Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 14

‫إمكان املعرفة‪ ،‬في مذاهب الشك (الشك املطلق والشك املذهبي) وفي اليقين (التجريبي والعقلي)‬

‫بحث في مادة نظرية املعرفة‬

‫إعداد الطالب ‪:‬‬


‫فضلي زاتي مبارك (‪)21230615000003‬‬
‫فكري هداية (‪)2123061500004‬‬
‫آياتي حسنة فاطمة (‪)212306150000023‬‬

‫تحت إشراف‪:‬‬
‫الدكتور عثمان شهاب (حفظه هللا)‬

‫قسم الدراسات العليا – كلية الدراسات اإلسالمية والعربية‬


‫جامعة شريف هداية هللا اإلسالمية الحكومية جاكرتا‬
‫‪2024‬م‬
‫الباب األول‬

‫إمكان املعرفة‬

‫عندما نتحدث عن موضوع املعرفة والحقيقة في سياق الفلسفة‪ .‬الفلسفة تعتبر البحث عن الحقيقة‬
‫ً‬
‫أساسيا‪ .‬ال يمكن وجود معرفة بدون حقيقة‪ ،‬وال يمكن أن تكون الحقيقة خارج نطاق‬ ‫والسعي وراء املعرفة ً‬
‫أمرا‬

‫املعرفة‪ .‬الحقيقة تعتبر األساس والهدف لكل بحث في مجال نظرية املعرفة‪ .‬بدون االعتراف بوجود الحقيقة‪ ،‬ال‬

‫يمكننا التقدم في فهم نظرية املعرفة‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬هناك من يشكك في املعرفة والحقيقة بشكل كبير‪ .‬هذا التشكيك يمكن أن يصل إلى حدود‬

‫متطرفة‪ ،‬حيث يتم إنكار وجود أي معرفة أو حقيقة‪ .‬تلك الشكوك قد تؤدي إلى عدم االستقرار الفكري‬
‫أمرا ً‬
‫صعبا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يعتبر االعتراف بوجود الحقيقة والسعي وراء‬ ‫والفلسفي‪ ،‬وتجعل البحث عن املعرفة ً‬

‫املعرفة خطوة أساسية في فهم العالم والحياة بشكل عام‪.‬‬

‫ورأينا واحدا من أعالم السوفسطائية وهو جورجياس ( ‪ 3٧5 - 4٨0‬ق‪.‬م) يذهب في كتاب له أسماء‬

‫(الالوجود) إلى القول بالقضايا التالية ‪:‬‬

‫‪ -1‬ال يوجد ش يء‪.‬‬

‫‪ -2‬إذا كان هناك ش يء فاإلنسان قاصر عن إدراكه‪.‬‬

‫‪ -3‬إذا فرضنا أن إنسانا أدركه فلن يستطيع أن يبلغه لغيره من الناس‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫النص يشير إلى وجهة نظر الفيلسوف السوفسطائي جورجياس الذي أشار في كتابه "أسماء‬

‫(الالوجود)" إلى فكرة عدم وجود أي ش يء‪ ،‬وإذا كان هناك ش يء‪ ،‬فإن اإلنسان غير قادر على فهمه‪ُ .‬يذكر أن‬

‫املوجة السوفسطائية كادت تدمر الفلسفة‪ ،‬لكن ظهور سقراط أنقذها من السقوط وأعاد احترامها‪.‬‬

‫هناك اتجاهان رئيسيان فيما يتعلق بإمكانية املعرفة‪ :‬االتجاه الذي ينكر إمكانية املعرفة ويشكك في‬

‫قدرة اإلنسان على الوصول إلى معارف يقينية‪ ،‬واالتجاه اآلخر الذي يؤكد على إمكانية املعرفة وقدرة اإلنسان‬

‫على الوصول إلى معارف يقينية‪ُ .‬يعرف أصحاب االتجاه األول بالشكاكين أو أصحاب مذهب الشك‪ ،‬بينما ُيعرف‬

