-المحور األول :نشأة علم النفس ومراحل تطوره:
-1إشكالية النشأة: إن االشتغال على علم النفس كموضوع يقتضي أوال معرفة طبيعة هذا العلم ،وذلك بالرجوع إلى جذوره التاريخية من أجل إدراك نشأته ،وموضوعه ومفهومه ،ومنهجه ،وفروعه، وتياراته أومدارسه وغيرها. واالهتمام بعلم النفس هو اهتمام باإلنسان كذات واعية ومفكرة وواعية تسعى إلى فهم ذاتها وفهم اآلخرين. وإذا كان "التاريخ" كعلم ليس بالعلم الدقيق ،فإن تاريخ علم النفس عرف شبه عدم اتفاق حول البداية الحقيقية لتاريخه ،مما أثر على مفهومه وموضوعه ومنهجه لدى الغربيين والعربيين. وفي هذا السياق ميز عالم النفس"موريس روكالن" في كتابه "تاريخ علم النفس" بين علم النفس الفلسفي وعلم النفس العلمي ،وقال" :لو أن علم النفس ظل ذلك الفرع من الفلسفة المخصص "للنفس" لكان تاريخه بدأ مع المفكرين األوائل ،إال أنه لم يمض بعد من حوالي مئة سنة على استشفاف إمكانية وجوع علم نفس علمي يعتمد على المالحظة والتجربة لدراسة ردود الفعل عند الكائنات العضوية في مختلف ظروف البيئة المحيطة". وأكد كذلك المؤرخ البريطاني لعلم النفس "كارل فلوجل" في كتابه "علم النفس في مئة عام" أن هذا العلم تطور عبر ثالث مراحل أساسية: -المرحلة األولى :وتمتد من 1833م إلى 1860م :وهي مرحلة بداية استقالل علم النفس عن الفلسفة أي التخلص من النظرة التأملية والعقلية. -المرحلة الثانية :وتمتد من 1860م إلى 1890م :تميزت بظهور مجموعة من األعمال العلمية في علم النفس ،ويبقى حدث إنشاء العالم "فيلهلم فونت" أول مختبر تجريبي في علم النفس بألمانيا. -المرحلة الثالثة :وتبتدئ من نهاية القرن 19م وبداية القرن 20م ،وهي مرحلة التخصص في علم النفس ،تميزت بظهور مجموعة من المدارس في علم النفس. بينما يرى "إبراهيم عبد الستار" في كتابه "اإلنسان وعلم النفس" أن علم النفس مر بثالث مراحل كبرى: -المرحلة األولى :كانت فلسفية يغلب عليها التأمل العلقلي ،خاصة مع الفالسفة اليونانيين مثل سقراط وأفالطون وأرسطو ،وفي هذه المرحلة ظهر مفهوم "النفس" " ،"Psycheلوصف الجوانب الالبدنية من السلوك اإلنساني (العقل والروح وغيرهما) ،وعن الترث اليوناني، ورث العلماء المسلمون األفكار والنظريات حول النفس ولحموها بتراثهم الديني واألخالقي، علما أن المفكرين المسلمين كانت لهم محاوالت تجربية في فهم النفس البشرية ومن أهمهم الفيلسوف والعالم "ابن سينا" ،و"أبو زيد البلخي" وغيرهما. -المرحلة الثانية :وهي بداية انفصال علم النفس عن الفلسفة والالهوت وارتبط بدراسات وظائف األعضاء والطب التجريبي ،وذلك منذ منتصف القرن 18م. -المرحلة الثالثة :وهي مرحلة االستقالل الفعلي لعلم النفس على مستوى الموضوع والمنهج، وتميزت هذه المرحلة بظهور مجموعة من المدارس في علم النفس. وأكد كل من " " Marc Richélle" "Françoise Parotفي كتابهما " Introduction à "la psychologie Histoire et méthodesأن الناس لم ينتظروا نشأة العلوم الوضعية ليطرحوا أسئلة تخصهم وتتعلق "بالمسائل النفسية" ،فمعنى ذلك أن من يظن غير هذا الظن فإنما هم أولئك الذين يفرقوق بين نوعين من علم النفس :األول هو علم النفس الميتافيزيقي الذي يتصورنه غير علمي ،وبين علم النفس الوضعي الذي يقوم على "علمية تجريبية" ،وليس هذا العلم بحديث يعود إلى القرن 19م ،وإنما قبل هذا التاريخ أي إلى القرن .4ق.م ،وخاصة مع أفالطون ومن تبعه من الفالسفة اليونانيين والقرون الوسطى .فجل األسئلة التي طرحت في النقاشات بين السيكولوجيين وال زالت ،هي نفسها التي طرحها الفالسفة في نقاشاتهم .بل أن كثيرا من األسئلة في مرحلة من مراحل تاريخ الفكر البشري المسيحي (وحتى اإلسالمي) عولج من لدن الالهوتيين .