وثالثني وستماِ ئَة وهو‬
‫الـم َسمى «بالتنوير من مولد الرساج املنري»‪ ،‬و َقدَّ مه للملك املظفر ملك‬
‫املولد ُ‬
‫إربل الذي كان حيتفل بليلة مولده صىل اهلل عليه وسلم ويومها احتفاالً ما ُس ِم َع‬
‫بمثله‪ ،‬فجازاه عليه بجائزة عظيمة ‪.‬‬
‫و َيكفينا حافظ األمة ابن حجر ا َّلذي َأ ْفتَى بجوازه‪ ،‬واستدل عىل جواز ختصيص‬
‫واالستِمرار عىل هذا التخصيص يف نظري هذا اليوم‬
‫ْ‬ ‫خاصة‪،‬‬
‫مثل هذا اليوم بعبادة َّ‬
‫من كل سنة هبا؛ َص َّح َّ‬
‫أن النَّبي صىل اهلل عليه وسلم قدم املدينة فوجد اليهود‬
‫صيام ًا يوم عاشوراء فقال‪« :‬ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ فقالوا‪ :‬هذا يو ٌم‬
‫عظيم أنجى اهلل فيه موسى وقومه‪ ،‬وأغرق فرعون و قومه‪ ،‬فصامه موسى شكر ًا‬‫ٌ‬
‫أحق و َأ ْوىل بموسى‬
‫فنحن نصومه‪ ،‬فقال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪ :‬فنحن ُّ‬
‫منكم؛ فصامه رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأمر بصيامه» أو كام قال عليه‬
‫ُ‬
‫الرسول صىل اهلل عليه وسلم‬ ‫الصالة والسالم ‪ ،‬واحلديث متفق عليه‪ .‬فقد َأ َق َّر‬
‫االحتفال بنجاة موسى عليه الصالة والسالم بالصوم؛ رأى َأ َّن قيامه بذلك‬
‫تعبري ًا عن رسوره‪ ،‬وشكر ًا هلل عىل ما م َّن به عليه‪ ،‬فإن احتفالنا هبذه النجاة أوىل‬

‫‪40‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫من قيام اليهود بذلك‪ ،‬وإذا ما نظرنا إِىل ما َم َّن اهلل به عىل العالمَ بمولده؛ وجدنا‬
‫ِ‬ ‫أن هذا املِيالد أعظم النِّعم ا ُمل ِ‬
‫للشكر وا ُملستوجبة للسرُّ ور وا ُ‬
‫حلبور‪ .‬انظر‬ ‫ستح َّقة ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫«احلاوي» ‪. 215/1‬‬

‫الدليل التاسع عرش‬


‫نذكر كالم العلامء املحققني فقهاء وحمدثني يف هذه املجالس‪:‬‬
‫قال احلافظ ابن حجر‪ :‬بدعة مل تنقل عن السلف الصالح من القرون الثالثة‬
‫ولكنها مع ذلك اشتملت عىل حماسن وضدِّ ها؛ فمن تحَ َ َّرى يف عملها املحاسن‪،‬‬
‫وتجَ نَّب ضدَّ ها؛ كان بدعة حسنة وإال فال ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال احلافظ السيوطي رمحه اهلل تعاىل‪ :‬إن أصل عمل املولد الذي هو اجتامع‬
‫الناس وقراءة ما تيسرَّ من القرآن ورواية األخبار الواردة يف مبدأ أمر النبي صلىَّ اهلل‬
‫عليه وس َّلم وما وقع يف مولده من اآليات‪ ،‬ثم ُي َمدُّ هلم سامط يأكلونه وينرصفون‬
‫من غري زيادة عىل ذلك هو ِمن البدَ ع احلسنة التي يثاب عليها صاحبها ملا فيها من‬
‫تعظيم النبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم وإظهار الفرح واالستبشار بمولده الرشيف‪.‬‬
‫اهـ‪ .‬انظر «احلاوي» ‪.216-208/1‬‬
‫وقد تَك َّلم أبو عبد اهلل ابن احلاج يف كتابه «ا َملدخل» َفأتقن الكالم فيه جد ًا؛‬
‫ٍ‬
‫شعار وهو ُشكر و َف َرح‪ ،‬ومع ذلك فإنَّه‬ ‫وحاصله‪َ :‬مدْ ُح ما كان فيه من إظهار‬
‫فمن ذلك قوله‪ْ :‬‬
‫وإن كان النبي صلىَّ‬ ‫َذم ما احتوى عليه ِمن محُ رمات ومنكرات‪ِ ،‬‬
‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫اهلل عليه وس َّلم مل َيزد فيه عىل غريه من الشهور شيئ ًا من العبادات‪ ،‬وما ذاك إِالَّ‬
‫لِرمحته صلىَّ اهلل عليه وس َّلم ألُ َّمته ورفق ًا هبم‪ ،‬ألَنه صلىَّ اهلل عليه وس َّلم كان َيرتك‬
‫أن ُيفرض عىل ُأ َّمته؛ رمحة منه هبم‪ .‬ولكن أشار صلىَّ اهلل عليه وس َّلم‬
‫العمل خشية ْ‬
‫الشهر العظيم بقوله للسائل ا َّلذي َسأ َله عن صوم يوم اإلثنني‪:‬‬
‫إىل فضيلة هذا َّ‬

‫‪41‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫تضمن لترشيف هذا الشهر ا َّلذي‬ ‫فترشيف هذا اليوم ُم ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ولدت فيه»‪،‬‬
‫ُ‬ ‫«ذاك يو ٌم‬
‫كرم و ُيع َّظم ويحُ رَتم‬ ‫ُولِدَ فيه‪ ،‬فعلىَ هذا ينبغي إذا َدخل هذا الشهر الكريم ْ‬
‫أن ُي َّ‬
‫ِ‬
‫ُص األوقات‬ ‫االحرتام ا ْلالئ َق به؛ اتِّباع ًا له صلىَّ اهلل عليه وس َّلم؛ يف كونه كان يخَ ُّ‬
‫الفاضلة بِزيادة عىل قدر استطاعتنا‪ ،‬فلامذا ال َيكون الشهر ا َّلذي ُولِدَ فيه ِمن‬
‫الشهور‪ ،‬واليوم ا َّلذي تَشرَ َّ ف بوالدته ِمن َأفضل األَ َّيام‪ .‬اهـ «املدخل»‬ ‫َأ ْف َضل ُّ‬
‫‪.29-27/2‬‬
‫دل عىل اجلواز باالحتفال‪،‬‬ ‫قلت‪ :‬إىل هذا أشار ابن احلاج؛ وإِ ْن َد َّل هذا فإِنَّام َي ُّ‬ ‫ُ‬
‫و َيتبينَّ مما سبق جواز االحتفال بيوم ا َملولد يف صورة شخصية أو ُأرس َّية‪ ،‬بل إىل‬
‫كل ما خالف ذلك فهو بِدَ ٌع ُمنْكَرة ال أصل هلا‬ ‫استحباب هذا االحتفال‪َ ،‬أ َّما ُّ‬
‫َف عن هذه البِدَ ع ا َّلتي تحَ صل أثناء‬ ‫يف الدِّ ين‪ .‬فالواجب عىل املسلمني ا ْلك ُّ‬
‫االجتامع‪ ،‬واإلقالع عن هذه العادات‪ ،‬وتجَ ْ ِريد ذلك ا َملولد الشرَّ يف ِم ْن كل ما‬
‫ُينايف َجالله واحرتامه وتوقريه‪.‬‬
‫‬

‫ِ‬
‫إفس�ادها إال ِه�ي‬ ‫وس� َعى إىل‬ ‫ٍ‬
‫أمح�د‬ ‫ي�ا ُعصب� ًة م�ا ضرَ ُأم ِ‬
‫�ة‬ ‫َّ َّ‬ ‫ْ َ‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِ‬
‫بماله�ي‬ ‫�ط ِعب�ادة‬‫رأي�ت َق ُّ‬
‫َ‬ ‫َأ‬ ‫ِ‬
‫ش�اد ٍن‬ ‫زم�ار ونغم�ة‬ ‫ِ‬
‫ط�ار وم ٌ‬ ‫ٌ‬
‫َأ َّما يف املوالد ا َّلتي شاهدناها‪ ،‬واملوالد ا َّلتي حرضناها يف كثري من األ ْقطار‬
‫اإلسالمية‪ِ ،‬‬
‫الس َّيام يف احلرمني الرشيفني؛ مل ن ََر فيها بِدَ ع ًا مذمومة‪ ،‬أو ما ينايف‬ ‫َّ‬
‫آداب رشيعتنا ال َغ َّراء؛ بل مجَ السنا وهلل احلمد ك ّلها ُسن َّية رشع َّية؛ َيظهر فيها التَّعظيم‬
‫الرحيم صىل اهلل عليه وسلم ومنهجه ال َقويم‪،‬‬ ‫الرؤوف َّ‬ ‫والتَّكريم للرسول الكريم َّ‬
‫الرسالة بِان ِْس َجام‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫وفرح بنعمة ِّ‬ ‫ب ِ‬
‫ووئَا ٍم‬ ‫ُ‬
‫أذواق احلارضين يف ُح ٍّ‬ ‫و َتبرْ ُ ز فيها‬

‫رشعية لفضيلة الشيخ حسنني حممد خملوف ط الرابعة ‪ 1979‬دار وهدان للطباعة‬
‫َّ‬ ‫ فتاوى‬
‫والنرش ‪ -‬ج ‪. 1‬‬

‫‪42‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل العرشون‬
‫الر َّبانيِ النَّبي‬ ‫ِ‬
‫ومن احلوافز ا َّلتي جتعلنا نجتمع ونتدارس‬
‫أخبار هذا اجلوهر َّ‬
‫َ‬
‫وأتم التَّسليم؛ َأ َّن اهلل أكرمه بمزايا وخصائص‬ ‫ُّ‬ ‫الصالة‬
‫الكريم عليه أفضل َّ‬
‫ٍ‬
‫ألحد‬ ‫اقت ََض ْت َأفضل َّيته عىل األنبياء وا ُملرسلني و املالئكة ا ُمل َق َّربني؛ ألنهَّ ا مل تجَ تمع‬
‫ونوع‪َ :‬يتع َّلق ُبأ َّمته أو ببعض‬ ‫نوع‪َ :‬يتع َّلق بشخصه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫سواه‪ ،‬وهي نَوعان؛ ٌ‬
‫ِ‬
‫والسالم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َأ فرادها؛ ألَ ْجله عليه َأ فضل َّ‬
‫الصالة‬
‫دفاع اهلل عنه؛ بمخت َلف األساليب‪ْ ،‬‬
‫حس َبام ن َّبهنا عليه يف‬ ‫األول ‪ُ :‬‬ ‫فمن النَّوع َّ‬
‫اآليات ال َعظِيامت والدَّ الالت الواضحات؛ كتَبشري األنبياء به‪ ،‬وأخذ امليثاق‬
‫السؤال‪ِ ،‬قتَال املالئكة معه‪،‬‬
‫عليهم َأ ْن يؤمنوا به و َينرصوه‪ ،‬إعطاءه ُأمن َّيته َق ْبل ُّ‬
‫بالرعب ُي ْل َقى يف قلوب أعداءه‪ ،‬إجياب طاعته وجعلها مثل طاعة اهلل‪،‬‬ ‫نرصه ُّ‬
‫وحفظ اهلل له الكتاب ِمن التَّبديل والتَّحريف‪ ،‬إقسا ُم اهلل‬ ‫ُ‬ ‫إعطائه القرآن العظيم‪،‬‬
‫ِ‬
‫باسمه أو كُن َيته‪،‬‬ ‫بِحياته‪ ،‬كفايتَه ا ُملستهزئني به‪ ،‬إسنا ُد بيان القرآن إليه‪ ،‬تحَ ِريم ندائه‬
‫رس دينِه‪ ،‬ختمه للن َُّّبوة‪ ،‬صال ُة اهلل ومالئكته عليه‪ ،‬ثنا ُء اهلل‬
‫إرسا َله رمحة للعاملني‪ُ ،‬ي ُ‬
‫بعظمة ُخ ُلقه‪ ،‬إعطائه الكوثر‪ ..‬إىل غري ذلك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عليه‬
‫ِ‬
‫ومن النَّوع ال َّثاين‪ :‬شهاد ُة ُأ َّمتُه عىل النَّاس يوم القيامة‪ُ ،‬‬
‫رفع اخلَطأ والنِّسيان و‬
‫حل َرج عن ُأ َّمته‪ ،‬ال َّثناء عىل صحابته يف التَّوراة و اإلنجيل‪ ،‬تفضيلهم عىل األُ َمم‪،‬‬
‫ا َ‬
‫السيدة عائشة ريض اهلل تعاىل عنها ‪ -‬يف بِ ْض ِع عرشة آية‪ ..‬إىل غري‬ ‫َتبرْ ِ َأ ُة زوجه ‪َّ -‬‬
‫غريها ِمن الفضائل‪.‬‬ ‫ذلك‪ ،‬فهذه يجَ ب َأ ْن َيقف عليها ك ُُّل ُمسلم وعىل ِ‬
‫إثبات ذات التَّابع بأفضل َّية ا َملت ُبوع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وثمرة هذه ا َملجالس يف معرفة ما ذكرنا‪ :‬هو‬
‫َ‬
‫األولني واآلخرين‪ ،‬ويجَ ب إعالمهم يف هذه‬‫و َف ْخ ُر ا ُملجتمعني عىل سرية س ِّيد َّ‬
‫ا َملجالس بأنهَّ م َأفضل األُ َمم؛ حتَّى يعودوا لِصوابهِ م و َيرجعوا لكتاهبم وسنة‬

‫‪43‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫نَب ّيهم ‪ ،‬وكام قال البوصريي رمحه اهلل تعاىل ‪:‬‬


‫ناي�ة ركن� ًا غير من ِ‬
‫ْه�د ِم‬ ‫الع ِ‬
‫ِم�ن ِ‬ ‫ُبْش�رْ َ ى َلن�ا َم ْعَش�رَ َ اإلسلا ِم إِ َّن َلن�ا‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫داعين�ا لِطاعتِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ�ر َم األُ َم� ِم‬ ‫الر ِ‬
‫س�ل كنَّ�ا أك َ‬ ‫بِأك َ‬
‫ْ�ر ِم ُّ‬ ‫�ه‬ ‫َّمل�ا َدع�ا اهللَ‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل احلادي والعرشون‬
‫ِ‬
‫املصالح‬ ‫(جلب‬
‫ُ‬ ‫ص هذا الدَّ ليل ألَ ْص ٍل اتَّفق أئمة املسلمني عليه وهو‪:‬‬ ‫ن َ‬
‫ُخ ِّص ُ‬
‫و َد ْر ُء املفاسد مطلقا)‪.‬‬
‫العمل عىل َج ْلبها‬
‫ُ‬ ‫حيث ما تحَ َّق َقت ا َملصلحة فهي َمصلحة؛ ف َيجب‬
‫ُ‬ ‫أي‪:‬‬
‫وحيث ما تحَ َّق َقت ا َملفسدة فهي َمفسدة؛ فيجب العمل عىل َد ْفعها‬
‫ُ‬ ‫ورعايتها‪،‬‬
‫َص خاص‪.‬‬
‫وسدِّ أبواهبا‪ ،‬وإن مل يكن يف ذلك ن ٌّ‬
‫َ‬
‫الصالح واإلصالح‪ ،‬والنفع‬ ‫حل ِّث عىل َّ‬‫فح ْس ُبنا النُّصوص العا َّمة الواردة يف ا َ‬
‫َ‬
‫واخلري‪ .‬وحسبنا النُّصوص العامة يف َذم الفساد واإلفساد وا ُمل ِ‬
‫فسدين‪ ،‬ويف النَّهي‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫عن الشرَّ والضرَّ ر‪ .‬وحسبنا اإلمجاع ا ُمل ِ‬
‫نعقد عىل َأ َّن ا َملقصد األعم يف الرشيعة هو‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫ِّ‬
‫رس َلة ا َّلذي تَضاربت فيه‬
‫جلب ا َملصالح و َدرء ا َملفاسد‪ ،‬وهذا هو باب ا َملصالح ا ُمل َ‬
‫ُ‬
‫األقوال األصول َّية‪ ،‬ولكن التَّطبيق الفقهي ُأخذ به يف مجيع املذاهب ا ُمل َّت َبعة‪ ،‬كام‬
‫أن األصول ِّيني ا ُملعاصرِ ين أمجعوا عىل ْتأ ِّييد ُح ِّجية ا َملصالح ا ُملرس َلة‪ ،‬وعىل ْتأكيد‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫للفقه اإلسالمي‪.‬‬ ‫َأ ِّ‬
‫مه ّيتها‬
‫وإذا َفسرَّ نا ا َملصلحة با ُملحافظة عىل مقصود الشرَّ ع؛ فال وجه للخالف يف‬
‫ات ِ‬
‫ِّباعها‪ ،‬بل يجَ ب الق ْطع بكوهنا ُح َّجة هذا كالم عمالق األصول ِّيني اإلمام‬
‫أيب حامد الغزايل رمحه اهلل تعاىل كام ذكره يف «املستصفى» ‪ ،311/2‬وقال يف‬
‫حلكم‬
‫للحكم‪ ،‬ونَجعل ا ُ‬ ‫«املنخول» ص‪ ( :355‬نحن نَجعل ا َملصلحة تارة َع َل ًام ُ‬
‫أخرى َع َلام هلا)‪ .‬والذي يهَ ُّمني اآلن هو الشطر األَ َّول ِمن قوله‪َّ :‬‬
‫إن ا َملصلحة‬

‫‪44‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫ال عىل احلكم)‪.‬‬ ‫تكُون َع َلام (أي ‪ :‬دلي ً‬


‫وج َّل‬ ‫فانظر يا َأ ِخي إِىل مجَ الس ال ُق ْر َبة‪ ،‬ا َّلتي ُبنِ َي ْت و ُأ ِّس َس ْت عىل ُشك ِْر املوىل َّ‬
‫عز َ‬
‫عىل ما َمنَحنَا ِمن هذه النِّعم العظيمة‪ ،‬ف َع َم ُل البرِ ‪ ،‬وكثرة اخلريات والصدقات‪،‬‬
‫وقراءة القرآن‪ ،‬وغري ذلك من وجوه ال ُقربات ليست هي إِالَّ أمور منصوص‬
‫عليها رشع ًا وحم َّببة للنفس طبع ًا ‪ -‬أي ‪ :‬حمبوبة ومرغب فيها ‪ !-‬فكيف نرتكها وقد‬
‫جمَ عت راحة النفس وسمو الروح وحشد القلب باإليامن؟! ولو ت ََّصور َأحدٌ ‪ :‬أنه‬
‫عمل إِالَّ بن َّية‪ ،‬والن َّية ُهنا ال تكون إال‬
‫نقول له‪ :‬ال َ‬
‫ثواب فيه! ُ‬
‫ليس ذلك عبادة وال َ‬
‫هلل تعاىل‪ ،‬وهذا َمعنَى ال ُق ْربة بقراءة السرية ‪ -‬املولد أو غريه ‪ -‬فهي ن َّية ُم ْس َ‬
‫تحسنَة‬
‫بال شك‪ ..‬فتأمل‪ ،‬وكذلك ما يحَ صل فيه ِمن مدائح نبو َّية ُ‬
‫وزهد َّية محُ ِّركة للق ُلوب‬
‫والعمل ِ‬
‫لآلخرة‪..‬‬
‫السامع‪ ..‬وغري ذلك؛ ف َينبغي َأ ْن ُي َ‬ ‫ِ‬
‫قال‪ :‬ما كان من ذلك‬ ‫َأ َّما ما َيتبع ذلك من َّ‬
‫ُمباح بحيث َيقتَيض السرُّ ور بميالد النَّبي صلىَّ اهلل عليه وآله وس َّلم ال َب ْأس‬
‫قصد ٌة بذاهتا؛‬ ‫ألن هذه ا َملصلحة ا َّلتي ذكرناها َأ ْص ٌل بنفسها‪ ،‬و َم َ‬ ‫بإحلاقه به؛ َّ‬
‫عز َّ‬
‫وجل ُيو ِّفق اجلميع‪.‬‬ ‫ألن العا َّمة ال ُبدَّ لهَ ُم ما ُي ْص ِل ْحهم‪ ،‬واهلل َّ‬
‫َّ‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل ال َّثاين والعرشون‬
‫ِ‬
‫من ا ُملهماَّ ت ا َّلتي يجَ ب ذكْرها يف هذه األد َّلة؛ قاعدة إمام األَ َّ‬
‫ئمة و ُأصويل األ َّمة‬
‫الشاطبي رمحه اهلل تعاىل يف «ا ُملوافقات» ‪ :196/4‬النَّظر يف مآالت األَفعال‬
‫ُمعتبرَ مقصود رشع ًا‪ ،‬سواء كانت األفعال موافقة أو مخُ الِ َفة؛ وذلك أن ا ُملجتهد ال‬
‫ادرة عن ا ُملك َّلفني باإلقدام أو باإلحجام‪ ،‬إال بعد‬ ‫حَيكم عىل فِع ٍل ِمن األفعال الص ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫الفعل‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫نظره إىل ما يؤول إليه ذلك ِ‬
‫َ‬
‫ويف السنة النبوية تطبيقات ِ‬
‫هاد َية يف هذا الباب؛ فقد امتنع النَّبي صلىَّ اهلل عليه‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬

‫‪45‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫وس َّلم عن قتل ا ُملنافقني‪ ،‬مع ِع ْلمه هبم‪ ،‬ومع ِع ْلمه باستحقاقهم القتل‪ ،‬وقال‪« :‬ال‬
‫أن حممد ًا َي ْقت ُُل أصحا َبه»‪ .‬متفق عليه‪ ،‬ويف رواية‪َ « :‬معا َذ اهلل َأ ْن‬
‫َّاس َّ‬
‫َيتحدَّ ث الن ُ‬
‫تَتسا َمع األُ َمم َأ َّن حممد ًا َي ْقتُل أصحابه» رواه أمحد يف مسنده‪ ،‬ويف رواية‪َ « :‬أك َْره َأ ْن‬
‫َّاس َأ َّن حممد ًا َي ُ‬
‫قتل أصحابه» رواه الطرباين يف «األوسط»‪.‬‬ ‫َيتحدَّ ث الن ُ‬
‫وتخَلىَّ عليه الصالة والسالم عن إعادة البيت احلرام؛ حتَّى ال ُيثري بلبل ًة بني‬
‫ال َع َرب وكثري منهم حديثو َع ْه ٍد باإلسالم‪ ،‬وقال مخُ اطِب ًا السيدة عائشة ريض اهلل‬
‫ني بنوا ال َك ْعبة اقترصوا عن قواعد إبراهيم؟‬ ‫أن َق ْو َمك ِح َ‬
‫تعاىل عنها‪َ « :‬ألمَ ْ ت ََري َّ‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول اهلل َأ َفال تَر ُّدها عىل قواعد إبراهيم؟ فقال رسول اهلل صلىَّ‬ ‫ُ‬ ‫قالت‪:‬‬
‫ْ‬
‫قومك بال ُك ْفر َلفع ْل ُت»‪ .‬رواه مالك يف « ُم َو َّط ِئه»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اهلل عليه وس َّلم‪ :‬لوال ِحدْ ُ‬
‫ثان‬
‫َّتائج‪ ،‬فال َيكفي َأ ْن َيكون ا ُملجتهد ماهر ًا‬ ‫قلت‪ :‬فيجب مراعاة املآالت والن ِ‬
‫ُ َ‬
‫الر َّباين‬
‫الرتبة يف االجتهاد‪َّ :‬‬ ‫سمى صاحب هذه ُّ‬ ‫بنصوص التَّرشيع وتفصيالته؛ و ُي َّ‬
‫سلم ِمن‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬
‫واحلكيم والراسخ يف ِ‬
‫الع ْلم؛ ر ِز َق نور ًا يع ِرف به املآالت‪ ،‬وينْ ُقل َع ْق َل ا ُمل ِ‬
‫َّ‬
‫االنشغال يف اجلزئيات إىل الكُل َّيات‪ .‬وهذه ا َملجالس ِهي ِر ْح َلة ِم َن األَكوان إىل‬
‫بمح َّبتِه ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ‬ ‫تصهم َ‬ ‫احلق لخِ دمته‪ ،‬و َق ْو ٌم ْ‬
‫اخ َّ‬ ‫ا ُمل ِّ‬
‫كون‪ ،‬فقو ٌم أقامهم ُّ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﮊ [اإلرساء‪.]٢٠ :‬‬
‫والسكنات واإلرادات واخلطرات؛ من‬ ‫اللهم نسألك العصمة يف احلركات َّ‬
‫الساتِرة للقلوب عن ُمطا َلعة الغيوب‪..‬‬
‫الشكوك وال ُّظنون‪ ،‬واألَوهام َّ‬
‫ُّ‬
‫أوضح‪ :‬ننظر كون ال َع َمل مأجور ًا عند اهلل أوبخالف ذلك؟ هذا ما‬
‫وبمعنى َ‬
‫سنعرفه يف الدَّ ليل اآليت‪..‬‬

‫‪46‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل ال َّثالث والعرشون‬
‫الصحة وال ُبطالن عند‬‫َّ‬ ‫عندما تَك َّلم صفوة األصولِ ِّيني اإلمام الشاطبي عن‬
‫األخ َروي؛ قال رمحة اهلل عليه‪( :‬وهو وإِ ْن كان إطالق ًا‬
‫تطرق إىل معناه ْ‬
‫الفقهاء‪َّ ،‬‬
‫تعرض له‬
‫تعرض له علام ُء الفقه‪ ،‬فقد َّ‬ ‫غريب ًا – أي عالقتهام باملآل ْ‬
‫األخ َروي ‪ -‬ال َي َّ‬
‫علامء التَّخ ُّلق كالغزايل وغريه‪ ،‬وهو مما يحُ افظ عليه َّ‬
‫السلف املتقدِّ مون‪ ،‬وتأ َّمل ما‬
‫حكا ُه الغزايل يف كتاب النِّ َّية واإلخالص من ذلك)‪ .‬اهـ‪« .‬املوافقات»‪292/1‬‬
‫إِ َّن إعجاب الشاطبي بالغزايل وت َْأييده له دائام ليس من فراغ‪ ،‬بل ِمن ُع ْمق‬
‫رض ٌب ِمن التعليل ا َملص َلحي‪ُّ ،‬‬
‫فكل‬ ‫اإليامن؛ َّ‬
‫بأن التع ُّبد يف األحكام هو نفسه ْ‬
‫ُحكم ُيع ِّل ُم النَّاس‪ ،‬و ُي ِّ‬
‫دربهُ م عىل االنقياد للرشع‪ ،‬وعىل اخلضوع هلل برغبة وحمبة‬
‫ونوع‬
‫ُ‬ ‫فهو (عبادة)‪ ،‬و َيتجلىَّ الغزايل بروحه فيقول‪( :‬إِ َّن ِّ‬
‫لكل ُحكم رس ًا‬
‫ٍ‬
‫وكامل)‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وصالح‬ ‫ُل ٍ‬
‫طف‬
‫َّ‬ ‫أن ذكر أنفاس هذا ِ‬
‫(وإن‬ ‫العمالق أستاذ األستاذين‪:‬‬ ‫تلذذ ًا بعد ْ َ‬
‫قال الشاطبي ُم ِّ‬
‫أن َيكون كل مك َّلف حتت قانون معينَّ من تكاليف الرشع‪،‬‬
‫ا َملصلحة الكل َّية‪ :‬هو ْ‬
‫يف مجيع حركاته وأقواله واعتقاداته)‪ .‬اهـ‪« .‬املوافقات» ‪. 386/2‬‬
‫التوجه إليه‬
‫ُّ‬ ‫األول‪ :‬اخلضوع هلل سبحانه وتعاىل؛ بإخالص‬
‫فالرشيعة مقصودها َّ‬
‫َجدُ ُه يف‬ ‫بالذكر له‪ ،‬وهذا ن ِ‬
‫الذ َّلة بني يديه‪ ،‬وتذكري النَّفس ِّ‬
‫واالنتصاب عىل َقدم ِّ‬
‫بالرياض ا ُملمتِعة‪« :‬إذا‬
‫مجَ الس وصفها موالنا وسيدنا صلىَّ اهلل عليه وآله وس َّلم ِّ‬
‫ررتُم برياض اجلَنَّة فارتعوا»‪.‬‬
‫َم ْ‬

‫الرابع والعرشون‬ ‫الدَّ ُ‬


‫ليل َّ‬
‫ما هو َأثر هذه ا َملجالس عىل النَّفس التي حترضها‪ ،‬وعىل الروح ا َّلتي َّ‬
‫تتلذ ُذ هبا‪،‬‬
‫وعىل القلب ا َّلذي ينشغل هبا‪ ،‬حتى ُنكْثِر منها أو نمنعها؟‬

‫‪47‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫اجلواب عند احلكيم الرتمذي ؛ فهو ِمن أكثر العلامء ِعناية بتعليل األحكام‬
‫الرشعية وبالبحث عن أرسارها‪ ،‬ولع ّله أقدم َمن َوضع كتاب ًا خاص ًا يف املقاصد‬
‫الذوقي‪ ،‬حتَّى َأ ْوقفنا‬
‫التقي َّ‬ ‫الرشعية َأظهر فيه َمنهل ا َملزج ُّ‬
‫الروحي‪ ،‬و ُمناجاة رَّ‬
‫عىل ن ُْزهة ا ُملشتاق ملصارع ال ُع َّشاق‪ ،‬فأنشدَ يف كتابه (الصالة ومقاصدها) حلن‬
‫الوفاء‪ ،‬تواجدَ عليه كبار األولياء بمنشور العناية اللهم َز ِّك نفيس أنت خري َمن‬
‫(كل صالة هي توبة‪ ،‬وما بني الصالتني‬ ‫زكَّاها‪ ،‬أنت ول ُّيها وموالها فرتنَّم قائالً‪ُّ :‬‬
‫غفلة وجفوة‪ ،‬وزالَّت وخطايا‪ ،‬فبالغفلة َيبعد ِمن ر ِّبه‪ ،‬فإذا َب ُعد َأشرِ و َبطِر؛‬
‫ألنه َيفتقد اخلشية واخلوف‪ ،‬وباجلفوة يصري أجنب ّيا‪ ،‬وبالز َّلة َيسقط وتنـزلِق‬
‫فيأرسه العدو‪ ،‬فأفعال الصالة مخُ ِتلفة‬ ‫قدمه فتنكَرس‪ ،‬وباخلطايا يخَ رج من ا َمل ْأمن ْ‬
‫عىل اختالف األحوال من العبد؛ فبالوقوف يخَ رج من اإلباق؛ ألنه َّملا انترشت‬
‫جوارحه نَقصت تلك العبود َّية و َأبِق ِمن ر ِّبه‪ ،‬فإذا وقف بني يديه فقد مجعها من‬
‫فخرج ِمن اإلباق‪ ،‬وبالتَّوجه إىل القبلة يخَ رج ِمن ال َتوليِّ‬
‫االنتشار ووقف للعبودية َ‬
‫الكبرْ ‪ ،‬وبالثناء يخَ رج ِمن الغفلة‪ ،‬وبالتالوة يجُ دد‬
‫واإلعراض‪ ،‬وبالتكبري يخَ رج ِمن ِ‬

‫وبالركوع يخَ رج ِمن اجلفاء‪ ،‬وبالسجود يخَ رج من‬ ‫ُّ‬ ‫تسلي ًام للنفس وقبوالً للعهد‪،‬‬
‫الذنْب‪ ،‬وباالنتصاب للتشهد يخَ رج ِمن اخلُرسان‪ ،‬وبالسالم يخَ رج ِمن اخلطر‬ ‫َّ‬
‫العظيم)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫الذوقي ِمن ا َملرشب الروحي‪ ،‬وا َملجالس ال تَقل عن هذا‬
‫صدر للرت ِّقي َّ‬
‫فهذا َم ٌ‬
‫الروافد قد ك ُثرت‪ ،‬والنَّشوة قد حصلت‪َّ ،‬‬
‫والرمحة‬ ‫الروحي‪ ،‬ال س َّيام و َأ َّن َّ‬
‫ا َملدد ُّ‬
‫تنـزلت‪ ،‬والسكينة َغ ِش َيت‪ ،‬والكل َيرت َّقب نظرة اجتباء ورشبة صفاء لالصطفاء‪،‬‬‫َّ‬
‫وهيا ٌم َف َط َر قلوب ا ُملح ِّبني َلرب العاملني‪،‬‬
‫ورغبة جاحمة للوفاء باتِّباع سيد األنبياء‪ُ ،‬‬
‫فرح الراجني‪ ،‬حتى َم َّن عليهم موالهم بمقام أهل اليقني‬
‫وبكاء اخلائفني قابله ُ‬
‫واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل اخلامس والعرشون‬
‫إن االشتغال با ُملباحات ُيلهي عماَّ هو أهم؛ ِمن فعل الطاعات والنوافل‪ ،‬وقد‬
‫ُيلهي حتى عن الواجبات‪ ،‬وقد ُيوقع يف بعض املمنوعات‪ .‬ومن هنا جاء ذم الدُّ نيا‬
‫تورعهم عن كثري من املباحات‬
‫ومتاعها وفتنتها‪ ،‬وقد نُقل عن السلف الصالح ُّ‬
‫وزهدهم فيها‪ ،‬حتى َأصبح ُّ‬
‫الزهد يف الدنيا شعار الصاحلني ومنهج املتقني‪.‬‬
‫ِ‬
‫أن االشتغال باملباحات والتمتع هبا عمل مباح يف أصله‪ ،‬فإذا َأ ْل َ‬
‫ـهى‬ ‫واحلقيقة َّ‬
‫صاحبه عن واجب أو أوقعه يف محُ َّرم تغيرَّ حكمه َت َبع ًا هلذا الطارئ‪ ،‬ويف هذا‬
‫الزهاد والصاحلني فغري ُمس َّلم؛ َّ‬
‫ألن املباح‬ ‫أن ترك املباحات هو طريق ُّ‬ ‫داللة عىل َّ‬
‫يصري غري مباح باملقاصد واألمور اخلارجة‪ .‬ونَخترص األقسام األربعة ا َّلتي قد‬
‫َيؤول إل ْيها ا ُملباح‪:‬‬
‫‪ .1‬مباح باجلزء مندوب بالكل‪ :‬كالتمتّع بالطيبات ِم َن ا َملآكل وا َملشارب‬
‫واملالبس‪ ،‬فيام زاد عن حدِّ الرضورة‪.‬‬
‫‪ .2‬مباح باجلزء واجب بالكل‪ :‬كاألكل والرشب‪ ،‬ووطء الزوجات‪ ،‬والبيع‬
‫الناس‬
‫ُ‬ ‫احل َرف واملِ َهن‪ ،‬قال اإلمام الغزايل‪( :‬لو َفرضنا تَرك‬
‫والرشاء‪ ..،‬وسائر ِ‬

‫كلهم األكل والرشب؛ لكان ترك ًا َلمِا هو ِمن الرضوريات املأمور هبا‪ ،‬فكان‬
‫الدُّ خول فيها واجب ًا بالكل)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫كالتنـزه يف البساتني‪ ،‬وسامع الغناء‪ ،‬وسائر‬
‫ُّ‬ ‫‪ -3‬مباح باجلزء مكروه بالكل‪:‬‬
‫أنواع ا َّللعب املباحة‪.‬‬
‫حمرم بالكل‪ :‬كاملباحات ا َّلتي تَقدح يف العدالة ‪ -‬أي املداومة‬
‫‪ -4‬مباح باجلزء َّ‬
‫عىل فعلها ‪. -‬‬
‫الكف عنه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الكف َعماَّ يستطيع‬
‫ِّ‬ ‫فال ُبد لإلنسان ِمن ذلك ا ُملباح بأنواعه‪ ،‬لكن مع‬
‫ضرِ‬
‫األو ُل والثاين‪.‬‬ ‫حرم؛ فإقامتها َي ْأ ُم ُر به الن ُ‬
‫َّوع َّ‬ ‫وهذه ا َملجالس تمَ نع عن املباح ا ُمل ا ُمل َّ‬

‫‪49‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫السادس والعرشون‬ ‫الدَّ ُ‬


‫ليل َّ‬
‫إن أكرم اخلَ ْلق بنو آدم؛ يشهد هبذا أكر ُم كتاب‪ ،‬وتشهد له استعداداته ومهاراته‪.‬‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫وإن أرشف بني آدم هم املسلمون الصادقون وهم أهل احلَق واحلقيقة‪ .‬وإن أكمل‬
‫السامية ا َّلتي‬
‫الكل هو سيدنا حممد صلىَّ اهلل عليه وس َّلم‪ ،‬تشهد له معجزاته وأخالقه ّ‬
‫الق َيم‪ُ ..‬حر َّية َتتَسا َمى بالروح‪ ،‬وتُعطِي حلياة املسلم حيو َّيتَه‪ ،‬ولأل َّمة‬
‫جاءت بحرية ِ‬
‫ُ َّ‬
‫جمدها‪ُ ..‬حر َّية تَلتز ُم بالدِّ ين؛ ألنَّه وسيلة رشادها‪ ،‬وهو ا َّلذي َيعصمها ِمن الفوىض‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعصب الرأي‪،‬‬ ‫ومن تضارب املصالح ومن استبداد األفكار الفاسدة‪ ،‬ا َّلتي تُنتج ُّ‬
‫و َت ْف ِرض اخليار اجلامد ا َّلذي جعل الركود َأصل َحركتنا‪ ،‬حتى َخنق احلياة فِينا‪.‬‬
‫إن مجَ السنا املباركة تنادى‪ :‬يا أبناء اإلسالم ال ُتفسرِّ وا احلرية تفسري ًا س ِّيئا؛‬
‫َّ‬
‫ألن احلُرية إنَّام تزدهر بمراعاة األحكام الرشعية‪،‬‬ ‫كي ال ُت ْف َل َت من أيديكم؛ َّ‬
‫واألخالق الفاضلة‪ .‬والبرُ هان الباهر عىل ما نقول‪ :‬هو العهد الزاهر ا َّلذي كان‬
‫ومن صالح يف العقل ويف العمل‪،‬‬ ‫يرفل به الصحابة الكرام ِمن احلرية والعدالة‪ِ ،‬‬
‫ُ َّ‬ ‫َ‬
‫وإصالح يف األرض‪ ،‬واستنباط خلرياهتا وحفظ نظام التَعا ُيش فيها‪ ،‬واستمرار‬
‫صالحها بصالح ا ُملستخ َلفني فيها‪..‬‬
‫شاق عن‬ ‫إن مجَ الس احلبيب األعظم تقول عىل لسان ُحر َّية رشيعتها‪( :‬إن رفع ا َمل ِّ‬
‫َّ‬
‫َّخفيف عنهم‪ ،‬هي ِحكمتي املقصودة‪ ،‬و ُك َّلام وجدتُّم َعجز ًا و َعنَت ًا‬‫الناس‪ ،‬والت ْ‬
‫فت َّخصوا هذه ُحر َّيتي ا َملنشودة)‪.‬‬
‫واضطرار ًا وإكراه ًا؛ رَ‬
‫إن إشاعة التَّطهري والتَّنظيف يف حياة الناس‪ ،‬هي ِحكمة احلُر َّية؛ إذا كانت‬
‫َّ‬
‫احلرية اإلسالمية هي مصالح الرشيعة فاحلُر َّية مصطلح ذو شجون‪ ،‬فيجب‬
‫ِ‬
‫احلفاظ عليها‪ ،‬ألنهَّ ا جوهر مكنون‪ ،‬وصاحبها الدُّ ر ا َملصون‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫السابع والعرشون‬ ‫الدَّ ُ‬


‫ليل َّ‬
‫إن يف ا َملجالس فوائد ال تحُىص وال تُعد؛ منها‪:‬‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫يكون يف‬ ‫باعث ديني وباعث َط ْبعي يف أمر‪ ..‬كان العبد أقوى ما‬
‫ٌ‬ ‫إذا اجتمع‬
‫الزمان الباعث ال َّط ْبعي فال َيقفون عىل معناه‪ ،‬وال‬ ‫ذلك‪ ،‬وغالب ما َيبعث ألهل َّ‬
‫َيفهمون مقصده؛ ف َيحتاجون إىل عالمِ ر َّباين؛ يحَ ل ألفاظ ا َملباين‪ ،‬و ُيفرحهم فيه بلذة‬
‫ا َملعاين كام ُيقال ( ُقطب ا ُملتوكلني)‪.‬‬
‫ومن القواعد ا َّلتي تُنشرَ ‪ ،‬من كتب تُقرأ يف املجالس وتُذكر‪ ،‬ككُتب العارفني؛‬ ‫ِ‬