‫أصحاب االتجاه الثاني باالعتقاديين أو أصحاب مذهب التيقن أو املذهب القطعي‪.‬‬

‫وفيما يلى تتناول هذين االتجاهين بش يء من التفصيل‪ ،‬بادئين بمذهب الشك‪.1‬‬

‫الباب الثاني‬

‫أوال ‪ :‬مذهب الشك‬

‫مفهوم الشك ‪:‬‬

‫مذهب الشك (‪ )Scepticism‬هو مذهب فلسفي يشكك في إمكانية الوصول إلى معرفة يقينية أو معرفة‬

‫مطلقة‪ .‬في األصل‪ ،‬كان مفهوم الشك في اللغة اليونانية يعني الفحص الدقيق والتحقق‪ ،‬ولكن مع مرور الزمن‬

‫تغير معنى الكلمة ليشير إلى الشخص الذي ينكر إمكانية العلم أو املعرفة‪.‬‬

‫‪ 1‬زقزوق‪ ،‬محمود حمدى‪ ،‬تمهيد للفلسفة‪( ،‬الناشر‪ :‬دار المعارف ‪ -‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‪ :‬الخامسة) ص‪123-121 :‬‬

‫‪2‬‬
‫الشكاء يرفضون أي نوع من املحاوالت الفلسفية للوصول إلى املعرفة‪ ،‬سواء كان ذلك بشكل جزئي أو‬
‫ً‬
‫تحديا للفلسفة‪ ،‬حيث يهدف إلى هدم الفلسفة والفكر بشكل عام‪ .‬من الصعب‬ ‫كامل‪ .‬يعتبر مذهب الشك‬

‫مهاجمة نظرية فلسفية بشكل أكثر من مهاجمتها بواسطة مذهب الشك‪ ،‬ألن ذلك يعني إنكار الشروط األساسية‬

‫التي تقوم عليها النظرية نفسها‪.‬‬

‫باختصار‪ ،‬مذهب الشك يمثل موقف فلسفي ينكر إمكانية الوصول إلى معرفة مطلقة أو يقينية‪،‬‬
‫ويعتبر ً‬
‫تحديا للفلسفة التقليدية واملعرفة الثابتة‪.‬‬

‫أ‪ .‬الشك املطلق – املذهبي‬

‫وقد سمي باملذهبي ألن صاحبه يعتمد على الشك في حياته وكل ما يتعلق بها كمذهب أساس ي‪ ،‬وهذا‬

‫املذهب يتسم بأكثر من سمة وهي كاآلتي‪:‬‬

‫ً‬
‫مقتنعا باعتناقه لهذا املذهب‪.‬‬ ‫‪ ‬دائم‪ ،‬فصاحبه ال ينفك يشك بكل ش يء على الدوام ما دام‬
‫دائما‪ ،‬فما دام الشك هو الهدف ً‬
‫دائما فإن الشك سيؤدي إلى معلومة تؤدي إلى الشك‬ ‫‪ ‬نتيجته الشك ً‬

‫مرة أخرى وكأننا ندور في حلقة مفرغة‪.‬‬


‫ً‬
‫مطلقا‪ ،‬بل يجعله يدور حول نفسه في أسئلة كثيرة وشكوك أكثر‪ ،‬فقد‬ ‫‪ ‬ال يوصل صاحبه إلى نتيجة‬

‫تصبح الشخصية غير سوية وتميل إلى العزلة لتجنب الناس لها‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الشك وفرقه ‪:‬‬

‫هذا النوع من موضوع الشك املطلق أو املذهبي‪ ،‬والذي ظهر في تاريخ الفكر اليوناني على يد‬

‫السوفسطائيين‪ ،‬والذين سموا أيضا بالالأدريين في تراثنا الفكري‪.‬‬

‫أهم ما يمكن استخالصه‪:‬‬

‫‪ .1‬الشك املطلق يجعل املعرفة اليقينية الكلية الصحيحة بالكائنات الحقيقية ً‬


‫أمرا ال سبيل إليه‪ ،‬ويهجم‬

‫على الطرق التي يسلكها اإلنسان للمعرفة من حس وعقل‪.‬‬


‫‪ .2‬هذا الشك يقطع صلة اإلنسان املعرفية بالواقع‪ ،‬ويجعل الفكر والوجود ً‬
‫شيئا ً‬
‫واحدا‪ ،‬فالفكر يفترض‬