وكان ال بد من انتظار فالسفة القرن 18م في فرنسا وفالسفة األنوار لتصبح الثقافة – بمعناها االيديولوجي والعلمي والفلسفي -الئكية وغير خاضعة لالهوت. انطالقا مما سبق يمكننا القول :إن الماضي الفلسفي والديني لعلم النفس ال يمكن تجاهله أبدا، وبالتالي أن "لعلم النفس" تاريخ طويل وقديم قدم اإلنسان ،فاإلنسان اهتم بنفسه منذ أن وعى ذاته وانتبه إلى وجوده ،فاإلن سان يعيش في بيئة تضم اإلنسان واألشياء والحيوان والنبات والجماد وغيرها ،والعالقة بين اإلنسان ومحيطه هي عالقة فعل وانفعال وتأثير متبادل وصراع دائم ،وفي تفاعل اإلنسان مع محيطه فهو يتأثر ويؤثر وينفعل بشتى االنفعاالت ،كما أنه يعبر عن أفكاره ومشاعره باللفظ أو بالحركة أو اإلشارة ،هذه األوجه المختلفة من النشاط العقلي واالنفعالي والجسمي واالجتماعي وغيرها هي موضوع دراسة علم النفس منذ القديم. وعموما ،يمكن تقسيم مراحل تطور علم النفس إلى خمس مراحل أساسية ،وذلك من أجل إبراز أن االهتمام "بالنفس" كان منذ القديم وخاصة مع الفالسفة اليونانيين والفالسفة المسلمين. مع التمييز بين مرحلتين أساسيتين :األولى هي مرحلة ما قبل استقالل علم النفس عن الفلسفة (علم النفس الفلسفي) ،والثانية هي مرحلة استقالل علم النفس عن الفلسفة (علم النفس العلمي)، وذلك إلبراز خصوصية كل مرحلة. -2-مراحل تطور علم النفس: -1-2المرحلة األولى :مرحلة الفكر السيكولوجي في الفلسفة اليونانية: في البداية يجب التأكيد على فكرة أساسية مفادها أن البحث في "النفس البشرية" يختلط مع مجموعة من المفاهيم أو األلفاظ مثل "الروح" أو "العقل" أو "الحياة" ويتسم بطابع فلسفي تأملي .والح ديث عن الفكر السيكولوجي بدءا من الفلسفة اليونانية ال يعني أن الفلسفات التي سبقتها لم تعن بهذا الجانب ،بل إنها حملت الكثير من اآلراء والمالحظات التي عكست اهتمام أصحابها بطبيعة اإلنسان ونشاطه النفسي على الرغم من الطابع العقائدي والميتافيزيقي لها، فوجود اإلنسان وأصله ومآله كانت إحدى المشكالت التي حاول اإلنسان عموما البحث فيها ومعالجتها. -الفيلسوف سقراط ( 468-399ق.م): حاول سقراط االهتمام باإلنسان وذلك من خالل حديثه عن "النفس" التي هي ذات طبيعة روحية قائمة بذاتها وأنها هي جوهر اإلنسان الحقيقي وأن البدن ليس إال أداة لها وأن في الموت خالصها وتحريرها (قاسم محمود ،في النفس والعقل لفالسفة اإلغرق واإلسالم). أكد سقراط سيادة النفس على البدن واعتبرها الجوهر العاقل الذي يميز به اإلنسان عن غيره من سائر أنواع الحيوانات األخرى وأكد على االعتدال ،واالعتدال عنده التحكم في الرغبات أو بمعنى سيطرة العقل على كل أفعال اإلنسان وسلوكه .ويرى سقراط أن العلم هو العلم "بالنفس" من أجل تقويمها وهنا يكمن المعنى للحكمة المنقوشة على معبد دلفي" أيها اإلنسان اعرف نفسك بنفسك" تقدم هذه القولة الدليل الواضح على محاولة سقراط فهم السلوك اإلنساني، معتبرا أن النفس العاقلة أو الروح هي جزء من العقل الكلي أو الروح اإللهية ،أما البدن أ والجسم فيتألف من عناصر العالم المحسوس ،وبما أن النفس اإلنسانية هي جزء من الروح اإللهية التي تسيطر على الظواهر والحوادث واألشياء الكونية فإن بإمكان اإلنسان السيطرة على بدنه والتحكم في رغباته وشهواته ،ومعرفة اإلنسان لذاته أو لنفسه تتوقف على الرجوع إلى النفس (الروح) وتأملها وعلى ما هو مشترك بينها وبين الروح اإللهية ،فمعرفة النفس تؤدي إلى معرفة قواها ونزعاتها وميولها ،فلكي يصلح اإلنسان نفسه يجب أن يعرفها أوال فيحلل العقائد التي يعج بها ذهنه ويكتشف بنفسه الحقيقة التي داخل نفسه ،فالمعرفة الحقيقية هي معرفة الذات واستخراج ما فيها من عناصر الحق والخير والفضيلة للوصول إلى عظمة اإلنسان ومجده. يعتقد سقراط أن للنفس القدرة على البقاء بذاتها والخلود بعد مفارقتها الجسد ما دامت تستمد حركته ا من ذاتها ،أي من الروح اإللهية ،وهي على العكس من الجسد الذي يفنى ألنه يستمد حركته من عناصر الطبيعة. -الفيلسوف أفالطون ( 427-347ق.