‫أي رشح لبلوغ املرام‪ ،‬واألذكار‪..‬‬


‫أمهها‪ :‬رياض الصاحلني‪ ،‬وسبل السالم‪ ،‬أو ّ‬
‫ويغلب عىل ا َملجلس قواعد العارفني‪ ،‬مثل ما قاله العارف باهلل سيدنا عبداهلل بن‬
‫علوي احلداد‪:‬‬
‫(إن َمن تع َّلق بالدِّ ين ثم بعد ذلك مال إىل الدُّ نيا أصبح بال ِدين وال ُدنيا‬
‫َّ‬
‫فليفهم)‪ .‬اهـ‪ .‬وقال ريض اهلل عنه‪َ ( :‬ينبغي أن يحَرتم اإلنسان جانب الربوبية‪ ،‬ثم‬
‫النبوة‪ ،‬ثم جانب العلامء العاملني‪ ،‬ثم جانب أولياء اهلل؛ ألهنم خاصته‪،‬‬
‫جانب َّ‬
‫بالذكر‪ ،‬وهذا اإلمام الغزايل كثري ًا ما َيعرتض عىل‬
‫وال َيعرتض عىل أحد يخُ ِّصصه ِّ‬
‫السوء‪ ،‬ومل ْ يخُ ِّصص أحد ًا بالذكر)‪ .‬اهـ‪ .‬وله أيضا رمحة اهلل عليه‪( :‬كان‬
‫علامء ُّ‬
‫السابقون إذا عملوا شيئ ًا للدنيا جعلوا بعضه للدِّ ين؛ وقالوا‪ :‬ال نَجعل هذا كله‬
‫فزع اإلنسان ِمن يشء‪ ،‬أو هاب ِمن وقوع‬ ‫للدُّ نيا)‪ .‬وقال أيض ًا ريض اهلل عنه‪( :‬إذا ِ‬
‫األشياء‪ ،‬فليتوضأ و ُيصليِّ ركعتني؛ ألن اهلل تعاىل قال‪ :‬ﮋ ﯳ ﯴ ﯵﯶ‬
‫ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﮊ [البقرة‪ . ]١٥٣ :‬اهـ ‪ .‬وفق اهلل من جيمع كالم سيدنا نفع اهلل به‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل الثامن والعرشون‬
‫هذا الدَّ ليل فيه فائدة كبرية جيب الوقوف عليها وفهمها؛ وهي اجلمع بني‬
‫الكُل َّيات العا َّمة واألدلة اخلاصة‪.‬‬
‫العامة‪ :‬هي الكُل َّيات النَّص َّية‪ ،‬والكليات االستقرائية‪.‬‬
‫والكُل َّيات َّ‬
‫والكُل َّيات النَّص َّية‪ :‬هي ا َّلتي جاءت يف نصوص القرآن‪ُّ ،‬‬
‫والسنة الصحيحة‬
‫جمملة؛ أ َّما نصوص القرآن مثل‪ :‬ﮋ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﮊ‬
‫[النساء‪ ِ ]٥٨ :‬ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮊ [املائدة‪ ]١ :‬ﮋ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ضرِ‬
‫َب‬‫السنة مثل‪« :‬ال ضرَ َ َر وال َ ار»‪ ،‬و «إِ َّن اهلل َكت َ‬
‫ﯼﮊ [ األنعام‪ ..]١٦٤ :‬ونصوص ُّ‬
‫حر ْم ُت ال ُّظ ْل َم‬ ‫اإلحسان علىَ ك ُِّل شيَ ٍء»‪ ،‬و «إنَّام األَ ُ‬
‫عامل بالن َّيات»‪ ،‬و»يا عبادي إين َّ‬ ‫َ‬
‫عىل نفيس وجعل ُت ُه بينكم محُ َّرم ًا فال َت َظاملوا‪.»...‬‬
‫عدد ِمن‬ ‫ِ‬
‫استقراء ٍ‬ ‫ِ‬
‫طريق‬ ‫َّأما الكُل َّيات االستقرائية‪ :‬فهي ا َّلتي ُي َّ‬
‫توصل إليها عن‬
‫ِ‬
‫والتحسينات‬ ‫ات واحلاجي ِ‬
‫ات‬ ‫كحفظ الرضوري ِ‬
‫ِ‬ ‫النصوص واألحكام اجلزئية؛‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫(الرضورات‬
‫ُ‬ ‫وسائر املقاصد العامة للرشيعة والقواعد الفقهية اجلامعة مثل‪:‬‬
‫ِ‬
‫ُبيح ا َملحظورات)‪ ،‬و(ا َملش َّق ُة تجَ ل ُ‬
‫ب التيسري)‪.‬‬ ‫ت ُ‬
‫وأما األدلة اخلاصة‪ :‬هي األدلة اخلاصة بمسائل مع َّينة‪..‬‬
‫كآية (كذا) الدَّ الة عىل (كذا)‪ ،‬أو احلديث (الفالين) الدَّ ال عىل ُحكم املسألة‬
‫(الفالنية)‪ ،‬أو األَقيسة اجلزئية‪.‬‬
‫فال ُبدَّ للمجتهد وهو ينظر يف هذه اجلزئيات؛ ِمن استحضار كل َّيات الرشيعة‪،‬‬
‫ومقاصدها العامة‪ ،‬وقواعدها اجلامعة‪ ..‬يف ٍ‬
‫آن واحد‪.‬‬

‫ أي‪ :‬األدلة اجلزئية‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫حلكم مبن ّي ًا عىل‪ :‬األدلة الكلية‪ ،‬واألدلة اجلزئية‪.‬‬


‫وال بد أن يكون ا ُ‬
‫(النتيجة) الرشيعة كلها مبن َّية عىل‪ :‬قصد ا ُملحا َفظة عىل املراتب الثالث ‪َّ ،‬‬
‫وأن‬
‫جزئي حتتها‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫هذه الكُل َّيات تَقيض عىل كل‬
‫ستمدَّ ة ِمن تلك األصول‬
‫فإذا كانت اجلزئيات ‪ -‬وهي أصول الرشيعة ‪ُ -‬م َ‬
‫بنص ‪ -‬مثال ‪ -‬يف مسألة ُجزئية‪ُ ،‬م ْع ِرض ًا عن أصل ك ّ‬
‫ُيل فقد‬ ‫الكُل َّية؛ فمن َأخذ ٍّ‬
‫أخطأ‪ .‬وكذلك بالعكس؛ من َأخذ بالكُليِّ ‪ُ ،‬م ْع ِرض ًا عن اجلزئي املقابل فقد‬
‫أخطأ‪ ..‬فإن لِ ُوصول ا ُملجتهد لفهم مراد الشارع من النَّص طريقني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬النظر يف األدلة؛ ومنها‪ :‬النظر يف داللته ا ّللغوية‪ ،‬مع مالحظة القواعد‬
‫الكل َّية الترشيع َّية‪ ،‬وتقديمها عىل األدلة اجلزئية إذا مل يمكن اجلمع بينهام‪.‬‬
‫ثانيهام‪ :‬النظر يف مقاصد الرشيعة‪.‬‬
‫تنبيه هام‪ :‬هذا ا َملسلك ا َّلذي ذكرناه‪ :‬هو ا َملسلك االجتهادي يف فقه الصحابة‪،‬‬
‫وفقه أئمة السلف‪ ،‬وعند اإلمامني أيب حنيفة النعامن ومالك إمام دار اهلجرة‪ ،‬كام‬
‫ذكر شمس األصول ِّيني الشاطبي ‪ ،‬وذكر أمثلة كثرية ‪ ،‬ال س َّيام أنَّه نَقل عن جوهرة‬
‫األحناف الدَّ ُب ْويس ‪ -‬وهذا فرط يف ذكاء الشاطبي ‪ :-‬مسألة جيب الوقوف عندها قال‬
‫احلافظ ابن عبد الرب يف «االنتقاء»ص‪ :149‬كثري ِمن أهل احلديث استجازوا الطعن يف‬
‫أيب حنيفة؛ لر ِّده كثري ًا ِمن أخبار اآلحاد العدول؛ ألنَّه كان َيذهب إىل عرضها عىل ما‬
‫اجتمع عليه ِمن األحاديث ومعاين القرآن‪ ،‬فام َش َّذ عن ذلك ر َّده وسامه شاذا‪ .‬اهـ‪ .‬انظر‬
‫«املوافقات» ‪.24/3‬‬
‫إن األصول ِّيني وا ُملحققني وا ُملستنبطني وهذا العمالق أبوحامد الغزايل‬
‫قلت‪َّ :‬‬
‫ُ‬
‫رصح بذكر‬ ‫أن َمسلك أيب حنيفة هو ا َملسلك احلق يف بناء األحكام‪ْ ،‬‬
‫وإن مل ْ ُي ِّ‬ ‫ُيبينِّ َّ‬

‫والتحسينية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫واحلاجية ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ الرضور َّية ‪،‬‬

‫‪53‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫اإلمام أيب حنيفة؛ َّ‬


‫ألن احلق يعلو قائام وأبلج دائام‪ ،‬قال اإلمام أبو حامد الغزايل يف‬
‫«املستصفى»‪ ( :311/1‬وإذا فسرَّ نا ا َملصلحة با ُملحافظة عىل مقصود الرشع‪ ،‬فال‬
‫وجه للخالف يف اتباعها‪ ،‬بل جيب القطع بكوهنا ُحجة)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫َجعل ا َملصلحة َع َل ًام للحكم ‪ -‬أي دلي ً‬
‫ال‬ ‫وقال يف «املنخول»ص‪( :355‬ونحن ن ُ‬
‫حلكم ‪ .)-‬اهـ‪.‬‬
‫عىل ا ُ‬
‫وقال مؤكد ًا يف نفس الكتاب ص‪( :364‬كل َمعنى ُمناسب للحكم ُم َّط ِرد يف‬
‫أصل مقطوع به مقدم عليه ِمن كتاب أو ُسنّة أو إمجاع فهو‬
‫أحكام الشرَّ ع ال َيرده ٌ‬
‫َم ُقول به‪ ،‬وإن مل يشهد له أصل معني)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫دفاع عن مسلك‬ ‫ِ‬
‫والشاطبي َينْرش َمذهب املحققني من األصول ِّيني‪ ،‬ويف نَشرْ ه ٌ‬
‫نص ُمعينَّ ‪،‬‬
‫األئمة املتبوعني فقال يف «املوافقات»‪( :40/1‬كل أصل مل َيشهد له ٌّ‬
‫لترصفات الرشع مأخوذ ًا معناه ِمن أد َّلته فهو صحيح ُيبنَى عليه‬
‫ُّ‬ ‫وكان ُمالئ ًام‬
‫ويرجع إليه؛ إذا كان ذلك األصل قد صار بمجموع أد َّلته مقطوع ًا به)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قال أبو عمر السليامين غفر اهلل له‪ :‬و َمن أراد ا َملزيد؛ فعليه بفقه إمام التجديد‬
‫سيدنا عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه يف دواوين اإلسالم؛ ألنَّه ُيظهر فقه ا َملصالح‬
‫العا َّمة‪.‬‬
‫وأخري ًا ِ‬
‫العربة باملقاصد ال بالوسائل؛ فاملجالس ا َّلتي تُقام‪ ،‬واالجتامعات ا َّلتي‬
‫ُنصب هلا اخليام‪ ،‬ويجَ تمع فيها االنسجام‪ ،‬و ُينرش فيها احلب والوئام‪ ،‬ومقصدها‬
‫ت َ‬
‫َمصلحة الدِّ ين وقراءة الكتاب ا ُملبني‪ ،‬وفهم سرية سيد األنبياء واملرسلني‪ ..‬أليس‬
‫طورها بام حيتاجه املجتمع‬ ‫ِ‬
‫من حق كل مسلم أن يأتيها‪ ،‬ويجَ تمع بالصاحلني فيها‪ ،‬و ُي ِّ‬
‫والفرد واألُرسة‪ ،‬و ُيناقش النوازل وأدلتها نسأل اهلل السالمة واالستقامة‪.‬‬

‫ وللدكتور َو ْهبة الزُ َح ْيليِ كتاب مفيد يف هذا باسم «الفقه اإلسالمي وأد َّلته»‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الدَّ ُ‬
‫ليل التَّاسع والعرشون‬
‫إِ َّن ترتُّب أحكام الدنيا واآلخرة ومصاحلهام ومفاسدمها‪ :‬عىل األسباب‬
‫واألعامل‪ .‬و َمن تَف َّقه هذه املسألة وتأ َّملها انتفع هبا غاية النَّفع‪ ،‬ومل َيتَّكل عىل‬
‫وعجزه توكال؛‬
‫ْ‬ ‫وعجز ًا وتفريطا‪ ،‬فيكون تَوكُّله عجز ًا‬ ‫ْ‬ ‫ال منه‬‫القضاء والقدر جه ً‬
‫ِ‬ ‫بل ال َف ِقيه ُّ‬
‫عارض‬ ‫كل ال َفقيه ا َّلذي َير ُّد القدَ َر بالقدر‪ ،‬و َي ُ‬
‫دفع القدَ َر بالقدر‪ ،‬و ُي ُ‬
‫فإن اجلوع والعطش‬‫القدَ َر بالقدر ‪ ،‬بل ال يمكن لإلنسان أن يعيش إال بذلك ! ‪َّ ..‬‬
‫والربد وأنواع ا َملخاوف وا َملحاذير هي ِ‬
‫(من ال َقدَ ر)‪ ،‬واخلَ ْلق ك ُّلهم ساعون يف‬
‫دفع هذا القدر (بال َقدَ ر)‪ ،‬وهكذا َمن و َّفقه اهلل و َألهْ مه ُرشده َيدفع قدر العقوبة‬
‫األُخرو َّية‪ ،‬بِ َقدر التَّوبة واإليامن واألعامل الصاحلة‪ ..‬فمخاوف الدَّ ارين َقدَ ر وت َُرد‬
‫ألن َر ّب الدَّ ارين واحد‪ ،‬وحكمته واحدة‪ ،‬ال ُيناقض بعضها بعضا‪ ،‬وال‬ ‫ب َقدَ ر؛ َّ‬
‫ُيبطل بعضها بعضا‪ .‬فهذه املسألة ِمن أرشف املسائل َلمِن َعرف قدرها‪( ،‬والدُّ عاء)‬
‫ِمن َأنفع األَدوية وهو عدو (البالء)؛ َيرفعه ‪ ،‬و َيمنع نُزوله‪ ،‬و ُيدافعه‪ ،‬و ُيعاجله‪،‬‬
‫أو يخُ ِّففه إذا نَزل وهو سالح املؤمن كام روى احلاكم يف صحيحه من حديث َعليِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫املؤمن‬ ‫سالح‬
‫ُ‬ ‫ريض اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلىَّ اهلل عليه وس َّلم‪« :‬الدُّ عا ُء‬
‫ونور السموات واألرض» وله مع البالء ثالث مقامات‪:‬‬ ‫وعام ُد الدِّ ين ُ‬
‫أن يكون أقوى ِمن البالء ف َيدفعه‪.‬‬
‫األول‪ْ :‬‬
‫صاب به العبد‪ ،‬ولكن‬ ‫َ ِ‬ ‫الثاين‪ْ :‬‬
‫أضعف من البالء ف َيقوى عليه البالء ف ُي ُ‬ ‫أن يكون‬
‫قد يخُ ِّففه ْ‬
‫وإن كان ضعيفا‪.‬‬
‫الثالث‪ْ :‬‬
‫أن َيتقاوما‪ ،‬و َيمنع كل واحد منهام صاحبه‪.‬‬
‫روى احلاكم يف صحيحه من حديث عائشة ريض اهلل عنها قالت‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل صلىَّ اهلل عليه وس َّلم‪« :‬ال ُيغني َح َذ ٌر ِمن َقدَ ر‪ ،‬والدعا ُء َينفع مما نَزل ومما مل‬
‫ليتنـز ُل فيلقاه الدعاء فيتعاجلان إىل يوم القيامة»‪.‬‬‫َّ‬ ‫َينـزل‪ ،‬وإن البالء‬

‫‪55‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫وفيه أيض ًا ِمن حديث ابن عمر عن النبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم قال‪« :‬الدعا ُء‬
‫نفع مما ن ََز َل ومما مل ينـزل‪ ،‬فعليكم عبا َد اهلل بالدعاء»‪.‬‬ ‫َي ُ‬
‫وفيه أيضا ِمن حديث ثوبان ريض اهلل عنه عن النبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم قال‪« :‬ال ير ُّد‬
‫بالذن ِ‬
‫ْب يصي ُب ُه»‪.‬‬ ‫الر ْز َق َّ‬ ‫الرجل َل ُي َ‬
‫حر ُم ِّ‬ ‫َ‬ ‫القدر إال الدعاء وال يزيد يف ال ُع ُم ِر إال البرِ ُّ ‪َّ ،‬‬
‫وإن‬ ‫َ‬
‫فإذا كان الدعاء ِمن أقوى األسباب يف َدفع ا َملكروه وحصول املطلوب‪ ،‬ففي هذه‬
‫ا َملجالس ا َّلتي هي رياض اجلنة؛ فيها الدعاء‪ ،‬و َمظِنّة اإلجابة‪ ،‬وفيها التوسل إىل اهلل‬
‫بأسامئه وصفاته وتوحيده‪ ،‬وفيها تمَ َ ُّلق الدعاء رغبة ْ‬
‫ورهبة‪ ،‬وفيها التوبة واالستغفار‪،‬‬
‫متضمنة‬
‫ِّ‬ ‫النبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم أنهّ ا َمظنَّة اإلجابة أو أنهّ ا‬
‫وفيها أدعية أخرب هبا ُّ‬
‫َعجزوا يف الدعاء فإنَّه‬ ‫اسم اهلل األعظم‪ ،‬ويف صحيح احلاكم عن أنس مرفوع ًا‪« :‬ال ت َ‬
‫ال يهَ َلك َمع الدُّ عاء َأحد»‪ .‬أي ‪ :‬ال تَضعفوا يف الدعاء وال تهُ ِّونوا ِمن شأنه‪.‬‬
‫وملسك اخلتام نُريد َأ ْن نتك َّلم عىل الفطرة ا َّلتي َفطر اهللُ النَّاس عليها؛ وكذلك لو‬
‫وح َّق النَّفس ُي ِ‬ ‫َفسك علي َك ح َّقا» َّ ِ‬
‫نظرنا إىل حديث «إِ َّن لِن ِ‬
‫لزمان عىل‬ ‫فإن الف ْطر َة َ‬ ‫ْ َ‬
‫ا ُملسلم َأ ْن ُيعطِي الفطر َة حاجتها والنَّفس ح َّقها‪ ،‬فاحلاج ّيات واحلقوق النَّفس َّية‬
‫ِ‬
‫الراحة ا َّلتي تتوفر فيها حاجة الفطرة‬ ‫تجَ د َّ‬
‫الراحة التَّا َّمة يف مواطنها‪ ،‬ومن مواطن َّ‬
‫للتوجه‬ ‫وصفات ا َملحبوب‪،‬‬ ‫هي‪ :‬مواطن يذكر فيها َأحبتَها‪ ،‬وتُنرش فيها صور ِ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫فالذكر يا أخي إِ ْن كان تطمئن القلوب به‪ ،‬وتَستقر األرواح‬ ‫ألَ ْس َمى مطلوب‪ِّ ..‬‬
‫عند التواجد به‪ ،‬وتَسمو وتَطرب؛ ألنَّه ذكر موطِن احلنني ا َّلذي حتتاجه‪ ،‬وقدس َّية‬
‫الرغبة يف ذكر ا َملحبوب عند األحبة‪ ،‬حتَّى صار أسمى ُقربة‪..‬‬
‫توحدت املصلحة للفطرة‪ ،‬وحق النَّفس‪،‬‬
‫فداللة النصوص واقتضاء الرغبات َّ‬
‫يف األَوكار ومواطن األَرسار‪ ،‬وهي مجَ الس ا ُملصطفى ا ُملختار‪ ،‬وهي مصانع‬
‫األبرار يف جممع األخيار‪َ ،‬يذكرون متو ِّلعني‪ ،‬و َيطربون متولهِّ ني‪ ،‬وجيتمعون‬
‫ُمتحا ِّبني‪ ،‬ف ُيباهي املوىل مالئكته الكرام باجتامعاهتم وبمجالسهم أهل الساموات‬

‫‪56‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫واألرضني‪ ،‬وكام قال شيخنا رمحه اهلل تعاىل‪:‬‬


‫ي�ج لأِ َ ْح َ�زانيِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َر ْو ٌح ل ُروح�ي َو َت ْف ِر ٌ‬ ‫بي�ب بِ�ه‬
‫ْ�ر الحْ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي�ا حب َ ِ‬
‫�س ذك ُ‬ ‫�ذا مجَ ْل ٌ‬ ‫َ َ َّ‬
‫َأب َق�اه ِم�ن س�ن ٍَّة ُع ْظم�ى و ُق ِ‬
‫�رآن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َم� ْن َفاتَ� ُه َأ ْن َي َ�رى ا ُمل ْخت َ‬
‫َ�ار َف ْلَي�رَ َ َما‬
‫قال كعب األحبار ريض هلل عنه‪ :‬لو أن ثواب جمالس العلامء بدا للنّاس القتتلوا‬
‫عليه حتّى يرتك كل ذي إمارة إمارته‪ ،‬وكل ذي سوق سوقه‪ .‬وقال عمر بن‬
‫الرجل ليخرج من منـزله وعليه من ّ‬
‫الذنوب مثل‬ ‫اخل ّطاب ريض هلل عنه‪ :‬إن ّ‬
‫جبال هتامة‪ ،‬فإذا سمع العامل خاف واسرتجع عن ذنوبه وانرصف إىل منـزله‬
‫وليس عليه ذنوب‪ ،‬فال تفارقوا جمالس العلامء فإن اهلل مل خيلق عىل وجه األرض‬
‫ترب ًة أكرم من جمالس العلامء‪.‬‬
‫واندُ ب مدارس�هم باألر ُب ِع الدُّ ُر ِ‬
‫س‬ ‫ـجالس�هم واحفظ مجُ َالسهم‬
‫والزم َم َ‬
‫س‬‫�م يف َحْض�رْ َ ة ال ُقـ�دُ ِ‬
‫َتكُ� ْن رفي َق ُه ُ‬ ‫واتب�ع فري َق ُه ُ‬
‫ـ�م‬ ‫ْ‬ ‫طريقه�م‬
‫ُ‬ ‫واس�لك‬
‫َف ُح َّط َر ْح َل َك قد ُعوفِ ْي َت من َت َعس‬
‫ِ (‪)1‬‬
‫�احتِها‬
‫�م بِ َس َ‬ ‫تل�ك الس�عاد ُة إن َت ْل ُم ْ‬
‫واهلل سبحانه وتعاىل أعلم وهو املوفق لسعادة الدارين وصىل اهلل عىل سيدنا‬
‫حممد وعىل آله وأصحابه أمجعني‪.‬‬

‫السامع‬
‫فائدة يف َّ‬
‫حكم السامع‪ :‬ذكر ابن عجيبة يف «البحر املديد» يف الكالم عن (لهَ ِو الحْ ِد ِ‬
‫يث)‬ ‫ْ َ‬
‫فقال‪:‬‬

‫ سيدي اإلمام العارف باهلل السيد حممد أمني ُك ْتبي احلسني رمحة اهلل تعاىل عليه وعىل مجيع‬
‫مشاخينا‪.‬‬
‫ من قصيدة أيب بكر محيد القرطبي‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫هو كل ما يشغل عن اهلل‪ ،‬ويصد عن حرضة اهلل‪ ،‬كائنا ما كان‪ ،‬سواء كان غنا ًء أو‬
‫غريه‪ .‬وإذا كان الغناء هييج لذكر اهلل ‪ ،‬وحيرك الروح إىل حرضة اهلل كان حقا‪ ،‬وإذا‬
‫كان حيرك إىل اهلوى النفساين كان باطال‪ - .‬وذكر أن الغزايل قال يف اإلحياء ‪ :-‬يف‬
‫املحرم للسامع قوله تعاىل‪ :‬ﮋ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫مجلة األد َّلة التى احتج هبا ِّ‬
‫ﭵ ﮊ [لقامن‪ ]٦ :‬وقد قال ابن مسعود والنخعي واحلسن‪ :‬إنه الغناء‪.‬‬
‫وأجاب ما حاصله‪ :‬إنه إنام حيرم إذا كان الغناء استبداالً بالدين‪ ،‬وليس كل‬
‫غناء بدالً عن الدين‪ ،‬مشرتى به‪ ،‬مض ً‬
‫ال عن سبيل اهلل‪.‬‬
‫كام حكي عن بعض املنافقني‪ ،‬أنه كان يؤم الناس وال يقرأ إال بسورة عبس‪ ،‬ملا‬
‫عمر بقتله‪ .‬فاإلضالل‬
‫هم ُ‬‫فيها من العتاب مع رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪َ ،‬ف َّ‬
‫ِّ‬
‫بالشعر والغناء أوىل بالتحريم (وأما إن مل يكن يشء من ذلك فال حيرم)‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫أهل مكة والسامع‬


‫قال أبو طالب املكي يف «قوت القلوب» يف كتاب املحبة‪ :‬ومل يزل احلجازيون‬
‫عندنا ‪ -‬بمكة ‪ -‬يسمعون السامع يف أفضل أيام السنة‪ ،‬وهي األيام املعدودات‬
‫التي أمر اهلل عز وجل عباده فيها بذكره أيا َم الترشيق‪ ،‬من وقت عطاء بن أيب رباح‬
‫إىل يومنا هذا‪ ،‬ما أنكره عالمِ ‪.‬‬

‫ للسيوطي طقطوقة رقيقة ممشوقة يف «قمع املعارض بنُرصة ابن الفارض» حيث قال‪ :‬إِ ْن‬
‫الذهبي‪ ،‬فقد َدنْدَ َن عىل اإلمام فخر الدين بن اخلطيب ذي اخلطوب‪ ،‬وعىل‬ ‫دندنة َّ‬
‫ُ‬ ‫غرك‬ ‫َّ‬
‫أكبرَ من اإلمام وهو أبو طالب املكي صاحب «قوت القلوب»‪ ،‬وعىل أكرب من أيب طالب‬
‫وكتُبه مشحونة‬ ‫وهو الشيخ أبو احلسن األشعري الذي ذكره جيول يف اآلفاق وجيوب‪ُ ،‬‬
‫ال واهلل‪،‬‬‫ابل أنت كال َم ُه يف هؤالء؟ ك َّ‬ ‫بذلك «امليزان» و«التاريخ» ِ‬
‫و«سيرَ النبالء»‪ .‬أف َق ٌ‬
‫وص ُلهم ح َّقهم و ُن َو ِّفيهم‪ .‬انتهى نقال من «الرفع والتكميل»‬
‫كالمه فيهم‪ ،‬بل ُن ِ‬
‫ال ُي ْق َب ُل ُ‬
‫ص‪ 320-329‬ملوالنا اإلمام احلافظ أبو احلسنات اللكنوي رمحه اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫وقد كان لعطاء جاريتان يلحنان‪ ،‬فكان إخوانه ‪ -‬أي ‪ :‬طلبته ‪ -‬يستمعون‬
‫إليهام‪ ،‬ومل يزل أهل املدينة يستمعون إليهام‪ ،‬ومل يزل أهل املدينة مواطئني – أي‪:‬‬
‫موافقني – ألهل مكة عىل السامع إىل زماننا هذا‪ .‬وأدركنا أبا مروان القايض‬
‫للطوافني؛ فكان جيمعهن هلم ويأمره َّن‬
‫َّ‬ ‫له جوار يسمعن التلحني‪ ،‬قد أعدَّ هن‬
‫باإلنشاد‪ ،‬وكان فاضالً‪.‬‬
‫وسئل شيخنا أبو احلسن بن سامل فقيل له‪ :‬إنه َأنكر السامع‪ ،‬وقد كان اجلنيد‬
‫ورسي السقطي وذا النون يسمعون؟ فقال‪ :‬كيف ُأنكر السامع وقد أجازه‬
‫خري مني‪.‬‬
‫وسمعه من هو ٌ‬
‫وقال ليون التجيـبي يف «اإلنالة»‪ :‬روي عن أيب مصعب قال‪ :‬حرضت جملس‬
‫مالك‪ ،‬فسأله أبو مصعب عن السامع‪ ،‬فقال‪ :‬ما أدري إالَّ أهل العلم ببلدنا ال‬
‫غبي جاهل‪ ،‬أو ناسك غليظ‬
‫ُينكرون ذلك‪ ،‬وال يقعدون عنه‪ ،‬وال ينكره إال ٌّ‬
‫الطبع‪.‬‬
‫وسئل عن‬ ‫وذكر أيض ًا‪ :‬أن احلسن البرصي خت َّل َ‬
‫ف ذات يوم عن أصحابه‪ُ ،‬‬
‫ختلفه‪ ،‬فقال‪ :‬كان يف جرياننا سامع‪ .‬وقال الشبيل‪ :‬السامع ظاهره فتنة‪ ،‬وباطنة‬
‫عربة‪ ،‬فمن عرف اإلشارة َّ‬
‫حل له سامع العربة‪ ،‬وإال فقد استدعى الفتنة‪ .‬واهلل‬
‫أعلم‪.‬‬

‫فصل‬
‫وهذا الواعظ الزاهد الصالح الشيخ عزالدين عبدالسالم بن غانم املتوىف سنة‬
‫‪678‬هـ له قول يف السامع بإقناع وإمتاع‪ ،‬كالم يدغدغ الشعور ويحُ اكي بدر‬
‫التامم‪ ،‬يف السامع وحكمته وحكمه يكون مسك اخلتام قال رمحه اهلل يف كتاب‬
‫«حل الرموز ومفتاح الكنوز» ص‪:105-95‬‬

‫‪59‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫واعلم أنه حتتم هاهنا ذكر السامع‪ ،‬وما هو منه حمظور وما هو مباح‪ ،‬فإن كثري ًا‬
‫واملتقشفني ك َِر ُهوه‪ ،‬وأنكروه أص ً‬
‫ال وفرع ًا‪ ،‬حقيق ًة ورشع ًا‪ ،‬وهذا‬ ‫ِّ‬ ‫املتعمقني‬
‫ِّ‬ ‫من‬
‫ِ‬
‫ختطئة كثري من أولياء اهلل‪ ،‬وتفسيق كثري من‬ ‫َغ َل ٌط منهم؛ ألن ذلك يفيض إىل‬
‫العلامء؛ إذ ال خالف أهنم سمعوا الغناء وتواجدوا‪ ،‬وأفىض إىل الصرَّ َ ع والغشية‬
‫والضعف‪ ،‬فكيف ينسب إليهم نقص وهم سالكون أتم األحوال؟!‬
‫وإنام حيتاج ذلك إىل تفصيل ونظر يف أهل السامع واختالف طبقاهتم‪ ،‬فمن َص َّح‬
‫وح َّل ْت‬ ‫ِ‬
‫نسامت العزيمة فضاء‬
‫ُ‬ ‫وص َق َلت الرياض ُة مرآ َة قلبه‪َ ،‬‬
‫فهمه وحسن قصده‪َ ،‬‬
‫أكدار أرض طبعه وبخار برشيته‪ ،‬وخياالت مقابلة‬ ‫ِ‬ ‫رسه‪ ،‬وصفا من تصاعد‬
‫وتطهر عن دنس الشبهات‪ ،‬فال‬
‫َّ‬ ‫وسواسه‪ ،‬و َع ِر َي عن حظوظ الشهوات‪،‬‬
‫نقول أن سام َع ُه حرا ٌم وفع ُل ُه خطأ‪.‬‬
‫فمن َظ َّن أن السامع يرجع إىل دف املعنى وطيب النغمة‪ ،‬فهو بعيد من‬
‫السامع‪ ،‬وإنام السامع حقيقة ربانية ولطيفة روحانية ترسي من السميع‬
‫املستم ِع إىل األرسار بلطائف التحف واألنوار‪ ،‬فتمحق من القلب ما مل‬
‫بح ٍّق ِمن َح ٍّق ‪ ...‬واعلم أنه قد‬
‫سامع َح ٍّق َ‬
‫ُ‬ ‫يكن‪ ،‬وتبقي فيه ما مل يزل‪ ،‬فهو‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسم َع ‪ ،‬وما َقن َع بالسامع حتى كشف القناع وتواجد‪َّ ،‬‬
‫وحترك‬ ‫السامع َ‬
‫َ‬ ‫حرض‬
‫كثري من األكابر واملشايخ والتابعني ‪ -‬رمحهم اهلل ‪ -‬وسمع من الصحابة‬
‫عبد اهلل بن جعفر‪ ،‬وعبد اهلل بن عمر‪ ،‬وكان عمر يرى إباحة السامع‪ .‬وسمع‬
‫من الصحابة ابن الزبري‪ ،‬واملغرية بن شعبة‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫وممن قال بإباحته من السلف‪ :‬مالك بن أنس‪ ،‬وأهل احلجاز أمجعون ُيبيحون‬
‫الغناء‪ ،‬وأما احلداء فأمجع الكل عىل إباحته‪ ،‬وكان ابن جريج يرخص يف السامع‬
‫فقيل له‪ :‬إذا ُأيت بك يوم القيامة ويأيت بحسناتك وسيئاتك‪ ،‬ففي أي اجلهتني‬
‫سامعك؟ فقال‪ :‬ال يف احلسنات وال السيئات ‪ ،‬يعني يف املباحات‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫حير ُم ُه وجيعله يف العوا ِّم مكروه ًا ‪ ،‬حتى‬


‫وأما الشافعي ‪ -‬رمحه اهلل – فإنه ال ِّ‬
‫فت ُّد به شهادته‪ ،‬وجيعله مما يسقط املروءة‪ ،‬وال‬
‫لو جعل الغناء له حرفة وصناعة رُ َ‬
‫يلحقه باملحرمات‪ .‬وكان ابن جماهد ال جييب دعوة إال إن كان فيها سامع‪.‬‬
‫وقال أبو يونس بن عبد األعىل‪ :‬سألت الشافعي ‪ -‬رمحه اهلل – عن إباحة أهل‬
‫املدينة السامع‪ ،‬فقال‪ :‬ال أعلم أحد ًا من علامء احلجاز ك َِر َه السامع إال ما كان‬
‫يف أوصافه‪ ،‬وأما احلداء وذكر األطالل واملرابع‪ ،‬وحتسني الصوت‪ ،‬وتلحني‬
‫األشعار‪ ،‬فال أراه إالَّ مباحا‪.‬‬
‫وكان أبو مروان القايض عنده جوار ُيسمع َن التلحني قد أعدهن للصوفية‪.‬‬
‫وكان أبو احلسن العسقالين يسمع ويتو َّله يف السامع‪ ،‬وصنف فيه كتاب ًا رد عىل‬
‫منكريه وكذلك مجاعة صنفوا كتب ًا يف الرد عىل منكريه‪....‬‬
‫وحكي عن ممشاد الدينوري قال‪ :‬رأيت النبي صىل اهلل عليه وسلم يف النوم‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول اهلل هل تنكر من هذا السامع شيئ ًا؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬ولكن قل هلم‬
‫يفتتحون قبله بالقرآن وخيتتمون بعده بالقرآن‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل إهنم‬
‫يؤذونني وينشطون‪ ،‬فقال‪ :‬احتملهم يا أبا عيل هم أصحابك‪ ،‬فكان ممشاد‬
‫يفتخر هبا‪ ،‬ويقول‪ :‬كنَّاين رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وقد روى القشريي يف رسالته عن جابر بن عبد اهلل األنصاري عن عائشة ‪-‬‬
‫ريض اهلل عنها ‪ -‬أهنا أنكحت ذات قرابتها من األنصار‪ ،‬فجاء النبي صىل اهلل‬
‫ِ‬
‫فأرسلت من يغنِّي؟ قالت‪:‬‬ ‫عليه وسلم فقال أهديتم الفتاة‪ ،‬فقالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ال‪ ،‬فقال عليه السالم‪:‬‬
‫ِ‬
‫األنصار فيهم َغ َز ٌل ‪ ،‬ولو ْأر َس ْلت ِهم من يقول‪ :‬أتيناك ُْم فح َّيانَا َ‬
‫وح َّياكُم»‪..‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫«إن‬

‫ وال نعهد جمالسنا إال هبذا الرتتيب‪.‬‬


‫ذات قرابة‬ ‫ُ‬
‫عائشة َ‬ ‫أنكح ْت‬
‫ رواه ابن ماجه يف سننه رقم (‪ )1900‬عن ابن عباس ولفظه‪َ :‬‬

‫‪61‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫‪ -‬إىل أن قال ‪ -‬وأما الصوت الطيب بالشعر املوزون املفهوم‪ ،‬فقد صحت‬
‫األخبار وتواترت اآلثار باألصوات الطيبة بني يدي رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫ان منرب ًا باملسجد يقوم عليه ينافح عن رسول اهلل عليه‬
‫حلس َ‬
‫وسلم‪ ،‬وكان يضع َّ‬
‫نافح عن رسول اهلل» صىل اهلل‬ ‫وح ال ُقدُ ِ‬
‫س ما َ‬ ‫حسان ًا ُبر ِ‬
‫وسلم يقول‪« :‬إن اهلل يؤيدُ َّ‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫وقالت عائشة كان أصحاب رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم يتناشدون‬
‫يتبس ُم ‪ ،‬وملا أنشده النابغة شعره‪ ،‬قال‪ :‬ال َي ْف ُض ِ‬
‫ض اهللُ فاك‪ ،‬وأنشد‬ ‫األشعار‪ ،‬وهو َّ‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم مائة قافية من قول أمية بن أيب الصلت يقول يف كل‬
‫«ه ْيه ِه ْيه» ثم قال‪« :‬إنه كا َد يف شعره َل ُي ْس ِل ُم»‪.‬‬
‫ذلك‪ِ :‬‬

‫وعن أنس بن مالك – ريض اهلل عنه – أن النبي صىل اهلل عليه وسلم كان يحُ دى‬
‫له يف السفر‪ ،‬وأن أن َْج َش َة كان حيدو بالنساء‪ ،‬والرباء بن مالك حيدو بالرجال‪،‬‬
‫فقال عليه السالم‪« :‬يا أنجش َة رويدَ ك َس ْوق ًا بالقوارير»‪.‬‬
‫وال جيوز أن يكون الصوت الطيب بالشعر املوزون واملعنى املفهوم حرام ًا؛ إذ‬
‫األصوات الطيبة غري منكرة وال حمدثة‪ ،‬وقد ثبت ذلك بالنص والقياس‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال أيض ًا رمحه اهلل تعاىل يف موضع آخر ص‪ 110-109‬ما نصه‪:‬‬
‫فنقول‪ :‬إن السامع ينقسم إىل ثالثة أقسام‪:‬‬
‫منها‪ :‬ما هو حرام حمض وهو ألكثر الناس من الشباب و َمن غلبت عليهم‬
‫شهواهتم ولذاهتم و َم َلكهم حب الدنيا وتكدَّ رت بواطنهم وفسدت مقاصدهم‬
‫السامع منهم إال ما هو الغالب عليهم وعىل قلوهبم من الصفات‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حيرك‬ ‫فال‬

‫هلا من األنصار‪ ،‬فجاء رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم فقال «أهديتم الفتاة ؟» قالوا ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪« :‬أرسلتم معها من يغني ؟» قالت‪ :‬ال ‪ .‬فقال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬إن‬
‫وحياكم»‪.‬‬
‫فحيانا َّ‬
‫األنصار قوم فيهم غزل؛ فلو بعثتم معها من يقول‪ :‬أتيناكم ‪ ،‬أتيناكم ‪َّ ،‬‬

‫‪62‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الذميمة‪ ،‬س َّيام يف زماننا هذا وتكدُّ ر أحوالنا وفساد أعاملنا‪.‬‬


‫تسمع أفال تسمع؟‬
‫ُ‬ ‫وقد روى اجلنيد أنه ترك السامع يف آخر أمره فقيل له‪ :‬كنت‬
‫فقال‪َ :‬م َع َمن؟ فقيل له‪ :‬تسمع أنت لنفسك ‪ ،‬فقال‪ :‬ممن؟ ‪.‬‬
‫فالسامع ال حيسن إال بأهله ومع أهله ِ‬
‫ومن أهله فإذا انعدم أهله واندرس حم ّله‬
‫فيجب عىل العارف تركه‪.‬‬
‫احلسن‬ ‫حظ له منه إال ُّ‬
‫التلذذ بالصوت َ‬ ‫والقسم الثاين منه‪ :‬مباح وهو ملن ال َّ‬
‫واستدعاء الرسور والفرح أو يتذكر غائب ًا أو ميت ًا فيثري حزنه فريوح بام يسمعه‪.‬‬
‫‬

‫والقسم الثالث منه‪ :‬مندوب وهو ملن غلب عليه حب اهلل تعاىل والشوق إليه‬
‫فال حيرك السامع منه إال الصفات املحمودة ويضاعف الشوق إىل اهلل سبحانه‬
‫واستدعاء األحوال الرشيفة واملقامات العلية والكرامات السنية واملواهب‬
‫اإلهلية‪.‬‬
‫وجممل القول يف ذلك أن من سمع فظهرت عليه صفات نفسه وتذكر به‬
‫حمض‪.‬‬
‫حظوظ دنياه فاستثار بسامعه وسواس هواه فالسامع عليه حرا ٌم ٌ‬
‫ومن سمع فظهر له ذكر ربه وخوفه من ذنبه وذكر آخرته فأتيح له ذلك الذكر‬
‫شوق ًا إىل اهلل تعاىل وحبا فيه ورجا ًء لوعده وخوف ًا من وعيده فسامعه ذكر من‬
‫األذكار مكتوب يف صحائف األبرار‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫حديث الروح‬
‫هذا الفصل خصصته من كالم أهل الوصل فجعلت غرته شيخنا العارف‬
‫باهلل الكامل املتذوق رشاب أهل اهلل نزيل احلرضة فريد النظرة عامل احلرم قنديل‬

‫ وهذا ما نراه كثري ًا يف جمالسنا من العوام‪ ،‬والذي مل يتقلب يف مقامات الشوق ومل يرتق يف‬
‫احلب فال بأس كام ذكر الشيخ‪.‬‬ ‫درجات ُ‬