‫وجود موضوعه‪.‬‬

‫‪ .3‬السوفسطائيون أنكروا وجود الحقيقة املطلقة‪ ،‬وأن ما يظهر للشخص أنه حقيقة يكون هو الحقيقة‬

‫له‪ ،‬فال خطأ وال صواب مطلق‪.‬‬

‫‪ .4‬هذا الشك اإللحادي ينكر العالقة بين اإلنسان العارف والوجود املعروف‪ ،‬بل ينكر حتى وجود هللا‪.‬‬

‫‪ .5‬السوفسطائيون أنكروا التفريق بين ما يدرك بالحس وما يدرك بالعقل‪ ،‬وبين الوجود الذهني والوجود‬

‫الخارجي‪.‬‬

‫ومن النظر في آراء السوفسطائيين نجد أن السفسطة جملة من النظريات واملواقف العقلية املشتركة‬

‫بين كبار السوفسطائيين كبر و تاغوراس وجورجياس ومن تبعهما وقد قسمها علماؤنا املسلمون تبعا‬

‫ملوقفها الشكى من الحقيقة إلى ثالث فرق ‪ ،‬ويعنون لها جميعا بالشك والسفسطة ‪ ،‬هي ‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ .1‬فرقة الالأدرية ‪:‬‬

‫الذين يقولون بالتوقف في الحكم والذين يقدحون في كل من الحس والعقل طريقين للمعرفة‪ ،‬ذلك أنه‬

‫ليس بعد الحس والعقل من حاكم إال النظر‪ ،‬والنظر فرع الحس والعقل فباطل ببطالنهما‪ ،‬وأنه ال ضرورة‬

‫فيجب التوقف في الحكم‪ ،‬في وجود كل ش يء وفي علمنا به هذا التوقف من شأنه أن يورث حاال من عدم القابلية‬

‫للتأثر والسكينة الكاملة في النفس والتحرر من العاطفة وضربا من الالمباالة باألشياء الخارجية‪.‬‬

‫‪ .2‬وفرقة العنادية ‪:‬‬

‫وهم الذين يعاندون في ويدعون أنهم جازمون بأن ال موجود أصال‪ ،‬وإنما نشأ مذهبهم من اإلشكاالت‬

‫املتعارضة‪ ،‬إذ ما من قضايا بديهية أو نظرية إال ولها معارضة مثلها في القوة تقاومها ‪.‬‬

‫‪ .3‬وفرقة العددية ‪:‬‬

‫وهم القائلون بأن حقائق األشياء تابعة لالعتقادات‪ ،‬دون العكس‪ ،‬وأن اإلنسان مقياس األشياء جميعا‪.‬‬

‫وهذا يعنى أن املعرفة ال تتعلق باملوضوع املعروف‪ ،‬بل بالذات العارفة‪ ،‬وأن مبدأ األشياء‪ ،‬ينبغى أن ال يطلب في‬

‫العالم الخارجي‪ ،‬وإنما هو بالنسبة لكل فرد على حدة‪ ،‬فالحقيقة عندك هي ما تتراءى لك والحقيقة عندى هي‬

‫ما تتراءى لى‪ ،‬فال يوجد مقياس كلى للحقيقة‪ ،‬وال وجود الحقيقة موضوعية‪ ،‬يمكن الرجوع اليها لتصويب‬

‫املصيب وتخطيئ املخطىء ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫وفي كل هذا إنكار للعلم الذي هو صلة الذات العارفة باملوضوع املعروف‪ ،‬والذي هو الحقيقة الكلية‬

‫املوضوعية‪ ،‬التي يشترك الناس في أصولها العامة‪ ،‬وقواعدها البديهية‪ ،‬والذى هو الحكم الفعلى على األشياء‬

‫وجودا وعدما‪ ،‬وما يتعلق بذلك من أحكام‪.2‬‬

‫ب‪ .‬الشك املنهجي‬

‫الشك املنهجي أو يسمى أيضا بالشك الفلسفي ال يرفض الحقيقة وال يذهب إلى حد التمادي في الجمود‬

‫على إنكار قدرة اإلنسان على املعرفة وإنما هو كما قال ديكارت‪(( :‬وسيلة للحصول على معرفة الحقيقة معرفة‬

