Professional Documents
Culture Documents
إمكان المعرفة (الشك واليقين)
إمكان المعرفة (الشك واليقين)
تحت إشراف:
الدكتور عثمان شهاب (حفظه هللا)
إمكان املعرفة
عندما نتحدث عن موضوع املعرفة والحقيقة في سياق الفلسفة .الفلسفة تعتبر البحث عن الحقيقة
ً
أساسيا .ال يمكن وجود معرفة بدون حقيقة ،وال يمكن أن تكون الحقيقة خارج نطاق والسعي وراء املعرفة ً
أمرا
املعرفة .الحقيقة تعتبر األساس والهدف لكل بحث في مجال نظرية املعرفة .بدون االعتراف بوجود الحقيقة ،ال
ومع ذلك ،هناك من يشكك في املعرفة والحقيقة بشكل كبير .هذا التشكيك يمكن أن يصل إلى حدود
متطرفة ،حيث يتم إنكار وجود أي معرفة أو حقيقة .تلك الشكوك قد تؤدي إلى عدم االستقرار الفكري
أمرا ً
صعبا .ومع ذلك ،يعتبر االعتراف بوجود الحقيقة والسعي وراء والفلسفي ،وتجعل البحث عن املعرفة ً
ورأينا واحدا من أعالم السوفسطائية وهو جورجياس ( 3٧5 - 4٨0ق.م) يذهب في كتاب له أسماء
1
النص يشير إلى وجهة نظر الفيلسوف السوفسطائي جورجياس الذي أشار في كتابه "أسماء
(الالوجود)" إلى فكرة عدم وجود أي ش يء ،وإذا كان هناك ش يء ،فإن اإلنسان غير قادر على فهمهُ .يذكر أن
املوجة السوفسطائية كادت تدمر الفلسفة ،لكن ظهور سقراط أنقذها من السقوط وأعاد احترامها.
هناك اتجاهان رئيسيان فيما يتعلق بإمكانية املعرفة :االتجاه الذي ينكر إمكانية املعرفة ويشكك في
قدرة اإلنسان على الوصول إلى معارف يقينية ،واالتجاه اآلخر الذي يؤكد على إمكانية املعرفة وقدرة اإلنسان
على الوصول إلى معارف يقينيةُ .يعرف أصحاب االتجاه األول بالشكاكين أو أصحاب مذهب الشك ،بينما ُيعرف
الباب الثاني
مذهب الشك ( )Scepticismهو مذهب فلسفي يشكك في إمكانية الوصول إلى معرفة يقينية أو معرفة
مطلقة .في األصل ،كان مفهوم الشك في اللغة اليونانية يعني الفحص الدقيق والتحقق ،ولكن مع مرور الزمن
تغير معنى الكلمة ليشير إلى الشخص الذي ينكر إمكانية العلم أو املعرفة.
1زقزوق ،محمود حمدى ،تمهيد للفلسفة( ،الناشر :دار المعارف -القاهرة ،الطبعة :الخامسة) ص123-121 :
2
الشكاء يرفضون أي نوع من املحاوالت الفلسفية للوصول إلى املعرفة ،سواء كان ذلك بشكل جزئي أو
ً
تحديا للفلسفة ،حيث يهدف إلى هدم الفلسفة والفكر بشكل عام .من الصعب كامل .يعتبر مذهب الشك
مهاجمة نظرية فلسفية بشكل أكثر من مهاجمتها بواسطة مذهب الشك ،ألن ذلك يعني إنكار الشروط األساسية
باختصار ،مذهب الشك يمثل موقف فلسفي ينكر إمكانية الوصول إلى معرفة مطلقة أو يقينية،
ويعتبر ً
تحديا للفلسفة التقليدية واملعرفة الثابتة.