‫‪63‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫‬
‫صحن الكعبة ورائد ديوان شعراء املحبة سيدي حممد أمني كتبي ريض اهلل عنه‬
‫واخرتت له هذه البديعية التي تقول‪:‬‬
‫ي�ا س�ي ِدي َل�والَ َك لمَ َأ ُك َع ِ‬ ‫�و َب َخ َوافِ َق�ا‬ ‫الَ وا َّل ِ‬
‫اش� َقا‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ِّ ْ ْ‬ ‫�ق ا ْل ُق ُل ْ‬
‫�ذي َخ َل َ‬ ‫َ‬
‫�و ُء َك المَْ َح َّ�ل ا ْلال َِّئق�ا‬ ‫ُأ َب ِّ‬ ‫إِنيِّ‬ ‫�ك َم ْض َجع ًا فيِ ُم ْه َجتِي‬ ‫ب لجِ َنْبِ َ‬ ‫َفا ْط ُل ْ‬
‫�ل ا ُمل ِح�ب الص ِ‬ ‫�ل َو ِص ِ‬ ‫�ه ب ِ‬ ‫ٍ‬
‫اد َق�ا‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُمت ََه ِّل ٍ‬ ‫اس� ٍم‬ ‫واس� َت ْقبِ ِل الدُّ ْن َي�ا بِ َو ْج َ‬
‫ْ‬
‫اهج� ًا َو َحدَ ِائ َق�ا‬ ‫َ�ذر الوج�ود مب ِ‬
‫ت َ ُ ُ ُ َ ََ‬ ‫�م َت َفإِنهَّ�ا إِشرْ َ ا َق� ٌة‬‫َف�إِ َذا ا ْبت ََس ْ‬
‫�م ِعي لمََ ْع� َن َب َو ِار َق�ا‬
‫نُث َ�ر ْت َعلى َس ْ‬
‫ِ‬ ‫�ت فإنهَّ َ�ا ُد َر ٌر إذا‬ ‫َوإِ َذا َن َط ْق َ‬
‫الس�ابِ َقا‬ ‫�ن فيِ الدُّ ْن َي�ا َف ُكن َ‬
‫ْ�ت َّ‬ ‫بِالحْ ُ ْس ِ‬ ‫َح ٍ‬
‫�ل‬ ‫اك َق�دْ َس�ا َب ْق َت ك َُّل ُمك َّ‬ ‫َو َأ َر َ‬
‫�ع فيِ المَْ َطالِ� ِع َش ِ‬
‫�ار َقا‬ ‫َي�ا َم� ْن ت ََر َّب َ‬
‫�ذر فيِ ح ِّق�ي بِحب َ ِ‬
‫�ك َقائ ٌ‬
‫�م‬ ‫ُ ِّ‬ ‫َ‬ ‫َوا ْل ُع ْ ُ‬
‫�ك َواثِ َق�ا‬‫�ت بيِ َو َر َأ ْيتَنِ�ي بِ َ‬ ‫َو َوثِ ْق َ‬ ‫َأك َْر ْمتَنِ�ي َو َو َص ْلتَنِ�ي َو َر َع ْيتَنِ�ي‬
‫�و ِق َق ْلب� ًا َخافِ َق�ا‬ ‫الش ْ‬‫َف َملأَ ْتمُ َ�ا بِ َّ‬ ‫ْت بِ ُم ْه َجتِي‬‫َس َك َن الهْ َوى َو َسكن َْت َأن َ‬
‫�ص َف ِ‬ ‫�اكنَ ِ بمهج ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َكي َ ِ‬
‫ار َق�ا‬ ‫الَ َت ْق َب ُ�ل ا ْل َكْس�رْ َ المُْ َخ ِّل َ‬ ‫�ة‬ ‫الس ينْ ُ ْ َ‬ ‫�ف ا ْلت َق�ا ُء َّ‬ ‫ْ‬
‫َان الجْ ََم�اَ ُل َل� ُه لِ َس�ان ًا نَاطِ َق�ا‬ ‫ك َ‬ ‫َواهللِ َم�ا ُخِّي�رِّ ْ ُت إِالَّ ْ‬
‫اخَت�رَ ْ ُت َم� ْن‬
‫ت ُْو ِح�ي إليَ َّ َق َوافِي� ًا َو َح َق ِائ َق�ا‬ ‫�ن ا َّلتِ�ي‬ ‫لأِ َكُ�و َن َقي�م رو َض ِ‬
‫�ة الحْ ُ ْس ِ‬ ‫ْ ِّ َ َ ْ‬
‫�اء طِ ْيب� ًا َعابِ َق�ا‬ ‫اره�ا ا ْل َفيح ِ‬ ‫�م ِم� ْن‬ ‫ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َأ ْز َه ِ َ‬ ‫َو َأ ُح ْو َط َه�ا َوتحَ ُ ْو َطن�ي َو َأ ُش َّ‬
‫َان َص�دْ ِري َض ِائ َقا‬ ‫س�ان َلك َ‬ ‫ُ‬ ‫َلوالَ الحِْ‬
‫ْ‬
‫ل�ه ورو ِح ِ‬
‫�ه‬ ‫ُ�ور ِ ِ‬
‫اإل َ ُ ْ‬ ‫َوالحْ ُ ْس� ُن ِم� ْن ن ِ‬

‫�ر ِه اهللُ َأ ْكَب�رَ ُ َج َّ�ل َربيِّ َخالِ َق�ا‬‫َو َأ ْم ِ‬ ‫اإل ِ‬


‫ل�ه‬ ‫ِ‬ ‫�ق‬ ‫َوالحْ ُ ْس� ُن ِم� ْن َخ ْل ِ‬

‫حج ٍة‬
‫ والذي قال عنه القطب الر َّباين العالمِ الس ِّيد حممد جعفر الكتاين يف إجازته له يف آخر َّ‬
‫له يف عام ‪1351‬هـ عندما استجازه فقال عنه يف بداية إجازته له‪« :‬حمل ولدنا العزيز‬
‫علينا املأمول له من اهلل الغني املفضال أن جيعله عينا من عيون اهلل َيستقي منه أهل املرشق‬
‫واملغرب‪.»...‬‬

‫‪64‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫اك ُم َرافِ َق�ا‬‫�ذا َو َذ َ‬ ‫�ت لِ َ‬‫َر َغ�د ًا َو ِع ْش ُ‬ ‫�اش َم ْن يحَ ْ َي�ى بِ ِه‬
‫�اش الجْ ََم�اَ ُل َو َع َ‬‫َع َ‬
‫�اف ُم َعانِ َق�ا‬‫�د ا ْلع َف ِ‬
‫َ‬
‫�ت ليِ بِي ِ‬
‫�ذ بِ َّ ْ َ‬ ‫ُم ْ‬ ‫�ه‬‫َ�اق وطِيبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫�ف بِا ْلعن ِ َ‬ ‫�ت َأ ْهتِ ُ‬‫َم�ا ِز ْل ُ‬
‫َاش� َقا‬ ‫ف حس�نِ َك ن ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وح ِه‬‫�ق الجْ ُل لِر ِ‬ ‫ِ‬
‫َر ْوح ًا َف َص َار ل َع ْر ُ ْ‬ ‫ْ�ب َم� ْن ُخل َ ََم�اَ ُ‬ ‫َم�ا َذن ُ‬
‫َان َع ْق�د ًا َواثِ َق�ا‬ ‫َم ْع� ُه ا ْل َوف�ا ُء َف�ك َ‬ ‫�ع الجْ ََم�اَ ِل َو َض َّمنِ�ي‬‫�ت َم َ‬‫َو َأنَ�ا ُخ ِل ْق ُ‬
‫�و َد َح َق ِائق� ًا َو َر َقائ َق�ا‬ ‫َمَل�أَ َ ا ْل ُو ُج ْ‬ ‫�ك إِنَّ� ُه‬ ‫لمَ ْ ُي ْ�ر ِونيِ إِالَّ جمَ َا ُل َ‬
‫�ه األَ َّي�ا ُم َر ْوض� ًا َف ِائ َق�ا‬‫و َغ�دَ ْت بِ ِ‬
‫َ‬ ‫الرب�ى‬ ‫�ت ِمنْ� ُه المَْن ِ‬
‫َ�از ُل َو ُّ‬ ‫ال َص َّو َح ْ‬
‫�ك َأ ِج�دْ ُهن َ‬
‫َ�اك َف َو ِار َق�ا‬ ‫َم ْهَم�اَ َأ ِص ْف َ‬ ‫�ف ُح ْس�نِ َك إِنَّ� ُه‬ ‫ح تَنِ�ي فيِ وص ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ يرَّ ْ‬
‫الش ِ‬
‫�ائ َقا‬ ‫�ك َأ َرى الجْ ََم�اَ َل َّ‬ ‫فيِ ُم ْق َل َت ْي َ‬ ‫فيِ ا ْل َو ْج ِه َأ ْم فيِ َّ‬
‫الش� ْع ِر َأ ْم فيِ ال َّث ْغ ِر َأ ْم‬
‫�ح َر ِائ َق�ا‬ ‫فيِ ك ُِّل ُج ْ�ز ٍء ِمن َ‬
‫ْ�ك َأ ْص َب َ‬ ‫ن ُِّس� ْق َت َتن ِْس� ْيق ًا َد ِقيق� ًا َفاتِن� ًا‬
‫الش ِ‬
‫�اه َقا‬ ‫َواك َّ‬‫�ض ُم ْس�ت َ‬ ‫َق�والً ين ِ‬
‫َاه ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫�ار ِة لمَ ْ َأ ِجدْ‬ ‫ِ‬
‫�ك بِالع َب َ‬ ‫�ت َو ْص َف َ‬ ‫َل ْو ُر ْم ُ‬
‫�ار ُب فِ ْي َك َأ ْم�ر ًا َخ ِ‬
‫ار َقا‬ ‫ِعن ِ‬
‫ْ�دي الت ََّج ِ‬ ‫�ك َو َأ ْث َبت َْت‬ ‫يم َعَل�ىَ َيدَ ْي َ‬ ‫ِ‬
‫الس�ق ُ‬ ‫�ح َّ‬ ‫َص َّ‬
‫�و َذ ِائ َق�ا‬ ‫وب َش َ ِ‬
‫اش�ة الدُّ ْن َي�ا َفَم�اَ ُه َ‬ ‫ََ‬ ‫�و المُْنَى‬ ‫َم� ْن لمَ َي ُذ ْق َم�ا ُذ ْق ُت ِم ْن ُح ْل ِ‬
‫ْ‬
‫�ة َغ ِ‬
‫ار َق�ا‬ ‫�ك المَْ ِليح ِ‬ ‫فيِ م ِ‬
‫�اء َو ْجنَتِ َ‬ ‫َو ُيِس�رِ ُّ َع ْينِ�ي َأ ْن تَ�رى إِن َْس�انهَ َا‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اك َع ْرف� ًا َفاتِ َق�ا‬
‫ْ�ر َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َف َأ َث ْ�ر ُت م� ْن ذك َ‬
‫و َل َق�دْ َذكَ�ر ُت الحْ س�ن فيِ ِجعر ٍ‬
‫ان�ة‬ ‫َْ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ار َق�ا‬‫ْ�ر ُم َط ِ‬
‫َأ َحَل�ىَ ا ْل ُق�رى َم�ا ًء َوأك َ‬ ‫�ت َق ْو ِم�ي َي ْع َل ُم َ‬
‫�ون بِ َأنهَّ َ�ا‬ ‫َي�ا َل ْي َ‬
‫اب َف َيالِ َق�ا‬ ‫ُم َت َبِّص�رِّ ٍ َمَل�أَ َ ِّ‬
‫الش� َع َ‬ ‫َ�ت ُم َع ْس�ك ََر َفاتِ ٍ‬
‫�ح‬ ‫َوبِ َأنهَّ َ�ا كَان ْ‬
‫�م َش�ا ًء بهِ َ�ا َو َأ َيانِ َق�ا‬ ‫َأ ْع َط ُ‬
‫اه ُ‬ ‫�م ف َيه�ا َفك ْ‬
‫َ�م‬ ‫َقس�م ا ْل َغن َِائ�م بينَه ِ‬
‫َ َْ ُ ْ‬ ‫َ َ‬
‫ارب� ًا َو َم َش ِ‬
‫�ار َقا‬ ‫لا َد َم َض ِ‬
‫َفت َُح�وا ا ْلبِ َ‬ ‫اضوا ا ْل َو َغى َو ُه ُم األُىل‬
‫َف ُه ُم األُىل َخ ُ‬
‫�ب كَافِ�ر ًا َو ُمنَافِ َق�ا‬ ‫ِ‬
‫الس� ْيف َأ ْر َه َ‬‫بِ َّ‬ ‫آن نُ�ور ًا َس�اطِع ًا‬ ‫بِا ْلع�دْ ِل با ْل ُق�ر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫�ه َوالال َِّح َق�ا‬ ‫لِيع�م س�ابِ َقنَا بِ ِ‬
‫َ ُ َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ي�ا َلي َ ِ‬
‫�ت ش� ْع ِري َه ْ�ل َلنَ�ا ق ْس ٌ‬
‫�م بهِ َا‬ ‫َ ْ‬

‫‪65‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫الس� َعا َد ِة َس�ابِ َقا‬


‫�و َز َح ّظ� ًا فيِ َّ‬ ‫َون َُح ْ‬ ‫الر َضا‬ ‫ُ�ون ِمن َأه ِ ِ ِ‬
‫�ل ال َفض ْي َل�ة َو ِّ‬ ‫لنَك َ ْ ْ‬
‫ِ‬

‫ما الَئ َق�ا‬ ‫َان َخ ْت ً‬ ‫ُر ُس ُ�ل الجْ ََم�اَ ِل َف�ك َ‬ ‫�ت بِ ِه‬
‫�ذي ُختِ َم ْ‬ ‫لا ُة َعَل�ىَ ا َّل ِ‬
‫الص َ‬ ‫ُث َّ‬
‫�م َّ‬
‫�يم َش� َق ِائ َقا‬ ‫ِ‬
‫�ب َم�ا َه َّ�ز النَّس ُ‬ ‫َوال ُق ْط ِ‬ ‫َوالآْ ِل َواألَ ْص َح ِ‬
‫�اب َأ ْقَم�اَ ِر الهْ ُ�دَ ى‬
‫قال موالنا العارف باهلل املجيد ابن عجيبة يف «البحر املديد»‪ :‬إذا سكنت‬
‫األرواح يف ُع ِّش احلرضة‪ ،‬ومتكنت من ّ‬
‫الشهود والنّظرة‪ ،‬أمرها احلق بالنّزول إىل‬
‫سامء احلقوق أو أرض احلظوظ‪ ،‬فتنـزل باإلذن والتمكني‪ ،‬والرسوخ يف اليقني‪،‬‬
‫ال لطلب اجلزاء أو لقضاء شهوة‪ ،‬فمن نزل منها عىل هذا احلسن فال خوف‬
‫عليهم وال هم حيزنون ‪.‬‬

‫‬
‫بيان أهل الترشيع‬
‫إن النصوص التي تتعلق أحكامها (بالتنظيم اإلسالمي) حلركة (الواقع‬
‫اإلسالمي) يف فروع املتغريات الدنيوية ‪ -‬ستظل دائام وأبد ًا (تدور مع علتها‬
‫وحكمتها) ‪ -‬وهي «مصلحة العباد» وجودا وعدما ‪.‬‬
‫تلك هي رسالتها العلمية‪ ،‬وهذه هي معاين وحدود االجتهاد فيها‪ ،‬ومعها‬
‫(أصوله وفروعه) ستعرفها يف كتابنا اآليت والذي حتت الطبع ‪-‬إمتام النعمة يف‬
‫تواتر اختالف أمتي رمحة ‪.-‬‬
‫أختم الرسالة بكالم اإلمام يف الترشيع السنهوري من كتاب العالمة شيخنا‬
‫املتذوق املفيد املحقق بارك اهلل فيه الدكتور حممد عامرة‪( :‬ال شك أن النبي صىل‬
‫اهلل عليه وسلم مل يأت بأحكام تتناقض مع العقل يف زمنه أو تَو َّقع صىل اهلل عليه‬
‫تطور العقل فأوجد يف‬
‫وسلم إمكان تناقضها يف املستقبل‪ ،‬بل إنه نظر إىل إمكان ُّ‬

‫ انظر حاشية ص‪ 89‬يف التعريف بأهل الترشيع‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫األحكام التي أتى هبا مرونة‪ ،‬وجعلها صاحلة لكل زمن تطبق فيه‪ ،‬وإن إسالمنا‬
‫رشيعة مرنة‪ ،‬صاحلة ألن تلبس لباس الزمن الذي تعيش فيه‪ ،‬وهذا يؤكد أنه دين‬
‫الفطرة‪ ،‬جيمع ثبات ًا يف األصول وتطور ًا يف العقول‪ ،‬وخلود ًا يف العطاء‪ ،‬وجتديد ًا‬
‫يف الفكر‪ ،‬فأصول الرشيعة ال تتغري باعتبارها أصوال‪ ،‬ولكن تطبيقاهتا ختتلف‬
‫ألمرين؛ أوالً‪ :‬باختالف الزمن‪ .‬ثاني ًا‪ :‬باختالف األمم)‪.‬‬
‫قال الدكتور عامرة شارح ًا‪ :‬إن التفاصيل الرشعية التي ارتضاها زمن (كذا)‬
‫وإقليم (كذا) ليس رشط ًا أن يرتضيها كل زمن وكل إقليم‪.‬‬
‫أقول أنا الفتى املكي أبو عمر السليامين‪ :‬ومن اجلهل أن نفرضها عىل غرينا‪،‬‬
‫ومن مل يوافق عليها نتهمه يف دينه ونَكرهه ونرميه باإلحلاد واالبتداع‪ ،‬وأخري ًا‬
‫ال يمكن أن يكون الدين مصدر ًا للكراهية بل هو مصدر للتسامح‪ ،‬فاإلسالم‬
‫رب حتى بالكافر الذي ال يعادينا قال تعاىل‪ :‬ﮋ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫حيثنا عىل ال ِّ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮊ‬
‫[املمتحنة‪.]٨ :‬‬

‫‪67‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫اخلامتة‬
‫االمتياز العظيم‬

‫الذي متثله الوسطية وهي نرباس املنهج اإلسالمي والتي ظهرت ثمرهتا باملامرسة‬
‫التمزق ألهنا احتضنت‬
‫والتطبيق وأصبحت للحضارة اإلسالمية طوق نجاة من ُّ‬
‫املتقابالت املتناقضة‪ ،‬فوجدنا فيها ح ًّ‬
‫ال بني الروح واجلسد ‪ ،‬والدنيا واآلخرة ‪ ،‬والفرد‬
‫واملجموع ‪ ،‬والذات واملوضوع ‪ ،‬كذا بني املقاصد والوسائل ‪ ،‬والثابت واملتغري ‪،‬‬
‫والقديم واجلديد‪ ،‬وما أمجل العقل حينام خيدم النقل‪ ،‬والقوة حينام حتمي احلق‪ ،‬ويظهر‬
‫مجاله يف االجتهاد والتقليد ألنه جعل الدِّ ين ِ‬
‫والع ْلم صنوان ال يفرتقان‪.‬‬
‫إن الثنائيات (املتقابالت املتناقضة) إن كان هلا ِ‬
‫آخر فإنك ستجد حلها يف‬
‫املنهج اإلسالمي الوسطي‪ ،‬ومل حيصل التأخر والتخلف إال عندما وجدنا هناك‬
‫تناقض ًا بني الثنائيات‪َّ ،‬‬
‫إن كل من أراد طوق النجاة يف كل ميادين النظر عليه‬
‫باستقطاب األقطاب املتقابلة واملتناقضة‪ ،‬لو تأملنا يف حلظات البدء التي شهدت‬
‫نزول الروح األمني عىل قلب الصادق األمني بآيات الكتاب املبني والذي حصل‬
‫منه انسجام أنتج الفكر الذي يطلبه اإلنسان واملجتمع ‪ ،‬وال َّ‬
‫أدل عىل هذا أن ما‬
‫من عاقل رأى الرسول صىل اهلل عليه وسلم إال انجذب لدعوته وانبهر لفكرته‬
‫واقتنع بأقواله وما جاء به‪ ..‬وانترش هذا الدين العظيم‪ ،‬ومع هذا كام أن اجلديدين‬
‫متأصل‪ ،‬ومع هذا فقد‬
‫ِّ‬ ‫متناقضان فالتباين والتناقض يف األفكار واألشخاص‬
‫احتضنتهم سامء الدين ونور اليقني وأصبحت الثنائيات بني انسجام وتعايش‬
‫بإنعام؛ ال تناحر‪ ..‬وال تدابر‪.‬‬
‫عظمة التم ُّيز لرسالة حبيـبي حممد صىل اهلل عليه وسلم أنه ُينرش الدين مع‬
‫وجود املنافقني واليهود والنصارى والطاغني والعاصني ‪ ،‬ولك َّن الرسول األمني‬

‫‪68‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫النبوة واستخدمها حتَّى مأل القلوب وصبغ‬


‫الذي ملك سلطان احلق ورس َّ‬
‫األرواح وضم األشباح بام نزل عليه ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﮊ وبعد‬
‫هذا االنسجام قال هلم‪ :‬ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ‬
‫[آل عمران‪.]١٠٣ :‬‬ ‫ﮐﮑﮒﮓﮔ ﮊ‬
‫ومجال هذا الفكر يتجلىَّ بعالقته بالواقع ‪ ،‬حتى َّ‬
‫أقر األعراف التي ختدم‬
‫وأقر احلقوق التي جتعل اإلنسان َيرىض و َيقنع بواقع اإلسالم؛ يتفاعل‬
‫الفطرة‪َّ ،‬‬
‫تـحكمه كل َّيات نبتت يف أرض املقاصد‪ ،‬فأثمرت‬
‫معه فيظهر التعايش اإلنساين ‪ْ ،‬‬
‫واملؤسسات‬
‫َّ‬ ‫عطاء العقل بإبداع وتطور وإتقان يف التفاصيل واجلزئيات والنُّظم‬
‫والفروع املتعلقة باملتغريات‪ ،‬فالواقع يستدعي أمرين مهمني‪ :‬عطاء واستقطاب‪،‬‬
‫بتجمع األحباب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وهذا ال يكون إال‬
‫إن تلقيح األفكار باألصول التي هي وضع إهلي ُيظهر واقع التعايش يف ساحة‬
‫العقل املسلم‪ ،‬وهذه هي الوسطية اجلامعة التي ذكرناها والتي ينادي هبا اإلنسان‬
‫برغبة وتظهر لألرواح بشوق وحمبة‪ ،‬وصىل اهلل عىل سيدنا وحبيبنا إمام األئمة‬
‫وكاشف الغمة واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫فض اخلتام بكال ٍم ِمن مشكاة سيد األنام عليه الصالة والسالم ‪..‬‬ ‫َ‬
‫وأ ُف ُّض َّ‬
‫وهو (الدليل الثالثون) أخرتُه ليكون خامتة كتايب اجلوهر املكنون ‪ ،‬و ُيصادف‬
‫القلوب قبل العيون‪ ،‬فأقول راجي ًا السعادة يف الدارين بجاه سيد الكونني صلىَّ‬
‫رصعة‬ ‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬بعد ما ذكرنا من آللئ منرية زاهرة ‪ ،‬و َيواقيت باهرة ُم َّ‬
‫أنامل ذليلة قارصة ‪ِ ،‬من فائض بحر الفيض وواسع‬ ‫ُ‬ ‫استخرجتها‬
‫َ‬ ‫فاخرة ‪،‬‬
‫وتتنور هبا جمالس اإلخوان واألح َّبة ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫االمتنان ‪ ،‬تستأنس هبا نفوس أهل ا َملح َّبة‪،‬‬
‫ِ‬
‫الصدور وصميم اجلَنان‪.‬‬ ‫ب َب ِّث مناقب َمن بذكره ننال من اهلل وصله و ُقربه ‪ ،‬لتنرشح ُ‬
‫إن احلديث عن هذه ا َملجالس ذو شجون؛ ألنهَّ ا نابع ٌة ِمن صفات‬ ‫واحلاصل‪َّ :‬‬
‫بأمر ُمهم ؛ وهو‪:‬‬‫وأحب أن أختم هذه األد َّلة ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫أرغب‬
‫ُ‬ ‫اجلوهر ا َملكنون ‪ ،‬ولكنِّي‬
‫أن هذه ا َملجالس هي َم ٌ‬
‫ظهر ووسيل ٌة لتعظيم سيد‬ ‫إذا كان ‪-‬كام ذكرنا وأسلفنا ‪َّ -‬‬
‫تأثري يف تقوية دعامة هذا الدين ؟‬
‫األولني واآلخرين فهل هلا ٌ‬
‫إن إحصائيات ا ُمل َبشرِّ ين بالدين النَّرصاين د َّلتهم عىل َّ‬
‫أن أكرب عامل‬ ‫يا سيدي َّ‬
‫عىل انتشار اإلسالم بأفريقيا هو رجال ال ُّطرق الصوفية ؛ الذين ِمن شعارهم‬
‫هذه ا َملجالس‪ ،‬راجع كتاب «الغارة عىل العامل اإلسالمي» ‪ ،‬والذي قال ‪ :‬هنض‬
‫اإلسالم بأفريقيا هنضة ثالثة عىل أيدي مشايخ ال ُطرق‪ ،‬وأكثر أسباب هذه‬
‫َّصوف ‪ -...‬إىل أن قال ‪ :-‬حتَّى قال ا ُملبشرِّ ون‪:‬‬
‫النَّهضة األخرية راجع إىل الت ُّ‬
‫إن الدين اإلسالمي الذي جاء به شيوخ الطرق الصوفية هو ال َع َقبة القائمة يف‬
‫َّ‬
‫طريق تقدُّ م التبشري بالنرصان َّية يف أفريقيا‪.‬‬
‫ويف هذا العرص الذي نَعيشه و َبعد اهلجمة الرشسة عىل نبي اإلسالم عليه‬
‫ُقوي‬ ‫ِ‬
‫الصالة والسالم ‪ ،‬وعىل ذاته وصفاته ‪ ،‬أليس من احلق واإلنصاف أن ن ِّ‬
‫ُطور هذه ا َملجالس ‪ ،‬وهبا نُنافِس ‪ ،‬ونَجعلها نور اآلفاق نُيضء هبا العالمَ ‪،‬‬ ‫ون ِّ‬
‫جاهل ‪ ،‬وت ِ‬
‫ُلجم لسان ك ُِّل عدُ و‪ ،‬وتُد ِّمر‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬‫ونَجعلها نرباس ًا ومنار ًا َيستيضء هبا ُّ‬
‫قواعد نُص َبت لتَنال ِمن احلبيب األعظم صلىَّ اهلل عليه وسلم ‪ ،‬كام كانت َمرجع َّية‬

‫‪70‬‬
‫إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة‬

‫هذه ا َملجالس وهي الطرق الصوفية تَدُ ُّك َأعناق ا ُملبشرِّ ين‪ ..‬شعارها ﮋ ﰈ‬
‫ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﮊ [البقرة‪ ]٢٨٦ :‬وتَنرش النور ا ُملبني الذي‬
‫عتدين ‪..‬‬‫َفتَح ُقلوب الصادين وفلق آفاق اجلاهلني ‪ ،‬وم َّزق تجَ مع مراكز ا ُمل ِ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ِّ‬
‫ث للدِّ ين ؟!‬‫ث يف الدِّ ين‪ ،‬أم َحدَ ٌ‬
‫إن هذه بدعة ! نقول‪ :‬هل هي َحدَ ٌ‬ ‫وإذا قيل َّ‬
‫وذكر صفات و َمناقب َمن جاء‬ ‫فإن كانت للدِّ ين ِ‬
‫والفرق بينهام واضح مبني ؛ ْ‬
‫بالدين ا َملتني‪ ..‬ف َيجب علينا أن نُظهر فضل ذاته وصفاته ؛ ألنَّا َع ِلمنا علم اليقني‬
‫أن مجهرة ا ُملعتدين ا ُملعارصين قالوا مجُ ِ‬
‫تمعني ‪ :‬إنَّا ال نَعرف محُ َّمد ًا ونَجهل ذاته‬ ‫َّ‬
‫ومل نقف عىل صفاته ! فكيف يا سادة ! يا أهل هذا الدِّ ين ‪ ،‬وبعد أن تسمعوا‬
‫ُأصلوا األصول وتُف ِّعلوا ا َملجالس‬
‫هذا الكالم واضح ًا ُمبني ال ُت َق ِّعدوا القواعد وت ِّ‬
‫وتجَ علوها ُمنافِ َس ًة وتَنرشوا صفات س ِّيد األولني واآلخرين ؟!‬
‫أن نكون ك ّلنا َمن نتبع هذا النَّبي الذي د َّلنا عىل الرصاط ا ُملستقيم‬ ‫حلق ْ‬ ‫ِ‬
‫أليس من ا َ‬
‫تمعني بمذاهبنا وآراءنا وأفكارنا ونضع مناهج ووسائل وأساليب إلظهار‬ ‫مجُ ِ‬

‫وأو ُل هذا الفضل أن نكون ُمتعاونني‬


‫فضله صلىَّ اهلل عليه وس َّلم عىل البرش َّية ‪َّ ،‬‬
‫عف وتَلف‪ ..‬وال ُأطيل يا ساديت‬
‫قوة وال ُفرقة َض ٌ‬ ‫معتصمني مجُ ِ‬
‫تمعني ‪َّ ،‬‬
‫ألن االحتاد َّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َف حوله ونَستيضء من نوره ونُكثر من مجَ الس تعظيم‬ ‫أبلج ‪ ،‬فعلينا ْ‬
‫أن نَلت َّ‬ ‫فاحلق ُ‬
‫ُّ‬
‫من جاء بسعادة الدَّ ارين ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮊ‬
‫[املائدة‪ .]١٥ :‬وصلىَّ اهلل وس َّلم عىل خاتم النَّبيني واحلمد هلل رب العاملني ‪.‬‬
‫أرجو من اهلل تعاىل أن يتقبل عميل ويصلح نيتي وينفع هبذا اجلهد املتواضع‬
‫َمن َيذكرين بدعوة صاحلة تنفعني عند اهلل تعاىل ‪ ،‬ومن اهلل تعاىل أستمد العون‬
‫والسداد والتوفيق والرشاد ‪ ،‬فإنه املويل لذلك واملنعم به ‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‬
‫يف البدء واخلتام وصىل اهلل عىل سيدنا حممد وعىل آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان‬
‫وس َّلم تسليام كثريا إىل يوم الدين ‪.‬‬
‫انتهى غرة عام ‪ 1428‬من هجرة سيد األنام بدر التامم عليه الصالة والسالم ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫ﭑﭒﭓ‬

‫املقدمة‬
‫الرحيم الغ ّفار مق ِّلب القلوب واألبصار مقدِّ ر‬
‫القهار العزيز اجل ّبار ّ‬
‫احلمد هلل ّ‬
‫األمور كام يشاء وخيتار ‪ ،‬أمحده وحالوة حمامده تزداد مع التكرار ‪ ،‬وأشكره‬
‫وفضله عىل َمن شكر ِمدْ َرار ‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال رشيك له شهاد ًة‬
‫وتبوئ قائلها دار القرار ‪ ،‬وأشهد أن‬
‫ربئ القلب من الرشك بصحة اإلقرار ‪ِّ ،‬‬
‫ُت ِّ‬
‫حممد ًا عبده ورسوله البدر جبينه إذا سرُ َّ استنار ‪ ،‬وال َي ُّم يمينه فإذا ُسئل أعطى‬
‫عطاء من ال خيشى االفتقار ‪.‬‬
‫أما بعد‪ ..‬فإن اهلل سبحانه وتعاىل جعل لبعض الشهور فض ً‬
‫ال عىل بعض‬
‫قال‪:‬ﮋﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﮊ‬
‫[التوبة‪ . ]٣٦ :‬وكام قال ابن عباس ريض اهلل عنهام ‪ ( :‬اختص اهلل أربعة أشهر جعله ّن ُحرم ًا‬
‫وع ّظم حرماهت ّن وجعل الذنب فيه ّن أعظم وجعل العمل الصالح واألجر أعظم) ‪.‬‬
‫وهي موسم من املواسم الفاضلة التي جعل اهلل فيها لطيفة من لطائف نفحاته‬
‫ُيصيب هبا من يشاء بفضله ورمحته‪ ،‬فالسعيد كام قال الصاحلون من اغتنم مواسم‬
‫الشهور واأليام والساعات وتقرب فيها إىل مواله بام فيها من وظائف الطاعات‪،‬‬
‫فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد هبا سعادة يأمن بعدها من النار‬
‫خرج الطرباين يف «الكبري» من حديث حممد بن سلمة‬ ‫وما فيها من اللفحات ‪ ،‬وقد ّ‬
‫ٍ‬
‫«إن هلل يف أيا ِم الدَّ ْه ِر َن َفحات َّ‬
‫فتعر ُضوا هلا ‪ ،‬ف َل َع َّل أحدَ ك ُْم أن تصي َب ُه نفح ٌة‬ ‫مرفوع ًا‪َّ :‬‬
‫ُ‬
‫وأول هذه األشهر رجب ‪ ،‬كام روى ابن عمر مرفوع ًا ‪:‬‬ ‫فال َي ْش َقى بعدَ ها أبدا» ‪..‬‬
‫ب ُمضرَ َ » ‪.‬‬ ‫«وأولهُ ُ َّن َر َجب» ويف رواية البخاري ذكره مرفوع ًا ‪َ :‬‬
‫«ور َج ُ‬ ‫َّ‬

‫‪75‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫واملفضل‬
‫ّ‬ ‫رجب ‪ ،‬أي ‪ُ :‬يع ّظم ‪ .‬كذا قال األصمعي‬
‫وس ِّمي رجب ًا ؛ ألنه كان ُي ّ‬
‫ُ‬
‫والفراء‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومن فضله الواسع عىل عباده ‪ ،‬وكرمه الواصل إىل ُق ّصاده أنه من بلغه عن اهلل‬‫ِ‬

‫يشء من الثواب فعمل به عىل طريق اإليامن واالحتساب أعطاه اهلل ذلك الثواب‬
‫اجلزيل وإن مل يكن البالغ كام قيل ‪ ،‬كام قال صىل اهلل عليه وسلم ‪َ « :‬م ْن َب َل َغ ُه عن‬
‫فأخذ به إيامن ًا به ورجا َء َث َوابِ ِه أعطا ُه اهلل ذلك ْ‬
‫وإن‬ ‫َ‬ ‫اهلل عز وجل يش ٌء فيه فضيل ٌة‬
‫مل َي ُك ْن كذلك» ‪ .‬قال احلافظ ابن نارص الدين الدمشقي ‪ :‬حديث جيد اإلسناد‪.‬‬
‫«الرتجيح بتصحيح يف جزء صالة التسابيح» ص‪. 35‬‬
‫الوراق البلخي‪ :‬شهر‬
‫وشهر رجب مفتاح أشهر اخلري والربكة ؛ قال أبو بكر ّ‬
‫رجب شهر الزرع ‪ ،‬وشعبان شهر السقي للزرع ‪ ،‬وشهر رمضان شهر حصاد‬
‫الزرع ‪.‬‬
‫سود صحيفته بالذنوب أن ُيبيضها بالتوبة‬
‫قال ابن رجب احلنبيل ‪ :‬وجدير بمن َّ‬
‫يف هذا الشهر ‪ ،‬وبمن ض ّيع عمره يف البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر ‪.‬‬
‫ـمن ِْجي ِمن ا ْل َّل َه ِ‬
‫ب‬ ‫بِ َصالِ ِ‬
‫�ح ا ْل َع َم ِل ا ْل ُ‬ ‫َب ِّيض َص ِحي َفت ََك ا ْل َّسوداء فِـي َر َج ِ‬
‫ب‬
‫كان بعض العلامء الصاحلني قد مرض قبل شهر رجب فقال ‪ ( :‬إين دعوت اهلل أن‬
‫يؤخر وفايت إىل شهر رجب فإنه بلغني أن هلل فيه عتقاء) ‪ ،‬فب ّلغه اهلل ذلك ومات‬
‫ّ‬
‫يف شهر رجب ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عم� ْن تَ� َا َب َق�دْ َو َج َبا‬ ‫ف�إِ َّن ع ْف َ‬
‫�وي ّ‬ ‫َي�ا َع ْب�دُ َأ ْقبِ�ل ُمنيب� ًا َوا ْغتَن ْ‬
‫�م َر َج َب�ا‬
‫وشهر رجب كان فيه اإلرساء كام ب َّينَّا يف «القول األتم» وقد ذكرت يف هذه الرسالة‬
‫ِ‬
‫يج الك َُرب يف نفحات رجب»‪.‬‬‫فضل رجب وجعلتها حممودة الغب وسميتها « َت ْف ِر ُ‬

‫ وهو البحث الذي ييل هذه الرسالة للمؤلف ‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫ِّ‬
‫وصل وسلم عىل سيد‬ ‫اللهم بارك لنا يف رجب وشعبان وبلغنا رمضان ‪،‬‬
‫األكوان وآله وأصحابه ماتعاقب اجلديدان ‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫ﮋفوائد املقدمةﮊ‬

‫الفائدة األوىل‬
‫قد مجع احل ّفاظ أحاديث رجب يف أجزاء خاصة ‪ ،‬آخرهم أمري املؤمنني يف‬
‫احلديث أمحد بن عيل بن حجر العسقالين ريض اهلل عنه فقد مجع ما ورد يف رجب‬
‫جزء ًا سماّ ه «تبيني العجب بام ورد يف شهر رجب» وهو مفيد يف موضوعه ‪.‬‬
‫قال يف مقدمته ‪ :‬مل يرد يف فضل رجب وال يف صيامه وال يف صيام يشء منه‬
‫صحيح يصلح للحجة ‪ ،‬وقد‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حديث‬ ‫معني ‪ ،‬وال يف قيام ليلة خمصوصة فيه‬
‫سبقني إىل اجلزم بذلك اإلمام أبو إسامعيل اهلروي احلافظ ‪ ،‬رويناه عنه بإسناد‬
‫َسمحون يف‬
‫صحيح ‪ ،‬وكذلك رويناه عن غريه ولكن اشتهر أن أهل العلم َيت َّ‬
‫ضعف ما مل تكن موضوعة ‪ ،‬وينبغي‬
‫ٌ‬ ‫إيراد األحاديث يف الفضائل وإن كان فيها‬
‫مع ذلك اشرتاط أن يعتقد العامل كون ذلك احلديث ضعيفا ‪.‬‬
‫قال أبو عمر السليامين ‪:‬‬
‫اعلم أ� َّن البخاري وكل َمن َ�ص َّنف يف أالحكام يريد بقوله‪:‬‬
‫(مل ي�صح) أ�ي‪ :‬ال�صحة اال�صطالحية‪ ،‬أ�و فقد �شرطاً من‬
‫�شروط ال�صحة‬
‫و َمن صنّف يف املوضوعات والضعفاء يريد بقوله ‪( :‬مل يصح أو مل يثبت) املعنى األعم‪.‬‬
‫الضعف ‪ ،‬ويلزم من الثاين إثبات‬
‫الـحسن أو َّ‬
‫أي ‪ :‬يلزم من األول إثبات ُ‬
‫الضعف واإلنكار‪.‬‬
‫قال السخاوي يف «املقاصد» ص ‪ 239‬بعد ذكر قول الدارقطني‪( :‬ال يثبت)‬
‫قال متع ِّقبا ‪ :‬قال شيخنا ‪ -‬أي احلافظ اإلمام ابن حجر ‪ : -‬وال يلزم من هذه‬

‫‪78‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫العبارة أن يكون موضوعا ‪ ،‬فالثابت يشمل الصحيح ‪ ،‬والضعيف دونه ‪ ،‬أي‬


‫دون الصحيح ‪.‬‬
‫فالثابت عىل قول احلافظ هو الصحيح والذي (مل يثبت) هو الضعيف بمراتبه كام‬
‫ذكرت آنفا‪.‬‬
‫قال الشيخ بدر الدين الزركيش يف «نكته» عىل ابن الصالح ‪ :‬بينْ قولنا ‪( :‬مل‬
‫يصح) وقولنا ‪( :‬موضوع) َب ْو ٌن كبري ‪ ،‬فإن الوضع إثبات الكذب واالختالق ‪،‬‬
‫وقولنا ‪( :‬مل يصح) ال يلزم منه إثبات العدم ‪ ،‬وإنام هو إخبار عن عدم الثبوت‬
‫(للحديث بالوضع) وكذلك عدم الثبوت (للحديث بالقبول) املطلق‪ .‬فهو‬
‫متق ِّلب يف مراتب الضعف‪.‬‬
‫وقال أمري املؤمنني يف احلديث احلافظ ابن حجر يف «القول املسدد» ص ‪: 45‬‬
‫(ال يلزم من كون احلديث مل يصح أن يكون احلديث موضوعا) وقال يف موضع‬
‫آخر ‪( :‬ال يلزم من كونه أصح أن يكون مقابله موضوعا) ص‪.52‬‬
‫قال السخاوي ‪( :‬ولكن هذه العبارة من مثل البخاري ال تقتيض البطالن) ‪.‬‬

‫الفائدة الثانية‬
‫والغريب يف األمر أن احلافظ ذكر يف مقدمة «تبيني العجب» كالم ًا جيب الوقوف‬
‫عنده ‪ ،‬قال ريض اهلل عنه‪ ( :‬ال فرق يف العمل باحلديث الضعيف يف األحكام أو‬
‫يف الفضائل ‪ ،‬إذ ُّ‬
‫الكل شرَ ْ ٌع) ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا مردود بام ذكره احلافظ نفسه‪ ..‬قال ‪ ( :‬إن أهل العلم يتساحمون يف‬
‫ُ‬
‫إيراد األحاديث يف الفضائل وإن كان فيها ضعف ‪ ،‬ما مل تكن موضوعة) اهـ ‪.‬‬
‫وال شك أنه من سادات احلفاظ واملحققني ؛ ثم أنه نيس رمحه اهلل َأ َّن ا ُمل َ‬
‫جمع عليه‬

‫‪79‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫بني املتقدمني واملتأخرين من العلامء املحققني هو ‪:‬‬