‫أكثر وضوحا)) أو هو مجرد طريق للوصول إلى الحقائق كما يقول اإلمام الغزالي‪(( :‬الشكوك هي املوصلة إلى‬

‫الحقائق‪ ،‬فمن لم يشك لم ينظر‪ ،‬ومن لم ينظر لم يبصر‪ ،‬ومن لم يبصر بقى في العمى واضالل))‪.‬‬

‫ويعتبره ديكارت أمرا ضروريا للباحث عن الحقيقة‪ ،‬فيقول في كتابه (مبادئ الفلسفة)‪ ...(( :‬للفحص‬

‫عن الحقيقة يحتاج اإلنسان مرة في حياته إلى أن يضع األشياء جميعا موضع الشك بقدر اإلمكان))‪ .‬ويقول‬

‫أيضا في كتابه (مقال عن املنهج)‪ ...(( :‬نظرا لرغبتي ‪ ...‬في أن أفرغ للبحث عن الحقيقة‪ ،‬رأيت أنه يجب على ‪ ...‬أن‬

‫أنبذ كل ما أستطيع أن أتوهم فيه أقل شك‪ ،‬على أنه باطل على اإلطالق‪ ،‬وذلك ألرى إن كان ال يبقى في اعتقادي‬

‫بعد ذلك ش يء ال يحتمل الشك ‪.))...‬‬

‫فيتضح لنا أن الشك املنهجي يعتبر طريقا مشروعا في الفلسفة‪ ،‬بل تذهب إلى القول بأنه املنهج الفلسفي‬

‫األصيل الذي ال بد منه لكل تفلسف جاد يهدف إلى الوصول إلى املعارف اليقينية التي تقوم على أسس سليمة‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫الكردي‪ ،‬راجح عبد الحميد‪ ،‬نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة‪ ،‬الرياض – الطبعة األولى ‪1412‬هـ‪1992 -‬م‪ ،‬ص ‪85-83‬‬

‫‪6‬‬
‫والغزالي وديكارت ليسا أول من اهتدى إليه على اإلطالق بل كانت بذور هذا املنهج مائلة لدى كل من سقراط‬

‫وأرسطو‪.‬‬

‫واتخذ سقراط منهج التهكم والتوليد‪ ،‬وأن جانب التهكم فيه وهو الجانب السلبي‪ ،‬ليس في حقيقة أمره‬

‫إال الشك املنهجي يقصد به سقراط تحرير العقل من األخطاء وتطهيره من األباطيل السوفسطائية وذلك بإثارة‬

‫التساؤالت والشكوك‪ .‬وجانب التوليد فيه وهو الجانب اإليجابي من منهج سقراط‪ ،‬وفي هذه املرحلة يعمل على‬

‫توليد الحقيقة من النفوس بعد أن يكون قد طهرها من األوهام‪.‬‬

‫ورأى أرسطو ما للشك املنهجي من أهمية بالغة لكل باحث عن الحقيقة‪ ،‬ولهذا يقول أرسطو‪ (( :‬إن‬

‫الذين يقومون ببحث علمي من غير أن يسيقوه بشك يزاولونه‪ ،‬يشبهون الذين يسيرون على غير هدى‪ ،‬فال‬

‫يعرفون االتجاه الذي ينبغي أن يسلكوه))‪.‬‬

‫وكان أبو هاشم املعتزلي (املتوفى عام ‪933‬م) يرى أن الشك ضروري لكل معرفة‪ ،‬ويعتبر أن أول واجب‬

‫على املكلف هو لشك‪ ،‬ألن النظر العقلي من غير سابقة شك تحصيل حاصل‪.‬‬

‫وقد أكد هيوم ‪ )1٧٧6 – 1٧11( Hume‬على أهمية ما أسماه بالشك العلمي أو األكاديمي واعتبره‬

‫ضروريا لكل بحث نزيه‪ ،‬ألنه يبعث على مواصلة النظر في األمور‪ ،‬وإمعان التفكير فيها‪ ،‬ومواصلة اختبارها من‬