وقد سمي باملذهبي ألن صاحبه يعتمد على الشك في حياته وكل ما يتعلق بها كمذهب أساس ي ،وهذا
ً
مقتنعا باعتناقه لهذا املذهب. دائم ،فصاحبه ال ينفك يشك بكل ش يء على الدوام ما دام
دائما ،فما دام الشك هو الهدف ً
دائما فإن الشك سيؤدي إلى معلومة تؤدي إلى الشك نتيجته الشك ً
تصبح الشخصية غير سوية وتميل إلى العزلة لتجنب الناس لها.
3
الشك وفرقه :
هذا النوع من موضوع الشك املطلق أو املذهبي ،والذي ظهر في تاريخ الفكر اليوناني على يد
وجود موضوعه.
.3السوفسطائيون أنكروا وجود الحقيقة املطلقة ،وأن ما يظهر للشخص أنه حقيقة يكون هو الحقيقة
.4هذا الشك اإللحادي ينكر العالقة بين اإلنسان العارف والوجود املعروف ،بل ينكر حتى وجود هللا.
.5السوفسطائيون أنكروا التفريق بين ما يدرك بالحس وما يدرك بالعقل ،وبين الوجود الذهني والوجود
الخارجي.
ومن النظر في آراء السوفسطائيين نجد أن السفسطة جملة من النظريات واملواقف العقلية املشتركة
بين كبار السوفسطائيين كبر و تاغوراس وجورجياس ومن تبعهما وقد قسمها علماؤنا املسلمون تبعا
ملوقفها الشكى من الحقيقة إلى ثالث فرق ،ويعنون لها جميعا بالشك والسفسطة ،هي :
4
.1فرقة الالأدرية :
الذين يقولون بالتوقف في الحكم والذين يقدحون في كل من الحس والعقل طريقين للمعرفة ،ذلك أنه
ليس بعد الحس والعقل من حاكم إال النظر ،والنظر فرع الحس والعقل فباطل ببطالنهما ،وأنه ال ضرورة
فيجب التوقف في الحكم ،في وجود كل ش يء وفي علمنا به هذا التوقف من شأنه أن يورث حاال من عدم القابلية
للتأثر والسكينة الكاملة في النفس والتحرر من العاطفة وضربا من الالمباالة باألشياء الخارجية.
وهم الذين يعاندون في ويدعون أنهم جازمون بأن ال موجود أصال ،وإنما نشأ مذهبهم من اإلشكاالت
املتعارضة ،إذ ما من قضايا بديهية أو نظرية إال ولها معارضة مثلها في القوة تقاومها .
وهم القائلون بأن حقائق األشياء تابعة لالعتقادات ،دون العكس ،وأن اإلنسان مقياس األشياء جميعا.
وهذا يعنى أن املعرفة ال تتعلق باملوضوع املعروف ،بل بالذات العارفة ،وأن مبدأ األشياء ،ينبغى أن ال يطلب في
العالم الخارجي ،وإنما هو بالنسبة لكل فرد على حدة ،فالحقيقة عندك هي ما تتراءى لك والحقيقة عندى هي
ما تتراءى لى ،فال يوجد مقياس كلى للحقيقة ،وال وجود الحقيقة موضوعية ،يمكن الرجوع اليها لتصويب
5
وفي كل هذا إنكار للعلم الذي هو صلة الذات العارفة باملوضوع املعروف ،والذي هو الحقيقة الكلية
املوضوعية ،التي يشترك الناس في أصولها العامة ،وقواعدها البديهية ،والذى هو الحكم الفعلى على األشياء
الشك املنهجي أو يسمى أيضا بالشك الفلسفي ال يرفض الحقيقة وال يذهب إلى حد التمادي في الجمود
على إنكار قدرة اإلنسان على املعرفة وإنما هو كما قال ديكارت(( :وسيلة للحصول على معرفة الحقيقة معرفة
أكثر وضوحا)) أو هو مجرد طريق للوصول إلى الحقائق كما يقول اإلمام الغزالي(( :الشكوك هي املوصلة إلى
الحقائق ،فمن لم يشك لم ينظر ،ومن لم ينظر لم يبصر ،ومن لم يبصر بقى في العمى واضالل)).