‫أ� َّن من مقا�صد ال�شرع عدم الت�سوية بني املندوب والواجب‬
‫سوى بينه وبني الواجب ‪ ،‬ال يف‬
‫أي‪ :‬من حيث حقيقة استقراره مندوبا أن ال ُي َّ‬
‫سوى بينهام يف االعتقاد ‪ .‬راجع املوافقات للشاطبي‬
‫القول وال يف الفعل ‪ ،‬كام ال ُي َّ‬
‫املسألة السادسة ‪.‬‬
‫واألحاديث شاهدة عىل ذلك ‪:‬‬
‫منها قوله صىل اهلل عليه وسلم‪َ « :‬م ْن َف َع َل فقد ْ‬
‫أح َس َن ‪ ،‬و َم ْن ال فال َح َرج» ‪.‬‬
‫وقوله صىل اهلل عليه وسلم ‪ِ :‬‬
‫«افع ْل وال َح َر َج» ‪.‬‬
‫ون» ‪.‬‬‫«خ ُذوا ِمن ال َع َم ِل ما تُطِي ُق َ‬
‫وقوله صىل اهلل عليه وسلم ‪ُ :‬‬
‫وأئمة املسلمني استمروا عىل هذا األصل ؛ وهذا سلطان العلامء العز بن عبد‬
‫وجه له كام جاء يف كتابه «الفتاوى»‬
‫السالم رمحه اهلل قال يف جواب عىل سؤال ِّ‬
‫ص‪ 119 - 116‬فقد ُسئل رمحه اهلل‪:‬‬
‫مسألة ‪ ... :91‬وما القول فيام يذكره بعض اخلطباء من فضائل الشهور‪ ،‬واحلض‬
‫عىل األعامل الصاحلة فيها ومن مجلتها شهر رجب‪ ،‬وقد نُقل عن بعض املحدثني‬
‫املنع من صومه وتعظيم حرمته؛ وأن ذلك مشاهبة لفعل اجلاهلية يف تعظيمه ‪،‬‬
‫فهل ُيمنع من صومه لذلك وتعظيم حرمته ؟ وهل يصح نذر صوم مجيعه؟‬
‫فأجاب‪ ... :‬وأما ما يذكره بعض اخلطباء من فضائل الشهور ففيه الصحيح‬
‫السقيم ‪ ،‬و َل َّ‬
‫عل سقيمه أكثر من صحيحه ‪ ،‬ونذر صوم رجب الزم ُيتقرب‬ ‫وفيه َّ‬
‫إىل اهلل بمثله‪ .‬والذي نهَ َى عن صومه جاهل بمآخذ أحكام الرشع ‪ ،‬وكيف يكون‬
‫منه َّي ًا عنه مع أن العلامء الذين َد َّونُوا الرشيعة مل يذكر أحدٌ منهم اندراج رجب مما ُيكره‬
‫صومه قربة إىل اهلل تعاىل؟ َلمِا جاء يف األحاديث الصحيحة من الرتغيب يف الصوم‬

‫‪80‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫الص ِائ ِم أ ْط َي ُب عندَ‬ ‫الصو َم» وقوله‪« :‬خلَ ُل ُ‬


‫وف َف ِم َّ‬ ‫مثل قوله‪« :‬ك ُُّل َع َم ِل ِ‬
‫ابن آ َد َم له إال َّ‬
‫الصيا ِم صو ُم أخي َداو َد» وقد كان داود‬ ‫اهللِ ِمن ِريحِ املِ ْس ِك» وقوله‪َّ :‬‬
‫«إن أ ْف َض َل ِّ‬
‫حيب الصوم من غري تقييد بام عدا رجب من الشهور‪ ،‬و َمن َع َّظم رجب لغري‬
‫اجلهة التي كانت اجلاهلية يع ِّظمونه هلا‪ ،‬فليس بمقلد جلاهلية ‪ ،‬وليس كل ما فعله‬
‫اجلاهلية منه َّي ًا عن مالبسته‪ ،‬إال إذا هنت الرشيعة عنه ود َّلت القواعد عىل تركه‪،‬‬
‫وال ُيرتك لكون أهل الباطل قد فعلوه‪ ،‬والذي هنى عن ذلك من أهل احلديث‬
‫جاهل معروف اجلهل‪ ،‬ال حيل ملسلم أن ُيقلده يف دينه‪ ،‬وال جيوز التقليد إال ملن‬
‫اشتهر باملعرفة بأحكام اهلل وبمآخذها‪ ،‬والذي ُيضاف إليه ذلك بعيد عن معرفة‬
‫دين اهلل‪ ،‬فال ُيق َّلد فيه ومن ق َّلد مثله فقد غرر بدينه‪ . ...‬اهـ‪.‬‬
‫وماذا نقول يف كالم احلافظ التاج السبكي اإلمام األصويل من شهدت األمة‬
‫بجاللته رمحه اهلل‪ ،‬حيث قال يف «طبقات الشافع َّية الكربى» ‪:13-12/ 4‬‬
‫ذكر احلافظ أبو بكر البيهقي يف «فضائل األوقات» يف الكالم عىل صوم رجب‪،‬‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم نهَ ى َعن صو ِم َر َج ٍ‬
‫ب ُك ِّله»‬ ‫«إن َّ‬‫بعدما ذكر حديث‪َّ :‬‬
‫ٌ‬
‫حممول عىل التنزيه؛ ألن الشافعي قال يف القديم‪:‬‬ ‫صح فهو‬
‫وض َّعفه‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن َّ‬
‫كمل رمضان)‬
‫يكمله من بني الشهور كام ُي َّ‬ ‫( وأكره أن َيت َ‬
‫َّخذ الرجل صوم شهر ِّ‬
‫قال‪ ( :‬وكذلك يوم ًا من بني األيام) قال‪ ( :‬وإنام كرهته أالَّ َّ‬
‫يتأسى جاهل في ُظن‬
‫أن ذلك واجب‪ ،‬وإن َف َعل َ‬
‫فحس ٌن)‪.‬‬
‫قال البيهقي‪ :‬فبينَّ الشافعي جهة الكراهية ثم قال‪ ( :‬وإن فعل َف َ‬
‫حسن)‪.‬‬
‫غري‬ ‫وذلك ألن من العلم العام فيام بني املسلمني َأالَّ َ‬
‫جيب بأصل الرشع صو ٌم ُ‬
‫صوم رمضان‪ ،‬فارتفع بذلك معنى الكراهة ‪ .‬انتهى كالم البيهقي ‪ -..‬إىل أن‬
‫ِ‬
‫البيهقي عن الشافعي‬ ‫َّص الذي حكاه‬‫قال ابن السبكي ‪ :-‬وباجلملة‪ ،‬هذا الن ُّ‬

‫‪81‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫النهي عن تكميل‬
‫ُ‬ ‫فيه داللة ب ِّين ٌة عىل أن صو َم رجب بكامله َح َس ٌن‪ ،‬وإذا مل يكن‬
‫ِ‬
‫االستحباب‪ ،‬ويف ذلك تأييد لشيخ اإلسالم‬ ‫بقي عىل أصل ْ‬‫صومه صحيح ًا َ‬
‫ِع ّزالدين بن عبدالسالم؛ حيث قال‪َ :‬من نهَ ى عن صوم رجب فهو جاهل ْ‬
‫بمأخذ‬
‫أحكام الرشع‪ ،‬وأطال يف ذلك‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقد تع َّقب احلافظ التاج السبكي يف «طبقات الشافع َّية الكربى» ‪11/7‬‬
‫عىل قول اإلمام أيب بكر ابن السمعاين‪ ( :‬مل يرد يف استحباب صوم رجب عىل‬
‫التخصيص ُسنَّ ٌة ثابتة‪ ،‬واألحاديث التي تُروى فيه واهية ال يفرح هبا عامل)‪.‬‬
‫فقال التاج السبكي ُمتع ِّقبا عليه‪:‬‬
‫وهذا كالم صحيح‪ ،‬ولكن ال يوجب التزهيد يف صومه‪ ،‬ففضل الصوم من‬
‫حلرم ما‬
‫حيث اإلطالق ثابت‪ ،‬ويف «سنن أيب داود» وغريه يف صوم األشهر ا ُ‬
‫السنَّة عىل الرتغيب يف صومه ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫يكفي يف قيام ُّ‬
‫وقال احلافظ ابن رجب يف «لطائف املعارف» بعد كال ٍم ص‪:174‬‬
‫حلرم كلها؛ منهم ابن عمر واحلسن‬
‫وقد كان بعض السلف يصوم األشهر ا ُ‬
‫حلرم أحب إ ّيل أن أصوم‬
‫البرصي وأبو إسحاق السبيعي‪ .‬وقال الثوري‪ :‬األشهر ا ُ‬
‫فيها‪ . ...‬اهـ‪.‬‬
‫ثم إن املسألة كلها يف فضائل األعامل ‪ ،‬وكام قال ابن عبدالرب حافظ املغرب ‪:‬‬
‫أحاديث الفضائل ال حتتاج فيها إىل من حيتج به‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬بل أمجعت األمة أنه ( جيوز العمل به ‪ -‬أي باحلديث الضعيف ‪ -‬ما‬
‫و ُ‬
‫مل يكن موضوعا) حتى إن احلافظ نفسه قد ذكر أحاديث ضعيفة وواهية يف كتابه‬
‫«بلوغ املرام اجلامع ألحاديث األحكام» ‪.‬‬
‫وكذلك أمجعوا أن احلديث الضعيف يثبت به املستحب واملندوب ‪ .‬وكذلك‬
‫تثبت به الكراهية ؛ فقد ذكر احلافظ النووي يف «األذكار» ص ‪ ( : 8-7‬كام إذا‬

‫‪82‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫يتنزه‬
‫ورد حديث ضعيف بكراهة بعض البيوع أو األنكحة فإن املستحب أن ّ‬
‫عنه)‪.‬‬

‫ ذكر بعض العلامء أنه جيوز العمل يف هذا الباب بالرؤيا ؛ قال شيخنا احلافظ أبو الفضل‬
‫عبداهلل بن الصديق رمحه اهلل‪ :‬جاء يف «اختصار حاشية الرهوين» للفقيه قنون ‪ :‬قال سيدي‬
‫املهدي الفايس رمحه اهلل ‪ ،‬وإذا كانت الفضيلة املستدل هلا مما شهد الرشع باعتبار جنسه‬
‫واندرج حتت أصل عام وليس يف األصول والقواعد ما خيالفه فمن العلامء من قال‪ :‬يعمل‬
‫مؤس َسة واهلل أعلم‪.‬‬ ‫فيها باملرائي املنامية أيضا ‪ ،‬ويستأنس هلا هبا ‪ ،‬فتكون ِّ‬
‫مؤكدة هلا ال ِّ‬
‫اهـ ‪ .‬وا ّلرؤيا التي يعمل هبا ‪ -‬عىل القول بذلك ‪ -‬هي التي ُيرى فيها النبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم آمر ًا بيشء أو ناهيا عنه ؛ ألمرين ‪:‬‬
‫‪ -1‬أن كالمه حجة يف الدين ‪.‬‬
‫‪ -2‬أن الشيطان ال يتمثل به‪.‬‬
‫تنبيه ‪ :‬أما رؤيا غريه فال يعمل هبا‪.‬‬
‫مثال العمل برؤيا الرسول صىل اهلل عليه وسلم يف الفضائل وغريها‪:‬‬
‫ما ذكر احلافظ السيوطي رمحه اهلل تعاىل يف «تنوير احلوالك عىل موطأ مالك» ‪:214/1‬‬
‫أنه وقع يف زمن شيخ اإلسالم عز الدين بن عبد السالم أن رج ً‬
‫ال رأى النبي صلىَّ اهلل عليه‬
‫وس َّلم يف النوم‪ ،‬فقال له‪ :‬اذهب إىل موضع كذا فاحفره‪ ،‬فإن فيه ركاز ًا فخذه لك وال‬
‫مخس عليك فيه‪ ،‬فلام أصبح ذهب إىل ذلك املوضع فحفره‪ ،‬فوجد الركاز‪ ،‬فاستفتى علامء‬
‫عرصه‪ ،‬فأفتوه بأنه ال مخس عليه لصحة الرؤيا‪ ،‬وأفتى الشيخ عز الدين بأن عليه اخلمس‪،‬‬
‫وقال‪ :‬أكثر ما ينـزل منامه منـزلة حديث روي بإسناد صحيح‪ ،‬وقد عارضه ما هو أصح‬
‫س» فيقدم عليه‪ .‬انتهى‪.‬‬ ‫كاز ُ‬
‫اخل ْم ُ‬ ‫الر ُ‬
‫منه ‪ ،‬وهو احلديث املخرج يف الصحيحني‪« :‬يف ِّ‬
‫وذكر احلافظ اللكنوي رمحه اهلل تعاىل يف كتابه «نزهة الفكر يف سبحة الذكر» ص‪-50‬‬
‫‪ 51‬عن القطب اليافعي صاحب «مرآة اجلنان» حيث قال‪:‬‬
‫رأيت يف بعض املنامات ُسبحتني عندَ النبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم ‪ ،‬بعدما‬
‫ُ‬ ‫[وقد‬
‫شيخنا أبو عبد اهلل حممد بن أمحد الذهبي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مجاعة من الصاحلني‪ ،‬وفيهم ُ‬ ‫رأيت كأين يف‬
‫ُ‬
‫أقبل النبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم كأنه ُ‬
‫البدر الطالع‪ ،‬وهو‬ ‫الشيخ مسعود‪ ،‬إذ قيل‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫وشيخنا‬
‫حيمل يف ردائه شيئ ًا قاصد ًا ذلك اجلمع‪ ،‬فأعطاه‪ ،‬إذا هو يشء أخرض من ثامر الفواكه‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪83‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫‪..........................................................................‬‬

‫فمشيت بعده فدخل بيت ًا‪ ،‬ثم صعد‬


‫ُ‬ ‫فأشار إ َّيل أن أميش‪،‬‬
‫َ‬ ‫فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬نصيـبي‪،‬‬
‫ُ‬
‫فصعدت‪ ،‬وإذا يف زاوية الغرفة من تلك الفاكهة املذكورة‪ ،‬فغرف يل منها بك ّفيه‬
‫ُ‬ ‫غرفة‬
‫ورأيت يف الغرفة السبحتني املذكورتني‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الكريمتني‪،‬‬
‫بعض النساء اخليرِّ ات أهنا رأت النبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم ‪ -‬يف املنام ‪-‬‬
‫وذكرت ُ‬
‫َ‬
‫أبيض من جدار القبلة‪،‬‬ ‫َ‬
‫فأخذ تراب ًا َ‬ ‫فأطالت الكالم‪ ،‬ثم قالت‪ :‬ما أشتهي أن أفارقك‪،‬‬
‫ووضعه يف ك ِّفه اليرسى ثم َنحت يف األرض بكفه اليمنى‪ ،‬فنبع ماء فغرف غرفة بك ِّفه‬
‫وأخذ السبحة التي كانت معها فلطخها‬ ‫َ‬ ‫وعجن به الرتاب الذي يف اليرسى‪،‬‬
‫َ‬ ‫اليمنى‬
‫واآلخر عىل‬
‫ُ‬ ‫بذلك الطني‪ ،‬ثم َ‬
‫وضع السبحة عىل جسمه املبارك‪ ،‬أحدُ طرفيها عىل صدره‬
‫وجهه‪ ،‬ثم أعطاها إياها‪ ،‬وقال‪ :‬إن أردت أن ال تفارقيني فال تفارقي هذه السبحة‪ ،‬ثم‬
‫وأثر ِّ‬
‫الطني يف السبحة‪.‬‬ ‫استيقظت ُ‬
‫أن أثر الطني املذكور ٍ‬
‫باق يف السبحة‪.‬‬ ‫وأخربين بعض األخيار وهو زوج تلك املرأة َّ‬
‫ِ‬
‫بمالزمة السبحة التسبيح هبا]‪ .‬انتهى‪.‬‬ ‫والظاهر أنه صلىَّ اهلل عليه وس َّلم أراد‬
‫ُ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫فع َّلق موالنا اللكنوي عىل هاتني الرؤيتني قائ ً‬
‫ال‪:‬‬
‫النبي‬ ‫قلت‪ :‬وهذا من أحسن احلجج عىل جواز اختاذ السبحة وحتسينه؛ َّ‬
‫ألن من رأى َّ‬ ‫ُ‬
‫صلىَّ اهلل عليه وس َّلم يف املنام‪ ،‬فقد رأى احلق‪ ،‬فإن الشيطان ال يتمثل به ‪ ،‬عىل ما أخرجه‬
‫ثقات األعالم‪ ،‬فمن رأى النبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم يف املنام َيستحسن شيئ ًا مل َّ‬
‫يدل الدليل‬
‫الصحيح عىل كونه قبيح ًا (فهو حسن)‪ ،‬وما رآه النبي صلىَّ اهلل عليه وس َّلم حسن ًا فهو عند‬
‫اهلل حسن‪ .‬انتهى كالمه رمحه هلل‪.‬‬
‫وجاء يف «رشح اخلطاب عىل خمترص خليل» عن صدر الدين ابن الصالح هباء الدين‬
‫عثامن بن عيل الفاريس قال ‪ :‬لقيت الشيخ العامل املتقن املفرس املحدث املشهور بالفضائل‬
‫نور الدين اخلرساين بمدينة شرياز ‪ ،‬وكنت عنده يف وقت األذان فلام سمع املؤذن يقول‪:‬‬
‫أشهد أن حممد ًا رسول اهلل ‪ّ ،‬قبل إهبامي يديه اليمنى واليرسى ومسح بالظفرين أجفان‬
‫عينيه عند كل تشهد مرة ؛ بدأ باملوق من ناحية األنف وختم باللحاظ من ناحية الصدغ‪،‬‬
‫فسألته عن ذلك فقال ‪ :‬كنت أفعله من غري رواية حديث ‪ ،‬ثم تركته ‪ ،‬فمرضت عيناي‪،‬‬
‫ـم تركت مسح عينيك عند‬‫فرأيت رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم يف املنام ‪ ،‬فقال ‪ :‬لِ َ‬

‫‪84‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫الفائدة الثالثة‬
‫قال ُح َّجة اإلسالم اإلمام أبو حامد الغزايل يف بيان الليايل واأليام املخصوصة‬
‫بالفضل التام‪:‬‬
‫اعلم أن الليايل املخصوصة بمزيد الفضل التي يتأكد فيها استحباب اإلحياء‬
‫مخس عَشرْ َ ْة ليلة ‪ ،‬ال ينبغي أن يغفل املريد عنها ‪ ،‬فإهنا مواسم اخلريات‬
‫يف السنة َ‬
‫ُّ‬
‫ومظان التجارات‪.‬‬
‫ومتى غفل التاجر عن املواسم مل يربح‪ ،‬ومتى غفل املريد عن فضائل األوقات‬
‫مل ينجح‪.‬‬
‫فستة من هذه الليايل يف شهر رمضان‪:‬‬
‫مخس يف أوتار العرش األخري إذ فيها ُيطلب ليلة القدر‪.‬‬
‫وليلة سبع عرشة من رمضان ‪ -‬فهي ليلة صبيحتها ‪ -‬يوم الفرقان يوم التقى‬
‫اجلمعان‪ ،‬فيها كانت وقعة بدر‪ ،‬وقال ابن الزبري رمحه اهلل‪ :‬هي ليلة القدر ‪.‬‬
‫وأما التسع األُخر ‪:‬‬
‫وأول ليلة من رجب ‪ ،‬وليلة النصف‬
‫فأول ليلة من املحرم ‪ ،‬وليلة عاشوراء ‪َّ ،‬‬
‫منه ‪ ،‬وليلة سبع وعرشين منه ‪ ،‬وهي ليلة املعراج وفيها صالة مأثورة؛ فقد قال‬

‫فعدْ إىل املسح ‪( .‬أو كام قال) فاستيقظت‬


‫ذكري يف األذان؟ إن أردت أن تربأ عيناك ُ‬
‫ومسحت فربئَت عيناي ومل يعاودين مرضها إىل اآلن‪.‬‬
‫وروي عن اخلرض عليه السالم أنه قال ‪ :‬من قال حني يسمع املؤذن‬ ‫ثم قال َّ‬
‫اخلطاب ‪ُ :‬‬
‫يقول‪ :‬أشهد أن حممد رسول اهلل ‪ :‬مرحبا بحبيبي وقرة عيني حممد صىل اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫ثم ُيق ِّبل إهباميه وجيعلهام عىل عينيه ‪ ،‬لـم َي ْع َم ولـم َي ْر ُمد أبدا‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما ُذكر عن اخلرض رواه عنه الشيخ أمحد الر ّدادة يف كتاب «موجبات الرمحة»‬
‫ُ‬
‫بإسناد منقطع وفيه جماهيل ومل يصح يف هذا الباب حديث ‪ ،‬كام قال احلافظ السخاوي ‪،‬‬
‫واهلل أعلم‪ .‬وقد ذكر اخلطيب أمثلة كثرية يف هذا الباب يف كتابه «تاريخ بغداد»‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬للعامل يف هذه الليلة حسنات مائَة سنة؛ فمن صلىَّ يف هذه‬
‫الليلة اثنتي عرش ركعة يقرأ يف كل ركعة فاحتة الكتاب وسورة من القرآن ويتشهد‬
‫يف كل ركعتني ويسلم يف آخرهن ثم يقول‪ :‬سبحان اهلل واحلمد هلل وال إله إال اهلل‬
‫مرة ‪ ،‬و ُيصيل عىل النبي صىل اهلل عليه‬
‫واهلل أكرب مائَة مرة ‪ ،‬ثم يستغفر اهلل مائَة َّ‬
‫مرة ‪ ،‬ويدعو لنفسه بام شاء من أمر دنياه وآخرته ‪ ،‬و ُيصبح صائ ًام ‪ ،‬فإن‬
‫وسلم مائَة َّ‬
‫اهلل يستجيب دعاءه كله إال أن يدعو يف معصية»‪ ،‬وليلة النِّصف من شعبان‪،‬‬
‫ففيها مائَة ركعة ‪ ،‬يقرأ يف كل ركعة بعد الفاحتة سورة اإلخالص عرش مرات ‪،‬‬
‫كانوا ال يرتكوهنا كام أوردناه يف صالة التطوع‪ ،‬وليلة عرفة‪.‬‬
‫وليلتا العيدين‪ :‬قال صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬من أحيا ليلتي العيدين مل يمت قلبه‬
‫يوم متوت القلوب»‪.‬‬

‫ انظر حتقيق احلديث الثالث ص‪. 102-98‬‬


‫ قال الشيخ ابن تيمية يف «جمموع الفتاوى» ‪ :131/ 23‬إذا صلىَّ اإلنسان ليلة النصف‬
‫وحده أو يف مجاعة خاصة كام كان يفعل طوائف من املسلمني فهو (حسن) ‪ ،‬وأما‬
‫االجتامع يف املسجد عىل صالة مقدرة كاالجتامع عىل مائَة ركعة‪ ،‬بقراءة ألف «قل هو اهلل‬
‫أحد» دائ ًام‪ ،‬فهذه بدعة ‪ ،‬مل يستحبها أحد من األئمة ‪ ،‬واهلل أعلم ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال أيض ًا يف نفس املرجع ص‪ :132‬وأما ليلة النصف فقد روي يف فضلها أحاديث‬
‫وآثار ‪ ،‬ونقل عن طائفة من السلف أهنم كانوا يصلون فيها ‪ ،‬فصالة الرجل فيها وحده‬
‫قد تقدمه فيه سلف وله فيه حجة ‪ ،‬فال ُينكر مثل هذا ‪،‬أما الصالة مجاعة فهذا مبني عىل‬
‫قاعدة عامة يف االجتامع عىل الطاعات والعبادات ‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫ قال شيخ اإلسالم احلافظ النووي يف «األذكار»ص‪:292‬‬
‫اعلم‪ :‬أنه ُيستحب إحياء ليلتي العيدين بذكر اهلل تعاىل والصالة وغريمها من الطاعات؛‬
‫للحديث الوارد يف ذلك‪« :‬من أحيا ليلتي العيدين مل يمت قلبه حني متوت القلوب»‬
‫هكذا جاء يف رواية الشافعي وابن ماجه‪ ،‬وهو حديث ضعيف رويناه من رواية أيب ُأمامة‬
‫مرفوع ًا وموقوف ًا‪ ،‬وكالمها ضعيف‪َ ،‬ل ِك َّن أحاديث الفضائل ُي َسا َم ُح فيها‪.‬اهـ‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫وأما األيام الفاضلة فتسعة عرش ‪ -‬والكالم حلجة اإلسالم ‪ -‬يستحب‬


‫مواصلة األوراد فيها‪ :‬يوم عرفة ‪ ،‬ويوم عاشوراء‪.‬‬
‫ويوم سبعة وعرشين من رجب له رشف عظيم ‪ ،‬روى أبوهريرة أن رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم قال‪« :‬من صام يوم سبع وعرشين من رجب كتب اهلل له‬
‫صيام ستني شهرا» وهو اليوم الذي أهبط اهلل فيه جربائيل عليه السالم عىل‬
‫حممد صىل اهلل عليه وسلم بالرسالة ‪.‬‬
‫ويوم سبعة عرش من رمضان ‪ ،‬وهو يوم وقعة بدر ‪ ،‬ويوم النصف من شعبان‪.‬‬
‫ويوم اجلمعة‪.‬‬
‫ويوما العيدين ‪.‬‬
‫واأليام املعلومات‪ ،‬وهي عرش من ذي احلجة‪.‬‬
‫واأليام املعدودات‪ ،‬وهي أيام الترشيق‪.‬‬
‫وقد روى أنس عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم أنَّه قال‪« :‬إذا َس ِل َم يو ُم‬
‫السنَ ُة» ‪ ،‬وقال بعض‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫مضان َسل َمت َّ‬ ‫شهر َر‬
‫جل ُمعة َسل َمت األيا ُم‪ ،‬وإذا َسل َم ُ‬
‫ا ُ‬

‫ انظر حتقيق احلديث األول ص‪. 94-91‬‬


‫ قال احلافظ الزين العراقي يف «املغني»‪ :‬أخرجه ابن حبان يف «الضعفاء» وأبو نعيم يف‬
‫«احللية» والبيهقي يف «الشعب» من حديث عائشة ومل أجده من حديث أنس ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫كالم املناوي يف رشح هذا احلديث ‪ ،‬ورأى أن املناوي قد َّ‬
‫شذ‬ ‫قلت‪ :‬وقد تع َّقب ُ‬
‫شيخنا َ‬ ‫ُ‬
‫يف رشحه احلديث؛ حيث قال أستاذ أساتذتنا وشيخ شيوخنا سيدي أمحد بن الصديق‬
‫متع ِّقبا يف «املداوي» ‪:395/1‬‬
‫(قلت) إن صح احلديث فليس معناه ما يقول الشارح ‪ -‬أي‪ :‬املناوي ‪ ، -‬وإن كان قد‬
‫ُ‬
‫ورد ما يشهد له وهو‪« :‬الصلوات اخلمس‪ ،‬واجلمعة إىل اجلمعة‪ ،‬ورمضان إىل رمضان‬
‫ُمكفرات ملا بينهن إذا اجتنبت الكبائر»‪ ،‬ولكن معناه واهلل أعلم‪ :‬إذا سلمت اجلمعة من‬
‫قيام الساعة سلم األسبوع منها؛ ألهنا ال تقوم إال يف يوم اجلمعة‪ ،‬وإذا سلم رمضان فلم‬

‫‪87‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫العلامء‪ :‬من أخذ ُم َهنَّأ ُه يف األيام اخلمسة يف الدنيا مل ينل ُم َهن ََّأ ُه يف اآلخرة ‪ ،‬وأراد‬
‫به ‪ :‬العيدين واجلمعة وعرفة وعاشوراء‪.‬‬
‫ومن فواضل األيام يف األسبوع يوم اخلميس واالثنني ترفع فيهام األعامل إىل‬
‫اهلل تعاىل‪ :‬وقد ذكرنا فضائل األشهر واأليام للصيام يف كتاب الصوم ‪ .»..‬انتهى‬
‫من «إحياء علوم الدين» ‪.500/1‬‬

‫الفائدة الرابعة‬
‫قال احلافظ يف مقدمة كتابه «لسان امليزان» ‪ 13/1‬بعد أن نقل قول اإلمام أمحد‪:‬‬
‫ثالثة كتب ليس هلا أصول ‪ -‬أي أسانيد ‪ -‬وهي املغازي والتفسري واملالحم‪.‬‬
‫وزاد احلافظ عليها فقال ‪ :‬وينبغي أن يضاف إليها (الفضائل) فهذه أودية‬
‫األحاديث الضعيفة واملوضوعة ‪ ،‬إذ كانت العمدة يف املغازي عىل مثل الواقدي‪،‬‬
‫ويف التفسري عىل مثل مقاتل والكلبي ‪ ،‬ويف املالحم عىل اإلرسائيليات ‪.‬‬
‫قال أبو عمر السليامين ‪:‬‬
‫أ ّما كتب فضائل األعامل واملواعظ والزواجر والكبائر فحدِّ ث وال حرج ‪،‬‬
‫ومن أهم تلك الكتب كام قال احلافظ املفيد اللكنوي ‪ :‬تصانيف العلامء األج ّلة ‪:‬‬

‫تقم فيه سلمت السنة كلها فال تقوم إال يف يوم مجعة من رمضان‪ ،‬كام ورد يف األحاديث‬
‫ُ‬
‫األخرى‪ ،‬ويدل عليه رواية أيب نعيم هلذا احلديث‪ ،‬فإن فيه من طريق حييى بن سعيد عن‬
‫الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت‪ :‬سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم يقول‪« :‬إذا سلمت اجلمعة سلمت األيام كلها‪ ،‬وما من سهل‪ ،‬وال جبل‪ ،‬وال يشء‬
‫إال وهو يستعيذ باهلل من يوم اجلمعة» أي خوف ًا من قيام الساعة فيها‪ ،‬وقد كان بعض كبار‬
‫الصحابة يظل طول يوم اجلمعة خائف ًا مرتقب ًا لقيام الساعة‪ ،‬وال حيصل له اطمئنان إال بعد‬
‫غروب شمسها‪ ،‬فهذا معنى احلديث ال ما ذكره الشارح ‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫الغزايل وابن اجلوزي واملنذري والنووي والذهبي و السيوطي رمحهم اهلل ‪.‬‬
‫فهذه الكتب حمذوفة األسانيد عسرية الكشف عن حاهلا فهي أحوج للتنبيه‬
‫عليها مع مراعاة ما يأيت‪:‬‬
‫‪ -1‬ثبوت دين أصحاهبا وورعهم وفضلهم وصالحهم بناء عىل األخذ‬
‫بتحسني الظن يف أمثاهلم ‪.‬‬
‫‪ -2‬ينظر فيها بناء عىل أهنا جارية عىل ما يسوغ رشعا ‪.‬‬
‫‪ -3‬عادة البرش النسيان ‪ ،‬وكام قيل‪َّ ( :‬‬
‫وإن العوائد لو مل تعترب أل ّدى إىل تكليف‬
‫ما ال ُيطاق) ‪.‬‬
‫‪ -4‬ال تنسى أنهّ م أهل ترشيع وأصل الترشيع سبب املصالح‪ ،‬فغايتهم‬
‫مصلحة العوام واخلواص ‪.‬‬

‫ مراده غالبا ليس هلا أسانيد صحاح وليس املراد أنه مل يصح فيها يشء بل صح الكثري‬
‫منه‪.‬‬
‫ أهل الترشيع هم العلامء الذين منحهم اهلل ملكات االجتهاد وجعلهم أئمة للعباد‪ ،‬أقطاب‬
‫لإلرشاد‪ ،‬أعالم زهاد‪ ،‬وظيفتهم َف ْه ُم العلوم الرشعية بالرباهني العقلية والنصوص‬
‫النقلية‪ ،‬عرفوا خبايا الفطرة وعالقات العبد بربه وبنفسه وبغريه‪ ،‬عرفوا أن العقل له‬
‫طاقة حمدودة‪ ،‬وأن يف النصوص معقول املعنى وثوابت ومتغريات‪ ،‬وفهموا الدالالت‬
‫والظنيات‪ ،‬واجتهدوا يف النصوص اخلالية من االحتامالت‪ ،‬فقدسوا‬ ‫ّ‬ ‫القطعيات‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫الظنيات‪ ،‬فأخرجوا فروع الفقه ومضبوط املسائل‪ ،‬وأحتفوا‬ ‫القطعيات واجتهدوا يف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫شمرين عن‬ ‫ُ ّ‬ ‫م‬ ‫تراهم‬ ‫زمان‬ ‫كل‬ ‫ويف‬ ‫الوسائل‪،‬‬ ‫بأقوى‬ ‫والنوازل‬ ‫األحداث‬ ‫وعاجلوا‬ ‫سائل‪،‬‬ ‫كل‬
‫السواعد مشتغلني باألصول والقواعد‪ ،‬يف كل زمان أحىل قالئد وأنظم فرائد‪َ ،‬يلجأ إليهم‬
‫اخلواص والعوام لمِ َا َم َّن اهلل عليهم من ضوابط اإلفهام‪ ،‬واحلرص التام عىل تعظيم املنهج‬
‫الرباين الذي جاء به سيد ولد آدم النبي العدناين‪ ،‬ل َيسعد به القايص والداين‪ ،‬واحلمد‬
‫السالم والشكر عىل الدوام مع التقلب يف‬ ‫هلل الذي جعلنا من أهل اإلسالم وأتباع نبي َّ‬
‫اإلنعام بلذة وانسجام مع أقامر الليايل وأنوار األيام‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫لكن العصبية آلراء املذهب واألهواء مرض بل مهلكة ‪ ،‬قال ابن تيمية يف كتابه‬
‫«الرد عىل البكري» ص ‪ : 20‬البيهقي يروي يف اجلهة التي ينرصها من املراسيل‬
‫واآلثار ما يصلح لالعتقاد وال يصلح لالعتامد ويرتك يف اجلهة التي يضعفها ما‬
‫هو أقوى من ذلك اإلسناد ‪.‬‬
‫قال أبو عمر السليامين ‪ :‬البيهقي ينترص لكل صغرية وكبرية صدرت من‬
‫الشافعي ‪ ،‬وقد ينتقده احلافظ يف «الفتح» أحيانا ويقلده أحيانا ‪.‬‬
‫يتأول‬
‫أما احلافظ الطحاوي احلنفي فقد سبقه يف التعصب ملذهبه حتى كان ّ‬
‫األحاديث لتوافق مذهبه وإن كان بِ ُب ْع ٍد وتكلف ‪ ،‬وقد حيذو حذوهم احلافظ يف‬
‫«الفتح» كام فعل يف أحاديث التيمم وأرسف يف التعسف لنرصة مذهبه‪.‬‬
‫والذي أريده هنا أنه ‪ -‬أي‪ :‬احلافظ ‪ -‬يف «تبيني العجب» قد سلك مسلك‬
‫التعصب و التضعيف ‪ ،‬خالف ما فعل يف «القول ا ُمل َسدَّ د لنرصة مسند أمحد»‬
‫أكتب ِمن فيض‬
‫َ‬ ‫رأيت ْ‬
‫أن‬ ‫و «نتائج األفكار» ‪ ،‬وبتوجيه األنظار وحترير األفكار ُ‬
‫العزيز الغفار هذه الرسالة ‪ ،‬التي فيها أحاديث نبو َّية محُ َّررة بقوانني وقواعد‬
‫أهل الصناعة احلديث َّية املضبوطة املشتهرة‪ ،‬وكذلك يف كتابنا هذا ترجيحات َمن‬
‫بذلت‬
‫ُ‬ ‫بحوث ُمن َّقحة وك ٌ‬
‫َشف حثيث ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُي ْعت ََمدُ عليهم يف احلُكم عىل احلديث‪ ،‬وفيه‬

‫ يف احلديث الذي أخرجه الشافعي يف «األم» ‪ 1/44‬عن إبراهيم بن حممد عن أيب احلويرث‬
‫عن األعرج عن ابن الصمة وذكر أيضا سند البيهقي إىل الشافعي ‪ .‬نجد أن احلافظ رمحه‬
‫اهلل تعاىل َّنبه عىل ضعف أيب احلويرث مع وجود متابع له وسكت عن شيخ الشافعي‬
‫إبراهيم بن حممد بن أيب حييى مع أن التنبيه هلذا األخري كان أوىل من التنبيه عىل ضعف‬
‫األول ألن شيخ الشافعي رماه أئمة اجلرح والتعديل بالكذب وذلك من أشد عبارات اجلرح‬
‫ـجرح بالكذب‪ .‬وذلك يومي بصحتها من ال علم له لعلة‬ ‫بخالف أيب احلويرث فإنه مل ُي َ‬
‫احلديث ؟! وهذا عناد وتعصب للمذهب‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫أن أكتبه جامع ًا للوارد يف موضوعه‪ ،‬حارص ًا للشارد يف‬ ‫فيه ُجهد ًا وفقني اهلل به ْ‬
‫ِ‬
‫خلدمة‬ ‫رشفهم‬ ‫ُ‬
‫وأسأل اهلل ْ‬
‫أن ينفعني به يف الدَّ ارين و َيكتبني مع َمن َّ‬ ‫جمموعه‪،‬‬
‫الع ْلم ونَشرْ ه وإظهار فضله وهو املسؤول وهو باإلجابة جدير‪ ،‬وهذا البدء يف‬ ‫ِ‬

‫املقصود بعون امللك املعبود‪.‬‬

‫احلديث األول‬
‫سول اهلل صىل اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫«أن َر َ‬
‫عن أيب هريرة ريض اهلل عنه ‪َّ :‬‬
‫َب اهلل َع َّز َو َج َّل له ِص َيا َم‬ ‫ين من َر َج ٍ‬
‫ب َكت َ‬
‫ِ‬
‫السابِ ِع وعشرْ ِ َ‬
‫َم ْن َصا َم َي ْو َم َّ‬
‫م َّم ٍد صىل اهلل عليه‬ ‫فيه ِج ُ‬
‫ربيل عىل حُ َ‬ ‫ِستِّني َشهر ًا وهو اليوم الذي هب َط ِ‬
‫ََ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫بالرسا َل ِة» ‪.‬‬
‫وسلم ِّ‬

‫قال احلافظ العراقي يف «ختريج اإلحياء» ‪ :209/2‬رواه أبو موسى املديني يف‬
‫كتاب «فضائل الليايل واأليام» من رواية شهر بن حوشب عنه ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قال أبو عمر السليامين فتح اهلل عليه ‪( :‬احلديث َح َس ٌن لذاته) بتت ُّبع الرواة‬
‫الصنعة احلديث َّية ‪ ،‬فرجال سند احلديث ‪ -‬وهم‬
‫باع يف َّ‬
‫والنظر يف سنده ملن له ٌ‬
‫حمور درجته ‪ -‬هم‪ :‬عيل بن سعيد بن قتيبة الرميل‪ ،‬و َم َطر بن َط ْهماَ ن َّ‬
‫الوراق‪،‬‬
‫وشهر بن حوشب‪.‬‬
‫فابن أيب محلة عيل بن سعيد بن قتيبة الرميل قد َحكَم صاحب االستقراء التام‬
‫رأيت أحد ًا اآلن‬
‫علمت به بأس ًا‪ ،‬وال ُ‬
‫ُ‬ ‫و َع َلم األعالم الذهبي اإلمام فيه بقوله‪( :‬ما‬
‫تكلم فيه‪ ،‬وهو صالح األمر‪،‬ولمَ ْ يخُ ِرج له أحد ِمن أصحاب الكتب الستة مع‬
‫يدل عىل تعديله بإتقان وإحكام ‪ ..‬انظر «امليزان» ‪. 125/3‬‬‫ثِ َقتِه) وهذا ُّ‬

‫‪91‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫الوراق فام قيل فيه َم ٌ‬


‫بعث لتعديله كام جاء عن أهل الصنعة؛ قال عنه‬ ‫وأ َّما َم َطر َّ‬
‫حل ّفاظ وصاحب االستقراء التام الذهبي‪( :‬ثقة تابعي)‪.‬‬
‫إمام ا ُ‬
‫وأقول‪ :‬لمَ ْ َيتَك َّلموا فيه إالَّ بأمرين مردودة‪:‬‬
‫حسنوا‬
‫حلفاظ َّ‬ ‫األول‪ :‬أنَّه (يسء احلفظ)‪ ،‬وهذا ليس بِ َج ْر ٍح ُمؤ ِّث ٍر ؛ َّ‬
‫ألن أكثر ا ُ‬
‫رواية َمن كان (يسء احلفظ)‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬وبعضهم قالوا (ضعيف يف عطاء)‪ ،‬ولمَ ْ يستقر رأهيم يف هذا‪ ،‬والرواية‬
‫هذه ليست عن عطاء‪.‬‬
‫والضعف الذي لمَ ُيذكر سببه مردود‬
‫َّ‬ ‫و َمن تَك َّل َم فيه إِ َّما ُمق ِّلد وإ َّما جامد‪،‬‬
‫باتفاق أهل الصنعة‪ ،‬والذهبي مع تَشدُّ ده و َت َعنُّته قال عنه يف «املغني» ‪:662/2‬‬
‫(ثقة تابعي)‪.‬‬
‫استقر رأي احلفاظ عىل حتسني حديثه‪ ،‬وقال‬
‫ّ‬ ‫وأما شهر بن حوشب فقد‬
‫احلافظ يف «تبيني العجب»‪ :‬وروينا يف جزء أيب معاذ الشاه املروزي يف فضائل‬
‫الوراق عن‬
‫رجب لعبدالعزيز الكتاين من طريق محزة عن أيب شوذب عن مطر ّ‬
‫شهر عن أيب هريرة ريض اهلل عنه وذكره وقال‪ :‬وهذا موقوف ضعيف اإلسناد ‪،‬‬
‫وهو أمثل ما ورد يف هذا املعنى‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬قال احلافظ الذهبي يف «معرفة الرواة املتكلم فيهم بام ال يوجب الرد» ص‬
‫ُ‬
‫‪ 51‬بعد أن ذكره ـ برقم (‪ )158‬ـ و َق َّّوى أمره بقوله ‪ْ :‬‬
‫شه ٌر من علامء التابعني‪،‬‬
‫و ّثقه أمحد وابن معني ‪ .‬وقال يف مقدمة الكتاب ‪ :‬فهؤالء حديثهم ْ‬
‫إن مل يكن يف‬

‫أهل اجلرح والتعديل ِمن ِو َفاق» للمؤلف‪.‬‬‫ص إليه ُ‬‫«الر َواق فيام َخ َل َ‬
‫ راجع َّ‬
‫ وحسبك بابن معني توثيقا؛ فكيف إذا انضم إليه توثيق أمحد؟ قال احلافظ الذهبي يف «ذكر‬
‫من يعتمد قوله يف اجلرح والتعديل» ص‪:172-171‬‬
‫«قسم منهم متعن ٌِّت يف التوثيق‪ ،‬متث ِّب ٌت يف التعديل‪ ،‬يغمز الراوي بالغلطتني والثالث‪،‬‬

‫‪92‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫أعىل مراتب الصحيح فال ينزل من رتبة احلسن ‪.‬‬