‫غير توقف‪.‬‬

‫وهكذا يشكل الشك املنهجي أو الفلسفي في مقابل الشك املذهبي اإلمكان األساس ي الثاني للفكر‬

‫اإلنساني‪ .‬والشك الفلسفي هو أيضا شك (راديكالي) متطرف مثل الشك املذهبي‪ ،‬إذ هو يفحص ويشك مثل‬

‫الشك املذهبي في كل املعرف القائمة‪ ،‬ويشك في إمكان املعرثة‪ ،‬ويأخذ في اعتباره كل إمكانات الضالل في الفكر‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫ويمتد أيضا إلى (املعارف) الشكية املذهبية التي أضحت اليوم إلى حد ما اعتقدات جامدة وبالنظر إلى هذه‬

‫الناحية نجد أن الشك الفلسفي أكثر تطرفا من الشك املذهبي‪.‬‬

‫وإذا تم تنفيذ الشك الفلسفي بكل نتائجه وتطرفه‪ ،‬ولم ينخفض إلى مجرد شك مذهبي أو يتجمد فإنه‬

‫يستطيع أن يصل إلى تأسيس فلسفي للحقيقة‪ .‬وهذا التأسيس يتضمن في الوقت نفسه التغلب على مذهب‬

‫الشك‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬مذهب اليقين‬

‫مصادر املعرفة‬

‫عندما نطرح السؤال عن مصدر املعرفة تبرز أمامنا اإلجابة متمثلة بصفة رئيسية في ثالثة اتجاهات مختلفة‪،‬‬

‫وهي اتجاهات املذهب العقلي ‪ rationalism‬واملذهب التجريبي ‪ empirism‬واملذهب النقدي ‪ criticism‬وذلك‬

‫باإلضافة إلى مصدر آخر من مصادر املعرفة وهو اإللهام‪ ،‬وفيما يلى ملحة سريعة من هذه املذاهب‪.‬‬

‫‪1 -‬املذهب العقلي‬

‫يذهب االتجاه العقلى إلى القول بأن كل معرفة تستحق هذا االسم تنبع من الفكر أو من العقل‪ ،‬والعقل هذا‬

‫يعنى الفكر أيضا ‪ ،‬ألن العقل يطلق على ملكة الفكر‪ ،‬وهذه املعرفة التي تنبع من العقل تعتبر معرفة أولية ‪،‬‬

‫وهذا يعنى أنها مستقلة عن الخبرة ‪ ،‬ألن املعرفة التي تأتينا من الخبرة ‪ -‬ومن الخبرة الحسية على وجه الخصوص‬

‫‪ -‬تعد معرفة غير واضحة ومشوشة‬

‫وكثيرا ما تخدع ‪ ،‬وهي على كل حال ال تنطوي على ضمان الحقيقة‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ومن طبيعة الفك ر العادي أنه يلجأ في هذه السائلة إلى اتخاذ موقف يمثل االتجاه الحس ى أو التجريبي‬

‫الذي يرى أن معرفتنا لألشياء ناتجة عن اإلدراك الحس ى لها‪ ،‬ولكن الفلسفة عندما يتاح لها أن تتخلص من‬

‫تصور الفكر العادي للعالم وتتحرر من قيوده ‪ ،‬وتتخذ لنفسها موقفا مقابال فإنه يكون هناك حينئذ مجاال‬

‫لتكوين النظرية العقلية‪ ،‬فالفكر العادي يأخذ معلوماته عن األشياء من الحس‪ ،‬أما املعرفة الفلسفية فإنها ‪-‬‬

‫على العكس من ذلك ‪ -‬ال تنبثق من الخبرة وإنما من العقل أو الفكر‪.‬‬

‫وقد تكون اتجاه املذهب العقلي في الفلسفة في وقت مبكر ‪ ،‬فقد اعتقد اإليليون أن العالم الحقيقي ال‬

‫يعرف إال عن طريق الفكر الخالص من الحواس‪ ،‬واقتفى افالطون أثرهم ‪ .‬وزاد على ذلك تصوره أن النفس‬

‫باتصالها بالجسم تكون كأنها في سجن ‪ ،‬وأن هذا االتصال يفقدها صفاءها ولذلك فإن املعرفة الحقة ال تكون‬