ويعتبره ديكارت أمرا ضروريا للباحث عن الحقيقة ،فيقول في كتابه (مبادئ الفلسفة) ...(( :للفحص
عن الحقيقة يحتاج اإلنسان مرة في حياته إلى أن يضع األشياء جميعا موضع الشك بقدر اإلمكان)) .ويقول
أيضا في كتابه (مقال عن املنهج) ...(( :نظرا لرغبتي ...في أن أفرغ للبحث عن الحقيقة ،رأيت أنه يجب على ...أن
أنبذ كل ما أستطيع أن أتوهم فيه أقل شك ،على أنه باطل على اإلطالق ،وذلك ألرى إن كان ال يبقى في اعتقادي
فيتضح لنا أن الشك املنهجي يعتبر طريقا مشروعا في الفلسفة ،بل تذهب إلى القول بأنه املنهج الفلسفي
األصيل الذي ال بد منه لكل تفلسف جاد يهدف إلى الوصول إلى املعارف اليقينية التي تقوم على أسس سليمة.
2
الكردي ،راجح عبد الحميد ،نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة ،الرياض – الطبعة األولى 1412هـ1992 -م ،ص 85-83
6
والغزالي وديكارت ليسا أول من اهتدى إليه على اإلطالق بل كانت بذور هذا املنهج مائلة لدى كل من سقراط
وأرسطو.
واتخذ سقراط منهج التهكم والتوليد ،وأن جانب التهكم فيه وهو الجانب السلبي ،ليس في حقيقة أمره
إال الشك املنهجي يقصد به سقراط تحرير العقل من األخطاء وتطهيره من األباطيل السوفسطائية وذلك بإثارة
التساؤالت والشكوك .وجانب التوليد فيه وهو الجانب اإليجابي من منهج سقراط ،وفي هذه املرحلة يعمل على
ورأى أرسطو ما للشك املنهجي من أهمية بالغة لكل باحث عن الحقيقة ،ولهذا يقول أرسطو (( :إن
الذين يقومون ببحث علمي من غير أن يسيقوه بشك يزاولونه ،يشبهون الذين يسيرون على غير هدى ،فال
وكان أبو هاشم املعتزلي (املتوفى عام 933م) يرى أن الشك ضروري لكل معرفة ،ويعتبر أن أول واجب
على املكلف هو لشك ،ألن النظر العقلي من غير سابقة شك تحصيل حاصل.
وقد أكد هيوم )1٧٧6 – 1٧11( Humeعلى أهمية ما أسماه بالشك العلمي أو األكاديمي واعتبره
ضروريا لكل بحث نزيه ،ألنه يبعث على مواصلة النظر في األمور ،وإمعان التفكير فيها ،ومواصلة اختبارها من
غير توقف.
وهكذا يشكل الشك املنهجي أو الفلسفي في مقابل الشك املذهبي اإلمكان األساس ي الثاني للفكر
اإلنساني .والشك الفلسفي هو أيضا شك (راديكالي) متطرف مثل الشك املذهبي ،إذ هو يفحص ويشك مثل
الشك املذهبي في كل املعرف القائمة ،ويشك في إمكان املعرثة ،ويأخذ في اعتباره كل إمكانات الضالل في الفكر،
7
ويمتد أيضا إلى (املعارف) الشكية املذهبية التي أضحت اليوم إلى حد ما اعتقدات جامدة وبالنظر إلى هذه
وإذا تم تنفيذ الشك الفلسفي بكل نتائجه وتطرفه ،ولم ينخفض إلى مجرد شك مذهبي أو يتجمد فإنه
يستطيع أن يصل إلى تأسيس فلسفي للحقيقة .وهذا التأسيس يتضمن في الوقت نفسه التغلب على مذهب
الشك.