‫قلت ‪ :‬وبنظر رجال احلديث املع َتبرَ ين يكون سند احلديث َح َسن ًا‪.‬‬
‫ُ‬
‫خف ضبطه أو حصل اختالف من أئمة‬
‫وهذا (احلسن لذاته) وهو ‪ :‬ما َّ‬
‫اجلرح والتعديل يف عدالة الراوي فاملتصف بذلك هو املسمى (بالصدوق)‬
‫وخربه هو احلسن لذاته؛ وهو من أقسام املقبول يف األحكام وغريها إذا انفرد‬
‫تقوي الظن بصدقه‪ ،‬وارتفع الوهم عنه‬
‫باخلرب وليس له متابعات وال شواهد ِّ‬
‫يف خربه ‪ .‬فإذا ُوجدت له متابعات وشواهد مقبولة حيصل معها ذلك الظن‬
‫املطلوب‪ ،‬وارتفع خربه إىل أعىل درجات القبول املسمى (بالصحيح)‪ .‬وقد‬
‫حسن مراسيل‬
‫حسن احلافظ أحاديث شهر بن حوشب يف «الفتح» بل ّ‬
‫ّ‬
‫شهر بن حوشب ‪ ،‬وانظر «الفتح» ‪ ، 90/8‬وقد خيتلف اجتهاد احلافظ يف الراوي‪،‬‬
‫كام حصل هنا حيث قال احلافظ‪( :‬ضعيف) فأخطأ ‪ ،‬وال مانع أن يكون احلديث‬
‫بالرأي ‪ ،‬قال‬ ‫عن شهر بن حوشب مرفوعا وموقوفا‪ ،‬ال سيام ّ‬
‫أن مثله ال ُيقال ّ‬
‫احلافظ العيني يف «البناية» ‪ :‬إن الصحابة كانوا يقفون باحلديث تارة فال يرفعونه‬
‫وتارة يرفعونه وهذا ال يرضه‪ .‬وكام قال احلافظ يف «القول املسدد» ص‪ 53‬عند‬
‫ذكره حديث عبداهلل بن حنظلة ريض اهلل عنه‪ :‬ال مانع من أن يكون احلديث عن‬
‫عبداهلل بن حنظلة مرفوعا و موقوفا ‪.‬‬
‫تنزالً معه نقول ‪ :‬إن‬
‫ضعيف ‪ُّ .‬‬
‫ٌ‬ ‫أما قول احلافظ يف «التبيني» ‪ :‬إن احلديث‬
‫احلديث حسن لغريه؛ وهو ما رواه الضعيف الذي مل ُيتهم بكذب وال كان كثري‬
‫كثري الوهم أو فاحش اخلطأ‪ ،‬أ ّما‬ ‫ٍ‬
‫الوهم فاحش اخلطأ‪ .‬فسند احلديث ليس فيه راو ُ‬

‫بناج َذ ْيك‪َّ ،‬‬


‫ومتس ْك بتوثيقه‪...‬‬ ‫ض عىل قوله ِ‬ ‫و ُيلينِّ ُ بذلك حديثه‪ ،‬فهذا إذا و َّثق َش ْخص ًا َ‬
‫فع َّ‬
‫وابن معني وأبو حاتم ُ‬
‫واجل ْو َزقاين‪ :‬متعنِّتون» اهـ‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫إذا أخذنا بقول من َّ‬


‫شذ يف حكمه عىل شهر بن حوشب وعيل بن سعيد بن قتيبة‬
‫فإن هذا أيضا يرتفع بمتابعة َم ْن هو م ْثلهم أو شاهد يف ضعفهم ‪.‬‬
‫الوراق ّ‬
‫ومطر ّ‬
‫وقد ذكر احلافظ شاهد ًا له قال يف «تبيني العجب» ‪ :‬روينا جز ًء من فوائد هنَّاد‬
‫منكر إىل الزهري عن أنس قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه‬ ‫ٍ‬
‫بإسناد له ٍ‬ ‫النسفي‬
‫السابع والعرشين من رجب فمن صام ذلك اليوم كان‬ ‫وسلم ‪ُ « :‬بع ْث ُت نب ّيا يف ّ‬
‫كفارة ستني شهرا» أي ُب ِع ْث ُت إىل السامء حالة كوين نبيا‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬قوله (منكر) أي غريب ‪ ،‬وهو صالح بأن يعت َِضدَ به غريه ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ومما جيب أن ُيتن َّبه له ‪:‬‬
‫أ�ن حكم املحدِّثني باالنكار واال�ستغراب قد يكون بح�سب‬
‫ذلك الطريق‪ ،‬فال يلزم من ذلك رد منت احلديث ‪ ،‬كما قال‬
‫ال�سبكي وهو يف غاية ا إلفادة‪.‬‬
‫وقال ابن تيمية يف «اقتضاء الرصاط املستقيم» ص‪ :301‬إن احلديث إذا مل يعلم‬
‫أنه كذب‪ ،‬فروايته يف الفضائل أمر قريب‪.‬‬

‫احلديث الثاين‬
‫ب» (‪)3811‬‬ ‫و«الش َع ِ‬
‫ُّ‬ ‫روى البيهقي يف «فضائل األوقات» (‪)11‬‬
‫وكذا الديلمي ‪ :‬حديث سلامن ريض اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل‬
‫ك‬ ‫ب يو ٌم وليل ٌة َم ْن صا َم ذلك اليو َم وقا َم تِ ْل َ‬ ‫اهلل عليه وسلم‪« :‬يف َر َج ٍ‬
‫سنة ‪ ،‬وهو لِ َث ٍ‬ ‫كان كَمن صام من الدَّ ه ِر مائَة سن ٍَة وقام مائَة ٍ‬
‫الث‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ال َّليل َة َ َ ْ‬
‫ث حُممدٌ صىل اهلل عليه وسلم» ‪.‬‬ ‫وفيه ُب ِع َ‬
‫ب‪ِ ،‬‬ ‫ني من َر َج ٍ‬ ‫ِ‬
‫َبق َ‬

‫‪94‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫منكر‬
‫قال البيهقي ‪ :‬سنده أمثل ( أي‪ :‬ضعفه ُمـحتمل) ‪ ،‬وقال عنه احلافظ ‪ٌ :‬‬
‫إىل الغاية ‪ .‬وطعنه بهِ َ َّي ِ‬
‫اج بن بسطام اهلروي روى عن مجاعة من التابعني وض ّعفه‬
‫ابن معني ‪ .‬وقال أبو داود‪ :‬تركوه‪ .‬وقال صالح بن حممد احلافظ امللقب بجزرة‪:‬‬
‫اهل ّياج منكر احلديث ال ُيكتب من حديثه إالَّ حديثان أو ثالثة لالعتبار‪ .‬وقال‬
‫احلاكم أبو عبد اهلل‪ :‬وهذه األحاديث التي رواها صالح هبرا َة من حديث اهلياج‬
‫ُ‬
‫واحلمل فيها عليه‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫الذنب فيه البنه خالد‬
‫ُ‬
‫قلت ‪ :‬والعجب من احلافظ كيف ينتقد ابن اجلوزي يف ذكره اجلرح للراوي‬
‫ُ‬
‫وتركه التعديل ثم ُيق ِّلده هنا! مع أنه ذكراهلياج يف «التقريب» وقال عنه ‪ :‬ضعيف‪،‬‬
‫ونقل يف «التهذيب» عن أيب حاتم ‪( :‬يكتب حديثه وال حيتج به) ‪.‬‬
‫قول أيب حاتم ‪( :‬وال يحُ تج به) قد ر َّد احلفاظ عبارته هذه يف كثري من الرواة‬
‫أن ه َّياج منهم‪ .‬وقال أيض ًا‪ :‬روى عن املكي بن‬
‫األثبات الثقات‪ ،‬وال شك َّ‬
‫إبراهيم قال‪ :‬ما علمنا اهل ّياج إال ثقة صادقا عاملا‪ .‬وقال أبو حاتم حممد بن سعيد‬
‫بن هنّاد سألت حممد بن حييى الذهيل عنه فقال‪ :‬اهلياج عندنا ثقة وقال حييى بن‬
‫أمحد بن زياد واهلروي‪ :‬كل ما ُأ َ‬
‫نكر عليه من جهة ابنه ‪ّ ،‬‬
‫فإن اهل َّياج يف نفسه ثقة‪.‬‬
‫كذاو ّثقهمالكبنسليامنبقوله‪:‬كاناهل ّياجأعلمالنّاسوأرمحهموأجلهموأشجعهم‬
‫وأسخاهموأف َق َه ُهم‪.‬وذكرناتعديلاحلاكمله‪.‬فمن كان حاله هذا حسب قواعد أهل‬
‫لـم يكن حديثه حسنا لذاته فهو حسن لغريه ‪.‬‬
‫اجلرح والتعديل ‪ :‬إن ْ‬
‫أ ّما ابنه خالد ‪ ،‬فقد أجاب الذهبي يف «امليزان» عن جرحه وعدّ له بقوله ‪:‬‬
‫متامسك ‪ ،‬وذكره ابن حبان يف «الثقات» فحديثه صحيح عىل قاعدته وقاعدة‬
‫شيخه ‪ ،‬وكالم الذهبي ناسخ لكل عبارات اجلرح التي قيلت فيه‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫تنبيـه‬
‫قول أهل اجلرح عن الراوي‪ُ ( :‬يكتب حديثه وال حيتج به) أي ‪ُ :‬يكتب حديثه يف‬
‫تج به منفرد ًا يف األحكام‪ ،‬ثانيا‪ :‬وعندهم رأي‬
‫االعتبار ويف الفضائل والسري ‪ ،‬وال يحُ ُّ‬
‫آخر يف هذه القاعدة‪ُ :‬يكتب حديثه عند ا ُملتساهل وال يحُ تج به عند ا ُملتعنِّت‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬كالمهم هذا عام مخُ َّصص ‪ -‬أي كال ُم أهل اجلرح والتعديل ‪ -‬إالَّ أيب حاتم‬
‫حيث َّ‬
‫إن‬ ‫خاص ًا يف كالمه ( ُيكتب حديثه وال يحُ تج به) ُ‬ ‫فإن للحفاظ رأي ًا َّ‬‫الرازي َّ‬
‫ٍ‬
‫تَعنُّتَه وتَشدُّ ده جع َله يجَ رح ثقات أثبات ًا هبذه العبارة ‪ ،‬وقد ر َّد عليه ٌ‬
‫كثري من أهل‬ ‫‬

‫الصنعة ا ُملعتمدين؛ وراجع ما مجعه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة يف حتقيق جواب‬
‫احلافظ املنذري ‪ ،‬لذا نُن ِّبه من قرأ هذه القاعدة من أيب حاتم َأالَّ َيعتمد عليها‪ ،‬بل‬
‫عليه بقول غريه يف الراوي ‪ ..‬واهلل املستعان‪« .‬هذا من ناحية الصناعة والتنظري» أما‬
‫من ناحية التطبيق فهناك َب ْو ٌن؛ وهو أن كثري ًا من الفروع واألحكام رأينا أدلتها‬
‫ضعيفة ال يحُ تج هبا‪ ،‬بل ومنكرة بانفراد الضعفاء‪ ،‬وقد تكون واهية بأسانيد مظلمة‬
‫‪ ،‬فهذا عند املحدثني من حيث الصناعة مردود ‪ ،‬أما الفقهاء واألصوليون فيغضون‬
‫الطرف عن األحاديث الواهية والضعيفة واملنكرة عىل منهجهم عند إثبات النَّظر َّية‬
‫وإصدار احلُكم ‪ ،‬وكذلك َي َر ْو َن َّ‬
‫أن حاجة األخذ بالضعيف والواهي ملوافقته‬
‫للحالة التي يحَ تاجون إليها ‪ ،‬أو تكون ُملزمة لدرء نازلة أو إصالح أو مصلحة‬
‫ترشيع»‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مرسلة أو عموم بلوى ‪ ،‬لذا قالوا ‪« :‬حيث ما تكون مصلحة فثم َة‬

‫ قال احلافظ ابن تيمية يف «جمموع الفتاوى» ‪ : 350-349/24‬قول أيب حاتم ‪ :‬يكتب‬
‫مثل هذا يف كثري من رجال «الصحيحني» ‪ ،‬وذلك‬ ‫حديثه وال يحُ ت َُّج به ‪ .‬أبو حاتم يقول َ‬
‫(احل َّج ُة) يف اصطالحه ‪ ،‬ليس هو ُ‬
‫(احل َّج َة) يف اصطالح‬ ‫أن رشطه يف التعديل صعب ‪ .‬و ُ‬ ‫َّ‬
‫مجهور أهل العلم ‪ .‬وأبو حاتم من أصعب الناس تزكي ًة ‪.‬انتهى ‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫فصل‬
‫مل يتّهموا اهل ّياج إال برواية املناكري ‪ ،‬وقد قال احلافظ أبو الفيض‬
‫أمحد بن الصديق يف «فتح امللك العيل» صفحة ‪ : 93‬إهنم قد جيرحون الراوي‬
‫توسع باطل مردود)‪ .‬أيضا فقد نقل الذهبي عن‬
‫لكونه روى حديثا منكرا (وهو ّ‬
‫أمحد بن سعيد بن سعدان أنه قال يف أمحد بن عتّاب املروزي ‪ :‬شيخ صالح ‪،‬‬
‫روى الفضائل واملناكري ‪ -‬ثم تعقبه بقوله ‪ : -‬ما كل من روى املناكري ضعيف ‪ .‬ثم إن‬
‫الذهبي غفل عن هذا فذكر يف «امليزان» احلسني بن الفضل البجيل وقال ‪ :‬مل أر‬
‫فيه كالما لكن ساق احلاكم يف ترمجته مناكري ِعدّ ة ‪.‬‬
‫فتع ّقبه احلافظ يف «اللسان» وقال ‪ :‬ما كان لذكر هذا الرجل يف هذا الكتاب‬
‫معنى ‪ ،‬فإنه من كبار أهل العلم والفضل ‪ .‬ثم ساق ترمجته إىل أن قال ‪ :‬فلو كان‬
‫كل من روى شيئا منكرا استحق أن يذكر يف الضعفاء ملا سلم من املحدثني أحد‬
‫ال س ّيام املكثر منهم ‪ .‬اهـ ‪ .‬ثم إن احلافظ استدرك يف «اللسان» أئمة أجالء ال‬
‫ب االستكثار‪.‬‬ ‫موجب لذكرهم إالَّ الشرَّ َ ُه ُ‬
‫وح ُّ‬
‫قلت ‪ :‬واهل َّياج ممن وقع يف هذا ‪ .‬وقد ذكر اخلطيب يف «التاريخ» ‪ 82/14‬عن‬
‫ُ‬
‫أيب حاتم بن هنَّاد ‪ :‬أنه ‪ -‬أي اهل َّياج ‪ -‬حدَّ ث بالعراق واجتمع عليه مائَة ألف من‬
‫يتعجبون من فصاحته ‪ .‬وقال املكي بن إبراهيم ‪ :‬كانت ُفتْيا بغداد عليه ‪-‬‬
‫النّاس َّ‬
‫ما كان هبا ‪ -‬وحمدّ ثهم ‪ ،‬مل جيتمع ببغداد عىل أحد ما اجتمع عليه ‪ ،‬وكان أكربهم ‪.‬‬
‫وقال احلسني بن عمري األعمش ‪ :‬كان اهل ّياج بن بسطام ال ُي َمكِّن أحد ًا من حديثه‬
‫حتى َيط َع َم من طعامه ‪ ،‬كان له مائد ٌة مبسوط ٌة ألصحاب احلديث ‪.‬‬
‫وال ننسى َم ْن قد تك َّلموا يف الطرباين وأيب نعيم وابن منده واحلاكم ومجاع ًة من‬
‫املناكري أيضا ‪.‬‬
‫َ‬ ‫احلفاظ ألجل روايتهم‬

‫‪97‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫احلديث الثالث‬
‫وأخرج البيهقي يف «فضائل األوقات» (‪ )12‬عن أنس قال‪ :‬قال‬
‫ِ‬
‫للعامل فيها‬ ‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪« :‬يف َر َج ٍ‬
‫ب ليل ٌة ُي ْكت ُ‬
‫َب‬
‫ب ‪َ ،‬ف َمن صلىّ فيها‬ ‫لثالث َب ِقينْ َ ِمن َر َج ٍ‬‫ٍ‬ ‫حسنات مائَة َسن ٍَة ‪ ،‬وذلك‬ ‫ُ‬
‫ور ًة ِمن ال ُق ْر ِ‬
‫آن‬ ‫وس َ‬‫َاب ُ‬ ‫كل َر ْك َع ٍة َفاتحِ َ َة الكِت ِ‬
‫ا ْثنَت َْي َعشرْ َ َة َر ْك َع ًة َي ْق َر ُأ يف ِّ‬
‫آخ ِر ِه َّن ‪ ،‬ثم يقول ‪ُ :‬س َ‬
‫بحان اهلل وال إله‬ ‫كل ر ْكع َت ِ ويس ِّلم يف ِ‬
‫َيت ََش َّهدُ يف ِّ َ َ ينْ ُ َ ُ‬
‫صل عىل النبي صىل‬ ‫إال اهلل واهلل أكرب ما َئ َة َم ّرة ‪ ،‬ويستغفر ما َئ َة َم ّرة ‪ ،‬و ُي يِّ‬
‫أمر ُدنيا ُه وآخرتِ ِه‬
‫اء ِمن ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اهلل عليه وسلم مائَة َمرة ‪ ،‬و َيدعو لنفسه بام َش َ‬
‫ٍ‬
‫معصية»‬ ‫عاء ُه ُك َّله ‪ ،‬إال أن َيد ُع َو يف‬ ‫صبح َصائِ ًام ‪ّ ،‬‬
‫يستجيب ُد َ‬
‫ُ‬ ‫فإن اهلل‬ ‫و ُي ُ‬
‫ضعيف ‪.‬‬

‫قال البيهقي عقب روايته يف معرض مقارنته باحلديث املتقدم ‪« :‬اإلسناد الذي‬
‫قبله ‪ -‬أي سند اهلياج ‪ -‬أمثل منه» ‪ .‬وذكره يف «شعب اإليامن» ‪ 3812‬وقال ‪:‬‬
‫سنده أضعف من سند حديث سلامن ‪.‬‬
‫الـم َس َّمى «املغني»‪:‬‬
‫قال احلافظ العراقي يف ختريج أحاديث إحياء علوم الدين ُ‬
‫وذكر أبو موسى املديني يف كتاب «فضائل األيام والليايل» ّ‬
‫أن أبا حممد اخلبازي‬
‫رواه من طريق احلاكم أيب عبداهلل من رواية حممد بن الفضل عن أ َّبان عن أنس ‪،‬‬
‫وحممد بن الفضل وأ ّبان ضعيفان ‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫وهبذا يكون احلديث ضعيفا ال غري ‪ .‬كام قال احلافظان البيهقي والعراقي ‪.‬‬
‫وقال تلميذه احلافظ يف «تبيني العجب» ّ‬
‫بأن سنده مظلم ‪ .‬مع أن احلافظ أخرج‬

‫ مظلم يعني ‪ :‬منكر ‪ ،‬واهي ‪ ،‬مرتوك ‪ ،‬خملط ‪ ،‬متهم ‪ ،‬كذاب ‪ .‬واملنكر وما بعده مما ذكرنا ‪:‬‬

‫‪98‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫ورصح بأنّه ضعيف ‪،‬‬


‫ّ‬ ‫يف «نتائج األفكار» سند ًا فيه حممد بن الفضل بن عطية‬
‫قال يف «نتائج األفكار» ‪ : 152/1‬فرواه ‪ -‬سالم الطويل وحممد بن الفضيل بن‬
‫عطية ‪ -‬ومها ضعيفان أيضا ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ثم ال تنسى ّ‬
‫أن حممد بن الفضيل من رجال الرتمذي وهو أقل الكتب بعد‬
‫سنن النسائي وأيب داود حديثا ضعيفا ورجال جمروحا ‪ ،‬كذا قال احل ّفاظ ‪ ،‬منهم‬
‫احلافظ السيوطي رمحه اهلل يف «زهر الربى عىل املجتبى» ‪ .‬وقال احلافظ ابن رجب‬
‫رمحه اهلل يف «رشح علل الرتمذي» بعد كالم يف رشح رشط الرتمذي ما نصه ‪ :‬وال‬
‫خرج عن مته ٍم بالكذب ُم َّت َف ٍق عىل اهتامه حديث ًا بإسناد منفرد ًا ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫أعلم أنّه َّ‬
‫قال الذهبي يف «املغني» ‪ : 593‬حممد بن الفضل بن عطية املروزي مشهور ‪،‬‬
‫تركوه ‪ ،‬وبعضهم كذبه‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قاعدة ‪ :‬حديث املرتوك لي�س مو�ضوعاً‬
‫املرتوك ‪ :‬هو الذي يرويه املتهم بالكذب أو من عرف بالكذب يف كالمه وإن مل‬
‫يظهر منه وقوع ذلك يف احلديث النبوي ‪ .‬وإذا روى غريه من الرواة نفس احلديث‬
‫ارتفعت عنه التُّهمة وعلمنا أن احلديث له أصل‪ .‬وحديث حممد بن الفضل له‬
‫قوي ذكرته آنفا وهو احلديث األول‪ ،‬وشاهدٌ يعمل به‪.‬‬
‫شاهدٌ ٌّ‬
‫قال أبو عمر السليامين فتح اهلل عليه‪ :‬اجلرح عىل مخسة مراتب منها ‪:‬‬

‫من متابع وشاهد يزول إنكاره ويثبت أصله‪ ،‬أما الكذاب فكام قال بعض احلفاظ ‪ :‬ليس‬
‫كل ما يرويه الكذاب كذب ًا ؛ السيام إذا دلت القرائن وشهد الواقع بصدقه‪.‬‬
‫ وكون أن الرتمذي قال عنه يف «السنن»‪« :10/2‬ضعيف ذاهب احلديث عند أصحابنا»‪.‬‬
‫فأقول‪ :‬إن (ذاهب احلديث) ال يعني أن حديثه موضوع؛ ولكن إذا انفرد يكون حديثه‬
‫منكر‪ ،‬واملنكر ضعف نسبي إن جاء املتابع أو الشاهد يزول اإلنكار كام قال أهل‬
‫الصنعة‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫كذاب ‪ ،‬أو ِ‬
‫يكذ ُب ‪ ،‬أو فالن يضع احلديث ‪،‬‬ ‫(األوىل) وهي أسوأها أن يقال ‪ّ :‬‬
‫دجال‪.‬‬
‫وضاع ‪ ،‬أو وضع حديثا ‪ ،‬أو ّ‬
‫أو ّ‬
‫(الثانية) ُمتَّهم بالكذب أو الوضع ‪ ،‬أو فالن ساقط ‪ ،‬وفالن هالك ‪ ،‬وفالن‬
‫ذاهب احلديث ‪ ،‬أو ذاهب ‪ ،‬فالن مرتوك ‪ ،‬ومرتوك احلديث ‪ ،‬أو تركوه ‪ ،‬وفالن‬
‫فيه نظر ‪ ،‬وفالن سكتوا عنه ‪ ،‬فالن ال يعترب به ‪ ،‬أو ال يعترب بحديثه ‪ ،‬فالن ليس‬
‫بثقة ‪.‬‬
‫كذبوه ؛ ليس معناه أنّه ّ‬
‫كذاب ‪ ،‬بل‬ ‫(فقول أهل اجلرح) ‪ :‬فالن ليس بثقة أو َّ‬
‫دون ذلك كثريا ‪ -‬كام علمت – ولو كان معناه ذلك لكان يف املرتبة األوىل من‬
‫ألفاظ اجلرح ‪ ،‬وهم مل يذكروه إال يف أدنى املرتبة الثانية (فظهر من هذا) أن قوهلم‬
‫‪ :‬فالن كذبوه ليس يف قوة قوهلم كذاب فغاية حديث ( حممد بن الفضل بن عطية)‬
‫عىل قوهلم مرتوك ‪.‬‬
‫هذا إن س َّلمنا ّ‬
‫أن قوهلم ‪َّ :‬‬
‫كذبوه ‪ ،‬أي ‪ :‬اهتموه بالكذب أي ‪ :‬تركوا حديثه ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬أصبح حديثه منكر ًا ال موضوع ًا ‪ .‬وهبذا يظهر أن احلافظ العراقي حكم يف‬
‫«املغني» عىل حديث حممد بن الفضل وأ َّبان بالضعف ‪ ،‬وكذا احلافظ توقف يف‬
‫احلكم عىل حديث حممد بن الفضل يف «النّتائج» بالوضع ‪ ،‬بل ض َّعفه ال غري‪.‬‬
‫(ثم) انتـقاده ‪ -‬أي احلافظ ‪ -‬عىل ابن اجلوزي عندما حكم عىل حديث أيب عقال‬
‫وسينْ ِ َي ْب ُ‬
‫عث اهلل‬ ‫ُ‬
‫«عسقالن أحد ال َع ُر َ‬ ‫بالوضع يف «القول املسدد» ولفظ احلديث‪:‬‬
‫حساب عليهم» احلديث رواه أمحد مرفوعا‪.‬‬ ‫سبعني ألف ًا ال‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫القيامة‬ ‫منها يو َم‬
‫َ‬

‫ هو الذي يعرتف أنه يكذب؛ ألن التهمة ال تستقر حتى يعرتف املتهم هبا ‪ ،‬أما القرائن فهي‬
‫خاصة واملجتهد أحد اثنني إما خمطئ أو مصيب ‪ ،‬فإن كان مصيب ًا‬ ‫مبنية عىل اجتهادات َّ‬
‫حيتاج إىل إقرار املتهم إذا كان غري متو ِّفر وإن كان مخُ طئ ًا فاخلطأ مرجوع‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫وأورده ابن اجلوزي يف «املوضوعات» وأ َع َّله بأيب عقال وقال ‪َ :‬يروي عن أنس‬
‫أشياء موضوعة ‪.‬‬
‫فانتقده احلافظ ابن حجر بقوله ‪ :‬هذا احلديث يف فضائل األعامل والتحريض‬
‫الرباط وليس فيه ما خيرج عن املرشوع وال العقل ‪ ،‬فاحلكم عليه بالبطالن‬
‫عىل ِّ‬
‫ملجرد كونه من رواية أيب عقال ال يتّجه ‪ ،‬وطريق اإلمام أمحد معروفة يف التّسامح‬
‫يف أحاديث الفضائل دون األحكام ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قال النسائي عنه ‪ -‬أيب عقال ‪ -‬إنه ليس بثقة ‪ .‬ولعلك تفهم من قول‬
‫ُ‬
‫كذاب ُم ِقر بالكذب ‪.‬‬
‫النسائي (ليس بثقة) أنه َّ‬
‫وقال ابن حبان ‪ :‬روى أبوعقال عن أنس أشياء موضوعة‪.‬‬
‫(ونخرج بفائدة عظيمة يف الفن) َّ‬
‫أن املتهم بالكذب إذا َر َوى غريه من‬
‫الرواة ما رواه هو ؛ ارتفعت عنه التُّهمة وعلمنا ّ‬
‫أن احلديث من طريق له‬
‫أصل ؛ ألن املتهم قالوا عنه كذاب بالقرائن ‪.‬‬
‫وهلذا نرى يف كالم احلافظ ابن حجر رمحه اهلل يف حديث «عسقالن» (االستدالل‬
‫عىل ثبوته بالشواهد) ‪.‬‬
‫ولو كان أبو عقال كذاب ًا أو ّ‬
‫وضاعا ملا نفع يف ثبوت حديثه شاهدٌ مطلقا ‪،‬‬
‫وكذلك احلال يف حممد بن الفضل بن عطية والدّ ليل الثابت عىل قولنا هو ‪ :‬فعل‬
‫احلافظ البيهقي والعراقي وتلميذه ابن حجر عىل حديث حممد بن الفضل يف‬
‫«املغني» و «النتائج»‪.‬‬
‫أج ِر ِه» ‪ :‬وقد‬ ‫وقال ابن عدي يف «الكامل» يف حديث ‪َ « :‬م ْن َع َّزى ُمصاب ًا َف َل ُه ُ‬
‫مثل ْ‬
‫عيل بن عاصم وهو حممد بن الفضل بن عطية وعبد‬
‫رواه عن حممد بن سوقة غري ّ‬
‫الرمحن بن مالك بن معول‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫وقال الزركيش يف «ختريج أحاديث الرافعي» ‪ :‬وهذا كله يرد عىل ابن اجلوزي‪،‬‬
‫حيث ذكر احلديث يف «املوضوعات» ‪ :‬وقال ابن حجر يف «التخريج» ‪ :‬كل‬
‫املتابعني لعيل ابن عاصم أضعف منه بكثري وليس فيها رواية يمكن التعلق هبا‬
‫لكن مل يذكر منهم متّه ًام ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ولو وضعنا حديث «عسقالن» الذي فيه أبو عقال وحديث «ليلة سبع‬
‫ٍ‬
‫موازنة (سندا أو متنا) ؛ لرأينا‬ ‫وعرشين من رجب» الذي فيه حممد بن الفضل يف‬
‫أنه كان األجدر واألحرى باحلافظ أن يتبع شيخه يف احلكم عىل احلديث ألمور‪:‬‬
‫‪َّ .1‬‬
‫أن حديث حممد بن الفضل يف فضائل األعامل وهو من رجال الرتمذي‬
‫ومشهور ‪.‬‬
‫أن له شواهدَ ُت َق ِّو ِيه ‪.‬‬
‫‪َّ .2‬‬
‫‪ .3‬ال غراب َة يف متنه وال ركاك َة يف لفظه‪.‬‬
‫‪ .4‬عا ٌّم وال خمالف َة يف معنا ُه لألصول‪.‬‬

‫احلديث الرابع‬
‫َ‬
‫أراك‬ ‫رسول اهلل ِلمَ‬
‫َ‬ ‫عن أسامة بن زيد ريض اهلل عنهام قال‪ُ :‬ق ُ‬
‫لت يا‬
‫الناس‬
‫ُ‬ ‫شهر ُ‬
‫يغفل‬ ‫َ‬
‫«ذاك ٌ‬ ‫شعبان قال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫تَصو ُم من الشهور ما تَصو ُم يف‬
‫ورمضان» حديث حسن‬
‫َ‬ ‫عنه بني َر َج ٍ‬
‫ب‬

‫أخرجه النسائي ‪ ، 201/4‬وأمحد ‪ 201/5‬والبيهقي يف «فضائل األوقات»‬


‫(‪ )21‬و«شعب اإليامن» (‪ . )3820‬وقال احلافظ يف «تبيني العجب» قبل أن‬

‫‪102‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫َيذكر احلديث ‪ :‬إن أمثل ما ورد يف ذلك ما رواه النسائي من حديث أسامة بن‬
‫إشعار بأن يف رجب مشاهب ٌة برمضان‬
‫ٌ‬ ‫زيد (وبعد أن ذكر احلديث) قال‪ :‬فهذا فيه‬
‫ّ‬
‫وأن الناس يشتغلون من العبادة بام يشتغلون به يف رمضان ‪ ،‬ويغفلون عن‬
‫نظري ذلك يف شعبان ؛ لذلك كان يصومه ‪ .‬ويف ختصيصه ذلك الصوم إشعار‬
‫وأن ذلك كان من املعلوم امل َق َّرر لدهيم‪.‬اهـ‪.‬‬
‫بفضل رجب َّ‬
‫عمها‬
‫وروى البيهقي يف «فضائل األوقات» ‪ :‬عن جميبة الباهلية عن أبيها أو ّ‬
‫أنَّه أتى رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ثم انطلق وأتاه بعد سنة ‪ ،‬وقد تغيرَّ ت‬
‫ْت» قال ‪ :‬أنا‬
‫ف أن َ‬ ‫حا ُل ُه وهيئته ‪ ،‬فقال يا رسول اهلل َأو َما تعرفني ؟ قال ‪ِّ :‬‬
‫«عر ْ‬
‫الباهيل الذي جئت َُك َعا َم األول ‪ ،‬قال ‪« :‬فام َغيرَّ ك ‪ ،‬فقد كنت َح َسن اهليئة؟» قال‪:‬‬
‫ُّ‬
‫أكلت طعاما منذ فارقت َُك إال بليل ‪ ،‬فقال‪ :‬رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ما‬
‫الصرب ‪ ،‬ويوم ًا من كل شهر» قال ‪ :‬زدين ‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫«ص ْم شهر ّ‬‫« َع ّذ ْب َت َن ْف َس َك» ثم قال ‪ُ :‬‬
‫«ص ْم ثالث َة أ ّيام» قال‪:‬‬
‫قوة ‪ ،‬قال ‪ُ :‬‬ ‫ِ‬
‫يومني» قال ‪ :‬زدين ‪ ،‬فإن يب ّ‬ ‫«ص ْم‬
‫يب قوة ‪ ،‬قال ‪ُ :‬‬
‫واتر ْك ‪ُ ،‬صم‬ ‫ِ‬ ‫ِز ْدنيِ ‪َّ ،‬‬
‫الـح ُرم ُ‬
‫الـح ُرم واترك ‪ُ ،‬ص ْم من ُ‬ ‫‪«:‬ص ْم م َن ُ‬ ‫قوة قال ُ‬ ‫فإن يب ّ‬
‫فض ّمها ُث َّم ْأر َس َلها ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الثالث َ‬ ‫بأصابع ِه‬
‫ِ‬ ‫الـح ُرم واترك» فقال ‪:‬‬
‫من ُ‬
‫وذكره البيهقي (بإسنادين َج ِّيدَ ْي ِن) وقال َع ِق َبه ‪ :‬قال الشيخ ريض اهلل عنه ‪ :‬أمر‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم يف هذا اخلرب أمر استحباب أن يصوم من األشهر‬
‫احلرم بعضا ويرتك بعضا ‪ ،‬كذلك كان يصوم رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم من‬
‫هذه األشهر ‪.‬‬
‫وقال خامتة احلفاظ واملحققني يف «التبيني» ‪ :‬ومن ذلك ما رواه أبو داود يف‬
‫«السنن» برقم ‪( 2428‬وذكره) ثم قال ‪ :‬ففي هذا اخلرب ‪ -‬وإن كان يف سنده من‬
‫احلرم ‪.‬‬
‫ال يعرف ‪ -‬ما يدل عىل استحباب صيام بعض رجب ألنه أحد األشهر ُ‬

‫‪103‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫احلديث اخلامس‬
‫وأخرج البيهقي يف «فضائل األوقات» (‪ )308‬عن أنس ريض‬
‫«م ْن َصا َم ثالث َة أيا ٍم ِم ْن َش ْه ٍر‬
‫اهلل عنه عن النبي صىل اهلل عليه وسلم ‪َ :‬‬
‫ُتبت له ِعباد ُة سبعماِ ئَة ٍ‬ ‫اخلميس ُ‬
‫سنة‪ »..‬حديث‬ ‫َ َ ْ‬ ‫تك ْ‬ ‫واجل ُم َع َة َّ‬
‫والس ْب َ‬ ‫َ‬ ‫حرام‬
‫ضعيف‪.‬‬
‫قال يعقوب بن موسى ‪ُ :‬ص َّمت ُأذناي إن مل أكن سمعت راشد ًا ُ‬
‫يقول‪ ، ..‬وقال‪:‬‬
‫يقول‪ ،..‬وقال أنس ‪ُ :‬ص َّمت ُأذناي إن مل‬
‫ُص ّمت ُأذناي إن مل أكن سمعت أنَسا ُ‬
‫أكن سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ُ‬
‫يقول هذا ‪ ،‬قال حممد بن حييى‪ :‬وأنا‬
‫أقول‪ُ :‬ص ّمت ُأذناي إن مل أكن سمعت يعقوب ُ‬
‫يقول هذا‪.‬‬
‫قال أبو عمر السليامين فتح اهلل عليه‪ :‬قال العراقي ‪ :‬رواه األَزدي يف «الضعفاء»‬
‫من حديث أنس ‪ ،‬ورواه ابن شاهني يف «الرتغيب» ‪ ،‬وابن عساكر يف «التاريخ»‬
‫جل ُم َع َة َّ‬
‫والس ْب َت‬ ‫اخلميس وا ُ‬
‫َ‬ ‫وسنده ضعيف ‪ ،‬بلفظ ‪َ « :‬م ْن صا َم يف ك ُِّل َش ْه ٍر َح َرا ٍم‬
‫ب له ِعبا َد ُة َس ْبعماِ ئ َِة َسن ٍَة» ‪ .‬ورواه الطرباين يف األوسط من طريق يعقوب بن‬ ‫ِ‬
‫كُت َ‬
‫ب له ِع َبا َد ُة َسنَ َتينْ ِ » ‪ .‬ويعقوب‬ ‫ِ‬
‫موسى املديني عن َم ْس َل َمة عن أنس بلفظ ‪« :‬كُت َ‬
‫جمهول ومسلمة ضعيف ‪ .‬وقال تلميذه احلافظ ابن حجر يف «التبيني» صفحة‪30‬‬
‫ف وجماهيل ‪.‬‬
‫الرازي ويف سنده َض ْع ٌ‬
‫بعد أن ذكره ‪ :‬فرويناه يف فوائد متام ّ‬
‫قلت‪ :‬ليس فيه إال يعقوب بن موسى جمهول ‪ ،‬وقال احلافظ أبو الفيض أمحد بن‬
‫ُ‬
‫الصديق يف «املداوي» ‪ : 342/6‬وجدت احلديث يف «تاريخ واسط» ألسلم بن‬
‫سهل وذكر سنده وفيه «كُتب َل ُه ِع َبا َد ُة َسن ٍَة» ‪ ،‬وراشد بن معبد هذا اختلفوا فيه‬
‫وتناقض فيه ابن حبان فذكره يف «الثقات» ويف «الضعفاء» وقال ‪ :‬روى موضوعات‬
‫‪ .‬وقال أبو داود ‪ :‬ال بأس به‪ ..‬اهـ‪ .‬وقال احلافظ السيوطي رمحه اهلل يف الفتاوى‬

‫‪104‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫احلديثية «احلاوي» ص ‪ 419‬بعد أن ذكره ‪ :‬ليست هذه األحاديث بموضوعة بل‬


‫هي من قسم الضعيف الذي جتوز روايته يف الفضائل ‪( .‬وذكر) أيضا أن احلافظ‬
‫قال عنه ‪ :‬وهو أشبه وخمرجها حسن ‪ ،‬وإسناد احلديث أمثل من الضعيف قريب‬
‫من احلسن ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬مل َأره يف «تبيني العجب» فلعله يف كتاب آخر‪.‬‬
‫ُ‬

‫احلديث السادس‬
‫عن أنس رىض اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫اض ًا ِمن ال َّل َب ِن وأحىل من‬
‫ب أشدُّ َب َي َ‬ ‫قال له ‪َ :‬ر َج ٌ‬‫اجلن َِّة هَنر ًا ُي ُ‬
‫«إن يف َ‬
‫َّ‬
‫ب يوم ًا َس َقا ُه اهللُ ِمن ذلك الن َّْه ِر» أخرجه‬ ‫ال َع َس ِل‪َ ،‬من َصا َم ِمن َر َج ٍ‬
‫البيهقي يف «فضائل األوقات» (‪ )8‬بسند ضعيف‪.‬‬

‫قال خامتة احلفاظ ابن حجر يف «تبيني العجب» ‪ :‬لكن ال يتهيأ احلكم عليه‬
‫بالوضع ‪ .‬وقال احلافظ السيوطي يف «احلاوي» ‪ : 419/1‬من ِق ْس ِم الضعيف‬
‫الذي جتوز روايته يف الفضائل ‪ ،‬أخرجه أبو الشيخ ابن حبان يف «الصيام»‬
‫واألصبهاين وابن شاهني كالمها يف «الرتغيب» ‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫احلديث السابع‬
‫روى البيهقي يف «فضائل األوقات» (‪ )14‬عن أنس ريض اهلل عنه‬
‫‪«:‬الله َّم َب ِ‬
‫ار ْك لنا‬ ‫ُ‬ ‫رجب قال‬
‫ٌ‬ ‫أن النبي صىل اهلل عليه وسلم كان إذا دخل‬
‫عبان و َب ِّلغنا َر َم َ‬
‫ضان» حديث ضعيف‬ ‫وش َ‬ ‫يف َر َج ٍ‬
‫ب َ‬

‫ٌ‬
‫حديث ليس بالقوي ‪ -‬أي ‪ :‬مقبول ‪ -‬رواه‬ ‫قال احلافظ يف «تبيني العجب» ‪:‬‬
‫الرقاد ‪ ،‬روى عنه‬
‫يوسف القايض يف كتابه «الصيام» ‪ ،‬تفرد به زائدة بن أيب ُّ‬
‫مجاعة‪ ،‬قال البخاري ‪ :‬منكر احلديث ‪ .‬وقال احلافظ األملعي ابن رجب احلنبيل‬
‫بعد أن ذكره يف «لطائفه» ‪ :‬احلديث يدل عىل استحباب الدعاء بالبقاء إىل األزمان‬
‫الفاضلة إلدراك األعامل الصاحلة ‪ ،‬فإن املؤمن ال يزيدُ ه عمره إال خريا ‪ ،‬وخري‬
‫الناس من طال عمره وحسن عمله ‪.‬‬
‫وكان السلف يستحبون أن يموتوا عقب عمل صالح من صوم رمضان ‪ ،‬أو‬
‫رجوع من حج ‪ ،‬وكان ُيقال ‪ :‬من مات كذلك غفر له ‪ .‬وكان بعض العلامء‬
‫الصاحلني قد مرض قبل شهر رجب فقال ‪ :‬إين دعوت اهلل أن ّ‬
‫يؤخر وفايت إىل‬
‫شهر رجب فإنه بلغني َّ‬
‫أن هلل فيه عتقاء ؛ فبلغه اهلل ذلك ومات يف شهر رجب ‪.‬‬

‫احلديث الثامن‬
‫«أن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫عن أيب هريرة ريض اهلل عنه ‪َّ :‬‬
‫وشعبان» ‪.‬‬
‫َ‬ ‫رجب‬
‫َ‬ ‫رمضان إال‬
‫َ‬ ‫مل َي ُص ْم بعدَ‬