‫إال بالتحرر الكامل من كل ما هو جسمي‪.‬‬

‫وقد اتخذت املذاهب الكبرى األولى في الفلسفة الحديثة اتجاها عقليا في نظرية املعرفة ‪ .‬ويصادفنا ذلك‬

‫مثال عند دیکارت و اسبينوزا وليينتن‪ .‬فمنطلقهم يتمثل في علم الرياضة ‪ ،‬وهدفهم كان الوصول إلى علم طبيعة‬

‫رياض ي‪ ،‬وفي النهاية تكوين نظرية رياضية في العالم ‪ .‬ويعتبر املذهب العقلي هو الصورة األولى لنظرية املعرفة‬

‫العلمية ‪ .‬وقد كان ثمرة التكوين املذاهب امليتافيزيقية الكبرى باعتباره تبريرا معرفيا أو إبستمولوجيا لها ‪ .‬أما‬

‫املذهب التجريبي كمذهب فإنه متأخر عن املذهب العقلي ‪ ،‬حيث نشأ في شكل نقد للمذاهب امليتافيزيقية‬

‫ونظرياتها في املعرفة‪.‬‬

‫وتتمثل دعوى املذهب العقلي ‪ -‬كما سبق أن أشرنا ‪ -‬في أن كل معرفة حقة أو علمية تنبثق من العقل‬

‫عن طريق تطور داخلي من مبادئ أصلية بديهية‪ ،‬وهذه املبادئ‪ ،‬ال تأتي من الخبرة ‪ ،‬كما ال يمكن مراقبتها أيضا‬

‫من طريق الخيرة‪ ،‬وأنموذج هذا املذهب هو علم الرياضية‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫واإلجابة عن السؤالين التاليين تعطينا بصفة رئيسية اتجاه نظرية املعرفة للمذهب العقلي ‪:‬‬

‫‪ - 1‬كيف يتوصل املذهب العقلي إلى العلم أو املعرفة ؟‬

‫‪ -2‬كيف املذهب العقلي يعطينا معرفة موضوعية ؟‬

‫ويمكن أن يفرق املرء ‪ -‬حسبما يرى باولزن ‪ - Pausen‬بين ثالث صور أساسية للمذهب العقلي تتميز عن‬

‫بعضها عن طريق إجابتها من هذين السؤالين وهذه الصور الثالث في ‪:‬‬

‫املذهب العقلي امليتافيزيقي ويمثله افالطون‪ ،‬واملذهب العقلي الرياض ي ويمثله ديكارت واسبينوزا‬

‫واملذهب العقلي الصوري ويمثله كانت وتعرف الصورة األخيرة أيضا باملذهب العقلي النقدي فقد أراد كانت أن‬

‫يضع نهاية للنزاع بين املذهب العقلي في صورته الكالسيكية ((افالطون ‪ ،‬ديكارت ‪ ،‬أسبينوزا)) وبين التجريبيين‬

‫((لوك ‪ .‬كوندياك))‪.‬‬

‫(‪ )1‬املذهب العقلي امليتافيزيقي ‪:‬‬

‫األساس الذي يقوم عليه هذا املذهب يتمثل في أن الحقيقة الواقعة في ذاتها تعد فكرة من األفكار ‪،‬‬

‫ولهذا يمكن معرفتها من طريق فكر خالص ‪ ،‬وقد ذهب أفالطون إلى أن العالم الحقيقي ليس هو عالم اإلدراك‬

‫الحس ي ‪ ،‬وإنما الحقيقة الواقعة في ذاتها في نظام فكري كائن أي أن العالم الحقيقي هو عالم أفكار ‪.‬‬

‫والنفس في حقيقتها فكر ‪ ،‬والوجود األرض ى يفقدها صفاءها بسبب اتصالها بالجسم ‪ -‬كما سبق أن‬

‫أشرنا ‪ -‬ولهذا فإن واجب النفس يقتض ي بها أن تعمل جاهدة على التحرر من الحسيات حتى يعود لها صفاءها‬