مصادر املعرفة
عندما نطرح السؤال عن مصدر املعرفة تبرز أمامنا اإلجابة متمثلة بصفة رئيسية في ثالثة اتجاهات مختلفة،
باإلضافة إلى مصدر آخر من مصادر املعرفة وهو اإللهام ،وفيما يلى ملحة سريعة من هذه املذاهب.
يذهب االتجاه العقلى إلى القول بأن كل معرفة تستحق هذا االسم تنبع من الفكر أو من العقل ،والعقل هذا
يعنى الفكر أيضا ،ألن العقل يطلق على ملكة الفكر ،وهذه املعرفة التي تنبع من العقل تعتبر معرفة أولية ،
وهذا يعنى أنها مستقلة عن الخبرة ،ألن املعرفة التي تأتينا من الخبرة -ومن الخبرة الحسية على وجه الخصوص
8
ومن طبيعة الفك ر العادي أنه يلجأ في هذه السائلة إلى اتخاذ موقف يمثل االتجاه الحس ى أو التجريبي
الذي يرى أن معرفتنا لألشياء ناتجة عن اإلدراك الحس ى لها ،ولكن الفلسفة عندما يتاح لها أن تتخلص من
تصور الفكر العادي للعالم وتتحرر من قيوده ،وتتخذ لنفسها موقفا مقابال فإنه يكون هناك حينئذ مجاال
لتكوين النظرية العقلية ،فالفكر العادي يأخذ معلوماته عن األشياء من الحس ،أما املعرفة الفلسفية فإنها -
وقد تكون اتجاه املذهب العقلي في الفلسفة في وقت مبكر ،فقد اعتقد اإليليون أن العالم الحقيقي ال
يعرف إال عن طريق الفكر الخالص من الحواس ،واقتفى افالطون أثرهم .وزاد على ذلك تصوره أن النفس
باتصالها بالجسم تكون كأنها في سجن ،وأن هذا االتصال يفقدها صفاءها ولذلك فإن املعرفة الحقة ال تكون
وقد اتخذت املذاهب الكبرى األولى في الفلسفة الحديثة اتجاها عقليا في نظرية املعرفة .ويصادفنا ذلك
مثال عند دیکارت و اسبينوزا وليينتن .فمنطلقهم يتمثل في علم الرياضة ،وهدفهم كان الوصول إلى علم طبيعة
رياض ي ،وفي النهاية تكوين نظرية رياضية في العالم .ويعتبر املذهب العقلي هو الصورة األولى لنظرية املعرفة
العلمية .وقد كان ثمرة التكوين املذاهب امليتافيزيقية الكبرى باعتباره تبريرا معرفيا أو إبستمولوجيا لها .أما
املذهب التجريبي كمذهب فإنه متأخر عن املذهب العقلي ،حيث نشأ في شكل نقد للمذاهب امليتافيزيقية
ونظرياتها في املعرفة.
وتتمثل دعوى املذهب العقلي -كما سبق أن أشرنا -في أن كل معرفة حقة أو علمية تنبثق من العقل
عن طريق تطور داخلي من مبادئ أصلية بديهية ،وهذه املبادئ ،ال تأتي من الخبرة ،كما ال يمكن مراقبتها أيضا
9
واإلجابة عن السؤالين التاليين تعطينا بصفة رئيسية اتجاه نظرية املعرفة للمذهب العقلي :
ويمكن أن يفرق املرء -حسبما يرى باولزن - Pausenبين ثالث صور أساسية للمذهب العقلي تتميز عن
املذهب العقلي امليتافيزيقي ويمثله افالطون ،واملذهب العقلي الرياض ي ويمثله ديكارت واسبينوزا
واملذهب العقلي الصوري ويمثله كانت وتعرف الصورة األخيرة أيضا باملذهب العقلي النقدي فقد أراد كانت أن
يضع نهاية للنزاع بين املذهب العقلي في صورته الكالسيكية ((افالطون ،ديكارت ،أسبينوزا)) وبين التجريبيين
((لوك .كوندياك)).