‫‪106‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫أخرجه البيهقي يف «الشعب» (‪ .)3803‬وقال احلافظ ‪ :‬منكر من أجل‬


‫قلت‪ :‬لكن له شاهد ؛ روى أبو يوسف‬
‫يوسف بن عطية ‪ ،‬فإنه ضعيف جدا ‪ُ .‬‬
‫القايض عن ابن أيب ليىل عن أخيه عيسى عن عبدالرمحن بن أيب ليىل عن عائشة‬
‫كان يصو ُم من كل شهر ثالث َة أ َّيا ٍم‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم َ‬
‫«أن َّ‬‫ريض اهلل عنها ‪َّ :‬‬
‫َ‬
‫وشعبان» ‪ .‬قال ابن رجب احلنبيل ‪ :‬ورواه‬ ‫ٍ‬
‫رجب‬ ‫‪ ،‬ور َّبام َّ‬
‫أخ َر ذلك حتى يقض َي ُه يف‬
‫عمرو بن قيس عن ابن أيب ليىل فلم يذكر فيه رجبا ‪ ،‬وهو أصح ‪.‬‬

‫احلديث التاسع‬
‫تضاعف احلسنات يف رجب‬
‫روى البيهقي يف «فضائل األوقات» (‪ : )9‬عن سعيد بن عبدالعزيز‬
‫عن أبيه قال ‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪َ :‬م ْن صا َم يوم ًا ِم ْن‬
‫ِ‬ ‫ت َعنه سبع ُة‬ ‫وم ْن َصا َم سبع َة أيا ٍم ُغ ِّل َق ْ‬ ‫ٍ‬ ‫َر َج ٍ‬
‫أبواب‬ ‫ب كان كصيا ِم سنة‪َ ،‬‬
‫وم ْن َصا َم‬ ‫أبواب َ ِ‬
‫ِ‬ ‫وم ْن صام ثامني َة أ َّيا ٍم ُفتِ َح ْ‬
‫ت له ثامني ُة‬
‫اجلنَّة ‪َ ،‬‬ ‫َج َهن ََّم‪َ ،‬‬
‫وم ْن َصا َم مخس َة َ‬
‫عرش‬ ‫وجل شيئ ًا إال أعطا ُه ‪َ ،‬‬ ‫عرش َة أيا ٍم مل َي ْس َأ ِل اهللَ ع ّز ّ‬
‫َ‬
‫العمل ‪ ،‬قد‬ ‫ف‬‫ف فاستأنِ ِ‬‫لك ما َس َل َ‬ ‫السامء ‪ :‬قد ُغ ِف َر َ‬
‫ِ‬ ‫مناد ِمن‬
‫يوم ًا نادى ٍ‬
‫ُك حسن ٍ‬ ‫ُبدِّ َل ْ‬
‫َات‪َ ،‬و َم ْن زَا َد زا َد ُه اهللُ» حديث ضعيف‪.‬‬ ‫ت َس ِّيئَات َ َ َ‬

‫ِ‬
‫ويف رجب حمُ َل ٌ‬
‫نوح يف السفينة ‪ ،‬فصام نوح عليه السالم وأمر من معه أن‬

‫‪107‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫يصوموا ‪ ،‬وجرت هبم السفينة ستة أشهر اىل آخر ذلك ‪ ،‬لعرش خلون من املحرم‬
‫‪ -‬كام جاء يف تتمة احلديث ‪.-‬‬
‫طرق وشواهدُ ضعيف ٌة ال‬
‫قال احلافظ السيوطي يف «احلاوي» بعد أن ذكره ‪ :‬له ٌ‬
‫تث ُب ُت ‪ ،‬إال أنه يرتقي عن كونه موضوعا‪.‬‬
‫وذكر يف «احلاوي» أيضا قبل أن ُيـجيب عن كل حديث ‪ :‬إنه من قسم الضعيف‬
‫الذي جتوز روايته يف الفضائل ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أورد طرقه يف «الآللئ املصنوعة» ‪ ، 116/2‬ومنها روى اخلطيب أنبأنا‬
‫ُ‬
‫الرزاز أنبأنا عثامن بن أمحد الر َّقاق حدثنا خلف بن احلسن بن َّ‬
‫حران‬ ‫عيل بن أمحد َّ‬
‫حل ْف ِري حدثنا فضالة بن حصني حدثنا‬
‫اجلزار ا َ‬
‫الواسطي حدثنا زكريا بن حييى َّ‬
‫أبو عبداهلل عن الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن أيب ذر‬ ‫رشدين‬
‫‬

‫مرفوعا (وقال بعد أن ذكره) ‪ :‬ال يصح؛ الفرات مرتوك ‪.‬‬


‫وهذا احلديث أورده احلافظ ابن حجر يف «أماليه» ومل َي ِس ْم ُه بوضع ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫هذا حديث غريب اتفق عىل روايته عن الفرات ابن السائب وهو ضعيف ‪.‬‬

‫الـحكم عىل حديث رشدين ‪ ..‬قال احلافظ ابن حجر يف (حديث الديك) ‪:‬‬ ‫ فائدة ‪ُ :‬‬
‫رشدين ضعيف ولكن مل يبلغ إىل أن حيكم عىل حديثه بالوضع ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال السيوطي ‪ :‬روى له الرتمذي وابن ماجه ‪ ،‬وقال فيه أمحد ‪ :‬ال يبايل عمن روى‪ ،‬ال‬
‫بأس به يف الرقائق‪ .‬وقال أيضا ‪ :‬أرجو أنه صالح احلديث ‪ .‬أما الذهبي فقال ‪ :‬كان عابدا‬
‫صاحلا يسء احلفظ ‪.‬‬
‫ضعف ُه من ِق َبلِ سوء حفظه ‪ ،‬أما يف الرقائق والفضائل‬
‫حس َن احلفاظ لكل من كان ُ‬
‫قلت ‪َّ :‬‬
‫ُ‬
‫فعىل مذهب أكثر احلفاظ حيسن حديث (يسء احلفظ) بدون توقف ونظر ‪ ،‬بل خلص‬
‫الطعن يف بعض رجال مسلم من قبل حفظهم‪ .‬كذا حتسني أيب داود والرتمذي واحلاكم‪،‬‬
‫وتصحيح الضياء وابن حبان وابن خزيمة لرجال يف حفظهم مقال ‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫ورشدين بن سعد واحلكم بن مروان ومها ضعيفان أيضا ‪ ،‬لكن اختلف عليه يف‬
‫اسم الصحايب ‪ ،‬ففي رواية رشدين عن أيب ذر ‪ ،‬ويف رواية احلكم عن ابن عباس‪،‬‬
‫فال أدري هل الغلط من أحدمها أو من شيخهام ‪ ،‬وميمون بن مهران قد أدرك ابن‬
‫عباس ومل يدرك أبا ذر ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ومن شواهده التي تثبت َّ‬
‫أن له أصال ما أخرجه احلافظ يف جزءه‬ ‫ُ‬
‫عن فوائد القايض وذكره بسند إىل خالد الزيات قال‪ :‬بلغنا أن نوح ًا ركب‬
‫السفينة أول يوم من رجب وقال ملن معه من اإلنس واجلن ‪( :‬صوموا هذا‬
‫النار عنه مسرية سنة ‪ ،‬ومن صام منكم سبعة‬ ‫ِ‬
‫اليوم ‪ ،‬فإنه َمن صام منكم َب ُعدَ ت ُ‬
‫أيام ُأغلقت عنه أبواب النريان السبعة ‪ ،‬ومن صام منكم ثامنية أيام فتحت له‬
‫أبواب اجلنة الثامنية ‪ ،‬ومن صام منكم عرشة أيام قال اهلل له ‪َ :‬س ْل ُت ْع َطه ‪ ،‬ومن‬
‫است َْأنف العمل فقد ُغ ِف َر لك ما مىض‪،‬‬ ‫صام منكم مخسة عرش يوما قال اهلل له ‪ْ :‬‬
‫ومن زاد زاده اهلل) ‪.‬‬
‫قال أمري املؤمنني يف احلديث احلافظ ابن حجر رمحه اهلل ‪ :‬هذا موقوف وسنده‬
‫ضعيف ‪ - .‬ولكن له حكم الرفع ‪. -‬‬
‫قلت ‪ :‬فيه عمرو بن مدرك القايض ضعيف ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقال إسحاق بن إبراهيم َ‬
‫الـختيل ‪ :‬حدثنا احلسني بن عيل بن يزيد الصدائي ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫رجب‬ ‫شهر‬ ‫حدثنا أيب ‪ ،‬حدثنا هارون بن عنرتة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عيل مرفوعا ‪َّ :‬‬
‫«إن َ‬
‫عظيم َم ْن َصا َم منه يوم ًا» وذكره ‪ ،‬قال السيوطي يف «الآللئ» ‪ :‬ال يصح‬
‫ٌ‬ ‫شهر‬
‫ٌ‬
‫هارون يروي املناكري ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هارون بن عنرتة قال عنه احلافظ يف «التقريب»‪ :‬ال بأس به ‪ .‬وقال احلافظ‬
‫ُ‬
‫الذهبي يف «املوقظة» صفحة ‪ : 81‬وقد قيل يف بعضهم ‪ ..‬فالن ليس به بأس ‪...‬‬

‫‪109‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫فهذه العبارات كلها جيدة ليست مض ِّع َف ًة حلال الشيخ ‪ ،‬نعم وال ُم َر ِّق َي ًة حلديثه إىل‬
‫درجة الصحة الكاملة املتفق عليها ‪ .‬اهـ‪ .‬وقال الذهبي يف «املغني» رقم ‪6700‬‬
‫عنه‪ :‬و َّثقه أمحد وابن معني ‪ -‬وكفى هبام توثيق ًا ‪. -‬‬
‫قلت‪ :‬روى عنه النسائي مع تعنته‪ ،‬لكن كأن السيوطي رأى غرابة يف متنه لكثرة أجر‬
‫ُ‬
‫صيام يوم من رجب ! مع أن إطالق احلديث القديس الصحيح «الصو ُم يل وأنا أجزي‬
‫به» يدل عىل أنه ال هناية وال حتديد ألجر الصيام‪ ،‬ويف احلديث داللة واضحة عىل‬
‫أن صوم رمضان أكثر أجر ًا من غريه‪.‬‬
‫وقد جاء يف فضل من صام عاشوراء أنه ُيك ِّفر سنة ‪ ،‬وصوم عرفة سنتني‪،‬‬
‫وصيام رمضان وستة أيام من شوال يعدل صيام الدهر الذي ال ُت َعدُّ وال‬
‫حتىص أ َّيامه كام جاء يف صحيح مسلم ‪ : 822/2‬عن أيب أيوب األنصاري‬
‫اك ِصيا ُم الدَّ هر» ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫شوال َف َذ َ‬ ‫ان ُث َّم أ ْت َب َع ُه ِستّا من‬
‫مرفوعا ‪َ « :‬م ْن َصا َم َر َم َض َ‬
‫ومن املنح اإلهلية ما جاء‪ :‬عن سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه قال‪ :‬قال رسول‬
‫أكل طعام ًا فقال ‪ :‬احلمدُ هلل الذي أ ْط َع َمنِي هذا‬ ‫اهلل صلىَّ اهلل عليه وس َّلم ‪َ « :‬م ْن َ‬
‫ول ِمنِّي وال ُق َّو ٍة ُغ ِف َر له ما َت َقدَّ َم ِمن َذنْبِ ِه» رواه الرتمذي ‪،‬‬ ‫َو َر َز ْقنِ ْي ِه ِم ْن ِ‬
‫غري َح ٍ‬

‫وقال ‪ :‬حسن غريب‪.‬‬


‫وكذلك ما جاء ‪ :‬عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل‬
‫ٍ‬
‫حجة‬ ‫يش كان ك ََم َن َح َّج مائَة‬ ‫اهلل عليه وسلم ‪« :‬من س َّب َح اهلل ما َئ ًة بالغداة وما َئ ًة بال َع ّ‬
‫س يف َس ِ‬
‫بيل اهلل ‪ -‬أو‬ ‫ِ‬
‫بالغداة وما َئ ًة بال َعشيَ ِّ كان ك ََم ْن حمَ َ َل ما َئ َة َف َر ٍ‬ ‫‪ ،‬و َم ْن حمَ ِدَ اهلل ما َئ ًة‬
‫بالغداة وما َئ ًة بال َعشيِ ِّ َ‬
‫كان ك ََم ْن أ ْعت ََق ما َئ َة‬ ‫ِ‬ ‫قال ‪َ :‬غ َزا ما َئ َة َغ ْز َو ٍة ‪ -‬و َم ْن َه َّل َل اهللَ ما َئ ًة‬
‫يأت يف ذلك اليو ِم‬ ‫ر َقب ٍة من و َل ِد إسامعيل‪ ،‬ومن َك اهللَ ما َئ ًة بال َغدَ ِاة وما َئ ًة بالعشيِ مل ِ‬
‫َ ِّ‬ ‫ْ برَّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫قال ِم ْث َل ما قال أو َز ا َد عىل ما قال» ‪ .‬رواه الرتمذي‬ ‫بأكثر مما أتى به إال َم ْن َ‬ ‫َ‬ ‫َأ َحدٌ‬

‫‪110‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫وقال ‪ :‬حديث حسن غريب‪ .‬واألحاديث يف هذا الباب ال تعد وال حتىص‪.‬‬
‫ِ‬
‫رسول اهلل‬ ‫«أقبلت مع‬
‫ُ‬ ‫ونختم كالمنا بحديث أيب هريرة ريض اهلل تعاىل عنه قال ‪:‬‬
‫ال يقرأ ‪ :‬ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ‬
‫صىل اهلل عليه وسلم فسمع رج ً‬
‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ [اإلخالص‪ ]٤ - ١ :‬فقال‬
‫جلنَّ ُة‪.‬‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل ؟ قال ‪ :‬ا َ‬ ‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪َ :‬و َج َب ْت‪ .‬فسأل ُت ُه ‪ :‬ماذا يا‬
‫الر ُج ِل ُفأ َبشرِّ َ ُه ‪ ،‬ثم َف ِر ْق ُت أن يفوتَنِي الغدا ُء‬
‫أذهب إىل َّ‬
‫َ‬ ‫فأردت ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫قال أبو هريرة ‪:‬‬
‫ِ‬
‫الرجل فوجد ُت ُه‬ ‫ذهبت إىل‬
‫ُ‬ ‫فآثرت الغدا َء ‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫مع رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫قد َذ َهب» ‪ .‬رواه اإلمام مالك والنسائي والرتمذي واحلاكم وصححه ‪.‬‬

‫احلديث العارش‬
‫الدعاء ‪:‬‬ ‫فيهن‬ ‫«مخس ٍ‬
‫ليال ال ُي َر ُّد َّ‬ ‫عمر ريض اهلل عنهام قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عن ابن َ‬
‫النصف من شعبان ‪ ،‬وليلتا‬ ‫ِ‬ ‫وأول ٍ‬
‫ليلة من َر َج ٍ‬
‫ب ‪ ،‬وليل ُة‬ ‫اجل ُم َع ِة ‪ُ ،‬‬
‫ليل ُة ُ‬
‫العيدين» ‪.‬‬
‫رواه البيهقي يف «فضائل األوقات» (‪ )149‬بسند ضعيف ‪ ،‬وعبدالرزاق يف «مصنفه»‬
‫‪ ،317/4‬وذكره احلافظ ابن رجب يف «لطائف املعارف» ‪ :‬عن عمر بن‬
‫عبدالعزيز‪.‬‬
‫وقال أمري املؤمنني وخامتة املحققني سيدنا احلافظ بن حجر العسقالين يف‬
‫كتابه «تبيني العجب»‪ :‬وقال اإلمام الشافعي بلغنا أنه كان يقال ‪ :‬إن الدعاء‬

‫ انظر هذا القول ملوالنا اإلمام الشافعي يف كتابه «األم» ‪ ،264/1‬وذكره عنه احلافظ‬
‫البيهقي يف «السنن الكربى» ‪ ، 319/3‬ويف «فضائل األوقات» ص‪ ، 313‬ويف «معرفة‬
‫السنن واآلثار» ‪ ، 67/3‬واإلمام النووي يف «املجموع» ‪ ، 34/5‬ويف كتابه «روضة‬
‫الطالبني» ‪ ، 582/1‬واحلافظ يف «تلخيص احلبري» ‪ .. 19/5‬وغريهم ‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫يستجاب يف مخس ليايل ‪( .‬فذكره) ‪.‬‬


‫وإلمتام الفائدة نذكر َخربين يف فضل رجب‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫ِِ‬
‫السن ُة‬
‫واألرض‪َّ ،‬‬
‫َ‬ ‫السموات‬ ‫استدار ك ََه ْي َئته يو َم َخ َل َق اهللُ َّ‬
‫َ‬ ‫الز َ‬
‫مان قد‬ ‫وسلم‪ّ :‬‬
‫«إن َّ‬
‫ثالث متواليات‪ُ :‬ذو ال َقعدَ ِة‪ ،‬و ُذو ِ‬
‫احل َّجة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ٌ ُ‬ ‫عرش شهر ًا‪ ،‬منها أربع ٌة ُح ُر ٌم ‪،‬‬ ‫اثنا َ‬
‫شهر ُمضرَ ؛ الذي بني جمُ ا َدى وشعبان»‪.‬‬ ‫ب ُ‬ ‫وا ُمل َّ‬
‫حرم ‪َ ،‬و َر َج ٌ‬
‫وعن ابن عباس يف قوله عز وجل‪ :‬ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ‬
‫ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ‬
‫ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﮊ [ التوبة‪.]٣٦ :‬‬
‫قال‪ :‬ال تظلموا أنفسكم يف ُك ِّل ِه َّن ‪ ،‬ثم اخت َّ‬
‫َص من ذلك أربع َة أشهر‪ ،‬فجعلهن‬
‫واألجر‬
‫َ‬ ‫الصالح‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫والعمل‬ ‫أعظم ‪،‬‬
‫َ‬ ‫الذنب فيه َّن‬
‫َ‬ ‫ُح ُرم ًا‪ ،‬وع َّظم حرماهتن‪ ،‬وجعل‬
‫أعظم)‪ .‬إسناده حسن‪.‬‬
‫َ‬

‫ أخرجه أمحد ‪ ،‬و البخاري‪ ،‬ومسلم ‪ ،‬وأبو داود ‪ ،‬والبيهقي يف الشعب كام أخرجه أيض ًا‬
‫يف السنن ‪.‬‬
‫ أخرجه ابن جرير يف التفسري‪ ،‬وابن املنذر ‪ -‬كام عزاه له الشوكاين ‪ ، -‬وابن أيب حاتم يف‬
‫التفسري‪ ،‬والبيهقي يف الشعب ‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫اخلامتة‬
‫نسأل اهلل ُح ْسنها‬
‫الفائدة األوىل‬

‫وظائف رجب‬
‫األوىل ‪( :‬فضل الصيام يف رجب)‬
‫ذكرت فيه فصال كامالً‪ ،‬إال أين َأر َغب أن أنقل هنا ما ذكره احلافظ ابن‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫رجب يف فضل صيام رجب؛ حيث قال‪ ( :‬وقد كان بعض السلف يصوم‬
‫األشهر احلرم كلها ‪ ،‬منهم ابن عمر واحلسن البرصي وأبو إسحاق السبيعي‪.‬‬
‫أحب إ َّيل أن أصوم فيها) ‪.‬‬
‫وقال الثوري‪ :‬األشهر احلرم ُّ‬
‫وعن قيس ابن ع ّباد‪ :‬ليس يف األشهر احلرم شهر إال يف اليوم العارش منه خري؛‬
‫قال ‪ :‬ففي العارش من ذي احلجة النحر يوم احلج األكرب ‪ ،‬ويف املحرم العارش‬
‫عاشوراء ‪ ،‬ويف العارش من رجب ﮋ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﮊ[ الرعد‪.]٣٩ :‬‬
‫احلج ‪ -‬أو قال ‪-‬‬ ‫ِ‬
‫أشهر ِّ‬ ‫وروى خالّد الصفار عن «مسلم» ‪ :‬صيا ُم يو ٍم من‬
‫يعدل شهر ًا ‪ ،‬وصيام يو ٍم من غري األشهر احلر ِم ِ‬
‫يعدل عرش ًا ‪.‬‬ ‫األشهر احلرم ُ‬
‫ُ‬
‫(نحوه) لكنَّه قال ‪( :‬من ا ُمل َح َّرم) فيحتمل أنه أراد جنس‬
‫ُ‬ ‫ور ِو َي عن النخعي‬
‫ُ‬
‫ور ِو َي معناه مرفوعا من حديث أنس ‪ ،‬وإسناده ضعيف‬
‫املحرمة ‪ُ .‬‬
‫َّ‬ ‫األشهر‬
‫جدا‪.‬‬
‫الثانية ‪( :‬فضل َّ‬
‫الذ ْب ِح يف رجب)‬
‫يف سنن أيب داود والنسائي وابن ماجه عن خمنف بن سامل الغامدي أن النبي‬
‫أهل ك ُِّل ٍ‬
‫بيت يف ِّ‬
‫كل عا ٍم أضحي ًة أو‬ ‫صىل اهلل عليه وسلم قال بعرفة ‪« :‬إن عىل ِ‬
‫َعتِريةً»‬

‫‪113‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫(الر َجبِ َّية)‪.‬‬


‫وهي املشهورة باسم َّ‬
‫وممِ َّ ْن قال إهنا مستحب ٌة اب ُن سريين ‪ ،‬وحكاه اإلمام أمحد عن أهل البرصة ‪،‬‬
‫ورجحه طائفة من أهل احلديث املتأخرين ‪ ،‬ونقل حنبل عن أمحد نحوه‪.‬‬
‫َّ‬
‫ذبائح يف‬
‫َ‬ ‫نذبح‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل ُكنّا ُ‬ ‫(قلت ‪ :‬يا‬
‫ُ‬ ‫و عند النسائي عن أيب رزين ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فنأكل و ُن ْط ِع ُم َم ْن جاءنا ‪ ،‬فقال رسول اهلل صىل اهلل‬
‫ُ‬ ‫اجلاهلية ‪-‬يعني يف رجب‪-‬‬
‫ٌ‬
‫حديث حس ٌن ‪.‬‬ ‫بأس به )‬
‫عليه وسلم ‪ :‬ال َ‬
‫املنهي عنه هو‬
‫َّ‬ ‫قلت‪ :‬واجلمع بني هذا احلديث وحديث «ال َف ْر َع وال َعتِريةَ» أن‬
‫ُ‬
‫ما كان يفعله أهل اجلاهلية من َّ‬
‫الذ ْب ِح لغري اهلل ‪.‬‬
‫ِ‬
‫االعتامر يف رجب)‬ ‫(سنِّ َّي ُة‬
‫الثالثة ‪ُ :‬‬
‫ٍ‬
‫رجب ‪ ،‬وكانت أم‬ ‫استحب عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه وغريه االعتامر يف‬
‫َّ‬
‫املؤمنني عائش ُة تفع ُل ُه ‪ ،‬بل نَقل ابن سريين عن السلف أهنم كانوا يفعلونه‪.‬‬
‫الرابعة ‪َّ :‬‬
‫(الزكا ُة يف رجب)‬
‫فم ْن‬
‫شهر زكاتكم ‪َ ،‬‬
‫وجاء عن عثامن أنه خطب الناس عىل املنرب فقال‪ ( :‬إن هذا ُ‬
‫كان عليه َد ْين فليؤ ِّد دينه َو ْل ُي َز ِّك ما بقي) ‪ .‬رواه مالك يف «املوطأ»‪.‬‬

‫الفائدة الثانية‬
‫املجالس يف احلجاز‬
‫جمالس تعقد يف أيام حمدودة يف كل أسبوع للصالة عىل سيدنا رسول اهلل‬
‫الـمنيفة ؛ وظيف ٌة أقام‬ ‫ِ‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقراءة سريته الرشيفة ومناقبه ُ‬
‫اهلل عليها طائف ًة من عباده الصاحلني وأعظِم هبا من وظيفة‪ .‬وقد اعرتض‬
‫عليها فئتان ‪:‬‬

‫‪114‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫الـمتشدِّ دون هم الذين َي ِض ْي ُقون ذرع ًا هبا و َيدَّ عون أن أهلها‬


‫األوىل ‪ُ :‬‬
‫مبتدعون‪.‬‬
‫يستخ ُّفون هبا عند احلديث عنها وجيزمون بأن لقا ًء فِك ِْر ّي ًا تتم فيه‬
‫ِ‬ ‫الثانية ‪:‬‬
‫ُ‬
‫أفضل منها‪.‬‬ ‫مناقشة إحدى مشكالت املسلمني‬
‫أما الفئة األوىل ‪ :‬فقد رد عليهم ابن تيمية يف «اقتضاء الرصاط املستقيم» حيث‬
‫كثري من الذين ينكرون هذه األشياء ‪ -‬أي املجالس واالجتامعات ‪-‬‬
‫قال ‪ٌ ( :‬‬
‫زاهدون يف جنس عبادة اهلل من العلم النافع والعمل الصالح أو يف أحدمها ‪ ،‬ال‬
‫قوهتم‬
‫حيبوهنا وال يرغبون فيها لكن ال يمكنهم ذلك يف املرشوع فيرصفون َّ‬
‫‪ -‬أي‪ :‬إنكارهم ‪ -‬إىل هذه األشياء ‪ -‬أي املجالس واجتامعات الصاحلني املباركة‬
‫وإحياء بعض الليايل ‪. -‬‬
‫وقال بعد كالم ُمن ِْتقد ًا هلم‪ ( :‬منكرون للمرشوع وغري املرشوع) ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أما قوله غري املرشوع ‪:‬‬
‫ُ‬
‫أي ‪ :‬األعامل املبتدعة وهي كثرية ‪ ،‬وتنقسم إىل قسمني‪ :‬إىل حسنة وقبيحة‪ ،‬وكام‬
‫قال اإلمام الشافعي رمحه اهلل تعاىل كام ذكره احلافظ يف «فتح الباري»‪: 17/10‬‬
‫عن حرملة بن حيي قال ‪ :‬سمعت الشافعي رمحه اهلل تعاىل يقول ‪:‬‬
‫وافق السن َة فهو حممو ٌد ‪،‬‬
‫( البدعة بدعتان ‪ :‬بدعة حممودة وبدعة مذمومة فام َ‬
‫و ما خالف السنة فهو مذموم)‪ .‬وذكر سيدي عبداهلل بن الصديق رمحه اهلل عن‬
‫سلطان العلامء العز بن عبدالسالم من كتاب «القواعد» ‪ :‬البدعة منقسمة إىل‬

‫ ألهنم ُيريدون نص ًا رصحي ًا عىل جوازها ويرفضون ما يدخل حتت األصل العام ‪ ،‬وال‬
‫ترده شبه ‪.‬‬
‫ أي الذي أصبح معمو ً‬
‫ال به وأمر ًا مرشوع ًا إما باستدالل نص ظاهر رصيح أو بدليل عقيل‬
‫كاالستحسان واملصلحة املرسلة ‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫ُعر َض‬
‫واجبة وحمرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة قال ‪ :‬والطريق يف ذلك أن ت َ‬
‫البدعة عىل قواعد الرشيعة فإن دخلت يف قواعد اإلجياب فهي واجبة ‪ ،‬أو‬
‫يف قواعد التحريم فمحرمة ‪ ،‬أو الندب فمندوبة ‪ ،‬أو املكروه فمكروهة ‪ ،‬أو املباح‬
‫فمباحة‪ ..‬وذكر أمثلتها‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬وقد وافق اإلما َم الشافعي يف ذلك ُ‬
‫أكثر العلامء منهم ابن حزم وابن‬
‫األثري والغزايل ‪ ،‬وقال ابن رجب احلنبيل يف «قواعد األحكام» ص ‪( : 204‬املراد‬
‫بالبدعة ‪ :‬ما أحدثت مما ال أصل له يف الرشيعة يدل عليه ‪ ،‬أما ما كان له أصل من‬
‫الرشع يدل عليه فليس ببدعة رشعا وإن كان بدعة لغة) ‪.‬‬
‫وقال العز ابن عبدالسالم يف «قواعد األحكام» يف البدعة ‪ ( :‬فِ ْع ُل ما مل ُيعهد يف‬
‫عهد النبي صىل اهلل عليه وسلم) ‪.‬‬
‫وقال شارح «املشكاة» ‪ ( :‬وكل ما وافق أصول سنة أو قواعدها أو قيس عليها‬
‫فهو بدعة حسنة‪ ،‬وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضالل) ‪ .‬وإىل هذا االجتاه مال‬
‫سلطان العلامء (العز بن عبدالسالم والنووي وأبو شامة) كام جاء يف «البدعة»‬
‫عزت عيل عط ّية‪.‬‬
‫للدكتور َّ‬
‫ولنذكر بعض األدلة املؤ ِّيدة للبدعة احلسنة‪ :‬فهذا القرآن يؤيدها ‪ :‬أخرج سعيد‬
‫بن منصور يف «سننه» قال‪ :‬حدثنا هشيم ثنا زكريا بن أيب مريم اخلزاعي سمعت‬
‫أبا ُأمامة حيدث ‪ :‬قال ‪ ( :‬إن اهلل كتب عليكم صيام رمضان ومل يكتب عليكم‬
‫قيامه ‪ ،‬وإنام القيام يشء ابتدعتموه ‪ ،‬فدوموا عليه وال ترتكوه ؛ فإن ناسا من بني‬
‫إرسائيل ابتدعوا بدعة ابتغاء رضوان اهلل فعاتبهم اهلل برتكها ثم تال ﮋ ﮓ‬
‫اكتسبت‬
‫ْ‬ ‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮊ [احلديد‪ .]٢٧ :‬وعىل ذلك فالرهبانية بدعة‬
‫ُح ْسنها بإقرار اهلل تعاىل هلا ‪ ،‬ولو مل يرد هذا اإلقرار لكانت بدعة مذمومة ‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫(فائدة) الرهبانية ‪ :‬ال�ضغط على النف�س للو�صول �إىل‬


‫ر�ضى اهلل تعاىل والتقرب �إليه ‪.‬‬
‫قال احلافظ يف «الفتح» ‪ : 795/3‬أخرج ابن أيب شيبة بإسناد صحيح عن‬
‫احلكم بن األعرج عن األعرج قال ‪ :‬سألت ابن عمر عن صالة الضحى ‪ -‬أي يف‬
‫ِ‬
‫ونعمت البدع ُة هي)‪.‬‬ ‫السفر ‪ -‬فقال‪( :‬بدع ٌة ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بدعة ضالل ٌة» فهي البدعة املصادمة‬ ‫تنبيه‪ :‬أما البدعة التي يف احلديث ُّ‬
‫«كل‬
‫للسنة‪ .‬وقيل ‪ :‬هي التي ال دليل هلا من الرشع بطريق خاص وال عام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وإحياء هذه الليلة وغريها‪ ،‬واالجتامعات واملجالس ‪ ،‬هي بدعة حسنة‬
‫ُ‬
‫أد ّلتها مستفيضة‪ ،‬حتّى أن الشيخ ابن تيمية ذكر بعض أد ّلتها فقال يف «اقتضاء‬
‫الرصاط» ص‪ : 303‬إن االجتامع لصالة تطوع أو استامع قرآن أو ذكر اهلل ونحو‬
‫ذلك إذا كان يفعل أحيانا فحسن فقد صح عن النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫التطوع يف مجاعة أحيانا ‪ ،‬وخرج عىل أصحابه وفيهم من يقرأ وهم‬
‫ّ‬ ‫«أنّه صلىّ‬
‫يستمع) ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يستمعون ‪ ،‬فجلس معهم‬

‫أمثلة للبدع السيئة‬


‫وهي التي حدثت يف العقائد وما شاهبها خمتصة بأصول الدين ‪ ،‬كبدعة إنكار‬
‫جربي يعتقد ‪ ( :‬أن العبدَ‬
‫ٌّ‬ ‫القدر ‪ ،‬وبدعة اجلهمية أتباع جهم بن صفوان وهو‬
‫جمبور يف أفعاله ‪ ،‬ال قدر َة له وال إراد َة وال اختيار)‪ .‬وبدع ُة اخلوارج وهم َف ِر ٌق‬
‫ٌ‬
‫ربي من عثامن وعيل ريض اهلل عنهام‪ .‬وبدعة القاديانية أتباع‬
‫جيمعهم القول بالت ِّ‬
‫غالم أمحد القادياين ظهر يف أوائل القرن وزعم أنه نبي ‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫قال سيدي عبداهلل بن الصديق ‪ -‬بل وغريه أيض ًا ذكر هذا ‪ -‬بعد ذكرها‪ :‬هذه‬
‫نامذج من املحدثات يف أصول الدين ‪ ،‬وهي وما شاهبها من أقوال الفرق الضالة‪،‬‬
‫ليس‬ ‫أحدث يف ِ‬
‫أمرنا هذا َما َ‬ ‫َ‬ ‫يتنزل عليها قول النبي صىل اهلل عليه وسلم ‪َ « :‬م ْن‬
‫ّ‬
‫منه فهو َر ٌّد» ‪.‬‬
‫بدعة املتشددين املعارصين ‪ :‬املتشددون املعارصون الذين يكيلون الكفر‬
‫بال ُق ْف َزان للمؤمنني بكل جرأة؛ وما علموا أهنم هم الذين يبوؤون بالكفر‬
‫حقيقة ألهنم ك َّفروا املؤمنني‪ ،‬كام جاء يف احلديث الذي أخرجه الشيخان عن ابن‬
‫فإن َ‬
‫كان كام‬ ‫ِ‬
‫ألخيه‪ :‬يا كافر ‪ ،‬فقد با َء هبا أحدُ مها ؛ ْ‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫عمر مرفوع ًا‪« :‬إذا َ‬
‫قال‬
‫قال و إال َر َج َع ْت عليه»‪ .‬وبعضهم حيمل اآليات الواردة يف الكفار واملرشكني عىل‬
‫املؤمنني املوحدين‪.‬‬
‫وقد جاء يف «املوافقات» للشاطبي‪ ،‬عند كالمه عىل وجوب معرفة سبب‬
‫نزول اآليات ‪ :‬روى وهب عن بكري أنه سأل نافعا‪ :‬كيف كان رأي ابن عمر يف‬
‫رشار خلق اهلل ‪ ،‬إهنم انطلقوا إىل آيات ُأنزلت يف الكفار‬
‫ُ‬ ‫احلرورية ؟ قال ‪( :‬هم‬
‫فجعلوها عىل املؤمنني) ‪ .‬قلت‪ :‬رواه البخاري‪ ..‬وغريه‬
‫قال أبو عمر السليامين فتح اهلل عليه‪ :‬وهكذا ر َأينا املتشددين؛ كام يدل عليه رأي‬
‫ابن عمر ريض اهلل عنهام يف احلرورية‪َّ ،‬‬
‫ألن العلة متحدة كام هو ظاهر واضح‪،‬‬
‫وإن التفرقة هي‬ ‫ثم إن فعلهم هذا يبذر بذور الشقاق والتفرقة بني املسلمني‪َّ ،‬‬
‫جابر مرفوعا‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الوسيلة الوحيدة التي ت ُْضعف املسلمني ‪ ،‬وكام جاء يف حديث َ‬
‫اجلامعة رمح ٌة ‪ ،‬ويف ال ُف ْر َق ِة‬
‫ِ‬ ‫خري مما حت ُّبون يف ال ُف ْر َق ِة ‪ ،‬ويف‬ ‫َ‬
‫تكرهون يف اجلامعة ٌ‬ ‫«وما‬

‫ القفيز ‪ :‬مكيال‪ ،‬وهو ثامنية مكاكيك عند أهل العراق‪ ،‬واجلمع أقفزة أو ُقفزان وهو من‬
‫األرض قدر مئة وأربع وأربعني ذراعا‪ .‬انظر «لسان العرب» ‪.395/5‬‬

‫‪118‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫عذاب»‪ .‬رواه الدَّ ْيلمي بسند ضعيف‪.‬‬


‫ٌ‬
‫ِ‬
‫باجلامعة وإياكم والفرق َة» صححه الرتمذي‪ .‬وهي‬ ‫وعن عمر مرفوعا «عليكُم‬
‫الوسيلة التي َينال هبا االستعامر أغراضه‪ .‬وعن جماهد يف قوله تعاىل ‪ :‬ﮋ ﭙ‬
‫[هود‪]١١٩ :‬‬ ‫ﭚ ﭛ ﮊ [هود‪ : ]١١٨ :‬قال أهل الباطل ﮋ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﮊ‬
‫قال ‪ :‬أهل احلق ليس بينهم اختالف‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي يف األصول‪ ،‬وأما الفروع فأمر ي ْتبع األعراف ا ُمل ِ‬
‫ختلفة واالجتهادات‬ ‫ُ‬
‫ٌ َ َ‬
‫املتباينة يف األدلة الظنية‪.‬‬
‫وكام قال الشاطبي يف «االعتصام» ‪ :413/2‬أخرب سبحانه أنهَّ م ال يزالون‬
‫مخُ تلفني أبد ًا‪ ،‬مع أنَّه خلقهم لالختالف ‪ ،‬وهو قول مجاعة من املفرسين‪..‬‬
‫وقال أيض ًا – أي الشاطبي ‪ :-‬إن اهلل حكم بحكمته أن فروع هذه امل َّلة وأن هذا‬
‫ٌ‬
‫وجمال للظنون‪ ،‬وقد‬ ‫مظهر من مظاهر رمحة اهلل قابل ٌة لألنظار‬
‫ٌ‬ ‫االختالف املرشوع‬
‫ثبت عن النُّ َّظار أن النظريات ال يمكن االتفاق عليها عادة‪ ..‬اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما أمجل ما قال من فتحه رمحه اهلل؛ فالظن َّيات عريقة يف إمكان االختالف؛‬
‫ُ‬
‫لكن يف الفروع دون األصول‪ ،‬ويف اجلزئيات دون ال ُك ِّل َّيات‪ .‬فلذلك ال يرض هذا‬
‫االختالف‪ ..‬وأختم كالمه بزبدة بدايته‪( :‬وأن مجاعة من السلف الصالح جعلوا‬
‫اختالف األ َّمة يف الفروع رضب ًا من رضوب الرمحة)‪..‬‬
‫مهمة» ذكرها من ِّظم الترشيع و ُم ِّ‬
‫تذوق التحقيق الشاطبي‪ ،‬عندما قال‬ ‫«فائدة َّ‬
‫يف «االعتصام» أحىل كالم يف هذا الباب لفقيه جليل إمام‪ ..‬فقال‪ :‬ما روي عن‬
‫القاسم بن حممد القائل ‪« :‬لقد نفع اهلل باختالف أصحاب رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم يف العمل؛ ال يعمل العامل بعمل رجل منهم إال رأى أنَّه يف سعة»‪..‬‬
‫وروى ابن وهب عن القاسم‪ ،‬قال‪ :‬لقد أعجبني قول عمر ابن عبد العزيز‪:‬‬

‫‪119‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫«ما أحب أن أصحاب حممد صىل اهلل عليه وسلم ال خيتلفون؛ ألنَّه لو كان قوال‬
‫واحدا لكان الناس يف ضيعة‪ ،‬وأنهَّ م أئمة ُيقتدى هبم‪ ،‬فلو أخذ رجل بقول‬
‫‬
‫أحدهم كان سنة»‪..‬‬
‫وأقول ك ُّفوا املالم واسمعوا كالم اإلمام الشاطبي يف «االعتصام» ‪:417/2‬‬
‫«فوسع األ َّمة – املرحومة – بوجود اخلالف الفرعي فيهم‪ ،‬فكان فتح لألمة‬
‫للدخول يف هذه الرمحة» ‪ ..‬ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﮊ [البقرة‪.]٢٨٦ :‬‬
‫أما الفئة الثانية‪ :‬فقد رد عليهم حكيم األمة شيخ اإلسالم ابن عطاء اهلل ؛ فقال‪:‬‬
‫أظهر اهلل فيه) من‬ ‫ِ‬
‫غري ما َ‬‫( ما ت ََرك من اجلهل شيئا من أراد أن ُيـحدث يف الوقت َ‬
‫ِ‬
‫والصالة عىل سيد البرش ‪ ،‬أو سام ِع سرية حبيب اهلل صىل اهلل عليه‬ ‫جمالس الذكر ‪،‬‬
‫وسلم ‪ ،‬فإذا كان املنتقدُ للوظائف الدنيوية التي أقام اهلل عليها طائف ًة من عباده مل‬
‫َّج ُه بالنقد إىل من وفقهم اهلل لذكره‬‫يرتك من اجلهل شيئا ‪ ،‬فام بالك بحال من يت ِ‬

‫وشكره واإلكثار من الصالة عىل نبيه‪.‬‬


‫ماسة ملجالس اإليامن والذكر ؛ َّ‬
‫ألن هذه‬ ‫وهلذا فإن هؤالء املنتقدين يف حاجة ّ‬
‫املجالس حصون منيعة ضد تلك التيارات العاصفة؛ بل هناك عواصف األهواء‬
‫والـمتع والشواغل الدنيو ّية هلا خ َطر عىل املسلم ؛ ألهنا تُنيس الضوابط واألحكام‬
‫ُ‬
‫التي رشعها اهلل وتُقسيّ القلوب‪ ،‬فاملجالس هذه تُر ِّقق القلوب و تطوع النفوس‬
‫وهتيء األرواح وتبعد العواصف‪ ،‬ومن أعظم فوائد الروحات وجمالس الصالة‬

‫ وذكر هاتني الروايتني احلافظ السخاوي يف «املقاصد» ص‪ 70‬بألفاظ ُأخر‪ :‬عن‬
‫القاسم بن حممد‪ ،‬قال‪« :‬اختالف أصحاب حممد صىل اهلل عليه وسلم رمحة لعباد اهلل»‪..‬‬
‫رسين لو أن أصحاب حممد‬
‫ومن حديث قتادة‪ :‬أن عمر بن عبد العزيز كان يقول‪« :‬ما َّ‬
‫صىل اهلل عليه وسلم مل خيتلفوا؛ ألنهَّ م لو مل خيتلفوا مل تكن رخصة» ‪..‬‬