‫‪ ،‬وكلما اقتربت من تحقيق هذا الهدف كلما كانت معرفتها للمبادئ األولى أكثر وضوحا‪ ،‬وتعد هذه املعرفة في نظر‬
‫ً‬
‫افالطون معرفة موضوعية ألن العالم في حقيقته يمثل لديه نسقا فكريا‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫(ب) املذهب العقلي الرياض ي ‪:‬‬

‫تجد هذه الصورة من صور املذهب العقلي في القرن السابع عشر ‪ ،‬وهي صورة تختلف عن سابقتها في‬

‫املذهب األفالطوني من حيث أنها تبقى داخلية أى أنها ال تتعلق بعالم األفكار كما هو الحال لدى أفالطون ‪.‬‬

‫تتلخص دعوى املذهب العقلي الرياض ي في أن كل علم من العلوم خاصة علم الطبيعة ينبغي أن يتخذ‬

‫صورة علم الرياضة ‪ ،‬أي صورة نظام واضح منبثق من مبادئ‪ ،‬وقائم على البرهان‪.‬‬

‫واإلجابة على كال السؤالين السابقين من جانب هذا املذهب تتشكل على النحو التالي ‪:‬‬

‫يجيب ديكارت عن السؤال عن طبيعة املبادئ األولى بأنها أفكار فطرية ‪ ،‬وهذا التعبير ينتسب إلى‬

‫الفلسفة األفالطونية‪ ،‬ولكنه ال يعنى هنا ما كان يعنيه قديما ‪ ،‬فديكارت ال يتحدث عن وجود سابق للنفس وال‬

‫من نظرية التذكر األفالطوني‪ ،‬وإنما يعنى أن هناك عناصر للمعرفة نابعة أصال من العقل وليست في حاجة إلى‬

‫شهادة الخبرة أو التجربة‪ ،‬وهذا أمر تستطيع أن نتبينه في علم الرياضة ‪ ،‬فمبادئ هذا العلم في تعريفات أو‬

‫حدود وبديهيات‪ ،‬وحقيقتها ال تستند إلى خبرة أو مالحظة ‪ .‬وهذا هو الحال دائما في كل علم حقيقي ‪ ،‬وعلم‬

‫الطبيعة ليس إال فيها من فروع علم الرياضة‪.‬‬

‫أما السؤال عن كيفية التوصل إلى معرفة موضوعية يتم فيها التطابق بين املفاهيم العقلية والحقيقة‬

‫الواقعة فيمكن أن يجاب من ذلك ‪ -‬من وجهة النظر الديكارتية ‪ -‬بأن (( كل ما أراء واضحا جدا ومتميزا جدا فهو‬

‫حق))‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ويعتمد كل من الوضوح والتميز بدورهما لدى ديكارت ‪ -‬على معرفة هللا التي يعتمد عليها يقين كل علم‬

‫على اإلطالق‪ ،‬وفي ذلك يقول ديكارت ((وإذن فقد وضح في كل الوضوح أن يقين كل علم وحقيقته إنما يعتمدان‬

‫على معرفتنا لإلله الحق ‪ ،‬بحيث يصح لي أن أقول ‪ :‬إني قبل أن أعرف هللا ما كان بوسعي أن أعرف شيئا أخر‬

‫معرفة كاملة))‪.‬‬

‫‪ -‬املذهب التجريبي‬

‫يأخذ املذهب التجريبي اتجاها مضادا للمذهب العقلي ‪ ،‬ويرفض مثل هذه التأمالت امليتافيزيقية‬

‫للمذهب العقلي ‪ ،‬ويعتبرها تالعبا باملفاهيم ال ثمرة له ‪ ،‬ويؤكد أنه لو كانت هناك مفاهيم وقضايا فطرية فإنه‬

‫يجب أن يكون ذلك عند كل الناس‪ ،‬وعند املتوحشين واألطفال أيضا ‪ .‬يقول جون لوك (‪ )2٧04 - 1632‬في ذلك‬

‫‪ :‬إنها (أي األفكار) ليست مطبوعة في العقل بطبيعتها ألنها ليست معروفة بالنسبة لألطفال والبلهاء وغيرهم ‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬ألن من الواضح أن جميع األطفال والبلهاء ليس لديهم أدنى فهم أو فكر عنها وهذا النقص كاف‬