األساس الذي يقوم عليه هذا املذهب يتمثل في أن الحقيقة الواقعة في ذاتها تعد فكرة من األفكار ،
ولهذا يمكن معرفتها من طريق فكر خالص ،وقد ذهب أفالطون إلى أن العالم الحقيقي ليس هو عالم اإلدراك
الحس ي ،وإنما الحقيقة الواقعة في ذاتها في نظام فكري كائن أي أن العالم الحقيقي هو عالم أفكار .
والنفس في حقيقتها فكر ،والوجود األرض ى يفقدها صفاءها بسبب اتصالها بالجسم -كما سبق أن
أشرنا -ولهذا فإن واجب النفس يقتض ي بها أن تعمل جاهدة على التحرر من الحسيات حتى يعود لها صفاءها
،وكلما اقتربت من تحقيق هذا الهدف كلما كانت معرفتها للمبادئ األولى أكثر وضوحا ،وتعد هذه املعرفة في نظر
ً
افالطون معرفة موضوعية ألن العالم في حقيقته يمثل لديه نسقا فكريا.
10
(ب) املذهب العقلي الرياض ي :
تجد هذه الصورة من صور املذهب العقلي في القرن السابع عشر ،وهي صورة تختلف عن سابقتها في
املذهب األفالطوني من حيث أنها تبقى داخلية أى أنها ال تتعلق بعالم األفكار كما هو الحال لدى أفالطون .
تتلخص دعوى املذهب العقلي الرياض ي في أن كل علم من العلوم خاصة علم الطبيعة ينبغي أن يتخذ
صورة علم الرياضة ،أي صورة نظام واضح منبثق من مبادئ ،وقائم على البرهان.
واإلجابة على كال السؤالين السابقين من جانب هذا املذهب تتشكل على النحو التالي :
يجيب ديكارت عن السؤال عن طبيعة املبادئ األولى بأنها أفكار فطرية ،وهذا التعبير ينتسب إلى
الفلسفة األفالطونية ،ولكنه ال يعنى هنا ما كان يعنيه قديما ،فديكارت ال يتحدث عن وجود سابق للنفس وال
من نظرية التذكر األفالطوني ،وإنما يعنى أن هناك عناصر للمعرفة نابعة أصال من العقل وليست في حاجة إلى
شهادة الخبرة أو التجربة ،وهذا أمر تستطيع أن نتبينه في علم الرياضة ،فمبادئ هذا العلم في تعريفات أو
حدود وبديهيات ،وحقيقتها ال تستند إلى خبرة أو مالحظة .وهذا هو الحال دائما في كل علم حقيقي ،وعلم
أما السؤال عن كيفية التوصل إلى معرفة موضوعية يتم فيها التطابق بين املفاهيم العقلية والحقيقة
الواقعة فيمكن أن يجاب من ذلك -من وجهة النظر الديكارتية -بأن (( كل ما أراء واضحا جدا ومتميزا جدا فهو
حق)).
11
ويعتمد كل من الوضوح والتميز بدورهما لدى ديكارت -على معرفة هللا التي يعتمد عليها يقين كل علم
على اإلطالق ،وفي ذلك يقول ديكارت ((وإذن فقد وضح في كل الوضوح أن يقين كل علم وحقيقته إنما يعتمدان
على معرفتنا لإلله الحق ،بحيث يصح لي أن أقول :إني قبل أن أعرف هللا ما كان بوسعي أن أعرف شيئا أخر
معرفة كاملة)).