‫‪120‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫ُنمي يف القلب حمبة اهلل وتعظيمه واخلوف‬


‫عىل النبي صىل اهلل عليه وسلم أهنا ت ِّ‬
‫منه ‪ ،‬وهذه املجالس َذكَرها احلسن البرصي فقال ‪ ( :‬فيها دعوة جمابة) واحلديث‬
‫املشهور ‪« :‬أنهَ ْ َل ُك وفينا الصاحلون ؟»‪.‬‬
‫ال عن اهلل مه ً‬
‫ال ؛ فلوال ُع ّبا ٌد رك ٌّع‬ ‫ويف مسند البزار عن أيب هريرة مرفوعا ‪( :‬مه ً‬
‫ب عليكم العذاب َص َّبا)‪ .‬ولبعضهم يف املعنى‪:‬‬ ‫لص َّ‬‫وهبائم ُرت ٌّع ُ‬
‫ُ‬ ‫وأطفال ُر ّض ٌع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َوص ْب َي� ٌة م� َن ا ْل َيتَا َم�ى ُر َّض ُ‬
‫�ع‬ ‫�والَ ع َب�ا ٌد لإلل�ه ُرك ُ‬
‫َّ�ع‬ ‫َل ْ‬
‫ِ‬ ‫ومهم ٌ ِ‬
‫اب ا ُمل ْو ِج ُ‬
‫�ع‬ ‫ُ�م ا ْل َع َ‬
‫�ذ َ‬ ‫�ب َع َل ْيك ُ‬
‫ُص َّ‬ ‫ـ�ي ال َفلاة ُرت ُ‬
‫َّ�ع‬ ‫لات ف ْ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫فهذا دليل واضح نعلم منه علم اليقني أن كثري ًا من املصائب واملحن تدنو؛‬
‫بل تطوف بالبلد ثم إن اهلل عز وجل يرصفها عنها بفضل هذه املجالس‪ ،‬جاء يف‬
‫وو َل ِد ِه و ُذ ِّر ِّيتِ ِه و َم ْن َحو َله)‪ .‬ويف‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الصالح ع ْن أهله َ‬ ‫ِ‬
‫بالرجل‬ ‫يدفع‬
‫ُ‬ ‫األثر َّ‬
‫(إن اهلل‬
‫الع َباد إ َّيل املتحا ُّبون بجاليل ‪ّ ،‬‬
‫املشاؤون‬ ‫بعض اآلثار يقول اهلل عز وجل‪َ « :‬أحب ِ‬
‫ُّ‬
‫املاشون عىل أقدامهم إىل اجلم ِ‬
‫عات» ويف رواية «املتع ِّلق ُة‬ ‫يف األرض بالنصيحة ‪ُ ،‬‬
‫ُُ‬
‫ٍ‬
‫عذاب بأهل‬ ‫َ‬
‫إنزال‬ ‫أردت‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫باألسحار ‪ ،‬فإذا‬ ‫َ‬
‫واملستغفرون‬ ‫قلوبهُ م باملساجد ‪،‬‬
‫العذاب عن الناس»‪.‬‬
‫َ‬ ‫رصفت‬
‫ُ‬ ‫فنظرت إليهم‬
‫ُ‬ ‫األرض‬

‫وقال مكحول ‪( :‬ما دام يف الناس مخس َة َ‬


‫عرش يستغفر كل منهم اهلل كل يوم‬
‫تعم ُهم ـ)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫مخس ًا وعرشي َن مرة مل هي َلكوا‬
‫بعذاب عا َّمة ـ أي‪ُّ :‬‬
‫وقال بعض السلف ‪ :‬ولوال من يذكر اهلل يف غفلة الناس هللك الناس‪.‬‬
‫رأى مجاعة من املتقدمني يف منامهم كأن مالئكة نزلت إىل بالد شتى فقال‬
‫بعضهم لبعض ‪ :‬اخسفوا هبذه القرية فقال بعضهم ‪ :‬كيف نخسف هبا وفالن‬
‫فيها قائم ُيصليِّ ‪ .‬واآلثار يف هذا املعنى كثرية‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬

‫النتيجة‪ :‬قال احلافظ الزاهد العارف الويل ابن رجب احلنبيل يف «لطائف‬
‫املعارف» ص ‪ : 212‬أن املنفرد بالطاعة عن أهل املعايص والغفلة قد ُيدفع به‬
‫البالء عن الناس كلهم ‪ ،‬فكأنه حيميهم ويدافع عنهم ‪.‬‬
‫فهذه املجالس تفيض باخلري و جيتمع فيها من الصاحلني و تُرفع فيها من‬
‫الدعوات وتتنزل عليها الرمحات ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أما مشكالت العامل اإلسالمي فلها املتخصصون وإدارات البحوث‬
‫واملجمعات الفقهية أو العلامء املتفرغون للبحث الذين تبدأ رتبتهم من ُمـحضرِّ‬
‫َّ‬
‫النصوص وحمرر العبارة ‪ ،‬وتنتهي بالعامل النحرير ( الذي مجع التحرير والتقرير)‪:‬‬
‫وهم فئة ألبسهم اهلل رداء العلم وجعله شغلهم الشاغل ‪ ،‬نفعنا اهلل هبم وحرشنا‬
‫يف زمرهتم ‪.‬‬

‫ت ََّم وباخلري َع َّم ‪ُ ،‬‬


‫أسأل اهلل أن يسلك يب وبكم يف قبول النصح سبيل التصديق‬
‫مر دائرة اإلسالم واإليامن بام يوجب له الفوز‬
‫واالذعان ‪ ،‬وجيعلني وإياكم ممَّن َع َ‬
‫باجلنان ورىض الرمحن ‪ ،‬ويوقفنا ِمن رس هذا الشهر الكريم عىل فوائده ‪ ،‬وجيعلنا‬‫ِ‬

‫ِمن احلارضين مع الصادقني يف العمل والنية عىل واسع موائده ‪ ،‬وجيعل القبول‬
‫وجهة توجهناها ‪ ،‬ويف كل أمن َّي ٍة طلبناها ‪ ،‬بوجاهة سيد األولني‬
‫ٍ‬ ‫قرين ًا لنا يف كل‬
‫واآلخرين صىل اهلل عليه وآله وصحبه أمجعني ‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني ‪.‬‬
‫رجب اخلري ‪1424‬هـ ‪.‬‬

‫ ِمن دعاء اإلمام العارف باهلل احلبيب عيل بن حممد بن حسني احلبيش قدس اهلل روحه‬
‫ونفعنا به ‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫ﭑﭒﭓ‬

‫احلمد هلل عىل ما أنعم وأهلم وع َّلم ‪ ،‬وصىل اهلل وسلم وبارك عىل سيدنا حممد‬
‫املع ِّلم للناس اخلري وعىل آله ذوي الفيض األكرم‪.‬‬
‫أما بعد ؛ فهذا بحث مل ُأسبق ‪ -‬واحلمد هلل ‪ -‬إليه ‪ ،‬وال ُغل ْب ُت ‪ -‬واملنة هلل‬
‫السابع والعرشين من رجب هي‬ ‫‪ -‬عليه ‪ ،‬حيث أين ُأثبت ‪ -‬بتوفيق اهلل ‪ -‬فيه أن ّ‬
‫فيض‬
‫ليلة إرساء سيد األنبياء واملرسلني ومعراج حبيب رب العاملني ‪ ،‬وما هو إال ُ‬
‫أساس ُه َمنَار ‪ ،‬ومتنه أنفاس األبرار‪.‬‬ ‫اهلبات وعط ّي ُة ِّ‬
‫رب الرب ّيات ُ‬
‫وكام قال العلامء األخيار ‪ :‬املؤ َّلفات تتفاضل بفخامة األرسار ‪ ،‬ال بضخامة‬
‫والثمر ال باهلدَ ر ‪.‬‬
‫َ‬ ‫وبالز ْهر‬
‫األسفار ‪َّ ،‬‬
‫ف اإلنسان يدُ ُّل عىل فضله ‪ ،‬ونقصه عنوان ‪.‬‬
‫وقال أهل املعرفة والبيان ‪ُ :‬م َؤ َّل ُ‬
‫وقال أهل الورع والزهد ‪ :‬من طلب عيبا َو َجدَ ‪ ،‬ومن افتقدَ َز َل َل أخيه بعني‬
‫الرضا َف َقدْ َف َقدَ ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫الكامل ٌ‬
‫حمال لغري ذي اجلالل وعىل اهلل االتكال يف املبدأ واملآل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وخامتة املقال ‪:‬‬
‫ومواهب‬
‫َ‬ ‫وحيسن أن نستشهد بقول ابن مالك ( إذا كانت العلوم ِمنَح ًا إهلي ًة‬

‫اختصاصي ًة ُ‬
‫فغري مستبعد أن ُيدّ خر لبعض املتأخرين ما َعسرُ َ فهمه عىل كثري من‬
‫املتقدمني) ومن اهلل استمد اإلعانة والتوفيق ‪.‬‬
‫راجي عفو ربه احلنان املنان قديم اإلحسان‬
‫أبو عمر عبدالعزيز بن عرفة السليامين‬

‫‪127‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫املسلك األول‪:‬‬
‫يف أن السابع والعرشين من رجب هي ليلة اإلرساء واملعراج‬
‫(متهيد) ‪ :‬من املعلوم و املقرر يف أصول الفقه ‪ :‬أنه ال جيوز االعتامد والعمل عىل‬
‫أقوال األئمة املتعارضة يف مسألة‪ .‬كام أن املعلوم املقرر عند العلامء‪ :‬أن العمل‬
‫والفتوى ال جيوز أن تكون بغري الراجح واملشهور‪.‬‬
‫واتفق األصوليون عىل أن الراجح‪ :‬ما َق ِو َي دلي ُله ‪.‬‬
‫واملشهور‪ :‬ما َك ُث َر قائله ‪ .‬كام قال ابن احلاجب ‪.‬‬
‫فإن كان اجلمع بينهام ممكن ًا وجب املصري إليه‪.‬‬
‫وراجح ْ‬ ‫ٌ‬ ‫مشهور‬
‫ٌ‬ ‫ثانيا‪ :‬إذا تعارض‬
‫وصل‬‫السبيل الوحيد الـم ِ‬
‫ُ‬ ‫وإذا تعارضا ‪ -‬أي ‪ :‬الدليالن ‪ُ -‬يقدَّ م الراجح ؛ ألنه‬
‫ُ‬
‫إىل معرفة الصواب من اخلطأ عند تعارض األقوال وتناقضها ‪ :‬ويكون هو الدليل‬
‫ح ّق ًا‪ .‬وهذا قول القايض ابن العريب يف «أحكام القرآن»‪.‬‬
‫قال أبو عمر السليامين‪ :‬فإن مل يوجد الراجح يؤخذ باملشهور من األقوال‬
‫الـمنازع‪.‬‬ ‫ويكون دلي ً‬
‫ال لعدم ُ‬

‫فصل‬
‫حررناه وأحطت ُخبرْ ا بام ذكرناه و َب َّينَّا ُه فاعلم‪ :‬أن العلامء قد‬
‫إذا تقرر لديك ما ّ‬
‫اختلفوا يف وقت املعراج إىل عرشة أقوال كام قال احلافظ ‪ ..‬منها‪:‬‬
‫• جزم ابن العريب حيث قال ‪ ( :‬كان يف ربيع اآلخر قبل اهلجرة بسنة)‬
‫ورجحه ابن املنري ‪.‬‬
‫َّ‬
‫• جزم الواقدي أنه كان يف رمضان وكذا عن أيب سمرة ‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫شوال ‪.‬‬
‫• واستنتج احلافظ من قول ابن فارس أنه كان يف ّ‬
‫• وقيل ‪ :‬يف رجب ‪ ،‬حكاه ابن عبدالرب وجزم به النووي يف «الروضة» (إهنا‬
‫الليلة السابعة والعرشين من رجب) وإليه ذهب ابن األثري والرافعي ‪.‬‬
‫قال العالمة الكوثري يف «مقاالته» ص‪ : 416‬ومن قال ‪ :‬إهنا قبل سنة ونصف‬
‫من اهلجرة يكون يرى هذا الرأي مثل ابن قتيبة وابن عبدالرب ‪ّ ،‬‬
‫ألن اهلجرة‬
‫كانت يف ربيع األول فالسنة قبلها من صفر إىل صفر تراجعا ‪ ،‬والستة األشهر‬
‫قبلها من املحرم إىل شعبان بالرتاجع فتكون األيام الثالثة عن آخر رجب غري‬
‫مذكورة تُركا لكرس الطرفني وعىل ذلك ُع ِم َل ‪.‬‬
‫وبالغ ابن حزم فنقل اإلمجاع ؛ ألنه قال ‪ ( :‬كان يف رجب) ‪ -‬وذلك‬
‫باالستقراء أو بام ظهر له باألدلة الراجحة ‪ -‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫ور ِو َي عن القاسم بن حممد أن اإلرساء بالنبي صىل اهلل عليه وسلم (كان يف‬
‫• ُ‬
‫السابع والعرشين من رجب) ‪.‬‬
‫وكذلك تبعهم املحدث مجال الدين كام َن َقل عنه امل َّ‬
‫ال عيل قاري يف «رشح‬
‫الشفا» ‪.‬‬
‫نتيجة‪ :‬إذا نظرت يف هذه املقدمات متنقال من األوىل إىل الرابعة عىل الرتتيب‬
‫خرجت ال حمالة بالنتيجة القائلة‪( :‬إن اإلرساء كان يف رجب)‬
‫َ‬ ‫الذي ذكرناه؛‬
‫وذلك عمال بقاعدة (األخذ باملشهور عند انعدام الراجح) وهو األخذ باألكثر‪.‬‬

‫ أي‪ :‬يف رجب‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫املسلك الثاين‪:‬‬
‫يف أن السابع والعرشين من رجب هي ليلة اإلرساء واملعراج‬
‫يتكون من حديثني ‪..‬‬
‫ِ‬
‫السامء‬ ‫(األول) األصل املطلق‪ :‬حديث اإلرساء املشهور؛ وفيه‪« :‬فلام ُ‬
‫جئت إىل‬
‫ُ‬
‫جربيل ‪ .‬قال ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫خلازن السامء‪ :‬افت َْح‪ .‬قال ‪َ :‬م ْن هذا ؟ قال ‪ :‬هذا‬ ‫الدنيا قال جربيل‬
‫هل معه أحدٌ ؟ قال‪َ :‬نعم معي محُ َمدٌ صىل اهلل عليه وسلم ‪ .‬فقال‪َ :‬أ ُأ ِ‬
‫رس َل إليه؟‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ‬
‫قال ‪ :‬نعم» ‪.‬‬
‫(الثاين) أ ّما النص املق ِّيد‪ :‬فهو حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه؛ أخرجه أبو‬
‫موسى املديني بسند صحيح يف «فضائل الليايل واأليام» ‪َّ :‬‬
‫«أن رسول اهلل صىل‬
‫َتب اهلل عز وجل‬
‫اهلل عليه وسلم قال ‪َ :‬م ْن صا َم يوم السابع وعرشين من رجب ك َ‬
‫له صيا َم ستني شهرا ‪ ،‬وهو اليوم الذي هبط فيه جربيل عىل حممد صىل اهلل عليه‬
‫وسلم بالرسالة» ‪.‬‬
‫فباجلمع بني املطلق واملق َّيد يف احلديثني يظهر سؤال للربط بني احلديثني تقديره‪:‬‬
‫َ‬
‫أرسل إليه ؟ وجوابه نص حديث أيب هريرة «يو َم السابع والعرشين من‬ ‫متى‬
‫رجب»‪..‬‬
‫مرة أخرى املذكور سابق ًا و َيتك ََّرر اجلواب املذكور‬
‫وبمعنى آخر يظهر السؤال َّ‬
‫سابق ًا وهكذا توضيح ًا لإلهبام وتبليغ ًا لألفهام‪.‬‬
‫أل َّن املرتادفني �إذا ا�ستويا يف الداللة قام‬
‫كل واحد منها مقام آالخر‬
‫وفيه ُب ِع َث حممد صىل اهلل عليه‬
‫ويف رواية سلامن ‪ ( :‬وهو لثالث ب ِق َ من رجب ِ‬
‫َ ينْ‬
‫وسلم إىل السامء بعد أن أرسل إليه) ‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫عر َج إىل السامء بعد أن ُأرسل إليه وجاءه اإلذن بالعروج إىل‬ ‫ِ‬
‫قلت‪ :‬أي ل َي ُ‬
‫ُ‬
‫السامء‪.‬‬
‫وحيث إن اجلمع بينهام ممكن ‪ -‬ألنه ال جيوز أن يكون حديثان متناقضني‬
‫يف حادثة واحدة يف وقت واحد ‪ ، -‬حيث إن اجلمع بني الدليلني ُم َقدَّ ٌم عىل‬
‫الرتجيح‪ ،‬فكيف ترجيحه (عىل اخلالف) واجلمع بينهام ممكن من وجوه يف غاية‬
‫الوضوح والظهور بجملها؛ أما الوجه األول ‪ّ :‬‬
‫أن النص الناطق الصحيح مق ِّيدٌ‬
‫للنص املشهور الرصيح ‪.‬‬
‫الوجه الثاين ‪ :‬العمل الصادق من اخلاص والعام يف ليلة السابع والعرشين‬
‫من املتقدمني واملتأخرين وهي العادة الفعلية مق ِّيد ٌة أيضا له (ألن ال ُع ْرف عند‬
‫األصوليني يخُ ِّصص العام) كام ذكر الرسخيس يف املبسوط ‪ .‬واهلل املستعان‪.‬‬
‫(حتقيق املناط)‪..‬‬
‫الوجه الثالث ‪ :‬من احلديث املشهور‪ ،‬ذهب العلامء إىل أن وقت اإلرساء‬
‫مطلق‪ ،‬ومتسكوا بظاهر احلديث املشهور ‪ .‬لذلك ق َّيدوا هذا اإلطالق باجتهادات‬
‫واستنباطات أ َّدت إىل خالفات ذكرهتا يف املسلك األول ‪.‬‬
‫واقع يف حديث أيب هريرة‬ ‫الوجه الرابع ‪ُّ :‬‬
‫النص املق ِّيد الذي يرفع هذا اإلطالق ٌ‬
‫نص يف موضع اخلالف ال ُيـحتمل غريه ‪.‬‬
‫ريض اهلل عنه ‪ ،‬ال يف اختالفاهتم ألنه ٌّ‬
‫واملقصود هنا ‪ :‬هو بيان أن اخلالف ال جيوز مراعاته إذا كان خمالف ًا لنص‬
‫عني ما اشرتطه علامء سائر املذاهب ‪ ،‬وقد َ‬
‫بالغ ابن حزم فقال يف‬ ‫صحيح ‪ .‬وهذا ُ‬
‫النص عىل خالفه) ‪.‬‬
‫جيوز مراعاة قول أحد عند ثبوت ِّ‬
‫«املحىل» ‪ ( :‬ال ُ‬
‫وإثبات ذلك من وجوه ‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬قوله ‪« :‬وهو اليوم الذي هبط فيه جربيل عىل حممد صىل اهلل‬ ‫•‬

‫‪131‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫عليه وسلم بالرسالة» وال شك أنه هبط إليه بالرسالة واإلذن للعروج إىل السامء‪،‬‬
‫وليس لبدء الوحي ؛ ألن بدء الوحي كان يف رمضان كام اتفق العلامء‪ ،‬وقالوا كام‬
‫جاء يف «فتح الباري» ‪« :‬يكون اإلرسال إليه للعروج إىل السامء وهو األظهر» ‪.‬‬
‫وقال غريه‪ :‬ليس السؤال استفهاما عن بعثته ؛ لبلوغها من الظهور يف امللكوت‬
‫إىل ما ال خيفى عىل اخلازن ؛ ألن كل حدث خربه يف السامء قبل أن يظهر عىل‬
‫األرض ‪ ،‬كام جاء يف حديث ثوبان الذي أخرجه أمحد ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والدليل ‪ :‬حديث ثوبان الذي أخرجه أمحد ‪ 149/19‬مرفوعا ولفظه‪:‬‬ ‫ُ‬
‫إن فالن ًا‬
‫وجل جلربيل ‪ّ :‬‬‫عز َّ‬ ‫«إن العبدَ ل َي ْلت َِم ُس مرضا َة اهلل وال ُ‬
‫يزال بذلك ‪ ،‬فيقول َّ‬
‫ُ‬
‫فيقول جربيل ‪َ :‬رمح ُة اهلل عىل فالن ‪،‬‬ ‫فإن َرحمْ َتِي عليه‪،‬‬
‫رض َينِي أال َّ‬
‫عبدي يلتمس أن ي ِ‬
‫ُ ُ‬
‫ويقوهلا محلة العرش ‪ ،‬ويقول من حوهلم حتى يقوهلا أهل السموات السبع ‪ ،‬ثم‬
‫هتبط له إىل األرض» ‪.‬‬
‫وهبذا يكون اخلازن بالرضورة قد علم بعث َة من أرسله اهلل عز وجل رمحة للعاملني ‪.‬‬
‫• الوجه الثاين‪ :‬قد انحرص اإلرسال يف حديث أيب هريرة‪ ،‬هو للعروج للسامء‬
‫ألن اإلرسال للدعوة منْت ٍ‬
‫َف باإلمجاع يف هذه احلالة ألن اإلمجاع قد ُع ِل َم سابق ًا ‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ُ‬
‫موافق للقول املشهور وهو املنصور‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫حديث أيب هريرة‬ ‫الوجه الثالث‪ :‬أن‬ ‫•‬
‫سنقر ُر‪:‬‬
‫كام ِّ‬
‫بأن السابع والعرشين من رجب‬ ‫قوي للقول َّ‬
‫رجح ّ‬ ‫‪-‬فهذا احلديث الصحيح ُم ِّ‬
‫نص ال سبيل للمخالِف إىل دفعه ‪ ،‬كام أنَّه ٌّ‬
‫دال‬ ‫هي ليلة اإلرساء واملعراج ؛ ألنه ٌّ‬
‫عىل تأكيد هذا التاريخ ‪َ :‬م ْب َل ُغ عنايته صىل اهلل عليه وسلم ؛ حيث َّ‬
‫حث عىل صيامه‬
‫كام َس َّن صيام يوم والدته صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫نصوا ‪ :‬إذا كان اجلمع بني املشهور والراجح ممكنا وجب املصري إليه ؛‬
‫‪-‬وقد ّ‬

‫‪132‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫(كام دل عليه مبحث الرتجيح من أصول الفقه) ‪.‬‬


‫التمس َك‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫ويوج ُ‬ ‫قطعي يقيض عىل كل خالف يف هذه املسألة‬ ‫فإمجاعهم ٌ‬
‫دليل‬
‫ُّ‬ ‫ٌّ‬
‫ِ‬
‫وطرح املرجوح املعارض له‪.‬‬ ‫بالراجح املرادف للمشهور ‪،‬‬
‫ُ‬
‫والعمل‬ ‫َ‬
‫احلديث أخذ به الصاحلون بعضهم عن بعض ‪،‬‬ ‫الوجه الرابع‪ :‬أن‬ ‫•‬
‫به إىل عرصنا هذا يف مجيع البالد اإلسالمية ومواظبتهم عليه يف خطبهم‪ ،‬ال‬
‫شك أن فيه تقوي ًة للحديث املرفوع‪.‬‬
‫• الوجه اخلامس‪ :‬األخذ باحلديثني عمال بالدليلني؛ وذلك َّ‬
‫ألن املطلق جزء من‬
‫املقيد ‪ ،‬فإذا عملنا باملق َّيد املذكور سابق ًا فقد عملنا هبام‪ ،‬وإن مل نعمل به فقد ألغينا‬
‫أحدمها ‪َّ ،‬‬
‫وإن إعامل الدليلني أحرى وأوىل‪.‬‬
‫الوجه السادس‪ :‬حديث أيب هريرة جاء ُمب ِّين ًا ملا ُأمجل يف حديث اإلرساء‬ ‫•‬
‫املشهور ‪ ،‬وقال األصوليون كام نقل القرايف ‪( :‬جيوز تأخري البيان القويل إىل وقت‬
‫احلاجة إليه) وهذا بيان قويل يف حديث منفصل ‪ ،‬والشواهد القرآنية مليئة بتأخري‬
‫البيان ‪ ،‬كام أن السنة املطهرة مليئة بذلك ‪ ،‬قال البيضاوي يف «منهاج األصول» ‪:‬‬
‫اتفق مجاهري العلامء عىل جواز تأخري الرسول صىل اهلل عليه وسلم تبليغ احلكم‬
‫املنزل عىل املكلف إىل وقت احلاجة‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫رشط يف محل املطلق‬ ‫• الوجه السابع ‪ :‬أن اإلرسال ُم ْث َب ٌت يف احلديثني‪ ،‬وهو‬
‫ت زياد ُة ِع ْلم‪.‬‬
‫ألن مع املثب ِ‬
‫َ‬ ‫عىل املق َّيد و املثبت مقدم عىل الـمن ِْفي ؛ ّ‬
‫النتيجة‪ّ :‬‬
‫إن ليلة السابع والعرشين هي ليلة إرساء ومعراج سيد األولني‬
‫واآلخرين وحبيب رب العاملني ‪ ،‬وهذا يؤيد املسلك األول املشهور ‪ ،‬وهبذا ‪:‬‬
‫الراجح واملشهور اتفقا عىل أن اإلرساء واملعراج كان ليلة السابع والعرشين‬
‫ـح ِييها كثري من أمة سيدنا حممد صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫الذي ُي ْ‬

‫‪133‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫املسلك الثالث‪:‬‬
‫يف أن السابع والعرشين من رجب هي ليلة اإلرساء واملعراج‬
‫قاعدة‪:‬‬
‫ن�ص املحدثون على‪ :‬أ�ن التجربة من �شواهد �صدق احلديث‬
‫بقطع النظر عن ا إل�سناد‬
‫متهيد‪ :‬يكفينا إثبات هذه الليلة بام يفعله مجهور األمة اإلسالمية من قربات‬
‫وقراءة أحاديث اإلرساء واملعراج والتفكر هبا‪ ،‬وهذا مسلك َ‬
‫أخذ به احلفاظ‬
‫املتفنِّنُون يف إثبات كثري من القضايا‪.‬‬
‫وال َّ‬
‫أدل عىل ذلك من أن احلاكم استدل عىل صحة حديث صالة التسابيح‬
‫بفعل الصاحلني هلا؛ كعبد اهلل ابن املبارك وقال يف «املستدرك» ‪ ( : 319/1‬ومما‬
‫ُي ْستَدَ ُّل به عىل صحة هذا احلديث استعامل األئمة من أتباع التابعني إىل عرصنا‬
‫هذا)‪.‬اهـ‪ .‬وهذا كالم جيد‪.‬‬
‫وإن احلافظ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم اجلوزية أثبتوا حكم تلقني امليت يف‬
‫القرب وجواز قراءة القرآن بام يفعله املسلمون عموما وخصوصا‪ ،‬كام أن صالة‬
‫احلاجة أصبح حديثها مقبوال بقوهلم جربته فوجدته حق ًا كام جاء عن احلاكم‪.‬‬
‫وهذا مفتي مكة وعاملها وإمامها احلافظ سفيان بن عيينة قال بعد رواية حديث‬
‫جربناه منذ أربعني سنة فلم ن ََر إال‬
‫«التوسعة عىل العيال يف يوم عاشوراء» ‪َّ :‬‬
‫خري ًا كام ذكره احلكيم الرتمذي يف «نوادر األصول»‪ .‬بل أخرج ابن عبدالرب يف‬
‫«االستذكار» بسند عىل رشط مسلم ‪ -‬كام قال احلافظ العراقي ‪ -‬حديثا مرفوعا‬
‫سائر َسنَتِ ِه» قال‬
‫وس َع اهلل عليه َ‬
‫ِِ‬
‫لفظه‪َ « :‬م ْن َو َّس َع عىل نفسه وأهله يو َم عاشوراء َّ‬
‫جابر‪َ :‬ج َّر ْبناه فوجدناه كذلك‪ ،‬وقال أبو الزبري مثله‪ ،‬وقال شعبة مثله‪ .‬فكام أن‬

‫‪134‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫التجربة من شواهد صدق احلديث‪ ،‬كذلك عمل اخلاصة والعامة‪ ،‬كام اعتمدها‬
‫أمحد بن حنبل يف حديث إثبات (تلقني امليت) بل أمجع األصوليون عىل أن‬
‫خمصصة كام ذكرنا‪.‬‬
‫(العبادة الفعلية) ِّ‬
‫ويف هذا كفاية إلثبات هذه الليلة بام يفعله املسلمون يف البالد اإلسالمية‪ ،‬ال‬
‫ِس َّيام أن املوضوع ليس يف حتريم أو حتليل‪ ،‬فأخذ ًا بقاعدة احلافظ املتقن‬
‫أمري املؤمنني أمحد ابن حنبل ومن تبعه ( ُيعمل باحلديث الضعيف ما مل‬
‫يكن موضوعا)‪.‬‬
‫وإذا أخذنا بفعل الناس وإحيائهم لليلة السابع والعرشين من رجب وأهنا ليلة‬
‫اإلرساء واملعراج‪ ،‬فهذا عرف تعارف عليه الناس ‪ ،‬والقاعدة تقول ‪ :‬جيوز تقييد‬
‫املطلق بالعرف العميل ‪« .‬رشح منهاج األصول» ‪470/2‬‬
‫بل ( إن الرشيعة تعليلية –أي‪ :‬مصلحة عامة‪ ، -‬واملصالح أعراف و عادات‪،‬‬
‫بل أكثر فروع الفقه عبارة عن أعراف )‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬من أعرق قواعد التخصيص والتقييد بالعرف العميل وبعضهم يسميه‬
‫(العادة الفعلية) وهي‪ :‬تعامل الناس ببعض أفراد العامة‪ .‬ورضبوا مث ً‬
‫ال كام يف‬
‫قوله ‪ :‬اشرت يل حلام ‪ -‬وعادهتم أكل حلم الضأن ‪ -‬جيب عليه أن يشرتي حلم ضأن‬
‫َّ‬
‫ألن عرف البلد َخ َّصص العموم و َبينَّ اإلمجال ‪.‬‬
‫فائدة ‪ :‬إن احلديث إن كان ضعيفا و ُت ُل ِّق َي بالقبول و ُع ِم َل به بال نكري يكون‬
‫متواترا ‪ ..‬راجع كتابنا «مفاتيح الذهب» ‪.‬‬
‫فحديث أنس وسلامن الضعيفان يدُ لاَّ ن عىل إحياء ليلة السابع والعرشين من‬
‫رجب وقد عمل مجهور األمة هبام يف إحياء هذه الليلة الكريمة‪.‬‬
‫فهذه القاعدة السابقة متفق عليها‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫قال العالمة ابن القيم احلنبيل رمحه اهلل عند االستدالل بعمل العامة واخلاصة‬
‫‪ -‬أي بعرفهم ‪ -‬يف كتابه «الروح» ص‪ 14‬ويدل عىل هذا ‪ -‬أي ‪ :‬إن امليت يعلم‬
‫من حال األحياء وزيارهتم له وسالمهم عليه ‪ -‬ما جرى عليه عمل الناس قديام‬
‫وإىل اآلن من تلقني امليت يف قربه ‪ ،‬وقد سئل عنه اإلمام أمحد رمحه اهلل فاستحسنه‬
‫واحتج بالعمل‪ ،‬أي ‪ :‬بعرف الناس‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قاعدة‪ :‬قال السخاوي يف «فتح املغيث» ص ‪ :120‬وكذا إذا تلقت األمة‬
‫الضعيف بالقبول يعمل به عىل الصحيح حتى إنه ينزل منزلة املتواتر يف أنه ينسخ‬
‫املقطوع به ‪.‬‬
‫روى أبو نعيم يف «حلية األولياء» ‪ ،102/9‬واخلطيب البغدادي يف «تاريخ‬
‫َو َ‬
‫بغداد» ‪ 6667/2‬قال أبو أيوب محيد بن أمحد البرصي ‪ ( :‬كنت عند أمحد بن‬
‫حنبل نتذاكر يف مسألة‪ ،‬فقال رجل ألمحد ‪ :‬يا أبا عبداهلل ال يصح فيه حديث ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬إنه إن مل يصح فيه حديث ففيه قول الشافعي وحجته أثبت يشء فيه) ‪.‬‬
‫قال أبو عمر‪ :‬وهذا دليل عىل أن للشافعي وغريه أدلة إ ّما نقلية أو عقلية؛ كتلقي‬
‫الناس بالقبول لدليل ضعيف أو استنباط أو إمجاعهم عىل إحياء ليلة أو يوم‪ .‬كام‬
‫قال ابن تيمية يف «اقتضاء الرصاط املستقيم» ص ‪ : 301‬نعم ُر ِو َي عن بعض‬
‫السلف يف تفضيل العرش األُ َول من رجب بعض األثر ‪َ ،‬و ُر ِو َي غري ذلك ‪.‬‬
‫وأما دليل ختصيص بعض األيام ببعض األعامل الصاحلة واملداومة عىل ذلك‪:‬‬
‫عند أمحد ‪ 58/2‬و الشيخني و النسائي ‪ 37/2‬عن ابن عمر‪َّ :‬‬
‫«أن رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم كان يأيت قباء ك َُّل س ٍ‬
‫بت َراكب ًا وماشي ًا» ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ (قباء) ‪ :‬ملحق ببعاث ألنه من قبوت أو قبيت فليست مهزته للتأنيث بل لإلحلان فلذلك‬
‫حرف‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫املسلك العام ‪:‬‬


‫قال احلسن بن عرفة يف «جزئه» ‪ :100/1‬كام أخربنا ابن حيان عن فرات عن‬
‫سلامن وعيسى بن كثري عن أيب رجاء عن حييى بن أيب كثري عن أيب سلمة بن‬
‫عبدالرمحن عن جابر ريض اهلل عنه قال ‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫« َم ْن َب َل َغ ُه عن اهلل َع َّز َو َج َّل يش ٌء فيه فضيل ٌة َفأ َخ َذ به إيامن ًا به ورجا َء ثوابِ ِه أعطا ُه‬
‫ذلك وإن مل يكن كذلك» ‪.‬‬ ‫اهلل َ‬
‫قال احلافظ الدمشقي يف «الرتجيح» ص‪ : 31‬هذا حديث جيد اإلسناد‪ ،‬وإن‬
‫كان ابن حيان فيه لني فهو صدوق‪ .‬وفرات بن سليامن مل خيرج له يف الكتب‬
‫الستة فيام أعلم‪ ،‬فقد روى له اإلمام أمحد يف مسنده ووثقه‪ ،‬وقال عبدالرمحن بن‬
‫أيب حاتم ‪ :‬سألت أيب عنه فقال‪ :‬ال بأس به حمله الصدق صالح احلديث ‪ .‬أ هـ‪.‬‬
‫وأبو رجاء هو فيام أعلم ‪ :‬حمرز بن عبداهلل اجلزري موىل هشام ‪ ،‬وهو ثقة ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وذكر شواهد تصحح احلديث عن ابن عمر وعن ابن عباس وفيه قاال‬
‫ُ‬
‫ريض اهلل عنهام ‪( :‬واهلل الذي ال إله إال هو ما سمعت منه حديثا َق ُّط َّ‬
‫أقر لعيني‬
‫منه)‪َ .‬و ُر ِو َي أيض ًا عن أنس وأيب هريرة ‪.‬‬

‫شواهد احلديث ‪:‬‬


‫احلديث األول ‪ :‬وقال ابن عبد الرب يف كتاب «العلم»‪ :‬حدثنا خلف بن‬
‫السكن‪ ،‬حدثنا حممد بن القاسم بن زكريا املحاريب ‪ ،‬حدثنا أبو كريب حممد بن‬
‫العالء‪ ،‬أنبأنا عمر بن يزيع أبو سعيد الطياليس ‪ ،‬عن احلارث بن احلجاج بن أيب‬
‫احلجاج‪ ،‬عن أيب معمر ‪ ،‬عن أنس قال‪ :‬قال‪ :‬رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫اخلري كان فض ُل ُه عىل العابد املجاهد كفضيل عىل‬ ‫« َم ْن أ َّدى الفريض َة وع َّلم َ‬
‫الناس َ‬
‫ِ‬
‫الفضل الذي َب َل َغ ُه أعطاه‬ ‫َ‬
‫فأخذ بذلك‬ ‫أدناكُم رجالً‪ ،‬ومن َب َل َغ ُه عن اهلل ٌ‬
‫فضل‬

‫‪137‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫إن كان الذي حدَّ َث ُه كاذب ًا»‪ .‬قال ابن عبدالرب‪ :‬إسناد هذا‬
‫اهلل تعاىل ما بلغه‪ ،‬و ْ‬
‫احلديث ضعيف؛ ألن أبا معمر عباد بن عبداهلل انفرد به وهو مرتوك ‪ ،‬وأهل‬
‫العلم بجامعتهم يتساهلون يف الفضائل فريووهنا عن ٍّ‬
‫كل ‪ ،‬وإهنم يتشددون يف‬
‫األحكام‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫احلديث الثاين ‪ :‬قال املرهبي يف «فضائل العلم»‪ :‬حدثنا أبو عبداهلل أمحد بن‬
‫حممد النخعي ‪ ،‬حدثنا عثامن بن أيب شيبة ‪ ،‬حدثنا شبابة ابن أيب بالل ‪ ،‬عن الوليد‬
‫بن مروان ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪َ « :‬م ْن َب َل َغه‬
‫اخلري فغايت ُه ينوي به ما َب َل َغ ُه ‪ُ ،‬أ ْعطِ ِيه وإن‬
‫يش ٌء من األحاديث التي ُي ْر َجى فيها ُ‬
‫مل َي ُك ْن»‪.‬‬
‫احلديث الثالث‪ :‬قال اخلليعي يف «فوائده»‪ :‬أنبأنا أبواحلسن عبدالوهاب بن‬
‫حممد بن جعفر بن أيب الكرام ‪ ،‬حدثنا أبو بكر أمحد بن حممد بن إسامعيل املهندس‪،‬‬
‫حدثنا أبو احلسن زيد ابن احلسن املديني ‪ ،‬حدثنا أبو يونس حممد بن أمحد بن يزيد‬
‫املكي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن محزة بن عبداملجيد ‪ ،‬قال ‪ :‬رأيت رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم يف النوم  يف احلجر فقلت ‪( :‬بأيب أنت وأمي يا رسول اهلل إنه قد َب َل َغنَا‬
‫احلديث رجا َء ذلك‬ ‫ِ‬ ‫ثواب َف َع ِم َل بذلك‬ ‫عنك أنَّك قلت ‪َ « :‬م ْن َس ِم َع حديثا فيه‬
‫ٌ‬
‫ور ِّب هذه‬ ‫أي َ‬ ‫ُ‬
‫احلديث باطالً» فقال ‪ْ :‬‬ ‫الثواب وإن َ‬
‫كان‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الثواب أعطا ُه اهلل ذلك‬
‫البنية ‪ ،‬إنه َملنِّي و أنا قل ُت ُه)‪.‬‬
‫وقد أخذ هبذا احلديث السلف الصالح وكام قال ابن حجر يف «لسان امليزان»‪:‬‬

‫ راجع حكم العمل بالرؤيا حاشية ص‪.85-83‬‬


‫ قوله‪( :‬باطال) أي سنده ‪ ،‬أما معناه ‪ :‬فانه يدخل حتت أصل عام ‪ ،‬أما إن كان خارجا عن‬
‫إطار الرشيعة أو خمالفا هلا فممنوع العمل به بتات ًا جزما ‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫عاب إسامعيل بن حممد التيمي الطرباين يف مجع األحاديث األفراد مع ما فيها من‬
‫َ‬
‫النكارة الشديدة واملوضوعات‪ .‬وقال احلافظ ابن حجر‪ :‬وهذا أمر ال خيتص به‬
‫الطرباين يف مجع األحاديث األفراد‪ ،‬بل أكثر املحدثني يف األعصار املاضية من سنة‬
‫جرا إذا ساقوا احلديث بإسناده اعتقدوا أهنم َب ِرؤوا من عهدته‪.‬‬
‫وه ُل َّم َّ‬
‫مائتني َ‬
‫قال أبو عمر السليامين ‪ ( :‬هذا من ناحية الصناعة احلديثية) وأما مقصدهم‬
‫عمال باحلديث املتقدم وليس هلم مطلب إال الفضل الذي بلغهم عن اهلل يف تعليم‬
‫الناس اخلري رجاء األجر اجلزيل والثواب الكثري‪ ،‬نسأل اهلل ذلك وينجينا من‬
‫املهالك ويسلك بنا طريق العابد الناسك ‪ ،‬بل هذا مطلب العلامء املحققني من‬
‫السلف إىل يومنا هذا‪.‬‬
‫والغاية من ذكر احلديث‪ :‬أنه دليل وتأكيد إلحياء ليلة السابع والعرشين من‬
‫رجب احلرام‪ .‬واخلتام الصالة والسالم عىل سيد األنام‪.‬‬
‫دليل آخر ملن أخذ باحلديث ‪ ،‬وهو إثبات صحيح رصيح بأن أهل العلم‬
‫كلهم أخذوا هبذا احلديث ‪ :‬أخرج احلافظ السخاوي يف «املقاصد» ص‪:331‬‬
‫وكون احلسن البرصي لبسها من عيل ‪ ،‬قال ابن دحية‬ ‫‬
‫«حديث لبس اخلرقة‬
‫وابن الصالح ‪ :‬إنه باطل ‪ ،‬وكذا قال شيخنا ‪ -‬أي احلافظ ابن حجر ‪ : -‬إنه ليس‬
‫يف يشء من طرقها ما َيث ُب ُت ‪ ،‬ومل َي ِرد يف خرب صحيح وال حسن وال ضعيف أن‬