‫إلبطال تلك املوافقة العامة التي يجب أن تكون مالزمة بالضرورة لكل الحقائق الفطرية ‪.‬‬

‫ويبدو لي أنه أقرب إلى التناقض أن نقول بأن هناك حقائق مطبوعة على الروح وهي ال تدركها ‪ ،‬ألن‬

‫الطبع إن كان يعنى شيئا فلن يعنى أكثر من جعل حقائق معينة شيئا يمكن إدراكه ألنه يبدو لي أمرا من الصعوبة‬

‫فهمه أن تطبع شيئا على العقل بدون إدراك العقل له‪.‬‬

‫فاألفكار الفطرية إذن ال وجود لها عند املذهب التجريبي‪ ،‬وإذا لم يكن هناك ش يء فطرى ‪ ،‬وإذا كانت‬

‫النفس عند الوالدة مثل صفحة بيضاء ‪ tabula rast‬فإن املعارف تصل إليها عن طريق الخبرة ‪ ،‬أي من طريق‬

‫اإلدراك الحس ي ‪ ،‬وهذا ما يجيب به جون لوك عن السؤال من مصدر املعرفة واألفكار التي لدى العقل البشرى‬

‫حيث يقول ‪ :‬إني أجيب على ذلك بكلمة واحدة‪ .‬إنها تأتي من الخبرة ‪ Experience‬وعليها تتأسس معارفنا جميعا‬

‫‪12‬‬
‫ومنها تنبثق في النهاية ‪ ،‬ومالحظتنا ‪ -‬التي نتجه إما إلى موضوعات مدركة إدراكا حسيا خارجيا أو إلى عمليات‬

‫العقل التي تدركها وتتأمل فيها ‪ -‬هي التي تأتي لعقلنا بمادة الفكر كلها‪.‬‬

‫وهذان هما مصدرا املعرفة اللذان تنبع منهما كل األفكار التي تمتلكها أو التي تستطيع بطبيعة الحال‬

‫أن نمتلكها‪.‬‬

‫وهكذا نرى أن االتجاه التجريبي الذي سار فيه لوك يتلخص في أن املعرفة اإلنسانية معرفة بعدية ‪،‬‬

‫أي تأتي في مرحلة تالية أو متأخرة عن التجربة الحسية ‪ .‬فالعاقل يستمد كل خبراته ومعلوماته من التجربة‬

‫وحدها‪ .‬ولذلك يقول لوك ‪ :‬إذا سألنا سائل عن شخص ما ((متى بدأ يفكر ؟ فالبد أن يكون الجواب ‪ :‬حاملا بدأ‬

‫يحس‪ ،‬وعلى ذلك فاإلحساس سابق على التفكير ‪ .‬وليس هناك ش يء في العقل مالم يكن من قبل في الحس‪.‬‬

‫وتتمثل مهمة العقل واإلرادة في أمر واحد فقط هو خلط هذه املادة وتركيبها‪.‬‬

‫وإذا كانت املعارف تأتي من الخبرة‪ .‬وعن طريقها تحصل على شرعيتها ‪ ،‬فإن املعرفة في نظر التجريبيين‬

‫‪ -‬ال يمكن لها أن تعلو فوق نطاق الخبرة ‪ ،‬وعلى ذلك فإن امليتافيزيقا ‪ -‬باعتبارها معرفة أو علما بما هو خارج‬

‫نطاق كل خبرة ‪ -‬تعتبر مستحيلة‬

‫أما كوندياك (‪ - )۱۷۸۰ - ۱۷۱۵‬وهو التلميذ الفرنس ي لجون لوك ‪ -‬فقد كان أكثر راديكالية من أستاذه‪،‬‬

‫فلم يأخذ بما قال به لوك من أن مصدر الخبرة يتمثل في كل من اإلدراك الحس ي والتفكير ‪ -‬وإن كان هذا األخير‬

‫يعتمد أيضا على اإلدراك الحس ي ‪ -‬وإنما ذهب كوندياك إلى األخذ باإلدراك الحس ي فقط‪ ،‬فالعقل عنده ال يملك‬

‫أية فاعلية ‪ .‬فمذهبه إذن هو مذهب حس ى بحث‪Sensualism‬‬

‫‪13‬‬

You might also like