-املذهب التجريبي
يأخذ املذهب التجريبي اتجاها مضادا للمذهب العقلي ،ويرفض مثل هذه التأمالت امليتافيزيقية
للمذهب العقلي ،ويعتبرها تالعبا باملفاهيم ال ثمرة له ،ويؤكد أنه لو كانت هناك مفاهيم وقضايا فطرية فإنه
يجب أن يكون ذلك عند كل الناس ،وعند املتوحشين واألطفال أيضا .يقول جون لوك ( )2٧04 - 1632في ذلك
:إنها (أي األفكار) ليست مطبوعة في العقل بطبيعتها ألنها ليست معروفة بالنسبة لألطفال والبلهاء وغيرهم .
أوال :ألن من الواضح أن جميع األطفال والبلهاء ليس لديهم أدنى فهم أو فكر عنها وهذا النقص كاف
إلبطال تلك املوافقة العامة التي يجب أن تكون مالزمة بالضرورة لكل الحقائق الفطرية .
ويبدو لي أنه أقرب إلى التناقض أن نقول بأن هناك حقائق مطبوعة على الروح وهي ال تدركها ،ألن
الطبع إن كان يعنى شيئا فلن يعنى أكثر من جعل حقائق معينة شيئا يمكن إدراكه ألنه يبدو لي أمرا من الصعوبة
فاألفكار الفطرية إذن ال وجود لها عند املذهب التجريبي ،وإذا لم يكن هناك ش يء فطرى ،وإذا كانت
النفس عند الوالدة مثل صفحة بيضاء tabula rastفإن املعارف تصل إليها عن طريق الخبرة ،أي من طريق
اإلدراك الحس ي ،وهذا ما يجيب به جون لوك عن السؤال من مصدر املعرفة واألفكار التي لدى العقل البشرى
حيث يقول :إني أجيب على ذلك بكلمة واحدة .إنها تأتي من الخبرة Experienceوعليها تتأسس معارفنا جميعا
12
ومنها تنبثق في النهاية ،ومالحظتنا -التي نتجه إما إلى موضوعات مدركة إدراكا حسيا خارجيا أو إلى عمليات
العقل التي تدركها وتتأمل فيها -هي التي تأتي لعقلنا بمادة الفكر كلها.
وهذان هما مصدرا املعرفة اللذان تنبع منهما كل األفكار التي تمتلكها أو التي تستطيع بطبيعة الحال
أن نمتلكها.
وهكذا نرى أن االتجاه التجريبي الذي سار فيه لوك يتلخص في أن املعرفة اإلنسانية معرفة بعدية ،
أي تأتي في مرحلة تالية أو متأخرة عن التجربة الحسية .فالعاقل يستمد كل خبراته ومعلوماته من التجربة
وحدها .ولذلك يقول لوك :إذا سألنا سائل عن شخص ما ((متى بدأ يفكر ؟ فالبد أن يكون الجواب :حاملا بدأ
يحس ،وعلى ذلك فاإلحساس سابق على التفكير .وليس هناك ش يء في العقل مالم يكن من قبل في الحس.
وتتمثل مهمة العقل واإلرادة في أمر واحد فقط هو خلط هذه املادة وتركيبها.
وإذا كانت املعارف تأتي من الخبرة .وعن طريقها تحصل على شرعيتها ،فإن املعرفة في نظر التجريبيين
-ال يمكن لها أن تعلو فوق نطاق الخبرة ،وعلى ذلك فإن امليتافيزيقا -باعتبارها معرفة أو علما بما هو خارج
أما كوندياك ( - )۱۷۸۰ - ۱۷۱۵وهو التلميذ الفرنس ي لجون لوك -فقد كان أكثر راديكالية من أستاذه،
فلم يأخذ بما قال به لوك من أن مصدر الخبرة يتمثل في كل من اإلدراك الحس ي والتفكير -وإن كان هذا األخير
يعتمد أيضا على اإلدراك الحس ي -وإنما ذهب كوندياك إلى األخذ باإلدراك الحس ي فقط ،فالعقل عنده ال يملك
13