‫ عاممة يلبسها املستجيز أو املريد ‪ ،‬وقد ذكر احلافظ الذهبي يف معجم الشيوخ بأن بعضهم‬
‫كان يكتفي بإلباس الطاقية ‪ ،‬وقال احلافظ أبو الفيض سيدي أمحد بن الصديق ‪ :‬الشيوخ‬
‫ثالثة ‪ :‬شيخ التلقني وشيخ اخلرقة وشيخ الصحبة واالقتداء ‪ ،‬وهذا األخري هو الذي‬
‫عليه االعتامد ‪ ،‬وقال أيضا ‪ :‬قد طعن يف اخلرقة وسندها مجاعة منهم من اعتقد صحتها‬
‫ور َو ْوها تربكا هبا وتكلموا يف سندها من جهة االنقطاع‬
‫َ‬
‫قلت ‪ :‬كاحلافظ السخاوي‪.‬‬
‫وعدم االتصال لظنهم عدم سامع احلسن من عيل ‪ُ ،‬‬

‫‪139‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫النبي صىل اهلل عليه وسلم ألبس اخلرقة عىل الصورة املتعارفة بني الصوفية ألحد‬
‫من أصحابه وال أمر أحد ًا من أصحابه بفعل ذلك‪ ،‬وكل ما ُيروى يف ذلك‬
‫باطل‪ ،‬قال‪ :‬ثم إن من الكذب املفرتى قول من قال ‪ :‬إن عل َّيا ألبس اخلرقة احلسن‬
‫البرصي ‪ ،‬فإن أئمة احلديث مل يثبتوا للحسن من عيل سامعا فضال عن أن ُيلبسه‬
‫اخلرقة ‪ ،‬ومل يتفرد شيخنا هبذا بل سبقه مجاعة‪.‬‬
‫حتى من لبسها كالدمياطي والذهبي والعكاري وأيب حيان والعالئي ومغلطاي‬
‫والعراقي وابن امللقن واألبنايس والربهان احللبي وابن نارص الدين وتكلم عليها‬
‫يف جزء مفرد ‪ ،‬وكذا أفردها غريه ممن تويف من أصحابنا ‪ ،‬وأوضحت ذلك كله‬
‫مع طرقه يف جزء مفرد ويف ضمن غريه من تعاليقي‪ ،‬هذا مع إلبايس إياها مجاعة‬
‫ربكا بذكر‬
‫من أعيان املتصوفة امتثاال إللزامهم يل بذلك حتّى جتاه الكعبة املرشفة ت ُّ‬

‫ قال سيدي عبداهلل رمحه اهلل ‪ :‬بل ألبس عليا عاممة تسمى السحاب ‪ ،‬وألبس‬
‫عبدالرمحن بن عوف عاممة وأرخى هلا عذبة‪.‬‬
‫ بل ثبت سامعه يف أحاديث كثرية؛ منها ‪:‬‬
‫قال البخاري يف «التاريخ الصغري» يف ترمجة سليامن بن سامل القريش أيب داود العطار‬
‫علي ًا والزبري التزما‪ .‬وقال الذهبي يف‬
‫سمع عيل بن زيد عن احلسن ‪ ،‬قال ‪ :‬رأيت ّ‬
‫علي ًا وعثامن وطلحة ‪.‬‬
‫«التهذيب»‪ :‬أنه رأي ّ‬
‫وخرج احلافظ ضياء الدين املقديس يف «املختارة» رواية احلسن عن عيل ُمصحح ًا هلا ‪.‬‬
‫وقال احلافظ شمس الدين بن اجلزري يف كتابه «أسنى املطالب بمناقب عيل بن أيب‬
‫طالب» إن احلسن البرصي صحب عيل بن أيب طالب‪ ،‬ولبس منه اخلرقة ‪ ،‬وسألت شيخنا‬
‫احلافظ إسامعيل بن كثري ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال يبعد أنه أخذ عنه بال واسطة ‪.‬‬
‫وذكر احلافظ ابن حجر يف «هتذيب التهذيب» حديث ًا من رواية احلسن عن عيل عليه السالم‬
‫بالسامع ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬قال حممد بن احلسن الرصيفيني شيخ شيوخنا ‪ :‬هذا نص رصيح يف سامع‬
‫احلسن من ع ّ‬
‫يل ورجاله ثقات ‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫الصاحلني واقتفاء ملن أثبته من احلفاظ املعتمدين‪ .‬أ هـ‪.‬‬


‫قلت ‪ :‬الشاهد عمل من ألبسها من احلفاظ كام قال موالنا السخاوي ‪ ،‬وعمال‬
‫ُ‬
‫بحديث املسلك العام‪.‬‬

‫ كاحلافظ ابن الصالح الذي قال‪ :‬ويل يف اخلرقة إسناد عال جد ًا (وذكره) ‪ ،‬ثم قال عقب‬
‫ذكره السند ‪ :‬وليس بقادح فيام أوردناه كون لبس اخلرقة ليس سنده متصال إىل منتهاه‬
‫عىل رشط أصحاب احلديث ‪ ،‬فإن املراد ما حيصل به الربكة والفائدة باتصاهلام بجامعة‬
‫عن السادة الصاحلني «زاد املسري» للسيوطي‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫خامتة القول األتم‬

‫وفيها فوائد مهمة ‪:‬‬


‫الفائدة األوىل ‪ :‬فضل ليلة اإلرساء‪.‬‬
‫قال األلويس يف «روح املعاين» ‪ :15/7‬نقل السفريي عن اجلمهور أن‬
‫ليلةاإلرساء أفضل الليايل ‪ -‬حتى من ليلة القدر ‪ -‬مطلقا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي أفضل‬
‫بالنسبة إىل النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ ‪ -‬كام ذكره الشيخ ابن تيمية ‪ -‬وليلة القدر‬
‫أفضل بالنسبة إىل أمته عليه الصالة والسالم ‪.‬‬
‫وقيل أيضا ‪ :‬بأن ما كان أفضل بالنسبة إليه صىل اهلل عليه وسلم فهو أفضل‬
‫بالنسبة إىل أمته عليه الصالة والسالم ‪ ،‬فهي أفضل مطلقا‪.‬‬
‫الفائدة الثانية ‪ :‬حتويل القبلة يف رجب‬
‫كان حتويل القبلة إىل الكعبة املرشفة يف (نصف شهر رجب من السنة الثانية)‬
‫عىل الصحيح ‪ ،‬وبه جزم اجلمهور ‪ ،‬ورواه احلاكم بسند صحيح عن ابن عباس‬
‫ريض اهلل عنهام وهو مبني عىل أن القدوم كان يف ثاين عرش من ربيع األول بال‬
‫خالف ‪ .‬انظر «الفتح» ‪. 80/1‬‬
‫الفائدة الثالثة ‪ :‬حكم االجتامع لسامع قصة اإلرساء واملعراج‪.‬‬
‫قال ابن تيمية يف «االقتضاء» ص‪ :303‬إن االجتامع لصالة تطوع أو استامع‬
‫(فح َس ٌن) فقد َص َّح عن النبي‬
‫قرآن أو ذكر اهلل ونحو ذلك إذا كان يفعل أحيانا َ‬
‫صىل اهلل عليه وسلم أنه صىل التطوع يف مجاعة أحيانا ‪ ،‬وخرج عىل أصحابه‬

‫ للتوسع واالستزادة انظر كتابنا «إحتاف أهل املحبة بأدلة جمالس القربة»‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫وفيهم من يقرأ وهم يستمعون فجلس معهم يستمع ‪ ،‬وكان أصحاب رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا يقرأ وهم يستمعون ‪ ،‬وقد‬
‫ورد يف القوم الذين جيلسون يتدارسون كتاب اهلل وسنة رسوله ‪ -‬صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ -‬ويف القوم الذين يذكرون اهلل من اآلثار ما هو معروف ‪.‬اهـ‪.‬‬
‫قال أبو عمر السليامين فتح اهلل عليه‪:‬‬
‫و أخرج احلافظ الزاهد ابن رجب احلنبيل يف أنفس رشوح األربعني «جامع‬
‫العلوم واحلكم» صفحة ‪ : 392‬قال احلسن‪ :‬القصص بدعة ونعمت البدعة‪ ،‬كم‬
‫ٍ‬
‫مستفاد ‪ .‬ويف املسند عن عائشة ريض اهلل‬ ‫ٍ‬
‫مقضية وأخٍ‬ ‫ٍ‬
‫وحاجة‬ ‫ٍ‬
‫مستجابة‬ ‫ٍ‬
‫دعوة‬ ‫من‬
‫قاص أهل املدينة بمثل ذلك‪َ ،‬و ُر ِو َي عن عمر بن عبدالعزيز أنه‬ ‫وصت َّ‬ ‫عنها أهنا َّ‬
‫روح الناس وال‬‫ص كل ثالثة أيام مرة‪َ ،‬و ُر ِو َي عنه أنه قال له ‪ِّ :‬‬ ‫القاص أن َي ُق َّ‬
‫َّ‬ ‫أمر‬
‫تثقل عليهم ودع القصص يوم السبت ويوم الثالثاء‪.‬‬
‫وقال أبو أمية حممد بن إبراهيم بن مسلم الطرسويس سألت أمحد بن حنبل عن‬
‫القوم جيتمعون ويقرأ هلم القارئ قراءة حزينة فيبكون وربام أطفؤوا الرساج ‪،‬‬
‫فقال يل أمحد‪ :‬إن كان يقرأ قراءة أيب موسى فال بأس‪.‬‬
‫وروى اخلالل عن األوزاعي‪ :‬أنه ُسئل عن القوم جيتمعون فيأمرون رجال‬
‫َ‬
‫يقص عليهم‪ ،‬قال‪ :‬إذا كان ذلك يوم ًا بعد األيام فليس به بأس‪.‬‬
‫وأي‬
‫قال أبو الرسي احلريب‪ :‬قال أبو عبداهلل اإلمام أمحد بن حنبل رمحه اهلل ‪ُّ :‬‬
‫يشء أحسن من أن جيتمع الناس يصلون ويذكرون ما أنعم اهلل به عليهم؛ كام‬
‫قالت األنصار‪( ...‬وساق احلديث)‪ُ :‬أنبئت أن األنصار قبل قدوم رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم املدينة قالوا ‪ :‬لو نظرنا يوما فاجتمعنا فيه فذكرنا هذا األمر‬
‫الذي أنعم اهلل به علينا فقالوا ‪ :‬يو َم السبت قو ٌم‪ ،‬قالوا ‪ :‬ال نجامع اليهود يف‬

‫‪143‬‬
‫القول األتم بأن اإلرساء واملعراج يف رجب األصم‬

‫يومهم قالوا ‪ :‬فيو َم األحد ‪ .‬قالوا ‪ :‬ال نجامع النصارى يف يومهم قالوا ‪ :‬فيوم‬
‫العروبة ‪ ،‬وكانوا يسمون يوم اجلمعة يوم العروبة ‪ ،‬فاجتمعوا يف بيت أيب ُأمامة‬
‫فذبِ َح ْت هلم شا ٌة َف َك َفت ُْهم‪.‬‬
‫أسعد بن زرارة ُ‬
‫جتوز االجتامع لقراءة املولد واإلرساء وغريمها‬
‫وهذه األدلة جزء من األدلة التي ِّ‬
‫من القصص برشط البعد عن البدع‪ .‬بل األكثر من علامء األمة جعلها من القرب‬
‫املندوبة والنوافل املستحبة‪ .‬فهي إذ ًا مستحبة بعمومات نصوص الرشيعة الكثرية‬
‫الناطقة باستحباب ختصيص بعض األيام والليايل بنوع من العبادة ‪ ،‬مع إن إحياء‬
‫هذه الليلة قد ورد يف أحاديث ذكرناها يف الفضائل وكذلك يف فضل صيام يومها‪.‬‬

‫واحلمد هلل حق محده‪ ،‬والصالة والسالم األفضالن األمتان عىل سيدنا سيد‬
‫عباده‪ ،‬وعىل آله وسائر النبيني والصاحلني آمني ‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫خامتة الكالم عن املؤلف وبعض شيوخه الكرام‬

‫العلمية ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫املكية‬
‫* ينتمي مؤلفنا إىل العوائل َّ‬
‫درس يف احلرم املكي الرشيف ح َّتى ُأجيز من مشاخيه كالسيد حممد أمني‬
‫* وقد َ‬
‫ُك ْتبـي شيخ الرتبية والسلوك واملنفرد بعلم اآللة واملقاالت العرش حسان العرص‬
‫ولسان ا ُملحبني بالبيان ا ُملنترش نزهة ا ُملشتاق آلفاق ُ‬
‫الع َّشاق واملرتقي يف أحوال‬
‫مقامات الرجال‪ ..‬وقد الزمه يف اخلدمة وقرأ عليه «الفتح ا ُملبني» وغريه ِمن‬
‫الكتب بني الظهرين عند باب أم هانئ ‪ ،‬والشيخ حممد أمني مرداد خالصة سلفه‬
‫املتقدمني ِمن شيوخ اخلطابة واإلمامة باملسجد احلرام شيخ األحناف ا ُملتصدِّ ر‬
‫للفتوى للخاص والعام مجيل الوجه محُلىَّ بابتسام رشحه بسيط وجملسه تناغم‬
‫وانسجام قراءته سلسبيل بجامل صوت وأحىل األنغام‪ ..‬والزمه وقرأ عليه أكثر‬
‫ُكتب الفقه احلنفي ح َّتى أجازه وأصبح يحُ يل عليه بعض األسئلة ‪َ ،‬‬
‫ودرس عىل‬
‫مكة ِمن مشايخ أول طبقة يف املائة السابقة‬
‫الشيخ حسن مشاط شيخ شيوخ َّ‬

‫وشيخ احلديث ا ُملحقق يف أدلة املذهب املالكي َّ‬


‫املميز يف التدريس يكشف املعاين‬
‫بالكشف احلثيث و َيصل إىل جذور معاين النصوص و َمباين الفصوص بعمق‬
‫ا ُملحقق وعلم ا ُملد ِّقق ‪ ،‬والشيخ حممد نور سيف من علامء الرتجيح يف املذهب‬
‫املالكي املنفرد يف الرتبية للخاص والعام واملرشد عىل الدوام ا ُمللتزم بالرشيعة‬
‫غاية االلتزام كثيف اللحية كأنه بدر التامم ‪ ،‬والشيخ إسامعيل الزين اخلطيب‬
‫الفواه الرسيع البدهية الناسك قريب املسالك البسيط يف رشحه العميق يف‬
‫َّ‬

‫ذكرهم ا ُملؤ ِّلف يف «اخلتم السليامين»‪.‬‬


‫ علامء مكة طبقات َ‬

‫‪145‬‬
‫لالحتِكام ‪ ،‬والشيخ‬ ‫علمه ُم ِ‬
‫صلحا بني األخصام ومرجع ًا لطلبة العلم الوافدين ْ‬
‫عبداهلل بن سعيد اللحجي الراسخ يف العبادة الزاهد يف ُّ‬
‫تنسك وإرادة عظيم املقام‬
‫الشافعية ا ُمل ِّ‬
‫تذوق للفنون املقطوع واملظنون كان وسيام‬ ‫َّ‬ ‫قليل الكالم وصدر فقهاء‬
‫مهيبا حليام‪ ..‬وكان َيقرأ عليه بني العشاءين ‪ ،‬والشيخ أمحد جابر جربان العامل‬
‫املتواضع النحوي األصويل الشافعي كان ِمضيافا كريام حليام‪ ..‬والزمه وقرأ عليه‬
‫مكة األصويل املعقويل ِمن علامء‬
‫أكثر املتون ‪ ،‬والشيخ عبدالكريم املرغناين نزيل َّ‬
‫الرتجيح يف املذهب احلنفي الراقي يف املرشب الذوقي‪ ..‬والزمه يف احلرم ورباط‬
‫البخارية‪ ..‬وقرأ عليه كتب األصول وأتم عليه مراجع كتب الفقه احلنفي ‪،‬‬
‫علم الدين حممد ياسني الفاداين ُمسنِد العرص ا ُملحدِّ ث األصويل صاحب‬
‫والشيخ َ‬
‫التآليف ا ُملفيدة عامل التنظري والتطبيق مع الد َّقة يف التحقيق والنفس الطويل‬
‫يف التعليم والتدريس ‪ ،‬والشيخ عبداهلل دردوم النحوي األديب أستاذ أكثر‬
‫طلبة َ‬
‫احلرم يف النحو أنيس املجالس وشيخ زاوية الشيخ حسن يامين ‪ ،‬والسيد‬
‫حممد بن علوي املالكي حتفة مكة وجامع رايات شيوخها ‪ ،‬ا ُملحدِّ ث ا ُملفسرِّ األديب‬
‫وأول من مجع طريقة السلف واخللف‬ ‫احلسيب النسيب َ‬
‫اخلطيب ‪ ،‬شيخ املَجالس َّ‬
‫اإلسالمية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫األكاديمية يف أكثر البالد‬
‫َّ‬ ‫الرشعية واملعاهد‬
‫َّ‬ ‫النظامية‬
‫َّ‬ ‫فأسس املدارس‬
‫َّ‬
‫درس‬ ‫والشيخ الدكتور أمحد حممد نور سيف ا ُملحدِّ ث وا ُمل ِّ‬
‫درس األكاديمي‪َ ..‬‬
‫عليه «فتح ا ُملغيث» يف املَسجد احلرام ‪.‬‬

‫* ومن شيوخه الذين درس عليهم احلبيب حسن بن عبد اهلل بن عمر الشاطري‬
‫ُزبدة علامء تريم ا ُمل ِّ‬
‫تجرد للعبادة كريم الوفادة الناصح بفعله وقوله املرشد بمقاله‬
‫وحاله‪ ..‬قرأ عليه «بداية اهلداية»‪ ،‬والزمه يف رباط السادة يف مكة واملدينة‪،‬‬
‫واحلبيب هود بن عمر بن حامد السقاف قامع البدعة ‪ ،‬ونارش ُس َّنة السلف الذاكر‬

‫‪146‬‬
‫الصائم القائم ‪ ،‬محُ ب ِ‬
‫الع ْلم ‪ ،‬ا ُملتأدب مع الفقيه والعامل‪ ..‬وقرأ عليه «إحياء علوم‬
‫الدين» وديوان الشيخ عمر باخمرمة‪.‬‬
‫ِ‬
‫وغريهم الكثري من شيوخه رمحهم اهلل تعاىل هلم تراجم كاملة يف «اخلتم ُ‬
‫السليامين‬
‫بمرويات أيب عمر السليامين» للمؤلف‪.‬‬
‫الس َّنة‬
‫الرشعية ‪ ،‬نارش ُ‬
‫َّ‬ ‫الصوفية‬
‫َّ‬ ‫* وأخذ الطريق عىل مجَ مع الربكات شيخ ُ‬
‫الطرق‬
‫وقامع البدعة ‪ ،‬غزير املعاين شيخ القايص والداين ‪ ،‬العارف باهلل الرشيف السيد‬
‫عبد اهلل بن يوسف بن قريش ا ُملكاشفي القادري ‪ ،‬هبجة النُفوس ُ‬
‫ومل ِّقن الدُّ روس‬
‫واآلداب ‪ ،‬ك ُّله فيض كأمطار السحاب ‪ ،‬من الزمه كأنام رأى رجال من السلف‬
‫قوال وعمال ‪.‬‬

‫املدرسني ِس ّن ًا‪،‬‬
‫درس يف املدرسة الصولتية س َّنة ‪1403‬هـ وكان أصغر ِّ‬
‫* بدأ ُي ِّ‬
‫مكية ‪ ،‬وال زال ُيشارك يف دوراهتا وبراجمها‬
‫أكاديمية علمية َّ‬
‫َّ‬ ‫وهي أقدم مدرسة‬
‫التعليمية‪.‬‬
‫َّ‬
‫درس يف املسجد احلرام احلديث وأصوله‪.‬‬
‫* َّ‬

‫الصديقية عند‬
‫َّ‬ ‫* أما رحلته العلمية فكانت إىل بالد املغرب (طنجة) الزاوية‬
‫السادة الغامرية الذين مجعوا أركان االجتهاد ‪ ،‬وصنعوا مناهج من علوم السلف‬
‫األجداد أقطاب اإلرشاد واإلمداد ‪ ،‬وح ُّلوا عقد القواعد وبسطوا ُمشكالت علوم‬

‫ قال املؤ ِّلف يف كتابه «مطالع اإلسعاد يف ترمجة الشيخ حممد أمني مرداد» –وهو خمطوط‪:‬‬
‫رمحة اهلل عىل شيخنا حممد أمني مرداد يوم انتظامي يف سلك علامء املَدرسة الصولتية‬
‫وذلك يف يوم ‪ 5‬صفر ‪1403‬هـ وعند انرصايف ِمن املدرسة حوايل الساعة الثانية ظهر ًا‪..‬‬
‫يض ‪ ( :‬أصبحت عالمِ ًا َت ُفك العبارة وترشح الكتاب ‪ ،‬فال‬
‫َض َّمني وقال يل وهو ممسك عا ِر ّ‬
‫َت ْن َسني إذا واريتني يف الرتاب )‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫وبينوا ُل َّب اللباب وا ُملفيد للعقول واأللباب ‪َّ ،‬‬
‫فأسسوا مدرسة التجديد‬ ‫الفوائد ‪َّ ،‬‬
‫والتنظري والتطبيق للطالب ا ُملستفيد ‪ ،‬وقمعوا فساد الفاسد العنيد‪ ،‬عاملهم سفينة‬
‫لتذوقه حالوة املعرفة‬ ‫للمنطوق واملفهوم وا ُمل ِّ‬
‫تخرج عىل أيدهيم كنوز ثمينة ؛ ُّ‬
‫والعلوم ‪ ،‬مجال وزينة وللعلم مدينة ‪ ،‬ساداهتا أخلصوا فانترشوا‪ْ ،‬‬
‫إن جالست‬
‫أحدهم جتده تكامل يف العلوم ‪ ،‬والفضل يف ذاته ملموم ‪ ،‬قد أعجزت الواصف‬
‫يف وصفهم ؛ ألنه ال ُيدرك قرار بحرهم ‪ ،‬وقد انفرد املؤ ِّلف أ َّنه َ‬
‫درس عىل‬
‫الكواكب الثالثة سيدي عبد اهلل وسيدي عبد العزيز وسيدي عبد احلي تالمذة‬
‫البحر العميق احلافظ سيدي أمحد بن الصديق رمحة اهلل تعاىل عليهم أمجعني ‪،‬‬
‫التذوق العلمي يف فن احلديث واألصول‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫فدرس عليهم ح َّتى َّ‬
‫متكن من‬

‫ مما قاله اإلمام العالمة ا ُملحدِّ ث ا ُملع ِّلل املفيد السيد عبد العزيز بن الصديق الغامري رمحه‬
‫اهلل تعاىل عن املؤلف يف تقديمه لرسالته «إحتاف السائل» ‪:‬‬
‫(يف احلديث‪« :‬ال تزال طائفة ِمن أمتي ظاهرة عىل احلق‪ ..»...‬فال بد أن يبقى ٌ‬
‫فرد أو‬
‫وعلم ِمن علوم اإلسالم ظاهر ًا بارز ًا بالتحقيق ُ‬
‫وح ْس ِن ال َّتحرير وإجادة‬ ‫ٍ‬ ‫فن‬ ‫أفراد يف ِّ‬
‫كل ٍّ‬ ‫ٌ‬
‫االستدالل ‪ ،‬وقد ورد يف حديث رواه احلكيم عن أنس مرفوع ًا‪« :‬يف كل قرن ِمن أمتي‬
‫وإن ممن تناوهلم هذا الفضل اإلهلي والعناية الرمحانية فأتوا يف هذا الوقت‬‫سابقون» ‪َّ ،‬‬
‫العلم ‪ ،‬ال ِس َّيام أهل احلديث منهم ‪ ،‬وغاض بحره ِمن ا ُملحققني‬
‫الذي فرغ وعاؤه ِمن أهل ِ‬
‫يف الكالم عىل اإلسناد ‪ ،‬وبيان صحيحه من ضعيفه ؛ األستاذ الباحث الناقد ا ُملقبل عىل‬
‫العلم كل اإلقبال العالمة الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلل عرفة السليامين املكي ‪ ،‬املدرس‬
‫باملدرسة الصولتية بمكة املكرمة ‪ ،‬تواله اهلل ورعاه ‪ ،‬فقد ظهر نبوغه وأرشقت بدايته يف‬
‫علم احلديث بعد مدة يسرية من االشتغال بعلومه والعكوف عىل قراءة كتبه ‪ ،‬مما يدل‬
‫وجدت فيه ما مل‬
‫ُ‬ ‫عىل َّ‬
‫أن اهلل تعاىل هيأه لذلك ‪ ،‬و َيسرَّ له األسباب املوصلة ملا هنالك ‪..،‬‬
‫اتصلت هبم يف مكة واملدينة ‪ -‬وهم كثري‪ِ -‬من‬
‫ُ‬ ‫أره يف غريه ِمن رجال العلم وطلبته الذين‬
‫احلرص عىل الطلب واإلقبال التام عىل البحث والقراءة بلسان سؤول وقلب عقول ‪،‬‬
‫‪ ...‬ومما زادين إعجاب ًا به أنني وأنا يف مكة ‪ ،‬ومل نختم قراءة «النخبة» ؛ ملَ ْس ُت منه ُّ‬
‫تذوق‬

‫‪148‬‬
‫* له إجازات من كثري من العلامء الوافدين للحرمني الرشيفني ‪.‬‬

‫خترج عىل أيدهيم‪.‬‬


‫* الزم بعض العلامء املهاجرين ح َّتى َّ‬
‫* وال زال طلبة العلم يستفيدوا منه وينهلوا من َمرشبه يف احلديث بأقسامه‬
‫الفقهية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وغريه من العلوم الرشعية والبحوث‬

‫همة ‪ -‬بعضها مطبوع ‪ ،‬وأكثرها‬


‫حديثية ُم َّ‬
‫َّ‬ ‫* وله مؤلفات مفيدة متنوعة وأجزاء‬
‫خمطوط ‪.-‬‬

‫والفقهية وهو‬
‫َّ‬ ‫الرشعية‬
‫َّ‬ ‫العلمية واالجتامعات‬
‫َّ‬ ‫* شارك يف كثري ِمن الندوات‬
‫عضو يف منتدى الروضة الثقايف االجتامعي‪.‬‬

‫رواد التجديد الفكري لتتلمذه عىل السادة الغامرية‪.‬‬


‫* رائد من َّ‬
‫* ينتمي ملسلك العلامء يف التصوف الرشعي ويكره انحرافات أدعياء التصوف‬
‫شوهوا سمعته ورونقه باخلرافات وخمالفة الرشيعة‪.‬‬
‫الدخالء الذين َّ‬

‫خلت حمبته قلبه ‪ ،‬فرشع يف مجع ٍ‬


‫كتب تتعلق بفنونه وأطلعني عىل‬ ‫حالوة علم احلديث ‪ ،‬و َد ْ‬
‫قدم وشأن يف هذا العلم الرشيف‬
‫البعض منها ‪ ،‬فرأيت فيها ما يدل عىل أنه سيكون له ٌ‬
‫‪ ،‬وها هو كتابه الذي ألفه بعد مدة قصرية من قراءته ع َّ‬
‫يل كتب املصطلح ومذاكرته يف‬
‫قلت ‪ ،‬و ُيعطي ُ‬
‫احل َّجة‬ ‫مسائله ‪ ،‬وهو‪« :‬إحتاف السائل» ‪ُّ ،‬‬
‫يدل الداللة الواضحة عىل ما ُ‬
‫ذكرت ؛ فإنه سلك فيه مسلك أهل القدم الراسخ يف علم احلديث‬
‫ُ‬ ‫لكل منصف عىل ما‬
‫ذوى االجتهاد وال َّنظر يف الرتجيح بني أقوال األئمة يف التعديل والتجريح ‪ ،‬وذلك غريب‬
‫جد ًا حصوله يف هذا الوقت ؛ إلنرصاف أهله عن اجلد يف الطلب واحلرص عىل التحصيل‬
‫واإلقبال عىل االستفادة ‪ ،‬كل هذا مع دماثة يف األخالق‪ ،‬وأدب يف ا ُملجالسة‪ ،‬ولِيونة‬
‫يف ا ُملعاملة‪ .)...‬انتهى خمتَرص ًا ِمن كالم سيدي عبد العزيز الغامري رمحة اهلل عليه ‪ .‬اهـ‬
‫(ا ُملعتني) ‪.‬‬
‫ وللمؤ ِّلف ترمجة حافلة خمطوطة يف كتابه «اخلتم السليامين بمرو َّيات أيب ُع َمر السليامين»‪.‬‬

‫‪149‬‬
150
‫الفهرسة‬

‫إحتاف أهل احملبة بأدلة جمالس القربة‬


‫‪7-5‬‬ ‫(املقدمة) وفيها فوائد‬
‫‪6‬‬ ‫موارد األحكام عىل قسمني‬
‫‪7-6‬‬ ‫قاعدة‪ :‬كلام ارتفع اعتبار املقصد ارتفع اعتبار الوسيلة‬
‫‪17-8‬‬ ‫(التمهيد) وفيه أصول‬
‫‪11-8‬‬ ‫األصل األول‪ :‬حكم ا ُملختلف فيه‬
‫‪14-11‬‬ ‫عامل السلف مع املبتدعني‬ ‫األصل الثاين‪َ :‬ت ُ‬
‫‪13‬‬ ‫اإلمام البخاري وكالمه عن أشياخه الشيعة‬
‫‪17-15‬‬ ‫األصل الثالث‪ :‬األخذ بظواهر النصوص‬
‫‪18‬‬ ‫الدليل األول‬
‫‪18‬‬ ‫الدليل الثاين‬
‫‪19-18‬‬ ‫الدَّ ُ‬
‫ليل الثَّالث‬
‫‪19‬‬ ‫الدليل الرابع‬
‫‪20‬‬ ‫الدليل اخلامس‬
‫‪21-20‬‬ ‫الدليل السادس‬
‫‪23-22‬‬ ‫الدليل السابع‬
‫‪22‬‬ ‫األدب ُمقدم عىل االمتثال‬
‫‪26-23‬‬ ‫الدليل الثامن‬
‫‪27-26‬‬ ‫الدليل التاسع‬
‫‪28-27‬‬ ‫الدليل العارش‬
‫‪29‬‬ ‫الدليل احلادي عرش‬
‫‪31-30‬‬ ‫الدليل الثاين عرش‬
‫‪33-31‬‬ ‫الدليل الثالث عرش‬

‫‪151‬‬
‫‪34-33‬‬ ‫الدليل الرابع عرش‬
‫‪35-34‬‬ ‫الدليل اخلامس عرش‬
‫‪38-35‬‬ ‫الدليل السادس عرش‬
‫‪39-38‬‬ ‫الدليل السابع عرش‬
‫‪41-40‬‬ ‫الدليل الثامن عرش‬
‫‪42-41‬‬ ‫الدليل التاسع عرش‬
‫‪44-43‬‬ ‫الدليل العرشون‬
‫‪45-44‬‬ ‫الدليل احلادي والعرشون‬
‫‪46-45‬‬ ‫الدليل الثاين والعرشون‬
‫‪47‬‬ ‫الدليل الثالث والعرشون‬
‫‪48-47‬‬ ‫الدليل الرابع والعرشون‬
‫‪49‬‬ ‫الدليل اخلامس والعرشون‬
‫‪50‬‬ ‫الدليل السادس والعرشون‬
‫‪51‬‬ ‫الدليل السابع والعرشون‬
‫‪54-52‬‬ ‫الدليل الثامن والعرشون‬
‫‪53‬‬ ‫تنبيه هام‬
‫‪57-55‬‬ ‫الدليل التاسع والعرشون‬
‫‪58-57‬‬ ‫فائدة يف السامع‬
‫‪59-58‬‬ ‫أهل مكة والسامع‬
‫‪63-59‬‬ ‫(فصل) كالم نفيس يف السامع لعز الدين عبدالسالم بن‬
‫غانم‬
‫‪66-63‬‬ ‫حديث الروح‬
‫‪67-66‬‬ ‫بيان أهل الترشيع‬
‫‪69-68‬‬ ‫اخلامتة‪ :‬االمتياز العظيم‬
‫‪71-70‬‬ ‫الدليل الثالثون ( َف ُّ‬
‫ض اخلتام)‬

‫‪152‬‬
‫تفريج الكرب يف نفحات رجب‬
‫‪77-75‬‬ ‫املقدمة‬
‫‪76‬‬ ‫ملاذا سمي رجب برجب؟‬
‫‪76‬‬ ‫الوراق‬
‫كالم راق أليب بكر ّ‬
‫‪76‬‬ ‫وصية احلافظ ابن رجب يف َتغا ُنم رجب‬
‫‪91-78‬‬ ‫فوائد املقدمة‬
‫‪79-78‬‬ ‫الفائدة األوىل‬
‫‪78‬‬ ‫املراد من قوهلم (مل يصح أو مل يثبت)‬
‫‪84-79‬‬ ‫الفائدة الثانية‬
‫‪80‬‬ ‫قاعدة‪ :‬من مقاصد الرشع‬
‫‪81-80‬‬ ‫فتوى للعز بن عبد السالم يف فضائل رجب‬
‫‪82-81‬‬ ‫استحسان الشافعي صيام رجب وتأييد البيهقي والتاج‬
‫السبكي‬
‫‪82‬‬ ‫زهدَ يف صوم رجب بدعوى‬
‫جواب التاج السبكي عىل َمن َّ‬
‫ضعف أحاديثها‬
‫‪82‬‬ ‫تعظيم السلف لألشهر احلرم بالصيام‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫نقل ابن رجب‬
‫‪83-82‬‬ ‫العمل باحلديث الضعيف يف األحكام وغريها‬
‫‪85-83‬‬ ‫(حاشية) جليلة يف العمل بالرؤيا‬
‫‪88-85‬‬ ‫الفائدة الثالثة‪ :‬وصية اإلمام حجة اإلسالم الغزايل يف تغانم‬
‫الليايل واأليام املخصوصة بالفض التام‬
‫‪90-88‬‬ ‫الفائدة الرابعة‪:‬‬
‫‪89-88‬‬ ‫كتب ليس هلا أسانيد‬
‫‪89‬‬ ‫ما ينبغي مراعاته يف الكتب املحذوفة أسانيدها‬
‫‪89‬‬ ‫(حاشية) َمن هم أهل الترشيع‬
‫‪90‬‬ ‫العصبية املذهبية‬
‫َّ‬ ‫َخ َطر‬

‫‪153‬‬
‫‪94-91‬‬ ‫احلديث األول‪َ « :‬من صام يوم السابع وعرشين من‬
‫رجب»‬
‫‪92‬‬ ‫الوراق‬ ‫َ‬
‫حال الراوي َمطر َّ‬
‫‪94-92‬‬ ‫حال الراوي شهر بن حوشب‬
‫‪93-92‬‬ ‫ض عىل توثيقه بناجذيك‬ ‫(حاشية) إذا و َّثق املتعن ُِّت را ٍو َ‬
‫فع َّ‬
‫‪93‬‬ ‫احلسن لذاته‬
‫‪93‬‬ ‫الصدوق وروايته‬
‫‪93‬‬ ‫احلسن لغريه‬
‫‪94‬‬ ‫تنبيه‪ :‬يف حكم املحدثني باإلنكار واالستغراب‬
‫‪97-94‬‬ ‫ٌ‬
‫وليلة )‬ ‫يوم‬‫ب ٌ‬ ‫احلديث الثاين ( يف َر َج ٍ‬
‫‪95‬‬ ‫معنى قوهلم‪ :‬سنده أمثل‬
‫‪95‬‬ ‫هياج بن بسطام اهلروي‬ ‫حال الراوي َّ‬
‫‪96‬‬ ‫تنبيه مفيد‪ :‬معنى قوهلم ( ُيكتب حديثه وال يحُ تج به)‬
‫‪97‬‬ ‫للهياج بن بسطام بروايته املناكري‬ ‫فصل‪ :‬يف هتمتهم ّ‬ ‫ٌ‬
‫‪102-98‬‬ ‫املِ ِف َيها )‬‫للع ِ‬
‫ليلة ُي ْكت َُب َ‬ ‫ب ٌ‬ ‫احلديث الثالث ( يف َر َج ٍ‬
‫‪102-99‬‬ ‫الكالم عن حديث حممد بن الفضل بن عطية‬
‫‪99‬‬ ‫قاعدة‪ :‬حديث املرتوك ليس موضوع ًا‬
‫‪102-101‬‬ ‫فائدة عظيمة‬
‫‪103-102‬‬ ‫الناس عنه)‬ ‫ُ‬ ‫شهر ُ‬
‫يغفل‬ ‫ذاك ٌ‬ ‫احلديث الرابع ( َ‬
‫‪105-104‬‬ ‫ام َثال َثة أيا ٍم ِم ْن َشه ٍر حرام )‬ ‫احلديث اخلامس ( َم ْن َص َ‬
‫‪105‬‬ ‫قال َل ُه َر َج ٌب )‬ ‫اجل َّن ِة نهَ ر ًا ُي ُ‬
‫إن يف َ‬ ‫احلديث السادس ( َّ‬
‫‪106‬‬ ‫وش ْع َ‬
‫بان )‬ ‫ب َ‬ ‫الله َّم َبا ِر ْك لنا يف َر َج ٍ‬ ‫احلديث السابع ( ُ‬
‫‪107-106‬‬ ‫َ‬
‫وشعبان)‬ ‫رجب‬
‫َ‬ ‫رمضان إال‬‫َ‬ ‫احلديث الثامن ( مل َي ُص ْم بعدَ‬
‫‪111-107‬‬ ‫رجب )‬‫ٍ‬ ‫صام يوم ًا من‬ ‫احلديث التاسع ( َمن َ‬
‫‪108‬‬ ‫احلكم عىل حديث الراوي رشدين‬ ‫(حاشية) فائدة‪ :‬يف ُ‬
‫‪112-111‬‬ ‫الدعاء)‬
‫ُ‬ ‫فيهن‬
‫ليال ال ُي َر ُّد َّ‬ ‫مخس ٍ‬ ‫احلديث العارش ( ُ‬

‫‪154‬‬
‫‪112‬‬ ‫خربين يف فضل رجب‬
‫‪122-113‬‬ ‫اخلامتة ‪ ،‬وفيها فوائد‪..‬‬
‫‪114-113‬‬ ‫الفائدة األوىل‪ :‬وظائف رجب‬
‫‪113‬‬ ‫فضل الصيام يف رجب‬
‫‪114-113‬‬ ‫فضل الذبح يف رجب‬
‫‪114‬‬ ‫سنية االعتامر يف رجب‬
‫‪114‬‬ ‫الزكاة يف رجب‬
‫‪122-114‬‬ ‫الفائدة الثانية‪ :‬املجالس يف احلجاز‬
‫‪15‬‬ ‫رد ابن تيمية عىل املنكرين هلذه املجالس‬
‫‪116-15‬‬ ‫تنبيه‪ :‬أقسام البدعة‬
‫‪117-116‬‬ ‫أدلة مؤيدة للبدعة احلسنة‬
‫‪117‬‬ ‫فائدة‪ :‬معنى الرهبانية‬
‫‪117‬‬ ‫فتوى البن تيمية تؤيد هذه املجالس‬
‫‪118-117‬‬ ‫أمثلة للبدع السيئة‬
‫‪120-118‬‬ ‫بدعة املتشددين املعارصين‬
‫‪121-120‬‬ ‫ما حيتاجه املنتقدين‬
‫‪122-121‬‬ ‫دفع اهلل البال َء بربكة هذه املجالس وأهلها‬
‫ُ‬

‫القول األمت بأن اإلسراء واملعراج يف رجب األصم‬


‫‪127‬‬ ‫املقدمة‬
‫‪129-128‬‬ ‫املسلك األول‬
‫‪129-128‬‬ ‫فصل‪ :‬اختالف العلامء يف وقت املعراج ‪ ،‬وال َّنتيجة‬
‫‪133-130‬‬ ‫ومقيد)‬
‫املسلك الثاين‪( :‬يتكون من حديثني ؛ مطلق َّ‬
‫‪131‬‬ ‫واملقيد (وفيها وجوه)‬
‫َّ‬ ‫اجلمع بني املطلق‬

‫‪155‬‬
‫‪131‬‬ ‫اخلالف ال جيوز مراعاته إذا كان خمالفا لنص صحيح‬
‫‪133-131‬‬ ‫إثبات ذلك من وجوه ‪ ،‬والنتيجة‬
‫‪136-134‬‬ ‫املسلك الثالث‬
‫‪136-134‬‬ ‫قاعدة‪ :‬التجربة من شواهد صدق احلديث‬
‫‪135‬‬ ‫قاعدة‪ :‬جيوز تقييد املطلق بالعرف العميل‬
‫‪135‬‬ ‫تنبيه‪ِ :‬من أعرق قواعد التخصيص‬
‫‪136-135‬‬ ‫فائدة‪ :‬إذا تلقي احلديث الضعيف بالقبول يكون متوترا‬
‫‪136‬‬ ‫دليل ختصيص بعض األيام ببعض األعامل الصاحلة‬
‫‪141-137‬‬ ‫املسلك العام‪ :‬وفيه حديث‬
‫‪132-137‬‬ ‫شواهد احلديث‪ :‬احلديث األول‬
‫‪138‬‬ ‫احلديث الثاين‬
‫‪139-138‬‬ ‫احلديث الثالث‬
‫‪141-139‬‬ ‫دليل آخر‪ :‬حديث لبس اخلرقة الصوفية ‪ ،‬ولبس األئمة هلا‬
‫‪140‬‬ ‫(حاشية)‪ :‬إثبات سامع احلسن البرصي من سيدنا عيل‬
‫‪144-142‬‬ ‫خامتة القول األتم (وفيها فوائد مهمة)‬
‫‪142‬‬ ‫الفائدة األوىل‪ :‬فضل ليلة اإلرساء‬
‫‪142‬‬ ‫الفائدة الثانية‪ :‬حتويل القبلة يف رجب‬
‫‪144-142‬‬ ‫الفائدة الثالثة‪ :‬حكم االجتامع لسامع قصة اإلرساء‬
‫‪149-145‬‬ ‫سطور عن املؤلف وبعض شيوخه الكرام‬

‫‪156‬‬
157
158

You might also like