م): المحور األساس الذي تدور حوله فلسفة أفالطون هو "النفس اإلنسانية" باعبارها مقر المثل ومصدر المعرفة ،ولقد كان في هذا االتجاه أمينا لفلسفة أستاذه "سقراط"() ،لقد آمن أفالطون بوجود عالمين؛ عالم "المثل" وهو عالم "األرواح" أو "العقول" ومنه تتكون النفس ،وعالم "الحس" أو العالم المادي ،ومنه يتكون الجسم ،وكل من هذين العالمين يختلف في طبيعته عن اآلخر اختالفا جوهريا .وعندما تهبط النفس من عالم المثل إلى العالم المادي لتحتل الجسم تتكون النفس البشرية التي يمكن تقسيمها في نظر أفالطون إلى ثالثة أنواع ،وتعمل مع بعضها في توجيه السلوك اإلنساني ،وهي: -1النفس العاقلة :ومركزها الرأس وهي قوة النظر والتأمل ومهمتها إدراك الحقيقة والسيطرة عى النفس الغضبية والشهوانية. -2النفس الشهوانية :ومركزها البطن وهي تمثل مجموع الشهوات الجسدية والحسية ومهمتها رئاسة الوظائف الغذائية والجنسية. -3النفس العصبية :ومكانها القلب ووظيفتها الموازنة بين مطالب النفس الشهوانية والنفس العاقلة. ويختلف الناس في ما بينهم بحسب اختالفهم في هذه النفوس الثالثة ومدى طغيان إحداهما على األخرى ،وقد أوضح أفالطون فلسفته حول النفس في عدد من األساطير ،منها أسطورة "العربة" التي شبه النفس فيها بعربة يجرها جوادان ويقودها سائق ،أحد الجوادين سلس القيادة وهذا يرمز إلى اإلرادة أو النفس العصبية ويكون الجواد الثاني عصبيا مياال إلى الجموح وهذا يرمز إلى النفس الشهوانية ،أما السائق فيرمز إلى النفس العاقلة ،ويتوقف توجيه العربة وحسن قيادتها على ما يكون للسائق من قدرة على التحكم والتوفيق بين الجوادين. آمن أفالطون بخلود النفس وأثبت أن روح الفيلسوف الحق تحقق السعادة بعد الموت بمشاهدة الحقيقة ،وهذا ما أكده عند عرضه لنظرية "المثل" ،أما "الروح" التي الزمت االتصال بالجسد ولم تتحرر من الشهوات فتصبح شبحا مخيفا تعود إلى الجسد في قبره أو تحل في جسم حيوان بما يتفق وأحوالها (نظرية تناسخ األرواح). -الفيلسوف أرسطو ( 384-322ق.م): لقد خطى علم النفس مع أرسطو خطوة أساسية في االتجاه "العلمي" حين أشار في كتابه المشهور "النفس" أن النفس أو الروح هي مجموع الوظائف الحيوية للكائن الحي ،أي وظائف الجسم وبها يتميز عن الجماد ومن دونها ال يكون الجسم أكثر من جثة .ويرى أن اإلنسان هو النفس والجسد في وحدتهما ،ويعتبرهما عنصرين لجوهر واحد ،أو مظهرين في كل واحد. وينظر إلى النفس على أنها المسبب لحركات الجسد وخبراته وهي التي تسيطر على وظيفته وعمله ،ويعتبر "كتاب النفس" من بين أهم كتبه ،ألنه ظل عماد علم النفس القديم حتى القرن 19م ،وألنه يبسط فيه المنهج الواجب اتباعه في علم النفس ،كما يعرض فيه خالصة مذهبه العام في المادة والصورة إلى جانب أنه يعتبر البحث في النفس من مباحث العلم الطبيعي. ويرى أن النفس مبدأ الكائن الحي ،وقد عرف النفس بأنها كمال أول لجسم طبيعي ،أي آلي ذو حياة بالقوة ،ويقصد بالكمال األول من يستكمل به الشيء نوعه وصفاته وقوة جسم طبيعي تعبيرا له عن الجسم الصناعي ويقصد بآلي أن الجسم ذو أعضاء وأجهزة. ويرى أن موضوع علم النفس هو اكتشاف طبيعة النفس وتحديد قواها. ويقسم أرسطو النفس إلى ثالثة أقسام وهي: -النفس النباتية -القوة الغاذية. -النفس الحيوانية -القوة الحاسة. -النفس اإلنسانية -القوة العاقلة. كما يرى أن اإلنسان يولد وعقله صفحة بيضاء بحيث تتشكل الخبرات في العقل وفقا لثالثة مبادئ ،وهي التجاوز والتشابه والتنافر وتكون هذه األفكار بسيطة ثم تأخذ بالتزايد والتعقيد نتيجة التفاعل مع البيئة. واستتتتتنتج أرستتتتطو أن اإلنستتتتان هو عبارة عن وحدة تجمع بين النفس والجستتتتد ،واعتبرهما عنصرين لجوهر واحد ،أو مظهرين في كل واحد.